بسم الله الرحمن الرحيم
الحقُّ أحقُّ أن يُتَبّع
من المتفق عليه عند علماء المسلمين أنّ القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه،وأن الله تعالى قد حفظه لنا وأبعد عنه يدّ التحريف والتأويل، ومن المتفق عليه أيضاً عند أئمّة المسلمين أن رسل الله جميعاً معصومون من الخطأ، وينقلون رسالات الله كما أنزلها عليهم من غير إضافة أو نقصان،أو تعديل أو تحريف قال تعالى: {سنقرئك فلا تنسى إلا ماشاء الله} [الأعلى 6] وقال تعالى:{وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى}[ النجم 3ـ4]، وقال تعالى:{ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل* لأخذنا منه باليمين* ثم لقطعنا منه الوتين} [الحاقة 44ـ46].
وكذلك فإنّ الخطأ قد رُفعَ عن الأمّة المحمدّية في الذي حصل عليه اتفاق وإجماع من الأئمة المسلمين، يقول شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى(ج20ص164):
“فدين الله مبني على اتبّاع كتاب الله،وسُّنة نبيه،وما اتفقت عليه الأمة،فهذه الثلاثة هي المعصومة،وما تنازعت فيه الأمة ردّوه إلى الله والرسول”.
أما غير الرسل من الناس فليس معصوماً من الخطأ،أو النسيان، يؤخذُ من قوله،ويُردّ عليه ويقبل منه الصواب ويترك الخطأ ،يُتَمّم منه النقصان،ويُعدّل المَيلان.
وقد بلغ من حرص الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين على بيان هذا الأمر مالا يترك مجالاً للشك،أو الريبة أو عدم اليقين،فها هو أوّل الخلفاء الراشدين أبو بكر الصديق رضي الله عنه في أول خطبة يخطبها في الناس بعد انتخابه خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن أحسنت فأعينوني، وإن اسأت فقوموني”،ويقول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلاً،إن أمن آمن،وإن كفر كفر،فإن كنتم مقتدين فبالميت،فإنّ الحيّ لايؤمن عليه الفتنة” .وسأل رجل ابن عباس رضي الله عنهما عن مسألة فأ جابه فيها بحديث، فقال الرجل:قال أبو بكر وعمر، فقال ابن عباس: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون :قال أبو بكر وعمر!!
وقد نبّهَ أئمة المذاهب الأربعة إلى أهمية هذا الموضوع وخطورته، وبيّنوا أنهم بشر يخطئون ويصيبون في اجتهادهم، ونبّهوا أتباعهم ومن جاء بعدهم إلى أن كل مايتعارض من أقوالهم وأفعالهم مع كتاب الله تعالى وسنّة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فعلى الناس ترك الأخذ به وعدم العمل به.يقول الإمام مالك رضي الله عنه: “إنّما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيى، فكل ماوافق الكتاب والسنّة فخذوه،وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه”.
وقال الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان رضي الله عنه:”هذا رأيي، وهذا أحسن ما رأيت،فمن جاء برأي خير منه قبلناه”.
وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: “لقد ألّفت هذه الكتب ولم آلو فيها ـ أي لم أقصّر في بحث ولا جهد ـ ولا بد أن يوجد فيها الخطأ، لأن الله تعالى يقول: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً}[النساء 82]، فما وجدتم في كتبي هذه مما يخالف الكتاب والسنة فقد رجعت عنه” .
يقول الأستاذ ناجي الطنطاوي (كلمات نافعة ص69):
“الاعتراف بالحق فضيلة،ولكنه صعبٌ على النفس،لأن الإنسان معجبٌ برأيه،فيس من السهل عليه أن يتراجع عنه ولا أن يقر بخطئه،إلا إذا كان على مستوى رفيعٍ من العلم والخلق،ونحن نرى كثيراً من الناس يتعصب أحدهم لرأيه ويرمي من يخالفه فيه بالجهل،والخطأ ولا يقبل فيه جدالاً ولا نقاشاً،وليس هذا من الإنصاف في شيءٍ بل هو عنادٌ وجهلٌ وإصرارٌ على الخطأ،وإن النقاش الهادئ المبني على الروية والحكمة هو الطريق السليم الذي يؤدي إلى معرفة الحق وإلى التمييز بين الآراء الصائبة السليمة،والآراء المنحرفة الخاطئة.
وقد يسهل على المرء أن ينصف من هو أكبر منه سناً احتراماً لسنه،ولكن لايسهل عليه أن ينصف قرينه لأن النفس مطبوعةٌ على التحاسد بين الزملاء والأقران،وأشد من ذلك صعوبةً أن ينصف المرء من هو أصغر منه سناً وأن يعترف له بصواب رأيه،مع أن الأدب الإسلامي يوجب على المؤمن أن يعترف بخطئه إذا ظهر له صواب الرأي المخالف ولو كان صاحب الرأي المخالف أقل منه علماً وأصغر منه سناً،وليس في ذلك غضاضةٌ على النفس بل هو فضيلةٌ كبرى.
ونحن نعرف قصة عمر رضي الله عنه في موضوع تحديد المهور حين قال وهو على المنبر:امرأةٌ أصابت ورجلٌ أخطأ،ولم ينقص هذا الكلام من قدر عمر بل زاده رفعةً وفضلاً،ويروى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه تكلم في مسألةٍ فقال له أحد الحاضرين ليس الأمر كذلك يا أمير المؤمنين ولكنه كذا وكذا،ففكر عليٌّ قليلاً ثم قال:أصبتَ وأخطأتُ وفوق كل ذي علمٍ عليم”.
يقول الشاعر ابن الحُقَيق:
إني إذا مالت دواعي الهوى وأنصت السامع للقائل
واعتلج الناس بآرائهم نقضي بحكم عادل فاصل
لا نجعل الباطل حقاً ولا نرضى بدون الحق للباطل
يقول الأستاذ أحمد أمين رحمه الله(فيض الخاطر ج7 ص67):
“يدعو هذا الشعر إلى أن الأهواء إذا اختلفت،والأراء إذا اشتبكت وتضاربت،يجب على الإنسان ألا يتجنب المعركة ولايفرّ من الميدان،ولكن يبتعد عن الأهواء كلها،ويدرس الآراء كلها في دقة وإمعان،حتى يعرف صحيحها من باطلها،ولاينخدع بزيفها،فإذا تبين له وجه الصواب أعلنه وأعلن التمسك بهنفقضى بالرأي الذي يراه صواباً وعدلاً وقاله قولاً فصلا لا لبس فيه ولا إبهام ولا غموض ولا التواء.ثم هو لايكتفي بالقول،فما القول إذا لم يدعم بالعمل؟فلا يقر قراره حتى يكون الحق ويحل محل الباطل،ثم لا يكتفي بأنصاف الحلول،فإما الحق كله أو لاشيء غيرهنفذلك قوله”ولانرضى بدون الحق للباطل”.
وقال شاعر آخر وقد دعاه عبد الملك بن مروان لقتال ابن الزبير فأبى:
فلست بقاتل رجلاً يصلي على سلطان آخر من قريش
له سلطانه وعليَّ إثمي معاذ الله من سفه وطيش
يقول الأستاذ أحمد أمين معقباً(نفس المرجع السابق):
“فهو يريد أن يقول إنه لايحب أن يقاتل من أجل انتصار شخص على شخص،ولاسيما أن المقاتِل مسلما والمقاتَل مسلما،وهو قول إذا ترجم إلى أقوالنا المعاصرة قيل إنه لاينصر حزباً ولايقاتل حزباً من أجل زعماء هذا وزعماء ذاك،مادام الزعماء كلهم أبناء أمة واحدة،فالقتال في مثل هذا الموقف ليس قتالاً للحق ولكنه قتال للزعيم.وأنا أربا بنفسي أن أقاتل لزعيم له الغنم وعليَّ الإثم،والقتال إن كانت نتيجته غنم شخص أيا كان،وخسارتي أيا كانت النتيجة،سفه وطيش”.
ويقول سيد قطب رحمه الله في قوله تعالى:{بل كذَّبوا بالحقِّ لمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ في أمرٍ مريجٍ}[ق 5].
:”إن الحق هو النقطة الثابتة التي يقف عليها من يؤمن بالحق فلا تتزعزع قدماه،ولا تضطرب خطاه،لأن الأرض ثابتة تحت قدميه لاتتزلزل ولا تخسف ولا تغوص.وكل ما حوله ـ عدا الحق الثابت ـ مضطرب مائج مزعزع مريج لا ثبات له ولا استقرار،ولا صلابة ولا احتمال.فمن تجاوز نقطة الحق الثابتة،زلت قدماه في ذلك المضطرب المريج،وفقد الثبات والاستقرار،والطمأنينة والقرار،فهو أبداً في أمر مريج لا يستقر على حال!ومن يفارق الحق تتقاذفه الأهواء،وتتناوشه الهواجس،وتتخاطفه الهواتف،وتمزقه الحيرة،وتقلقه الشكوك.ويضطرب سعيه هنا وهناك،وتتأرجح مواقفه إلى اليمين وإلى الشمال،وهو لا يلوذ من حيرته بركن ركين،ولا بملجأ أمين فهو في أمر مريج”.
وبعد أن عرضنا لكلِّ هذه الأمثلة، وبيّنا ما يناسبها من الأدّلة،نجد وللأسف أن هناك أناس ينظرون إلى مشايخهم وعلمائهم نظرة التقديس والتعظيم والمعصومية،يرفعون كلامهم إلى مستوى كلام الخالق عزّ وجلّ،ويتبّعون أوامرهم، ويقتدون بهداهم من غير نقدٍ ولا تصويب بل هم مستسلمون لهم استسلاماً كاملاً،منقادون لهم انقياداً تاماً، هم في نظر هؤلاء المريدين مبّرؤون من كلِّ عيب، وفوق كلِّ نقد،الحقّ ما يخرج من أفواهم،والقول ما قالته ألسنتهم،والسُّنة الصحيحة قد تجلّت في أعمالهم، يُكّفرون من خطأّهم،ويحاربون من اجترأ على انتقادهم.
إنّ هذا الانحراف الشديد في التفكير الذي أُبتلي به وللأسف بعض المسلمين له أسباب عديدة،وينجم عنه أثار سلبية، وإن أهم اسباب هذا الانحراف:
1ـ سوء التوجيه
2ـ العصبية الحزبية والتقليد الأعمى
3ـ عدم الإلمام الكافي بعلوم الدين وتعاليمه
4 ـ اتباع الهوى
أولاً: سوء التوجيه:
إنّ بعض العلماء والمشايخ يحيطون أنفسهم بهالة من التقديس والتعظيم،ويظنون أنهم حازوا قصب السبق،فيمن سبق وممن لحق،وأن الناس قد ساروا بسيرتهم شرقاً وغرباً،وغَوراً ونجداً،ويوجهون الأتباع والمريدين توجيهاً بحيث يظن معه المريد أو يعتقد تمام الإعتقاد، بانّ ما يصفه له الشيخ بعقله فهو له قدوة،وما يفعله يصير له حجّة،وأن الشيخ يُحسّن ما شاء فيَحسُن،ويُقبِّحُ ما شاء فيَقبُح،انتهى العلم إليه فلا يؤخذ إلا من علمه،ووصل غاية الإحسان فيقتدى بسيرته،وأن عنده ما يشفي عِلّته،وينقع غِلّته، والويل كل الويل لمن يتعرّض له،والثبور مابعده ثبور لمن لا يهتدي به.
وقد يتغاضى هؤلاء الأتباع والمريدون عن كلِّ شئ،ويغفرون كلّ شئ،إلا إذا تعرّضَ عالمهم أو شيخهم لنقدٍ أو تصويبٍ أوتصحيح أو تجريح فإنّهم عندئذٍ يواجهون المُنتقِد ـ ولو كان على حقّ ـ بكل أنواع الشتم والسباب والهجاء،ولَرُبما وصل بهم الأمر إلى الضرب والإيذاء،وقد يُتعَرَّضُ للذّات الإلهية ـ معاذ الله ـ في بعض المجالس من قبل بعض الفُسّاق أو العُصاة أو الكفرة،فيسكتون ولا يرتكسون،ولكنّهُم قد ينقلبون أسوداً أو نسوراً،ينهشون اللحم،ويدّقون العظم،ويسحقون الخصم،عندما يتعرّضُ أحدهم لذات الشيخ أو مكانته العلمية،ولقد سمعت من أستاذ عظيم قصة لها مغزاها البعيد،يتحدّث بها عن أولئك المُتعصّبين عن عمىً لمشايخهم،وموجزها أنه تنازع أحد هؤلاء المتعصّبين يوماً مع آخر متأثر بفكر دخيل،فسبّ هذا الآخر الله عزّ وجلّ فسكت المتعصّب،فعاد ثانية وسبّ الرسول صلى الله عليه وسلم فسكت المتعصّب ثانية،فعاد ثالثة وسبّ شيخه وهنا استشا ط المريد غضباً،وقال والشرر يتطاير من عينيه: سَببت الله فسكت،وسَببت الرسول فسكت،أما أن تتطاول وتتعدّى وتسب شيخي فهذا ما لا أرضاه أبداً ! ! نعوذ بالله من هذا الانحراف الفظيع، وسوء التوجيه الشنيع.
نعم، إنه من الإنحراف الكبير أن نجعل لكلام الناس صفة عصمة كتاب الله،ونعتبر كلامهم وأحكامهم كأنّها نصوص قرآنية أو نبوية شريفة.
يقول الأستاذ الحبيب عصام العطار حفظه الله:
“أن نرفع كلام المخلوق إلى مستوى كلام الخالق في التسليم والتعظيم والطاعة المطلقة شرك نبرأ إلى الله منه،وسخف نربأ بأنفسنا عن الإنحطاط إليه،مهما بلغ أصحاب هذا الكلام في أنفسنا واستأهلوا عندنا من المحبة والثقة والتقدير” .
ويقول الأستاذ عمر عبيد حسنة في كتاب” نظرات في مسيرة العمل الإسلامي” :
“هناك حقيقة على غاية من الأهمية،كانت ولا تزال مَعلمة من معالم التفكير الإسلامي والثقافة الإسلامية،وكانت دائماً ملازمة للحياة الإسلامية ليصحّ التصّور وينضبط السلوك،وهي أنه لا يجوز أن يُعتمد أحد كائناً من كان معياراً للحقّ،أو أن يُظن أنه أعلى من أن يناله أحد بالنقد أو يجد فيه مأخذاً،كما أنه لا يجوز لأحد أن يخضع لآخر عقلياً أو فكرياً إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي قال الله فيه: {لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنة}.[الأحزاب 21].
وإذا رجعنا إلى السيرة النبوية الشريفة،واخبار الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين وهم خير القرون فإننا نلمس هذا التحفظ الكبير لديهم عند اجتهادهم في أمر ما،أو عند إصدارهم أحكاماً أو فتاوى معينة، بحيث انهم لا يربطونها بحكم الله إذا كان هذا الإجتهاد شخصياً،لم يجدوا فيه نصاً واضحاً من الكتاب والسنة،جاء في كتاب “أعلام الموقعين” للإمام العظيم ابن قيّم الجوزية رضي الله عنه: “نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أميره ـ بريدة ـ أن يُنزل عدوه إذا حاصرهم على حكم الله وقال:” فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا،ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك”، ويُعّقب الإمام ابن القيّم على ذلك ويقول رحمه الله: “فتأمل كيف فرّق بين حكم الله وحكم الأمير المجتهد”،وقريب من هذا قصة الفاروق عمر رضي الله عنه،لما كتب الكاتب بين يديه حكماً حَكم به،فقال الكاتب:هذا ما أرى الله أمير المؤمنين عمر،فقال له: لا تقل هكذا،ولكن قل هذا ما رأى أمير المؤمنين عمر”.
نعم،يجب على العلماء والدعاة وأمراء الجماعات أن يبيّنوا لأتباعهم ومريديهم أنهم بشر يُصيبون ويُخطئون،وأن الحكم الذي يصدر عنهم با جتهادهم،إن لم يعتمد على نص ثابت قطعي الدلالة من القرآن والسنة،فإنه يحتمل الخطأ والصواب،وأنه ليس كما يقول البعض”حكم الله” و”شرع الله” “وأمر الله”بل إنه اجتهاد قابل للتصويب أو التعديل،وأنه لا يوجد إنسان مبرأ من كل عيب وفوق كل نقد.
يقول الأستاذ الحبيب عصام العطار حفظه الله:
“انظروا إلى أقوالنا وأعمالنا بعين واعية ناقدة،فتداركوا النقص،وصحّحوا الخطأ،فذلك حقّ لله وللناس وضرورة للسلامة والتقدم، وهو أفضل هدية وأكرم يد تسدونها إلينا في الحياة وبعد الممات” .
ويقول الداعية بديع الزمان سعيد النورسي لأتباعه:”إياكم أن تربطوا الحقّ الذي أدعوكم إليه بشخصي المذنب الفاني،ولكن عليكم أن تبادروا فتربطوه بينبوعه المقدس: كتاب الله وسنة نبيه… ولتعلموا أنني إنسان غير معصوم قد يظهر مني ذنب أو يبدر مني إنحراف،فيتشوه مظهر الحق الذي ربطتموه بي بذلك الذنب والإنحراف،فإما أن أكون بذلك قدوة للناس في الإنحراف وارتكاب الآثام أو صارفاً لهم عن الحقّ بما شوهه واختلط به من انحرافي وأثامي” .
إنّ داهية الدواهي وثالثة الآثافي والفاقرة مابعدها جابرة ومن أكبر الجرائم في حقّ الإسلام والمسلمين أن نحبس الإسلام في فهم رجل واحد،يمكن أن يصيب أو يخطئ،ويمكن أن يقوى وأن يضعف،ويمكن ان ينحرف بعد استقامة،وأن تميل به الأهواء وتنحرف به عن طريق السلامة،أو تغلبه الشهوات،أو تصرعه اللذّات،أو يصبح أسيراً للشبهات،وإنه من الجرم ايضاً ان يتحوّل تقديس الفكرة والمبدأ إلى تقديس الأشخاص،ويصبح الإنسان الذي نقدّسه هو مقياس الحقّ،وهذا ينطبق على رجال كل زمان ، وفي كل عصر وفي كل مِصر،وعلى مرِّ العصور وكرِّ الدهور، فوق كل أرض،وتحت كلِّ سماء.
ثانياً ـ العصبية الحزبيّة والتقليد الأعمى:
إنّها وأيم الله قا صمة الظهرالتي لاقيام معها،وفاقرة الفواقر التي لاداء بعدها،وثالثة الاثافي التي لامصيبة بعدها،وإنها من أخطر مايواجه الحركات والجماعات الإسلامية قديماً وحديثاً،ولا ننسى ما أدّت إليه في سوالف العصور،وعلى كرِّ الدهو،من افتراق المسلمين،وتشّتت جموعهم،واختلافهم،بل أيضاً احترابهم واقتتالهم.
وإذا حاولنا معرفة أسباب هذه العصبيّة الحزبيّة نجده غالباً في اتّباع الهوى الذي يتحكّم بالعقول،على مستوى القادة والأتباع،وهذا هو السبب الأرجح،وقد نجده أحياناً بسبب الجهل أو الغفلة،على مستوى القادة أو الأتباع،وهذا الأقلّ رجوحاً.ولعلّي لا أبالغ ولا أُغالي إذا قلت:إنّ من أهمّ العوامل التي تُذكّي هذه العصبيات النّتنة،والتحزبات العفنّة،سوء التوجيه الذي نشاهده في بعض الحركات أو المجموعات الإسلامية،وخاصة زرع بعض الأفكار والمعتقدات في أذهان أتباعها ومريديها،والتي تجعل من هؤلاء الأتباع متشدّدين ومحاربين لإخوانهم في الحركات الأخرى،وخاصة عندما يسمعون على مدار أطراف الليل وأطياف النهار أمثال هذه الشعارات: “الحركة الأم”،و”الجماعات المنشّقة”،و”الخروج على الجماعة”و”الحركات الطفيلية”…وعندما ينصتون للإتهامات والإفتراءات توجّه وبدون حقّ ضد قادة بعض الجماعات الأخرى ورجالاتها،وليس لهم ما يؤيد افتراءاتهم ويدعم كذبهم غير دعواهم المجرّدة وسوء ظنونهم النّكرة!!.
وحتى لا نظلم كلّ القيادات والجماعات،فإنّ السبب قد يكمن أحياناً في أتباعهم وجنودهم،فقد يكون القائد أو الأمير على درجة عالية من الوعي والعلم والإخلاص والتقوى،ولكنّ بعض أتباعه قد لا يكونون على مثل هذا المستوى المطلوب،ونحن نقرأ ونسمع عن أئمّة المذاهب الأربعة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين،وكيف كان كلّ منهم ينظر إلى الآخر نظرة التقدير والإحترام والمحبّة،وكيف ينهل بعضهم من مَعين علم الآخرين،وكيف يقتدي به في صلاته ويكون أحياناً إماماً له أو مأموماً،ولكننا ايضاً سمعنا وشفنا وعايشنا وللأسف بعض أتباع هذه المذاهب،وكيف كانوا يُذكون الخلافات ويُشعلون نار العداوات حيث استوغرت الصدور وسرت إليها الأحقاد وعشعشت الضغائن في القلوب والأكباد،وقويت الآثرة،وتحكّمت في الأفراد،وتسلّطت على سيرهم وتفكيرهم،وحتى وصلنا إلى هذا الزمان الذي رأينا فيه بأُمِّ أعيننا كيف تصلى الفرائض ثلاث مرات في بعض المساجد،فلكلِّ طائفة إمام،ولكلِّ إمام صلاته،وكأنّ الصلاة لا تجوز إلا بإمام هذا المذهب !!وهذا غيض من فيض لا يُذكر لما قد يحدث أحياناً بين أتباع بعض الجماعات من المصادمات باللسان وأحياناً التصادم بالسنان!!.
نعم، إنّ بعض الأتباع والمريدين غالوا في حُبّهم وأحاطوا جماعتهم وقيادتهم بهالة من التقديس والتعظيم،وأنزلوهم منازل النبّوة، وجعلوا لهم العصمة،وجردّوهم من كلِّ هفوة او زلة أو كبوة،وفي الوقت ذاته فإنّ هذه المحبّة المفرطة والطاعة العمياء التي تُعمي وتُصّم جعلتهم ينظرون إلى غيرهم من الجماعات والقيادات نظرات ملؤها الإزدراء والإحتقار،فلا يرون فيهم إلا كل نقيصة،ولا يتوسّمون فيهم إلا كل معيبة.
يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله في “اقتضاء الصراط المستقيم” :
“كثير من المنتسبين إلى طائفة العلم أو الدين أو إلى رئيس مُعظّم عندهم فإنهم لا يقبلون من الدين ـ لا فقهاً ولارواية ـ إلا ما جاءت به طائفتهم” .
ويقول الأستاذ الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله(أخلاقنا الاجتماعية ص34):
“إذا انتقلنا إلى ميدان العلم والتشريع،رأينا الإفراط في الحب والكره نال من كبار أئمة التشريع واللغة والأدب في عصرهم وما بعده،حتى شوّه سمعتهم وشغل الناس بالأباطيل التي أثيرت من حولهم.فكم شغل الناس في أمرأبي حنيفة الفقيه العظيم الخالد مابين معجب به ومزر عليه.حتى وضع الجاهلون من محبيه أحاديث مكذوبة على الرسول في مدحه والثناء عليه،بينما جرده الجاعلون من مبغضيه من كل فضيلة ودين،فإذا هو في زعمهم ينكر الحديث،ويكذب الرسول،ويقول ما يبرأ منه كل مسلم..وكم شغل الناس بعد ذلك بالخلافات المذهبية بين الحنفية والشافعية،وبين الشافعية والحنابلة،وبين أهل الحديث وأهل الرأي،مما ملأ المئات من الكتب والأسفار التي لو كتب عشرها فيما يفيد المسلمين يومئذ لغيّر مجرى التاريخ ودفع كثيرأ من النكبات والكوارث.
وابن تيمية ألم يذهب ضحية المفرطين في حبه والمفرطين في كرهه؟حتى رموه بالكفر والزندقة وزجوه في غياهب السجون،وحملوه على التوبة مما بهتوه من كفر وزندقة،وهو الإمام العظيم الذي لم يكن ـ بعد عصر أئمة الاجتهاد ـ من يدانيه دقة نظر وصدق إيمان وحسن فهم لدين الله وشريعته.
وهل ننسى الشيخ محمد عبده ومواقف الجامدين والجاهلين منه في حياته وبعد وفاته،حتى جردوه من فضيلة الصدق والإخلاص والخوف من الله،ورموه بكل كبيرة تحط من قدره في أعين الجماهير؟
ويتابع الشيخ السباعي رحمه الله:”وهكذا ضاعت مبادئ الإصلاح وقيم العلماء وكرامات المخلصين،وجهود المصلحين،في غمار هذه العداوات المشتجرة التي جعل منها الإفراط في البغض أو الحب،مقابر للمروءات والكرامات،واسلحة تهدم في كيان الوطن من حيث يتربص به أعداؤه الدوائر،ولو صدق قول كل فريق في الآخرين وحكم كل صحيفة على من تهاجمه،واتهام كل حزب لمن يعاديه، لكان معنى ذلك أن أمتنا كلها بأحزابها وزعمائها ورجالها وعلمائها خائنة مأجورة مفسدة لاتستحق الحياة ولا احترام أهل الحياة…فما أشد شماتة الأعداء بنا في عالم يتربص بنا السوء ويتتبع منا العثرات والغفلات”.
ويقول الدكتور طه حسين: “وكذلك يعجز الأحياء أن ينصف بعضهم بعضاً لأن شهوات الرضا والسخط وعواطف الحب والبغض واهواء التعصب والتحزّب تفسد عليهم أعمالهم فتدفعهم راضين أو كارهين إلى الغلّو أحياناً وإلى التقصير حيناً”(مجموعة طه حسين ج12 ص 482).
ويقول الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني(الأخلاق الإسلامية ج1 ص820):
“وكثيراً مايكون جحود الحق ورفض اتباعه والعمل به ناشئاً عن التقليد الأعمى والتعصب الذميم لقوم أو قادة ملتزمين جانب الباطل.وينشأ عن التقليد الأعمى ظلمات في النفس تحجب البصيرة عن رؤية نور الحق،فلاغ يرى المقلِّد إلا عمل من يقلده، ورأي من يقلده،والسبل التي يسير فيها من يقلّده،كالأعمى الغبي الذي يقوده في الطريق قائد يثق هو به،فهو يتبعه ولو قاده أو ساقه إلى هلاكه.
ويتولد التقليد الأعمى من ضعف الثقة بالنفس مضافاً إليه عامل الثقة العمياء بالشخص المتبوع،أو الجماعة أو القوم المتبوعين، وهذه الثقة تأتي من دافع المحبة،أو من دافع الهوى،أو من قناعة غير مستندة إلى أسس عقلية وعلمية صحيحة،أو من دافع الأنانية في التابع حينما يكون المتبوع من أصوله،أو من قومه،أو من بيئته،أو من ساكني وطنه”.
ومن الإطالة ولغو القول أن نحاول إثبات ما فرغ الناس من إثباته: من أن هذه العصبيّة الحزبيّة وما تؤدي إليه من ظهور النزعة الفردية والأنانية لدى بعض الجماعات والأفراد،وما ينجم عنها من تحويل التقديس للفكرة والمبدأ إلى تقديس الأشخاص أو الجماعات،وبحيث يصبح الشخص أو الجماعة هم مقياس الحقّ،أضف إلى ذلك أنها تمنع التعاون المشترك بين المسلمين بجماعاتهم المختلفة،وهذا أمر شرعي ضروري لا بد منه،وليت الأمر يقف عند هذا الحدّ، بل قد يتعدّاه إلى الإفتراق والإفتئات والإحتزاب والإحتراب والإقتتال!!
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في “الفتاوى”:
“من نصبّ شخصاً كائناً من كان فوالى وعادى على موافقته في القول والفعل فهو من الذين{فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً}[الروم 32]،ويقول رحمه الله:”وليس لأحد أن ينصب شخصاً يدعو إلى طريقته ويوالي ويعاد عليها غير النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينصب لهم كلاماً يوالي ويعادي عليه غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمة،بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصاً أو كلاماً يفرّقون به بين الأمة ويوالون به على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون”.
ويقول الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله(المنار العدد406):
“يقول تعالى:{إنّ الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً لستَ منهم في شئٍ إنّما أمرهم إلى الله ثمَّ ينبئهم بما كانوا يفعلون}[الأنعام 159]، يقول: ذهب بعض مفسري السلف إلى أن الآية نزلت في أهل الكتاب إذ فرقوا دين إبراهيم وموسى وعيسى فجعلوه أدياناً مختلفة وكل منها مذاهب تتعصب لها شيع مختلفة ويتعادون ويتقاتلون فيه،وذهب آخرون إلى أنها في أهل البدع والفرق الإسلامية التي مزقت وحدة الإسلام بما استحدثت من النحل والمذاهب،وكل من القولين حق والصواب هو الجمع بينهما”.
إنّ علاج هذا الداء،أعني: العصبية والحزبية،الذي استعصى على الحكماء،والذي لم ينفع فيه الدواء،أن تضع الجماعات والحركات الإسلامية قادة وجنوداً،هذه المبادئ الغالية الثمينة نُصب أعينها،وأن لا تفرّط بواحدة منها إن كانت تخشى الله ووعيده،وإن كانت تطلب بإخلاص نصره ووعده بالنصر والتمكين:
1ـ إنّ الشيخ أو القائد أو الإمام أو الجماعة أو الحركة هم واسطة لا غاية،والواسطة لا تحرز من الأهميّة إلا بمقدار انسجامها واتفاقها مع الغاية التي هي الأصل.
2ـ إنّ حُبّ الجماعة أو القائد أو الأمير يجب أن لا يشغل الإنسان أو ينسيه الرابطة الحقيقية وهي رابطة الإخوّة في الدين .
3ـ إنّ الولاء الحقيقي والتبعية الحقيقية هي للإسلام ولكل المسلمين الصادقين في كلِّ مكان.
4ـ إنّ الأصل هو التعاون بين الجميع بدون عصبية أو حزبية،وهو أوجب الواجبات،لأنَّ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
5ـ إنّ الإخوة هي أخوة بالإسلام نفسه،وليست الأخوة محصورة بين أفراد حركة من الحركات أو جماعة من الجماعات فحسب، بل تشمل المسلمين جميعاً في حدود ما يسمح به الإسلام.
(هذه النقاط ذكرتها بإيجاز نقلاً عن محاضرات وكلمات للأستاذ الحبيب عصام العطار حفظه الله)
نعم، عندما تتحقق هذه النقاط تطبيقاً وسلوكاً فإنّ الحركات والجماعات الإسلامية تلتقي متعارفة لا مُتناكرة،مؤتلفة لا مختلفة، ومتعاونة لا مُتقاطعة،قد زالت بينها الفروق، وأُلغيت بينها الحجب،وصبغتها دعوة الإسلام بصبغة واحدة.
ثالثا:التقصير في تزكيّة النفوس وتوعيّتها:
وهذه هي ثالثة الأثافي،التي سارت بذكرها الشوارد والقوافي،وهي من المشاكل الكبرى التي كانت ولا تزال تعاني منها بعض الحركات أو الجماعات الإسلامية،حيث أنها جهلاً أو غفلةً لا تسعى إلى تربية أفرادها على القواعد الأساسية للإسلام،وصرف اهتمامهم إلى المنبع الشافي والمَعين الصافي:القرآن والسنة،وتوجيههم إلى دراسة فقه الدين فيما يتعلق بالعبادات والمعاملات والأخلاق والفروق ما بين الأصول والفروع،والفرائض والنوافل والأوليات والثانويات…وهذا مافعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاصة في العهد المكي،حيث بقي سنوات عديدة يُعلّم أصحابه الكرام هذه الأمور جميعاً،قولاً وعملاً،سُنةً واقتداءً،حتى تسربت إلى نفوسهم وخالطت دماء عروقهم،وتشّربتها عقولهم،ووعيتها مداركهم،يقول سهل بن هارون: “فإنَ تقديم النافلة مع الإبطاء في أداء الفريضة شاهد على وهن العقيدة،وتقصير الرؤية،ومُضر بالتدبير،ومُخلّ بالإختيار،عوضاً عن فساد المروءة ولزوم النقيصة”(أمراء البيان لمحمد كرد علي ص 152).
وأما ما نراه اليوم من بعض الحركات والجماعات الإسلامية ـ وللأسف الشديد ـ أنها تُعلّم أفرادها منذ نعومة أظفارهم “الحركية” وبدون وجود قاعدة إسلامية راسخة صلبة لديهم،على وجوه الأختلاف بين الحركات،وأصول الخلاف بين الجماعات،والتصدّي للحاكم والمؤسسات،وإشغال النفوس والأوقات بإعداد الدراسات المستفيضة التي تتناول بعض الأمور أمثال الحكم والحاكمية والحكام،والخلافة،والمبايعة، والتكفير،والخروج عن الجماعة،والجماعات الضالة والفرق الناجية،والجاهلية في المجتمع المعاصر… بينما ليس لدى أفرادها أدنى المعلومات وأقلّ المعرفة بأمور الدين والدنيا،وفقه العقيدة والعبادات والمعاملات والأخلاق، وقواعد التحريم والتحليل… وهذا ينعكس سلباً على أفراد هذه الجماعات فكراً وسلوكاً وشعوراً وتعاملاً،وخاصة في علاقاتهم مع الجماعات الأخرى وباقي المسلمين.
يقول الأستاذ محمد الغزالي رحمه الله :
“هجر المسلمون القرآن إلى الأحاديث،ثم هجروا الأحاديث إلى أقوال الأئمة،ثم هجروا أقوال الأئمة إلى أسلوب المقلدين،ثم هجروا أسلوب المقلدين وتزمتهم إلى الجُهّال وتخبطهم،وكان تطور الفكر الإسلامي على هذا النحو وبالاً على الإسلام وأهله”.
والأمر أخطر مما يتصوره الإنسان،وهذا الكلام يؤيده وللأسف الواقع العملي والمعايشة الحركية والممارسة الدعوية،ولقد سمعت من أحد الإخوة الثقات عن إحدى الجلسات،أقيمت على مدار ثلاث صلوات،ولم تُقم فيها الصلاة!!وكان مدار الحديث الذي استمر عدّة ساعات،بين كؤوس الشاي والمكسرات والمرطبات،عن استبدال أنظمة الحكم الفاسدة،والواقع الظالم القائم،ووسائل تغيير هذه الأوضاع الفاسدة والنظم القائمة !!!
وإن انسَ فلن أنسى إحدى الجلسات التي جمعتني قبل عدّة سنوات وإخوة أخرين مع أحد العناصر البارزة والمسؤولة في إحدى الحركات الإسلامية، وبعد أن افتتح مدير الجلسة ب”بسم الله الرحمن الرحيم” وقبل الشروع بقراءة القرآن،أخذ هذا الأخ المسؤول بالتطاول والأفتراء على أحد الدعاة المجاهدين المخلصين،وألحق به أبشع الإفتراءات،وأشنع الإتهامات،واتهم أفراد جماعته بالضلال والنفاق..وبعد أن هدأت الأمور وسكنت النفوس،وأطفئت النيران بعد الغليان،وجاء دوره في قرآءة القرآن أخذ يتتعتع به ويشهد الله أنه كانت تُصَحح له معظم الكلمات!! أقول: إعراباً ونحواً لا تجويداً!!
إنّ البناء السليم لا يقوم ولا يثبت إلا على قواعد متينة وأسس راسخة،مهما كان البنيان ظاهرياً شامخاً متطاولاً في الفضاء،فإنه إذا لم يُبنَ على أسس متينة وقواعد صلبة فإنه عرضة للسقوط والإنهيار عند أوّل هزة أو أبسط زلزلة،وهذا شأن الحركات الإسلامية التي تعتمد في سياستها ومناهجها على التجميع العددي للأفراد من غير نظر إلى العامل النوعي والكيفي،وإن النمو العددي على حساب العامل النوعي ضرر كبير للحركة ولغيرها،وإن الكَم غير السليم وغير الواعي هو شلل للحركة وتعطيل للطاقات المنتجة فيها،وإنّ الكَم الواسع غير السليم والذي تسعى إليه بعض الجماعات بقصد التزيين العددي إنما هو قلائد من حديد وفولاذ تجذب للأسفل،وتمنع النظر للأعلى والأمام،وتشكل عبئاً على سير الحركة وتطورها،وعلى العكس تماماً فإنّ العدد النوعي السليم الواعي والمُهيأ تربية وتزكية وتوعية ـ وإن كان قليلاً ـ فإنه بإمكانياته وطاقاته وإخلاصه ورؤيته الصحيحة للمستقبل قادر على تحريك طاقات المسلمين الآخرين وتفجير مكنونات القدرة والطاقة لديهم،ورُبَّ شخص واحد قادر على تحريك الآلاف من الناس،ورُبَّ آلاف من الأشخاص لا يستطيعون تحريك حجر من مكانه.
يقول الأستاذ الحبيب عصام العطار حفظه الله:
“حجم الأشياء الحقيقي إنما هو حجمها في النفوس والأفكار…فرُبّ حادث واحد له في ألوف الأشخاص ألوف الأحجام والآثار” .
نعم، إن إعداد الأفراد وتربيتهم وتزكية نفوسهم وتوعيتهم هو المطلب الرئيسي الذي يجب على قيادات العمل الإسلامي أن تضعه نُصبَ أعينها،وإنّ إعداد القاعدة الراسخة الصلبة والمتينة هو الأساس الصحيح لقيام أي بناء سليم،ويجب ألا نستعجل الأمور،وأن نتجنّب حرق المراحل،واستعجال النتائج،وقد كان لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة وقدوة رائعة،حيث بقي حوالي ثلاثة عشر عاماً في مكة المكرّمة وهو يكافح ويناضل ويسعى من أجل هذا الهدف العظيم بكلِّ صبرٍ وحكمةٍ وتؤدة،وعندما هاجر إلى المدينة المنورّة لم يكن عدد الصحابة من المهاجرين يتجاوز بضع مئات،ولكنهم استطاعوا في خلال أقلّ من ربع قرن من الزمان أن يفتحوا العالم من أقصاه إلى أقصاه.
يقول الأستاذ الحبيب عصام العطار حفظه الله :
“بناء الإنسان المسلم نفسه لا يتم بطرفة عين،ولا يكون بالأمنيات وأحلام اليقظة،ولكنه يحتاج إلى الباعث القوي والإرادة الصارمة،والجهد المخلص الذي لا يفتر ولا ينقطع،وإلى علم بغايته ومهمته في بلاده وعالمه وعصره،وبصرٍ بمتطلبات الحاضر والمستقبل وحسن تنظيم للوقت والجهد،واستفادة من أفضل ما توصّل إليه العلم والفكر من وسائل،وما يعطيه الواقع الراهن من إمكانات،والمثابرة على ذلك كله إلى نهاية الحياة”.
أما أن نغيّر الواقع الفاسد ونحن لم نغيّر أنفسنا بعد،ونأمل أن نقيم دولة الإسلام على الأرض ونحن لم نرّسخ أركانها في النفوس،وأما أن نضع النظريات ونرفع الشعارات ونحن نقتلها ونرجمها بممارستنا العملية فإننا نلحق الضرر بها وبإسلامنا على المدى القريب والبعيد.
لنقف ونتدّبر ملياً دعاء سيدنا إبراهيم عليه افضل الصلاة والسلام في سورة البقرة:
{ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم}[البقرة 129]،وبعد عدّة آيات في نفس السورة يأتي البيان الإلهي العظيم المعجز ليضع الأولويات:
{كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويُزكيكم ويُعلمكم الكتاب والحكمة ويُعلمكم ما لم تكونوا تعلمون} [البقرة 151]، حيث كان الترتيب مشابهاً للآية الأولى عدا أنّه قدّم التزكيّة على التعليم والحكمة… وقد تكرر نفس الأمر في الآية 164 من سورة آل عمران:
{يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة}،ووردت نفس الآية في سورة الجمعة:
{يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة} [الجمعة 2]،مما يدل على الأهمية الكبرى في تزكيّة النفوس وتطهيرها وإعدادها،والذي يجب أن يُقدّم على كل شئ آخر.
يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله في “الظلال”:
“ولكن الله أرسل رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم يُطّهرُ أرواحهم من لوثة الشرك،ودَنس الجاهلية،ورجس التصورات التي تثقل الروح الإنساني،ويُطّهرهم من لوثة الشهوات والنزوات فلا ترتكس أرواحهم في الحمأة،ويُطّهرُ مجتمعهم من الرياء والسحت والغش والسلب والنهب وهي كلها دنس يلّوث الأرواح والمشاعر ويُلّطخ المجتمع والحياة،ويُطّهر حياتهم من الظلم والبغي،وينشر العدل النظيف الصريح،ويُطّهرهم من سائر اللوثات التي تُلّطخ وجه الجاهلية في كل مكان من حولهم”.
إنّ عدم الإهتمام الكافي والإلمام الوافي بإعداد النفوس وتزكيتها وتوعيتها يمكن أن تنجم عنه مشاكل خطيرة وأعباء ثقيلة،تلحق افدح الضرر بالحركة التي ينتمي إليها هؤلاء الأفراد،وبالحركات الإسلامية الأخرى،وكذلك الأمر بالنسبة لسائر المسلمين،ومن هذه الأخطار نذكر على سبيل المثال لا الحصر:
1ـ إنّ قلة العلم والوعي والدراية ستخلق للحركة وعلى مدار السنين مشكلات لا تُحصر ولا تنتهي،وخاصة عندما تتضارب مصالح هؤلاء الأفراد وأهواؤهم مع ماتراه الحركة،وغالباً ما ينتهي الأمر بعد شهور أو سنوات من المناقشات العقيمة والجلسات الطويلة إلى الإنشقاق والتحزُّب وما يسبقه وما يلحقه من تبادل أبشع الإتهامات وأحقر العبارات وأتفه الإفتراءات.
يقول الأستاذ عصام العطار حفظه الله:
“ما أكثر الإنتهازيين الذين يؤيدونك ويُمجدونك بمقدار ما يستغلونك ويستخدمونك لتحقيق مصالحهم الخاصة على حساب دينك ونزاهتك،ومصلحة الإسلام والمسلمين،فإن أبيت عليهم ذلك أو وجدوا مصالحهم عند سواك تخلّوا عنك وتنّكروا لك أوانقلبوا عليك بمختلف المبررات الكاذبة والأعذار الخادعة”.
2ـ أنهم سيلحقون أفدح الضرر بالطاقات المنتجة المعطاءة في هذه الحركة،وخاصة إذا كان لهم قصب السبق والرأي النافذ، وعندما تشعر هذه الطاقات المنتجة أنها تسبح في بحرلا ساحل له من الخلافات السطحية،وأنها تغوص في لُجّة بحر عميق لا قرار له بحثاً عن الجذور المريضة بقصد إصلاحها أو إقتلاعها،وعندما تشعر أن نتاج عملها بعد سنين هو حصاد الهشيم وقبض الريح،وأن الجهل والغفلة والسطحية وحب الظهور،وعبادة الميكروفونات،قد ملك زمام الأمور أو جُلّها،عندها ستقف،وتتأمل، وتفكّر،وتبحث عن البدائل، وتتحّرى أي القوافل تكون فيها من الإبل بمنزلة الرواحل.
3ـ انهم سيكونون حجر عثرة،وعقبة كؤود في التقاء الحركات الإسلامية وتعاونها فيما بينها،لأنها عقولٌ مُقفلة غلب عليها الكيد، ونزع بها لؤم الطبع شرّ منزع، تسعى إلى تحقيق مصالحها وأهوائها ورياستها،ولو على حساب الإسلام ومصلحة المسلمين.
4ـ أنهم قد يُستغلون وبكل سهولة من قبل أعداء الإسلام،ويستخدمونهم رأس حربة في مهاجمة الإسلام والمسلمين،وكيف لا وهم يتصدّرون المجالس بأسماء العلماء وإن كانوا بأفعالهم قد يتجاوزون أظلم الجُهّال،وخاصة عند مواجهة الشدائد والمُغريات والتحديات.
5ـ أنهم قد يتصدّون للفتوى وإطلاق الأحكام،وهم ليسوا أهلاً لها،ولا أبناء بجدتها،مُعرّضين انفسهم لأشدّ العقوبات من الله عزّ وجلّ بذنب يُعتبر من أكبر الكبائر وهو القول على الله بغير علم: {قل إنّما حرّم ربيَ الفواحشَ ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحقّ وأن تشركوا بالله مالم يُنّزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}[ الأعراف 33]، كما إنهم يُعرضون المسلمين لأفدّح الأضرار واسوأ العواقب بسبب هذه الفتاوى الباطلة الظالمة التي تُستغل من قبل أعدائه ومحاربيه.يقول الأستاذ عصام العطار حفظه الله: “إنكم لستم أغيرَ من الله على دينه ولا أحكم من الله في وضع الأشياء مواضعها من شريعة الله، فلا تتنطّعوا ولا تَغلوا في دينكم غير الحقّ،ولا تسيئوا بمواقفكم الجاهلة أو المُغالية إلى الإسلام والمسلمين” .
ولعلّ من أخطر هذه الفتاوى التي يلجأ إليها هؤلاء الجُهّال المتنطعين المُغالين الذين يظنون أنهم أعبَدّ العُبّاد،وأصلح المصلحين، هو استسهال تكفير المسلمين ونعتهم بأبشع النعوت والأوصاف من الضلال والجاهلية والنفاق والرّدة،والدعوة إلى الإنعزال عنهم ومحاربتهم، وإلى استخدام العنف معهم، وقد قيل: “إن مقاتل المرء تبدو متى عالج عملاً ليس منه بسبيل” . يقول الأستاذ عصام العطار حفظه الله: “يجب أن تبدأ بالدعوة والإقناع والتعليم والتربية، وتوفير ما يُستطاع من الشروط المساعدة على التزام الإسلام قبل أن ترفع السيف في وجه من لا يلتزمون بالإسلام،أما الذين يبتدئون بالسيف فهم ـ في الغالب ـ لا يفهمون الإسلام ولا ينطلقون من الإسلام،ولا يخدمون قضيته ولا يحققون به لأمتهم وبلادهم وللإنسانية كلها ما يريده لهم ويقدمه إليهم من الخير” .
6ـ انهم بتصرفاتهم الخاطئة الجاهلة، وبسبب قصور الرؤية لديهم،وعمى البصيرة في قلوبهم قد يرتكبون من الأخطاء ما يُّسّهل على أعداء المسلمين ـ وما أكثرهم ـ ضربهم وضرب الحركات الإسلامية الأخرى المخلصة،وضرب سائر المسلمين،ومحاولة ما يُسمونه”تجفيف المنابع” والتي لا تعني أكثر من ضرب أي مسلم يحاول أن يُطبّق الإسلام في ذاته ومجتمعه. يقول الأستاذ عصام العطار حفظه الله: “يا شباب الإسلام لا تعطوا الفرصة بأخطائكم وقصوررؤيتكم وخبرتكم لأعداء المسلمين لضربكم وتصفيتكم واتخاذكم أو اتخاذ بعض أعمالكم ذريعة لضرب الإسلام والمسلمين المخلصين العاملين،ومحاولات القضاء على البعث الإسلامي قبل أن يكتمل ويأخذ مداه،ولا تُعطوا الفرصة لأعداء الإسلام لإستدراجكم أو دفعكم إلى أعمال ومواقف تُسهّل لهم ما يريدون” .
نعم قد تكون المقالة مؤلمة ومُرّة،ولكن لابدّ من النقد الإيجابي البّناء الذي يقع على مواضع القوّة فيُنّميها ويُزكّيها،وعلى مواضع الضعف فيمحوها أو يُقلّل منها ،ويعصم من السقوط والإسفاف.
اللّهُمَّ أرِنا الحقّ حقاً وارزُقنا إتبّاعه،وأرِنا الباطلَ باطلاً وارزُقنا اجتنابه،اللَّهُمَّ الهمنا رُشدنا وسَدّد خطانا على طريق الألفة والمحبة والخير .
4ـ اتّباع الهوى:
هناك أناسٌ بانَ لهم الحقّ فبانوا عنه،وظهرت لهم دلائله فتظاهروا عليها!!استيقنته أنفسهم وجحدته أهواؤهم،وأدركته مداركهم ولفظته مشاعرهم،وأبصرته بصائرهم وتعامت عنه أبصارهم.أدركوا أنَ فيه البرء والشفاء وتنّكبوا سبيله وتبرؤوا منه كلّ البراء.أناس تجمع نفوسهم بين المكابرة والغرور من جهة،ومابين الضعف واتباع الهوى من جهة أخرى،المكابرة التي تصد عن اتباع الحق،والضعف الذي لا تستطيع فيه النفس مواجهة الحق{يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يُساقون إلى الموت وهم ينظرون} [الأنفال 6].
والدعوة إلى الحق قد تجد قبولاً عند بعض الناس،ولكنها غالباً ما تجد صدوداً عند الغالبية منهم،{بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون} [المؤمنون 70]،وقد تجد لدى قلةٍ منهم أذاناً صاغية، ولكنها عند الأكثرية أذاناً غير واعية،وقد تُلاقى بالإندفاع والحماس عند قسم منهم، ولكن في المقابل تُلاقى بالنفور والإبتعاد والهروب عند القسم الأعظم منهم،{فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حُمُرٌ مستنفرة فرت من قسورة}[المدثر50].
والآيات في القرآن الكريم كثيرة تتكلم عن اتباع الهوى وعدم الرضوخ للحق والاستجابة له،يقول تعالى:{بل اتّبعَ الذين ظلموا أهواءَهُم بغير علمٍ فمن يهدي من أضلَّ الله ومالهم من ناصرين}[الروم29]، ويقول تعالى:{فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنّما يتّبعون أهواءهم ومن أضلُّ ممّن اتّبعَ هواهُ بغير هدىً من الله إنّ الله لايهدي القوم الظالمين}[القصص50]،ويقول تعالى:{أفَمن كانَ على بيّنةٍ من رَبّهِ كمن زُيّنَ لهُ سُوءُ عملهِ واتّبعوا أهواءَهُم}[محمد14]،ويقول تعالى:{ومنهم من يستمعُ إليكَ حتى إذا خرجوا من عندكَ قالوا للذين اُوتوا العلم ماذا قال أنفاً أولئكَ الذين طبعَ الله على قلوبهم واتّبعوا أهواءَهم}[محمد 17].
يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ( نهج البلاغة): ” إنما بَدءُ وقوعِ الفتن أهواءٌ تُتبَع،وأحكامٌ تُبتدَع،يُخالفُ فيها كتابُ الله،ويتولى عليها رجالٌ رجالاً،على غير دين الله، فلو أنّ الباطلَ خلصَ من مزاجِ الحق لم يَخْفَ على المرتادين(طالبي الحقيقة)،ولو أنّ الحقَّ خلصَ من لَبْسِ الباطل انقطعت عنه ألسنُ المعاندين،ولكن يؤخذُ من هذا ضِغث،ومن هذا ضغث، فيمزجان! فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه وينجو{الذين سبقت لهم منّا الحسنى}.[الأنبياء 101].
( الضغث: قبضة من حشيش مختلط فيها الرطب باليابس)
إنَّ الحقَّ واضح جلي،والحُجّة دامغة قوية،والبراهين ظاهرة ساطعة،ولكنها نفوس مريضة جاحدة مُكابرة،تحكمها أهواء ومطامع آسرة،عرفت الحقّ يقيناً وثبوتاً،ورفضته جحوداً وتكذيباً وشِقاقاً،أو بغياً وحسداً ونفاقاً، طمعاً في متاع زائل أو رهبة من طاغوت زائف.
يقول الأستاذ محمد أديب صالح رحمه الله(على الطريق ص406)”:
“ولقد نعى على أولئك الذين ركبوا رؤوسهم وتسلحوا بسلاح المماراة والجدل وعدم الإنصياع إلى الحق الذي قام على الدليل ونهضت به الحجة عِناداً وإصراراً على الباطل الذي ليس لهم به علم فقال سبحانه: {ولو نزلنا عليك الكتاب في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفرواإن هذا إلا سحر مبين ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فَظلّوا فيه يعرجون لقالوا إنما سُكّرت ابصارنا بل نحن قوم مسحورون} [الأنعام 7ـ 8] ،وهم قوم مكابرون معاندون يجادلون من أجل الجدال،ويُمارون حُباً بالمراء،تأبى عليهم كبرياؤهم أن يسمعوا النصيحة،ويأبى عليهم عنادهم ان يرجعوا عن الخطيئة،وهم يطالبون الدعاة بالمزيد من الخوارق والمعجزات،لا طلباً للحقيقة وللوصول إلى الغاية النبيلة،وإنما هي نفوس مريضة قد لَجّت في العناد،ووضع بينها وبين قبول الحق حجاب{وقالوا لن نُؤمن لك حتى تَفجُرَ لنا من الأرض ينبوعاً * أو تكون لك جنَّةٌ من نخيلٍ وعنب فتُفَجِرَّ الأنهارَ خلالها تفجيراً *أو تُسقِطَ السماءَ كما زعمتَ علينا كِسَفاً أو تأتيَ بالله والملائكةِ قبيلا * أو يكونَ لك بيتٌ من زُخرُفٍ أو تَرقى في السماء ولن نؤمن لِرُقيِّكَ حتى تُنزِّلَ علينا كتاباً نقرؤُهُ قل سبحانَ ربي هل كنتُ إلا بشراً رسولا} الإسراء[ 90ـ 93].
يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله :
“هذه الآيات الكثيرة العدد،الكاشفة عن الحق،حتى ليبصره كل من له عينان،ومع هذا قالوا عنها إنها سحر مبين،قالوا ذلك جحوداً ومكابرة،لأنهم لا يريدون الإيمان ولا يطلبون البرهان،استعلاءً على الحق وظلماً له ولأنفسهم بهذا الإستعلاء الذميم”.
يقول شاعر المعرّة:
وأهل كُلِّ جدال يُمسكون بهِ إذا رأوا نور حق ظاهر جحدوا
ومن علامات أصحاب الهوى وعبيدالدنيا،أن الهوى يضرب على قلوبهم راناً،وعلى عقولهم حجاباً،وعلى أذانهم وقراً،وعلى أبصارهم غشاوةً،يحول بينهم وبين فهم ما يلقى عليهم،فلا يعون خطاباً،ولا ينصتون إلى نصيحة{ومنهم من يستمعُ إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتّبعوا أهواءهم} [محمد 16].
يقول الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله:
“الحق يستعصي على الهوى،فمن ملكه الحق ملك القدرة على أهوائه ورغباته،والباطل ينقاد للهوى فمن ملكه الباطل غدا أذلَّ الناس لأهوائه ورغباته”،ويقول الأستاذ عصام العطار حفظه الله : “إن الذي يسايرُ الناس في الباطل لينالَ ولاءَ الناس وتأييد الناس هو في حقيقته عبد حقير وإن ارتدى ثياب القادة والزعماء”.
ويقول الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه(مشاهد يوم القيامة ص77):
“من علامات يوم القيامة الصغرى:ضياع الحق،أو كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:”إعجابُ كل ذي رأي برأيه”،(هو جزء من حديث شريف عن أبي ثعلبة رضي الله عنه وحسنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري وهو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”إذا رأيت شُحاً مطاعاً،وهوىًُ متبعاً،وإعجاب كل ذي رأي برأيه،فدع عنك أمر العامة،وعليك بخاصة نفسك)، وإعجاب الناس بآرائهم هو بداية الخروج عن الحق إلى هوى النفس…وكل واحد يقول: هذا رأي ولابد أن يتبع… ويحاول بشتى الطرق أن يزين هذا الرأي،ولو بالباطل،وأن يجمع الأدلة عليه،ولو كذباً.فإذا رأى الحق فإنه ينسى أن الرجوع إلى الحق فضيلة،ويرفض أن يهزم،وأن يؤخذ بغير رأيه..فكأن الناس قد وضعوا أنفسهم فوق الحق…بينما الحق هو الذي كان يجب أن يسود المجتمع،وأن يخضع له الناس.ولكن الدنيا كلها تتفنن في الخداع،ويصبح كل صاحب رأي يحاول أن يحقق غايته بأي طريق ـ بالضلال والإخلال ـ وهكذا يختل ميزان الدنيا لأنه مقام على الحق… ويصبح الحق ضائعاً لاصاحب له،لأن كل صاحب رأي معتز برأيه، بصرف النظر عن الحق..وهذا مانجده الآن في الدنيا، فالناس تحاول أن تفعل أشياء وتخلد اسماءها.. أو ليقال إنها فعلت ..دون أن يكلف إنسان جهده في أن يسأل نفسه أين الحق وأين الباطل من كل مايجري؟.”.
ويقول الأستاذ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني(الأخلاق الإسلامية ج1 ص781):
“أما أهواء النفس وشهواتها فهي من دون العقل الإيماني حمقاء رعناء جاهلة تندفع اندفاعاً بهمياً أعشى،وهي في أغلب حالاتها تميل إلى اغتنام اللذات العاجلة،ولو كان من ورائها مضار وآلام كثيرة آجلة، وتميل إلى زخرف الحياة الدنيا وزينتها وتفاخرها، ولو كان في ذلك سخط الله ومعصيته.فمن طبع أهواء النفوس أنها تؤثر العاجلة وتذر الآخرة،مالم يضبطها ضابط من العقل الصحيح الراجح،المقرون بالإرادة الحازمة،أو ضابط من الإيمان الراسخ والدين المهيمن على النفس،والمتغلغل في أعماق القلب والوجدان.لذلك كان اتباع الأهواء والشهوات من الأسباب المضلة المبعدة عن صراط الله المستقيم،والمفضية بالإنسان إلى مواقع تهلكته”.
ولعلَّ من أبرز الأمثلة على هذا الصنف من الناس قصة الوليد بن المغيرة المخزومي،والتي نذكرها بإ يجاز نقلاً عن “الظلال” للشهيد سيد قطب رحمه الله: “جاء الوليد بن المغيرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن،فكأنّه رقّ له،فبلغ ذلك أبا جهل بن هشام،فأتاه فقال له: أي عم! إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً. قال: لم؟ قال: يعُطونكه، فإنك أتيت محمداً تتعرّض لما قِبَلَه ـ يريد بخبث أن يثير كبرياءه من الناحية التي يعرف أن الوليد اشدّ بها اعتزازاً ـ قال: قد علمت قريش أني اكثرها مالاً!قال: فقل فيه قولاً يعلم قومك أنك منكر لما قال،وأنك كاره له!قال: فماذا أقول فيه؟! فوالله ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني ولا أعلم برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن!والله ما يشبه الذي يقوله شيئاً من هذا،والله إنَ لقوله الذي يقوله لحلاوة،وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يعلى ” ،وفي رواية أخرى “إنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة،وإنّ أعلاه لمثمر وإنّ أسفله لمغدق،وإنه ليعلو وما يعلى عليه”،قال: والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه. قال: فدعني حتى أفكر فيه. فلما فكّر قال: إن هذا إلا سحر يؤثر عن غيره . فنزلت الآيات:
{ذرني ومن خلقت وحيدا*وجعلت له مالاً ممدودا*وبنين شهودا*ومهّدتُ له تمهيدا*ثم يطمع أن أزيد*كلا إنّه كان لآياتنا عنيدا*سأرهقه صَعودا*إنّه فكّرَ وقدّر*فقُتِلَ كيف قدّر*ثم قُتِلَ كيف قدّر*ثم نظر*ثم عبس وبسر*ثم أدبر واستكبر*فقال إن هذا إلا سحرٌ يؤثر*إن هذا إلا قول البشر* سأ صليه سقر}[ سورة المدثر11ـ 26].
وفي رواية أخرى أن قريشاً قالت: لئن صبا الوليد،لتصبون قريش كلها! فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه! ثم دخل عليه،وأنه قال بعد تفكير طويل: إنه سحر يؤثر. أما ترون أنه يُفرِّق بين المرء وأهله وولده ومواليه؟”
ومثال آخر قريب من هذا كان بطله فرعون هذه الأمة: ابو جهل عمرو بن هشام.جاء في “الروض الأنف”: “دخل الأخنس بن شريق وأتى أبا جهل فد خل عليه بيته،فقال: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟فقال: ما ذا سمعت،تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف،أطعموا فأطعمنا،وحملوا فحملنا،وأعطوا فأعطينا،حتى إذا تحاذينا الركب وكنا كفرسي رهان،قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء. فمتى ندرك مثل هذه؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه” .
نعم، إنّها نفوسٌ تعامت أبصارها عن رؤية الحقّ وهو أسطع من نور الشمس في أوجّ الهاجرة وصَّمت آذانها عن سماع نداء الحقّ وهو أقوى من قصف الرعد وعصف العاصفة،إنّها نفوس أنكرت الحقّ لا عن عدم اقتناع به،ولا عن شبهة فيه،ولا بسبب نقص أدلته،أو عدم وضوح حجّته،وإنما انكرته ظلماً وعدواناً واستكباراً وعُلّواً.
قال تعالى :
{فلمّا جاءتهُم آياتُنا مُبصرةً قالوا هذا سحرٌ مبين*وجَحدوا بها واستيقَنتها أنفُسُهُم ظُلماً وعُلوّاً فانظر كيف كان عاقبةُ المفسدين}[النمل 13 ـ 14]، وقال تعالى:{بل جاءهم بالحقِّ وأكثرهم للحقِّ كار هون} [المؤمنون 70]، وقال تعالى:
{ويلٌ لكلِّ افاكٍ اثيم* يسمع آيات الله تُتلى عليه ثمَّ يُصرُّ مستكبراً كأنْ لم يسمعها فَبَشِّرهُ بعذابٍ أليم}[الجاثية 7 ـ 8] .
يقول الإمام علي رضي الله عنه: “أخاف عليكم اثنتين:إتّباع الهوى،وطول الأمل،وإتباع الهوى يصد عن الحق،وطول الأمل يُنسي الآخرة”، ويقول عبد الله بن المبارك رحمه الله وهو أحد سادة التابعين: “إن العلماء ورثة الأنبياء فإذا كانوا على طمع فبمن يُقتدى”.
يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله في ” الظلال”:
“هذه الآيات الكثيرة العدد،الكاشفة عن الحقّ،حتى ليبصره كل من له عينان،ومع هذا قالوا عنها إنها سحر مبين،قالوا ذلك جحوداً ومكابرة،لأنهم لا يريدون الإيمان ولا يطلبون البرهان،واستعلاءً على الحق وظلماً له ولأنفسهم بهذا الاستعلاء الذميم،وكذلك كان كبراء قريش يستقبلون القرآن،ويستيقنون أنه الحق،ولكنهم يجحدونه ويجحدون دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله الواحد، ذلك أنهم كانوا يريدون الإبقاء على ديانتهم وعقائدهم لما وراءها من أوضاع تسندهم ومغانم تتوافد عليهم،وهي تقوم على تلك العقائد الباطلة التي يحسّون خطر الدعوة الإسلامية عليها،ويحسّونها تتزلزل تحت اقدامهم وترتجّ في ضمائرهم،ومطارق الحقّ المبين تدفع الباطل الواهي المريب،وكذلك الحق لا يجحده الجاحدون لأنهم لا يعرفونه،بل لأنهم يعرفونه يجحدونه وقد استيقنته نفوسهم،لأنهم يحسّون الخطر على وجودهم،أو الخطر على أوضاعهم،أو الخطر على مصالحهم ومغانمهم،فيقفون في وجهه مكابرين وهو واضح مبين” .
وهناك أناس يعرفون الحقّ ولا يتبعونه،لا خوفاً على مصلحة ولا طمعاً في منصب،ولكنه الحسد وإتباع الهوى ولعلّ قصة أمية بن أبي الصلت الذي” آمن بشعره وكفر بقلبه ” ما يلقي الضوء على أمثال هؤلاء الناس (انقلها بإيجاز من دائرة سفير للمعارف الإسلامية المجموعة 27 ـ 28 ص2105):
“هو شاعر جاهلي أدرك الإسلام ولم يسلم،وقد عرف في شعره بنزعته الدينية،وكان كثير التردد على الأديرة والبِيَع والكنائس، ويذكر الرواة أنه كان يطمع في النبوة،وكان يُهيئ نفسه لها،فلما بلغه بعثُ النبي صلى الله عليه وسلم كفر به وحسده وقال: “إنما كنت أرجو أن أكونه” . وراح يؤّلب المشركين عليه خاصة بعد وقعة بدر،وقد رثى فيها قتلى المشركين بقصيدة نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن روايتها،وقد ذكر بعض المفسرين أنه المقصود بقوله تعالى:
{واتلُ عليهم نبأ الذي آتيناهُ آياتنا فانسلخَ منها فأتبعهُ الشيطانُ فكان من الغاوين*ولو شئنا لرفعناه بها ولكنّه أخلدَ إلى الأرض واتّبعَ هواه}[ الأعراف 175 ـ 176].
والمعنى أن الله سبحانه وتعالى ألهم ابن أبي الصلت كراهية الشرك والقى في نفسه طلب الحق،ويسّر له قراءة كتب الأنبياء، وحَبّبَ إليه الحنيفية، فلما انفتح له باب الهدى وأشرق عليه نور الدعوة الإسلامية،كابر وحسد وأعرض عن الإسلام. وقد رويت في ملابسات موته حكايات غريبة أشبه بالأساطير ولكنها تجمع في النهاية على إدانته لعدم قبوله الهداية التي كان منها قاب قوسين أو أدنى”.
وقِسْ على الوليد بن المغيرة وأبي جهل وأمية بن أبي الصلت، الكثير من صناديد قريش الذين كفروا بالإسلام وجحدوا دعوة الحق،وقِسْ عليهم الكثير الكثير من أحبار يهود ورهبان النصارى الذين أدركوا الحق وأنكروه،واتبعوا الهوى وانقادوا له،يقول تعالى:
{ولمّا جاءهم كتابٌ من عند الله مُصدِقٌ لما معهم وكانوا من قبلُ يستفتحونَ على الذين كفروا فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنةُ الله على الكافرين} [البقرة 89].
يقول الأستاذ محمد الغزالي رحمه الله(جدد حياتك ص220):
“منذ أربعة عشر قرناً ظهر محمد بن عبد الله في العرب،وكان أصحاب الرياسات المُبجلّة من الأحباروالرهبان قد أحسّوا نبأه، والتقوا به،ليسوتثقوا من صدق دعوته وصحة رسالته،ولم يحتج الأمر إلى طول تمحيص،فسرعان ما أيقن القوم أنهم أمام رسول من رب العالمين،ويجب أن يؤمنوا به وأن ينضموا إليه،بيد أنهم طووا أنفسهم على هذه الحقيقة وكرهوا عن تجاهل لا عن جهل أن يذكروها بَلْهَ أن ينشروها” {الذين أتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون} [البقرة 146]، ويتابع رحمه الله”ولست أعرف منظراً أشوهَ ولاأقبح من كاهنٍ أو واعظٍ يتحدث عن الله بلسانه ومن وراء أحاديثه الفضفاضة ووظيفته الدينية نفسٌ ترتع فيها جراثيم الأنانية الصغيرة،والتطلع الخسيس {ودَّ كثيرٌ من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ماتبين لهم الحق} [البقرة 102]، ويتابع”والغريب إن الأحبار والرهبان مضوا في معركة الحقد ـ لا الحق ـ إلى نهاية الشوط فألبّوا أتباعهم الأغرار ضد الدين الجديد ونبيه،وأشاعوا حوله قالة السوء،وأثاروا بموقعهم حروباً طاحنة ما كان أغنى الدنيا عنها لو تطهرت النفوس من هذه الغيرة الشخصية السيئة” انتهى كلام الشيخ الغزالي.
نعم، لم يكتفوا بعدم الدخول والقبول في الدين الحق،واتبعوا أهواؤهم وركبتهم الضلالة والحسد،ولم يكتفوا بأن كفروا واستمروا في كفرهم وشركهم،بل ظلوا يصدون غيرهم عن سبيل الله ودعوة الحق،كالذي يقف في الطريق يمنع الناس من السير فيه،كقطاع الطرق وأزلام الفساد الذين يقفون يمنعون الناس من السير في الطريق المستقيم،ويمنعونهم من ارتياد المساجد ويهددونهم بكل أسباب التهديد فهذا صد عن سبيل الله. كما قال سيدنا شعيب صلى الله عليه وسلم وذكر ذلك في القرآن الكريم:{ولاتقعدوا بكلِّ صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عِوجاً وأنتم شهداء}[آل عمران 99].
إن داء الحسد هو من أكبر المعيقات ومن أكثر المثبطات لدخول دعوة الحق والإيمان بها،عرفنا ذلك قديماً،ونراه حديثاً، وسيواكبنا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها،سنة الله في خلقه،فمنهم يعلم أن الحق بيّن واضح ولكن ظلمة الحسد في هذه الأنفس الداكنة،واسوداد سويداء قلوبهم بهذه الآفة المنكرة البغيضة تجعلهم يبتعدون عن الحق وهم يعلمون أنه حق ويتجنبون قبوله والإيمان به وإن كانت نفوسهم قد استيقنته ولكن جحدته قلوبهم.
يقول الأستاذ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني(الأخلاق الإسلامية ج1 ص813):
“وكان داء الحسد من أكبر العوامل التي جعلت اليهود ينكرون الحق الذي جاء به عيسى عليه السلام،ولذلك حاولوا التخلص منه، لولا أن نجاه الله فرفعه إليه،وألقى شبهه على من دلّ عليه.
وكان داء الحسد من أكبر العوامل التي جعلت اليهود أنفسهم ينكرون الحق الذي جاء به محمد صلوات الله عليه،وبالحسد تآمروا عليه وعلى دعوته في حياته،ثم تابعوا تآمرهم على الإسلام في جميع عصور التاريخ الإسلامي.
لقد حسدوا محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان من العرب،ولم يكن من بني إسرائيل،وقد اصطفاه الله فأنزل عليه خاتمة رسالات السماء وأشملها وأعمّها،وكانوا يعلمون من أنباء كتبهم وبشائرها أن رسولاً سيأتي ويستعلن به دين الله من جبال فاران(وهي جبال مكة) فلما جاءهم ماعرفوا حسدوه،فركبوا مركب الجريمة الكبرى،فكفروا به، فلعنة الله على الكافرين.
كان يهود المدينة يقولون للأوس والخزرج قبل ظهور أمر الرسول صلى الله عليه وسلم:إن نبياً مبعوث الآن،قد أظلّ زمانه،سنتبعه، ونقتلكم معه قتل عادٍ وإرم،وكانوا يسألون الله ان يفتح عليهم به،فلما جاءهم،وهاجر إلى المدينة،وعرفوا صدقه، حسدوه إذ لم يكن من بني إسرائيل،فدفعهم حسدهم إلى الكفر برسالته ومناصبته العداوة، قال تعالى:{ولمّا جاءَهُم كتابٌ من عندِ الله مُصَدِقٌ لما معهم وكانوا من قبلُ يستفتحونَ على الذين كفروا فلمّا جاءهم ماعرفوا كفروا به فلعنةُ الله على الكافرين*بئسما اشتروا بهِ أنفسهم أن يكفروا بما انزلَ الله بغياً أن ينزل الله من فضلهِ على من يشاءُ من عباده فباءوا بغضبٍ على غضب وللكافرين عذابٌ مهين}[البقرة 89 ـ 90].وقال تعالى:{أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيمَ الكتابَ والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيما}[النساء 54].وقال تعالى:{ودَّ كثيرٌ من أهلِ الكتابِ لو يردُّونكم من بعد إيمانكم كُفاراً حَسداً من عند أنفسهم من بعدِ ماتبيّن لهمُ الحق}[البقرة 109].
ويتابع الشيخ حبنكة(نفس المرجع ص785):”وقد يكون جحود الحق ورفض اتباعه والعمل به ناشئاً عن الحقد.
والحقد هو العداوة الدفينة في القلب،والعداوة هي كراهية يصاحبها رغبة بالانتقام من الشخص المكروه إلى حد إفنائه وإلغائه من الوجود.
ومن مرادفات الحقد تقريباً: كلمة الغل، فالغل هو العداوة المتغلغلة في القلب.ومن مرادفاته أيضاً: الضغن،والشحناء،فهي جميعاً كلمات تدور حول معنى واحد أو معانٍ متقاربة،ترجع بوجه عام إلى معنى العداوة،مع بعض فروق في الدلالات”.انتهى كلام الشيخ حبنكة.
وجاء في صحيح البخاري في كتاب “بدء الوحي” في حديث أبي سفيان ان هرقل لما بلغه أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ووصلته رسالة النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه فيها إلى الإسلام قائلاً له:”بسم الله الرحمن الرحيم،من محمد بن عبد الله ورسوله،إلى هرقل عظيم الروم،سلام على من اتبع الهدى،أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام،أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين،فإن توليت فإنّ عليك إثم الأريسيين ـ ودعاه إلى آية في سورة آل عمران:{قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولانشرك بهِ شيئاً ولايتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله}[آل عمران 64]،وكان هرقل رجلاً عاقلاً، أحبّ أن يستوثق من صدق الرسالة التي بعث بها إليه محمد، وقال:هاتوا لي ناساً من العرب،فجاءوا له بأبي سفيان،وكان في رحلة تجارية في ذلك الوقت.جاءوا به، فظل يسأله عن النبي أسئلة في غاية الدقة،وأبو سفيان يجيب،ويخشى أن يكذب فيؤثر عنه الكذب.فقال هرقل: هذا هو النبي الذي بشرنا به المسيح،ولو خلصت إليه لغسلت عن قدميه.
ثم جمع عظماء قومه ثم قال لهم: “يا معشر الروم:هل لكم في الفلاح والرشد،وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصة حُمُر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت،فلما رأى هرقل نفرتهم وآيس من الإيمان قال: ردوهم عليّ. وقال: إني قلت مقالتي آنفاً أختبر بها شدّتكم على دينكم، فقد رأيت”.
نعم ،بعد أن اقتنع هرقل بصدق الرسالة والنبوة،وبدلاً من أن يتبع الدين الجديد ويكسب الأجر مرتين،غلبه حُبِّ ملكه على الدخول في الإسلام،وبقي يحارب الإسلام إلى أن هزمه الإسلام، وبدلاً من أن يموت على الحق وينل أجر أهل الحق والصراط المستقيم مات على الباطل فكان ثوابه أن حشر مع أهل الباطل والضلال.
نعم، إنه إتباع الهوى ومحض الحسد لأهله،ونبذ الهدى ومجافاة أهله،وعندما يركب الهوى النفوس،وتنقاد له العقول، فلا ينفع برهان ساطع ولا يفيد دليل قاطع،وكما يقول الأستاذ أحمد حسن الزيات صاحب مجلة الرسالة: “وما جدوى اللسان العربي في السمع الأعجم،وما عناء القلم الأجوف في الفؤاد المصمت” .
يقول المفكر الإسلامي العظيم عباس محمود العقاد رحمه الله (عبقرية الصديق ص 74):
“يمنع الإنسان أن يصغي إلى دعوة العقائد الجديدة موانع شتى من أفات العقل والخلق والبيئة،تجتمع وتتفرق،ويبتلى الرجل الواحد بها جميعاً،وقد يبتلى بمانع واحد منها فيحول بينه وبين الإصغاء والإجابة.
يمنعه أن يجيب الدعوة إلى المصلحين غطرسة،أو سيادة مهددة،أو مصلحة في بقاء القديم ومحاربة الجديد،أو ذهن مغلق لا يتفتح للفهم والتفكير، أو مغامسة للشهوات تحبب إليه أن يستنيم إلى العرف الذي يبيحها ويعزف عن الهداية التي تحظرها أو تقف في سبيلها،أو تعصب غضوب للعقيدة التي درج عليها أو شعور بقوة سلطان تلك العقيدة في أبناء قومه،سواء منهم المتعصبون لها والقابلون لها على المجاراة والمداراة،أو جبن ينهاه أن يخرج على المألوف ويتصدى لسخط الساخطين وإن تبين طريق الإستقامة والسداد،أو إيغال في الشيخوخة يصد الإنسان عن كل تغيير ويميل به إلى كل تواكل ومتابعة وتقليد،أو حداثة سن تجعله تابعاً لغيره في الرأي والخليقة وتجعل له شرة(نشاط وحدة) تحجبه عن التروية والمراجعة،أو ذلة مطبوعة تلحقه بمن أذله وبسط سلطانه عليه.
فالغطرسة:خلة تأبى على صاحبها أن يستمع إلى قول أو يصيخ إلى دعوة أو يتنزل إلى متابعة إنسان،ترفعاً عن الإصغاء قبل أن يهديه الإصغاء إلى موافقة أو إنكار.
والسيادة المهددة: توحي إلى صاحبها كراهة التجديد لأنه يحس بالبداهة أن صاحب الجديد أولى منه بالسيادة إن شاع ماجدده بين الناس فتبطل سيادته ببطلان القديم الذي قامت عليه،وقيام الجديد الذي نسخه وعفاه.
والمصلحة: في حالة من الحالات المستقرة تجعل الرجل محباً لتلك الحالة حبه للمنفعة،كارهاً لتبديلها كراهته للخسارة،ميالاً إلى محاربة الدعوة الجديدة قبل أن يبحث فيها ويتعرف وجوه الخير الذي قد يصيبه منها.
والذهن المغلق:يجهل ما يقال،ويعادي ما يجهل،وينفر من كل ما يشق عليه،وأول ما يشق عليه أن يفهم شيئاً على وجهه السوي، أو يتهيأ للفهم بأية حال.
ومغامسة الشهوات:تبغض إلى المرء سلوانها والإقلاع عنها،وتقرن عنده دعوات الإصلاح والإستقامة بشؤم التنغيص والتكدير، فيتبرم بها وينزعج لهان كما ينزعج النائم المستغرق أيقظته من نومة لذيذة قد استراح لها.
والتعصب الغضوب: لما اعتقده المرء يثيره أن تمس عقيدته كما يثور لحماية الحوزة أو الذود عن الأباء والأجداد،لأنه يحسب عقيدته ملكاً له ولأبائه يرد عنها من يهجم عليها،كما يرد صاحب البيت من يهجم عليه،والعقيدة إذا كانت قوية السلطان غلبت عزتها على عزة العقل والفؤاد،فأصر عليها من كان خليقاً أن يعافها ويعرف عيبها لو دعي إلى تركها وهي تتداعى وتتزعزع وتؤذن بالزوال.
والجبن:يخيف صاحبه أن يجهر بالحق ويبتعد به عن طريق المخافة،فلا يدنو إلى الصوت الذي عسى ان يقوده إلى الإصغاء فالإيمان فالجهر بما يضير.
والشيخوخة: عدو لكل طارق، والحداثة بين طيش يدعو إلى التمرد وطاعة تدعو إلى متابعة الأولياء،والذلة حجاب بين الذليل ونفسه يحجبه وراء من أذله، فلا تصل إليه الدعوة إلا من تلك الطريق.(انتهى كلام العقاد.)
إنّ الغطرسة والكبر والعجب بالنفس من أشدّ أفات النفس التي تمنع صاحبها من قبول الحق والإذعان له والخضوع إليه.
يقول الأستاذ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني(الأخلاق الإسلامية ج1 ص718):
“يرجع الكبر في جذوره النفسية إلى الشعور المغرور بالاستعلاء الذاتي على الأقران والنظراء،وعلى المكانة التي يجد المستكبر نفسه فيها داخل مجتمعه،ويرجع إلى الرغبة بإشعار الأخرين بالامتياز عليهم،ولو لم يكن لهذا الامتياز وجود في الواقع فهو انتفاخ بغير حق،وتطاول بغير حق، وتعالٍ بغير حق، وتصغير للآخرين بغير حق،أو تصغير مالَهُم بغير حق.ويرجع أيضاً إلى الرغبة الجامحة في عدم الخضوع لأحد، ويقترن بهذه الرغبة الشعور الجاهل المغرور بالاستغناء الذاتي.
وقد عرف الرسول صلى الله عليه وسلم الكبر بأبرز مظاهره في السلوك، روى مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”لايدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر” فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”إن الله تعالى جميل يحب الجمال،الكبر بطر الحق وغمط الناس”.
فعرّف الرسول صلى الله عليه وسلم الكبر بأنه بطر الحق وغمط الناس.
ويتلخص بطر الحق بأنه جحود الحق مع استهانة به واستعلاء عليه،إرضاء للنفس الأنانية المستكبرة،التي تريد الاستئثار بالمجد والكبرياء في الأرض،وتستعلي عن اتباع غيرها وطاعته،مهما كان الحق والخير في جانبه،وتستعلي عن الرجوع إلى الحق وإن تبين لها خطؤها، عناداً وإصراراً على الباطل،وترى أنها أكبر من أن تستجيب لدعوة الحق من غيرها،وأكبر من أن يخفى عنها أمرٌ ويعلمه آخرون.
وأما الغمط: فهو الاحتقار،والازدراء،والاستصغار،وعدم مقابلة الإحسان بالشكر.
إن الكبر من أقبح الانحرافات الخلقية وأسوئها،وأته قد يدفع بصاحبه إلى جحود خالقه والاستكبار على طاعته،ولذلك شدد الإسلام في تحريمه والتحذير منه،وشدّد اللائمة على المستكبرين،وأوعدهم بالعقاب الشديد، كما رغب بالتواضع وحث عليه،ومجّد المتواضعين وأثنى عليهم،ووعدهم بالثواب الجزيل.
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى اله عليه وسلم:”يقول الله تعالى:”الكبرياء ردائي والعظمة إزاري،فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار“.
وروى البخاري ومسلم عن حارثة بن وهب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”ألا أخبركم بأهل النار؟كل عتلٍّ جوّاظٍ مستكبر“.(العتل: هو الجافي شديد الخصومة بالباطل.الجواظ:الجموع المنوع، أو هو المختال المتكبر، أو هو الفاجر).
ومن الامثلة عن المستكبرين الذين صرفهم كبرهم عن إتباع الحق:
1 ـ لقد كان تمرد إبليس عن طاعة ربه،من آثار خلُق الكبر في نفسه،يقول تعالى:{وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين}[البقرة 34].
2 ـ وكان السبب الأعظم في كفر فرعون وجنوده استكبارهم في الارض بغير الحق،يقول تعالى:{واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لايرجعون}[القصص 39]، ويقول تعالى:{ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملائه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين}[يونس 75].
3 ـ وكذلك الأمر بالنسبة لقوم ثمود مع نبيهم صالح،وأهل مدين مع النبي شعيب،وقوم عاد مع النبي هود،وقوم نوح،وبنو إسرائيل مع نبيهم موسى.
4 ـ وفي الملة الآخرة والرسالة الخاتمة، نجد أمثلة كثيرة وشواهد متعددة من الذين استنكفوا عن اتباع الحق والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم بدافع الكبر في نفوسهم.ومنهم الوليد بن المغيرة وغيره من كفار قريش.(انتهى كلام الاستاذ حبنكة.)
وأصحاب الهوى يختلفون بإختلاف آلهتهم التي يعبدونها من دون الله،فمنهم من يكون معبوده المنصب والسلطة كما هو حال فرعون وهامان وكثير من أصحاب السلطة في كل العصور،ومنهم من يكون معبوده المال والشهرة كمثل قارون فرعون،وما أكثر هؤلاء القوارين على كرِّ الدهور،ومنهم من يكون معبوده الشهرة الكاذبة والمناصب العليا كما هو حال الكثير من علماء السوء وأقلام الزنا وكثير من كتاب وشعراء السرايا والقصور،وهم كما يقول الأستاذ الدكتور حسن هويدي رحمه الله (الوجود الحق): “أناس منهومون،شرهون،مستكثرون،تحكّمت فيهم العاطفة المستبدة،وطغت عليهم الشهوة العارمة،وهم متفاوتون في الرجوع عن الباطل بمقدار تفاوتهم في التهالك على الشهوة، فإن كانت الشهوة جامحة والهوى مستحكماً والأسباب متوفرة، كانت معالجتهم غاية في الصعوبة وندر أن يستجيبوا لداعي الحق{فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنَّما يتَّبعونَ أهواءهُم ومن أضَلُّ مِمّن اتّبع هواهُ بغير هدىً من الله} [القصص50].
وإتباع الهوى والمماراة في الحق واللجوج في الباطل،والتكذيب والشقاق تمنع اصحابها من الإتصال العلوي والسّمو الروحاني، وتقربهم من حمأة الأرض،بل تجعلهم أشدّ التصاقاً بها والأخذ بصفاتها،وتجعلهم أقرب إلى الشيطان،بل هم أخلص أعوانه وأوليائه،إنهم ينسلخون عن الحق انسلاخاً،كما ينسلخ الجلد عن العظم،فلا يفيد رتق أو إصلاح أو ترميم،بل هو الشقاء بعينه يزداد بازدياد الغواية،وهو البلاء بعينه يقوى ويشتدّ كلما طال البعد عن الله وازداد القرب من الشيطان يقول تعالى:
{واتلُ عليهم نبا الذي اتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين*ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتّبع هواه}[الأعراف 175 ـ 176]
والأدهى من ذلك والأنكى انّ الشيطان يُزّين لأتباعه واوليائه من عبيد الهوى،أعداء الحق وأنصار الظلام،يزين لهم أعمالهم ويُحسّنها في نفوسهم ويجعلهم يرتكبون ابشع الأعمال وأفظع الجرائم من غير أن يتأثروا بما اقترفوا أو يندموا على ما فعلوا يقول تعالى:{أفَمَنْ كان على بَينةٍ من ربهِ كَمَنْ زُيِّنَ لهُ سُوءُ عملهِ واتّبعوا أهواءَهُم}“[ محمد 14]
ومردّ هذا كله إلى أنهم قد عُطِّلت الحواس لديهم،وضُرِبَ بينهم وبين الحقّ بحجاب، وأحاطت بقلوبهم أكنّة من الظلمات،وران على قلوبهم، ففقدوا القدرة على التفكير والإدراك والتدبير.
{أفرأيتَ من اتخذَ إلههُ هواهُ وأضلّهُ الله على علمٍ وختمَ على سمعه وقلبهِ وجعل على بصره غشاوةً فمن يهديه من بعدِ الله افلا تَذكّرون}” [الجاثية 45]،{ومن أضلُّ ممن اتّبعَ هواه بغير هدىً من الله إنَّ الله لا يهدي القوم الظالمين} [القصص 28].
وفي لحظات العسرة ومواقف الشدّة تعود هذه النفس الشقية الضالة إلى ذاتها وتُقرُّ بما كذبته،وتتبرأ ممن اتبعته،ولكن هيهات هيهات إذا كانت ساعة الشدّة هي ساعة الموت والحشرجة!!
يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله في كتابه “مقومات التصور الإسلامي” :
” ولكن هذه الفطرة تنتفض وتنفض عنها الركام وتلتجئ إلى الألوهية الواحدة العميقة في كيانها وذلك في مواقف معينة تبلغ فيها الشدة أو تبلغ فيها الروعة ذروتها”، ويتابع رحمه الله ” والقرآن الكريم يُصّور النفس البشرية المنحرفة حين تتعرى فطرتها أمام الهول الذي يجاوز طاقتها،ويهز اعماقها وينفض عنها الركام،ويردها إلى الرؤية الصحيحة والإستقامة القاصدة
“{وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعونُ وجنودُهُ بغياً وعَدواً حتى إذا أدركهُ الغرقُ قال آمنتُ أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وانا من المسلمين* آلآنَ وقد عصيتَ قبلُ وكنتَ من المفسدين}” [يونس 90].
.سئل ابراهيم ابن عيينة : أي الناس أطول ندماً؟فقال: اما في الدنيا فصانع المعروف إلى من لا يشكره،وأما عند الموت فعالم مفرط”.
وهناك طائفة من عبيد الطاغوت والهوى،قد تصدّوا للحكم والفتوى،تتكرر قصصهم في كل عصر وفي كل مِصر،عُرفوا بأنهم زبانية السلطان وخدم كل قصر،تصدّروا المجالس والمحافل،وأفتوا في الصغائر والكبائر،قد نهلوا من ينابيع العلم نهلاً،وعبّوا من شراب المعرفة عبّاً،جمعوا علم العلماء،وحكم الحكماء،ولكنهم جروا مع الحقّ مجرى السفهاء،عرفوا الحقّ وأنكروه،بل ربما هاجموه وحاربوه،باعوا دينهم بدنيا غيرهم،وحكموا للظالم وأدانوا المظلوم،وسجدوا للحاكم وجلدوا المحكوم،عبدوا الطاغوت وانساقوا لرغباته،وخضعوا له وطلبوا مرضاته، أكلوا من طعامه،وضربوا بسيف سلطانه،واتخذوا العلم وسيلة لتحريف الآيات،وتأويل الكلمات،من أجل إرضاء السادات،لينالوا منهم الفتات،يتهافتون تهافت الذباب على فتات موائد الطعام، ويتماوتون تماوت الكلاب في إرضاء أصحاب السلطان،ويتنافسون تنافس الذئاب في نهش لحوم النعاج والخرفان… خالط الهوى قلوبهم،وجرى مجرى الدم في عروقهم، فتشّربته عقولهم، ونطقت به أفواههم ،وصدرت عنه جوارحهم.
يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله في “الظلال”
:”ما أكثر الذين يُعطون علم دين الله ثم لا يهتدون به،إنما يتخذون هذا العلم وسيلة لتحريف الكلم عن مواضعه وإتباع الهوى، هواهم وهوى المُتسّلطين الذين يملكون لهم في وهمهم عَرَض الحياة الدنيا،وكم من عالم دين رأيناه يعلم حقيقة دين الله ثم يزيغ عنها ويُعلن غيرها،ويستخدم علمه في التحريفات المقصودة،والفتاوى المطلوبة لسلطان الأرض الزائل،يحاول أن يثبّت بها هذا السلطان المعتدي على سلطان الله وحُرماته في الأرض جميعاً”
نعم، إنَّ إتباع الهوى وإيثار الدنيا الفانية على الأخرة الباقية من أهم أسباب الإنحراف عن الحقّ والإندفاع نحو الباطل، وإن الهوى هو اساس البلوى،وهو المُعمي عن رؤية الحقّ والمُصّمُ عن سماعه.
يقول الإمام العظيم ابن القيّم رضي الله عنه في كتابه”الفوائد” :
“كلُّ من آثرَ الدنيا من أهل العلم واستحبّها، فلا بد أن يقول على الله غير الحق في فتواه وحكمه،لأن أحكام الربّ سبحانه كثيراً ما تأتي على خلاف اغراض الناس،ولا سيما أهل الرياسة والذين يتبعون الشهوات،فإنها لا تتم لهم أغراضهم إلا بمخالفة الحق ودفعه كثيراً،فإذا كان العالم والحاكم مُحبينِ للرياسة مُتبعينِ للشهوات،لم يتم لهما ذلك إلا بدفع ما يضاده الحق،ولا سيما إذا قامت له شبهة، قتتفق الشبهة والشهوة ويثور الهوى، فيخفى الصواب،ويطمس وجه الحق. وإن كان الحق ظاهراً لا خفاء به ولا شبهة فيه أقدم على مخالفته، وقال: لي مخرج بالتوبة، وفي هؤلاء وأشباههم قال تعالى:{فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات}[مريم59]، وقال تعالى:{فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عَرَضَ هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرضٌ مثلُه يأخذوه ألم يؤخذْ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحقَّ ودرسوا ما فيه والدارُ الآخرة خيرٌ للذين يتقون أفلا تعقلون} [الأعراف 169].انتهى كلام ابن القيم رحمه الله.
إنّ خطورة أمثال هؤلاء من علماء السوء خطورة مضاعفة،ولذلك كان عقابهم الرّباني مضاعفاً أيضاً:
إنّهم عرفوا الحقّ وأنكروه،بل ربما حاربوه،والعجب العُجاب أنهم قد يساعدون أصحاب الدركات على النيل من أصحاب المراتب والدرجات ،يقول الله تعالى:{الم ترَ إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجِبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا*أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعنِ الله فلن تجد له نصيرا}.[النساء 51 ـ 52].
2ـ إنهم عرفوا الحقّ وحكموا بغيره وأوجدوا لأنفسهم الفتاوى، وتلاعبوا بالنصوص والمبادئ،وحرّفوا الكلمات، ولوّوا أعناق الآيات، بما يُحقق مصالحهم ويجري مع أهوائهم. يقول الشيخ العالم العامل المجاهد مصطفى السباعي رحمه الله في كتابه”هكذا علمتني الحياة” :
“فأقدر الناس على التلاعب بالقانون أعلمهم بنصوصه ومبادئه،وأجرأ الناس على تجاوز حدود الأخلاق أعلمهم بفلسفتها ونظرياتها،وأكثر الناس وقوعاً في الإثم أكثرهم إحاطة بنصوص الشرع وحيل الفقهاء،وأشدّ الناس تكالباً على الدنيا أكثرهم ترغيباً عنها وترهيباً بها،وبذلك انقلبّ الواء داءً، والطبيب مريضاً”.
3ـ إنّهم قد ضلّوا وأَضلّوا،لانهم بهم يُقتدى،وبا جتهاداتهم يُحتذى،وتُسمع منهم الفتوى،وهم على زيغ وضلال،يُزيّفون تعاليم الدين، ويُعطون أعداءه الفرصة والحجّة لمحاربته والنيل منه والتهجم على أتباعه المخلصين. يقول الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله: “مصيبة الدين في جميع عصوره بفئتين: فئة أساءت فهمه،وفئة أتقنت استغلاله، تلك ضَلّلت المؤمنين،وهذه أعطت الجاحدين حجّة عليه”.
روى الإمام أحمد وغيره عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:“إنّ أخوفَ ما أخاف على أمتي كلُّ منافقٍ عليم اللسان”.
ويقول الأستاذ عصام العطار حفظه الله:
“إن الجاهل الذي ينحرف فيتابع هواه وهو يعترف أنه مخطئ افضل ألف مرة من العالم الذي يلتمس لإنحرافه المبررات ويُلبس أهواءه أقنعة زائفة من الدين والمصلحة،والدين والمصلحة من ذلك براء”.
نعم، تعساً للعلم الذي لا ينفع حامله،وتعساً للعقل الذي يُودي بصاحبه،وتعساً لعلماء السوء الذين يبيعون كلمات الله بثمن بخس زهيد فخسروا الدنيا والآخرة،فهم في الدنيا مُحتقرون وإن اعتلوا أعلى المناصب والمراكز،وهم في الآخرة في الدرك الأسفل من الجحيم: أتعس المنازل،وكان في مقدورهم أن يكونوا سعداء في الدارين ولكنّهم اختاروا وارادوا شقاوة الحالين.
يقول الإمام العظيم ابن القيّم رحمه الله في كتابه “الفوائد” في قوله تعالى: {واتلُ عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطانُ فكان من الغاوين*ولو شئنا لرفعناه بها ولكنّه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثلُه كمثل الكلب إن تحملْ عليه يلهثْ أو تتركه يلهث}[الأعراف 175 ـ176]، يقول هذا العالم الجليل العظيم: “فهذا مثال عالم السوء الذي يعمل بخلاف علمه،وتأمّل ما تضمنته هذه الآية من ذَمّه وذلك من وجوه:
!ـ أنه ضلّ بعد العلم واختار الكفر على الإيمان عمداً لا جهلا.
2ـ أنه فارق الإيمان مفارقة من لايعود إليه أبدً،فإنه انسلخ من الآيات بالجملة كما تنسلخ الحية من قشرها،ولو بقي معه منه شئ لم ينسلخ منها.
3ـ أن الشيطان أدركه ولحقه بحيث ظفر به وافترسه،ولهذا قال فأتبعه الشيطان ولم يقل تبعه، فإن في معنى أتبعه: أدركه ولحقه،وهو ابلغ من تبعه لفظا ومعنى.
4ـ أنه غوى بعد الرشد،والغي: الضلال في العلم والقصد،وهو اخص بفساد القصد والعمل،كما أن الضلال أخص بفساد العلم والاعتقاد،فإذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر،وإن اقترنا فالفرق ما ذُكر.
5ـ أنه سبحانه لم يشأ أن يرفعه بالعلم فكان سبب هلاكه،لأنه لم يرتفع به فصار وبالاً عليه،فلو لم يكن عالماً كان خيراً له وأخف لعذابه.
6ـ أنه سبحانه أخبر عن خِسّةِ هِمّتهِ وأنه اختار الأسفل والأدنى على الأشرف والأعلى.
7ـ أن اختياره للأدنى لم يكن عن خاطر وحديث نفس،ولكنه عن إخلاد إلى الأرض وميل بِكليّته إلى ما هناك. وأصل الإخلاد: اللزوم على الدوام. كأنه قيل: لزم الميل إلى الأرض.
8ـ أنه رغب عن هداه واتبع هواه،فجعل هواه إماماً له يقتدي به ويتبعه.
9ـ أنه شَبهّهُ بالكلب الذي هو أخَسّ الحيوانات هِمّة،وأسقطها نفساً،وأبخلها وأشدّها كَلَبا،ولهذا سمي كَلْبا
10ـ أنه شَبّه لهثه على الدنيا وعدم صبره عنها وجزعه لفقدها وحرصه على تحصيلها بلهث الكلب في حالتي تركه والحمل عليه بالطرد وهكذا،هذا إن ترك فهو لهثان على الدنيا،وإن وعظ وزُجر فهو كذلك،فاللهث لا يفارقه في كل حال كلهث الكلب” (انتهى كلام ابن القيم رحمه الله.)
ويقول الإمام محمد رشيد رضا رحمه الله حول هذه الآيات الكريمة من سورة الأعراف(مجلة المنار العدد 450 الموافق العاشر من تموز عام 1926):
“هذا مثل ضربه الله تعالى للمكذبين بآيات الله المنزلة على رسوله صلى الله عليه وسلم على ما أيدها به من الآيات العقلية والكونية،وهو مثل من آتاه الله آياته فكان عالماً بها حافظاً لقواعدها وأحكامها،قادراً على بيانها والجدل بها،ولكنه لم يؤت العمل مع العلم،بل كان عمله مخالفاً لعلمه تمام المخالفة،فسلبها لأن العلم الذي لايعمل به لايلبث أن يزول فاشبه الحية التي تنسلخ من جلدها وتخرج منه وتتركه على الارض،أو كان في التباين بين علمه وعمله كالمنسلخ من العلم التارك له كالثوب الخلق يلقيه صاحبه والثعبان يتجرد من جلده حتى لاتبقى له به صلة عل حد.وكما قال الشاعر:
خلقوا وما خلقوا لمكرمة فكأنهم خلقوا وما خلقوا
رزقوا وما رزقوا سماح يد فكأنهم رزقوا وما رزقوا
فحاصل معنى المثل أن المكذبين بآيات الله تعالى المنزلة على رسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه على إيضاحها بالحجج والدلائل كالعالم الذي حرم ثمرة الانتفاع من علمه لأن كلا منهما لم ينظر في ألآيات نظر تأمل واعتبار وإخلاص”.
ولقد توّعد الله سبحانه وتعالى أمثال هؤلاء من علماء السوء بأشدّ العقاب والنَكال واللعنة وأشدّ العذاب، قال تعالى:{ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحقِّ ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب}[ص 38]، وقال تعالى:{فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين}[البقرة 89] وقال تعالى:{فويل للذين يكتبون الكتاب بايديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون}[البقرة 79].
وفي النهاية أنشر مقالا كتبته في مجلة الرائد التي كانت تصدر في ألمانيا قبل عشرات السنين(الرائد العدد 185)
والمقال بعنوان:
“حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا”
هناك اناس قد ألغوا عقولهم،وعطلوا مداركهم وأفهامهم،وسدُّوا منافذ قلوبهم وأبصارهم،اختاروا عبودية العقل والضمير للآباء والأجداد،ورفضوا نداء العقل وصدق الإحساس،وخضعوا لإستعباد الواقع المألوف،والعرف المعروف،وإن كان يسلب الإنسان أهم خصائصه ومقوماته،وخاصة حرية التفكير والتدبر.يعيشون مع أفكار توارثها الأعقاب عن الأسلاف،والأحفاد عن الأجداد،وكأنها وحي سماوي مُنزل!! يعيشونها بضمير ميت وعقل معطل!!.
هم أناس اتخذوا آباءهم أرباباً لهم،وجعلوا من مشايخهم وزعمائهم أنبياء لهم،يقتدون ويهتدون بهم،ويسلكون مسالكهم،وإذا دخلوا جحر ضب دخلوه وراءهم، يسيرون في الركب،يسوقه الأمير،كما يسوق الراعي قطعان الحملان والبعير.
لا يفكرون…ولا يُحَضون على التفكير… بل أُريد لهم عدم التفكير!!
إذا قيل لهم اسكتوا!! تراهم كالجبال الراسيات أو كالصخور القاسيات،الصلبة الصلدة!!
وإذا قيل لهم تحركوا!! تحركوا وإن كان خبط عشواء في دياجير العتمة والظلماء.
ولقد صوّر لنا القرآن الكريم صورة هؤلاء الناس الذين تقمصوا عبادة أراء الآباء والأجداد،وهؤلاء موجودون في كل زمان ومكان،وإن كانت شخصية المعبود تختلف من مكان لآخر،فقد تكون شخصية زعيم،أو شيخ طائفة،أو أمير جماعة،وقد تكون متمثلة في صورة كتاب أو دستور أو منهج أو قانون.
يقول الله تعالى: {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون} [المائدة 104].
ويقول عز وجل : {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير}[ لقمان 21].
يقول الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني(الأخلاق الإسلامية ج1 ص820):
“وغريزة التقليد هي في الأصل غريزة حسنة نافعة،يكتسب بها الناشئ من بيئته كثيراً من المعارف والمهارات والعادات والأخلاق الحسنة،التي توصل إليها الناس بعد تجارب القرون الكثيرة الأولى.لكن المفروض في الإنسان السوي الذكي العاقل المبدع أن لايجمُد عند حدود التقليد،وإلا وقفت الإنسانية عن التقدم والارتقاء إلى ما هو أكمل وأفضل وأحسن،وأن لايمسك بمذهب التقليد كلّما اكتشف أنّ مايقلده أمر باطل،أو أن غيره أفضل منه وأحسن.فالإرادة الإنسانية يجب أن تكون تابعة للحق الذي يقضي به منطق العقل وتجارب العلم، ولما هو أفضل وأحسن وأكمل في منطق العقل وتجارب العلم أيضاً”.
يقول سيد قطب رحمه الله في ” الظلال” :
“فهذا هو سندهم الوحيد،وهذا هو دليلهم العجيب،التقليد الجامد المتحجر الذي لا يقوم على علم ولا يعتمد على تفكير،التقليد الذي يريد الإسلام أن يحررهم منه،وأن يطلق عقولهم لتتدبر،ويشيع فيها اليقظة والحركة والنور،فيأبوا هم الإنطلاق من إسار الماضي المنحرف ويتمسكوا بالأغلال والقيود”.
نعم، لقد واجههم الدعاة بالبينات الواضحة،والأدلة الظاهرة،والبراهين الساطعة،ولكنها عقدة التمسك برواسب الماضي،وتقاليد لا تقوم إلا على الوهم،وتقديم آراء الآباء والشيوخ والأكابر على النصوص الصحيحة الثابتة،إنه الاتّباع لمجرد الاتّباع ومحض التقليد،وإنه العناد والمماطلة والمكابرة:
{قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا} [البقرة 170]،{قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا} [المائدة 104]،{ قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين} [الأنبياء 53]،{بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون}[ الشعراء 74]،{قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا}[ لقمان 21]
وهم لا يكتفون بالتمسك بما وجدوا عليه آباءهم،ورفض الأدلة الواضحة،بل وعدم الإيمان بالحق الواضح المبين،بل يجادلون لتشويه صورته والافتراء عليه.{وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى وقال الذين كفروا للحقِّ لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين} [سبأ 43]
والأنكى من هذا والأدهى أنهم لم يكتفوا بالتمسك بهذه الرواسب العفنة والتقاليد البالية،ومهاجمة الحق والافتراء عليه،بل إنهم يتجاوزون ذلك إلى التسابق فيما بينهم والتهافت على التشبث بهذه الرواسب والتمسك بهذه التقاليد{إنهم ألفوا آباءهم ضالين* فهم على آثارهم يُهرعون} [الصافات 69 ـ 70]
إنهم يطيرون عجلين في إتباع خطى الآباء واقتفاء آثارهم والاهتداء بهديهم غير ناظرين ولا متحققين،ولا يركنون إلى شرع الله وما أنزل على رسله،ولا يقبلون البينات،بل يختارون ما اختاره الآباء،ويعبدون ما وجدوا عليه الأجداد،فهم عبيد للأهواء والآباء،وإن كان هؤلاء الآباء لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون{أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون} [المائدة 102]، {أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون} [البقرة 170]
ولا يقتصر الأمر لدى هؤلاء الناس على مجرد التقليد،وعبادة الأهواء والآباء، ومهاجمة الحق والافتراء عليه،بل إنهم ايضاً يفعلون المنكر ويرتكبون الفواحش ويصرون عليها،وعِلتهم في ذلك أن آباءهم كانوا يرتكبونها ويفعلونها{وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا} [الأعراف 28]،ويتزعم ركب هؤلاء المقلدين المنحرفين،نفسياً وفكرياً،والمتحجرين عقلياً،ويمشي في مقدمتهم ويرفع لواءهم وينصر آراءهم ويدافع عن جهلهم وحماقاتهم وسخافاتهم،أمراؤهم وأغنياؤهم ومترفوهم، ولم لا؟ ولهم المصلحة الكبرى والمنفعة العظمى أن تبقى الأمور على حالها،وأن تكون لهم القيادة والريادة{وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون* قل أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون}[الزخرف 22ـ 23].
نعم، إنها عقول جُبلت بالجهل والغفلة،وقلوب خُتم عليها بالجمود والهمود،ونفوس تستعذب الإتصال بالماضي وما فيه من خرافات وضلالات،وتستثقل الحديث عن الحاضر وما فيه من آيات ودلالات،وتتبرم بكل الحقائق والبراهين،وتتمنى أن تمشي في جحودها ونكرانها،وأن لا تثقل فكرها،وتشغل حسّها،بالتحري عن المزيف من الصادق،أو الغث من السمين.
إنها صورة نعيشها في كل زمان ومكان،فلكل زمان جاهليته،ولكل جاهلية أتباع،وسمات هؤلاء الأتباع واحدة مشتركة في كل زمان عاشوا فيه،وفي كل مكان وجدوا فيه، تعرفهم من خلال هذه السمات، وأهمها: بلادة الشعو،وتحجر التفكي،وتعطيل الحواس، وقساوة القلب. إن قلب هؤلاء مقفل مصمت،لا ينفذ إليه الضياء،ولا يتجاوزه أرقُّ الشعاع، قد ضربت عليه أسوار كثاف،وحجب سماك، وأكنّة غلاظ،فلا يصل إليه رقيق النسيم،ولا يصدر عنه شعاع رحمة.وهو إلى كل هذا وذاك قاس صلب،لا تبلغ منه المعاول،ولا تفعل فيه المطارق،فهو كالحجارة أو أشد قسوة،ومع هذه الصلابة والصلادة والإصمات،وما وضع عليه من أكنّة وما ستر به من حجب وأسوار،فإن هذا القلب قد وضع عليه أيضاً قفل،بل عدّة أقفال،من أجل الإغراق في المماطلة والمكابرة والعناد،{أم على قلوب أقفالها}[محمد 47]، ولذلك وصفهم الله تعالى بعد أن ذكرنا هذه الصفات بأبشع الأوصاف وأقسى النعوت،فقال عز وجل {أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون}[ الأعراف 179]، ويقول تعالى{ إن هم كالأنعام بل هم اضل سبيلاً}[الفرقان 24].
إنه تقريع ما بعده تقريع لهؤلاء المعتقدين بلا دليل،وتوبيخ ما أشدّه من توبيخ لهؤلاء المتبعين الضالين،وتبكيت ما أشدّه من تبكيت لهؤلاء الخابطين في عشواء العماية،السادرين في الغواية.
يقول سيد قطب رحمه الله في “الظلال” “والذين يغفلون عما حولهم من آيات الله في الكون وفي الحياة،والذين يغفلون عما يمر بهم من الأحداث والغير،فلا يرون فيها يد الله،أولئك كالأنعام بل هم أضل،فللأنعام استعدادات فطرية تهديها،أما الجن والإنس فقد زودوا بالقلب الواعي والعين المبصرة،والأذن الملتقطة،فإذا لم يفتحوا قلوبهم وأبصارهم وأسماعهم ليدركوا إذا مروا بالحياة غافلين لا تلتقط قلوبهم معانيها وغاياتها،ولا تلتقط اعينهم مشاهدها ودلالاتها،ولا تلتقط آذانهم إيقاعاتها وإيحاءاتها،فإنهم يكونون أضل من الأنعام الموكولة إلى استعدادتها الفطرية الهادية”، ويتابع رحمه الله : “وما يفرق الإنسان عن البهيمة إلا الاستعداد للتدبر والإدراك والتكيف وفق ما يتدبر ويدرك الحقائق عن بصيرة وقصد وإرادة واقتناع، بل إن الإنسان حين يتجرد من خصائصه هذه يكون أحطّ من البهيمة،لأن البهيمة تهتدي بما أودعها الله من استعداد، فتؤدي وظائفها أداءً كاملاً صحيحاً، بينما يهمل الإنسان ما أودعه الله من خصائص ولا ينتفع بها كما تنتفع البهيمة”
نعم، إن المقلد عن جهل عبد،رضي طواعية العبودية لما تعارف عليه الآباء والأجداد من غير أن يستعمل عقله وحواسه في معرفة الغثّ من السمينن والخطأ من الصواب،والإنسان العاقل لا يهب عقله وكينونته لسواه، وإن ساواه أو علاه،والإنسان العاقل يرفض أن ينزل بنفسه إلى مرتبة أحطّ من مرتبة البهائم،بل يحاول أن يرتقي بنفسه وأن يستعمل عقله وأن يحترم ذاته، وأنهي حديثي بقول لأحد علماء الأمة المصلحين وهو الأستاذ الشيخ العلّامة محمد عبده رحمه الله يقول في رسالة التوحيد:”أنحى الإسلام على التقليد،وحمل عليه حملة، فبددت فيالقه المتغلبة على النفوس،واقتلعت أصوله الراسخة في المدارك،ونسفت ما كان له من دعائم وأركان في عقائد الأمم.
صاح بالعقل صيحة أزعجته من سباته،وهبت به من نومة طال عليه الغيب فيها،كلما نفد إليه شعاع من نور الحق خلصت إليه هينمة من سدنة هياكل الوهم: نم فإن الليل حالك،والطريق وعرة،والغاية بعيدة،والراحلة كليلة،والأزواد قليلة” ويتابع رحمه الله:”صرف القلوب عن التعلق بما كان عليه الآباء،وما توارثه عنهم الأبناء،وسجل الحمق والسفاهة على الآخذين بأقوال السابقين، ونبّه على أن السبق في الزمان ليس آية من آيات العرفان”ويتابع رحمه الله :” عاب أرباب الأديان في اقتفاء أثر آبائهم، ووقوفهم عند ما اختطته لهم سير أسلافهم،فأطلق بهذا سلطان العقل من كل ما كان قيّده،وخلصه من كل تقليد كان استعبده،وردّه إلى مملكته،يقضي فيها بحكمه وحكمته” ويتابع:” جاء الإسلام يخاطب العقل،ويستصرخ الفهم واللب،ويشركه مع العواطف والإحساس في إرشاد الإنسان إلى سعادته الدنيوية والأخروية” .