وعزُّ الشرقِّ أوّ لهُ دمشقُّ

بسم الله الرحمن الرحيم

الموسوعة الدمشقية

وعزُّ الشرقِّ أولُّهُ دمشقّ

دِمشقّ!

يا مدينة سكنت سفح جبل قاسيون…فاستمدّت منه الصلابة والتحدي مهما كَثُر الأعداء،وجارت السّنون.

يامَنْ أحاطت بك غوطةٌ غنّاء….فكنتِ رمزاً للنّماء والكرم والعطاء.

وجال بكِ وفيك بردى بفروعه السبعة…فأحاَل أرضكِ جناتٍ ورُبى،يستظلُّ في ظلالها كلُّ هاربٍ من لفحِ الهجير،وينعمُ في أفيائك كل باحثٍ عن نور الحقِّ،منادٍ به وبشير.

دِمشقّ!

يا من فتحتِ ذراعيك لأبي عبيدة وابن الوليد…وطردتِ من ديارك الطاهرة،أنجاس الروم والمغول وأتباعهم من العبيد.

يا منْ ملأتِ رئتيكِ بهواء الإسلام،فسرى في أوصالك عدلاً ومحبةً وأمان.

يا منبت الأولياء الصالحين،ويا ملاذ العلماء العاملين ومسكن العاكفين والعابدين.

يا مدينة الأمويّ والمآذن والمنارات،وياحصن العروبة والإسلام،ويامهد الحضارات.

دِمشقّ!

يا أقدم عواصم الدنيا المأهولة،وياعاصمة الأمويين،يا من سُدتِ العالم بعدل الإسلام أحقاباً وسنين.

ياقلعةً سقطت على جدرانها جحافل المغول والتتار،ونكّستْ أعلام أهل الصليب والفرنسيين وأذنابهم من المنافقين والفُسّاق والفجّار.

دِمشقّ!

يا نبع الحنان والأمان،ياوردةً جوريّة،يا أحلى الزهروالريحان.

يا أرض الحياء والنقاء،يا رمز العفّة والطهر والكبرياء،لا مكان فيك للعهر،يا أرض الأتقياء.

يا دمشق الشّآم، يا أرض المحشر،ويا شامةً في خدِّ كلِّ دهرٍ وعصر.

يا أرض الكبرياء والكرماء،ويادارة العزةّ،ويا مُحطّمة الشرك والكفروالسفهاء.

دِمشقّ!

مالي أراكِ اليوم غاضبةً حزينة،مُقطّبة الجبين،مكتومة البسمات؟!

مالي أراك اليوم جريحة باكية،دماً تنزفين،والمآقِ سخيّة العبرات؟!

مالي أرى قاسيون،قد ظُلّلَ بالغمام واتشّحَ بالسّواد؟

مالي أرى بردى،قد جفَّ ماؤه،وشحَّ عطاؤه،هل حَنَّ لمن فارقه واشتاق للعوّاد؟

مالي أرى الغوطة،وكانت صبيّة نديّة،أصبحت عجوزاً غبراء تسيرُ بخطىً سريعة نحو الهاوية؟

مالي أرى الزهور قد ذبلت،عند ضريح  صلاح الدين،وقد كانت دوماً زهوراً ندّية؟

دِمشقّ!

مابكِ؟ وما اعتراكِ؟

يا قلعة الإسلام والمسلمين…مالي أراكِ تميلين إلى المائلين؟

يا منارة العدل والنور…مالي أراكِ تُهادنين أعداء النور؟

ياسيف العروبة والإسلام…مالي أراكِ تركعين أمام عبيد  النار من الفرس وعبيد الصليب من الروس وأنصار الظلام؟

دِمشقّ!

أين أبناؤك البررة؟…..

أين دعاة الحقّ في مسجد الجامعة؟   ….

يقولون كلمة الحق،يُسمعون أذاناً واعية،ويضعون الشهادة نُصب أعينهم،ويحملون الموت على أكفّ داعية.

أين المشايخ والعلماء؟…

يُطلقون صيحات الإنكار،لرؤية المنكرات تتعاقب ليل نهار،ويقتلون سُنن إبليس اللعين في مهدها،قبل أن تكبر وتصبح طاعوناً جارفاً ووبالاً حاصداً؟

أين العز بن عبد السلام؟..يبيعُ مماليك الديار،ويُوقف زحف المغول والتتار،الذي خربوا البلاد وأفسدوا العباد؟.

دِمشقّ!

عُودي كما كنتٍ:

ـ وفيّةً:في زمن ندر فيه الوفاء والأوفياء،وأصبح الغدر من طبع السواد الأعظم من الدهماء.

ـ نقيّةً: في زمن قلَّ فيه النقاء والأنقياء،وامتلأت النفوس والأجسام والعقول بأدران الفساد والوباء.

ـ تقيّةً:في زمن حُورب فيه التقى والأتقياء،وأصبح لأراذل القوم ورعاعهم وأغرابهم اليد الطولى على الأولياء والعلماء و”الغرباء”.

دِمشقّ!

يا مهبط المسيح من جديد.. في المسجد الأمويّ وعند المنارة الشرقية ينزل،ويقتل الأعور الدجال،ويبعث الإسلام من جديد.

دِمشقّ!

أزيحي عن رُبوعك دياجير الظُّلمة والعَتمة والغَسقْ

ونَحيِّ عن ديارك الطغاة والبغاة،الذين استباحوا جِلّقْ

وأرسلي النور جديداً،مُتجدداً في سماء الأفق.

وأسقنا كأس العزّة والكرامة من جديد

فعزُّ الشرقّ أولّه دمشقَ.

دِمشقّ… أنتِ في القلب….بل أنتِ القلبُ يادِمشقّ.

الآيات القرآنيّة في فضائل الشّام

ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تسع آيات من القرآن الكريم تدل على فضل بلاد الشام وبركته،وهي:

1 ـ {وأورثنا القومَ الذين كانوا يُستضعفونَ مشارقَ الأرض ومغارِبها التي باركنا فيها وتَمّت كلمتُ ربِّك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمَرنا ما كان يصنعُ فرعونُ وقومُهُ وما كانوا يعرِشُون}[الأعراف 137]

2 ـ {سبحانَ الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجدِ الحرامِ إلى المسجدِ الأقصى الذي باركنا حوله لِنريهُ من آياتنا إنّهُ هوَ السّميعُ البصير}[الإسراء1]

3 ـ {ونَجّيناهُ ولوطاً إلى الأرضِ التي باركنا فيها للعالمينَ}[الأنبياء 71]

هي أرض الشام في قول من أصحّ الأقوال،فإن ابراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم لما خرج من حرّان فاراً من النمرود خرج إلى أرض الشام وتعبد الله تبارك وتعالى بسفح جبل قاسيون(الشيخ محمد أبو الهدى اليعقوبي في خطبة له بمقال:نعمة الشام).

4 ـ {ولسليمانَ الرّيحَ عاصفةً تجري بأمره إلى الأرضِ التي باركنا فيها وكُنّا بكلِّ شيءٍ عالمين}[الأنبياء 81]

5 ـ {وجعلنا بينهم وبينَ القُرى التي باركنا فيها قُرىً ظاهرةً وقدّرنا فيها السّيرَ سيروا فيها لياليَ وأيّاماً آمنين}[سبأ 18 ]

6 ـ {فلمّا أتاها نُوديَ من شاطىء الوادِ الأيمنِ في البُقعةِ المباركةِ من الشَّجرة}[القصص 30]

7 ـ {إنّي أنا ربُّكَ فاخلعْ نَعليكَ إنّكَ بالوادِ المُقدّسِ طُوىً}[طه 12]

8 ـ{إذ ناداهُ ربُّهُ بالوادِ المُقدّسِ طُوىً}[النازعات 16]

9 ـ {يا قومِ ادخُلوا الأرضَ المُقدَّسةَ التي كتبَ الله لكم}[المائدة 21]

الأحاديث النبويّة  في فضائل الشّام وأهل الشّام

1 ـ عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

إن فسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغوطة إلى جانب مدينة يُقال لها:دمشق،من خير مدائن الشام”.

وفي رواية ثانية:

قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:”يوم الملحمة الكبرى فسطاط المسلمين بأرض يقال لها الغوطة فيها مدينة يقال لها دمشق خير منازل المسلمين يومئذ”.

وفي رواية ثالثة عن أبي داود قال:

“يقال لها دمشق من خير مدائن الشام”

[وقد صحّحها الألباني].

(الفسطاط:المدينة التي فيها مجتمع الناس وكل مدينة فسطاط،وكذلك الخيمة الكبيرة يطلق عليها فسطاط)

2 ـ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:قال النبي صلى الله عليه وسلم:

اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا”،قالوا:”يارسول الله،وفي نجدنا؟ قال:”اللهم بارك لنا في شامنا،اللهم بارك لنا في يمننا”قالوا يا رسول الله،وفي نجدنا؟فأظنه قال في الثالثة:”هناك الزلازل والفتن،وبها يطلع قرن الشيطان“[أخرجه البخاري والترمذي وأحمد والطبراني ].

3 ـ عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

بينما أنا نائم إذ رأيت عمود الكتاب احتمل من تحت رأسي،فظننت أنه مذهوب به،فأتبعته بصري،فعمد به إلى الشام،الا وإن الإيمان حين تقع الفتن بالشام“[أخرجه أحمد وصحّحه الأرناؤوط]

4 ـ عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”إنّي رأيتُ عمود الكتاب أُنتُزع من تحت وسادتي،فنظرتُ فإذا هو نورٌ ساطعٌ عُمِدَ به إلى الشّام،ألا إن الإيمان ـ إذا وقعت الفتن ـ بالشّام“[أخرجه الحاكم وصحّحه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي،وصحّحه الألباني]

5 ـ عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال:قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم يوماً:”

“إني رأيتُ الملائكة في المنام أخذوا عمود الكتاب،فعمدوا به إلى الشّام،فإذا وقعت الفتن،فإن الإيمان بالشّام“[أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق،وصحّحه الألباني في تخريج أحاديث فضائل الشام لأبي الحسن الربعي].

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

ستخرج نار في آخر الزمان من حضرموت قبل يوم القيامة تحشر الناس”،قالوا :يا رسول الله،فما تأمرنا؟قال: عليكم بالشّام”[رواه الترمذي وأحمد وصحّحه الألباني].

6 ـ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

رأيتُ عموداً من نور خرج من تحت رأسي ساطعاً حتى استقر بالشّام“[أخرجه البيهقي في دلائل النبوة،وابن عساكر في تاريخ دمشق،وصحّحه الألباني في المشكاة].

7 ـ عن عبد الله بن حوالة رضي الله عنه

:كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكونا إليه العُري والفقر وقلّة الشيء،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”أبشروا،فوالله!لأنا من كثرة الشيء أخوف عليكم من قلته،والله لايزال هذا الأمر فيكم حتى يفتح الله عزَّ وجلّ أرض فارس،وأرض الروم،وأرض حِمير،وحتى تكونوا أجناداً ثلاثة:جنداً بالشّام،وجنداً بالعراق،وجنداً باليمن،وحتى يُعطى الرجل المئة فيسخطها”.قال ابن حوالة:”فقلت:يارسول الله! اختر لي إن أدركني ذلك؟”قال:”إني أختار لك الشام،فإنه صفوة الله عز وجل من بلاده،وإليه يحشر صفوته من عباده.يا أهل اليمن! عليكم بالشّام،فإنه صفوة الله عز وجلّ من أرض الشام،ألا فمن أبى،فليسق من غُدر اليمن ـ جمع غدير الماء ـ فإن الله عز وجل قد تكفل بالشّام وأهله“[أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق،وصحّحه الألباني].

8 ـ عن عبد الله بن حوالة رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

“ستجندون أجناداً:جنداً بالشام،وجنداً بالعراق،وجنداً باليمن “قال عبد الله  ابن حوالة:”خِرْ لي يارسول الله إن أدركت ذلك،قال:”عليك بالشّام،فإنها خيرة الله من أرضه،يجتبي إليها خِيرته من عباده،فأما إن أبيتم فعليكم بيمنكم،واسقوا من غُدُركم،فإن الله توكّل لي بالشّام وأهله“[أخرجه أحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم وصحّحه الألباني].

قال ربيعة فسمعت أبا إدريس يحدث بهذا الحديث يقول:ومن تكّفل الله به فلا ضيعة عليه.

9 ـ عن ابن حوالة رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

“يا ابن حوالة،إذا رأيت الخلافة قد نزلت أرض المقدَّسة فقد دنت الزلازل والبلابل والأمور العظام،والساعة يومئذٍ أقرب من الناس من يدي هذه من رأسك“[أخرجه أحمد وأبو داود وصحّحه الالباني]

10 ـ عن معاوية بن قُرّة عن أبيه رضي الله عنهما قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

إذا فسد أهلُ الشام فلا خير فيكم،لا تزال طائفةٌ من أمتي منصورين لا يضرّهم من خَذلهم حتى تقوم الساعة“[أخرجه أحمد والترمذي وصحّحه،وصحّحه الألباني أيضاً]

11 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

إذا وقعت الملاحم بعث الله من دمشق بعثاً من الموالي،أكرمَ العرب فرساً،وأجودهم سلاحاً،يؤيد الله بهم الدين“[أخرجه ابن ماجة والحاكم واللفظ له وصححه ووافقه الذهبي وحسّنه الألباني]

12 ـ عن النواس بن السمعان الكلابيّ رضي الله عنه قال:

ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال،فقال:”إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم،وإن يخرج ولست فيكم،فامرؤ حجيج نفسه،والله خليفتي على كل مسلم،فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف،فإنها جواركم من فتنته”،قلنا:”وما لبثه في الارض؟” قال:”أربعون يوماً:يومٌ كَسنة،ويومٌ كَشهر،ويومٌ كَجمعة،وسائر أيامه كأيامكم”،فقلنا:”يا رسول الله،هذا اليوم الذي كسنة،أتكفينا فيه صلاة يوم وليلة؟قال:”لا،اقدروا له قدره،ثم ينزل عيسى ابن مريم عند المنارة البيضاء شرقي دمشقّ،فيُدركه عند باب لد،فيقتله“[أخرجه مسلم]

13 ـ عن أوس بن أوس الثقفي رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

ينزل عيسى بن مريم عليهما السلام عند المنّارة البيضاء شرقي دمشق عليه ممصرتان كأنّ رأسه يقطر منه الجمان “[أخرجه الطبراني في المعجم الكبير وصحّحه الألباني].

(الممصرة من الثياب:التي فيها صنفرة خفيفة،الجمان:صغار اللؤلؤ وقيل حب يتخذ من الفضة أمثال اللؤلؤ).

وفي حديث مسلم عن النواس بن سمعان قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل…إلى أن قال:”فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعاً كفيه على اجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ”.

14 ـ عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس“[أخرجه البخاري ومسلم وزاد البخاري في روايته وأحمد:فقام مالك بن يخامر السكسكي فقال:سمعت معاذ بن جبل يقول:وهم بالشّام”]

15 ـ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحقّ ظاهرين إلى يوم القيامة”قال:”فينزل عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم،فيقول أميرهم:”تعال صلّ لنا”،فيقول:”لا،إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة”[اخرجه مسلم]

16 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

لا تزال عصابة من أمتي قائمة على أمر الله،لا يضرّها من خالفها،تُقاتل أعداءها،كلما ذهبت حرب نشبت حرب قوم آخرين،يرفع الله قوماً ويرزقهم منه حتى تأتيهم الساعة”ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”هم أهل الشّام“[أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط وحسّن إسناده الأرناؤوط في تحقيق المسند]

17 ـ عن سلمة بن نفيل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الناس يرفع الله قلوب أقوام يقاتلونهم،ويرزقهم الله منهم حتى يأتي أمر الله عز وجل وهم على ذلك،ألا إن عقر دار المؤمنين الشّام،والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة“[أخرجه أحمد وحسّنه الألباني]

18 ـ عن بهز بن حكيم بن معاوية القشيري ،عن أبيه،عن جده،قال:

“قلت يا رسول الله!أين تأمرني؟”فقال:ها هنا” وأومأ بيده نحو الشّام،قال:”إنكم محشورون رجالاً وركباناً،ومُجرَون على وجوهكم”[أخرجه أحمد والحاكم وصحّحه ووافقه الذهبي وصحّحه الألباني]

19 ـ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:”قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

ستخرج نارٌ في آخر الزمان من حضرموت قبل يوم القيامة تحشر الناس”قالوا:”فما تأمرنا ؟”قال:”عليكم بالشّام“[أخرجه أحمد والترمذي وأحمد وصحّحه الألباني]

20 ـ عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال:كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ نؤلف القرآن من الرقاع،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

طوبى للشام” فقلنا: “لأي ذلك يا رسول الله؟”قال:”لأنَّ ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليها“[أخرجه أحمد والترمذي وابن حبان والحاكم وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي،وصحّحه الألباني]

21 ـ عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

الشّام أرض المحشر والمنشر” وعن ميمونة بنت سعد مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا نبيّ الله أفتنا في بيت المقدس فقال:”أرض المحشر والمنشر[قال الألباني حديث صحيح]

22 ـ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:

صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر ثم أقبل على القوم فقال:اللّهم بارك لنا في مدينتنا،وبارك لنا في مَدّنا وصاعنا،اللّهم بارك لنا في حرمنا،وبارك في شامنا فقال رجل:وفي العراق؟فسكت.ثم أعاد،قال الرجل:وفي عراقنا؟فسكت.ثم قال:”اللهم بارك لنا في مدينتنا وبارك لنا في مدنا وصاعنا،اللهم بارك لنا في شامنا،اللهم اجعل مع البركة بركة،والذي نفسي بيده ما من المدينة شعب ولا نقب إلا وعليه ملكان يحرسانها حتى تقدموا عليها”.[صحّحه الألباني]

23 ـ عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال:

أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بناء له،فسلمت عليه.فقال:عوف قلت:نعم يا رسول الله!قال:ادخل فقلت:كلّي أو بعضي؟قال: بل كلّك قال:فقال لي:”اعدُد عوف!ستاً بين يدي الساعة،أولهُن موتي،قال:فاستبكيت حتى جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسكتني.قال:قل:إحدى.والثانية فتح بيت المقدس،قل اثنين.والثالثة فتنة تكون في أمتي وعظمها.والرابعة موتان يقع في أمتي يأخذهم كقعاص الغنم.والخامسة يفيض المال فيكم فيضاً حتى إن الرجل ليعطى المائة دينار فيظل يسخطها،قل خمساً.والسادسة هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر يسيرون إليكم على ثمانين راية،تحت كل راية اثنا عشر ألفا،فسطاط المسلمين يومئذ في أرض يقال لها :الغوطة،فيها مدينة ويقال لها :دمشق“.[ أخرجه أحمد وابن عساكر والبخاري وابن ماجه وغيرهم وصحّحه الألباني]

(القعص:أن يضرب الإنسان فيموت مكانه،وقعاص الغنم:داء يأخذ الغنم لا يلبثها أن تموت)

24 ـ عن أبي ذر رضي الله عنه قال:

أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في مسجد المدينة فضربني برجله وقال ألا أراك نائماً فيه؟فقلت يارسول الله غلبني عيني .قال :كيف تصنع إذا أخرجت منه.فقلت: إني أرضى الشام الأرض المقدسة المباركة.قال:كيف تصنع إذا أخرجت منه؟قال:ما أصنع أضرب بسيفي يا رسول الله ،وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”الا أدلك على خير من ذلك وأقرب رشداً.قالها مرتين تسمع وتطيع وتساق كيف ساقوك”.

25 ـ عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

صفوة الله من أرضه الشام ،وفيها صفوته من خلقه وعباده،وليدخلن الجنة من أمتي ثلة لا حساب عليهم ولاعذاب“[رواه الطبراني]

26 ـ عن معاوية بن حيدة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

إنكم تحشرون رجالاً وركباناً وتجرون على وجوهكم ها هنا ـ وأومأ بيده نحو الشّام” [رواه أحمد والترمذي والحاكم ـ صحيح الجامع الصغير]

27 ـ  عن واثلة بن الأسقع الليثي قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لحذيفة بن اليمان ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما وهما يستشيرانه في المنزل،فأومأ إلى الشّام، ثم سألاه فأومأ إلى الشّام قال: “عليكم بالشّام فإنها صفوة بلاد الله،يسكنها خيرته من خلقه،فمن أبى فليلحق بيمنه،وليسق من غُدره،فإن الله عز وجل  تكّفل لي بالشّام وأهله[صحيح الترغيب والترهيب وصحّحه الألباني]

28 ـ عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”عقر دار المؤمنين الشّام”

29 ـ عن خريم بن فاتك الأسدي رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

“أهل الشّام سوط الله في أرضه،ينتقم بهم ممّن يشاء من عباده،وحرامٌ على منافقيهم أن يظهروا على مؤمنيهم،ولا يموتوا إلا غماً وهماً“[رواه الطبراني وأحمد  وصحّحه السيوطي ]

 

30 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

“لن تبرح هذه الأمّة منصورين أينّما توّجهوا،لايضرّهم من خذلهم من الناس حتى يأتي أمر الله،أكثرهم أهل الشّام”[تاريخ ابن دمشق لإبن عساكر].

31ـ عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”إن الله استقبل بي الشّام،وولّى ظهري اليمن،وقال لي: يامحمد إني جعلت لك ماتجاهك غنيمة ورزقا،وما خلف ظهرك مدداً،ولايزال الإسلام يزيد،وينقص الشرك وأهله،حتى تسير المرأتان لا تخشيان إلا جورا،والذي نفسي بيده لاتذهب الأيام والليالي حتى يبلغ هذا الدين مبلغ هذا النجم“[صحّحه الألباني]

32 ـ وعن أبي مريم الغساني رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

أخذ الله عزّ وجلّ منّي الميثاق كما أخذ من النبيين ميثاقهم،وبشّر بي عيسى بن مريم،ورأت أمي في منامها أنه خرج من بين رجليها سراج أضاءت له قصور الشام“[صحّحه الألباني].

33 ـ وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”إني عند الله مكتوب خاتم النبيين،وإن آدم لمنجدل في طينته،وسأخبركم بأول أمري:دعوة إبراهيم،وبشارة عيسى،ورؤيا أمي التي رأت ـ حين وضعتني ـ وقد خرج لها نور أضاءت لها منه قصور الشام“[صحّحه الألباني].

من هذه الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة نستنتج مايلي:

1 ـ ثبوت بركة الشّام: وخاصة مما ذكرناه في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وخاصة قوله صلى الله عليه وسلم:”اللّهم بارك لنا في شامنا”

2 ـ الشام أرض المحشر

3 ـ بسط الملائكة أجنحتها على الشام:أي أن ملائكة الرحمة تَحفّها وتحوطها بالبركات ودفع المهالك والمؤذيات.

4 ـ كفالة الله تعالى للشّام وأهل الشّام:وإن كل مايصيب الشام وأهل الشام من أذى وكيد الأعداء إنما هو ابتلاء وامتحان ولكن هذا الأذى هو سطحي لن يصيب العقيدة والدين.

5 ـ صفوة بلاد الله من الأرض ويسكنها خيرته من خلقه:قال شيخ الإسلام العز بن عبد السلام:”وهذه شهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم باختيار الشام،وبفضلها وباصطفائه ساكنيها،واختياره لقاطنيها”

6 ـ الأمان عند الفتن:وقال العز بن عبد السلام:أخبر صلى الله عليه وسلم أن عمود الإسلام الذي هو الإيمان،يكون عند وقوع الفتن بالشّام،بمعنى أن الفتن إذا وقعت في الدين كان أهل الشام براء من ذلك ثابتين على الإيمان،وإن وقعت في غير الدين كان أهل الشام عاملين بموجب الإيمان وأيّ مدح أتمّ من ذلك”.

7 ـ أهل الشام ميزان لصلاح الأمة وفسادها:وقال ابن العربي:وأما مدحه صلى الله عليه وسلم للشام،فلأنّه كان مأوى الجهاد والرباط،فإذا فسد أهله فسد الناس كلهم،لأنهم تركوا الجهاد ذلوا”

نعم، إذا فسد أهل الشام،وابتعدوا عن دينهم،فإن ذلك يشكل علامة سوء في بعد هذه الأمة عن دينها،ولأن بلاد الشّام هي الدرع الحصينة للإسلام والمسلمين.

8 ـ حرام على منافقيهم أن يظهروا على مؤمنيهم:بمعنى أنه لايقع للمنافقين غلبة في الشام على المؤمنين.

9 ـ فسطاط المسلمين دمشقّ:والفسطاط هو حصن المسلمين الذي يتحصنون فيه

10 ـ بشرى المولد النبوي كانت في الشام:قال ابن كثير:وتخصيص الشام بظهور نوره إشارة إلى استقرار دينه،ونبوته ببلاد الشّام،ولهذا تكون الشّام في آخر الزمان معقلاً للإسلام وأهله،وبها ينزل عيسى بن مريم عليهما السلام”.

11 ـ في الشام شجر يشبه شجرة طوبى في الجنة:في الحديث الطويل الذي رواه عتبة بن عبد السلمي رضي الله عنه قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله أفيها فاكهة؟قال:نعم،إن فيها شجرة تدعى طوبى،هي تطابق الفردوس.قال:أيّ شجر أرضنا تشبه؟قال:ليس شبه شيء من شجر أرضكم،ولكن أتيت الشّام؟فقال:لا يا رسول الله . قال:فإنها تشبه شجرة بالشّام تدعى:جوز،تنبت على ساق واحد وينتشر أعلاها“[رواه أحمد وصحّحه الألباني]

وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:”هل تفضل الإقامة في الشام على غيره من البلاد؟وهل جاء في ذلك نص في القرآن والأحاديث؟

وكان جوابه:

“الإقامة في كل موضع تكون الأسباب أطوع لله ورسوله،وأفعل للحسنات والخير،بحيث يكون أعلم بذلك وأقدر عليه وأنشط له،أفضل من الإقامة في موضع يكون حاله فيه في طاعة الله ورسوله دون ذلك”[كتاب الفتاوى].

وكتب أبو الدرداء إلى سلمان الفارسي رضي الله عنهما:”أن هلُمَّ إلى الأرض المقدسة”فكتب إليه سلمان:”إن الأرض لاتُقدّس أحداً،وإنما يقدس الإنسان عمله[كتاب الموطأ]،ومعلوم أن أبا الدرداء كان في دمشق.

يقول سلطان العلماء العز بن عبد السلام رحمه الله في رسالة له سماها”ترغيب أهل الإسلام بسكنى بلاد الشام“:

ونص الرسالة الكاملة كما يلي:

“الحمد لله ذي الجودِ والإحسان،والفضل والإمتنان،والعزّ والسلطان،ومُكّون الأكوان،ومُدّبر الأزمان،وعالم السرّ والإعلان.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده،لا شريك له،الملك الدَّيان،العظيم الشأن،الذي لا يناله الوهم،ولا يدركه العيان.

وأشهد أن نبيّنا محمداً عبده ورسوله،أرسله بالنور والبيان،والهدى والفرقان،والحجج والبرهان،لِيُظهره على الأديان،فدعا إلى الرحمن،وكسر الأوثان،وأباد أهل الكفر والطغيان،صلى الله عليه وعلى آله في كل حين وأوان،ووقت وزمان،ما ارتفع النسران،واصطحب الفرقدان.

وبعد حمد الله على أن حبّب إلينا الإيمان،وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان:

فإنّ الله تعالى جعلنا من أهل الشّام الذي بارك فيه للعالمين،وأسكنه الأنبياء والمرسلين،والأولياء والمخلصين،والعباد الصالحين،وحفّه بملائكته المُقرّبين،وجعله في كفالة ربّ العالمين،وجعل أهله على الحقّ ظاهرين،لا يضرّهم من خذلهم إلى يوم الدين،وجعله معقل المؤمنين،وملجأ الهاربين(ولا سيما دمشق المحروسة) الموصوفة بالقرآن المبين،بأنها ربوة ذات قرار ومعين،كذلك روي عن سيد المرسلين،وجماعة من المفسرين،وبها ينزل عيسى بن مريم عليه السلام لإعزاز الدين،ونصرة الموحدين،وقتل الكافرين،وإبادة الملحدين،وبغوطتها عند الملاحم فسطاط المسلمين.

قوله تعالى:{ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين}[الأنبياء 71].

وقوله تعالى:{سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله}[الإسراء 1].

واختلف العلماء في هذه البركة:

فقيل:هي بالرسل والأنبياء.

وقيل:بما بارك فيه من الثمار والمياه

وقد وفر سبحانه وتعالى حظ دمشق بما أجرى فيها من العيون والأنهار،وسلكه من مياهها خلال المنازل والديار،وأنبته بظاهرها من الحبوب والثمار،وجعله موطناً لعباده الأخيار،وساق إليها من صفوته من الأبرار.

ومما ذكره علماء السلف في تفسير آيّ من القرآن:

فمن ذلك:مارواه القرآن عن الحسن بن أبي الحسن يسار البصري،وما رواه معمر،عن قتادة بن دعامة السدوسي في قوله تعالى:{وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها}[الأعراف 137]،قالا:مشارق الشام ومغاربه.

وهذا موافق لقوله تعالى:{باركنا حوله}.

ومنه ما رواه  قتادة في قوله تعالى:{ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوّأ صدق][يونس 93]،قال:بوأهم الله تعالى الشّام،وبيت المقدس،مبوأ صدق،فالصدق يعبر به عن الحسن استعارة،وتجوزاً،كقوله تعالى:{في مقعد صدق}[القمر 55] أي مقعد حسن.

وقد يكون المبوأ حسناً لما فيه من البركات الدينية،وذلك موجود وافر بالشّام،وبيت المقدس.أو يكون حسنه لبركاته العاجلة بسعة الرزق والثمار والأشجار.

ومن ذلك ما جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم:مارواه أبو إدريس(عائذ)بن عبد الله الخولاني،عن عبد الله بن حوالة الأزدي قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”ستجندون أجناداً:جنداً في الشام،وجنداً في العراق،وجنداً في اليمن”،قال:قلت يارسول الله خر لي،قال:”عليك بالشام،فمن أبى،فليلحق بيمنه،وليسق من غدره،فإن الله قد تكفل لي بالشام وأهله”[أخرجه أحمد في المسند،وأبو داود في الجهاد:باب في سكنى الشام،والطبراني من طريقين،وقال الهيثمي ورجال أحدهما رجال الصحيح.والحاكم في المستدرك وصحّحه ووافقه الذهبي].

قال سعيد بن عبد العزيز أحد رواة هذا الحديث،وكان ابن حوالة من الأزد،وكان مسكنه الأردن،وكان إذا حدث بهذا الحديث قال:ومن تكّفل الله تعالى به فلا ضيعة عليه.

فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الشّام في كفالة الله تعالى،وأن ساكنيه في كفالته:حفظه وحياطته،ومن حاطه الله تعالى وحفظه فلا ضيعة عليه،كما قال ابن حوالة.

ومنه ما رواه عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:”يخرج من حضرموت ـ أو بحر حضرموت ـ نار تسوق الناس،قلنا: يا رسول الله،ما تأمرنا؟قال: عليكم بالشّام”[أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق].

أشار صلى الله عليه وسلم بالشام عند خروج النار لعلمه بأنها خير للمؤمنين(حينئذٍ) من غيرها،والمستشار مؤتمن.

وقد درج العلماء على الإشارة بسكناه اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال عطاء الخرساني:لقد هممت بالنقلة،شاورت من بمكة والمدينة والكوفة والبصرة وخُراسان من أهل العلم،فقلت:أين ترون لي أن أنزل بعيالي؟ فكلهم يقولون:عليك بالشّام.

ومما رواه عبد الله بن حوالة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”رأيت ليلة أسري بي عموداً أبيض كأنه لؤلؤة،تحمله الملائكة،فقلت: ما تحملون؟فقالوا عمود الإسلام أمرنا أن نضعه بالشّام.وبينا أنا نائم رأيت عمود الكتاب اختُلس من تحت رأسي،فظننت أن الله تعالى قد تخلى من أهل الأرض،فأتبعته بصري،فإذا هو نور ساطع بين يدي حتى وضع بالشّام”فقال ابن حوالة:”يا رسول الله خر لي قال: عليك بالشّام”.

ورواه عبد الله بن عمرو بن العاص دون قول ابن حوالة،دون قوله:”رأيت ليلة أسري بي”،وزاد فيه بعد قوله:”حتى وضع بالشام”ألا وإن الإيمان إذا وقعت الفتن بالشام”.أخرجه الطبراني في المعجم الكبير والأوسط بأسانيد.قال الهيثمي في مجمع الزوائد في أحدها ابن لهيعة وهو حسن الحديث.وقد توبع على هذا،وبقية رجاله رجال الصحيح،وأخرجه الحاكم في المستدرك وصححه على شرطهما وأقره الذهبي،وأخرجه أبو نعيم في الحلية،وابن عساكر في تاريخ دمشق وحسنه.

أخبر صلى الله عليه وسلم أن عمود الإسلام الذي هو الإيمان يكون عند وقوع الفتن بالشّام،بمعنى:أن الفتن إذا وقعت في الدين كان أهل الشام براء من ذلك ثابتين على الإيمان ،وإن وقعت في غير الدين كان أهل الشام عاملين بموجب الإيمان،وأي مدح أتمّ من ذلك.

والمعنى بعمود الإسلام: ما تعتمد أهل الإسلام عليه،ويلتجئون إليه،والعيان شاهد لذلك،فإنا رأينا أهل الشّام على الإستقامة التامة،والتمسك بالكتاب والسنة عند ظهور الأهواء،واختلاف الأراء.وقد قال عبد الله بن شوذب:تذاكرنا بالشّام،فقلت لأبي سهل:أما بلغك أنه يكون بها كذا؟فقال: بلى ولكن ما كان بها فهو أيسر مما يكون بغيرها.

والذي ذكره معلوم بالتجربة،معروف بالمشاهدة،أن الفتن من القحط والغلاء،وغير ذلك من أنواع البلاء،إذا نزلت بأرض كانت بالشّام أخفّ منها في غيرها.

ومنه مارواه سلمة بن نُفيل الحضرمي،أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني سمنت الخيل،وألقيت السلاح،ووضعت الحرب أوزارها،قلت:لا قتال.فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:”الآن جاء القتال،لاتزال طائفة من أمتي ظاهرين على الناس،يزيغ الله قلوب أقوام فيقاتلونهم،ويرزقهم الله تعالى منهم،حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك،ألا إن عقر دار المؤمنين الشّام،والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة”[أخرجه أحمد في المسند،والنسائي في أول كتاب الخيل،والطبراني في المعجم الكبير،قال الهيثمي في مجمع الزوائد رجاله ثقات.وأخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق].

أخبر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بالردة التي تقع ممن أراد الله تعالى أن يزيغ قلبه عن الإسلام.فأشار عليه بقتال المرتدين،ثم بسكنى الشّام إشارة منه صلى الله عليه وسلم إلى أن المقام بها رباط في سبيل الله تعالى،وإخباراً بأنها ثغر إلى يوم القيامة،وقد شاهدنا ذلك،فإن أطراف الشام ثغور على الدوام.

ومنه ما رواه عبد الله بن حوالة أنه قال: يا رسول الله خر لي بلداً أكون فيه،فلو أعلم أنك تبقى لم أختر على قربك شيئاً.قال:”عليك بالشّام،فلما رأى كراهيتي للشّام قال:”أتدري ما يقول الله تعالى في الشّام؟ إن الله تعالى يقول:يا شام،أنت صفوتي من بلادي،أُدخل فيك خيرتي من عبادي،إن الله تعالى تكفل لي بالشّام وأهله”.[أخرجه الطبراني وبنحوه أبو داود والربعي في فضائل الشام].

وهذه شهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم باختيار الشام،وتفضيلها،وباصطفائه ساكنيها،واختياره لقاطنيها،وقد رأينا ذلك بالمشاهدة،فإن من رأى صالحي أهل الشام،ونسبهم إلى غيرهم،رأى بينهم من التفاوت ما يدل على اصطفائهم واجتبائهم.

ومنه مارواه زيد بن ثابت رضي الله عنه قال:كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلَّفُ القرآن في الرقاع،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”طوبى لأهل الشّام”.فقلت:وبم ذاك؟فقال:”إن ملائكة الرحمة ـ وفي رواية ملائكة الرحمن ـ باسطة أجنحتها عليها”.[أخرجه أحمد والترمذي وقال حديث حسن غريب،وابن حبان والطبراني،والحاكم في المستدرك وصحّحه،ووافقه الذهبي].

أشار صلى الله عليه وسلم إلى أن الله سبحانه وتعالى وكّل بها الملائكة يحرسونها ويحفظونها،وهذا موافق لحديث عبد الله بن حوالة في أنهم في كفالة الله تعالى ورعايته.

ومنه ماروى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:”اللهم بارك لنا في شامنا ويمننا”مرتين،فقال رجل:وفي مشرقنا يارسول الله.فقال صلى الله عليه وسلم:”من هناك يطلع قرن الشيطان،وبها تسعة أعشار الشرّ”.[أخرجه أحمد في المسند واللفظ له.والطبراني في المعجم الكبير،وفي الأوسط،وقال الشيخ أحمد شاكر إسناده صحيح.وأخرجه البخاري في الاستسقاء].

لما بدأ بالدعاء للشام بالبركة،وثنّى باليمن،دل على تفضيل الشام على اليمن مع ما أثنى به على أهل اليمن في غير هذا الحديث،فإن البداية إنما تقع بالأهم فالأهم.

ومنه مارواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:”الخير عشرة أعشار،تسعة بالشّام،وواحد في سائر البلدان،والشرّ عشرة أعشار،واحد بالشّام،وتسعة في سائر البلدان،وإذا فسد أهل الشّام،فلا خير فيكم”.[أخرجه الخطيب في المتفق والمفترق،وابن عساكر في تاريخ دمشق].

وهذا مما يحث على سكنى الشّام،ويدل على الثناء على أهله لإتصافهم بتسعة أعشار الخير،وإتصاف سائر الأقاليم بالمعشار.

ومنه مارواه عوف بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:”تخرب الأرض قبل الشام بأربعين سنة”.

ومنه مارواه عمير بن هاني قال:سمعت معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما على هذا المنبر يقول:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:”لاتزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله،لا يضرّهم من خذلهم،أو خالفهم،حتى يأتي أمر الله،وهم ظاهرون على الناس”فقام مالك بن يخامر السكسكي فقال (يا أمير المؤمنين)سمعت معاذ بن جبل يقول:”وهم أهل الشام”فقال معاوية،ورفع صوته،يزعم أنه سمع معاذاً:”وهم أهل الشام”[أخرجه الشيخان].

ومنه مارواه معاوية بن قرّة،عن أبيه،عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:”إذا فسد أهل الشّام فلا خير فيكم،ولن تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرّهم من خذلهم حتى تقوم الساعة”[أخرجه الطيالسي،والترمذي وأحمد].

وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما:”ليأتين على الناس زمان لا يبقى على الأرض مؤمن إلا لحق بالشّام“ومثل هذا لا يقوله إلا توفيقا[أخرجه الحاكم في المستدرك وصحّحه وأقره الذهبي]

ولما علم الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين تفضيل الشام على غيره،دخل إليه منهم عشرة آلاف عين رأت النبي صلى الله عليه وسلم على ماذكره الوليد بن مسلم.

ومما ذكره كعب الأحبار عن التوراة قال:

“في السطر الأول:محمد بن عبد الله(عبدي) المختار،لا فظّ،ولا غليظ،ولا صخّاب في الأسواق،ولا يجزي بالسيئة السيئة،ولكن يعفو،ويغفر،مولده مكة،وهجرته بطيبة،وملكه بالشّام.

وفي السطر الثاني:محمد رسول الله،أمّته الحمّادون،يحمدون الله تعالى في السّراء والضرّاء،ويحمدون الله تعالى في كل منزلة،ويكبرونه على كل شرف،رعاة الشّمس،يصلون الصلاة إذا جاء وقتها ولو كانوا على رأس كُناسة(قمامة)،ويأتزرون على أوساطهم،ويوضئون أطرافهم،وأصواتهم بالليل في جو السماء كأصوات النحل”.

والذي ذكره كعب موافق للمشاهدة والعيان،فإن قوّة ملك الإسلام،ومعظم أجناده من أهل البسالة والشجاعة بالشّام.

وقال كعب الأحبار:إن الله تعالى بارك في الشّام من الفرات إلى العريش.

وقد أشار كعب إلى أن البركة بالشّام،وأن قوله:{الذي باركنا حوله}لا يختص بمكان منه دون مكان،وإنما هو عام مستوعب بحدود الشّام.

فصل في تفضيل دمشق على الخصوص:

فمن ذلك،ماجاء في تفسير آي من القرآن منها قوله تعالى:{وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين}[المؤمنين 50].

روى أبو أمامة،عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الآية:{وآويناهما إلى ربوة ذات قرار}قال:أتدرون أين هي؟ قالوا:الله ورسوله أعلم،قال:هي بالشّام،بأرض يقال لها الغوطة،مدينة يقال لها دمشقّ،هي خير مدائن الشّام”.[أخرجه الربعي وابن عساكر وقال السيوطي سنده ضعيف].

كذاك قال عبد الله بن عباس،وعبد الله بن سلام،وسعيد بن المسيب،والحسن البصري رضي الله عنهم.

ومن ذلك،أنها مهبط عيسى بن مريم عليهما السلام،لنصرة الدين عند خروج الأعور الكذاب على مارواه النواس بن سمعان رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”ينزل عيسى بن مريم على المنّارة البيضاء شرقي دمشقّ”[أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة والحاكم والربعي]

ومن ذلك،مارواه عبد الرحمن بن جبير بن نُفير،عن أبيه قال:حدّثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:”ستفتح عليكم الشّام،إذا خيرتم المنازل فعليكم بمدينة يقال لها:دمشقّ،فإنها معقل المسلمين من الملاحم،وفسطاطهم منها بأرض يقال لها الغوطة”[أخرجه أحمد والحاكم وصحّحه وأقرّه الذهبي].

فثبت بما ذكرنا تفضيل دمشق على سائر بقاع الشام،ماعدا بيت المقدس.

ومما يدل على بركتها،وفضيلة أهلها،كثرة مافيها من الأوقاف،على أنواع القربات،ومصارف الخيرات.وأن مسجدها الأعظم لا يخلو في معظم الليل والنهار من تالٍ لكتاب الله تعالى،أو مصل،أو ذاكر،أو عالم،أومتعلم.

ودّلت الأدلة على أن دمشقّ خير بلاد الشام،فلذلك أخبر السلف،وشاهد الخلف أن من ملك دمشق من ملوك الإسلام،فبسط على أهلها الفضل،ونشر فيهم العدل،فإن النصر ينزل عليه من السماء،مع ما يحصل له من الودّ في قلوب الأبرار،والأولياء والأخيار والعلماء،ومع ما يلقيه الله تعالى من الرعب في قلوب الأضداد والأعداء.

ومن عاملهم من ملوك الإسلام بخلاف ذلك،فأحلّ بهم شيئاً من الضراء،وأنزل بهم نوعاً من البأساء،أو أخذهم بالجبروت والكبرياء،فإن الله تعالى لا يُمهله،ولا يُهمله،بل يعاجله باستلاب ملكه في حياته،أو بإلقائه في أنواع البلاء،وأبواب الشقاء،وذلك أنهم في كفالة ربّ الأرض والسماء،كما أخبر به خاتم الأنبياء،وكيف لا يكون كذلك،وقد اتصلت أذيته بالأبدال،وهم أكابر الأولياء،لقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه:”لا تسبوا أهل الشّام وسُبوا ظلمتهم“.[أخرجه الحاكم في المستدرك وأقرّه الذهبي].

وقال عبد الله بن صفوان،أو صفوان بن عبد الله،قال رجل يوم صفين:اللهم العن أهل الشّام.فقال أمير المؤمنين علي:”لا تسبّ أهل الشّام جماً غفيراً،فإن بها الأبدال،فإن بها الأبدال”.

وقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه:”لا تسبوا أهل الشّام،فإنهم جند الله المقدم”.

اللهم وفقّ ولاة أمور المسلمين للتمسك بكتابك،والتخلق بآدابك،والوقوف ببابك،والعكوف على جنابك،واجعلهم سلماً لأوليائك،حرباً لأعدائك،وأعنهم على اتباع الحقّ واجتناب الباطل بحولك وقوتك ياربّ العالمين.وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وآله وصحبه أجمعين”.

وجاء في مقالة للشيخ العلامة محمد بهجة البيطار رحمه الله ونشره في أحد أعداد مجلة المجمع العربي بدمشق تحت عنوان”المدرسون تحت قبة النسر:

“عرفت الشام من الصدر الأول بأنها بلد السنة،فمسند الشاميين ـ أي الصحابة الذين نزلوا الشام ـ هو جزء كبير من مسند الإمام أحمد المطبوع،ويجده المطالع في الجزء الرابع منه،وبالأسانيد المتصلة بهؤلاء الشاميين وغيرهم من الصحابة الذين تفرقوا في الأمصار أخرج الأئمة الحفاظ أحاديثهم كالبخاري(المتوفى سنة 256) ومسلم(261)وأصحاب السنن والمسانيد والمعاجم والجوامع،وعنهم أخذ أئمة الرواية والدراية مدرسو الحديث الأشرفية بدمشق كابن الصلاح(المتوفى سنة 643)وابن شامة(665) والمواوي(676)وابن الوكيل(716)وابن الزملكاني(727)والحافظ المزي(742)وعلم الدين البرزالي(739)والحافظ الذهبي(748)والتقي السبكي(756) والحافظ ابن كثير(774)وابن جماعة(733) أولئك الذين كانوا مفاخر الدنيا في عصورهم،وهل ينسى دمشقي قول التقي السبكي:”

وفي دار الحديث لطيف معنى     إلى بسط لها أصبو وآوي

لعلي أن امس بحر وجهي          مكاناً مسّه قدم النواوي

وروى بالسند عن هؤلاء الأئمة الحفاظ طائفة من محدثي قبة النسر الأعلام(في الجامع الأموي) ومن أكبر الأسر التي تسلسل فيها العلم في ديار الشام،وقد كان من شروط قبة النسر أن يقوم على درس الحديث فيها،أعلم علماء دمشق،فآل أمرها بالاستحقاق والكفاءة إلى وارث علوم أولئك الأئمة خليفتهم وخاتمتهم شيخنا الشيخ بدر الدين الحسني المتوفى سنة 1354 هجري ولم يأت بعده من يخلفه في علمه وعمله،رحم الله أولئك الأبرار،وعوض الأمة عنهم خيراً”.

وجاء في كتاب “حدائق الأنعام في فضائل الشام لعبد الرحمن بن ابراهيم بن عبد الرزاق الدمشقي:

روي عن ابن عباس أنه قال:”وكّل الله بكلّ بلدٍ ملكاً يحرسه إلا دمشق،فإنه تولاها بنفسه.ذكره سبط ابن الجوزي.

وروى أبو ادريس عن كعب الأحبار أنه قال: كل ما يبنيه العبد يُحاسب عليه يوم القيامة إلا البناء بدمشق.ذكره غير واحد.

ورأيت في بعض التعاليق ما نصّه:اتفق العلماء على أن الشام أفضل البقاع بعد مكة والمدينة.

ورُوي عن كعب الأحبار أنه قال:في التوراة:محمد رسول الله،لا فظّ ولا غليظ،مولده بمكة،وهجرته بطيبة،وملكه بالشام.قال العز بن عبد السلام ما معناه:الذي ذكره كعب موافق للمشاهدة والعيان،فإن قوة الدين في الشام.

وقال الحافظ ابن رجب في كتاب”اللطائف”:وأمّا إضاءة قصور بصرى بالنور الذي ظهر عند ولادته عليه السلام فهو إشارة إلى ما خصّ الشام(من نور نبوته) بأنها دار ملكه.

كما قال كعب الأحبار:رأيت في بعض الكتب السابقة أنّ محمداً عبدي ورسولي مولده بمكة،ومهاجره يثرب،ومُلكه بالشام.فمن مكة بُدئت نبوته،وإلى الشام انتهى ملكه،ولهذا أُسري به صلى الله عليه وسلم إلى الشام(وإلى بيت المقدس) كما هاجر إبراهيم عليه السلام إليها(من قبله إلى الشام).

وروي أيضاً عن كعب الأحبار أنه قال:”أهل دمشق سيفٌ من سيوف الله تعالى،ينتقم الله بهم ممّن عصاه”.

الصحابة والتابعين الذين دُفنوا في دِمشقّ الشّام

يقول الأستاذ محمد كرد علي رحمه الله في مقال بعنوان “الشاميون والتاريخ”نشره في أحد أعداد مجلة المجمع العربي بدمشق:

“واتفق أن نزل في الشام منذ الفتح أناسٌ من كبار الصحابة وحلّوا في حواضرها ونشروا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم بين أهلها،وتميز رواة الشاميين بفرط العناية بخدمة فنهم وعلمهم وعلو إسنادهم،فكان من ذلك بعد القرن الثاني أن نبغ مؤرخون عظام كانوا أوفر عدداً ممن نبغ من أمثالهم في الأقطار العربية الأخرى”.

ولقد كان الذين سكنوا الشام من جلّة الصحابة وأعلاهم منزلة في العلم والفضل،حتى قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حقهم:”بالشام أربعون رجلاً ما منهم رجل كان يلي الخلافة إلا أجزأة”[أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى].

ونذكر من الصحابة والتابعين الذين دُفنوا في دمشق:

ـ عثمان الثقفي رضي الله عنه:يقع في باب توما،جانب النهر،في جامع عثمان الثقفي بن أبي العاص.

ـ الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما::دفن جسده في كربلاء،بينما اختلف أهل السنة في الموضع الذي دفن فيه الرأس فقيل في دمشق،وقيل في كربلاء،وقيل في مكان آخر.فتعددت المراقد وتعذرت معرفة مدفنه.

ـ أبو الدرداء رضي الله عنه:عويمر بن عامر الخزرجي الأنصاري،كان حكيم الأمة،وكان من أفاضل الصحابة،ولّاه عمر بن الخطاب القضاء على دمشقّ في عهد معاوية بن أبي سفيان فكان أول قاض فيها،توفي في خلافة عثمان بن عفان  حوالي سنة 32هجري،ودفن في مقبرة الباب الصغير وظل قبره معروفاً  إلى جانب قبر زوجته أم الدرداء.وقبره ضائع ولكن شاهدة قبره عثر عليها بالقرب من ضريح معاوية ونقلت إلى المتحف الوطني بدمشق مع شاهدة لقبر زوجته أم الدرداء.

ولأبي الدرداء مشاهد ومزارات في أماكن أخرى منها مقامه الكائن في قلعة دمشق الذي ذكره المؤرخ ابن طولون .وله مسجد يقع داخل قلعة دمشق.

وأقام أبو الدرداء رضي الله عنه حلقة عظيمة في مسجد دمشق الأموي يعلّم فيها كتاب الله سبحانه وتعالى،وقد جاء وصف هذه الحلقة في “تاريخ دمشق”لابن عساكر رحمه الله عن أبي عبيد الله مسلم بن مشكم قال:قال لي أبو الدرداء:اعدد من يقرأ عندنا ـ أي في مجلسنا ـ قال:قال أبو عبيد:فعددت ألفاً وستمئة ونيفاً،فكانوا يقرؤون ويتسابقون عشرة عشرة،لكل عشرة منهم مقرىء،وكان أبو الدرداء قائماً يستفتونه في حروف القرآن ـ يعني المقرئين ـ فإذا أحكم الرجل من العشرة القراءة تحوّل إلى أبي الدرداء.وعن يزيد بن مالك عن أبيه قال: كان أبو الدرداء يأتي المسجد ثم يصلي الغداة،ثم يقرأ في الحلقة ويُقرىء،حتى إذا أراد القيام قال لأصحابه:هل من وليمة نشهدها،أو عقيقة،أو فطرة،فإن قالوا نعم،قام إليها،وإن قالوا لا،قال اللهم إني أشهدك أني صائم.وإن أبا الدرداء هو الذي سنّ هذه الحلق يُقرأ فيها.ومن أقوال أبو الدرداء رضي الله عنه:”إياك ودعوة اليتيم والمظلوم،فإنها تسري بالليل والناس نيام.وقال:”وما تصدق مؤمنٌ بصدقة أحبّ إلى الله من موعظة يعظ بها قوماً فيفترقون”.

 تميم الداري:بن أوس بن خارجة،الصحابي العابد الزاهد،ذي المناقب الظاهرة.وهو أوّل من نوّر القناديل في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم،وفاز بدعائه صلى الله عليه وسلم.شهد فتح دمشق وأقام بها مجاهداً،ومات سنة تسع وتسعين للهجرة،وقبره في قرية من إقليم داريا يقال لها :مزنة.

ـ خفاف بن ندبة رضي الله عنه:يقع في مسجد السنجقدار مقابل قلعة دمشق، مع ثلاثة صحابة في غرفة واحدة،مع العباس بن مرداس رضي الله عنه ،وروق بن دثار رضي الله عنه. ويوجد أيضاً قبر لإحدى الصالحات في المسجد أيضاً

(كلمة السنجق دار:تركية معناها حامل الراية)

ـ حرملة بن وائل:يقع في الصالحية،في جامع الشهداء،وهم ثلاثة من الصحابة:جابر بن مسعود.وأخوه مساعد،وهم ثلاثة أخوة لأم.

ـ عبد الله بن سلام:يقع قبره في غوطة دمشق  في مدينة سقبا البلد،ويقال أيضاً أنه دفن في المدينة النورة،وتوفي سنة 43هجري.

ـ حرملة بن زيد: الصحابي الأنصاري ،فاز بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال له:”اللهم اجعل له لساناً صادقاً وقلباً شاكرا”[ رواه ابن الطبراني من حديث ابن عمر وقال الحافظ ابن حجر وإسناده لابأس به]يقع قبره في مدينة جوبر وفيها مسجد سُمي باسمه.

ـ مدرك بن زياد الفزاري:دفن في قرية من غوطة دمشق تسمى راوية،وبها أيضاً قبر السيدة أم كلثوم.وقيل بل في قرية حجيرا من قرى غوطة دمشق.

ـ دَحية بن خليفة الكلبي رضي الله عنه:صحابي جليل كان جبريل عليه السلام ينزل أحياناً في صورته.وكان يضرب به المثل في حسن الصورة.وكان رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيصر،وقد نزل دمشق وسكن المزة وعاش إلى خلافة معاوية.

يقع قبره  في منطقة الشيخ سعد في المزة.

ـ محمد بن الحنفية رضي الله عنه:وهو أخو الحسن والحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم وأمه خولة بنت جعفر.وتوفي في سنة 66 هجري وقيل قبره في منطقة المزة قرب دمشق.

ـ أبو ثعلبة الخشني رضي الله عنه:يقع قبره في داريا في مقبرة خلف جامع أبو مسلم الخولاني.وقد قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى خيبر فشهدها معه وتوفي بالشام سنة 75هجري.

ـ أبو ادريس الخولاني  عائذ الله بن عبد الله الدمشقي:وهو تابعي وفقيه وأحد رواة الحديث،أخذ العلم عن معاذ بن جبل،وكان قاضي دمشق في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان..توفي سنة 80هجري.دفن في داريا.

ـ أبو مسلم الخولاني:سيد العارفين،وكبار التابعين أصله من اليمن،،اسمه عبد الله بن ثُوَب،أسلم أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه لم يلتق به.

كان ريحانة الشام،حكيم الأمة.ومن كراماته أن الأسود العنسي ألقاه في النار ولم تضره.

 نزل داريا ،ومات في الشام في خلافة معاوية،ودفن بقرية داريا الكبرى.وقيل أنه نزل داريا ولم يدفن بها،بل ذاك ابن عمه أبو ادريس الخولاني،وأبو مسلم مات بالشغر من بلاد الروم.

ـ أبو سليمان الداراني:عبد الرحمن بن عطية ،الزاهد ،وله من المناقب السنية مما يدل على رفعة قدره وعظيم شأنه.

يقع قبره في داريا البلد،وتسّمت داريا باسمه.وتوفي سنة 285هجري.

ـ بلال الحبشي:بلال بن رباح،ابن حمامة،مولى أبي بكر الصيق ،أول مؤذن في الإسلام،أذن للرسول صلى الله عليه وسلم سفراً وحَضراً،خرج إلى الشام مجاهداً بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ،وتوفي في دمشق ودفن في مقبرة الباب الصغير حوالي 17 أو 20 للهجرة،ومايزال قبره معروفاً إلى اليوم تحت قبة عالية عُمّرت في العهد العثماني وعليه لوحة رخامية بالخط الكوفي من القرن الخامس الهجري.وقد تم تجديد التربة في العهد الأيوبي.

ـ معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه،مؤسس الدولة الأموية في الشام،وأحد صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم،وأحد كتبة الوحي.اشترك في الفتوحات مع أخيه يزيد بن أبي سفيان وأبلى بلاء حسناً,ينسب إليه فتح قيسارية أكبر مدن فلسطين عام 18 ـ 19 هجري.وولاه عمر الفاروق ولاية الشام بعد وفاة أخيه يزيد عام 18 هجري،وظل في ولايته حتى أصبح خليفة المسلمين بعد معركة صفين عام 48 هجري ،وتوفي بدمشق يوم الخميس في شهر رجب سنة 60 هجري على الصحيح،وهو ابن 82 سنة،وكان قد ادخر ليوم احتضاره ثوباً للنبي صلى الله عليه وسلم كان يلبسه على جلده،وقلامة من أظفاره وقصاصة من شعره،فقال لإبنه وهو يحتضر:إذا أنا مت فاجعل ذلك القميص دون كفني مما يلي جلدي وخذ ذلك الشعر والأظافر فاجعله في فمي وعلى عيني ومواضع السجود مني فإن نفع شىء فذاك ،وإلا فإن الله غفوررحيم،ثم تمثل محتضراً بهذا البيت:

فهل من خالد إما هلكنا      وهل بالموت يا للناس عار

أما قبره فقد اختلف الناس فيه فبعضهم يقول بأنه ضاع وزال إثر الانقلاب العباسي وانتقام بني العباس من الأمويين أحياءً وأمواتاً.إلا أن الثابت في المصادر العلمية والروايات التاريخية أن معاوية بن أبي سفيان دفن في مقبرة الباب الصغير.ويشاهد اليوم قبره ضمن غرفة صغيرة من الطين تقع في ركن المقبرة الجنوبي،وتلتصق بها قبور كثيرة . ومنها قبر الإمام نصر بن إبراهيم المقدسي الملاصق له .وقال الإمام النووي رحمه الله في تهذيب الأسماء واللغات:”وقبر الإمام المقدسي بباب الصغير بجنب قبر معاوية وأبي الدرداء رضي الله عنهم “.

سهل بن ربيع الأنصاري:الصحابي الأوسي،الشهير بابن الحنظلية.كان في بيعة الرضوان،وشهد المشاهد،وسكن دمشق،ومات بها في ابتداء خلافة معاوية.قال الهروي في كتابه”الزيارات”:إنه مدفون بمقبرة باب الصغير خارج دمشق.

ـ واثلة بن الأسقَع: بن كعب بن عامر،أسلم قبل تبوك وكان من أهل الصفة،خدم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين، ثم شهد فتح دمشق وحمص وغيرهما،وهو آخر من مات بدمشق من الصحابة(الإصابة في تمييز الصحابة).مات في خلافة عبد الملك بن مروان سنة ثلاث وثمانين للهجرة،وكان ابن مائة وخمسين سنة.وهو ممن أخذ عنه الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان،فإنه أخذ عن سبعة من الصحابة،ودفن بمقبرة باب الصغير.

ـ فَضالة بن عبيد الأنصاري الأوسي أبو محمد :أسلم قديماً وشهد أحداً فما بعدها ثم شهد فتح الشام ومصر وسكن الشام وولي قضاء دمشق لمعاوية بعد أبي الدرداء،وأمرّه على غزوة الروم في البحر. وتوفي سنة 53هجري(الإصابة في تمييز الصحابة).ودفن بباب الصغير عند أبي الدرداء .

عبد المطلب بن ربيعة القرشي الهاشمي:سكن المدينة ثم انتقل إلى الشام في خلافة عمر الفاروق رضي الله عنه ونزل دمشق وتوفي بها سنة 61هجري(الإصابة في تمييز الصحابة).

أوس بن أوس الثقفي:صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم،وكان من أهل الصفة وأهل الزهد،نزل دمشق ومات بها في خلافة عثمان ودفن بباب الصغير.قال النووي في التهذيب:”وهو تجاه المدرسة الصابونية،وعليه وقف،وعلى قبره جلالة وهيبة عظيمة”.

أويس القرني:بن عامر بن مالك،من أهل اليمن.أسلم في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم،ومنعه من القدوم عليه برّه بأمه،وقدم على الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.روي في بعض الأخبار أنه صلى الله عليه وسلم قال:”أويس خير التابعين بإحسان”.مات في خلافة عمر الفاروق،وقبره في مقبرة باب الصغير بدمشق.وهناك من يقول أنه دفن في العراق.

 ـ رجاء بن حيوة الكندي الشامي:شيخ أهل الشام وكان فاضلاً ثقة كثير العلم،وهو الذي أشار على سليمان بن عبد الملك باستخلاف عمر بن عبد العزيز وتوفي سنة 112هجري(تذكرة الحفاظ).

ـ الأوزاعي أبو عمرو بن عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي:شيخ الإسلام وكان إماماً فقيهاً حافظاً ومجاهداً،سكن في أواخر عمره مدينة بيروت مرابطاً فيها،وتوفي فيها ،ومن أقواله:”إذا أراد الله بقوم شراً فتح عليهم الجدل ومنعهم العمل” توفي سنة 157هجري(تذكرة الحفاظ).

أبو البيان بن محفوظ القرشي:من أبناء الطائفة البيانية،المنسوبة إليه بدمشق.كان إماماً عالماً عابداً ورعاً يعرف اللغة والنحو والفقه .مات سنة 555للهجرة،ودفن بباب الصغير.

ـ الوليد بن مسلم أبو العباس الأموي:الإمام الحافظ،عالم أهل دمشق،صنف التصانيف والتواريخ،وتوفي سنة 195هجري.

ـ أبو زُرعة الدمشقي عبد الرحمن بن عمرو النصري:الحافظ الثقة محدث الشام.توفي سنة 281هجري.

ـ مكحول الشامي أبو عبد الرحمن محمد بن عبد الله بن عبد السلام:الحافظ المحدث كان من الثقات العالمين بالحديث،توفي سنة 311هجري.دفن بمقبرة باب الصغير.

ـ تمّام الرازي بن محمد بن عبد الله بن جعفر أبو القاسم الدمشقي:الإمام الحافظ محدث الشام،كان عالماً بالحديث ومعرفة الرجال،توفي سنة 414هجري.

ـ صلاح الدين يوسف بن نجم الدين  الأيوبي رحمه الله،والملقب بالسلطان الناصر.توفي في قلعة دمشق عام 589 هجري ودفن بها ثلاث سنين ثم نقل جثمانه الطاهر إلى حيث هو اليوم في تربة بناها له أولاده بعد موته وبنوا إلى جوارها مدرسة سميت بالمدرسة العزيزية،بجوار الجدار اليساري من الجامع الأموي في حي الكلاسة، وقد تهدمت وبقيت التربة ذات القبة العالية .وضع لقبره ضريح عند وفاته من خشب الجوز مزين بالنقوش الهندسية المحفورة تحيط به آية الكرسي بخط كوفي،كما صنع له تابوت جديد من الرخام عام 1878م في عهد السلطان عبد الحميد العثماني.

ـ الملك العادل سيف الدين محمد أبو بكر بن أيوب،من أكبر شخصيات الدولة الأيوبية بعد أخيه صلاح الدين.اشترك معه في محاربة الإفرنج وإدارة البلاد.توفي سنة 615هجري في قلعة دمشق فدفن فيها ريثما تم بناء تربته في المدرسة العادلية(مقر المجمع العربي اليوم).

ـ الملك العادل نور الدين  محمود بن عماد الدين زنكي رحمه الله.كان حاكماً عادلاً مخلصاً لأمته وبلاده وقائداً بطلاً نذر نفسه للجهاد والدفاع عن بلاده ضد الصليبيين،وأشاد المؤرخون بأخلاقه ودينه وعدله وتواضعه وجهاده وحبّه للعلم والعلماء.

توفي عام 569 هجري وهو في التاسعة والخمسين من عمره.ونقل جثمانه إلى المدرسة النورية الواقعة في سوق الخياطين بدمشق.

وتربة السلطان نور الدين هي جزء من المدرسة النورية الكبرى الكائنة عند مدخل سوق الخياطين،وتعتبر من أهم أبنية دمشق التاريخية.

ـ الملوك الأيوبييون الأخر:

لم يمت في دمشق من أولاد صلاح الدين الأيوبي سوى الملك المنصور حسن الذي توفي في حياة أبيه سنة 575هجري وقبره معروف في التربة النجمية الكائنة في سوق صاروجة غربي المدرسة الشامية.

وفي دمشق من أولاد أخيه العادل ثلاثة ملوك:المعظم والأشرف والكامل.

أما المعظم:فهو عيسى بن العادل حارب الفرنج ثم خلف أباه في السلطنة ومات في قلعة دمشق سنة 624هجري ودفن بها ثم نقل إلى مدرسة له تعرف بالمعظمية في الصالحية،وقد تهدمت ودَرست.

وأما الكامل:فهو محمد بن الملك العادل مات سنة 635 هجري ودفن في القلعة ثم نقل إلى تربة أعدت له خلف جدار الجامع الأموي شرقي خانقاه السميساطية تعرف بالتربة الكاملية ولها باب من الجامع يؤدي إليها.

وأما الأشرف:فهو موسى بن الملك العادل مات سنة 635 هجري ودفن بتربة تعرف بالأشرفية كائنة شمالي الجامع الأموي بين المدرسة الجمقمقية والمدرسة العزيزية وقد تهدمت وأصبح في مكانها اليوم ملجأ ضد الغارات الجوية ولا يزال القبر ظاهراً.

ـ  السلطان الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري رحمه الله:أشهر سلاطين دولة المماليك وأول من وطد حكمهم في الشام بعد زوال دولة بني أيوب  بدخول جيش هولاكو دمشق.

بطل معركة عين جالوت.والتي أدت إلى طرد المغول من الشام وتوحيدها مع مصر من جديد.

تولى السلطنة عام 658 هجري بعد مقتل سلفه السلطان قطز.

توفي في دمشق سنة 676 هجري،في القصر الأبلق الذي كان يقطنه في دمشق حيث تقع التكية السليمانية اليوم،ودفن في المدرسة الظاهرية.وتعد أجمل تربة في دمشق وأغناها بالزخارف.

كيف مات السلطان الظاهر بيبرس رحمه الله؟

يقول الأستاذ أحمد رمزي بك في مقال له في مجلة الرسالة العدد 699:

“في ساعة بعد الزوال من يوم الخميس 17 المحرم سنة 676هجري الموافق تموز عام 1277م وفي حجرة من حجرات القصر الأبلق(مكانه اليوم التكية السليمانية)بمدينة دمشق فاضت روح الملك الظاهر أبو الفتوح بيبرس بعد مرض بسيط لم يمهله غير أيام معدودات.

وكان السلطان العظيم قد دخل دمشق على رأس جيشه الظافر عائداً من الجهاد عن طريق أنطاكية يحمل على جبينه غار النصر في آخر حملة قادها إلى أواسط آسيا الصغرى ودخل مدينة قيصرية وخطب باسمه على منابر أرض الروم بعد أن كسر التتار هناك وشتّت شملهم،وحرّر بلاد المسلمين من طغيانهم.

وفي ليلة وفاته كتب مؤلف سيرته القاضي محيى الدين بن عبد الظاهر:”قبض الله روحه الزكية فرجعت إلى ربّها راضية مرضية،وكأن نفوس العالم كانت نفساً،وأنزل الله السكينة فلا تسمع إلا همساً،واستصحب نهايته السكوت،وخادعت العقول نفسها بين مُصدّق ومُكذِّب،وسكتت الشفاه والألسنة،وتناومت النفوس من غير نوم ولا سنة،وأسدلت ستور المهابة،وأفرد بقاعة من القلعة يوماً إليه بالترحم والسلام،وكانت مدة مرضه قدس الله روحه ثلاثة عشر يوما،وهي مدة مرض الشهيد صلاح الدين رحمهما الله تعالى”.

ـ السلطان العادل كتبغا:

لم تعرف دمشق بعد السلطان الظاهر بيبرس سلطاناً أقام أو مات فيها،فقد استقر المماليك في القاهرة،ولم يقيموا في دمشق إلا أياماً أو يزوروها إلا لماماً،وكذلك سلاطين آل عثمان.سوى أن في المهاجرين مدرسة وتربة منسوبة إلى أحد سلاطين المماليك،هو الملك العادل زين الدين كتبغا،والذي يوجد قبره بسفح جبل قاسيون في الحديقة التي تضم ضريح عدنان المالكي.

ومن العلماء الذين ثبت وجود قبور لهم في مدينة دمشق نذكر:

ـ ابن تيمية رحمه الله:

هو تقي الدين أحمد بن تيمية الحرّاني ثم الدمشقي.لقب بشيخ الإسلام الفقيه العالم المجاهد ولد بحرّان سنة 661هجري وقدم مع والده وأهله إلى دمشق وهو صغير وتوفي بها سجيناً بقلعة دمشق من قبل السلطان المملوكي في أيام ولاية تنكز نائب الشام في 20 ذي القعدة سنة 728 هجري.

مات وفاضت روحه وهو يتمتم بالآية الكريمة:{إنَّ المُتقينَ في جنَّاتٍ ونَهَرٍ* في مَقعدِ صِدقٍ عندَ مليكٍ مُقتدر}[القمر 54 ـ 55]،فكانت نهاية ثمانين ختمة لكتاب الله بدأها عند دخوله سجن القلعة،وبدأ الحادية والثمانين فأسلم الروح وهو يتلو هذه الآية الكريمة.

يقول الأستاذ أحمد رمزي بك(مجلة الرسالة العدد 486):

“في سحر ذلك اليوم نعى المؤذن بمنارة قلعة دمشق شيخ الإسلام وتناقل نداء ذلك الحراس على أبراجها فأذاعته المآذن من الجوامع والمساجد الأخرى،فأصبح الناس في اليوم التالي وقد سرى هذا النبأ بينهم،وغمرت المدينة موجة حزن وأسف عندما سمعوا بنبأ هذا الخطب الجسيم الذي أصابهم بفقدان العالم الإمام المجاهد الفقيه الحافظ الزاهد العابد القدوة شيخ الإسلام تقي الدين أحمد ابن تيمية.

ويطنب المؤرخون في وصف ذلك اليوم وكيف تلقى الناس أخباره،وكيف ساروا في جنازة الشيخ عشرات الآلاف،وكيف اقتحموا باب القلعة ودخلوا زرافات على الشيخ يقبلون وجهه،وكيف امتلأت أرجاء قلعة دمشق وضجّ الناس بالبكاء والنحيب عليه والثناء والدعاء والترحم له.

فقالوا إن يوم جنازة ابن تيمية كان يوماً مشهوداً لم تر مثله دمشق في تاريخها،إلا أن يكون ذلك في أيام بني أمية حينما كانت قلب العالم المتمدن.

ولما أريد الصلاة عليه بجامع بني أمية خفت الجماعات إليه حتى امتلأت الرحبات والصحن وجىء بالجند لحراسة النعش،ولما صُلي عليه صاح صائح يقول:هكذا تكون جنائز أهل السنة.

وخرجت جنازته من باب الجامع إلى مقابر الصوفية بباب الفراديس وباب النصر وباب الجابية والقوم حولها خاشعون.

وقد احتفل أهل دمشق بجنازته احتفالاً لا يحظى به إلا العظماء القلائل.وصلي عليه في الجامع الأموي وأخرجت جنازته من باب البريد فلم يتمكن الناس من الخروج وراءها فتوزعوا على أبواب الجامع وضاقت بهم الطرقات ،وقبره في مقبرة الصوفية،في حديقة تقع خلف دار التوليد بفناء الجامعة السورية..

ابن قيّم الجوزية:قال ابن رجب في “طبقاته”:هو محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي،ثم الدمشقي،الفقيه الأصولي،النحوي المفسر،المفنّن في علوم كثيرة،لا يُجارى،وكان له عبادة وتهجد وطول صلاة إلى الغاية،وإفتقار،وانكسار.له مصنفات كثيرة في فنون عديدة،مات سنة 751هجري،ودفن بمقبرة باب الصغير،تجاه المدرسة الصابونية،وبُني على قبره قبة.

ابن رجب الحنبلي:شيخ الحنابلة والمحدثين،هو زين الدين رجب،الإمام الأصولي،المحدث الفقيه،الواعظ،كان إماماً في الفنون،أجمع أهل عصره على علومه وديانته والوقوف مع السنّة الشريفة،وله مصنفات كثيرة.ودفن بباب الصغير عند قبر معاوية.

ـ محيى الدين النووي أبو زكريا يحيى بن شرف الحزامي الشافعي:الإمام الحافظ القدوة شيخ الإسلام وصاحب التصانيف النافعة،ومنها الأربعين النووية،ورياض الصالحين…توفي سنة 676هجري.

ابن عساكر:

جاء في مقال للأستاذ أحمد أحمد بدوي في مجلة الرسالة العدد 861 عن ابن عساكر ما يلي:

“هو أبو القاسم علي ابن الحسن بن هبة الله،المشهور بابن عساكر.

ولد بدمشق في أوائل عصر الحروب الصليبية أول المحرم سنة تسع وتسعين وأربعمائة،(إيلول سنة 1105م)،وتلقى ثقافته الأولى في الفقه والحديث بدمشق،فأخذ فيها عن جماعة،ومنهم والده،وأخوه ضياء الدين.

وأصبح من كبار فقهاء الشافعية متفرداً في الحديث وعلومه.وقضى أكثر من أربعين عاماً في الجمع والتصنيف والمطالعة،وانتهت إليه الرياسة في الحفظ والإتقان والمعرفة التامة بعلوم الحديث والتفقه فيه،وحسن التصنيف والتجويد.

وقد عرف له سلطانا عصره مكانته،أما نور الدين الشهيد فقد بنى له دار الحديث بدمشق،ووكّل إليه أمرها،وكان ابن عساكر يضمر لنور الدين كل الحبّ والإعجاب،قال عنه في مقدمة كتابه”تاريخ دمشق”:ورقي خبر جمعي له إلى حضرة الملم القمقام،الكامل العادل،الزاهد المجاهد،المرابط الهمام أبي القاسم محمود بن زنكي بن آق سنقر،ناصر الإمام،أدام الله ظل دولته على كافة الأنام،وأبقاه مسلماً من الأسواء،منصور الأعلام،منتقماً من عداة المسلمين الكفرة والطغام،معظماً لحملة الدين بإظهار الإكرام لهم والاحترام،منعماً عليهم بإدرار الإحسان إليهم والإنعام،عافياً عن ذنوب ذوي الإساءات والإجرام،بانياً للمساجد والمدارس والأسوار،ومكاتب الأيتام،راضياً بأخذ الحلال ورافضاً لاكتساب الحطام،آمراً بالمعروف زاجراً عن ارتكاب الحرام،ناصراً للملهوف،وقاهراً للظالم العسوف الانتقام،قامعاً لأرباب البدع بالإبعاد لهم والإرغام،خالعاً لقلوب الكفرة بالجرأة عليهم والإقدام”.

وأما صلاح الدين الأيوبي فكان يقدر ابن عساكر عظيم التقدير،ولما مات الحافظ حضر السلطان صلاح الدين الصلاة عليه ومشى في جنازته.وكانت وفاته ليلة الاثنين الحادي والعشرين من رجب سنة إحدى وسبعين وخمسمائة.

أما آثاره العلمية فعدد ضخم،في الحديث والتاريخ والأدب.

وأشهر كتبه التاريخية تاريخ دمشق،في ثمانين مجلداً،وهو من أعظم المفاخر في التاريخ،وأورد فيه تراجم الأعيان،والرواة،والمحدثين والحفاظ،وسائر أهل السياسة والعلم من صدر الإسلام إلى أيامه ممن سكن دمشق،أو نزلها.

وعنى العلماء بهذا الكتاب فمنهم من جعل له ذيولاً،ومنهم ذيل القاسم ولد المصنف،ومنهم من اختصره:كابن شامة،وابن منظور صاحب لسان العرب.

قال فيه الإمام النووي رحمهما الله:”هو حافظ الشام بل حافظ الدنيا،الإمام الثقة الثبت”.

توفي ابن عساكر رحمه الله سنة 571هجري.

محيى الدين بن عربي:

أبو بكر علي الحاتمي الطائي الأندلسي المشهور بابن عربي،ولد بمرسية في الأندلس عام 560 هجري وساح في البلاد ومات في دمشق سنة 638 هجري،وضع عدة مؤلفات في التصوف جعلته من أئمة المتصوفين والفلاسفة الإلهيين،واختلف الناس فيه فبعضهم من أنكر عليه فلسفته وسَفهها، ومنهم من رفعه إلى مرتبة الأولياء.وقبره مشهور في الصالحية له مزار وقبة أمر ببنائها وبناء جامع إلى جانبها السلطان سليم الأول سنة 933 هجري،وتضم تربته قبور عدة أشخاص منهم الأمير عبد القادر الجزائري،الذي نقلت رفاته بعد ذلك إلى الجزائر.

الشيخ أرسلان بن يعقوب:بن عبد الرحمن الجعبري،من قلعة جعبر،ثم الدمشقي.وأرسلان معناه بالتركية:أسد.كان زاهداً عابداً،قدوة،من أكابر مشايخ الشام وأعيانها العارفين،صاحب أنفاس صادقة،وكرامات خارقة،واتفقت على ولايته واعتقاده جميع أهل الملل والنحل والأديان.ورسالته المشهورة المشتملة على الأسرار الإلهية،والمعارف الربانية،مُفصحة بعلو شأنه،ورسوخ قدمه في علومه وعرفانه،وقد شرحها الشيخ عبد الغني النابلسي.كان يتعبد في مسجد صغير بجوار بيته داخل باب توما،وهو المعروف الآن بمقامه،وحفر بئره بيده،وكان الناس يشربون منه لبركته.وقد وسع نور الدين الشهيد مسجده وبنى له منارة ووقف عليه.

مات رضي الله عنه بعد الأربعين وخمسمائة،ودفن بتربته المعروفة خارج باب توما.(حدائق الإنعام في فضائل أهل الشام)

ـ عبد الغني المقدسي بن عبد الواحد تقي الدين أبو محمد الجُمّاعيلي الدمشقي:صاحب التصانيف،الحافظ الإمام محدث الإسلام،وكان يسمى أمير المؤمنين في الحديث،توفي سنة 600 هجري.

ـ ابن الصلاح الشهرزوري تقي الدين أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن الكردي الشافعي:الإمام الحافظ المفتي شيخ الإسلام صاحب كتاب علوم الحديث المشهور بمقدمة ابن الصلاح،وتوفي سنة 643هجري.ودفن بمقابر الصوفية.

ـ أبو الحجاج المزِّي جمال الدين يوسف بن عبد الرحمن القضاعي ثم الكلبي الدمشقي الشافعي:الإمام العالم الحافظ محدث الشام ،وتوفي سنة 742هجري.ودفن بمقابر الصوفية غربي قبر ابن تيمية.

ـ الحافظ المؤرخ شهاب الدين أبي محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة(لوجود شامة كبيرة فوق حاجبه الايسر) مقدسي الاصل،دمشقي المولد،ولد سنة 599هجري الموافق 1202م وولّي مشيخة دار الحديث الأشرفية،ومات سنة 665هجري الموافق 1267م ،ويوجد ضريحه في منزل سكني دمشقي بشارع الأموي لصيق مقبرة الدحداح عند طرفها الجنوبي الشرقي.

الحافظ الذهبي:شمس الدين محمد بن قايماز،صاحب التاريخ المشهور،سمع من خلائق يزيدون على ألف ومائتين،وأخذ الفقه عن الكمال الزملكاني وابن قاضي شهبة،وأتقن فن الحديث والقراءات،وصنف المصنفات الكثيرة مع الدين والورع والزهد.قال الإمام السبكي:”هو محدّث العصر،خاتمة الحفّاظ،حامل راية أهل السنّة والجماعة،إمام عصره حفظاً ولإتقاناً.مات سنة 748هجري ودفن بباب الصغير.

بن أبي عصرون:قاضي القضاة عبد الله محمد بن هبة الله بن أبي عصرون،شرف الدين التميمي الدمشقي،كان إمام الشافعية في عصره،ومن أكبر تلامذته الفخر ابن عساكر.مات سنة 585هجري ودفن بمدرسته المعروفة به قرب قلعة دمشق.

أبو عبد الله بن مالك صاحب الألفية:وهو جمال الدين محمد بن عبد الله ابن مالك،الإمام،العلامة،النحوي.ولد سنة 600هجري وأقام بدمشق يصنف ويشتغل بالجامع والتربة العادلية،ودفن في سفح جبل قاسيون بتربة القاضي عز الدين ابن الصايغ.أخذ عنه الشيخ محيى الدين بن عربي،والشيخ محيى الدين النوي.مات بدمشق سنة 672هجري .

وأما ماذكرته بعض المراجع أن الصحابة التالية أسمائهم دفنوا في الشام فهذا خطا ولم يثبت ومنهم:

ـ صهيب الرومي رضي الله عنه:توفي في المدينة المنورة في شوال سنة 38 هجري ودفن في البقيع بعد أن صلى عليه سعد بن أبي وقاص.

ـ أبي بن كعب رضي الله عنه:مات في المدينة المنورة والراجح سنة 30 هجري.

ـ ضرار بن الأزور رضي الله عنه:أحد أبطال حروب الردة تحت قيادة خالد بن الوليد وقتل في هذه الحروب في اليمامة كما يذكر بعض المؤرخين أو في أجنادين أو في الكوفة كما يذكر البعض الآخر.

يقع ضريحه في بلدة دير علا في منطقة الأغوار الوسطى شمال غرب الأردن،وهو عبارة عن مسجد حديث .

ـ أبو هريرة رضي الله عنه:كانت وفاة أبو هريرة رضي الله عنه في وادي العقيق وحمل بعدها إلى المدينة،حيث صلى عليه الوليد بن عتبة أمير المدينة المنورة.

ـ معاذ بن جبل رضي الله عنه:يوجد مقام وضريح معاذ بن جبل في منطقة الشونة الشمالية في الأغوار الشمالية،شمال غرب الأردن،ويوجد معه أيضاً ضريح آخر لولده عبد الرحمن بن معاذ بن جبل.

ـ عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما:دفن في مكة المكرمة سنة 53 هجري.

 ـ أبو موسى الأشعري رضي الله عنه:على الأرجح كانت وفاته في سنة 44 هجري.وقيل دفن بالقرب من الكوفة،وقيل مات بمكة.

ـ المقداد بن عمرو ويقال أيضاً بن الأسود:توفي سنة 33 هجري ودفن في البقيع وصلى عليه عثمان بن عفان رضي الله عنه.

ـ أم حبيبة وأم سلمة أو غيرهما من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فلا يوجد قبور لهم في دمشق.وإن كان الأستاذ عبد القادر الريحاوي في مقاله “قبور العظماء في دمشق” يذكر أن ابن عساكر نقل عن ابن الأكفاني خبر مشاهدة هذا الأخير قبرها في مقبرة الباب الصغير وذلك في القرن الخامس الهجري.

أبو ذر الغفاري رضي الله عنه:توفي سنة 32 هجري وقبره في الربذة.

أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه:يوجد قبره في بلدة دير علا في الأغوار الوسطى شمال غرب الأردن.

شرحبيل بن حسنة:أحد أمراء جيش الفتح الذين قدموا إلى الشام مع أبي عبيدة ابن الجراح،مات في طاعون عمواس عام 18 هجري،وعمواس قرية بين الرملة والقدس في فلسطين حيث دفن أبو عبيدة،ولا تشير رواية إلى مكان قبره وأول من ذكر أن قبره في دمشق صاحب كتاب تحفة الأنام أمين البصروي من القرن العاشر الهجري،وضريحه وضريح خولة بنت الأزور التي لم يتأكد وصولها إلى دمشق موجودان ضمن تربة واحدة يحويها مسجد بني عام 909 هجري خارج باب توما.

سكينة بنت الحسين:

توفيت في المدينة المنورة كما تذكر أكثر الروايات ولكن لها قبراً فخماً في مقبرة الباب الصغير عليه قبة فخمة ويرجح أنه من صنع العصر الفاطمي.

فاطمة بنت الحسين:

لها قبر في مقبرة الباب الصغير وعليه قبة وضريح،وعليه كتابة بخط عريض:”هذا قبر فاطمة ابنة أحمد بن الحسين بن السبطي توفيت في رجب سنة 439 هجري ومعنى ذلك بأن صاحبة القبر ليسن بنت الحسين رضي الله عنه كما يظن عامة الناس.

زينب الصغرى بنت علي بن أبي طالب:

وتلقب بأم كلثوم ولها قبران في دمشق :

الأول في قرية راوية المعروفة حالياً بالست زينب والواقعة إلى الجنوب الشرقي من دمشق على بعد عدة كيلومترات.وهو مزار شهير .

والثاني:مقبرة في الباب الصغير فيه قبة خاصة تضمه إلى مقام الست سكينة.

ويقول الأستاذ عبد القادر الريحاوي(مقال في أحد أعداد مجلة المجمع العربي بدمشق بعنوان:قبور العظماء في دمشق):ونحن لا نعتقد بصحة نسبة هذين القبرين إلى زينب بنت علي ابن أبي طالب رضي الله عنه لأن هذه ماتت في المدينة كما يقول المؤرخ عز الدين بن شداد.

مشهد الحسين:

استشهد وهو في طريقه إلى الكوفة في معركة كربلاء سنة 61 هجري ونقل رأسه إلى دمشق إلى الخليفة يزيد ابن معاوية.ويوجد للحسين مزارات كثيرة يطلق عليها اسم مشهد تشير إلى قبره،ولعل الأصح أن تعتبر نصباً تذكارية(عبد القادر الريحاوي) لأنه لا يعقل أن يدفن رأس الحسين أو جثته في عدة بلدان.له مشهد شهير في كربلاء حيث استشهد ،كما أن له مشهداً في جامع بني أمية في دمشق،في مكان يطلق عليه اسم مشهد الحسين حالياً وقد أطلق عليه في القديم مشهد علي،وكذلك مشهد زين العابدين ابن الحسين وله مشهد آخر في القاهرة.وتؤكد المصادر بأن رأس الحسين نقل إلى دمشق ولكنها لا تشير إلى مكان دفنه،ثم تذكر بعض الروايات التاريخية حادثة نقل رأسه من دمشق إلى المدينة في عهد يزيد وبعضها يذكر أنه نقل في العهد العباسي،ويذكر البعض الآخر قصة نقله إلى القاهرة في العهد الفاطمي.

الست رقية:

في داخل باب الفراديس مسجد صغير فيه قبة يرجع عهد بنائها إلى العصر الأيوبي تضم ضريحاً عليه قفص معدني جميل أهدي إليها من قبل الحكومة الباكستانية ويظن الناس بأن هذا القبر لرقية بنت الرسول صلى الله عليه وسلم.ولكن هذه ماتت في المدينة وقبرها هناك،فنسبة هذا القبر لها خطأ ولعله لواحدة من سلالة سيدنا علي وقد اهتم به الشيعة وجعلوه مسجداً ومزاراً كبيراً.

وسئل الإمام ابن تيمية رحمه الله عن صحة دفن ثلاثمائة نبي بجامع بني أمية فأجاب:”لم يثبت أن فيه عدد الأنبياء المذكورين”.

الشاميون والتاريخ

يذكر الأستاذ محمد كرد علي رحمه الله في مقاله “الشاميون والتاريخ”مايلي:

“يعد أول من دوّن التاريخ في الشام أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه،فإنه استدعى من اليمن أيام خلافته عَبيد بن شَرية الجرهمي ليحدثه بأحاديث العرب وأيامها وأمر أن يكتب عنه كل ما يقول.كما أتى بأمد بن أبد الحضرمي من اليمن أيضاً يقص عليه أخبار ملوك العرب والعجم،فكان ذلك أول تدوين للتاريخ في الإسلام بالشام.

وفي القرن الثاني اشتدت العناية بالتدوين كثيراً.وممن أثر عنهم أنهم كتبوا في التاريخ عبد الرحمن ابن عمرو الأوزاعي البيروتي(المتوفى سنة 157هجري)نقلت عنه رسائل سياسية وغيرها وكان مع فقهه وانتشار مذهبه في الأقطار يعد كاتباً لا يجارى.

واشتهر في هذا القرن الوليد بن مسلم  الأموي عالم أهل دمشق صنف التصانيف والتواريخ.وكان بارعاً في حفظ المغازي .كما اشتهر مكحول عالم أهل الشام واسمه أبو عبد الله ابن مسلم الهذلي.

ونبغ في القرن الثالث محمد بن عائذ صاحب المغازي والفتوح والصوائف.وكذلك محمود بن سميع صاحب الطبقات.واشتهر أبو مسهر عبد الأعلى الغساني الدمشقي بمعرفة أيام الناس وأنساب الشاميين.

وفي القرن الرابع قام الحافظ شمس الدين أبو الحجاج يوسف الدمشقي وله تاريخ وجاء في هذا القرن المطهر بن طاهر المقدسي صاحب البدء والتاريخ المطبوع.

ومن مؤرخي القرن الخامس أبو الخير مبارك ابن شرارة الطبيب الكاتب الحلبي النصراني وله تاريخ حلب .

ومفخرة مؤرخي الشام في القرن السادس الهجري الحافظ ابن عساكر فإنه وضع تاريخ دمشق في ثماني مائة جزء تدخل في ثمانين مجلدة وذيل عليه ولده القاسم ولم يكمل،وذيل عليه صدر الدين البكري وعم بن الحاجب.ومن هذا القرن بدأت العادة بأن يذيل الخلف على ما وضعه السلف من التواريخ.ولتاريخ ابن عساكر مختصرات منها ما اختصره أبو شامة الدمشقي .وممن اختصر تاريخ ابن عساكر القاضي جمال الدين محمد بن مكرم صاحب لسان العرب والذهبي والعيني وانتقى منه السيوطي وغيره.

وكثر في القرن السابع عدد المؤرخين فقام فيه عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي ثم الدمشقي المعروف بأبي شامة وكتب كتاب الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية  وذيل عليه أبو بكر بن قاضي شهبة.

وقام في القرن السابع أيضاً ابن أبي أصيبعة الدمشقي فكتب طبقات الأطباء.وقام في حلب ابن القفطي فكتب أخبار الحكماء.ونبغ أيضاً جمال الدين بن واصل الحموي وله كتاب مفرج الكروب في دولة بني أيوب،ولأحمد بن لإبراهيم الحنبلي كتاب اسمه شفاء القلوب في مناقب بني أيوب،ومن المؤرخين فيه شهاب الدين بنى أبي الدم الحموي له التاريخ المظفري في الملة الإسلامية.والحافظ النووي وله طبقات الشافعية وتهذيب الأسماء واللغات.

ومن أقدر رجال التاريخ في هذا القرن ابن خلكان أحمد بن محمد بن إبراهيم صاحب وفيات الأعيان.

كان القرن الثامن للهجرة من أبرك العصور على التاريخ في الشام قام فيه جلة المؤرخين الذين لا يستغني اليوم أحد عما خطّته أناملهم ودونته في الصحف،منهم الحافظ الذهبي صاحب تاريخ الإسلام،وسير النبلاء،ودول الإسلام والمشتبه والعبر وقضاة دمشق وطبقات القراء.وذيل على العبر ابن شهبة .وجمع أبو الفرج بن الجوزي في المنتظم بين رجال الحديث والحوادث ،وعماد الدين بن كثير في البداية والنهاية.

وقام شيخ الإسلام أحمد بن تيمية الدمشقي وقل أن كتب لأحد مثله من الأعلام استخراج عبر التاريخ اللهم إلا أن يكون ابن حزم الأندلسي فإن كتبهما تنم عما رزقا من معرفة ثاقبة في التاريخ الديني والمدني.أما ابن خلدون فصاحب الشأن الأول في فلسفة التاريخ.

وفي هذا القرن كان محمد بن محمود بن اسحق المقدسي صاحب تاريخ القدس.وقام في هذا القرن أحمد بن فضل الله العمري الدمشقي صاحب مسالك الأبصار والتعريف بالمصطلح الشريف.ونبغ الصلاح الصفدي خليل بن أيبك صاحب الوافي بالوفيات.

ونبغ أيضاً الملك المؤيد اسماعيل صاحب حماة ومؤلف التاريخ المعروف ومحمد الأكمل بن مفلح ومحمد بن شاكر الكتبي.وكذلك أيضاً عمر بن الوردي وابن أبي العشائر.

وفي القرن التاسع ظهر أبو بكر أحمد بن قاضي شهبة صاحب الطبقات والحافظ أحمد بن علاء حجي الحسباني الدمشقي صاحب كتاب الدارس في أخبار المدارس.وقام ابن الجزري فكتب طبقات القراء،وأحمد بن عربشاه،والخليل بن جمال الدين الدمشقي ومحمود العيني،وأحمد المقدسي المشهور بابن زوجة أبي عذيبة صاحب تاريخ دول الأعيان،وأحمد بن حجر العسقلاني  صاحب الدرر الكامنة .

وجاء القرن العاشر فنبغ في دمشق يوسف بن عبد الهادي،وابن سكيكر الدمشقي ومحمد بن يوسف الباعوني.ونشأ بدر الدين الغزي المؤرخ في دمشق وعبد الرحمن ابن فرفور الدمشقي ورضي الدين الحنبلي،ومن أعظم مؤرخي دمشق في هذه الحقبة ابن طولون الصالحي كتب كتاباً سماه ذيل التمتع بالأقران وذخائر القصر في تراجم نبلاء العصر.وكذلك جاء ابن سباط.وختم هذا القرن بالمؤرخ شرف الدين موسى بن يوسف بن أيوب الدمشقي القاضي.

وفي القرن الحادي عشر ظهر النجم محمد الغزي صاحب الكواكب السائرة في أعيان المئة  العاشرة،وأحمد بن سنان القرماني،والحسن البوريني وأحمد الصفوري وابن العماد صاحب شذرات الذهب المطبوع..

وفي القرن الثاني عشر ظهر محمد أمين المحبي صاحب خلاصة الأثر في تراجم أهل القرن الحادي عشر،والدويهي ومحمد الغزي المؤرخ النسابة .

وفي القرن الثالث عشر كان المرادي صاحب سلك الدرر والشدياق صاحب أخبار الأعيان وكمال الدين الصمادي وكمال الدين الغزي صاحب التذكرة الكمالية.

حقائق تاريخية عن دمشق وحضارتها

جاء في محاضرة ألقاها الأستاذ عيسى اسكندر معلوف  في مجمع اللغة العربية في دمشق عام 1920 مايلي:

إن قطر الشّام العزيز منسوب إلى “سام”ابن نوح فقيل في اسمه الشام لان السين والشين تتبادلان في اللغات الشرقية الشقائق.ولما اشتهر بثغره الذي كان مدينة صور(صخر) سمي سورية نسبة إليها.وقيل أن اليونانيين افتتحوه فرأوا الأشوريين يتولون شؤونه فنسبوه إليهم وقالوا(أشورية) ثم حذفت الهمزة وأبدلت الشين سيناً فقيل فيها(سورية) وأول من ذكرها بهذا الأسم هيرودوتوس المؤرخ اليوناني وبقي الإسمان متعاقبين إلى يومنا.على أن الشام أكثر استعمالاً لقدمها والإفرنج يستعملون الثاني منهما.

وكانت سورية تقسم بحسب موقعها الطبيعي إلى ثلاثة اقسام:

! ـ سوريا الشمالية:وهي تبتدىء من جبال طوروس شمالاً وتنتهي عند مدخل حماة جنوباً ومن أمهات مدنها أنطاكية وحلب وحماة.

2 ـ سوريا المتوسطى أو وادي سورية وهذه تبتدىء من مدخل حماة شمالاً وتنتهي جنوبي صور جنوباً ومن أمهات مدنها الداخلية:دمشق وتدمر وبعلبك وحمص.ومن أمهاتها الساحلية:طرابلس وجبيل وبيروت وصيدا وصور.

3 ـ سورية الجنوبية:وهي ما بقي من سورية ويدخل فيها فلسطين وتمتد من مياه الحولة شمالاً إلى العريش جنوباً ومن مدنها الداخلية القدس الشريف والخليل والناصرة وطبرية ونابلس ومن الساحلية عكا وحيفا ويافا وغزة والعريش.

ومعدل طول هذه البلاد جمعاء من الشمال إلى الجنوب نحو سبع مائة كيلومتر،وعرضها من الغرب إلى الشرق نحو أربع مائة وخمسين، فيكون مجموع مساحتها حوالي 110 أميال مربعة.

وقيل لسكان هذا القطر الآراميون تغليباً،نسبة إلى آرام وهو ابن سام ابن نوح الذي اشتهرت فيه قبائله،ولا سيما أنها كانت آخر سكانه القدماء عند فتح اليونانيين،ولكن اليونانيين والرومانيين سموا البلاد سورية.والعرب جاروهم بذلك ثم غلبوا اسم الشام.

ومما يؤثر عن الملك هرقل أنه بعد أن فتح المسلمون البلاد في عهد عمر الفاروق رضي الله عنه قال وهو متوجه إلى القسطنطينية:كوني بسلام يا سورية.وكانت عاصمتها منذ القديم دمشق.

لمحة تاريخية عن سورية:

تبلغ مساحة سورية حوالي 185180 كيلومتر مربع.وتقع سورية في الجزء الغربي لقارة آسيا شرق البحر الأبيض المتوسط،ويحدها لبنان وفلسطين والبحر المتوسط غرباً،والأردن جنوباً،وتركيا شمالاً والعراق شرقاً.

تبلغ حدود سوريا الكلية حوالي 2253 كم،منها 605 كم مع العراق،و76كم مع فلسطين و275كم مع الاردن و375كم مع لبنان،و822 كم مع تركيا.

يبلغ طول الشريط الساحلي:193كم.

أهم الأنهار:الفرات(676كم) والعاصي ونهر بردى.

يعتقد علماء الآثار أن دمشق تعود إلى مئات ألوف السنين حيث كانت منطقة دمشق مغمورة ببحيرة كبيرة،ولهذا بدأ الإنسان منذ عصور ما قبل التاريخ بالاستقرار على التلال المحيطة بهذه البحيرة وبحوضي نهري بردى والأعوج.

وقد أكدت الحفريات الأثرية وجود آثار من العصر الحجري في التلال المحيطة للمدينة مثل:تل أسود وتل الغريقة ويقعان جنوبي بحيرة العتيبة وتل الرماد في طريق سعسع.

وتؤيد الوثائق الفرعونية التي عثر عليها في تل العمارنة على وجود دمشق قبل العهد الآرامي وورد اسمها”دمشقاً”.

وتدل الآثار على أن منطقة سورية قد سكنت منذ زمن طويل جداً وأقدم أثر للسكان يعود للفترة ما بين 2500 و2200 قبل الميلاد،حيث سكنها العمرانيون والكنعانيون حوالي الألف الثالث قبل الميلاد.

ولقد كانت دمشق في العصر البرونزي تحمل اسم مملكة آبوم(أو آبي وتعني القصب الكثيف) وكانت مدينة مسورة تتمتع بأهمية اقتصادية وسياسية،مما عرضها للغزو الآشوري والفرعوني عدة مرات.ووطدت سيادة مصر على سورية في عهد تحوتمس الثالث(1490 ـ 1436 قبل الميلاد).

وفي حوالي 1800 قبل الميلاد حكم الآشوريين البلاد ثم استولى عليها حمورابي البابلي ثم استولى الحيثيين على شمال سوريا حوالي 1600 قبل الميلاد بينما أسس الهكسوس مملكة لهم في ميناني.

الآراميون:

وفي حوالي عام 2500 قبل الميلاد استولى الأرامييون(انطلقت قبائلهم من الجزيرة العربية،وهم أول الشعوب العربية القديمة التي هاجرت من شبه الجزيرة العربية باتجاه سوريا) على سوريا،وانتشروا في أواسطها وشمالها وشرقها. وأنشأوا عاصمتهم آرام (دمشق باللغة الآرامية )( أسسها القائد الآرامي رزون بن إليدع) .وأسسوا عدة ممالك أخرى ومن أشهرها:يمخاض وكانت عاصمة مدينة حلب ومن أشهر ملوكها يارم ليم وابنه حمورابي معاصر حمورابي ملك بابل،ومملكة آسين التي تأسست في بلاد ما بين النهرين.وكذلك كانت الدولة البابلية أمورية،أما مملكة ماري قرب البوكمال التي سكنها قبل عام 2500 قبل الميلاد أقدم أكادية سومرية وكانت حضارتها تشبه حضارة السومريين.وأخذ الأموريون حضارة السومريين والأكاديين.فازدهرت ماري ازدهاراً عظيماً وسيطرت على طرق المواصلات التي تصل الخليج العربي بسوريا والأناضول قرابة قرنين.ولكن حمورابي سيطر على جنوبي ما بين النهرين كله وسار بجيشه نحو ماري فأخضعها لحكمه ثم دمرها وأحرقها وأصبحت ركاماً من تراب.

واشتهر أيضاً من ملوكها:حدد إيداري وحزائيل .ولقد استطاع العالم سوفاجيه أن يحدد أبعاد آرام(دمشق) ضمن السور،وأن يرسم شوارعها والمعبد الآرامي والقصر الملكي في منطقة السماكة،وما زالت القرى المحيطة بدمشق تحمل اسمها القديم في العصر الآرامي.

يقول الدكتور عبد القادر الريحاوي(دمشق تراثها ومعالمها التاريخية):

“أقدم ما نعرفه عن تاريخ دمشق السياسي لا يرقى إلى أبعد من ألف عام قبل الميلاد يوم كانت عاصمة دولة صغيرة للآراميين.

والآراميون شعب قديم من تلك الشعوب التي خرجت من الجزيرة العربية على موجات متلاحقة،باحثة عن المجال الحيوي في بادية الشام وأطراف الهلال الخصيب.ولقد تعارف العلماء على تسميتهم بالشعوب السامية.

وتظهر دمشق على مسرح الأحداث في منطقة الشرق القديم،لأول مرة في التاريخ مع بداية العهد الآرامي،ولا بد أنها جذبت الإنسان الأول للإقامة على أرضها التي تتوفر فيها كل أسباب الحياة،من تربة خصبة ومياه غزيرة وإقليم معتدل وموقع ممتاز.فوجودها إذا قبل العهد الآرامي كان حقيقة واقعة تؤيدها الوثائق الفرعونية التي عثر عليها في تل العمارنة.فلقد ورد اسمها كثيراً في هذه الوثائق في عداد المدن التي فتحها تحوتمس الثالث في القرن الخامس عشر قبل الميلاد.والطريف في الأمر أن اسمها في هذه الوثائق ورد هكذا:”دمشقا”،وهو اسم لا يختلف مع ماودر في التوراة والوثائق الآشورية.غير أن الآراميين أطلقوا عليها اسم”دار ميسيق” التي تعني الأرض المسقية،ثم حور اليونان والرومان الاسم الآرامي إلى”داماسكس” بينما احتفظ العرب بالتسمية الأولى فأطلقوا عليها اسم”دمشق”.

ومن أهم مانعرفه من أخبار دمشق الآرامية نزاعها وحروبها الدائمة مع مملكة إسرائيل،وكيف أنها أصبحت أكثر منها قوة وغلبة بعد عهد النبي داود وسليمان من بعده،حتى اضطر ملوك إسرائيل مراراً إلى دفع جزية من الذهب والفضة لإرضاء ملوك دمشق،وكانوا يتقيدون بما يشترطه هؤلاء عليهم من تخفيض لقواتهم العسكرية واستعدادهم الحربي”.

الكنعانيون:

هاجر الكنعانيون مع الأموريين حوالي 2500 قبل الميلاد،ولكنهم استوطنوا سوريا الجنوبية،وانتشروا على طول الساحل الشمالي لسوريا.

وأطلق اليونانيون اسم فينيقيا المشتق من فينيقين أي الأحمر الأرجواني على القسم المتوسط والشمالي من ساحل سوريا كما أطلقوا اسم الفينيقيين على الكنعانيين سكان الساحل.

أسس الكنعانيون ممالك عدة مثل:حبرون،يبوس،بيسان،مدين عكو،صور،صيدون،بيروت،طرطوس.

ومن أهم مدن الفينيقيين مدينة أوغاريت(رأس شمرا) والذي تبين أنها كانت مركزاً تجارياً هاماً وفيها اكتشفت أبجدية يرجع عهدها إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد،مكتوبة بالمسمارية وتضم ثلاثين حرفاً.وكذلك مدينة جبيل(بيبلوس) وصيدون سيدة الساحل الفينيقي مابين 1500 ـ 1200 قبل الميلاد.ومدينة صورالتي أصبحت زعيمة المدن الفينيقية من 1000 ـ 500 قبل الميلاد،فكانت مراكبهم تجوب البحر الأحمر حتى وصلت إلى الهند وعادت محملة بالتوابل والذهب والأحجار الثمينة،ووصلوا في تجارتهم إلى انكلترا.وتفوق الفينيقيون في صناعة الزجاج والنسيج الصوفي والقطني وصباغة الأقمشة بالأرجوان وهم من أول الشعوب البحرية في التاريخ.

وهم الذين أسسوا مدينة قرطاجة في تونس حوالي عام 804 قبل الميلاد.

ويقول “ديورانت” عنهم في قصة الحضارة:”ربطوا الشرق بالغرب بشبكة من الروابط التجارية والثقافية وشرعوا ينتشلون أوروبا من براثن الهمجية”.

وفي عام 738 قبل الميلاد استولى الأشوريين على آرام(بيد الملك الآشوري تغلات فلازار)،وبقيت سوريا تحت حكم الآشوريين حتى مجىء الفرس بقيادة قورش(550 ـ 530 قبل الميلاد) والتي وسع حدودها ابنه قمبيز وكانت سوريا تعد الولاية الخامسة في دولة الفرس.

وفي عام 334 قبل الميلاد زحف الاسكندر المقدوني واجتاح آسيا الصغرى وأخضع سوريا الشمالية ودمشق لدولته.

الحكم  اليوناني

يقول الدكتور عبد القادر الريحاوي(المرجع السابق):

“مع وصول جيوش الاسكندر المكدوني إلى سورية،ينتهي الحكم الفارسي فيها،ويرتبط مصير دمشق بالغرب لفترة تدوم عشرة قرون،كانت فيها دمشق تابعة للسلوقيين،ثم للرومان،ثم للبيزنطيين.وتفقد دمشق أهميتها السياسية في هذه الحقبة الطويلة من الزمن فيتحول النشاط السياسي عنها إلى أنطاكية عاصمة الدولة الهلنستية السلوقية،ثم عاصمة مقاطعة المشرق في العهدين الروماني والبيزنطي.

وتميزت فترة الحكم الهلنستي من الناحية السياسية بالصراع الذي نشأ بين خلفاء الاسكندر إثر وفاته وتجزؤ امبراطوريته الواسعة.وقد حرم هذا الصراع دمشق الاستقرار وتناوبت عليها جيوش الاحتلال لتجعلها تابعة لأنطاكية السلوقيين تارة،ولاسكندرية البطالسة تارة أخرى”.

ضم الإسكندر الأكبر سوريا إلى امبراطوريته في عام 332 ـ 333 قبل الميلاد،وبنهاية القرن الرابع قبل الميلاد كانت تحت حكم أحد قواد الإسكندر وهو سلوقس الأول الذي أنشأ أنطاكية كعاصمة له.وفي العهد اليوناني ـالهلسنتي ـ  عرفت دمشق نوعاً من الإزدهار بسبب امتزاج عناصر الثقافة اليونانية مع حضارة الشرق وانتشرت لغة اليونان وثقافتهم وفنونهم.

وخلال أواخر العهد اليوناني السلوقي ازدهر في جنوب بلاد الشام دولة عربية هي دولة الأنباط وعاصمتها البتراء وامتد سلطانها على أراضي الأردن وحوران ووصل نفوذ ملوكها مرتين إلى دمشق وذلك عام 85 قبل الميلاد في عهد ملكهم الحارث الثالث،والثانية في عام 37 قبل الميلاد في أيام الحارث الرابع..

الحكم الروماني:

طويت صفحة العهد اليوناني في دمشق عام 64 قبل الميلاد عندما دخلتها جيوش الرومان،واحتلها الامبراطور الروماني بومبي الأكبر،ودخلت المسيحية إلى دمشق في القرن الأول للميلاد،وأصبحت فيما بعد مركزاً مسيحياً هاما،وعرفت نشوء قديسين مشهورين كالنبي يحيى والقديسين حنانيا وبولس الذين تحفظ لهم دمشق ذكريات باقية إلى اليوم.ً

وعرفت دمشق في هذا العهد نشاطاً تجارياً واسعاً مستفيدة من كونها محطة رئيسية على طريق القوافل،ومن اتساع الامبراطورية الرومانية.وأصبحت دمشق في عهد الامبراطور ادريان حاملة لقب(متروبول) أي مدينة رئيسية،ثم حملت لقب مستعمرة رومانية في عهد الامبراطور سيبتيم سيفير(وهو من أصل سوري)،ولمع من أبنائها مهندسون وقد وصلت شهرة أحدهم “أبو لودور الدمشقي” إلى روما،حيث قام ببناء بعض أوابدها الشهيرة مثل (فوروم تراجان) في روما،والجسر العظيم على نهر الدانوب.

وفي العصر الروماني أقيم معبد “جوبيتر” وآثاره مازالت موجودة بالقرب من الجامع الأموي.

بعد تقسيم المملكة الرومانية عام 395 ميلادي إلى الامبراطورية الرومانية في الغرب وعاصمتها روما،والامبراطورية البيزنطية في الشرق وعاصمتها القسطنطينية،وأصبحت دمشق مركزاً عسكرياً في مواجهة الفرس الساسانيين،كما غدت من أهم مراكز الدولة العربية التي قامت في بلاد الشام وهي دولة الغساسنة.وتكون الحروب سجالاً،وينتصر الساسانيون أحياناً فيحتلون سورية.وفعلاً فقد دخلوا دمشق عام 612م أيام كسرى الثاني فبقيت بأيديهم خمسة عشر عاماً،ثم ينتصر عليهم “هرقل” ويخرجهم منها في عام 726م.

ظلت سوريا مستعمرة بيزنطية لمدة تصل إلى 240 عام.

يقول الأستاذ العلامة محمد كرد علي رحمه الله(دمشق مدينة السحر والشعر):

“سقطت دمشق في أيدي النبطيين العرب في سنة 85 قبل الميلاد،فتحها الحارث النبطي،فكانت نبطية من سنة 37 إلى سنة 54م وظهر النفوذ العربي في ؤدمشق في عهد مبكر جداً ـ وهل النبط إلا عرب بأصولهم؟ وإذ كانت هذه المدينة تحت سلطان أهل الوبر لم يجعل منها الرومان عاصمة ولايتهم،بل جعلوا مدينة حمص قصبتهم،ولم تخضع دمشق خضوعاً تاماً لأمراء العرب الحاكمين في أرجائها،حتى ولا للغسانيين الذين كانوا عمالاً للروم ويرابطون في الجنوب والشمال والشرق،فتتقي دمشق بهم عادية الأعراب.

ولنا بذلك أن نقول :إن اللغة العربية انتشرت في دمشق وأرجائها قبل الفتح الإسلامي بزمن طويل،وسبق إلى نشرها الوثنيون من العرب،ثم مُتنصّرة العرب،وإلى هؤلاء يرجع الفضل في انتشارها،والفتح العربي مدين للمتنصرّة العرب لإنضمامهم إلى بني قومهم،وكانوا مع الروم يوم الفتح،فغلبت عليهم النّعرة الجنسية أكثر من النّعرة الدينية لما شاهدوا أعلام الدولة العربية الجديدة.

استولى الملك الفارسي الساساني خوسرو الأول على أنطاكية عام 570  قبل الميلاد كما هاجمها أيضاً خوسرو الثاني عام 606 وطرد منها عام 622 بواسطة هرقل،إلى أن فتحها العرب عام 636 ميلادية وضُمت إلى الخلافة الإسلامية،وعامل المسلمون السكان من المسيحيين واليهود معاملة كريمة وتركوا لهم حرية العقيدة،واستفاد من هذا التغير الكنيسة النسطورية واليعقوبية.

الخلافة الأموية والعهد العربي الإسلامي

تألق نجم دمشق عندما أصبحت عاصمة للدولة العربية الإسلامية الأموية المترامية الأطراف عام 41 هجري،الموافق 660 ميلادي،والتي امتد سلطانها من الصين شرقاً إلى بواتيه في جنوب شرق فرنسا.

يقول الأستاذ العلامة محمد كرد علي(دمشق مدينة السحر والشعر):

“تولى فتح دمشق كلٌّ من أبي عبيدة بن الجراح،وخالد بن الوليد،ويزيد بن أبي سفيان،من كبار الصحابة،حاصروها بعد وقعة اليرموك أعظم وقائع العرب في الشام،من الشرق والغرب،ففُتح نصفها عنوة والنصف الآخر صلحاً،فأجراها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب صلحاً كلها،وذلك سنة 14 هجري الموافق 636م،وقبل فتحها فتح خالد بن الوليد غوطتها ـ أي ضاحيتها ـ لما جاء من العراق مدداً لأهل الشام،وركز العقاب ـ راية الرسول صلى الله عليه وسلم ـ في أعلى الثنية،ثنية العقاب التي يقال لها اليوم الثنايا،وهو الجبل الهرمي المشرف على شمال دمشق،وقاتل بني غسان يوم فصحهم،فغلبهم على أمرهم.

وما كان الفاتحون بغرباء عن دمشق لصلاتهم التجارية بأهلها في الجاهلية،وامتزاجهم بساداتها من الروم،وكان أبو سفيان بن حرب شيخ بني أمية كثيراً ما يرحل إليها،وقد زارها في الجاهلية بعض قواد العرب وخلفائهم،فعرفوا مداخلها ومخارجها،وصادفوا من أهلها بعد الفتح موادعة،فعاملوهم معاملة ليس أحسن منها،ولما لحق الروم بعد سقوط دمشق بقومهم في آسيا الصغرى،وخلت بهزيمتهم بيوتهم،أسكن المسلمون فيها بعض رجالهم،وجعلوا في أسفلها المِلِّيين،وخصوا أعاليها بأبناء الذمة حتى لا يـاذوا بالمسلمين إذا نزلوا العلالي”.

حاصرت الجيوش العربية الإسلامية دمشق ودخلها من غربها أبو عبيدة بن الجراح ودخلها من شرقها خالد بن الوليد،ولم يصبها على أيدي مُحرريها الجدد أي خراب أو تدمير ولم يحدث فيها قتل أو إراقة دماء بين أبنائها وأقام الفاتحون مع أبناء المدينة في جو من التسامح والتعاون ندر مثيله في تاريخ الفتوح حتى كان المسلمون والمسيحيون يقيمون صلواتهم في معبد واحد كل منهم في جانب من جوانبه.

يقول العلامة محمد كرد علي(دمشق مدينة السحر والشعر):

“لما هلك أمير دمشق يزيد بن أبي سفيان وسُدّت الإمارة إلى شقيقه معاوية،فتولاها عشرين سنة أميراً،وعشرين سنة خليفة،وسُدت إليه الخلافة بعد وفاة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب،فوضع أساس مُلك بني أمية،وكان على غاية التسامح،عهد بوزارة ماليته إلى سرجون بن منصور من نصارى دمشق،ثم إلى ابنه من بعده،وكان بعض أطبائه من النصارى”.

أصبحت لدمشق في العهد الأموي مكانة ممتازة حيث غدت عاصمة للدولة العربية الإسلامية الفتية فتحولت على يد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه من مركز ولاية إلى عاصمة دولة كبرى لم تلبث أن وصل نفوذ حكامها إلى حدود الصين شرقاً وإلى مياه الأطلسي غرباً ويعتبر العهد الأموي العصر الذهبي لمدينة دمشق ،قامت فيها خلاله قصور الخلفاء وامتدت مساحة العمران وكان من أهم أبنيتها في هذا العهد جامع بني أمية الكبير الذي تم بناؤه في عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك.

وامتد هذا العهد الأموي حتى عام 132 هجري الموافق 750 ميلادي حيث تم القضاء على الخلافة الأموية وابتدأ العهد العباسي.

جاء في موسوعة السفير  في المعارف الإسلامية:

“الأمويون أو بنو أمية إحدى البطون المشهورة لقبيلة قريش،التي انتهت إليها السيادة بمكة منذ القرن الخامس الميلادي،وهم ينتسبون إلى “أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قُصَىِّ بن كلاب”،وهم بذلك يلتقون مع الرسول صلى الله عليه وسلم في “عبد مناف”.

وقد شهد عام الفتح(8هجري الموافق 629م) إسلام من ظل على كفره من الأمويين،فأسلم “أبو سفيان” وابناه معاوية ويزيد،وأسلم الحكم بن أبي العاص،ولم يُؤثر عن هؤلاء أنهم كادوا للإسلام بعد إسلامهم،بل أُثر أن أبا سفيان كان ممن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وقد شرّف رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بقوله عند فتح مكة:”من دخل دار أبي سفيان فهو آمن“،كما شرّف معاوية بأن جعله أحد كُتاب الوحي،واختار الخليفة أبو بكر الصديق يزيد بن أبي سفيان قائداً على أحد الجيوش التي أرسلها إلى الشام،.ولما توفي يزيد في طاعون عمواس سنة 18 هجري الموافق 639م ولّى عمر بن الخطاب معاوية ما كان يتولاه أخوه يزيد.وقد قام مروان بن الحكم بن أبي العاص بدور المستشار الأول للخليفة عثمان بن عفان كما كان موضع ثقته.

على أن الفضل الأول الذي قام به الأمويون في التاريخ الإسلامي يرجع إلى معاوية بن أبي سفيان،الذي برز نشاطه السياسي بعد توليه إمارة دمشق بعد وفاة أخيه يزيد في خلافة عمر بن الخطاب،ثم توليه إمارة الشام كله في خلافة عثمان بن عفان.

وبعد استشهاد علي بن أبي طالب على يد أحد أفراد فرقة الخوارج وهو عبد الرحمن بن ملجم،التف أهل العراق حول الحسن بن علي وبايعوه خليفة للمسلمين،في حين كان معاوية هو الخليفة عند أهل الشام.وقد رأى الحسن بن علي بحصافته وبعد نظره أن يحقن دماء المسلمين وأن يضع حداً لتلك الفتنة،فتنازل عن الخلافة لمعاوية سنة 41هجري الموافق 661م وهو العام المعروف بعام الجماعة.وقد كان لصنيع الحسن بن علي صدى كبير في صفوف الأمة الإسلامية،ويرى كثير من العلماء أن ما فعله الحسن هو ما أشار إليه الحديث الشريف:”إن ابني هذا سيّد،ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين“[رواه البخاري].

وبتنازل الحسن بن علي أصبح معاوية خليفة المسلمين بلا منازع،وبدأت بهذا التاريخ أي سنة 41هجري الموافق 661م الخلافة الأموية.

روى محمد بن سلام الجمحي صاحب الطبقات عن أبان بن عثمان قال:كان معاوية بمنى وهو غلام مع أمه فعثر فقالت له:قم لا رفعك الله،فقال لها أعرابي سمعها:لم تقولين له هذا؟والله إني لأراه يسود قومه،فقالت: لا رفعه الله إن لم يسد إلا قومه! وقد ساد قومه كما توسمت وهو فتى،فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قلّده إمارة الشام وهو في مقتبل عمره.

جاء في مقال للأستاذ محمد كرد علي في إحدى مجلات المجمع العربي بدمشق نقلاً عن محاضرة ألقاها في مدرج الجامعة السورية عام 1939م بعنوان”مميزات بني أمية”:

“يحدثنا المؤرخون أنه ما فتحت بلدة في الشام إلا وجد على أسوارها وفي أرباضها كثير من رجال بني أمية صرعى،لكثرة ما عانوا من الجهاد في فتحها.وتدرب يزيد ومعاوية من أبناء أبي سفيان في السياسة والإدارة،وكان معاوية كاتب الوحي،وكان عمر الفاروق إذا نظر إليه قال:هذا كسرى العرب.وعقد أبو بكر الصديق في خلافته ليزيد بن أبي سفيان،وكان يقال له يزيد الخير مع أمراء الجيوش إلى الشام وقال:إن اجتمعتم في كيد فيزيد على الناس،وإن تفرقتم فمن كانت الواقعة مما يلي عسكره فهو على أصحابه،وشيّعه الصديق راجلاً وهو راكب وجعل يوصيه،ولما مات يزيد في طاعون عمواس(سنة 18 هجري) وهو الطاعون الذي هلك به في الشام ألوف من الصحابة وغيرهم،ضمّ عمر بن الخطاب لمعاوية ما كان من عمل أخيه يزيد،وهو إمارة دمشق فصارت الشام لمعاوية.

تولى معاوية الشام أربعين سنة،عشرين سنة أميراً وعشرين سنة خليفة.

وجاء في الاستيعاب:قال عمر الفاروق إذ دخل الشام،ورأى معاوية:هذا كسرى العرب،وكان قد تلقاه معاوية في موكب عظيم،فلما دنا منه قال له:أنت صاحب الموكب العظيم؟ قال:نعم يا أمير المؤمنين.

قال عمر:مع ما يبلغني عنك من وقوف ذوي الحاجات.

قال معاوية:مع ما يبلغك من ذلك

قال عمر: ولم تفعل هذا؟

قال معاوية:نحن بأرض جواسيس العدو بها كثير،فيجب أن نظهر من عزّ السلطان ما نرهبهم به،فإن أمرتني فعلت،وإن نهيتني انتهيت.

قال عمر:ما أسألك عن شىء إلا تركتني في مثل رواجب الضرس،إن كان ما قلت حقاً إنه لرأي أريب،وإن كان باطلاً إنه لخدعة أديب!

فقال معاوية:فمرني يا أمير المؤمنين.

فقال عمر: لا آمرك ولا أنهاك،وكان يسمع تحاورهما عمرو بن العاص فقال:يا أمير المؤمنين،ما أحسن ما صدر الفتى عما أوردته فيه

فقال عمر:لحسن مصادره وموارده جشمناه ما جشمناه!

وما حاد معاوية عن الأصول التي وضعها عمر بن الخطاب في الإدارة،بل أدخل فيها أموراً اقتضاها الزمان والمكان،ففتح صدره لكل ما استحسنه مما كان عند الأمم المجاورة،وكانت العرب لا تعرفه،فأخرج الإدارة بذلك من سذاجة البداوة إلى بحبوحة الحضارة.

توفر معاوية على تحسين آلة الحكم وأدخل عليها ما ينفعها ويقويها،وتسامح ولم يضيق على نفسه ولا على أمته في إدخال التجدد

وبعد استلامه الخلافة من بعد استشهاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بيد ابن ملجم،واستقرت زمام الأمور بيد معاوية،فإنه لجأ إلى معالجة أمر الحسن بن علي رضي الله عنهما،فالتأمت صفوف المسلمين وأغمدت سيوفهم،وسمى هذا العام باسم عام الجماعة.وقال لبني هاشم ماداً لهم يد الصفح والعفو والتسامح:

“يا بني هاشم:والله إن خيري لكم لممنوح،وإن بابي لكم لمفتوح ،فلا يقطع خيري عنكم علة،ولا يوصد بابي دونكم مسألة”.

ومن أقواله المأثورة:”والله لا أحمل السيف على من لاسيف له،وإن لم يكن منكم إلا ما يستشفي به القائل بلسانه فقد جعلت ذلك دَبر أذني وتحت قدمي”.

وهو أول من غزا في البحر وأنشأ الأسطول،وبناء السفن،وكان معه في فتح رودوس وقبرص ألف وسبعمائة سفينة.

ومن أهم ما قام به تنظيم الجيش،وإدخال الإصلاحات التي تزيد في قوته،وتجعله أبداً تحت السلاح عند الطلب،فضاعف لذلك عطاءه وأرزاقه،ووقت أوقاتاً لتناول الرواتب،فهو أول من نظم الجيش بهذا النظام الغريب،وجهزه بكل ما يلزمه،وجعل الجندي لا يستند في معاشه على غير رزقه من بيت المال.

ومعاوية أول من وضع البريد،أحضر رجالاً من دهاقين الفرس فعرفهم ما يريد فوضعوا له البريد واتخذوا له بغالاً ،كان عليها سفر البريد.

وهو الذي اخترع ديوان الخاتم وحزم الكتب،ولم تكن تحزم،وجعل على كل قبيلة  رجلاً يصيح كل يوم ويدور على المجالس ويقول:هل ولد الليلة فيكم مولود وهل نزل بكم نازل؟وبهذا أحصى السكان ولا يفوته خبر المتنقلين في ربوع بلاده.

وكان لمعاوية أنواع من السياسات برّز فيها حتى عُدّ من أعظم ساسة العرب.كان لا يولي إلا السيد المسود في قومه،ويستميل القلوب بالعطاء أو بالإقناع أو بالإغضاء،فإذا لم تنجع هذه الوسائل وتوجس شراً ممن أغضى عنه وترضاه عمد إلى القسوة،وكان يقول:” لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني،ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت”.

وكان معاوية يخرّج عماله في الإدارة ويعلمهم إياها بالعمل،ولا يعتمد إلا على العظماء والدهاة أمثال عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة”.انتهى كلام كرد علي.

نعم فلولا معاوية وحسن سياسته وما ملأ الأسماع من أنباء حلمه وكياسته،لما توطد للعرب ملك في ديار الشام.يقول ابن عباس رضي الله عنهما :”ما رأيتُ أحداً أحلى للملك من معاوية”.

وعصر الوليد بن عبد الملك كان عصر الفتوحات العظيمة،فبلغت الدولة في عهده مدى من الاتساع لم تبلغه في أي حقبة أخرى من تاريخها،فوصل المسلمون شرقاً إلى حدود الصين،وغرباً إلى حدود بلاد الغال(فرنسا) وكانت هناك جيوش أربعة توالى حملاتها المظفرة،أو تستعد لبدء حملاتها في جهات أربع،فجيش محمد بن القاسم الثقفي في الهند،وجيش قتيبة بن مسلم الباهلي في وسط آسيا(بلاد الترك)،وجيش موسى بن نصير وطارق بن زياد في إسبانيا،في حين كان مسلمة بن عبد الملك يستعد للقيام بأضخم حملة برية وبحرية لحصار القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية.

وإذا انتقلنا إلى الخلفاء الأمويين الآخرين،يطالعنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.

وقد حمل عمر بن عبد العزيز في التاريخ الإسلامي لقب خامس الخلفاء الراشدين،لما كان يأخذ به نفسه من اقتفاء آثارهم.وقال بعد أن أستخلف:”أيها الناس،إنه لا كتاب بعد القرآن،ولا نبي بعد محمد عليه الصلاة والسلام،وإني لستُ بقاضٍ،ولكني منفذ،وإني لستُ بمبتدع ولكني متبع”.

يقول الأستاذ محمد كرد علي رحمه الله(المرجع السابق):”ولعمر بن عبد العزيز في أمور الدولة وسياستها وتنظيم إدارتها إبداع لم يعهد مثله إلا لجده لأمه عمر بن الخطاب رضي الله عنه،وكانت له في باب التقوى والزهد أعمال لتضاءل معها سيرة الزهاد المشهورين”(يمكن الرجوع بالتفصيل في موضوع الحاكم العادل في الموقع عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه).

ولم تطل مدة خلافته ،فقد وافته منيته في رجب سنة 101هجري الموافق كانون الثاني 720م بعد أن حكم سنتين وخمسة أشهر.

ومن خلفاء بني أمية نذكر هشام بن عبد الملك الذي تميزت فترة خلافته بالتقدم العسكري،ومن المعارك الكبرى التي حدثت في عهده:معركة بلاط الشهداء أو معركة تور بواتيه التي دارت رحاها بالجنوب الغربي من باريس وبالأندلس سنة 114هجري الموافق 732م بين عبد الرحمن الغافقي والي الأندلس من قِبل هشام بن عبد الملك وشارل مارتل ملك الفرنجة من جانب آخر،ولولا هزيمة المسلمين في هذه المعركة الفاصلة لخضعت أوربا كلها لسلطة الخلافة.

ويقول الأستاذ محمد كرد علي رحمه الله:

وممّا امتازت به دولة الأمويّين أنها كانت دولة عربية صرفة بدمها وأخلاقها وعاداتها ومراميها ومظاهرها،وكان أبناؤها يحرصون على التزوج من العربيات من بنات الأشراف،ولم يكن في جميع خلفائهم من أمه  أم ولد غير مروان بن محمد آخر خلفائهم في الشرق،كانت أمه كردية،على حين كان العباسيون كلهم أبناء إماء إلا أولهم السفاح،ولذلك جعلوه أول خلفائهم وقدموه على المنصور وهو أكبر منه سناً وعلماً وسابقة.

ما سُمع في دولة بني أمية أن يتدخل النساء في شؤون الدولة وقد رأينا الحرم في الدولة العباسية منذ عهد المنصور يتدخلن فيما لا يعنيهن من شؤون الرجال،ولذلك أوصى المنصور ابنه ألا يجعل للنساء سبيلاً إلى الدخول في مهمات دولته.

وكان خلفاء بني أمية على الغاية من السياسة والشجاعة والحزم والتقوى والعمل ليل نهار على مصالح دولتهم ومصالح الناس.وكان آخرهم مروان بن محمد على غاية العقل وحسن التدبير،ولما نفذ القضاء سقطت الدولة بيده،حتى إن الخليفة الذي جار عليه التاريخ ـ وتاريخ بني أمية كتبه أعداء دولتهم بعدهم،كما شاءت الأهواء السياسية ـ ونعني به أمير المؤمنين يزيد بن معاوية لم يكن بإجماع ثقات المؤرخين بالدرجة التي صوّره بها أعداء دولتهم،ولا هو الذي قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما ولا أمر بقتله،ولما جاءه خبر مقتله اضطرب ولعن قاتله،فاتخذ أعداؤه من هذه الفاجعة المؤلمة حجّة على الحطّ من يزيد وآل يزيد.

ومما امتازت به دولة بني أمية غرام رجالها بالعمران،فقد أقام خلفاؤهم في المشرق أمثال الوليد بن عبد الملك وهشام بن عبد الملك من الجوامع والمستشفيات والخانات ودور الضيافة والقصور والطرق والجسور والسدود وتمصير الأمصار وتحضير البوادي والقفار ما هم عجيبة تلك العصور،وما زال الجامع الأمويّ بدمشق وقصر الحير الذي اكتشف في البادية  وجىء بنموذج منه إلى متحف دمشق شاهدين على تلك العناية الفائقة وتلك المدنية الباهرة.

وبما عرف به الأمويون من مرونة سياسية وإدارة حكيمة رشيدة انتشر الإسلام وانتشرت اللغة العربية ،وامتد ملكهم الواسع في بلاد تبلغ مساحتها نحو ثلاثة أرباع مساحة أوروبا،وقدرها بعضهم بثلاثة آلاف وسبعمائة فرسخ وذلك من سواحل الأطلنطي إلى تخوم الصين،ومن جبال القوقاز وما وراءها إلى خط الإستواء وما وراءه.

ونذكر من قوادهم ورجالهم مسلمة بن عبد الملك،فقد كان على جانب عظيم من العقل والسياسة والعلم والأدب.غزا الروم غير مرة وأثخن فيهم.وفتح الأمهات من مدائنهم،وأظهر كفاءة منقطعة النظير،وحبّ للخير لا مثيل له،وأوصى بجزء من ماله عظيم لأهل الأدب.ولولا أنه ابن أمة لكان من المتحتم أن يجلس على عرش الخلافة الأموية كسائر إخوته.

وفي عهدهم دخلت في الإسلام أمم كثيرة من السلالة السامية:العرب والسريان والكلدان،ومن السلالة الحامية:المصريون والنوبيون والبربر والسودان،ومن السلالة الآرية:الفرس واليونان والإسبان والأهاند أي رجال الهند،ومن السلالة التورانية:أي الترك والتتار.وكانت تقام شعائر الإسلام ويقرأ القرآن في قرطبة وفاس كما تقام الصلوات في السند وسمرقند،وتتلاقى العناصر المختلفة في الموسم بمكة.

وأصبحت دمشق هذه في نظر المسلمين كرومية في نظر أهل النصرانية،وما كانت قبل عهد الأمويين تعدّ شيئاً بين العواصم والحواضر،ودكّ العباسيون معالم عمرانها عندما فتحوها مخافة أن ينسب للأمويين شىء من الحسنات تُذكّر الناس بخصومهم أمس،وقضوا على كل أثر لهم على نحو ما فعل التتار بالعباسيين في القرن السابع لما استولوا على بغداد عاصمة ملكهم وقضوا على الخلافة العباسية”.انتهى كلام الاستاذ محمد كرد علي رحمه الله.

وجاء في موسوعة السفير في المعارف الإسلامية:

شغلت الدولة الأموية من التاريخ الإسلامي فترة زمنية بلغت إحدى وتسعين سنة(41 ـ 132 هجري الموافق 661 ـ 749م)،وامتدت حدودها من الصين شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً،ومن بحر قزوين شمالاً إلى المحيط الهندي جنوباً.

وحقّق الأمويون خلال تلك الفترة إنجازات كبيرة،من أهمها:الفتوحات الإسلامية التي لم تكن فتوحات عسكرية لبسط النفوذ واستغلال الشعوب،بل كانت فتوحات حضارية،وعمل معظم الخلفاء الأمويين وولاتهم بجد وإخلاص على نشر دعوة الإسلام في تلك الرقعة،وطبقوا منهج الإسلام في معاملة أبناء البلاد المفتوحة،فأحسنوا معاملتهم وأشركوهم في حكم بلادهم،ومن ثم أقبلوا على اعتناق الاسلام عن رضى واقتناع.

ومن أهم إنجازات الأمويين إنشاء البحرية الإسلامية،حيث يرجع الفضل في إنشائها إلى معاوية بن أبي سفيان حين كان والياً على الشام ثم توسع في إنشائها بعد خلافته.

واختار معظم خلفاء بني أمية ولاتهم من أهل الكفاية الإدارية،ومن أصحاب النزاهة والأمانة والاستقامة،ولم يترددوا في عزل الوالي إذا ساءت سيرته،أو استغل منصبه،ولو كان من أقرب المقربين إليهم.

وبرزت في العصر الأموي أسماء كثيرة تألقت في فن الإدارة والحكم،مثل:عمرو بن العاص،والمغيرة بن شعبة،وزياد بن أبي سفيان،وعقبة بن نافع،والحجاج بن يوسف الثقفي،وعبد العزيز بن مروان،والمهلب بن أبي صفرة،وحسان بن النعمان الغساني،ومَسلمة بن عبد الملك،وقتيبة بن مسلم الباهلي،ومحمد بن القاسم الثقفي،وموسى بن نصير،وقرة بن شريك،والسمح بن مالك الخولاني.

وشهد العصر الأموي نهضة عمرانية كبرى،أفادت من الطرز المعمارية والتراث الفني في البلاد التي فتحوها،سواء أكانت فارسية أم بيزنطية،بعد أن طوّعوها لما يناسب أذواقهم،ثم طبعوها بالطابع العربي الإسلامي،منشئين بذلك نواة فن معماري إسلامي متميز.

وقد أنشا الأمويون عدداً من المدن الجديدة في المشرق والمغرب،لايزال بعضها باقياً ومزدهراً،ففي عهد معاوية أنشأ عقبة بن نافع مدينة القيروان،وفي عهد عبد الملك بن مروان أنشأ أخوه عبد العزيز مدينة حلوان جنوبي الفسطاط بمصر،وأنِشأ الحجاج بن يوسف الثقفي مدينة واسط بالعراق،وأنشأ حسان بن النعمان مدينة تونس.وفي عهد الوليد بن عبد الملك أنشأ أخوه سليمان مدينة الرملة بفلسطين،وأنشأ محمد بن القاسم مدينة المنصورة في السند،وأنشأ الخليفة هشام بن عبد الملك مدينة الرصافة.

وشهد عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك حركة عمرانية،لم يشهدها عهد خليفة أموي آخر،فقد كان مولعاً بالبناء،وبخاصة بناء المساجد،فأنشأ المسجد الأقصى في القدس،ووسع الحرمين الشريفين في مكة،والمدينة،وجددهما،كما أنشأ المسجد الأموي في دمشق وهو يعتبر من أعظم المساجد في العالم الإسلامي.

ومن أعظم إنجازات الأمويين الحضارية تعريب الدواوين،الذي كان له أثر لا يُنكر في نشر اللغة العربية في البلاد المفتوحة وفي نشر الإسلام أيضاً،واصدار العملة العربية الخالصة،فأصبح للدولة عملتها الخاصة  بعد أن كانت تعتمد على الدرهم الفارسي والدينار البيزنطي.

ومن الإنجازات الحضارية أيضاً تطوير الخط العربي،حيث أدخل التنقيط على الحروف العربية،للتفريق بين أشكالها المتشابهة،وذلك من أجل تمكين القارىء ـ وبخاصة غير العربي ـ من قراءة النصوص العربية بصورة صحيحة لا لَبس فيها،وحتى يُحمى القرآن الكريم من التحريف.

ويقول الأستاذ أحمد حسن الزيات في مقال له عن شخصية البحتري:

“والفضل في فضله إنما كان لأمّة الشام:مثابة الأدب الخالص،والعروبة النقية،والإسلام الصحيح،فإنها بفضل ما حباها به الله من زكاوة التربة،وأصالة الفطرة،وفتون الطبيعة،قدّمت إلى الشعر في حبيب(أبو تمام)والوليد(البحتري) وأحمد(المتنبي) عُزّاهُ ولاتهُ ومناتهُ كما قال ضياء الدين بن الاثير وأعادت إلى العرب الخُلّص سبقَ الشعر ممن غلبهم عليه من الشعراء الموالي بإنجابها العباقرة الخمسة:أبا تمام،وأبا عبادة،وأبا الطيب،وأبا فراس،وابا العلاء”.

يقول العلّامة الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله في مقال له بعنوان”على أطلال الخضراء”نشره عام 1930م مذكراً بالعهد الأموي في دمشق:

“في زقاق القباقبية،في الجهة الجنوبية من “الأموي” ،باب من أبوابه قديم ومصبغة من مصابغ الشام صغيرة،نعرفها كلنا ونمرّ بها كثيراً دون أن نلقي لها بالاً ودون أن نعلم مافيها.

هذه المصبغة التي تأنف أن تطيل الوقوف بها،وتفزعك ظلمتها وتُنفرّك رائحتها،كانت قبل ثلاثة عشر قرناً قصراً شامخ الذرى،عالي الشرفات،قوي الدعائم،تحف به الأبهة والوقار ويفوح منه رَوح النّدّ والعنبر.وهذا الزقاق الضيق المظلم الذي تمسك بأنفك إذا جزته لتنجو من روائحه الممقوتة،وتحترس في نقل خطاك إذا سرت فيه كيلا توحل ،كان في عهد عزّ القصر شارعاً عظيماً تملؤه صفوف الحُجّاب وفصائل الحرس ووفود الملوك.

لنعد فنقطع في جادة الزمن ثلاث عشرة مرحلة،لنرجع إلى عهد بني أمية حيث القصر زاهٍ في دمشق،وسكانه:

عالون كالشمس في أطراف دولتها      في كل ناحية مُلكٌ وسلطانُ

وحيث مسجد بني أمية خالص لبني أمية،ومنبره يسعى ـ لو كان به سعي ـ لخطباء بني أمية،والمسلمون يهتفون في مشارق الأرض ومغاربها للخلفاء من بني أمية.وحيث ربّ القصر ينطق بالكلمة،فتحملها الرياح إلى البوادي والفلوات والمدن والبلاد والجبال والتلال،فلا تبقى في الأرض بقعة لا تبلغها ولا في الدنيا جبار لا يخضع لها ويطأطىء برأسه لجلالها.وحيث راية بني أمية يحملها قُتيبة والمغاوير من جنده إلى الهند فيرفعها على جبالها،وطارق والأشاوس من رجاله إلى الأندلس فينشرها في أرجائها،وحيث الناس مابين الهند والأندلس رعية بني أمية،يدعون لبني أمية ويعيشون بالأمن والسعادة في ظلال بني أمية.

لبني أمية الله!لقد هُدمت قصورهم الشمّاء وعَفت آثارها،وحالت مصبغة!

لبني أمية الله! بعد العظمة والجلال يُصبحون غرباء في أوطانهم،لا يُرى لهم أثر ولا يُعرف لهم تاريخ.

أتنسين يا دمشق أيامك الزاهرة التي كنت فيها دُرّة العالم ومدينة الجلال؟

أتنسين أهليك من بني أمية فلا تقيمين لهم أثراً ولا تبنين لهم ذكراً؟

أتنسين يا دمشقّ معاوية وعمر والوليد،وقد ساقوا إليك أعظم الملوك خاضعاً خانعاً،وأورثوك أغنى الخزائن حلالاً سائغاً،وجعلوك مدينة العلم والقوة والعمران؟

ألم تثبّت أميةُ أركان الإسلام؟ألم توثّق عُراه؟ألم يفتح قُوّادها العالم كله ينشرون الإسلام في أهله ويهدونهم سبيله؟

لقد طوى الدهر أميّة فيما طواه،وأغرقت لُجّة بحره الطامي القصور والديار والأطلال والآثار،فكأنما عزُّ أمية رواية مُثّلت على صفحة الزمان ثم انتهت،فعادت الصفحة بيضاء لا شىء فيها.ولكن لا بأس ،ولا يضيركم يا بني أمية أن تُهدم قبوركم وتندثر آثاركم،فقبوركم في التاريخ وفي الأفئدة:

إن تسل أين قبورُ العظماء         فعلى الأفواهِ أو في الأنفسِ

العهد العباسي:

يقول العلامة محمد كرد علي رحمه الله(دمشق مدينة السحر والشعر):

“فتح عبد الله بن علي عم الخليفة العباسي السفاح مدينة دمشق سنة 132هجري،ووضع السيف في أهلها،واستصفى أموالها،ودخلت أباعر جيشه جامع بني أمية وظلت فيه سبعين يوماً،وقُتل من النصارى واليهود خلق،كما قُتل كثير من العلماء والأمراء،ونبشوا قبور بني أمية وأحرقوا جثثهم بالنار وذروها في الهواء،ونقضوا أسوار البلدة حجراً حجراً.انتقم العباسيون من الأمويين أحيائهم وأمواتهم انتقاماً فظيعاً،وصَفت لهم دمشق،إلا أنهم لم يجعلوا فيها دار خلافتهم،وصيّروها قصبة ولاية،فذهب ما كان لها من عظمة على عهد الأموي.

ومع هذا كان عظماء رجال بني العباس أمثال إبراهيم بن المهدي وعبد الله بن طاهر يتولّون أمرها،وأعظم من عطف عليها من خلفائهم الرشيد،وكان أميراً عليها قبل أن يلي الخلافة،وكذلك ابنه المأمون،كانا يختلفان إليها ويعدلان في أهلها”.

في هذا العهد خسرت دمشق مركزها كعاصمة حين اتخذ العباسيون من مدينة الكوفة في العراق عاصمة لهم.ودخلت جيوشهم دمشق لتقضي فيها على خصومهم من بني أميّة وتمحو أثارهم.وهكذا غربت شمس دمشق بعد أن استمر إشراقها خلال سنوات العهد الأموي .وبدأت سحب الظلام تُخيّم على دمشق على مرّ الأيام وسقطت فريسة للثورات والفتن والإضطرابات وما رافق ذلك من فوضى وخراب ودمار.

ومما تركه العهد العباسي في دمشق قبة السّيار في جبل قاسيون والتي أصلها قبّة المرصد الذي أمر الخليفة المأمون ببنائه ليكون مركزاً للبحوث والأرصاد الفلكية.

أصبحت دمشق حوالي منتصف القرن الثالث للهجرة 254 هجري الموافق 868 ميلادي تابعة للدولة الطولونية في مصر الموالية لدولة الخلافة العباسية في بغداد.وكان أحمد بن طولون التركي قد اقتطع جزءاً عظيما من جسم الخلافة العباسية باستيلائه على مصر أولاً ثم على الشام.وخلفه بعد موته ابنه خُمارويه فأحسن لأهل دمشق.

ثم عادت دمشق إلى حكم بغداد المباشر بعد زوال الدولة الطولونية عام 292 هجري الموافق 904 ميلادي.

العهد الفاطمي:

وفي عام 323 هجري الموافق 934 ميلادي قامت في مصر الدولة الإخشيدية،دولة محمد بن طغج الإخشيدي الذي صادر أغنياء دمشق،واستصفى أموالهم. واستمرت من خلالها سيادة الخلافة العباسية على مصر والشام وزالت نهائياً بقيام الدولة الفاطمية أو العبيدية التي دخلت قواتها إلى هذه المنطقة عام 358 هجري الموافق 968 ميلادي وأصبحت دمشق مرتبطة بالفاطميين الذين انتقلت عاصمتهم من المهدية في تونس إلى القاهرة في مصر.وخُطب على المنابر في دمشق للمعز الفاطمي الشيعي،وانقطعت خطبة بني العباس السنيين.

استمر العهد الفاطمي في دمشق من 358 إلى 468 هجري الموافق 968 إلى 1075 ميلادي أي حوالي القرن من الزمن وتدهورت الأوضاع الاقتصادية والعمرانية والسياسية في هذا العهد الفاطمي وقلّ عدد سكان دمشق وانتشر فيها الفقروالغلاء.ومن أشد ما لاقت دمشقّ في العهد الفاطمي حريق الجامع الأمويّ الكبير سنة 461هجري،والذي أفقد دمشق رونقها وجمالها،وأفقدها آخر ما بقي لديها من تراثها الأموي.

تعرضت دمشق خلال عهود الطولونيين والإخشيديين والفاطميين لحروب وغزوات صراعاً على السلطة والنفوذ والسيادة وكان من أشدها غزوات القرامطة الذين احتلوها عدة مرات خلال السنوات 293،و360،و362 هجري وقد أصاب دمشق نتيجة لذلك الكثير من الخراب والنهب والدمار.وكان العهد الفاطمي من أشأم العهود والقرون على دمشق،فقد أصيبت في سنة 467 بانتشار وباء الطاعون،ثم عمّت المجاعة في البلاد، فلم يبق من أهل دمشق سوى ثلاثة آلاف إنسان بعد أن كانوا خمسمائة ألف كما قال المؤرخون،أفناهم الغلاء والجلاء والوباء.

عهد السلاجقة الأتابكة:

نقصد بالعهد السلجوقي الحقبة التي تبدأ بزوال السلطان الفاطمي وخروج جند المصريين من دمشق بدخول مقدم الغز اتسز بن أوق إليها عام 468هجري وهو من أمراء السلجوقيين،وأعاد إليها الخطبة العباسية.ولعل أفضل من حكم دمشق من أمراء السلاجقة رجل عظيم من مماليك السلجوقيين اسمه طغتكين.

تولى طغتكين حكم دمشق فأحسن السيرة واستمر في حكمها من سنة 497 إلى سنة 522،وأحبه الدمشقيون لبعده عن الظلم،وإعادة الأملاك للناس وإحيائه الأراضي المعطلة،فعمرت عدة ضياع وحسنت أحوال الرعية،ولما مات حزن عليه أهل دمشق ،ولم تبق محلة ولا سوق إلا وقامت فيه المآتم عليه.

وتنتهي فترة حكم السلاجقة بخروج آخر البوريين منها ودخول نور الدين محمود بن زنكي إليها عام 549هجري وتأسيسه الدولة النورية فيها.

وهي حقبة قصيرة امتدت ثمانين عاماً وعاماً،ولكنها كانت من أكثر العهود شأناً في تاريخ دمشق وأعظمها أثراً في تطورها ونهضتها ومستقبلها.

وما العهود التي تلت هذه الحقبة،أيام نور الدين والأيوبيين،إلا امتداداً لها،ونمو للأعمال التي بدأت فيها.(ولاة دمشق في العهد السلجوقي ـ صلاح الدين المنجد ـ أحد أعداد مجلة المجمع العربي بدمشق).

عادت السيادة على دمشق للخلافة العباسية في بغداد على أيدي قادة من الأتراك عرفوا باسم السلاجقة كان الحكم الفعلي بأيديهم كما وصل الحكم عن طريقهم إلى بعض الأتابكة(الأتابك:الوصي أو المربي للأمراء من أبناء السلاجقة).وتحمل أتابكة دمشق مسؤولية الدفاع ضد الغزاة الصليبيين الذين كانوا قد نجحوا باحتلال الساحل السوري ومعظم مناطق فلسطين،وكانت علاقات أتابكة دمشق مع الصليبيين بين حالة حرب وحالة هدنة،وقد وصلت أعمال القتل والتخريب والدمار على أيدي الصليبيين إلى جوار دمشق وضواحيها في بعض الفترات،ونجحت دمشق بالصمود ضد هؤلاء الغزاة ونجت من الوقوع بأيديهم رغم محاولاتهم  التي وصلوا في أولها إلى مسافة بضعة كيلومترات جنوب دمشق وتكررت محاولة الصليبيين في حملتهم الثانية وتعرضت دمشق لحصارهم سنة 543 هجري الموافق 1149 ميلادي حيث شارك في حصارها ملك الألمان(كونراد الثالث)وملك فرنسا(فرنسوا الرابع)وعسكّرت قواتهم في منطقة داريا وقرب منطقة المزة وقاومت دمشق ببسالة بفضل أتابكها “معين الدين أنر” الذي استعمل وسائل الحرب والسياسة حتى أنقذ دمشق من دخول الصليبيين.

يقول الاستاذ صلاح الدين المنجد(المرجع أعلاه):

أعمال السلاجقة بدمشق:

1 ـ القضاء على المذهب الشيعي:

بدأت محاربة المذهب الشيعي بدمشق بقطع الدعوة للخليفة الفاطمي الذي يمثل هذا المذهب وإعادة الدعوة للخليفة العباسي الذي يمثل السنّة.وكان الفاطميون قد دخلوا دمشق سنة 359هجري فما زال يُدعى لهم على المنابر حتى جاء اتسز فكان أول ما فعل إبطال الدعوة لهم،وإبطال الأذان بحي على خير العمل وما يتبعها من سبّ للصحابة.وهذه ظاهرة شيعية ذات شأن،سبقت دمشق حلب في إبطالها.

وبُدىء بتأسيس المدارس لنشر المذاهب الفقهية.فقامت لأول مدرسة بدمشق  ـ وهي الصادرية ـ عام 491هجري.فسبقت دمشق في تأسيس المدارس القاهرة.وقامت في هذه الحقبة ست مدارس للحنفية وواحدة للشافعية واثنتان للحنابلة.

وساعد على زوال المذهب الشيعي أن أهل دمشق أنفسهم كانوا على عداء معه.وهو عداء قديم.ولم يستطع هذا المذهب،حتى في أيام الفاطميين،أن يثبت فيها أركانه.حتى أن العلماء والمحدثين الذين كانوا يدرسون في المسجد الأموي أيام الفاطميين كانوا حنفية أو شافعية.

فلما دخل نور الدين دمشق فيما بعد،كان المذهب الشيعي قد قضي عليه فلم يبذل عناء في طمس مظاهره،بل انصرف إلى قتال الصليبيين،وتحصين المدينة،وبناء الجوامع والمدارس،والربط والخوانق والمشافي.

2 ـ محاربة الباطنية والإسماعيلية:

وثمة خطوة ثانية خطاها السلاجقة في محاربة الشيعة هي القضاء على الباطنية والإسماعيلية في دمشق.فقد كان فيها كتلة من الباطنية تعمل على نشر مبادئها.وكانت تعمد في نشر هذه المبادىء إلى العنف ولا تحجم عن اغتيال من يعاندها.ولقد اغتالت هذه الفئة نظام الملك في بغداد،واغتالت الأمير مودود في مسجد دمشق.وقد زاد شأنها في دمشق عندما ورد إليها داعي الباطنية بهرام من بغداد سنة 520هجري فتلقاه الوزير المزدقاني بالترحاب وأمر بتسليمه بانياس،وكانت ثغراً ذا مكانة،لتكون له مأمناً وملجا.فعظم أمر بهرام واتبعته العامة والغوغاء.

وبعد عامين في سنة 522هجري قُتل بهرام داعي الباطنية،فقام مقامه إسماعيل العجمي.فبادر الوزير المزدقاني إلى مساعدته.وعاد الباطنية إلى ما كانوا عليه من شدّة وشوكة.وكثر أذاهم،فازدادت شكوى الناس من الخاصة والعامة.وبلغت النقمة عليهم نفوس الأمراء وعلى رأسهم تاج الملوك.

واستطاع تاج الملوك أن يقتل الوزير المزدقاني،وقامت ثورة في دمشق ضد هؤلاء الباطنيين،وأريقت دماؤهم وصلب عدد منهم على شرفات سور دمشق.

هذه الثورة تظهر مبلغ الحقد،الذي كان يكنّه أهل دمشق على الباطنية.وهي صورة لنفسية أهل دمشق.يصبرون صبراً طويلاً على الأذى حتى تحسب أنهم ضعاف لا حياة فيهم،ويبالغون في تلقي الأذى حتى لتحسب أنهم يريدون الذل ،ثم يثورون فجأة ثورات عنيفة شديدة مخيفة،وإذا الباغي قد زال ،يتبعه أذاه.

وقد أثرت هذه الضربة في عزيمة الباطنيين،حتى المقيمين في بانياس مع الداعي.فذلّوا وتفرّق شملهم في البلاد.وسلم إسماعيل ثغر بانياس للصليبيين في السنة نفسها.

وقد استطاع الباطنية من  طعن تاج الملوك في سنة 525هجري،ولكنه نجا من الموت،وقتل الباطنيان الذين حاولوا اغتياله،ولم يبرأ جرح خاصرته فمات سنة 526هجري.

ولم تقم للباطنية بعد هذه الضربة قائمة في دمشق.وقُضي عليهم،وتركها من نجا من القتل إلى حصونهم بالموت ومصياف.وظلوا يفسدون ويقتلون حتى جاء نور الدين ثم صلاح الدين.

3 ـ بدء الحروب الصليبية:

بدأت الحروب الصليبية والسلاجقة بدمشق.ومن ذلك الحين أتيح لدمشق أن تتبوأ مركزاً جديداً ،في عهد نور الدين والأيوبيين،وأيام الظاهر بيبرس.

وكان دفاع السلاجقة عن دمشق نفسها من غارات الصليبيين عنيفاً.وبذلوا في سبيل ذلك كل شىء.حتى أن والدة شمس الملوك لما رأت تهاون ابنها في قتالهم ورغبته في تسليم دمشق إليهم سنة 529هجري وخروجه عن سنن آبائه،أرسلت له من قتله.

وقد هاجم الصليبيون سنة 543هجري بخمسين ألفاً،ونزلوا ناحية المزة وخيموا عليها لقربها من الماء،فقام معين الدين يدافع عن البلد أحسن دفاع،وهبّ أهل دمشق من الأجناد،والأتراك وأحداث البلد والمطوعة والغزاة فدحروا الفرنج واضطروهم إلى الرحيل.وقد حرقوا الربوة وراءهم وما يجاورها.

وكان يشارك أهل دمشق في قتال الفرنج رجال الغوطة والمرج،وأهل الأرباض خارج الأسوار كالعقيبة وقصر حجاج والشاغور.

ولولا دمشق وسلاجقتها لأستولى الصليبيون على كثير من مدن الشام الداخلية.

وقد علا شأن دمشق الحربي،عندما دخلها نور الدين وبدأ بتحصينها وتعمير أسوارها،وجعلها مركزاً للحروب والغزوات على بلاد الفرنج.

ومن الأمور الأخرى التي امتازت بها دمشق في عهد السلاجقة:

1 ـ دمشق مركز الحكم والسلطان:

شهدت دمشق في هذا العهد هيبة الحكم تعود.فمنذ تولى عنها بنو أمية لم يستقر فيها حكم.وشعرت بهؤلاء الولاة الأشداء يعيدون للدين قوته وللحكم روعته.وأصبح في دمشق جيش من الأتراك ومن أهلها يدافعون عنها.وضُرب فيها دينار خاص نُقش عليه اسم الخليفة العباسي والسلطان السلجوقي ووالي دمشق،ولم يكن يفعل ذلك من قبل.

2 ـ الأمن والرخاء والإستقرار:

وأحسَ أهل دمشق بما يقدمه الولاة إليهم من الإحسان في السيرة واستعمال العدل والكفّ عن الظلم والأمر بالمعروف،بعد أن كان ولاة الفاطميين يسيئون السيرة ويظلمون ويجورون ويخرّبون ويصادرون.

وعندما أحس أهل دمشق بالأمن واستقرّت الأمور انصرفوا  إلى الزراعة والصناعة،وكثرت الغلات فرخصت الأسعار.ورفعت الأقساط والضرائب فخلصوا من الفقر.

3 ـ العمران بعد الخراب:

ومن أهم الآثار العمرانية:

ـ المسجد الأموي:

أعيدت عمارته،وجُدّد سنة 475هجري وخاصة المقصورة والقبّة والسقف والطاقات وترخيم الأركان.وجُدّد الحائط الشمالي سنة 482هجري وسنة 503 وسنة 512هجري.

ـ القلعة:

بنى تاج الدولة تتش قلعة لطيفة في الجانب الشمالي الغربي من السور على أنقاض رومانية،وجعلها دار إمارة وسكنها.

ـ السور:

أعيد عمارة باب الفراديس .

ـ المدارس:

أسس في دمشق في العهد السلجوقي من المدارس مايلي:

المدرسة الصادرية:بناها الأمير صادر بن عبد الله سنة 491 هجري للحنفية.

المدرسة الأمينية:بناها أمين الدولة كمشتكين سنة 514 هجري للشافعية.

المدرسة المعينية:بناها الأمير معين الدين أنر سنة 524 هجري للحنفية.

المدرسة الطرخانية:بناها الأمير ناصر الدين طرخان سنة 525هجري للحنفية.

المدرسة البلخية:بناها الأمير أكز الدقاقي سنة 525هجري للحنفية.

الخاتونية البرانية:بنتها خاتون أم شمس الملوك بعد سنة 526 هجري للحنفية.

المدرسة الشريفية:بناها الشريف الحنبلي قبل سنة 536 هجري للحنابلة.

المدرسة المجاهدية:بناها مجاهد الدين بزان سنة 539 هجري للحنفية

المدرسة المسمارية:بناها مسمار الهلالي سنة 546 هجري للحنابلة

العهد الأيوبي:

بقيت المدن السورية في ظلّ الفوضى وعدم الإستقرار حتى مجىء عماد الدين زنكي عام 1129 وهو أمير تركي سلجوقي من الموصل والذي على عهده وعهد ابنه نور الدين الذي تسّلم الحكم بعد وفاة أبيه (1146 ـ 1174م) فُتحت إمارة الرها ودخل إلى دمشق حيث عمل على إعادة الأمن والأمان،وحقق الوحدة السياسية لسورية الداخلية واتخذ مدينة دمشق مركزاً له.

دخل نور الدين محمود زنكي دمشق عام 549 هجري الموافق 1154 ميلادي،ونجح البطل نور الدين بمدّ نفوذه إلى مصر بوساطة أحد قادته أسد الدين شيركوه وابن أخيه صلاح الدين الأيوبي وأنقذا مصر من الخطر الصليبي الذي كان يتهدّدها.وانتهت محاولة نور الدين الشهيد بقتل الوزير الفاطمي الخائن “شاور” المتعاون مع الصليبيين على يد قائده أسد الدين،وذلك عام 564 هجري الموافق 1168 ميلادي،وأعقب ذلك وفاة الخليفة الفاطمي العاضد سنة 567 هجري الموافق 1171\ميلادي وانتهت بموته فترة الحكم الفاطمي وغدت مصر والشّام دولة واحدة وارتفعت مكانة دمشق التي غدت المركز الأول للنشاط السياسي والعسكري في المشرق العربي.

ولم تر دمشق عزّاً بعد دولة الأمويين مثل العزّ الذي نالته على عهد الدولتين النورية والصلاحية(نور الدين الشهيد وصلاح الدين الأيوبي).

يقول العلامة محمد كرد علي رحمه الله(دمشق مدينة السحرؤ والشعر):

“كانت سيرة نور الدين كسيرة صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم من التقشف والعفة عن أموال الرعية،أسقط كل ما يدخل في شبهة الحرام،وما أبقى من الجبايات سوى الخراج والجزية وما يحصل من قسمة الغلات،وأطلق المظالم،وأسقط من دواوينه الضرائب والمكوس عن المسافرين،وسامح الرعايا بمئات الألوف من الدنانير،وكان يأخذ مال الفداء ويعمر به الجوامع والمارستنات،وأخذ من أحد ملوك الإفرنج ـ وكان في أسره ـ ثلاثمائة ألف دينار،وشرط عليه ألا يُغير على بلاد الإسلام سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام،وأخذ منه رهائن على ذلك،وبنى بالمال المستشفى النوري بدمشق،ولما بلغ الملك الإفرنجي مأمنه هلك.ووقف نور الدين الأوقاف العظيمة على جوامع دمشق،وكان يبيع ما يصل إليه من الهدايا،وينفقه في عمارة المساجد المهجورة،وعمّر المدارس والطرق والجسور ودور المرضى والبائسين والخانات والأبراج والرباطات،وبنى المكاتب وأجرى عليها وعلى المعلمين فيه الجرايات الوافرة إلى غير ذلك”.

توفي البطل نور الدين الشهيد في دمشق عام 569 هجري الموافق 1174 ميلادي،واستقر الحكم من بعده إلى ابن أخيه القائد صلاح الدين الأيوبي والذي بُويع سلطاناً على بلاد الشام ومصر.وحقق صلاح الدين ما أراده وهزم الصليبيين في معركة حطين في 3 تموز عام 1187 بالقرب من بحيرة طبرية، وحرّر منهم بيت المقدس وكان ذلك كله ثمرة توحيد الشام ومصر.

يقول العلامة محمد كرد علي في المرجع السابق:

“لقد كان صلاح الدين الذي خلف نور الدين مثله في حسن السيرة،وبُعد الهمة،وجميل المفاداة،وكان له عطف خاص على الدمشقيين،سامحهم بمئات الألوف من الدنانير على نحو ما فعل معلمه نور الدين،وزيّن مدينتهم هو وآله وعتقاؤه وجواريه بالمدارس والرباطات والمساجد،ولم يُنسب إليه شىء منها،وكان يحب دمشق ويؤثر الإقامة فيها.ومات صلاح الدين بعد هذه الفتوحات العظيمة،ولم يخلف سوى جرم واحد من الذهب وسبعة وأربعين درهماً،ولم يترك ملكاً ولا داراً ولا عقاراً ولا بستاناً ولا شيئاً من أنواع الأملاك”.

وفي عهد نور الدين الشهيد شهدت دمشق نهضة عمرانية كبيرة ما تزال آثارها إلى اليوم على الأسوار والأبواب وفي القلعة وفي المدرسة النورية ودار الحديث النورية،أقدم دار للحديث في دمشق.

وشهدت دمشق في العهد الأيوبي بناء عشرات المساجد والمدارس مثل جامع باب المصلى وجامع الحنابلة والمدرسة العمرية والعادلية وست الشام وغيرها..

ومن أهم المعالم التي تركها حكم الأيوبيين وخاصة نور الدين الشهيد نذكر:

ـ البيمارستان النوري،والذي يقع في حي سيدي عامود(الحريقة) عند ذقاق نور الدين الشهيد.وقد تم بناءه على مرحلتين:

ـ المرحلة الأولى:أقيم البناء الأساسي في عهد الملك العادل نور الدين محمود الزنكي عام 549هجري الموافق 1154م.

ـ المرحلة الثانية:حين وسعه الطبيب بدر الدين ابن قاضي بعلبك سنة 637هجري الموافق 1239م،ثم قام بترميمه الملك الظاهر بيبرس البندقداري ثم السلطان قلاوون.

استمر البيمارستان النوري في عمله كمشفى ومدرسة للطبّ إلى أن أنجز بناء مدرسة الغربا(المشفى الوطني) سنة 1899م في عهد الوالي حسين ناظم باشا أيام السلطان عبد الحميد الثاني فتحوّل إلى مدرسة للإناث ثم إلى ثانوية تجارية (مدرسة التجارة) وفي عام 1978م أصبح متحفاً للطب والعلوم عند العرب.حيث تعرض أجمل نماذج الخطوط التي استعملت للمرة الأولى أثناء حكم نور الدين زنكي.

ـ وكذلك حمام نور الدين في البزورية وهو أقدم حمامات دمشق، ولا يزال يعمل حتى اليوم.

ـ ونذكر أيضاً مدرسة نور الدين حيث يرقد الحاكم العظيم في تربته وسط صالة مربعة تقتصر زينتها على الآية القرآنية:{وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً حتى إذا جاءوها وفُتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها آمنين}[الزمر37].

توفي صلاح الدين الأيوبي في دمشق وكانت وفاته عام 589 هجري الموافق 1193 ميلادي،وبوفاته ضعفت الدولة الأيوبية رغم محاولات أخيه الملك العادل أبو بكر بن أيوب حماية الدولة من التجزئة على أيدي أبناء صلاح الدين واستمر الخلاف بين أبناء الملك العادل بعد وفاته،وينتهي العهد الأيوبي بانقلاب قام به قادة الجيش في مصر وهم من المماليك فقتلوا آخر حكام الدولة الأيوبية توران شاه عام 648 هجري الموافق 1250 ميلادي وذلك في مصر،بينما انتهى حكم الأيوبيين في الشام بوصول حملة المغول التي قادها هولاكو عام 658 هجري الموافق 1259 ميلادي وسقطت دمشق بأيديهم بعد أن سبقتهم أخبار تدمير المغول لبغداد ومذابحهم في حلب وصمدت قلعة دمشق شهراً لحصار المغول ثم سقطت كغيرها،ومن حسن حظ دمشقّ وبلاد الشام أن هذه الحملة المغولية هزمت هزيمة نكراء في معركة عين جالوت على أيدي حكام مصر من قادة المماليك وعلى رأسهم السلطان المظفر قطز والظاهر بيبرس.

عهد المماليك:

يقول العلامة محمد كرد علي رحمه الله(المرجع السابق):

“بويع الملك الظاهر بيبرس البندقداري ملكاً على مصر والشام،بعد أن قُتل توران شاه آخر الأيوبيين سنة 647،ولُقب الملك الظاهر،وهو رأس دولة المماليك البحرية،وجاء جماعة هولاكو إلى دمشق بعد تخريبهم بغداد والقضاء على الخلافة العباسية فيها سنة 656،وفي السنة التالية خرب هولاكو حلب،وأوقع بها خمسة أيام حتى لم يبق بها أحد،وأنفذت دمشق مفاتيحها إلى هولاكو لتأمن من شره،ومع هذا خرّب سورها،وما نجت من غائلته إلا بانهزام جيش التتر في عين جالوت شرّ هزيمة،وبعد حين وصل غازان من حفدة هولاكو دمشق،فبذل له أهلها مالاً عظيماً ،وباستيلائه عليها خربت الدور والمساكن بظاهر دمشق،وأستبيح ما لم يصبه الحريق من الأماكن،وأسر ألوفاً وقتل مئات في التعذيب على المال،ودام التتر أربعة أشهر على ذلك،فخربت بعض المدارس الكبرى ودار السعادة مقر نواب السلطنة وما حولها،وبعد مدة فتح ببغا أروس التتري دمشق،ونهب ضياعها وقطع أشجارها،وجرى على أهلها من عسكره ما لم يجرِ من عسكر غازان.

كان ملوك المماليك أجناساً،منهم الكفاة وبعضهم دون ما يجب من الكفاءة السياسية،فاتسع المجال في عهد الضعاف للواغلين من الشرق،فعسفوا أهل هذه المدينة،وما لقيت من جنكيز وهولاكو وغازان من المصائب زاد أضعافاً بضعف الدولة القائمة،فلما وافاها تيمورلنك أنساها ما لقيت منه ما كان حلَّ بها في القرنين الماضيين من أجداده التتر،فإنه ضرب عليها غرامة عظيمة كان مقدارها ألف ألف دينار،ولما استوفاها دخلها أمراؤه فحلّ بأهلها البلاء تسعة عشر يوماً،هلك من ساكنيها خلال ذلك ألوفٌ من التعذيب والجوع،وسبوا النساء وساقوا الأطفال والرجال،ثم طرحوا النار في المنازل والقصور والجوامع والمدارس،فعمّ الحريق في يوم عاصف  جميع البلد،ولم يبق غير جدران جامعها،وحُرق في هذه الفتنة معظم خزائن الكتب التي كانت زينة المدارس.

لقد أخذ تيمورلنك من دمشق جميع صناعها ومفننيها وعلمائها وقرائها،ونهب آثارها النفيسة ثم أحرقها،ولم تأخذه بها وبأهلها شفقة.

وجاء فيما بعد ملوك عظام من المماليك البحرية والبرجية اهتموا لسعادة دمشق،وفي مقدمتهم الظاهر بيبرس والمنصور قلاوون وبيبرس الجاشنكير وقايتباي وبرسباي،ووفقت دولتهم إلى اخراج بقايا الصليبيين من ساحل دمشق،فخفف عنها الضغط الذي دام نحو مائتي سنة مشفوعاً بغارات التتر من الشرق”.

ابتدأ هذا العهد المملوكي عام 658 هجري الموافق 1259 م وعادت الوحدة تجمع مصر والشام،ولم يكن انسحاب المغول من دمشق بعد هزيمتهم في عين جالوت آخر وجود لهم في بلاد الشام بل استمرت غاراتهم وكان آخرها وأشدّها سوءً على دمشق حملة تيمورلنك عام 803 هجري الموافق 1400 م فقد نال دمشق وسكانها من المغول الدمار والهلاك ورغم ذلك فقد استعادت بسرعة بعد انسحابهم نشاطها ولقيت عناية كبيرة من سلاطين المماليك،الذين اقتضت ظروف قتالهم لبقايا الصليبيين إقامتهم في عاصمتهم الثانية دمشق فكانت ولاية دمشق من أكبر وأهم ولايات السلطنة المملوكية وعرفت باسم “نيابة الشام” وتمتد حدودها إلى الفرات والرستن شرقاً وشمالاً وإلى البحر المتوسط غرباً وإلى غزة والكرك جنوباً.

وقامت في عهد المماليك أعمال عمرانية وإصلاحات واسعة منها عدد كبير من المساجد والمدارس،ونعمت دمشق في عهد بعض السلاطين والأمراء مثل السلطان الظاهر بيبرس والسلطان قلاوون والأمير تنكز بكثير من الاستقرار،فازدهرت الحركة العلمية ومدارسها والفنون والعمران كما نشطت الصناعة والتجارة.وبنيت فيها مجموعة من المساجد مثل مسجد الأقصاب وجامع منجك بالميدان ومسجد ابن هشام والمدرسة الجقمقية والشاذبكية والقجماسيّة والسيبائية وغيرها.

وتنتهي هذه الفترة من النهضة والنشاط بالكارثة التي حلّت في دمشق بغارة تيمور لنك عليها سنة 803هجري،وما رافق ذلك من تدمير ونهب وقتل وسبي وإحراق وقد عمّها الخراب وأكلتها النيران وتحولت إلى مدينة للأشباح،بعد أن وصفها ابن بطوطة بأنها أجمل مدينة في العالم.

وكما ذكرنا فإن من أشهر الحكام المماليك الذين حكموا دمشق ونشروا فيها العدل والاستقرار،والعمران كان الملك الظاهر بيبرس رحمه الله،وقد ذكرنا الكثير عن مناقبه،والحاكم الآخر هو الأمير العالم تَنْكِز.

الأمير الكبير العالم العادل سيف الدين تنكز

يقول الأستاذ محمد أحمد دهمان في كتابه”ولاة دمشق في عهد المماليك”:

“تولى نيابة دمشق بعد الأمير آقوش المشهور”بنائب الكرك”،ودخل دمشق يوم الخميس 20 ربيع الآخر سنة 712هجري وخرج الناس لتلقيه،وفرحوا به كثيراً،ونزل بدار السعادة.

وعزل عن دمشق وألقي القبض عليه في 13 ذي الحجة سنة 740 فكانت مدة نيابته 28 سنة،ازدهرت دمشق في عصره،وزاد عمرانها،واستقرت أحوالها.وقد جهد في كل عمل ينفع دمشق،فأمر بكسح الأوساخ في مقاسم المياه التي تتخلل الدور وفتح منافذها،بسبب حدوث الأوبئة،وكثر الدعاء له بذلك.ووسع طرقات المدينة،ورصف أرضها،وأمر بقتل الكلاب في دمشق وجميع بلاد الشام،فاستراح الناس من أذاهم.

وعني بالأوقاف الإسلامية،وجدد عمارة المدارس والزوايا ،وأكثر من فكاك الأسرى…

وأنشئت في عهده أحياء عدة خارج سور دمشق،ومنها حي(سويقة صاروجا)،حارة الشالق،وحارة ابن صبح(حارة قولي) وحارة الجامع الكريمي(حلرة جامع الدقاق بالميدان) وغير ذلك.

أما تلقيبه بالعالم،فلأنه سمع صحيح البخاري غير مرة من أبي العباس أحمد بن أبي طالب بن شحنة الدمشقي،وسمع معاني الآثار للطحاوي ،وصحيح مسلم..

ويتفق المؤرخون على أن تنكز من خيرة الأمراء المماليك وأعدلهم،ومنهم الصلاح الصفدي…

ومن الأبنية التي تركها في دمشق:

ـ جامعه الكبير المسمى جامع تنكز في حكر السماق(شارع النصر ):وهو من أحد الجوامع الثمانية العظيمة في دمشق

ـ دار القرآن والحديث بقرب البزورية بالقرب من حمام نور الدين الشهيد.وهي مشهورة الآن بالمدرسة الكاملية.

ـ تربة زوجته قبلي المدرسة النورية.

يلبغا اليحياوي

هو الأمير سيف الدين يَلبُغا  اليحياوي الناصري،تركي الجنس،كان أحد من شغف بهم الملك الناصر محمد بن قلاوون،وجعله أمير مئة مقدم ألف.ثم ولي بعد موته حماة ثم حلب ثم دمشق.

ومن آثاره بدمشق جامعه الكبير،وقبّة النصر ،وقيسارية عظيمة خارج باب الفرج لا وجود لها اليوم،وحمامين غربي خان السلطان بحي باب سريجة.

جامع يلبغا:هو أحد الجوامع الثمان العظيمة بدمشق،وقد هدم سنة 1960م.

الأمير منجك

هو الأمير سيف الدين مَنجك اليوسفي.وقد تولى نيابة دمشق سنة 770 هجري وأثنى  عليه المؤرخون الدمشقيون ثناءً جميلاً،وكانت مدة ولايته خمس سنين.ومن أعماله أن حافظ على نظافة المياه التي تدخل دور دمشق.ومن آثاره بدمشق:

ـ خان منجك خارج باب النصر

ـ مدرسة للحنفية كانت بالمنيبع حول الجامعة السورية اليوم

ـ حمام بالعمارة.

العهد العثماني

طُويت صفحة المماليك في بلاد الشّام بانتصار السلطان العثماني سليم الأول على المماليك بقيادة قانصوه الغوري في معركة مرج دابق قرب حلب عام 922 هجري الموافق 1516 م،وتبدأ دمشق صفحة جديدة من تاريخها.

وفي ظل الحكم العثماني شعرت دمشق بالإستقرار والإطمئنان وهي في ظل دولة قوية تحميها من خطر الغزاة الأجانب ـ كالصليبيين والمغول ـ وبقيت دمشق على صلة بالعالم الخارجي عن طريق التجارة التي كانت تزدهر لشهرتها ببعض الصناعات.كما أنها كانت محطة تتوقف فيها قوافل الألوف من الحجاج الذين كانوا ينطلقون منها إلى الديار المقدسة.وكانوا يتزّودون من أسواقها في الذهاب والإياب.ومن أهم مكان لتجمعاتهم ساحة المرجة.

واستمر الوجود العثماني في بلاد الشام 400 سنة.وشهدت دمشق تقدماً عمرانياً في ثلاث مجالات:الدور السكنية الفسيحة المخضرّة،والخانات الأنيقة الضخمة مثل خان أسعد باشا العظم،والمساجد الكبيرة الرائعة مثل جامع درويش باشا،وسنان باشا،وجامع النقشبندي والعسالي وغيرها.

ومن أهم أحداث دمشق خلال القرن التاسع عشر فتح محمد علي باشا والي مصر لبلاد الشّام على يد ابنه إبراهيم باشا وامتدت فترة هذا الحكم من 1831م حتى عام 1840م وكانت دمشق مركزاً أو عاصمة لبلاد الشام خلال الحكم المصري الذي عرف بالتفتح  فنشطت الحركة العلمية،وفتحت بعض القنصليات في دمشق وكان أولها القنصلية البريطانية.

وقد حظيت دمشق ببعض الولاة المصلحين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر من أمثال: الوالي ناظم باشا والوالي مدحت باشا وعاشت نشاطاً عمرانياً مميزا.

يقول الشيخ العلامة علي الطنطاوي رحمه الله(كتاب دمشق ـ ص 114 ـ 115):

“كان من آثار الولاة العثمانيين في دمشق،دار العظم وخان أسعد باشا وهما من بناء أسعد باشا العظم،وأن عبد الله باشا العظم بنى المدرسة المشهورة،وأن (السليمانية) من بناء سليمان باشا العظم ،وأن درويش باشا بنى الجامع،وأنشأ الحي الذي نسب إليه:الدرويشية،وضيا باشا جدد تربة ابن عربي وعبد الغني النابلسي وقبة السلطان صلاح الدين الأيوبي.وعمر فوزي فتح سوق علي باشا(الذي أزيل فيما بعد) ومدحت باشا له آثار عظيمة منها السوق ،ومنها إنشاء المدارس ومكتبة الملك الظاهر.وكان من مشروعاته كشف نهر بردى،ومد شارع على جانبيه من أول البلد إلى آخره يكون منتزه أهل الشام من المرجة إلى الصفوانية.

وحسن رفيق باشا مد في أيامه خط بيروت .وشكري باشا من آثاره جسر الحرية .وعارف بك المارديني فتح في عهده معهد الطب سنة 1331هجري وطريق الشيخ محيى الدين والعفيف،والجادة الرشادية وهي اليوم شارع خالد بن الوليد.وخلوصي بك وضع مخططاً لفتح الجادة الخلوصية موازية لشارع بغداد.

وفي أيام عزمي بك فتحت الجادة من الحجاز إلى جسر فكتوريا،وسميت الجادة السليمانية نسبة إلى سليمان شفيق باشا.

ومن أعمال ناظم باشا الوالي العثماني جر مياه الفيجة لمدينة دمشق.وكان الناس قبلها يشربون من مياه الأنهار الملوثة،وقد ألف لذلك جمعية كان من أعضائها شيخ علماء الشام عبد المحسن أفندي الأسطواني،وعطا باشا البكري والشيخ أبو الشامات والدالاتي،فاعترض بعضهم بأن هذا الماء حق البساتين فلم يسمع منهم.وجلب الماء من عين الفيجة .

وهو الذي بنى سراي الحكومة والمستشفى الوطني والصيدلية،وهو الذي مد خط البرق(التلغراف) من دمشق إلى المدينة بمعونة صادق باشا العظم والعمود القائم في المرجة إنما وضع تذكاراً للإنتهاء من مده،وساعد أجلّ مساعدة في مد الخط الحجازي وهو وقف إسلامي،وفي أيامه بنيت الثكنة الحميدية(الجامعة السورية اليوم) وفتح سوق الخجا.

هذا هو الرجل الذي لا يعرف في ولاة العثمانيين من خدم الشام مثله اللهم إلا مدحت باشا.

ويتابع الشيخ الطنطاوي:فيا أهل الشام!كلما شربتم ماء الفيجة العذب الزلال،وصعدتم إلى المهاجرين فرأيتم منظراً هو السحر الحلال،أو دخلتم قصر الجمهورية أو السراي أو الجامعة أو المستشفى،أو مررتم بهذه الأسواق واستظللتم بسقوفها الحديدية،من شمس الصيف ومطر الشتاء،فاذكروا هذا الرجل العظيم ناظم باشا الذي كان له في كل مكان أثر:في القصر دار الحكم،وفي الجامعة دار العلم،وفي المستشفى دار الصحة،وفي السوق منزل المال.رحمه الله”.

وفي عام 1908م قامت جماعة الاتحاد والترّقي التركية والذين اتصفوا بالعصبية والعنصرية بإنقلاب على السلطان عبد الحميد الثاني وتسلّمت الحكم بنفسها واتّبعوا سياسة التتريك والقمع ضد الشعب العربي واللغة العربية .

يقول الشيخ العلامة علي الطنطاوي رحمه الله(هتاف المجد ـ ص183):

“كنا ونحن صغار نرى الحكام كلهم من الترك،لهم السيادة ولهم التكرمة ولهم النعيم،أوسع البيوت من سوق ساروجة وطريق الصالحية لهم،وأعلى المناصب لهم،ولغتهم التركية هي اللغة الرسمية،لا يصل أحد إلى حاجة في السراي إلا بها،فإن كلمهم بالعربية ازدروه واحتقروه،ودروس المدرسة تلقى بالتركية،فمن لم يعرفها ويفهم بها عاقبوه وأسقطوه،حتى لغتنا:اللغة العربية كانت تعلّم باللغة التركية،النحو العربي يدرّس بالتركي فهل سمعتم بأعجب من هذا؟العربية أمُّ اللغات وسيدتها،أكرم لغة في الدنيا وأعزّها وأغناها وأشرفها،تذلُّ أمام هذه اللغة المسيخة التي جمعت ألفاظها سرقة و(شحادة) من لغات الناس.

وكنا نسمع بآذاننا احتقار(ابن العرب)وسبّه،وتقديم التركي وتعظيمه.

كنا من حكم الاتحاديين المارقين في ظلام،فأصبحنا يوماً فإذا الظلام قد انقشع،وإذا العلم الأحمر الذي كان يرفرف على بناية السوقيات في سوق ساروجة حيث كان الشباب يُساقون إلى الموت في سبيل الأمان،وكان الأموات من الجوع مرميين في الطرقات،إذا هذا العلم قد اختفى وعلّق مكانه علم جديد له أربعة ألوان،وإذا هذا الهتاف الذي كنا نُلزم به كل صباح،(يادشاهم جوق يشا) قد خفت وانقطع وارتفع مكانه هتاف جديد ما سمعنا بمثله من قبل:الهتاف بحياة الاستقلال العربي”.

وفي عام 1914 ومع حدوث الحرب العالمية الأولى حدثت منعطفات كبيرة وحاسمة في تاريخ المنطقة ومنها إعدام عدد من قادة الحركة القومية العربية في ساحة الشهداء في دمشق وذلك بتاريخ السادس من أيار عام 1916م،ومن ثم حدثت الثورة العربية الكبرى ودخل جنودها دمشق في مطلع تشرين الأول عام 1918م وارتفع العلم العربي فوق مدينة دمشق.

جاء في مجلة المنار للشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله  العدد 368:

“كان جمال باشا من أحد الضباط الكثيرين المُنتمين إلى جمعية الإتحاد والترقي،فلم يلبث أن ترّقى فوق الهام والرؤوس إلى مقام الزعماء،على حين قد تدهور أميرالاي صادق بك عن منصة الزعامة العليا لها وسقط كثيرمن الضباط وغيرهم من مكانتهم العالية.وإنما ترّقى جمال بك ببراعته وجرأته على سفك دماء خصوم الجمعية،فهو الذي دبر مكيدة المذبحة الأولى في أضنه إذ كان والياً لها بعد الدستور،ولهذا اختارته الجمعية لقيادة فيلق سورية بعد الحرب على كونه لا يزال ناظراً للبحرية.

نعم إن الجمعية اختارت جمال باشا لأجل أن يتم تنفيذ ما توّعدت به سورية  من قبل في صحفها،وتجلّى ذلك فيما بعد في إعدام كثير من الأحرار في دمشق وبيروت في السادس من آيار عام 1916م.حيث تم في ساحة الشهداء في المرجة بدمشق شنق  كل من :شفيق مؤيد العظم،والأمير عمر بن الأمير عبد القادر الجزائري،وشكري العسلي،وعبد الوهاب الإنجليزي،ورشدي الشمعة،ورفيق رزق سلوم

وعبد الحميد الزهراوي.

وجاء في المنار العدد 369:

“لقد كان الشهيد عبد الحميد الزهراوي نابغة من نوابغ السوريين،وكان أحد أشراف البلاد المنصرفين لخدمة الأمّة بكفاءة واستعداد،ومعرفة المصلحة وفصاحة اللسان،وقوة الحجّة وجرأة الجنان،وعرف باستقلال الرأي وصدق الفضائل وقوة الإرادة والإخلاص في العمل وإيثار الحق على الهوى،وتوجيه الهمم والهمة إلى المصالح العامة،وترجيحها عند التعارض على المنافع الخاصة”.

العهد العربي:

أعلن في دمشق ومن قبل المؤتمر السوري ـ أول مجلس نواب ـ استقلال سورية(أي بلاد الشّام) وتم تتويج فيصل بن الحسين بن علي ملكاً عليها وذلك في الثامن من آذار عام 1920م واستمرت الدولة العربية لمدة سنتان طويت من بعدها صفحة الحرية والاستقلال بعد معركة ميسلون في 24 تموز عام 1920م ودخول القوات الفرنسية الغازية بقيادة الجنرال الفرنسي غورو دمشق.

بدأت الحكومة الفرنسية تسعى مع بداية شهر تموز لتنفيذ الانتداب الذي أقرّه مؤتمر”فيرساي” حسب تقسيمات اتفاقية” سايكس ـ بيكو” بشكل عملية احتلال عسكرية كاملة،عقدت هدنة مع تركيا،وأرسلت قوات عديدة للشرق،وفوّضت الجنرال”غورو” مفوضها السامي بإرسال إنذار نهائي إلى الملك فيصل وكان يتضمن مايلي:”وضع السكك الحديدية تحت تصرف الفرنسيين بشكل مطلق،والتعامل بالعملة التي فرضتها فرنسا،وحلّ الجيش العربي وإلغاء التجنيد الإجباري،وأخيراً قبول الانتداب الفرنسي”.

وبعد معركة ميسلون توجه الضابط الفرنسي الجنرال غورو إلى ضريح صلاح الدين الأيوبي في أوائل شهر آب وخاطبه بتهكم وشماتة:”ياصلاح الدين،أنت قلت لنا إبان الحروب الصليبية أنكم خرجتم من الشرق ولن تعودوا إليه،وها نحن عدنا،فانهض لترانا في سورية”.

وفي هذا الموقف المخزي للجنرال الأعورغورو يقول الشاعر معروف الرصافي:

رويدك غورو أيهذا الجنرال                 فقد آلمتنا من خطابك أقوال

اسأتَ إلينا بالذي قد ذكرته من الامر        فاستاءت عصورٌ وأجيالُ

إليك صلاح الدين نشكو مصيبة            أصيب بها قلب العلا فهو مقتال

وهيهات هيهات موقف الجنرال الفرنسي الأعور أمام قبر البطل الشهيد صلاح الدين الأيوبي وموقف الامبراطور الألماني غليوم الثاني عندما زار مدينة دمشق ووقف باحترام وجلل أمام قبر صلاح الدين،وهذا هو الفرق بين السفهاء السفلة من قواد الحرب الصليبية من أمثال غورو الأعور وموقف الامبراطور العظيم غليوم الثاني(ويسمى أيضاً فيلهلم الثاني)،وقد جاء معه بإكليل من البرونز ليضعه على قبر صلاح الدين الأيوبي اعترافاً منه بأعماله الكبيرة وسياسته العسكرية، وفي هذا يقول الشاعر الكبير أحمد شوقي رحمه الله:
عظيمُ الناسِ من يبكي العِظاما            ويندبهمُ ولو كانوا عِظاما

وأكرمُ من غمامٍ عندَ مَحْلٍ                 فتىً يُحيى بمدحتهِ الكراما

وما عُذرُ المُقصّرِ عن جزاءٍ               وما يجزيهُمو إلى كلاما؟

فهل من مُبلغٍ غليومَ عني                  مقالاً مُرضياً ذاكَ المقاما

رعاكَ الله من ملكٍ هُمامٍ                    تعهدَ في الثرى مَلكاً هُماما

أرى النسيانَ أظمأهُ،فلما                    وقفتَ بقبرهِ كنتَ الغَماما

تُقرِّبُ عهدهُ للناسِ حتى                    تركتَ الجليلَ في التاريخ عاما

أتدري أيَّ سلطانٍ تُحيىِّ                    وأيَّ مُمَّلكٍ تُهدي السلاما؟

دعوتَ أجلَّ أهلِ الأرضِ حَرباً              وأشرفهم إذا سكنوا سلاما

وقفتَ بهِ تُذكرهُ مُلوكاً                       تعوّدَ أن يُلاقوهُ قياما

وكم جمعتهمو حربٌ،فكانوا                 حدائدها،وكان هو الحساما

كِلامٌ للبريّةِ دامياتٌ                          وأنتَ اليومَ من ضمدَ الكِلاما

فلما قلتَ ما قد قُلتَ عنه                     وأسمعتَ الممالكَ والأناما

تساءلتِ البريّةُ وهي كَلمى                   أحُبّاً كانَ ذاكَ أم انتقاما؟

وأنتَ أجَلُّ أن تُزري بميتٍ                   وأنتَ أبرُّ أن تؤذي عظاما

فلو كانَ الدوامُ نصيبَ مَلكٍ                  لنالَ بحدِّ صارمهِ الدواما

وقاد معركة ميسلون ضد الاستعمار الفرنسي البطل الشهيد يوسف العظمة.

يوسف العظمة ومعركة ميسلون: البطل الشهيد

جاء في مجلة المعرفة عن الشهيد البطل يوسف العظمة ما يلي:

هو قائد عسكري سوري استشهد في مواجهة الجيش الفرنسي الذي قدم لإحتلال سوريا،حيث كان وزير الدفاع للحكومة العربية في سوريا بقيادة الملك فيصل الأول.

هو يوسف بن إبراهيم بن عبد الرحمن آل العظمة.ينتمي إلى عائلة دمشقية عريقة ترجع إلى جدهم الأعلى حسن بك التركماني.

ولد في حي الشاغور بدمشق عام 1884م وترعرع وتلقى تعليمه الاولي في دمشق،وأكمل دروسه في المدرسة الحربية في إستنانبول وتخرج منها ضابطاً عام 1903م.وتنقل في الأعمال العسكرية بين دمشق ولبنان والأستانة.

وأرسل إلى ألمانيا للتمرن عملياً على الفنون العسكرية،فمكث سنتين،وعاد إلى الأستانة فعين كاتباً للمفوضية العثمانية في مصر.ونشبت الحرب العالمية الأولى فهرع إلى الجيش متطوعاً،وعين رئيساً لأركان حرب الفرقة العشرين ثم الخامسة والعشرين،وكان مقر هذه الفرقة في بلغاريا ثم في النمسا ثم في رومانيا.وعاد إلى الأستانة فرافق أنور باشا ناظر الحربية العثمانية في رحلاته إلى الأناضول وسوريا والعراق.ثم عين رئيساً لأركان حرب الجيش العثماني المرابط في قفقاسيا،فرئيساً لأركان حرب الجيش الأول بالأستانة.

كان متديناً متمسكاً بإسلامه،وصائماً أيام الصوم،ومحافظاً على شعائر الإسلام.وكان يتكلم العربية والتركية والفرنسية والألمانية.

ولما وضعت الحرب أوزارها عاد إلى دمشق،فاختاره الأمير فيصل قبل أن يصبح ملكاً مرافقاً له،ثم عينه معتمداً عربياً في بيروت.فرئيساً لأركان الحرب العامة برتبة قائم مقام في سوريا،ثم ولّي وزارة الحربية سنة 1920م بعد إعلان تمليك الأمير فيصل ،فنظم جيشاً وطنياً يناهز عدده عشرة آلاف جندي.

عندما بلغه أن الفرنسيين أصبحوا على مقربة من دمشق قرر أن يُحاربهم دفاعاً عن بلده وقال للملك فيصل آنذاك كلمته الشهيرة:”

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى      حتى يُراق على جوانبه الدم

ثم أوصاه برعاية ابنته الوحيدة بعد أن طلب منه أن يخوض المعركة وقال له:هل يأذن لي جلالة الملك بأن أموت؟.

حارب الفرنسيين بمعركة غير متكافئة في ميسلون والتي حدثت في السابع من ذي القعدة الموافق 24 تموز عام 1920م،بعد أن أدّى صلاة الفجر،وكان ذلك في ميسلون التي تبعد عن دمشق 30 كم غربي دمشق،وكانت جيوش فرنسا بقيادة الجنرال هنري غورو.

(وخرج المجاهدون تحت راية موجودة الآن في المتحف الوطني بدمشق،وهي العلم العربي من حيث الشكل والألوان:كتب على اللون الأسود:بسم الله الرحمن الرحيم:وجاهدوا في سبيل الله،وكتب على اللون الأبيض:إن الله معنا،وكتب على اللون الأخضر:إنا فتحنا لك فتحاً مبينا،وكتب على الوجه الثاني:على اللون الأسود:لا إله إلا الله،وعلى اللون الأبيض:محمد رسول الله،وعلى اللون الأخضر:اللواء الأول مشاة سنة 1338.)

وكانت معركة بين ثلاثة آلاف من الجنود المتطوعين بأسلحة قديمة في مواجهة تسعة آلاف ضابط وجندي فرنسي مسلحين بالدبابات والسيارات والمصفحات والطائرات،واستشهد وزير الدفاع البطل ومعه أربع مئة مجاهد.

(ومن الذين استشهدوا معه مجموعة من علماء دمشق ونذكر منهم:الشيخ عبد القادر كيوان خطيب الجامع الأموي،والشيخ كمال أحمد الخطيب وهو من حفظة القرآن وخطيب ومدرس في الأموي،والشيخ محمد توفيق محمد سليم الدرا وهو مفتي الجيش الخامس العثماني،والشيخ ياسين نجيب عميد آل كيوان وهو من الخطباء والتجار الورعين وغيرهم…)

ومات من جنود الاحتلال الفرنسي 42 قتيلاً و154 جريحاً.

(ولما سمع فيصل بن الحسين باستشهاد يوسف العظمة ومن معه من العلماء قال:إني أحني رأسي احتراماً لجميع هؤلاء الذين ضحوا بحياتهم في سبيل الإحتجاج على اعتداء لم يعرف له التاريخ مثلا)

وكان يوسف العظمة أول وزير دفاع عربي يستشهد في المعركة.ودفن الشهيد مكان سقوطه في ميسلون،وأقيم له ضريح كتب عليه:”يوسف العظمة وزير الحربية في 7 ذي القعدة سنة 1338هجري.

وفي كل عام وفي ذكرى استشهاده يقام احتفال في مقبرة الشهداء في ميسلون.ولقد تحول منزله في حي المهاجرين إلى متحف خاص بمقتنياته.

قال الشاعر الكبير أحمد شوقي في معركة ميسلون وبطلها الشهيد يوسف العظمة:

سأذكر ما حييت جدار قبر                   بظاهر جِلق ركبَ الرمالا

مقيمٌ ما أقامت ميسلون                      يذكرُ مصرعَ الأسدِ الشبالا

لقد أوحى إليَّ بما شجاني                   كما توحي القبورُ إلى الثكالى

تغيب عظمةُ العظمات فيه                   وأولُ سيدٍ لقيَ النبالا

كأنَّ بُناتهُ رفعوا مناراً                     من الإخلاص،أو نصبوا مِثالا

سراجُ الحقِّ في ثبجِ الصحارى           تهابُ العاصفات له ذبالا

ترى نورَ العقيدة في ثراه                وتنشقُ من جوانبه الخلالا

مشى ومشت فيالق من فرنسا          تجر مطارفَ الظفر اختيالا

ملأنَ الجوَّ أسلحةً خِفافاً                ووجهَ الأرضِ أسلحةً ثقالا

وأرسلنَ الرياحَ عليه ناراً              فما حفلَ الجنوبَ ولا الشمالا

سلوه:هل ترجل في هبوب            من النيران أرجلت الحبالا؟

أقام نهاره يلقي ويُلقى                 فلما زالَ قرصُ الشمس زالا

فَكُفن بالصوارمِ والعوالي            وغُيّب حيثُ جالَ وحيثُ صالا

إذا مرّت به الرجالُ تترى           سمعتَ لها أزيزاً وابتهالا

تعلّق في ضمائرهم صليباً          وحلّقَ في سرائرهم هلالا

ولقد قال الشاعر المصري علي محمود طه أبيات شعر على لسان الشهيد البطل يوسف العظمة قال فيها:

في موكب الغادين مجد أميّة               بجوانحٍ مشبوبةٍ وجوارحِ

لو قستهم بعدوهم وسلاحهِ                 أيقنتَ أنهمو فريسةُ جارحِ

يا ميسلونُ شهدتِ ايّ روايةٍ              دمويةٍ ورأيتِ أيّ مذابحِ

ووقفت مثخنة الجراحِ بحومةٍ            ماجت بباغٍ في دمائكِ سابحِ

يا يوسفُ العظمات غرسُك لم يضعْ      وجناهُ أخلدُ من نتاجِ قرائحِ

أمّاه خانتني المقادر فاغفري قدري    وإن قلَّ الفداءُ فسامحي

قم لحظة وانظر دمشق وقل لها        عاد الكميُّ مع النفيرِ الصادح

ودعاك يا بنت العروبة فانهضي        واستقبلي الفجر الجديد وصافحي

والشاعر الكبير خليل مردم بك يقول في ذكرى ميسلون:

عرفنا يوم يوسف مُبتداها             فهل من مخبر عن منتهاها

أيوسف والضحايا اليوم كثرٌ         ليهنك كنت أول من بداها

مصيبة ميسلون إن أمضّت          أخف وقيعة مما تلاها

فما من بقعة بدمشق إلا             تمثّلُ ميسلون وما دهاها

وقال الشاعر الكبير عمر أبو ريشة:

كم لنا من ميسلون نفضت عن جناحيها غبار التعب

كم نبتْ أسيافُنا في ملعبٍ وكبتْ أجيادُنا في ملعبِ

من نضال عاثرٍ مُصطخبٍ لنضالٍ عاثرٍ مُصطخبِ

شرفُ الوثبة أن ترضي العلى غُلبَ الواثبُ أم لم يغلُبِ

يقول الشيخ العلّامة علي الطنطاوي رحمه الله(الرسالة العدد 634 بتاريخ 27 آب عام 1945م:

“يا أيها العرب جميعاً!

خلدوا يوم 24 تموز،فإنّه كان لنا يوم البؤس، وأنه كان لنا يوم النعيم!

كنت تلميذاً في الصف الأدنى من الدراسة الثانوية،وكان لي رفاق لهم على حداثة أسنانهم قلوب فيها إيمان وفيها حماسة وفيها وطنية،وكنا نحسّ وقد ولّى حكم الأتراك،وغاب عنا شبح الذعر والهول:جمال باشا…واختفت المشانق،وبطل الهمس،والتلفت كلما ذكر هذا الإسم المرعب،وجاء الشريف فيصل،وجاءت معه الأفراح،وقامت الأعراس،ودقت طبول البشائر…كنا نحسّ أننا نعيش في دنيا من الأحلام،في أيام كلها أعياد،وكنا إذ نجول كل خميس في المدينة ننشد(مرسلييز العرب):

أيها المولى العظيم            فخر كل العرب

ملكك الملك الفخيم            ملك جدك النبي

فيردّده معنا التجار في دكاكينهم،والباعة من وراء دوابهم،والمارة في دروبهم،وتردّده منازل دمشق ودورها،ومساجدها وقصورها،وقلعتها وسورها،وتردّده الأرض والسماء…

أو هكذا كان يخيل إلينا،فيشدّ هذا الخيال من عزائمنا،فنتتفخ ونتطاول،ونمدّ أصواتنا،ونقويها لنشعر أنفسنا أننا صرنا رجالاً،وصرنا جنداً كالرجال الذين كنا نراهم يصرخون في المظاهرات ويلوحون بالسيوف والبنادق،ويطلقون النار من مسدساتهم كلما أخذت منهم الحماسة وهزّهم الطرب،بعد أن مضت علينا أيام ما كنا نرى في دمشق رجلاً إلا فاراً من الجيش مختبئاً يمشي مشية المذعور،يخاف أن يلمحه رسول الموت(أبو لبادة) فيقول له الكلمة التي حفظناها،ونحن صغار لا ندري معناها،ولكنا ندري لأنها كانت تخيف وترعب،ويصفر منها الوجه،وترتجف الأضلاع،كلمة:(نرده وثيقة)؟

وأنا لسادرون في أفراحنا،مُمعنون في مسيراتنا،مزهوون باستقلالنا،وإذا بنا نسمع الصريخ في الحمى،ونرى الخطباء يقومون في الأسواق ينذرون الناس خطباً داهماً،وشراً مقبلا،ولم ندر نحن الفتية الصغار ماذا جرى،فسألنا:هل عاد جمال باشا؟هل رجعت مشانقه؟قالوا:لا،جاء ما هو شرّ منه وأمرّ،غورو،قلنا: وما غورو؟قالوا:الأعور…فاعتقدنا أنه الأعور الدجال الذي يظهر في آخر الزمان!

ورأينا الدنيا تقوم وتقعد،ففي كل مكان حشد،وعلى كل منبر خطيب،وعجّت الشوارع بالناس،ولم نكن نفهم ما يجري من حولنا،وإن كنا نسعى في أعقاب الناس متسائلين مشاركين ما استطعنا،ثم رأينا الجموع تمضي إلى النادي العربي..

النادي العربي الذي كان مثوى الوطنية،وكان لنا نحن الصغار المنار الهادي،من خطبه تعلمنا الخطب،ومن بيانه قبسنا البيان،ومن رجاله عرفنا الرجال،هذا النادي الذي خان أهله عهده،وهدروا مجده،وقعدوا به بعد العزّ،ونسوه بعد أن كان هو الذي يذكرهم أوطانهم،فغدا ويا خجلتاه حانة،أو شيئاً يشبه الحانة،يقال له شهرزاد!

مضت الجموع إلى النادي يموج بعضها في بعض،مضينا نتبعهم،حتى إذا وقفوا أطلّ عليهم من شرفته أخطب خطيب عرفته،وأطلقه لساناً،وأشرفه بياناً،وأشدّه على القلوب سلطاناً شيخنا وأستاذنا الشيخ عبد الرحمن سلام البيروتي الشاعر الفقيه رحمه الله وسير في الناس طيبة ذكراه،أطلّ على بحر من البشر يزخر بأقوام برزوا للموت،ويدفعون الغير عن الحمى،ويحمون الذمار،فامتلأ بهم ما بين المستشفى العسكري،ومحطة الحجاز،وميدان الشهداء،وحديقة الأمّة،ولم يبق في تلك الرحاب كلها موطىء قدم،أطلّ فلما رأى الناس استعبر وبكى،وخطب خطبة إذا قلت زلزلت القلوب أكون قد أقللت،وإن قلت ألهبت النفوس أكون قد بلغت،خطبة لو كانت بلاغة بشر معجزة لكانت من معجزات البلاغة،خطبة ما سمعت مثلها،وقد سمعت ملوك القول،وفرسان المنابر،حملتني هذه الخطبة إلى آفاق المستقبل فنسيت أني تلميذ صغير،ورأيتني رجلاً،ثم صبت البطولة في أعصابي،فأحسست أني كفو لغورو،وجيشه العادي أرده وحدي،وكبرت في نفسي حتى صغر الأعور الدجال،الذي خافوه وخوفونا منه ،فلم يعد شيئاً،وإني لا أزال أحفظ منها قوله عليه رحمة الله،وقد سكت لحظة وهو يخطب،وسكت الناس حتى لو أنك ألقيت إبرة على بساط لسمعت لها صوتاً،ثم ولّى وجهه تلقاء المغرب،وصرخ من قلبه الكبير صرخة لا تزال إلى اليوم تدوي في مسمعي:غورو! لن تدخلها إلا على هذه الأجساد وأعقبتها صرخة أخرى،تقلقل لها الفلك،ورجف الكون،تكبيرة واحدة انبعثت من أربعين ألف حنجرة مؤمنة.

ومضى الناس قدماً إلى ميسلون.

أما نحن فمضينا إلى بيوتنا،فما كان فينا من بلغ سن القتال.

ولم يكن إلا يوم وبعض يوم حتى رأينا الدنيا تتبدّل غير الدنيا وأبصرنا كل شىء قد تغيّر،وإذا الناس في جمود كأنهم في مآتم،وإذا الخطباء الذين كانوا ملء الأسماع والأبصار قد اختفوا،وإذا الأعلام ذوات الألوان الأربعة قد طويت،وإذا فيصل الذين كنا نهتف باسمه ونعتزّ به،ويشعر كل واحد منا أنه يملك فيه ملكا إذ يكون له مكان،قد سافر وخلا منه قصره في (العفيف)،فاحتله عدوه،ونام على فرشه،واستوى على عرشه،فحزنا وسألنا:ماذا جرى يا ويحكم حتى انهار الصرح في يوم واحد.وضاع البشر،وتبدلت الدنيا،قالوا:اذهبوا لا تسألوا،أننا خسرنا،ورجعنا من (ميسلون)،وقد خلّفنا فيها استقلالنا الوليد،وقائدنا الشهيد،وصارت الغلبة لهذا العادي العاتي الذي اقتحم علينا البلد اقتحام الغاصب،وغورو!قلنا:الأعور الدجال؟ قالوا:اسكتوا،اسكتوا،لا يسمعكم أحد.

وذهبنا نستطلع حقيقة الخبر،فقادتنا الخطا إلى(الثكنة الحميدية)،فوجدنا عندها جنداً غرباء عنا،سوداً برابرة،وسمراً مغاربة،وشقراً فرنسيين،وإذا هم يخفضون علمنا،ويلقونه،ويرفعون علماً فيه ثلاثة ألوان…وتلفت فإذا رجال منا واقفون ورائي،ودموعهم تسيل على خدودهم في صمت وحرقة وألم خفي يأكل الأكباد،وكان ذلك يوم 24 تموز سنة 1920م،وكانت تلك هي (الدموع )الأولى.

ومرّ ربع قرن،خمس وعشرون سنة كاملة لا تنقص يوماً ولا تزيد يوما،حملنا فيها ألوان الأذى،وذقنا فيها الموت من كل طبق،وعلى كل خوان،ورأينا النار تأكل دورنا،والقنابل تهدم على رؤوسنا منازلنا،فتهدّمت بيوت من أبهى وأغلى وأحلى بيوت دمشق،وقضى فتية من أجمل وأكمل وأنبل فتيتها،وأبصرنا أياماً سودا،ومصائب شدادا،ولكنا ما جَبُنا ولا خفنا،وكنا عزلاً قلّة،وكانت قريعتنا فرنسا القوية العظيمة ذات الحول والطول،فقارعنا فرنسا،ولقينا بصدورنا الرصاص،وهجمنا بالخناجر على الدبابات،وقابلنا بالحجارة الرشاشات،وصبرنا فانتصرنا.

وكان يوم 24 تموز سنة 1945م،ورأيت بعيني العلم ذا الألوان الأربعة يرتفع مرة ثانية على (الثكنة الحميدية)في دمشق،ورأيت رجالاً يبكون،ولكنهم يبكون هذه المرة من الفرح،وكانت تلك هي (الدموع) الأخرى.

اللّهم لك الحمد أن أحييتني حتى رأيت هذا المشهد،الّلهم لك الحمد فما أبالي بعد اليوم أن أموت،لقد أبصرت وطني حراً مستقلاً له راية تُرفرف،وعلم يخفق،وجيش كان عليه فصار له،وجند كانوا يحاربونه فصاروا يحمونه،لقد عدت الآن أقدر أن أقول مباهياً مفاخراً:أن لي وطناً!

الّلهم علّم قومي كيف يحفظون استقلالهم،وسدّد خطاهم نحو وحدتهم،التي لا حياة لهم إلا بها،ولا اعتماد بعد الله إلا عليها!

الّلهم وارحم أولئك الأبطال الذين سقوا بدمائهم هذه النبتة الكريمة حتى صارت دوحة،شهداء الاستقلال من لدن يوسف العظمة شهيد ميسلون،إلى حسن الخراط شهيد الغوطة،إلى أخي ورفيق مدرستي شهيد الواجب،الطبيب مسلم البارودي،الذي أقبل أمس يسعف الجرحى من أبناء الوطن فقتله أعداء الوطن…رحمة الله على الجميع”.

ويقول الشيخ العلّامة علي الطنطاوي رحمة الله(الرسالة العدد 298):

“في مثل هذا اليوم 8 آذار ولد الإستقلال السوري.الذي عاش عامين ثم مات في (ميسلون).

متى يا زمان الشؤم يعود بلدي كما برأه الله دار السّلام ومعرض الجمال،ومثابة المجد والغنى والجلال؟

متى يرجع بردى يُصفق بالرحيق السلسل؟متى تثوب الأطيار المرّوعة إلى أعشاشها التي هجرتها،ورغبت عنها حين سمعت المدافع ترميها بشواها الحامي؟متى تؤوب تلك الحمائم فتشدو على أفنان الغوطة تنشد أغنية السلام؟

متى؟متى يا زمان الشؤم؟

أتظل الأشجار عارية في جنّات الغوطة.لا تعلو هاماتها تيجان الزهر،ولا تتدلى أغصانها بعناقيد الثمر،لأن الزُرّاع قد أغفلوها فلم يتعهدوها بالسقيا،ولم يجروا إليها بالماء؟

أتبقى هذه الحقول والجنائن جرداء قاحلة لأن الفلاحين انصرفوا عنها مستجيبين لنداء الوطن الجريح المُمزّق الأوصال،مهطعين إلى داعي الجهاد حين أذن بهم:حي على خير العمل؟

متى؟متى يا زمان الشؤم يستريح الشام(بلدي الحبيب)؟

ما رأيتك استرحت يا (بلدي الحبيب) ساعة واحدة،فهل كُتب عليك أن تظل أبداً في تعب وعناء؟إني لم أكد أتبين نور الحياة وأرى وجه الدنيا،حتى رأيت المدرس يدخل علينا (معشر الأطفال) مُربد الوجه فزعاً مذعوراً.فسألنا:ماله.. فقالوا لنا كلاماً لم نفهم له معنى،قالوا:إنها الحرب!ولكن أيّ حرب…إن المدرسة مفتوحة،والأسواق قائمة،والمدينة هادئة مطمئنة فأين هي هذه الحرب؟

قالوا:هي هناك في مكان بعيد.فضحكنا وقلنا:هل هناك أبعد من (الصالحية) أو (المزة) إننا لا نبلغها حتى نمشي ساعة على الأقدام،وليس فيها حرب،فأين هذه الحرب؟

وهزئنا ولبثنا نلعب ولكن الأيام أرتنا واأسفاه هذه الحرب:رأيناها في أسواق دمشق،عندما شاهدنا القتال يدور فيها كل صباح من أجل رغيف من الخبز،والفرن مغلق ما فيه إلا كوة واحدة مفتوحة،يقوم عليها الخباز والجندي إلى جانبه،يدعو واحداً بعد واحد من هؤلاء الناس الذين سدوا الشارع بكثرتهم لا يطلبون صدقة ولا إحساناً،وإنما يطلبون الخبز بالذهب فلا يجدونه،وما شحت السماء بالقطر وما أجدبت الأرض،ولكن(حلفاءنا) الألمان استأثروا بأطايب القمح وتركوا لنا شر الحنطة وأخبث الشعير ثم يا ليت أنا وجدناه.

نعم،لقد رأينا (نحن الأطفال) الحرب في شوارع دمشق حين أبصرنا الرجال يأكلون قشور البطيخ،وينبشون المزابل من الجوع،ثم رأيناها أوضح وأظهر،حين لم نعد نبصر في الشام رجالاً  لأن الرجال أكلتهم الحرب…ثم رأيناها أشد ظهوراً بطلعتها الكالحة القبيحة حين تعودنا مرأى جثث النساء والأطفال الذين ماتوا من الجوع،نراها كل صباح ومساء،في غدونا إلى المدرسة ورواحنا منها..

في وسط هذه المذبحة المرعبة،وخلال رائحة البارود،وعزيف المدافع،وإعوال اليتامى والثاكلات…نشأت وعرفت الحياة فرأيت(البلد الحبيب) نصفه مقبرة للأموات،ونصفه مستشفى لمن ينتظر الموت.

وفي ذات صباح أفقنا على قصف يزلزل البلد،ويهزّ الدنيا،فسألنا:ما الخبر؟قالوا:البشارة.هذا مستودع الذخائر يتفجر ويحترق،لقد أباده الألمان قبل هزيمتهم،لقد النتهت الحرب،وانتهى حكم الظالمين من أحفاد جنكيز خان!وبعد ساعة واحدة يصل الشريف.

قلنا:من الشريف؟قالوا:فيصل لن الحسين،هيا هبّوا لاستقباله،فنهضنا ولكنا لم نبادر إلى استقباله ،وإنما بادرنا إلى الجيش المنهزم نذبحه! فلما فرغنا منه مسحنا أيدينا من دمه وعدنا نستقبل الشريف.

نسيت دمشق جوعها وتعبها،ونسيت نصف رجالها الذين ماتوا على شاطىء غاليبولي وعلى ضفاف الترعة في سبيل مصالح الألمان،ونسيت أحزانها على من عانقتهم حبال المشانق في ساحة المرجة في دمشق والبرج في بيروت،وتكلّفت دمشق الإبتسام بل لقد ابتسمت حقيقة لما رأت وجه فيصل،وذهبت تبتغي أن تنثر على موكبه من أزهار الغوطة جنّة الدنيا،فلم تجد في الغوطة زهرة واحدة،لقد صيّرتها الحرب قاعاً صفصفاً،فنثرت على موكبه أزهار القلوب:دموع الفرح،وهتاف المحبة وتصفيق الإعجاب وحيت لأول مرة العلم العربي الذي يرفرف اليوم فوق بغداد.

وأحبت دمشق فيصلاً أصدق الحبّ،كما أحبها فيصل،ووثبت ترقص من الطرب وتغني حتى كأن كل يوم من حكمه عيد وفي كل بقعة من الشام عرس،وفاض الخير وابتسم الزمان،وطغت الحماسة على الأفئدة،وعمّ البِشر الوجوه،ووُلدت دمشق الأمويّة عاصمة الأرض مرة ثانية…وظننت أنك استرحت يا بلدي الحبيب!

ولكنا لم نلبث إلى قليلاً حتى سمعنا صوت النذير…ماذا؟ماذا هناك؟فقال:انهضوا ودافعوا عن استقلالكم الوليد،لقد جاءت القوّة العاتية تخنقه في مهده…فجُنّ جنون دمشقّ،وعصفت النخوة في رؤوس بنيها،فلم يسمعوا قول فيصل الحكيم ولا أقوال العقلاء من صحابته،ولم تمض العشيّة وينبثق الفجر حتى كانت دمشق كلها في بقعة الشرف في (ميسلون)ولم يُؤذّن الظهر حتى رجعت دمشق من ميسلون وقد تركت فيها استقلالها الوليد وقائدها الشاب صريعين مُجندلين على وجه الثرى،هذا قتيل شهيد،وذاك جريح مريض،وفقدت دمشقّ كل شىء،ولكنّها لم تفقد الشرف،كما قال من قبل فرانسوا الأول ملك الأقوياء…الذين دخلوا دمشق دخول المنتصرين الفاتحين…

وعاد(بلدي الحبيب) إلى حياة الرعب والأسى والنضال…

ولكنه لم يَخَف ولم يَجبُن.لقد خسر في(ميسلون) ولكنه حفظ الدرس الذي ألقته عليه الحياة في ذلك اليوم،واستراحت دمشق حيناً ثم قفزت قفزة اللبؤة الغضبى،فإذا هي في العرين(في الغوطة الخضراء)وإذا الأقوياء بجيشهم كله وعتادهم يقفون أمام الثائرين،وهم بضع مئات يقودهم رجل أُميّ من دمشق كان خفيراً من خفراء الأحياء،فلا يستطيع الأقوياء الظفر بهم،فيعودون حنقين،فيسلطون نيران مدافعهم على المدينة الآمنة المطمئنة،فلا يروعها إلا جهنم قد فتحت أبوابها من فوقها،فيخرج أهلها من منازلهم تاركين كل ما فيها للنار،ويمسي المساء على دمشق وثلثها خرائب كخرائب بابل وقد كانت في الصباح أجمل وأبهى وأغنى قصور دمشق…

وتعيش دمشق سنتين وسط الرعب والنار والحديد،ثم يحل السّلام وتخرج دمشق من المعركة وقد نجحت في الإمتحان الثانوي في الغوطة،كما نجحت من قبل في الإمتحان الإبتدائي في ميسلون…

وأحسب أنك استرحت يا (بلدي الحبيب)!

أحسب أنك استرحت،فإذا النار تسري في أحشائك،وإذا المعارك في أسواق دمشق…حول صناديق الإنتخاب،الذي أراده الأقوياء صورياً وشكلياً،وأباه الشعب إلا انتخاباً حقيقياً،فلما لم يكن ما يريد الشعب حطم الصناديق،وهدم قاعات الانتخاب وانطلق ثائراً مرعداً مبرقاً،يهزأ بالحديد ويفتح صدره للبارود…وظفر الشعب،وكيف لا يظفر وقد امُتحن مرتين…

فقلنا:قد استراح ولكنه لم يسترح وإنما دعي إلى الإمتحان العالي،إلى النضال الصامت المرعب،فثبت وناضل،ولبثت دمشق خمسين يوماً كاملة،وهي مضربة ليس فيها حانوت خباز أو بقال،وليس فيها قهوة مفتوحة،ووقعت المعارك في الأسواق وعلى أبواب المسجد الأمويّ،فأقبل النساء بصدورهن على الرصاص،وهجم الأطفال على الدبابات،وعزمت دمشق عزماً ثابتاً على الموت أو الظفر،وعرف العدو أنها لن تُفل عزيمتها أبداً،ولن تلين قناتها فلانت قناته ودعاها إلى الصلح أو التحالف.

وهتفنا هذه المرة من أعماق القلوب:لقد استراحت(بلادنا العزيزة) وعادت أيام فيصل مرة ثانية،ودقت طبول البشائر وأديرت كؤوس الفرح،ورجعت الأعراس…

ولكن الأعراس لم تتمّ…لم تتمّ يا زمان الشؤم…

هذا صوت النذير العريان،وهذه ألسن النيران،وهذا صوت البركان،فماذا يحمل إلينا الغد يا زمان ،أيّ مصيبة جديدة يأتينا بها؟أكُتِب علينا ألا نستريح ولا نهدأ أبداً؟

لا بأس يازمن الشؤم،إننا نُرّحب بالمصائب فسقها إلينا،إننا بنو المجد والحرية والحياة،فلا أمتعنا الله بالحياة إن لم ننتزعها من بين فكي الموت انتزاعاً..

وستحيا أنت ي(بلدي الحبيب) ماجداً حراً ولو متنا نحن ماجدين أحرارا!

فترة الإستعمار الفرنسي:

لاحق الفرنسيون المواطنين الأحرار،وعمدوا إلى كمّ الأفواه،وفرض الضرائب الباهظة،كما فرضوا اللغة والتاريخ الفرنسيين على المناهج التعليمية،كما عمدوا إلى تجزئة البلاد إلى دويلات منها:دمشق،حلب،الإسكندرونة،اللاذقية،جبل العرب ،لبنان،الذي أعلن الجنرال غورو قيامه في 31 آب عام 1920م ،وكان قد سبق كل ذلك فكّ لواء شرقي الأردن عن مرجعه دمشق ليكون تحت الإنتداب البريطاني.

وفي عهد الإنتداب الفرنسي وضعت خطط للقضاء على الوجه العربي الإسلامي للمدينة،فهدمت أجمل مناطق دمشق التي كانت تزخر بالمتنزهات والمرابع والآثار في شمال القلعة الغربي،وأقيم على أنقاضها ما يعرف باسم سوق الهال القديم.

وفي الساعة السادسة من مساء الأحد 18 تشرين الأول سنة 1925م قامت فرنسة بضرب دمشق بالقنابل،واستمر القصف أكثر من يومين دمرت خلالهما المدينة تدميراً شاملاً،واندثرت منطقة”سيدي عامود” التي تحولت إلى أكوام من الأنقاض وسميت فيما بعد بالحريقة،كما دمرت أحياء القيمرية ومأذنة الشحم والشاغور والقراونة والسويقة والميدان وغيرها.

يقول الأستاذ العلامة الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله(الرسالة العدد 421):

“كنا نذكر الحرب التي مضت وما حملت إلينا من الجوع والخوف والنقص في الأموال والأنفس والثمرات،وكيف كان الشعب يموت جوعاً لأن التجار الفجار قد احتكروا خبزه،فذهب من الناس من ذهب،لتمتلىء صناديق المحتكرين بالذهب،ثم لا يجد الأموات قبراً لأن الحرب لم تبق من الرجال من يقدر على حفر قبر.نذكر هذا كله ثم ننظر إلى هذه الحرب فنراها سلاماً علينا وأمناً لم نجع فيها ولم نعر،ولم تنل منا منالاً  اللهم إلا ما نالت بأظافر التجار وأنيابهم،إذ جعلوا الواحد من ثمن الأشياء عشراً،وربما بلغوا ببعض الأثمان مائة ضعف.

واستمر مرير الحرب،وانتشرت نارها ونحن لا نعرف مكانها إلا على السماع،ثم أصبحنا ذات يوم على صوت الراد(الراديو)يقول إن الحرب في “الكسوة” على أبواب دمشق،فنظرنا شطر القبلة فلم نجد على جبل “المانع” أثراً لحرب،فلم تكن إلا ليال حتى بدت في الأفق القبلي من دمشق ومضات المدافع وسمعنا أصواتها فصدقنا ما قال الراد،وأيقنا أن قد بلغتنا الحرب،ولكنا لم نكبرها ولم يصبنا الذعر منها،إذ لم تمسسنا نارها،ولا أحسسنا أوارها،ثم دنت منا النار،وانطلقت المدافع الثقال من قلاع”المزة”و”قاسيون”،فاهتزت دمشق ولكن أفئدة أهلها لم تهتز،فانطلقوا يؤمون “المهاجرين”يشرفون منها على المعركة وهي دانية منهم وأصواتها في آذانهم،وشظاياها عن أيمانهم وشمائلهم.وإنهم لفي إشرافهم هذا،واجتماعهم في المهاجرين،عشية يوم الجمعة 20 حزيران،يتحدثون في عرض الجيش المهاجم على المقاتلين في دمشق كف أذاهم عنها،وتركها(مكشوفة) كيلا تعبث بمحاسنها أيدي الحروب،فتجعل عامرها يبابا،وقصورها تلال،وكيف أبى المقاتلون فعرضوا دمشق بإبائهم للأذى،وما يعنيهم أذاها،ولا تهدم لهم(إذا هي تخربت) دار يفجعون في زوج ولا ولد!وكانت المعركة مشتدة هذه العشية،وكان الناس مزدحمين ينظرون بجهنم قد فتحت أبوابها وإذا القنابل قد ضلت طريقها فإذا هي تساقط على (المهاجرين) أجمل أحياء دمشق وأبهاها،فطار الفزع بألباب الناس،وكانت ساعة الهول التي يستعاذ بالله منها،وصار الناس كحالهم يوم القيامة،حين يجد المرء ما يشغله عن أخيه وزوجه وبنيه،فخلّفوا الدور مفتحة الأبواب،واستلموا منافذ الطرق،مهاجرين إلى(الشام) يعتصمون بالأمويّ،ويقيمون في جواره بعيدين عن مواقع القنابل التي تحمل الموت والدمار.فلا ترى على الطريق إلا الناس مسرعين بوجوه شاحبة،وأعضاء من الخوف مضطربة.وربما خرجت المسلمة المخدرة مكشوفة الوجه،والمدافع تنطلق،والقنابل تتالى،وتتعاقب،كالغيث إذا انهمر…وكان أمر لا يوصف.

نام الناس هذه الليلة التي حسبوها من ليالي الأعياد آمنين لا يخافون الحرب وقد انطفأت نارها،وينتظرون بآمالهم الغد القريب ليحمل إليهم السلام والرخاء.فلما كانت الساعة الرابعة(إلا ربعا)،ومآذن دمشق المائة والسبعون تصدح(بالتراحيم) الأخيرة،ولم يبق دون الفجر إلا قليل،والليل ساكن سكون السحر الفاتن العميق…وإذا برّجة لا توصف قلقت البيوت فذهبت بها وجاءت كأنها الزلزال العظيم،لولا أنها اقترنت بصوت أفاق منه الناس،وإن أجلدهم ليضطرب في فراشه اضطراب السمكة خرجت من الماء،ثم أعقبتها رجتان،ثم جاءت رجّة أنست الناس الأوليات فحاروا وذهبت المفجأة بألباب ذوي اللب منهم وخرجوا من بيوتهم يتراكضون، وما لأحدهم وجهة ولا مقصد.ثم انجلت الحال،فإذا هي طيارة لا يدري أحد موردها ولا مصدرها…ألقت قنبلتها الأولى على أكواخ في مزرعة عند (جسر تورا) فيها ثلاث أسر في كل أسرة منها أكثر من عشرة أشخاص،فأبادت الجميع،وما ثمة مطار ولا ثكنة،ولا شىء مما يصحّ أن يكون لقنابل الطائرات هدفاً،وألقت الثانية على(باب السلام)من أسفل (الجزيرة) فهدمت أربع عشرة داراً(لا شقة)،والثالثة وقعت على الكلاسة فأبادت الحي كله،ولو زاحت عن موقعها عشرة أمتار من هنا أو هناك،لطارت بمأذنة العروس أو بقبر صلاح الدين،ورمت الأخيرة في الحي الجديد في (سيدي عامود)،الذي لم يكد يبنى بعد خرابه،حتى حمل إليه الدمار في الثانية من حمله في الأولى،وما في كل ما دمرت الطائرة ولا في جواره ولا قريباً منه شىء من المصانع والمواقع العسكرية البتة.

وقع ذلك كله في أقل من خمسين ثانية،لم يمتد إلا ريثما اجتازت الطيارة من أول المدينة القديمة إلى آخرها،ثم توارت في الظلام كما خرجت من الظلام.

أسرعت مع من أسرع إلى مطرح القنابل وبدأت من (سيدي عامود) فإذا القنبلة قد سقطت في وسط الطريق في ميدان صغير يتقاطع فيه شارعان،فاحتفرت حفرة هائلة،وتطايرت قطعها وشظاياها،فأصابت أربع عمارات جديدة مترعة بالسلع التجارية القيمة فضعضعتها وهدّت أركانها وأدخلت بعضها في بعض،وأبادت كل ما كان من سلعة ومتاع،وأفقرت أسراً الله أعلم بعددها،وحطمت القنبلة كل زجاج الحي،وقتلت رجلاً وامرأتين،وذهبت من بعد إلى (الكلاسة) فإذا هذا الحي الآمن بأمان المسجد،القائم في حمى صلاح الدين،قد غدا تلاً واحداً كالقبر العظيم كأنه لم يكن منذ ساعات يبسم للحياة ويبسم له المجد،وكأنه لم يكن منزل الكرام الصيد المحسنين…وكان الناس مزدحمين يعملون مساحيهم في هذه الأنقاض فيكشفون عما تنفطر لهوله القلوب،ويلقون من غرائب الحياة ومآسيها ما يخجل أكبر القصاص ويدفعه إلى حطم القلب،والنساء يولولن يسألن عن زوج ضائع أو ولد مفقود ويقعن على أرجل الكشافة والفعلى وأصحاب المساحي يسألنهم الإسراع بالكشف عمن افتقدن من أقربائهن،ومنهن من تقبل على التراب تنبش بيديها وهي تعد الدقائق والثواني تتصور الموت جاثماً على صدر من تحب،فإذا رأت أنها لم تصل إلى شىء وهالها الأمر،جن جنونها فأقبلت تلطم وجهها وتشد شعرها..والرجال لم يكن الرجال بأجلد من النساء وكيف يتجلد الرجل ويصبر وحبيبه تحت الأنقاض وكلما مرت لحظة دنا من الموت باعاً،كيف يصبر وهو يظن أن في يده حياته،وكيف يعيش من بعده إذا توهم أنه هو الذي قتله بتقاعسه عن أسعافه؟

إن الذي رأيت في الكلاسة من الفواجع والمآسي لا يقدر على وصفه لسان ولا قلم،والحفارون خلال ذلك يخرجون جثة من هنا وجثة من هناك،فينادون عليها ليعرفها من يعرفها.ولقد وجدوا جثثاً مشوهة لم يُعرف أصحابها،ووجدوا ساعداً مبتوراً لم يدر من صاحبه…وهذه امرأة حديثها عجب من العجب،فقد كانت تنام بين ولديها فلما سمعت الرجفة نهضت وكل عرق منها يرتجف كأنّه ريشة في مهبّ الريح فوجدت الظلام من حولها دامساً طامساً،فمدت يديها تتلمس ولديها فوقعت على الرضيع ولم تقع على الآخر،فتحسست مكانه فإذا يدها على جذع من الخشب وسط تراب منها،فنهضت كالمجنونة فاصطدم رأسها بشىء قريب حسبته السقف فازداد جنونها ولم تدر أهي في يقظة أم في حلم،فأخذت بيد ابنتها التي ما ينقطع بكاؤها وقبعت في فراغ وجدته.

وهذا هو الأستاذ المصور يفتش عن ولده الحبيب،وقد جحظت عيناه من الذعر،وتبدّلت حاله،وصار لون خديه كقشرة الليمون،وهو يستحث الحفارين،ويضرب بيديه التراب…هنا ابنه،ولده الحبيب!يا أيّها الآباء! جاء به من المهاجرين يوم الروع ليودعه المكان الآمن عند جدار المسجد،عند قبر صلاح الدين.ومرت ثلاث ساعات كانت عليه وعلى المشاهدين كأنها ثلاثة عصور،ثم انكشف الردم عن نصف غرفة وإذا الولد فيها وهو حيّ،لكن ذراعه تحت الردم،وهو يصرخ:أبي،ارفعني،ارفعني يا أبي.فلما سمع الأب صوته وثب إليه يعانقه وهو يبكي،وكل عين ثمة تبكي..ولكن كيف يرفعه وفوق ذراعه كل تراب؟وأقبلوا ينقلون التراب والولد يصيح صياحاً جعل أباه يفكر بإنقاذه ولو بقطع يده،أسمعتم؟وإنهم لفي ذلك وإذا بجذع يهوي على رأس الصبي فيقتله حالاً.

وها هنا طفل رضيع يجدونه حياً يمتص من ثدي أمه الميتة.حقائق لو كانت خيالاً لكانت من أغرب الخيال.

ولما انصرفت من (الكلاسة) أخذ بيدي صديق لي وأنا لا أبصر من الأسى والحزن طريقي فقال:إن ما رأيت ليس بشىء.إن أحببت أن تنظر إلى أفظع عدوان وأشقى ضحية وأروع مشهد،فتعال معي إلى باب ثلاثة أرباعهم من النساء والأطفال،ونحو خمسين جريحاً لا يكاد يعيش منهم أحد،ما قتل هؤلاء في المعركة الحمراء ولا سالت نفوسهم على ظبى الأسنة،وشفرات السيوف…ولو واجههم العدو في حومة الوغى لوجدهم فرسانها وسادتها،ولكنه أخذهم غدراً وعدا عليهم وهم آمنون في فرشهم فأخذ الرجل من جنب زوجته وولده،أو قتلهم جميعاً لم يتورع عن قتل النساء،ولا عن ذبح الذراري،ولم يكسر عليهم الأبواب ويدخل دخول الغاصب القوي،ولكنه مر في السدفة الحالكة مرور اللص الجبان ،فراغ عن مواطن الجندية ومنازل الكماة لأنه ليس من أكفائهم،وتخير هذه البقع الآمنة حول بيت الله فصب عليها كل ما في النفوس الشريرة من خسة ودناءة ولعله أراد بنيرانه بيت الله،أو لعله أراد بها قبر السيد الذي علم قومه كيف يكون النبل.

فيا رحمة الله على النبل وأهله،وسلام على هذه الأرواح الطاهرة،وعلى الظالمين لعنة الله”.

ووجه زعيم مصر سعد باشا زغلول نداءً يتعاطف فيه مع محنة سورية ونشره بتاريخ 5 تشرين الأول عام 1925 ونشرته مجلة المنار بالعدد 446:

“سوريا،التي تربطنا بها روابط وثيقة من تاريخ،ولغة،ودين،وعادة،وجوار،نزلت بها هذه الأيام حوادث هائلة،تقشعر من هولها الأبدان،ونوازل جائحة تنخلع من بشاعتها القلوب،وشرور من أفظع ما يرتكبه إنسان ضد إنسان!!!

منكرات ارتكبها عمال حكومة الانتداب ضد محكوميهم الآمنين،فأرهقوا الكثير من أرواحهم البريئة،وأراقوا الغزير من دمائهم الطاهرة،وحرقوا كثيراً من قراهم وبيوتهم،وعفوا كثيراً من آثار مدنيتهم الفاخرة،ورملوا الجمّ الغفير من نسائهم ويتمّوا العدد العديد من أطفالهم،وصيّروا كثيراً من السكان بلا سكن يؤويهم،ولا غطاء يغطيهم،ولا خبز يتبلغون به!!!

وبهذه الآثام أذلوا شعباً كان عزيزاً،وأسلموه للعدم والشقاء،وأفهموا الناس جميعاً أن حكومة الانتداب لم تقم على مازعموا لمصلحة المحكومين،بل لمصلحة الحاكمين،وصموا اسم فرنسا،في الغرب وفي الشرق،وصمات لا يمحوها إلا إنزال أشد العقاب بهم،وترك البلاد لأهلها يحكمون أنفسهم كما يشاؤن.

وإنا معاشر المصريين لنشعر في قلوبنا بكل عطف على إخواننا المصابين،ونرثي لمصابهم رثاء الإخوان للإخوان،ونحسّ بأن علينا واجب مساعدتهم بكل ما في الإمكان ،مما يخفف من بلواهم،ويلطف من آلامهم،ونرى أن هذا أيسر ما يجب للجار على الجار،وأقل ما يساعد به الإنسان أخاه الإنسان”.

ومن جهة أخرى،قامت دائرة الأوقاف في عهد الانتداب بتدمير ما لم تستطع القنابل الفرنسية تدميره،فهدمت المدرسة القجماسيّة وحمام عذراء والمدرسة الأحمدية،وجامع تنكز والمدرسة العذراوية والمدرسة الجوزية وغيرها من الآثار بحجة أنها ستقيم بديلاً عنها.

الثورة السورية الكبرى 1925 ـ 1927م

قاومت دمشق الإستعمار الفرنسي وكان لأبنائها الدور الكبير في الثورة السورية الكبرى عام 1925 ـ 1927 م،واضطرت خلالها فرنسا لاستدعاء خيرة قوادها،كما أجبرت الثورة فرنسا على تغيير مفوضها السامي .وسعت عن طريق سلوك المفاوضات إلى الوقوف على مطالب الشعب.

يقول الشيخ العلامة علي الطنطاوي رحمه الله(هتاف المجد ـ ص 184 ـ 185):

“وكانت الثورة،وكانت ثورة عجباً في الثورات.

قاتلنا فيها بلا سلاح ولا عُدد،الدولة التي خرجت من الحرب الأولى وجيشها أقوى جيش برِّي في الدنيا.

لقد كانت تسوق فرنسا الحملة فيها خمسة آلاف،فيتربص لها خمسون ثائراً وراء(دكوك)البساتين عند جسر تورا،فيردوها،لقد لبث اسم جسر تورا يتردد في البلاغات الفرنسية سنة ونصف السنة،وفرنسا لا تستطيع اجتيازه،لأن حسن الخراط يمنعها من أن تجتازه”.

ويقول الشيخ العلامة علي الطنطاوي رحمه الله(كلمات صغيرة ـ ثورة الإيمان ـ ):

“إن في أعماق نفوسنا ـ معشرَ العرب ـ بطولة عجيبة لا تظهرها إلا المحن الشداد،وكلما حاق بها الخطر صفا جوهرُها وظهر معدنها.وهذه سوريا سامها الفرنسيون الخسف بعد ميسلون وحملوها على المكروه،فأرت الدنيا من البطولة والبذل ما سارت به البُرُد(جمع بريد) واهتزت الاسلاك،وكان حديث أهل الارض يوم قمنا على فرنسا القوية المظفرة التي انتصرت على الألمان،ووقف لها عند جسر تورا حارسٌ عامي منا اسمه حسن الخراط،فلم تستطع فرنسا بعددها وعتادها ومدافعها ودباباتها أن تجتاز النهر الذي عرضه خمسة أمتار إلا بعد ثلاثة عشر شهراً!

وما انفكت سوريا كلما أخمد الظلم بحديده وناره ثورة لها أشعل الإيمان أخرى.ما كلّت ولا ملّت ولا وَنت،حتى جلا عنها آخر جندي فرنسي وعاد لها حقها في الحرية والاستقلال”.

وجاء في مقال بعنوان”سوريا في قرن” نشرته رابطة أدباء الشام للدكتور خالد الأحمد:

“لقد كان للشيخ بدر الدين الحَسني رحمه الله الدور الرئيسي في إيقاد شرارة هذه الثورة وتوجيه قادتها،وقد أرخّ لدوره فيها الأستاذ محمد رياض المالح حيث يقول:”لقد رحل مولانا المحدث الأكبر ضمن المدن الشامية حاثاً على الثورة ضد الفرنسيين فما كاد يعود من رحلته حتى هبّت الثورة السورية في جميع أنحاء البلاد.وقد قدم المندوب السامي الفرنسي تقريراً إلى الحكومة الفرنسية وقال فيه:” أن الشيخ بدر الدين الحَسني هو المغذي الحقيقي للثورة مادياً ومعنوياً،وأن أثره في البلاد هو الذي فجر الثورة”.

وقد أكد العلامة الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله في مذكراته على دور الشيخ في الثورة السورية فقال:

“وكانت هذه الجولة هي الشرارة التي أشعلت الثورة،لا أقول هذا من عندي،ولا نقلاً عن الثقات العارفين مشايخي وصحبي،كلهم يعرف هذا،ويعرفه كل من أدرك تلك الأيام،ولكن أنقله عن تقرير رسمي لمندوب المفوض السامي الفرنسي،نشرته جريدة الأحرار في بيروت العدد 678 الصادر في الثاني من شعبان 1354هجري.فقد بدأت الثورة عقب عودة الشيخ من حلب.وصار تشكيل جماعات لأجل أن تقوم البلاد بمساعدة بعضها البعض على الفرنسيين.وأنا العبد الفقير كانت وظيفتي أن أحمل مصحف وخنجر،ونحلف الناس،والله حلفت مقدار أربعة آلاف من صنف الزكرتية،والرجال المشهورة،مثل ديب الشيخ،وأبو شاكر القلعجي من العمارة،ومن الشاغور حسن الخراط،وأبو حامد الفحل،وأبو عنتر…ومن الميدان أبو كمال عرار…ومن سوق ساروجة عبد الوهاب الرجلة والأغواني…ومن حارة الأكراد أبو داود الشيخاني وأبو عمر ديبو…(انتهى كلام الطنطاوي رحمه الله).

قام علماء دمشق الشيخ بدر الدين الحسني والشيخ علي الدقر يطوفون في المحافظات،ويدعون الناس لجلب السلاح والتمرين عليه والاستعداد لمواجهة العدو،وكانت كلمة الشيخ بدر الدين الحسني والشيخ علي الدقر:”اللص دخل داركم ليسرق مالكم ودينكم،استعدوا وتمرنوا على السلاح“،وبهذا يكون العلماء أول من دعا للثورة وحرض الشعب لقتال العدو.

ومن أبرز الذين قادوا المقاومة المسلحة ضد الفرنسيين في ثورة عام 1925م الشهيد البطل حسن الخراط رحمه الله.ومحمد الأشمر رحمه الله وأحمد مريود رحمه الله

 1 ـ البطل الشهيد حسن الخراط

يقول الشيخ العلامة علي الطنطاوي رحمه الله(هتاف المجدـ ص185):

“هل يعرف تلاميذ المدارس اليوم ما جسر تورا،ومن حسن الخراط؟

إن حسن الخراط يا أولادي،لم يكن قائداً درس في الكلية العسكرية،ولم يكن خريج الجامعة،ولم يكن من أبناء الأسر المعروفة،ولا من أرباب الأموال.

إن حسن الخراط حارس ليلي أتى من الشاغور”.

ولد حسن الخراط في دمشق عام 1875م،في إحدى حارات الشاغور،ونشأ فيها على القيم الدمشقية الأصيلة،من حبّ الخير لكل الناس،ورفض الظلم،والدفاع عن المساكين،حتى شاعت تسميته بين الناس ب”شيخ الشباب”.فكان يقصده كل مظلوم،فلا ينام في بيته قبل أن يأخذ له حقه.

(وكان أحد رؤوساء الخفر أي الدرك الليلين الموكلين بحراسة الأحياء،وتم تسريحه من قبل الفرنسيين لمساعدته الثوار).

كان حسن الخراط مُتمسكاً بأهداب الدين،يؤدي فرائض الصلاة بأوقاتها،كان كثير التسبيح،يذكر الله كثيراً،ويقرأ ما حفظ من كتاب الله غيباً،يصوم شهر رمضان،لم يخرج إلى ميدان القتال من أجل مال أو منصب،أو فرض نفوذ أو جاه،بل لوجه الله تعالى والجهاد في سبيله،أكرمه الله،ونال الشهادة برضاه .

وعندما اتجه الغزاة الفرنسيون لمهاجمة دمشق سنة 1920م،كان لحسن الخراط دور في حشد المتطوعين لمعركة ميسلون،وتوفير ما تيسر من الأسلحة لهم،بالتنسيق مع أهل حيّه ومنهم القادة العسكريين الكبار للجيش السوري الذين أصروا على مواجهة الفرنسيين،بالرغم من عدم تكافؤ القوى..

(وكان معظم قيادات معركة ميسلون من أبناء نفس الحي أي الشاغور،كالشهيد يوسف العظمة وزير الحربية،والباشا حسن تحسين الفقير قائد الجيش السوري في المعركة،وقائد المدفعية الأمير آلاي محمد شريف الحجار).

وانتهت المعركة باستشهاد وزير الحربية يوسف العظمة وعدد من أصحابه(ومنهم الشيخ عبد القادر كيوان خطيب الجامع الأموي)،ثم انسحب الباقون من ميدان المعركة انسحاباً منظماً،كي لا يتم تطويقهم وإبادتهم من قبل الفرق المدرعة الفرنسية والطيران،حيث انسحب القادة العسكريون إلى درعا ثم الأردن،وانسحب قادة الأحياء والمتطوعون إلى أحيائهم.

وفي ما بعد،عاودت القيادة العسكرية السورية في الأردن الاتصال بالزعامات السياسية،وزعماء العشائر والأحياء،في مشاورات أسفرت عن قيام الثورة السورية الكبرى سنة 1925م.

عند قيام الثورة السورية الكبرى،قاد حسن الخراط ثوار ومجاهدي دمشق في معارك أغرب من الخيال،فهو لم يكتف بإنزال الهزيمة بالفرنسيين في عدة معارك في الغوطة الشرقية،كما فعل في معركة زور المليحة،ومعركة جسر تورا حين قطع جسر تورا ومنع الجيش الفرنسي الضخم من عبوره،بل قام حسن الخراط بهجوم عام لتحرير مدينة دمشق،فشن هجوماً من ثلاثة محاور على المدينة بمساعدة نسيب البكري وأبو عبدو ديب وقواتهما،حيث اقتحم مقر الحكم الفرنسي في دمشق(في قصر العظم) في السادسة مساء من يوم الأحد 18 تشرين الأول عام 1925م وسيطر عليه،بعد أن تأكد من وجود الجنرال الفرنسي ساراي فيه،وهو المفوض السامي الفرنسي في سورية ولبنان، فوضع حسن الخراط في مقدمة قواته فرقة استشهادية لا مثيل لها في الشجاعة وإتقان الرماية وعلى رأسها الشيخ عبد الحكيم المنير الحسيني من أبناء حي الشاغور،فتمكنت من اقتحام القصر،وبعد قتالٍ ضارٍ جداً،احتل القصر ودمرت بواباته وغرفه،ثم قام عامة الناس بنهبه وإتلاف محتوياته الثمينة وبيع نفائسه.

ولكن الجنرال ساراي تمكن من الهرب بأعجوبة بعد أن لبس ملحفة إمرأة!!!

(يروي كبار السن في دمشق أن ساراي لبس ملاءة كانت ترتديها النساء،ومرّ من أمام الثوار كامرأة مذعورة وهرب إلى طريق خلفي وهرب إلى القاعدة الفرنسية حصن غورو في المزة ثم إلى بيروت).

وبذلك استطاع أولئك الأبطال تحرير دمشق من قبضة الفرنسيين لفترة.

إلا أن المحتلين الظالمين مالبثوا أن قصفوها بالمدفعية والطيران بشدة،وتدمير معظم أحيائها ومبانيها،وتهجير سكانها منها،حيث رحل سكانها عنها وبقي كثير منهم بلا مأوى.

ثم دخلت المصفحات الفرنسية المدينة لتقتل كل من تراهُ أمامها،مستعملة سياسة الأرض المحروقة…

(ونهب الجنود الفرنسيون أسواق دمشق ومتاجرها كسوق الطويل وحي المسكية والدرويشية،وقصفوا بشدّة الشاغور والميدان والعمارة،واحترقت البزورية والسنانية،وجزء من باب سريجة وجزء من القنوات،وحي سيدي عمود الذي احترق بالكامل وصار اسمه الحريقة من ذلك اليوم).

واضطر الثوار للإنسحاب منها والتمركز في بساتين الغوطة الشرقية.

لقد كان البطل حسن الخراط يتلقى أوامره يومياً في صلاة الفجر بمسجد بني أمية من الشيخ بدر الدين الحسني،وهو الذي كتب رسالته المشهورة إلى الجنرال”ساراي” بعد معركة مرج السلطان قال فيها:”لحضرة الجنرال ساراي:لقد أرسلتك فرنسة لتقاتل الثوار،فخرقت بعملك اللإنساني القيم الإنسانية،فحرقت الشام وقتلت أبناءها ولم تحافظ عليهم،وقد لطخت بالعار اسمك واسم دولتك فرنسة.أما أنا فإني كللت شرف العرب بما هو أهله،واستحسن فعلي العالم بأجمعه الذي يعترف بحسن  إدارة رجالي ومحافظتهم على إخواننا المسيحين والأجانب خصوصاً وعلى الضعفاء عموماً،أما أنت فقد نحرت شرف فرنسة،وصوبت قنابلها إلى قلبها،يا ممثل فرنسة.وأنا حارس دمشق،أسرتُ جندك أسراً شريفاً،وأنت ضربت النساء والأطفال والشيوخ ضرباً دنيئاً،حافظتُ على الآثار القديمة وأنت هدمتها يا ممثل فرنسة،كان بودك أن تجعلها حرباً دينية إسلامية وتفرق بيننا وبين إخواننا،ولكن الله أبى فضيعت رشدك،وضربت الأحياء الإسلامية على رؤوس أهلها البريئين،أملاً بأن أقابلك بالمثل وقد فاتك أننا عرب ونحافظ على الجوار:

إنا لقوم أبت أخلاقنا شرفاً    أن نبتدىء بالأذى من ليس يؤذينا

أنت(جننار) وقائد الفرق والجيوش،وأنا حارس جمعت عقلي،وأنت ضيّعت رشدك،وإني أنذرك إذا أقدمت على إعدام الرجال الثلاثة،فخري الخراط،وشريف اللباد،ومحمد عبدو الشواف ،فإني سأعاملك بالمثل فأقتل كل رهينة عندنا وأذبح كل أسير،فأعذر من أنذر،والسلام على من اتّبع الهدى”.

ولكن البطل حسن الخراط لم يكن ذلك الشخص الذي يهرب ويختبىء،فقد كان في خضم أشد لحظات القتال ينزل إلى دمشق علناً ويسير في شوارعها حيث يُحييه الكبار والصغار وتهتف الناس باسمه وتعلو أصوات التكبير،ويزور زوجته واصدقاءه…وقد تعرض بسبب ذلك لأكثر من كمين فرنسي عند مداخل حي الشاغور،وكانت أوامر الفرنسيين هي:حسن الخراط شخص مسلح بالغ الخطورة يجب أن يتم قتله فور رؤيته.وفي كل مرة كان يتعرض فيها حسن الخراط لكمين كانت تعلو أصوات الرصاص والقنابل أحياناً..ويفر الناس خوفاً على حياتهم في حين يهبّ فتيان الحي لمساندته فلا يجدون إلا جثث جنود فرنسيين منثورة على الأرض والفرنسيون ينقلون الجثث في عربات الإسعاف ويضربون طوقاً حول المكان…ويقبضون على المارة والجوار،وأما حسن الخراط فكان يفلت منهم كالصقر…

كان يدخل حي الشاغور،وجنوده يحيطون به من كل جانب،والناس يحيّونه من الجانبين،وهو يرد عليهم التحية ويحمسّهم،ويقول:(يلا يا رجال…يلا يا أسود..يلا يا أهل النخوة والحميّة..يلا نقاتل الفرنساوي…).

فلا يخرج إلا ومعه مئات المتطوعين…

كان لحسن الخراط أسلوبه المميز في القتال،فكان لا ينبطح أبداً على الأرض أثناء المعارك الحربية،بل يعتبر ذلك نوعاً من الجبن،وكان يستعيض عن عدم اختبائه وانبطاحه بسرعة ودقة شديدة في استعمال أسلحته الشخصية،فكان رامياً ماهراً سريعاً لا تخطىء طلقته هدفها،وكان أيام اشتداد القتال في الثورة السورية الكبرى يحمل بندقية وأكثر من مسدس،ويرمي بكلتى يديه بدقة متناهية،وكان أيضاً يجيد ركوب الخيل،ويقتني أفضل الخيول العربية الأصيلة وأذكاها.

ظل هذا البطل العملاق يقضّ مضاجع الفرنسيين،ويُغير على مراكزهم،فيقتل من علوجهم ،ويغنم من أسلحتهم،ثم يلوذ هو وجنوده بالغوطة الشرقية…

إلى أن حاصره الفرنسيون في إحدى قرى الغوطة الشرقية،وألقوا عليه وابلاً من الحمم فاستشهد في أواخر عام 1925م،فلما علم الفرنسيون باستشهاده،فرحوا فرحاً عظيماً، وقاموا بتوزيع الأوسمة على كافة ضباط الجيش الفرنسي الذين شاركوا في القصف والمعارك في ذلك اليوم..

رحم الله القائد الشاغوري البطل حسن الخراط وإخوانه الثوار الأبرار وأسكنهم فسيح جناته…

(نقلاً عن رابطة أدباء الشام ـ أبو بكر الشامي ).

ومن أبطال الثورة السورية نذكر أيضاً محمد الأشمر رحمه الله.

2 ـ  البطل محمد الأشمر:

وهو أحد الرجال الوطنيين في سورية أجداده من قرية سيجر قرب حماة،وانتقل جده إلى دمشق،حيث ولد محمد الأشمر فيها،واتصل بعلماء دمشق فدرس علم الحديث على محدث الشام الشيخ بدر الدين الحسني ولازمه،وتلقى الفقه على الشيخ عبد القادر الشموط،اثني عشرة سنة.

وفي يوم ميسلون خرج مع المجاهدين فأبلى البلاء الحسن،ثم التجأ إلى حوران بعد دخول قوات الجنرال غورو وأخذ يعيد تنظيم العمل الجهادي في العاصمة دمشق.

وبعد عودة الشيخ بدر الدين الحسني والشيخ علي الدقر من جولتهما في المدن السورية،كلّفه شيخه الحسني بأن يخرج إلى الغوطة ثائراً،وأن يعمل على جمع رجال الثورة فيها وتوحيد كلمتهم ووضع حد لخلافاتهم،ومنع التعديات على الناس بالقوة،فخاض معاركه بين عامي 1925 ـ 1927م وقاد المجاهدين في منطقة الغوطة،وأخذ يشن الغارات على المستعمرين الفرنسيين،وكانت أشهر معاركه:فك الحصار عن جبل الدروز في المسيفرة التي أشار إليها سلطان باشا الأطرش في مذكراته،ومعركة يلدا في الغوطة،ومعركة بستان باكير قرب حي الميدان في دمشق،ومعركة بستان البندقية بين حي الميدان وكفر سوسة،ومعركة مئذنة الشحم بدمشق،ومعركة جسر تورا ومعركة حي الميدان ،حيث وقف مائة من المجاهدين بقيادته في وجه وحدات عسكرية مدجّجة بأحدث الأسلحة،كما قام الأشمر ورفاقه بتدمير خطوط السكك الحديدية التي يستخدمها الفرنسيون،وتقطيع أسلاك الإتصالات الهاتفية والبرقية،ومطاردة الخونة والجواسيس وتقديمهم لمحكمة الثورة.

وعندما صدر العفو عنه سنة 1931م عاد إلى دمشق فأقام فيها يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويصلح ذات البين،ويشعل في الشباب السوري روح التضحية والفداء.

يقول عنه الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله:”كان الشيخ الأشمر من الصالحين الذين ثاروا على الفرنسيين،وأبلوا في قتالهم البلاء المبين،وكانت داره حِمى لمن دخلها،لم يجرؤ فرنسي أن يدنو منها”

وفي ذكرى وفاته وقف الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله يرثيه ويعدد مآثره فقال:”كان الأشمر مثالاً للمجاهد الشجاع الجرىء الذي يقتحم غمار الموت ويهزأ بالأخطار تسعى بين يديه ومن خلفه،كما كان مثالاً للرجل المؤمن التقي الذي كان يلقي بالمواعظ على إخوانه المجاهدين متنقلاً من مكان إلى مكان يبث فيهم روحه المؤمنة القوية كل معاني الثقة بالله وبعدالة الحق الذي خرجوا للدفاع عنه”(نقلاً عن ويكيبيديا الموسوعة الحرة).

3 ـ البطل الشهيد أحمد مريود:

هو أحمد بن موسى بن حيدر مريود.ولد ونشأ في قرية جباتا الخشب،من قرى القنيطرة في هضبة الجولان في سورية سنة 1886م.

أتمّ مرحلة التعليم الإعدادي في دمشق،ثم أتمّ دراسته الثانوية في مكتب عنبر في دمشق.

قام أحمد مريود برفع العلم العربي على بلدية دمشق عام 1918م بعد استقلال سورية عن الدولة العثمانية.

جهزت القوات الفرنسية قواتها للدخول إلى دمشق في سنة 1919م ولكن قوات الشهيد أحمد مريود صدتها في معركة مرجعيون وكبدتها الخسائر الكبيرة ولم تفلح القوات من الدخول إلى دمشق.ثم عاودت القوات الفرنسية 1920م محاولتها لاحتلال دمشق عقب الإنذار الشهير لغورو.

لما وصل الإنذار الفرنسي باحتلال سورية،رفض أحمد مريود الإنذار،ونظم الخطط العسكرية لشن حرب استنزاف على القوات الفرنسية انطلاقاً من الأردن.وقرر أحمد مريود اغتيال الجنرال غورو،وبالفعل هوجم موكب غورو المتوجه إلى بلدة القنيطرة،مما زاد من حقد الفرنسيين على مريود لتأكدهم من تدبيره حادثة الاغتيال.

وفي معارك الغوطة أبلى مريود والمجاهدون بلاءً حسناً،إلا أن السلطة الفرنسية والتي جهزت أكبر حملة عسكرية،هاجمت موقع الثوار في كل قرى الغوطة وأجبرتهم على الانسحاب  إلى الجولان.ومن الجولان انتقل أحمد مريود إلى مركز ثورته في جباتا الخشب،وهناك فاجأه الفرنسيون في بيته فثبت لهم وقاتلهم  حتى استشهد،ولما انسحبت القوات الفرنسية من المعركة أخذت معها جثمان أحمد مريود ومجموعة من رفاقه الشهداء،وعرضت جثثهم في ساحة الشهداء في المرجة على سبيل التشفي،وتركت الجثث تحت أشعة الشمس،فلما خشي سكان دمشق أن يصيب الجثث العفن هرعوا إلى الجثث وجمعوا الزهور ونثروها على جثث الشهداء.وتم بعد ذلك دفن الشهيد أحمد مريود في احتفال وطني شعبي في مقبرة “قبر عاتكة” في دمشق،وأقيم له ولرفاقه مأتم شعبي كبير

(نقلاً عن مقال في مركز الشرق العربي ).

وكان لتدمير دمشق آثار عميقة،ومنها استدعاء المندوب السامي سراي في تشرين الثاني عام 1925م إلى فرنسا،وإسناد منصب المندوب السامي إلى مدني للمرة الأولى في تاريخ الإنتداب الفرنسي على بلاد الشام،وهو”هنري دي جوفنيل” والذي أطلق وعوداً بالتوقيع على معاهدة سورية ـ  فرنسية تحصل البلاد بموجبها على الإستقلال.وأنشىء  في دمشق “حزب الشعب” لقيادة الحركة الوطنية السورية وتنظيمها،فكان اول حزب سياسي ينشط في البلاد خلال مرحلة الانتداب الفرنسي.

وفي الرابع من ايار 1926م تم أخيراً تأليف وزارة ضمت الكثير من العناصر الوطنية نذكر منهم:فارس الخوري ولطفي الحفار وحسن البرازي.ولكن الحكومة الفرنسية نكثت بعهودها مما أدى إلى حل الوزارة.ومن ثم اعتقال الوزراء الوطنيين ونفيهم خارج البلاد.

وفي عام 1931م جرت الانتخابات رافقتها أحداث دامية في دمشق ومع ذلك فاز الوطنيون بأغلبية ساحقة،وأعلن النظام الجمهوري وانتخب محمد علي العابد أول رئيس للجمهورية.ولكن فرنسا عطلت كل هذا وأخضعت البلاد للحكم المباشر.

وفي عام 1931 نشر الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله مقالاً في جريدة اليوم بتاريخ 27 كانون الأول عام 1931م بعنوان “يا أمة الحرية”،وقد أشار إلى هذه المقالة في “الذكريات” فقال:

“كانت دمشق هذه السنة،بل كانت سوريا كلها،كأنها تعيش بجوار بركان يفور أحياناً فتفتح أبواب جهنم ويهدأ أحياناً،تسكن دمشق قليلاً فتتحرك حلب أو تهيج حمص أو حماة.وكنت ممن يُضرم هذه النار وينفخ فيها بلساني وبقلمي كما يصنع كثير من أقراني وأمثالي.ما كنت في ذلك وحدي،وإن كنت من أحدّهم لساناً وأمضاهم قلماً،وأنا أشير على سبيل المثال إلى مقالة عنوانها”يا أمّة الحرية”:

قال فيه:

يا بني السين!وسواء لديَّ أبلغَ صوتي ـ أنا الطالب الضعيف ـ مسامعكم،أم تكسّرت أمواجه على صخرة القوة فتبددت،لأن المستقبل سيجمعها فيكون لها في نضال سوريا وجهادها دويّ وصدى.

إننا بشر أمثالكم،لنا قلوب تحسّ وعواطف تتألم ولسنا من صخر ولا حديد،فلا تَحملونا على هذه الشِّرعة التي يُحمل عليها العبيد،فلا والله لن يُعجزنا أن نموت أشرافاً إذا نحن عجزنا أن نعيش أشرافاً.

يا أمّة الحرية،يا فرنسا،اسمعي!فإني لا أُجَمجم الكلام ولا أديره على وجوهه التي ترضين عنها خوفاً أو طمعاً،فقد والله يئست حتى ما في نفسي مكان لأمل ولا متّسع لخوف،وما بعد الذي كان يوم الأحد أمل ولا يأس ولا خوف.

لقد قُضي علينا أن نهبط من عليائنا وأن نُسلب حريتنا ونفقد استقلالنا،ولكنه لم ياتِ بعد،ولن يأتي أبداً،ذلك اليوم المشؤوم الذي نخسر فيه إيماننا وشرفنا.فما بالك تُسخّرين عبيدك السنغال لإذلالنا وازدرائنا؟لقد كنا نسير في رابعة النهار ـ ونحن فريق من طلاب الحقوق ـ أمام بردى،لا نحمل عصيّاً ولا مسدسات،لا نتأبط إلا كتباً خُدعنا بها وحسبنا أنها صادقة وأن في الدنيا شيئاً اسمه”الحقّ” ففَجأنا عبدٌ أسود،فانتهرنا وسبّنا وكاد يُعمل حربته في بطوننا!أمّا ذنبنا الذي أتيناه فهو أن أيدينا كانت من البرد في جيوبنا،وإذن فنحن نخفي فيها قنبلة تنسف الإنتداب من بلادنا!

قد كان هذا ونحن في القرن العشرين،قرن النور والحضارة،وويل له من قرن!لقد كان نوراً ولكن على غيرنا،لقد كانت فيه حضارة،ولكننا لم نرَ منها إلا المدافع والرشاشات والدبابات،وهاكم انظروا:

في كلِّ  رابية جُسومٌ مُزِّقتْ     وبكلِّ نادٍ رنّةٌ وعويلُ

يا بني السين: إننا اليوم كما قال ملككم فرنسوا الأول من قبل:”قد خسرنا كل شىء إلا الشرف”،وإذن فلم نخسر شيئاً!ولن تقوى قوة في العالم على سلبنا الشرف والإيمان،فاصنعوا ما شئتم.املؤوا المرجة دبّابات،واقتلوا منّا المئات،واكذبوا فانشروا ما شئتم بلاغات،فكل ما هو آتٍ آت.

قد رأينا الموت وقاسينا الفقر وشاهدنا الخراب،وأصبحت مدينتنا بَلقعاً وأهلها مفجوعين ونساؤها ثاكلات،فماذا نخاف بعد هذا؟هل بعد الموت منزلة نحابيكم عليها؟هل عندكم أشدّ من الرصاص؟فقد فتحنا له صدورنا! هل عندكم أغلى من الأرواح؟لقد أعددناها ثمناً للاستقلال!

ثمنُ المجدِ دمٌ جُدنا بهِ     فانظروا كيف بذلنا الثمنا

انظروا كيف سقينا بدمنا صحراء ميسلون وجِنان الغوطة!إن حصاد الدم هو الاستقلال،وإن الشهادة خير بألف مرة من حياة يذلنا فيها العبيد.

حتى العبيد تُذِلّنا في دارنا     هذا ـ لَعمرُكَ ـ منتهى حدِّ الشَّقا

وبعد يا أيها الأقوياء:إن الهرّة إذا حُبست وضويقت انقلبت لبؤة،والبركان إن سُدّت فوهتهُ كان الانفجار،والشعبُ إذا استُذلّ ثار،والنار ولا العار،وللشهداء عقبى الدار،وستردّون إلى الله الملك الجبار”.

(يقول مجاهد ديرانية حفيد الشيخ:في أصل المقالة تعليق بخط جدي في آخرها قال فيه:”نشرتُ هذه الكلمة بتوقيعي الصريح إثر حوادث 20 كانون الانتخابية،وكان لها أثر في البلد واضح ودويّ شديد،ودُعيت من أجلها إلى الدوائر الفرنسية في وقت حرج،ولكن الله سلّم”)

 ثورة عام 1936م والإضراب الستين يوما.

بدأت ثورة عام 1936م بحملة احتجاج قادها الزعيم”فخري البارودي” ضد شركة كهرباء دمشق ،لأنها رفعت أجرة”التراموي” نصف قرش،من هنا انطلقت شرارة أعظم وأطول إضراب جرى في العالم حتى ذاك الحين،فما أن أعلن الإضراب العام،وقامت التظاهرات في دمشق حتى عمّت المدن السورية جميعاً وفوراً انقلب الاحتجاج على شركة الكهرباء إلى المطالبة بالاستقلال ورحيل المستعمر.

وقامت مجموعة من الطلاب بالوقوف على جسر فيكتوريا لمنع وصول الطلاب إلى الجامعة،وصارت مجموعة أخرى من الطلاب أيضاً تنشر قوائم سوداء تضم أسماء الطلاب الذين يداومون على الجامعة،واضطر وزير المعارف”حسني برازي” إلى إصدار قوائم متلاحقة بأسماء الطلاب المفصولين من المعاهد والمدارس والجامعة،ثم اضطر لإصدار قرار يعلّق فيه الدراسة بالجامعة.

وكان الجامع الأمويّ ملتقى المتظاهرين من كافة أنواع الشعب،وكانت ساحة المناوشات تتراوح بين شارع جمال باشا والباب الغربي للجامع الأموي،”باب سوق “المسكية” وكانت الحجارة سلاح الطلاب،يقذفونها على الجنود الفرنسيين،وعندما تشتد المعركة ويسقط شهداء كانوا يرتدون إلى داخل الجامع الأموي،فهو قلعتنا التي لا تقتحمها القوات الفرنسية .وكان الطلاب ينقلون الجرحى والشهداء من الباب الغربي إلى الباب الشرقي حيث يتم تهريبهم إلى الأطباء للمعالجة،وكانت الدماء ترسم طريقاُ أحمر على بلاط المسجد.

استمرت هذه المعارك ستين يوماً،ودمشق وسائر المدن السورية مغلقة جميعها من أقصى البلاد إلى أقصاها.وتشكلت اللجان الشعبية التي تولت عمليات التموين،وجمع التبرعات وتوزيعها،وكان التجار والأغنياء أسخياء في تبرعاتهم،وأعلن كثير من أصحاب بيوت السكن أنهم أعفوا المستأجرين من دفع أجرة السكن عن تلك الفترة،ومر عيد الأضحى والمدن مغلقة وتبرع الأطفال بعيدياتهم للحركة الوطنية.

ولم تقع جريمة،لا صغيرة ولا كبيرة،في جميع أنحاء البلاد خلال شهري الإضراب،وهذا هو إعجاز الثورات الوطنية التي ترفع الشعب إلى مستويات البطولة والاستشهاد.

ومما زاد في تماسك الإضراب واستمراره اشتراك جميع فئات الشعب حتى النساء والأطفال،وكان للنساء دور خطير في استثارة النخوة والحمية عند اشتراكهن في تشييع جنازات الشهداء الذين يسقطون في ساحات الصدام مع الانتداب.وكانت النساء المحجبات تطل من شرفات البيوت فيزغردن وينثرن”ماء الورد” على مواكب المتظاهرين،كما شاركت بعضهن في المظاهرات،وتعرضن للاعتقال والمحكمة والسجن .

يقول الشيخ العلامة علي الطنطاوي رحمه الله(هتاف المجد ـ حوادث دمشق ـ ):

“أحلف لو أن ما جرى في دمشق ،في هذه الأيام(نشر المقال سنة 1936)،جرى في فرنسا،أو ألمانيا،أو انكلترا أو في أي بلد من بلاد الله العامرة،لكتب فيه عشرات من الكتب والروايات،ومئات من القصائد والمقالات،ولخلّدت حوادثه تخليداً،وصوِّرت مشاهده تصويرا،وصارت حديثاً يسري في الأجيال الآتية،فينفخ فيها روح البطولة والتضحية،ويبث فيها حقيقة العزة القومية،ويفهمها معنى الكرامة الوطنية،وبمثل هذا تتربى الشعوب وتقوى،وتسمو هذا السمو الذي نراه في شعوب أوربا الراقية،ونعجب ونعدّه شيئاً بعيد المنال،وبمثل هذا يخدم الأدباء قضية بلادهم،ويساهمون العمل على رفعة أوطانهم،ويثبتون للناس أنهم أحياء لا أموات،وأنهم أوفياء لأمتهم ،وأن فيهم شعوراً بالغضب والفخر والتقدير والسرور والألم,وأن لهم عيوناً تبصر،وآذاناً تسمع وقلوباً تحسّ…

ويتابع رحمه الله:”أما إن الأمة قد خرجت من هذا الجهاد بأجلّ النتائج،لا أقول المفاوضة ولا الوعود،ولكن النتائج العظيمة في التربية وفي الروح القومية،إننا قد كسبنا المستقبل واطمأننا إلى النجاح،لأن هؤلاء الأطفال الذين هاجموا الدبابة بالمساطر،ورأوا هذه المظاهر الفخمة،سيكونون إذا كبروا رجالاً لا كما نعرف من رجال،وسوف لا يعيش فيهم خائن ولا كسول”.

ولم ينته الإضراب حتى أذعنت قوات الاحتلال الفرنسي وتشكل وفد سافر إلى باريس في 22 آذار 1936م ودّعه الشعب بمظاهرات تأييد لم يجر لها مثيل وكان هذا الوفد يتألف من :الرئيس هاشم الأتاسي،وسعد الله الجابري،وفارس الخوري،وجميل مردم،وادمون حمصي،ومصطفى الشهابي،وأحمد اللحام ونعيم الأنطاكي.(نقلاً عن رابطة أدباء الشام ـ د خالد الأحمد).

واستقبل الوفد العائد من فرنسا استقبالاً حاراً.وجرت الإنتخابات،وأُنتخب هاشم الأتاسي رئيساً للبلاد،وتألفت حكومة برئاسة جميل مردم،إلا أن فرنسا أقامت العراقيل وأعلنت عزوفها عن مشروع المعاهدة،وعادت البلاد تحت سيطرة الفرنسيين.

واستمرت حركات النضال والمقاومة البطولية،وأجريت انتخابات جديدة وأنتخب شكري القوتلي رئيساً للبلاد في 17 آب عام 1943م،وفارس الخوري رئيساً للمجلس النيابي،وبعد يومين تألفت الحكومة برئاسة سعد الله الجابري.

وبعد الحرب العالمية الثانية  وقفت دمشق تدافع عن كرامتها وحريتها بدماء أبنائها في حوادث عدوان 29 آيار عام 1945م  وخرجت دمشق بعد هذا العدوان رافعة الرأس.

عدوان 29 آيار عام 1945 وضرب دمشق والمجلس النيابي

في تمام الساعة الثالثة والنصف من بعد ظهر يوم 29 آيار 1945،وجه الجنرال روجيه إنذاراً إلى رئيس المجلس النيابي يهدده فيه بانتقام فرنسا من المواطنين السوريين الذين يعتدون على الجنود الفرنسيين،ويطلب إليه أن تقوم قوات الشرطة والدرك السورية المرابطة حول المجلس بتحية العلم الفرنسي عند إنزاله في المساء عن دار أركان الحرب الفرنسية المواجهة للمجلس.

وكان عدد قليل من النواب قد جاؤوا لحضور جلسة البرلمان ولما لم يكتمل النصاب طلب رئيس المجلس النيابي سعد الله الجابري من النواب الإنصراف،وقد ألغيت جلسة مجلس النواب في تمام الساعة الخامسة من بعد ظهر اليوم نفسه،وكذلك انصرف الوزراء الذين حضروا إلى المجلس.

وعقدت الحكومة الوطنية اجتماعاً سرياً طارئاً في منزل أحد الوزراء لبحث الوضع،بعد أن طوّقت المصفحات الفرنسية دار الحكومة والمجلس النيابي،وكانت حشود من جماهير دمشق قد خرجت إلى الشوارع للإعراب عن غضبها على التصرفات الفرنسية في محاولة لفك الحصار عن المجلس النيابي،فوجدت نفسها في مواجهة القوات الفرنسية.

وقد رفضت حامية مبنى المجلس  النيابي(البرلمان)أداء التحية للعلم الفرنسي أثناء إنزاله على ساريته في دار الأركان الفرنسية الذي يقع في مقابل مبنى المجلس،بعد أن تلقى قائدهم مفوض الشرطة سعيد القهوجي أمراً بالرفض من رئيس المجلس النيابي سعد الله الجابري،فاتخذ الفرنسيون ذلك ذريعة لمهاجمة حامية البرلمان،مستخدمين قوات السنغال،المزودة بالأسلحة الفتاكة من مدافع هاون ورشاشات كبيرة وصغيرة ودبابات ومصفحات.

في تمام الساعة السادسة وخمسين دقيقة فتح جنود الحامية الفرنسية المرابطون في شارع النصر النار على المواطنين الذين خرجوا في مظاهرات احتجاجية،وفي نفس اللحظة دوى صوت القنابل وطلقات الرصاص وهي تنطلق من دار الأركان الفرنسية تجاه البرلمان،ولم يطل الوقت حتى كانت جميع المراكز الفرنسية في دمشق تشارك في إطلاق الرصاص والقنابل،فيما تقدمت المدرعات الفرنسية لتوجه نيرانها باتجاه مبنى البرلمان بكامل قوتها،بينما استحكم رجال الدرك السوري ورجال الشرطة المكلفون بالدفاع عن البرلمان وراء متاريسهم،وشرعوا في مقاومة ضارية لوقف تقدم القوات الفرنسية معتمدين على أسلحتهم المتواضعة،رافضين الاستسلام لقوات المستعمر،ومدفوعين بحب الوطن والدفاع عن عزته وكرامته،ولم يمر وقتاً طويلاً حتى أخذت ذخيرة المقاومين تنفذ،والخسائر بين صفوفهم تزداد،وهم يقاتلون في مواجهة آلة عسكرية تفوقهم قدرة على نحو كبير،واستمروا بالقتال حتى نفذت ذخيرتهم،عندها اقتحمت القوات الفرنسية مبنى البرلمان لتنفذ أبشع جرائمها الوحشية،بتمزيق أجساد الناجين من المقاومين بالسواطيروالحراب،والتمثيل بجثث من استشهدوا،ومن بين المدافعين الذين كان عددهم ثلاثين مقاوماً،استشهد ثمانية وعشرون،وبقي اثنان من عناصر أمن المجلس النيابي،هما شهير الشراباتي وإحسان بهاء الدين اللذان استطاعا الفرار والنجاة من الموت المحقق بأعجوبة،بالإضافة إلى الشرطيين ابراهيم الشلاح ومحمد مدور،اللذين تظاهرا بالموت بعد أن رميا نفسيهما بين القتلى،ليصبحا الشهيدين الحيّين،وليرويا فيما بعد وقائع هذه المجزرة الرهيبة.وقد تم التمثيل بأجساد الشهداء أشنع تمثيل وقد شوهدت بعض الجثث بلا أذان وبعضها مقطعة الأيدي وبعضها مفقودة العينين كما شوهدت آثار السواطير على أجسامهم بشكل تقشعر له الأبدان.

ويضاف لهؤلاء الشهداء من الدرك والشرطة استشهاد الدكتور حكمت التسابحجي الذي أصيب وهو يحاول إسعاف المصابين من مبنى المجلس النيابي.

وفي تلك الأثناء راحت المدفعية الفرنسية تقذف المدينة بالقنابل مركزة القصف على قلعة دمشق لوجود قوى الدرك والشرطة فيها،واستمر القصف وإطلاق النار حتى الصباح،وقد نتج عن هذا القصف الشديد هدم العديد من الأبنية ومهاجع السجن في القلعة وظلت الجثث تحت الأنقاض ويقال أن عدد الشهداء من درك ومواطنين يزيد عن ثلاثمائة قتيل ،ولم تنم عين دمشق في تلك اليلة المشؤومة.

مع بزوغ صبيحة اليوم التالي 30 آيار 1945م،كان العدوان الفرنسي مستمراً في تدمير مدينة دمشق التي تحول أفقها إلى جحيم،وصبت المدفعية والدبابات والرشاشات حممها على المدينة المسالمة،فلم يكن يسمع إلا دوي الإنفجارات،ودمدمة الرشاشات،واشتعلت الحرائق في كل مكان من المدينة،فامتدت من شارع رامي الذي التهمته النيران بأكمله،إلى المرجة التي احترقت حوانيتها ومكاتبها،وفي ناحية أخرى كان شارع النصر قد شاعت فيه النيران التي وصلت إلى جامع دنكز،وشبّ حريق كبير في زقاق المغسلة وامتد إلى شارع فؤاد الأول حتى بوابة الصالحية،كذلك شبّت النار في العصرونية وسوق الخياطين فالتهمت عشرات المخازن والحوانيت وبعض الكراجات على ضفة بردى عند بداية طريق بيروت ودمرتها بالكامل.

لم تنم عين دمشق في الليلة الثانية من العدوان،وقد بدأ نزوح الأهالي من الأحياء التي يكثر فيها القصف والحرائق تحت جنح الليل إلى الأحياء البعيدة وبعض قرى الغوطة،حيث استقبلهم أبناء بلدهم بالترحاب محاولين التخفيف عن مصابهم العظيم،كما عملت الجمعيات الإنسانية والطبية كجمعية الهلال الأحمر وطلاب كلية الطب على نقل الجرحى إلى المستشفيات التي لم تسلم هي بدورها من الاعتداءات الدنيئة،فيما تعرض المسعفون والأطقم الطبية إلى خطر الموت،ومن ذلك استشهاد الدكتور مسلم البارودي أثناء أدائه واجبه في إسعاف المصابين وكان يرفع علماً أبيضاً على سيارته،مظهراً مدى الوحشية التي وصل إليها المحتلون.

لقد انخرط الشعب السوري بكافة طبقاته وفئاته الإجتماعية والسورية في رد العدوان،وكان لكل منهم دوره في هذه الملحمة الوطنية الكبيرة.

(نقلاً عن ويكيبيديا الموسوعة الحرة).

يقول الشيخ العلامة علي الطنطاوي رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة في مقال له في مجلة الرسالة العدد 638 بتاريخ 24 إيلول عام 1945م:

“رأيت في سينما ديانا بالقاهرة منذ شهور جريدة الأخبار الفرنسية تعرض صوراً من انهيار ألمانيا،فترى المهاجرين من النساء والعجائز هائمين مشردين،ثم تعرض منظراً مثله كان في فرنسا يوم انهزمت فرنسا،ويعقب المذيع فيقول بصوت خافت رهيب:”إن في الكون عدلا”وترى المدائن المخربة،والذعر البادي،والدمار الشامل،ثم تعرض مثل ذلك مما كان في فرنسا ويعقب المذيع فيقول:”إن في الكون عدلا”.

نعم،يا جنرال،إن في الكون عدلا! ولكن قومكم ما استوفوا بعد قسطهم من عدل الله،وآيّة ذلك أنكم أُصبتم فبكى لكم أعداؤكم،ورحمكم خصومكم،وكنتم عند الناس ضحية القوة العاتية،وشهداء العدوان المجرم،وكنت تثير الدنيا على الألمان أن حاربوا قومك،وقومك هم أعلنوا الحرب،وهم تقدموا إليها،وهم (زعموا) بنوها،وقد غُذوا بلبانها،وربّوا في ميدانها،فلما نبت ريشك،وردّ عنك عدوك،وأغضى عنك الدهر إغضاءة،نسيت كل ما كنت فيه،وما كنت تقوله وتخطب به،وأقبلت تُجرّب سلاحك فينا،فأخذتنا على ساعة غرّة بحرب ما آذنتنا بها،ولا أعلنتها لنا،فسخرت لقتالنا مدافعك وطياراتك،ويا ليته كان سلاحك يا أيها المحارب الظافر،ولكنه سلاح أعطيته عارية لتحارب به عدو صاحبه وعدوك،فحاربت به قوماً آمنين! حاربت يا أيها البطل النساء في الخدور،والأطفال في المدارس،والمرضى في المستشفيات…وما هابك النساء ولا الأطفال ولا المرضى،ولا رفعوا مثل العلم الأبيض،الذي رفعه قومك حين كان لهم سلاح،وكان لهم خط ماجينو،لأن لهم من إيمانهم حصناً لا تهدمه قنابلك،ولا تحرقه نارك.

وهذا الجيش(يا جنرال) الذي عقدت له اللواء،ورفعت فوقه العلم،وائتمنته على شرف فرنسا وتاريخها،قد أهوى باللواءـوطوح بالعلم،وعبث بالأمانة،حين سطا على المخازن،فكسر أقفالها،وفتح أبوابها،وأخذ ما فيها،وذلك فعل اللصوص لا الجنود!

ثم عاد فأوقد فيها النار،فأحالها إلى جهنم الحمراء،ليخفى باللهب سرقته،وذلك صنع المجرمين لا المقاتلين.

ثم وقف يتربص،فكلما أقبل من يُطفىء النار ويُنقذ الأطفال رماه فأصماه،وذلك عمل القتلة السفاكين،لا الأبطال المحاربين.

جيشك هاجم المستشفى الوطني،وسلّط ناره من أفواه رشاشاته ومدافعه على الجرحى والمرضى ست ساعات متواصلات متتاليات،ولم يقدر بعد ذلك إلا على أربع ممرضات شواب أخذهن(سبايا).

جيشك يا رجل الديمقراطية،يا سليل من أعلنوا حقوق الإنسان،هاجم البرلمان وفعل به الأفاعيل،ومثّل بشرطته فبقر بطوناً،وسمّل عيوناً،وقطّع أطرافاً،وها هو ذا البرلمان تركناه ليشهد عليكم أبداً.فتعال ترَ الدماء على جدرانه المُصدّعة،وأبوابه المُخلّعة،ولقد وجدوا صندوق البرلمان وفيه المال…وجدوه بعد ذلك في دار القيادة الفرنسية،وهم طبعاً لم يسرقوه،ولكن أخذوه ليحفظوه!

جيشك رمى قنابل الطيارات على السجون،حيث لا يملك من فيها فراراً،فجعل السجن لمن فيه قبراً!.

المستشفى العسكري يا جنرال جعله جيشك قلعة فيها مدافع الهاون،ومنه أحرق سوق صاروجا هذا الحريق الذي أكل ثلاثاً وتسعين داراً…ومدرسة الفرنسيسكان كان فيها الرشاشات،تطلقها بأيديها الطاهرات،الراهبات المُتبتلات،ذوات الرحمة المسالمات!

نسخة التوراة التي سرقت من سنوات،وهي أقدم نسخة في العالم،وجرت لها تلك المحاكمة المشهورة.وقضى على طائفة من الأطباء بأشدّ العقاب،وجدت في دار المستشار الفرنسي لما كبست بعد الحادث داره،ويقدر ثمنها بنصف مليون فرنك!

القاضي الفرنسي الذي جئتم به إلى المحكمة المختلطة،لأن قضاتنا في دعواكم لا يُطمأن إلى علمهم ونزاهتهم،المسيو سيرو،وُجد في داره رشاش كان يقتل به الناس في تلك الأيام السود،وهو الذي جىء به ليقضي على القتلة والمجرمين!

إن بطريرك موسكو وكل روسيا،كان في فندق الشرق يوم الحادث،يوم عصفت هذه العاصفة في رأس قائدك أوليفا روجه،فنسي كل ما يعتزّ به البشر من فضائلهم فلبث في الملجأ المظلم تحت الأرض ليلة كاملة،قال لما انقضت:”لقد كنت في ستالينغراد يوم ضربها الألمان،فما رأيت أكثر مما رأيت الليلة”.

ولما قدمت زوجة رئيس الجامعة الأمريكية في بيروت السيدة دودج،ورأت آثار العدوان،قالت:لقد قتل ابني الوحيد في فرنسا،فكان يُصبّر النفس عنه أنه مات في سبيل الحق والإنسانية،أما الآن،فوا طول حزني وكمدي،لقد أيقنت أن ابني مات في سبيل(لا شىء)!

يا جنرال! لما ذهبت أزور القلعة بعد الحادث بأيام لم أستطع أن أدنو منها من رائحة الموت،إذ تفوح من آلاف الجثث،جثث الأبرياءالتي كانت بالأمس رجالاً كراماً،كانوا ملء الدنيا حياة ونشاطا،وكانوا ذخر عائلاتهم وبلادهم،فصاروا….أكواماً من اللحم العفن الذي يؤذي العين والأنف!

لم ينج من شرّ جيشك الأحياء ولا الأموات.ولقد أبصرت في (الدحداح) قبوراً قد نبشتها القنابل،وقذفت رممها،أفإن عجزت عن حرب أعدائك الأقوياء،جثث تحارب موتانا؟

لقد كان ذلك كله،وكان أكثر منه،أفهذا من العدل الذي تهتف به؟

لا ياجنرال؟إن كلمة(العدل) أكرم من أن تمرّ على لسان مرّ منه ذلك الأمر الهمجي بضرب دمشقّ أقدم مدينة عامرة على ظهر الأرض بلا استثناء،وأكاد أقول أجملها.إن الشفاه التي تعرف كلمة(العدوان)،لا يمكن أن تألفها كلمة(الحق والعدل).

ولكن(في الكون عدلا)! نحن نقولها الآن! وإن من عدل الله أن جعل صبرنا نعمة علينا،وعدوانكم وبالاً عليكم!

لقد انتهت الرواية،وأُسدِل الستار،فتعال ننظر ماذا ربحنا وماذا ربحتم؟

لقد خسرنا منازل من أحسن منازلنا،ورجالاً من أكرم رجالنا،وملايين من حرِّ أموالنا،ولكنا ربحنا الخلاص منكم،والإستقلال عنكم،وسنبني الدور،ونلد الرجال،ونُعوّض المال،فماذا ربحتم أنتم؟

ماذا؟يا من كشفت للناس عن حقيقتك،وأنك ما خلقت لتسوس الأمم،ولا لتحكم الشعوب،ربحت بغضاء لا تُمحى.لقد أسات إلى التاريخ الفرنسي والثورة الفرنسية والأدب الفرنسي،ولطّخت بالوحل أسماء كانت فينا لامعة نظيفة،وكان لها في النفوس مكان،وسيتوارث العرب كلهم والمسلمون هذه البغضاء بطناً بعد بطن،وستزيد وتعظم،وتغدو تراثاً مقدساً،لا يشذُّ عنه إلا هؤلاء النفر من الأدباء الذين باعوا دينهم وإخوانهم بذكريات غرام لهم هناك..وهؤلاء ليسوا منا!

لقد أثمرت هذه البغضاء باكورتها،فلم يبقى في سوريا كلها لوحة عليها حرف فرنسي يُقرأ في طريق،ولا كتاب فرنسي يُدرس في مدرسة،ولقد كان مهرجاناً قومياً يوم أحرقت فيه الكتب الفرنسية في مدن الشام!

وبعد يا جنرال،إن في الوجود شيئاً أعظم من الدبابات والطيارات والقنابل الذرية،هو حبُّ الموت!

فالذي لا يخاف الموت لا تخيفه آلاته مهما جلت وعظمت،فمن يطلب الموت فهو أكبر من الموت،لأنه أكبر من الحياة،ونحن قوم علّمنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ألا نخاف الموت في سبيل الحقّ،فلن يخيفنا شىء في الدنيا”.

ويقول الشيخ العلامة علي الطنطاوي رحمه الله في مقال آخر بعنوان”على هامش حوادث دمشق” في مجلة الرسالة العدد 135:

“لِمنْ هذه الرشاشات منصوبة في الميادين والطرقات؟

لمن هذه المُصفحات وهذه الدبابات،تروح وتغدو في الشوارع والساحات؟

لم تحوم في الجو هذه الطيارات؟

لماذا يُساق هؤلاء الجنود من كل جنس وكل لون،فمن الشقر الفرنسيين الذين علّموا أمم الأرض كيف تكون الثورة على الظالمين،وكيف تُنتزع الحرية من بين أنياب ألاقوياء المستبدين،إلى السمر المغاربة المسلمين،الذين جاءوا راغبين أو راهبين،ليحاربوا إخوانهم المسلمين ،إلى السود السنغاليين.

من كل أشمط تدنى الموت طلعته        ينساب في لهوات الليل ثعبانا

زعانف وعباديد برابرة                   لا يعرفون لهذا الكون ديّانا

إلى الصفر الهنديين الصينيين،إلى هؤلاء(المتطوعة) أنصار الباطل،جزاة الخير بالشر،الذين أكلوا خبزنا وحاربونا!! أكل ذلك لأن هذا الشعب الأعزل تحرّك؟أكل ذلك لأن دمشقّ غضبت؟

تيهي إذن يا دمشق واعتزّي،فما أنت بالضعيفة ولا بالهيّنة،وقد حشدوا لك مالا يحشدون أكثر منه لقوم هتلر،وشيعة ستالين!

كانت دمشق يوم الجمعة صابرة تتجرّع حزنها على (إبراهيم) في صمت رهيب،وسكوت هائل،فلم تحرك ساكناً،وما دمشق بالتي تعرف أنّة المكلوم،أو استغائة العاجز،ولكنها تعرف الصبر الذي لا يصبر عليه الدهر،أو الصرخة التي تصدع الصخر،وتخرج الميت من القبر،وما دمشق بالتي تعرف هذا الإحتجاج الضعيف،احتجاج(أوسعته شتماً وأودى بالإبل)…ولكنها تتلقى الضربات بصدر كأنه الجلمود لا يشقق ولا يرفض ولا يلين.

أقبل أبناء دمشق بأيديهم،وأقبلت هذه الجيوش بحديدها ونارها،وكانت المعارك…التي يصطرع فيها الحق والقوة،والدم والنار،والصدور والحديد،فبينما معركة من هذه المعارك على أشدّ ماتكون عليه وإذا…

وإذا ماذا؟ليس على وجه الارض من يستطيع أن يُقدر ماذا كان،إلا هؤلاء الشاميون ،وهؤلاء الفرنسيين الذين أكبروا جميعاً هذه البطولة التي لم يروا مثلها في التاريخ…

وإذا خمسون من الأطفال الذين لاتتجاوز سن أكبرهم التاسعة،ينبعون من بين الناس،يخرجون من بين الأرجل،منهم التلميذ ذو الصدرية السوداء والأزرار اللامعة،قد فرّ من مدرسته وقمطره لا يزال معلقاً في عنقه،وحمل مسطرته بيده…ومنهم صبي اللحام،وأجير الخباز،قد اتحدوا جميعاً،وأقبلوا يهجمون بالمساطر على الدبابة وهي تطلق النار،وهم يطلقون من حناجرهم الرقيقة بأصواتهم الناعمة،التي تشبه الآلة السحرية التي غنى عليها الفارابي،فأضحك وأبكى.. هذه الأنشودة البلدية المعروفة:

وصغارنا تحمل الخناجر      وكبارنا عالحرب واصل

يا بالوطن              يا بالكفن

فوقف الناس ينظرون إليهم،وقد عراهم ذهول عجيب.فارتخت أيديهم بالحجارة التي كانوا يقاومون بها الرصاص…حتى رأوا الأطفال قد تسلقوا الدبابة وركبوها فاشتعل الدم في عروقهم،وفي أقحاف رؤوسهم،فأنشدوا أنشودة الموت:(ياسباع البر حومي….).

وهم يرعدون بها.فتهتز من جهجهتها الغوطة،ويرتجف قاسيون.وأقبلوا كالسيل الدفاع…ولكنهم رأوا الدبابة قد كفّت عن الضرب،ثم انفتح برجها،وخرج منها شاب فرنسي يبتسم للأطفال،وإن في عينيه لأثر الدمع من التأثر،ويداعبهم،ويقدم لهم كفاً من الشوكولاته،ثم يعود إلى مخبئه!

إنسانية قد توجد حتى في الدبابات!

ورأيت في هؤلاء الصبية تلميذاً في شعبة الأطفال من مدرستنا،وكان صغيراً جداً ما أظنه قد أكمل عامه السابع،فدعوته فأقبل حتى أخذ بيدي،وجعل يرفع رأسه إلي يحاول أن يتثبت من وجهي،فقلت:لماذا عملتم هذا العمل يا بابا؟

فقال: أخذوا فخغي الباغودي(يريد فخري البارودي)

قلت:ومن قال لك ذلك؟

قال: أمي.وقالت لي هلّي يموت بالغصاص يغوح عالجنة(يريد:من يموت بالرصاص يذهب إلى الجنة)

قلت:وإذا أرجعوا فخري البارودي،هل ترضى؟

قال: لأ.خلي يغوحوا(يروحوا)هدول كمان ما بدنا ياهم(يريد فليذهب هؤلاء أيضاً،لا نريدهم).

فسكت. فقال: أستاذ،ليش الإسلام مالهم عسكغ(عسكر)؟

فأصابتني كلمته في القلب،ووجدت كأن شيئاً جاشت به نفسي،ثم صعد إلى رأسي،ثم وجدته في قصبة أنفي،وآماق عيني،ودقّ قلبي دقاً شديداً،فتجلدت ومسحت عيني،وحككت أنفي،وقلت له:أنتم يا بابا عسكر الإسلام.

قال: نحن صغار!

قلت: ستكبرون يا بابا،أنتم أحسن منا،نحن لما كنا صغاراً كنا نخاف البعبع،ونخشى القط الأسود،وأنتم تهجمون على الدبابة،فالمستقبل لكم لا(لهم).

وبعد،فلمن هذه الرشاشات؟ولمن هذه المصفحات وهذه الدبابات؟ولمن هذه الجنود وهذه الطيارات؟إنها لم تصنع شيئاً،ففتشوا عن شىء أكبر من الموت،لتفزعوا…أطفال دمشق!”

يقول الأستاذ أحمد حسن الزيات في جريمة ضرب دمشق (الرسالة العدد 624بتاريخ 18 حزيران عام 1945م):

“ولا تقل أنه ديجول،فإن الجنرال لم يشتهر بأيّة ملحمة،ولم يُعرف بتدبير خطة محكمة.وجملة أمره أنه تشبث يوم الهزيمة(دخول القوات الألمانية باريس في الحرب العالمية الثانية)بطائرة فهرب،ثم لجأ إلى لندن وطلب فأعطته لندن ما طلب!ولكن قل معي:إن خليفة نابوليون ووارث بطولته وعبقريته هو الجنرال أوليفا روجية دكتاتور فرنسا في سورية!!

وجه كوجه البومة عليه المومياء،ورأس كرأس النعامة فيه رعونة الكبرياء،وشخص كتمثال الموت في يده منجل الفناء،وصوت كنعيب الغراب يردده في أجواز الفضاء:”أخفق نابوليون في استعمار مصر فأنا أستعمر سوريا،وعجز نابوليون عن تدمير عكا فأنا أدمر دمشقّ!!وكان في يد هذا المغرور بقية من عتاد الحلفاء فيها القاذفات والدبابات والرشاشات والبنادق،وكان من حول هذا المغرور طغمة من عبيد السنغال غلاظ المشافر سود الأكباد،حمر العيون يعملون كالآلة من غير وعي.وكان إخواننا السوريون قد نظروا في أمرهم وأمر هؤلاء فلم يجدوا لهم مزية عليهم،فلا هم قدوة في حسن الخلق،ولا حجة في صحيح العلم،ولا قوة في نظام العالم،وإنما هم أمّة أمرضتها رواسب اللاتينية فاستكانت لعوامل البلى،حتى إذا ابتليت بهذه الحرب انخرعت فلم تقم،وانماعت فلم تتماسك.فلو كان بينهم وبينها أسباب من فتح أو عهد لأعادوا النظر فيها بعد انهيارها المخزي،فكيف والسبب الذي انقطع كان أوهم من خيوط الباطل؟ولكن مسيخ نابوليون يُصمّم على البقاء وإن أبدعت الحجّة،ويُصّر على المعاهدة وإن فقدت الثقة!فهو يجلب المدد ليعزز العدد،وينصب المدافع ليحصن المواقع،ويتحدى حميّة العرب الذين كان آباؤهم يحملون السيوف ليقودوا الأمم،أيام كان آباء هؤلاء من (الغال) يحملون العصي ليقودوا الغنم!فلم يكن بد من قبول التحدي،ووقف الكماة الأباة العزل يثقلون برؤوسهم قنابل النار،وبصدورهم قذائف الرصاص دون أن يفروا كما فر في “سدان” حلفاء نابوليون الثالث وهم مدججون بالسلاح محصنون بالمدافع.فاستشهد منهم على أرض سوريا الكريمة العظيمة مليوناً من العرب يؤججون بأجسادهم هذه النار ليصلي بها من يشاء الله أن يصلى،لولا أن رفع الصوت من يملك الرفع والخفض،فانخلعت قلوب القادة وانخرعت متون الجنود!

ولا والله ما ذهب باطلاً ذلك الدم الذي طهّر سوريا من الدخيل،وجمع كلمة العرب وقوتها من شرق دجلة إلى غرب النيل!.”

وتم جلاء القوات الأجنبية عنها .

الجلاء في 17 نيسان عام 1946م.

شكري القوتلي أول رئيس لسوريا في عهد الاستقلال:

ولد شكري محمود القوتلي رحمه الله في 21 تشرين الأول من عام 1891م الموافق 17 ربيع الأول عام 1309هجري،ونشأ في بيت عريق عُرف بالصلاح والتقوى والإستقامة،وكانت أسرته قد نزحت منذ نحو ستة قرون قبل ميلاده من بغداد إلى دمشقّ،وحظيت بمكانة بارزة في المجتمع العربي،ونالت تقدير واحترام الملوك والحكام،ليس في سورية فحسب،وإنما في الوطن العربي كله،حتى أن الخديوي إسماعيل حينما دعا حكام الدول والرؤوساء والشخصيات الكبيرة لحضور الإحتفال بافتتاح قناة السويس سنة 1869م وكان محمد سعيد القوتلي شقيق جد شكري القوتلي في طليعة المدعوين من الشخصيات العربية البارزة.

ونشأ القوتلي ـ منذ صغره ـ مُحباً للغة العربية،وبعد أن حصل على الشهادة الابتدائية التحق بثانوية عنبر في دمشق، حيث أتمّ دراسته الثانوية فيها،ثم اشترك في مسابقة للكلية الشاهانية في استانبول وهي أرقى مدرسة للعلوم السياسية والإدارية في الدولة العثمانية فكان ترتيبه الخامس بين 350 طالباً من الناجحين،فالتحق بالكلية الشاهانية سنة 1908م.

وفي أثناء فترة دراسته بالكلية كان النشاط العربي قد بدأ على نطاق واسع،وتأسس المنتدى الأدبي الذي ضمّ نخبة من الشباب العربي الوطني المتحمس وكان منهم شكري القوتلي الذي استطاع هو وإخوانه أن يوطدوا أقدام المنتدى.

وبعد أن أتمّ دراسته بها عاد القوتلي إلى دمشق سنة 1913م،كما اشترك أيضاً في جمعية”العربية الفتاة” التي انتشرت انتشاراً واسعاً،وكانت تعمل على نشر الفكرة العربية،وتدافع عن مصالح العرب وحقوقهم.

وقد أدى نشاط القوتلي وبعض زملائه من أعضاء الجمعية إلى القبض عليهم وإيداعهم في السجن،ولكنهم ما لبثوا أن أطلقوا سراحه بغية مراقبته حتى يصلوا إلى أماكن بقية رفاقه،وفطن القوتلي إلى ذلك،فأخذ الحذر،ولم يتصل بأحد منهم،وعندما يئسوا من نجاح خطتهم اعتقلوه ثانية،وأودعوه سجن”خالد الباشا” بدمشق،ومورس معه ومع زملائه أشدّ ألوان التعذيب والتنكيل،فكان بعضهم يذكر أسماء أعضاء الجماعة تحت وطأة التعذيب.

وخشي القوتلي أن يضطر إلى ذكر أسماء الأعضاء الذين يعلمهم جميعاً،ولم يجد أمامه إلا الإنتحار،واستطاع الحصول على موسى فقطع به شريانه،إلا أن حارسه انتبه بعد أن رأى الدم يسيل بغزارة من شريانه المقطوع،فأنقذه من الموت في آخر لحظة،وتم نقله إلى المستشفى،حيث مكث به شهراً للعلاج،ثم أعيد إلى السجن،وقدِّم إلى المحاكمة أمام المجلس الحربي فحُكم عليه بالإعدام.

وعندما قام الشريف حسين بالثورة العربية على الأتراك سنة 1916م قام قادة الثورة باحتجاز عدد من الضباط والجنود الأتراك،وهددوا بإعدامهم إذا لم يطلق سراح العرب المعتقلين،وكان منهم القوتلي ورفاقه.

وأنشأ القوتلي حزب الإستقلال فكان أول حزب في العهد الجديد حمل على عاتقه مسئولية توعية الشعب وتهيئته للنضال ضد المستعمر الفرنسي الذي احتل سورية عام 1920م بعد خروج الأتراك منها،وحاول القوتلي ورفاقه منع الفرنسيين من دخول سورية بعد أن وصلوا إلى مشارف مدينة ميسلون،ولكنهم لم يتمكنوا من صدهم،فقد كانت المعركة غير متكافئة بين الجانبين،ودخل الفرنسيون سورية وسيطروا عليها.

ولم ييئس القوتلي فقد ظل في طليعة الأحرار الذين هبّوا يدافعون عن وطنهم،وهو ما أثار المستعمرين فاعتقلوا عدداً من رفاقه،وحكموا عليه سنة 1920م وصادروا أملاكه،فاضطر القوتلي ورفاقه إلى النزوح إلى مصر والأقطار العربية الأخرى وإلى عدد من دول أوروبا يستنفرونها ويستنصرون بها على المستعمر الفرنسي،وهو ما اضطر الفرنسيين إلى مُصانعتهم وملاينتهم،فأصدروا عفواً عن السجناء السياسيين،وأعلنوا استعدادهم للتفاوض مع القوتلي ورفاقه.

وعاد القوتلي وعدد من رفاقه المُبعدين إلى سورية سنة 1924م،وحاول الفرنسيون إقناع الوطنيين بالتفاوض معهم،ولكن القوتلي كان يعلن دائماً أنه لا تفاوض قبل الجلاء.

وهبَّ الشعب السوري كله في ثورة عارمة ضد المستعمر الفرنسي،وكان القوتلي أحد قادتها ومؤججي جذوتها،لكن الفرنسيين واجهوا تلك الثورة بالبطش والعنف،واستقدموا جيشاً كبيراً لإخمادها والقضاء على قادتها،حتى تمكنوا من إخماد تلك الثورة،وحُكم على القوتلي بالإعدام مرة أخرى سنة 1925م،فترك دمشق وراح يتنقل بين القاهرة والقدس والرياض،يحرك المشاعر والنفوس ضد الفرنسيين،ويكشف جرائمهم ويندد بفظائعهم.

وشارك القوتلي في المؤتمر العربي القومي الذي عقده عدد من أحرار العرب في القدس سنة 1931م ليقرروا الميثاق التاريخي الذي ينبغي للعرب السير عليه خلال المرحلة المقبلة.

وعندما شكّل جميل مردم أول وزارة في عهد الإستقلال جعل شكري القوتلي وزيراً للمالية والدفاع،فاستطاع  أن يحقق وفراً كبيراً في موازنة الدولة،كما أسس وزارة الدفاع وهو ما أثار عليه حنق الفرنسيين من جديد.

وفي عام 1937م ذهب القوتلي لأداء فريضة الحج،فعقد مع الملك عبد العزيز بن سعود اتفاقاً لتسيير خط السكك الحديدية من الحجاز إلى دمشق إلى المدينة.

وبدأ الفرنسيون يضيقون بسياسة القوتلي تجاه “لمّ الشمل” العربي والتعاون بين الحكومات العربية،وميله العلني إلى الوحدة العربية.

وراح القوتلي ينادي بالإستقلال،وبجلاء فرنسا عن سورية،وسافر إلى أوروبا ليشرح قضية بلاده ويستجلب لها المؤيدين،حتى أصبح محط إعجاب الجماهير وثقتهم،وصار الإجماع على زعامته منقطع النظير،فكلمة واحدة منه تثير ثائرة الناس،وكلمة تهدئهم،وهو ما جعل الفرنسيون يخشون الإقدام على أي إجراء تعسفي ضده،فعمدوا إلى اللين والمناورة،وشعر القوتلي بذلك فأغلق باب التفاوض معهم.

ولجأ الفرنسيون إلى تعيين حكومة جديدة،وأختير خالد العظم رئيساً لها،وأدرك القوتلي أن وراء ذلك خطة مدبرة لإسكات الشعب حتى تنتهي الحرب العالمية الثانية،فتفرض سياستها ،ووجودها بالحديد والنار.

وسافر القوتلي إلى كل من السعودية والعراق يستحث حكومتهما للاحتجاج على سياسة فرنسا ضد السوريين ومساعدة سورية لنيل حريتها واستقلالها.

وفي 17 آب عام 1943م انتخب شكري القوتلي رئيساً للجمهورية بالإجماع،وانتقلت سورية إلى مرحلة جديدة نحو الحرية والاستقلال.

وتوالت الاعترافات الدولية باستقلال سورية من جميع دول العالم عدا فرنسا التي لم تعترف إلا بعد مضي أكثر من ثلاث سنوات.

واجتمع الرئيس القوتلي بالمستر تشرشل وزير خارجية بريطانيا في شباط عام 1945م ودار البحث طويلاً حول ضرورة التفاهم مع فرنسا،لكن القوتلي أبى أن يعترف لفرنسا بأي حقّ في سورية،وأعلن عن استعداده لقيادة الثورة بنفسه إذا رفضت فرنسا الإنسحاب من سورية.

وعندما عقد مؤتمر الأقطاب الذي حضره روزفلت وستالين وتشرشل لإقرار ميثاق الأمم المتحدة في 11 شباط عام 1945م لدعوة الدول للإنضمام إلى هيئة الأمم وجهت الولايات المتحدة الدعوة إلى الدول لحضور الاجتماع،وأغفلت سورية ولبنان بإيعاز من فرنسا،ولكن القوتلي بذل جهوداً كبيرة مع ممثلي الدول العربية والأجنبية،حتى تم توجيه الدعوة إلى سورية ولبنان لحضور المؤتمر،وانضما رسمياً إلى عضوية هيئة الأمم المتحدة وتم الاعتراف بهما دولياً.

كذلك كان للقوتلي دور بارز في تأسيس جامعة الدول العربية منذ أن بدأت المشاورات الخاصة لتكوين الجامعة في الإسكندرية في 16 تشرين الول عام 1943ن وحتى عقد ميثاقها في 7 تشرين الأول عام 1944م ثم موافقة الدول العربية عليه في 22 آذار عام 1945م.

وكان موقف القوتلي دائماً مستمداً من إيمانه العميق بضرورة الوحدة العربية،وهو ما عبر عنه بقوله:”إن البلاد السورية تأبى أن يرتفع في سمائها لواء يعلو على لوائها إلا لواء واحد،وهو لواء الوحدة العربية”.

وكان القوتلي يستنفر الهمم لنصرة فلسطين وذلك عندما بدأت المؤامرات الأمريكية البريطانية لإقامة إسرائيل،وتحقيق حلم الصهيونية العالمية بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.

سعى القوتلي لتحقيق استقلال سورية وجلاء الفرنسيين عنها،لكن فرنسا كانت حريصة على بقاء جيوشها في سورية وجعلها مستعمرة لفرنسا،وأقدمت فرنسا على تصعيد خطير وعدوان سافر،فأنزلت جيوشها استعداداً لمواجهة شاملة مع الشعب السوري،وشنّت حرباً وحشية مدمرة راح ضحيتها عدد كبير من الأطفال والشيوخ والنساء،واستخدمت فيها كل أساليب الوحشية،ولكن الشعب السوري الأعزل استبسل في المقاومة،واستهان بالمخاطر والموت في سبيل عقيدته وحريته.

وبالرغم من مرض القوتلي فإنه لم يعبأ بمرضه،وانطلق يلهب حماس شعبه،ويحثه على الصمود والمقاومة ضد الاستعمار،وهو على فراش المرض،حتى استطاع الشعب السوري أن يجبر الفرنسيين على الفرار بعد أن ألحق بهم هزيمة منكرة وفوجئت بريطانيا بما حدث،وهالها أن ينتصر الشعب السوري على حليفتها،فزحف الجيش البريطاني بمصفحاته الضخمة على سورية،وأصبحت سورية تحارب بمفردها أعتى قوتين استعماريتين.

واتجهت سورية إلى مجلس الأمن تطالب بانسحاب الجيوش البريطانية والفرنسية عن أراضيها،ولم توان في طلبها ذلك حتى تم جلاء الجيوش الأجنبية عن سورية في 17 نيسان عام 1946م،وصار هذا اليوم ـ يوم الجلاء ـ عيداً قومياً لسورية وزعيمها.

واتجه القوتلي إلى الإصلاح الداخلي في جميع المجالات الإقتصادية والسياسية والإجتماعية والعمرانية.

وكان خطاب الرئيس الأول لسورية شكري القوتلي في عهد الاستقلال والجلاء،والذي ألقاه من شرفة سراي الحكومة :

بني وطني:

هذا يوم تشرق فيه شمس الحرية ساطعة على وطنكم فلا يخفق فيه إلا علمكم ولا تعلو فيه إلا رايتكم .

هذا يوم الحقّ تدوي فيه كلمته ويوم الاستقلال تتجلى عزّته،يوم يرى الباطل فيه كيف تدول دولته وكيف تضمحل جولته.

هذا يوم النصر العظيم والفتح المبين.

بني وطني:

بعد أن أحمد الله تعالتْ قدرته على ما وفقنا إليه.أرى لزاماً علينا في هذا اليوم التاريخي الأغرّ أن أتوجه والإكبار يتملكني والخشوع يملأ جوانب نفسي بالتحية والتمجيد إلى أرواح الشهداء الأبرار الخالدين الأطهار الذين غرسوا شجرة الإستقلال بيدهم وسقوها بكريم دمهم فغدت في هذا اليوم المبارك وارفة الظلال أصلها ثابت وفرعها في السماء أولئك الذين ماتوا ليحيا وطنهم وقضوا لتبقى أمتهم،هم أصحاب الفضل الأول ثم هذا النصر المحجل،وما يوم الإستقلال هذا إلا عيد الفداء ومهرجان الشهداء فسلام عليهم في عليين وتمجيد لذكراهم في الخالدين.

بني وطني:

أهنىء اليوم شباباً وشيباً هلالاً وصلييبا،أهنىء ذلك الفلاح الذي دعاه داعي الوطن فلبّاه،هجر مزرعته وتنكّب بندقيته،وراح يذود عن أمته ويثأر لكرامته.

أهنىء العامل الكادح يجعل من نفسه لوطنه فداء وهو فيما يصيبه لَمِن السعداء.

أهنىء ذلك الطالب تتأرجح روحه حماسة ويغلي مرجله إباء.

أهنىء الأستاذ يبعث العزّة القومية، والشاعر يهزّ الروح الوطنية، والكاتب ينافح عن الحقّ ويشدد العزائم.

أهنىء ذلك التاجر طالما غادر متجره احتجاجاً على ظلم صارخ لعدوان نازل.

أهنىء رجل الحياء تثيره النخوة ويستجيب للحمية.

وأبارك للسيدة تؤدي واجبها جهداً وثباتاُ وصبراً.

وأحيى بقية السيوف من الأحرار الذين صدقوا ما عاهدوا عليه فذاقوا حياة النفي والتشريد وهبطوا السجون كراماً وعزة وبذلوا الأنفس والأموال والثمرات وصبروا وصابروا{فما وهَنُوا لما أصابَهُمْ في سبيلِ اللهِ وما ضَعُفُوا وما استكانُوا والله يحبُّ الصّابرينَ}[آل عمران 146].

أحييهم جميعاً في شخص الشهيد المجهول يعمل لوطنه صامتاً أريحياً ويلقى وجه ربه راضياً مرضيا.

بني وطني:

أتى على الأمّة حينٌ طويل من الدهر،وران عليها فيه سبات عميق،ففقدت سيادتها وأضاعت مكانتها،جار عليها وتنافس في التحكم بها أجانب عنها حتى أوشكت أن تفقد وجودها وكادت تنسى عربيتها وتذوب في غيرها،وتغدو حديثاً يروى وتاريخاً غابراً يُحكى،ولكن أصالة هذه الأمّة وما أودعه الله فيها من أسرار البقاء،وما في نيتها من مناعة ضد الفناء جعل من هذه الحقبة الطويلة إغفاءً لا موتاً،وثباتاً لا فناء،فما نفخ في صور القوميات حتى رأينا القومية العربية قبل الحرب العالمية الأولى تهب من رقادها وتشق طريقها،ولقد ولدت حركتها على صورة مطالبة بالإصلاح وغضبة للغة العربية ثم نمت وترعرعت حتى استوت نشداناً لإستقلال العرب وجهاداً في سبيله واستشهاداً من أجله.

لقد عرف تاريخ فجر الحركة القومية أسماء جمعيات وأحزاب سرية وجاهرة أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:العربية الفتاة،والعهد،والإستقلال التي كان لي ولأخواني من رعيل الحركة الأول شرف الانتماء إليها والعمل على تحقيق أهدافها،وبشرت هذه الجمعيات بالفكرة العربية فلم تكد تنشب الحرب العالمية الأولى حتى تلظى الروح القومي،ورأينا السجون والمنافي تكتظ بالأحرار،ورأينا كيف يكون التنكيل بالأبرار،وهناك على بعد أمتار من ذاك المكان استفاقت دمشق ذات صباح على مشهد صفوة مختارة من رجالات العرب عُلقوا على المشانق،ولم تكن تلك الأعواد إلا أراجيح الأبطال ومنابر الخطباء الصامتين من فحول الرجال وصار لقضيتنا يومئذ ضحايا وشهداء،فكتب لها في اللوح المحفوظ أن تمضي قدماً نحو النصر والعلاء.

ورأى بعد ذلك أمة يعرب تثور ثورتها الأولى ورأى أبناءها ينفرون إليها من بطاح مكة وروابي الحجاز،ورأى موجة الأمل تغمر حزون الجزيرة والنجاد،وهرع لتلبية نداء القومية وصرخة العربية فتيان من مختلف أقطار العرب دخلت كتائبهم دمشق يقودها فيصل الأول الخالد،ويومئذ اكتحلت العيون بالعلم العربي يرمز بألوانه إلى دول العرب الغابرة وتدعو إلى استعادة أمجادهم الزاهرة ثم تبدت نذر الرغبة في استعباد هذا الوطن.وتجاهل حقوقه وأهدافه،فسارعت الأمة في الثامن من آذار عام 1920م إلى اعلان استقلالها،وآلت ألا تفرط بحريتها وتحدت بذلك كل طامع وقطعت السبيل على كل متآمر يروم الغضّ من أمانيها والنزول بمثلها وأهدافها.

ولكن الحرية كانت ولا تزال تتطلب المهر الغالي والثمن الرفيع،فما أسرع ما اجتاحت جيوش الطامعين الغاصبين هذا الوطن العزيز وعلى أشلاء يوسف العظمة ورفاقه الشهداء الميامين في ميسلون دخلوا هذا البلد الأمين،لقد قوّضوا بنيان الدولة الفتية ونكسوا رايتها ومزقوا وحدتها وفرضوا الانتداب البغيض عليها وافتنوا في التنكيل بأحرارها وكانوا كلما أمعنوا فيها أذى وعتوا وساموا خسفاً واضطهاداً ازدادت على الإرهاق والبطش ثباتاً وشجاعة وإباء حتى برهنت الأمة العزلاء إلا من حقها أنها أمة لا تكلّ من التضحية ولا تملّ من الفداء،أجل إنها مضت في جهادها واثقة بأن إيمانها سيصهر حديد الطغاة،وأن قوة عقيدتها وصلابة إرادتها ومضاء عزمها سيجعل من ظلم الظالمين هباء.

وتتابعت مواكب الشهداء وخضّب كل شبر من أديم هذا الوطن بالزكي الطاهر من الدماء وكانت ثورات لا يكاد يخمد أوار الواحدة حتى تتلظى نار الأخرى،ولم يكن تراجع إلا أعقبه إقدام،ولا فرّ إلا تلاه كرّ.

سلوا هذه الغوطة الفيحاء عن معاركها الشعواء.

سلوا جبل العرب الأشمّ تنطلق منه الثورة الكبرى يقودها سلطان الأطرش.

سلوا ربوع الشمال وجبل الزاوية عن ثورة هنانو،وجبال العلويين عن ثورة صالح العلي،سلوا سهول حمص ووادي حماة وتل كلخ والمزرعة وحوران.سلوا راشيا والقلمون .

سلوا هذه البيوت التي دمرت والمزارع التي أحرقت والمتاجر التي نهبت.

سلوا المنافي والسجون سلوا دماء الشهداء أي ثمن دفعنا لإستقلالنا وأيّ جهد بذلناه لبلوغ أهدافنا.

أجل سلوها هل ونينا عن دفع الثمن وهل قصرنا في أداء المهر،وهل خططنا في سفر الجهاد والتضحيات إلا صفحات باهرات نيرات يشع منها نور الحق المبين ويتعالى منها تكبير المجاهدين المؤمنين.

كان الغاصب كلما أنس من هذه الأمة اندفاعاً في الذود عن حقها وكلما أخفق في إدخال الفزع إلى قلوبها ،تظاهر باللين تارة وبالجنوح إلى الحق أخرى ثم لا يلبث أن يعود إلى أصل فطرته ويخيس بكلمته.رأيناه يدعو إلى جمعية تأسيسية حتى إذا رآها تجهر بإرادة الأمة أغلقها وقضى عليها.

رأيناه يعترف للأمّة بحق وضع دستورها حتى إذا ما اشترعته جاء ينتقض بنوده ويعطل أحكامه,رأيناه يدعو إلى الانتخاب الحر ثم يملي إرادته ويفرض سلطانه.

ثم رأيناه سنة 1936م بعد ذلك الإضراب المستطيل يتظاهر بالصداقة ويعاهد على الإعتراف بالحقّ ثم لا يلبث حتى يثير الفتن ويؤرث العداوات ويروج المفاسد غير خافر بذمته ولا واف بعهده،ومن فضل الله على هذه الأمة أنها لم تكن في أثناء ذلك كله ترضى بالدون ولم تكن تؤخذ بالخدائع ولم تسجل على نفسها أنها ارتضت عن كامل حقها بديلاً،وقد عجز الإستعمار عن حملها على قبول وضع يثلم كرامتها وارتباط بعقد يمس عزتها.

بني وطني:

لقد نشبت الحرب العالمية فكفت الأمة عن مناوأة خصمها وملكت رغم استمرار العنت والجبروت نفسها،وكان الحلفاء يخوضون غمار حرب فاصلة طاحنة ،فوقفت سورية من الدول المتحالفة موقف النصير،وساهمت طوقها في مجهود الديمقراطيات الحربي،ووضعت مواصلاتها ومرافقها ومؤسساتها تحت تصرف السلطات العسكرية الحليفة،وقد ارتبطت عملياً مصيرها بمصير الديمقراطيات وهي في أثناء ذلك كله لم تتوان عن المطالبة بحقها،ولم تقصر في بذل النشاط السياسي للإستفادة من الظروف الدولية السانحة والفرص العالمية المواتية.

لقد كان العمل في الحقل الوطني والحرب حامية الوطيس محفوفاً بالمكاره مليئاً بالصعاب،وكان الناس يؤخذون بأدنى الشبهات ويحاسبون حتى على اللفتات،ومع ذلك فإننا لم نغفل عن أداء واجبنا في ذلك الآن العصيب والظرف الرهيب،رغم امتلاء السجون واكتظاظ المعتقلات،وقدمنا المذكرات وأذعنا البيانات ووجدنا في الدول العربية الشقيقة التي ربطت مصيرها بمصير الديمقراطية أصدق العون،وفي الدول المتحالفة الصديقة أقصى النصر،فاستعادت الأمة وضعها الشرعي واختارت نوابها وانتخبت رئيس جمهوريتها،على أن الظروف وتطوراتها والحرب وما رافقها من دعوة إلى الحريات ومبادىء المساواة،وما أصاب فرنسا نفسها من ويلات لم تبدل يومذاك من ذهنية ساستها وكبار موظفيها فوجدنا أنفسنا أمام صعاب شاقة وعقبات كاداء،فصرفنا همنا إلى جعل الاستقلال حقيقة راهنة باستلام الصلاحيات واستخلاص الحقوق التي استمسكت بها فرنسا وعضّت عليها بالنواجز.

لقد رافقت هذا كله جهود مباركة لجمع شمل العرب،وتوحيد كلمتهم وإقامة قواعد جامعتهم فكان بروتوكول الإسكندرية سنة 1944م فميثاق جامعة الدول العربية سنة 1945م وانتظمت دول العرب في جامعة تعزز كيان كل دولة عربية وتوطد سيادتها وتناضل دون كامل استقلالها وتؤازر الحركات القومية التحريرية في الأقطار التي مُنيت بالسلطان الأجنبي وبعد مئات السنين من التفرقة والتخاذل والسيطرة الأجنبية وخمول الذكر وضياع الشخصية تدوي في مسمع الزمان كلمة العرب موحدة قوية ويستمع العالم إلى رأيهم الجميع وتبوؤهم لأول مرة باتحادهم المقام الدولي الرفيع ثم أزفت الدعوة إلى مؤتمر سان فرنسيسكو فوقفت المساعي المتصلة التي بذلناها في الحقل السياسي الدولي لدى حكومات الدول المتحالفة ولدى الدول العربية الشقيقة فدعينا إليه وساهمنا وأربع دول عربية أخرى في وضع ميثاق الأمم المتحدة،وظفرنا بذلك عمليا ونهائيا بإقرار دول العالم أننا أمّة مستقلة حرة ذات سيادة تامة وبينما كنا نسير في مواكب الأمم المتحدة ونجلس في مصاف الدول المستقلة ونعمل على توطيد مكانتنا ونلحّ في المطالبة باستلام جيشنا وجلاء الجيوش الأجنبية عنا فؤجئنا في آيار من سنة 1945م بالمؤامرة المُبيتة والخطة الجهنمية المُعدّة لتقويض كياننا وتدمير استقلالنا وأطلقت المدافع قنابلها على بيوت الآمنين وخصّت برلمان الأمة بالحِمم وحُراسَه بالقتل والتمثيل،وراحت الطائرات والقلاع تقصف المدن السورية الأبيّة فما وهنت عزائمنا وما لانت قناتنا بل هبّ الشعب السوري في مختلف أنحاء سورية يتقلد السلاح ليذود عن الحمى المُستباح وقيل لنا حبذا لو تبرحوا مكانكم هذا فقلنا إننا ها هنا مرابطون ولن نبرح مكاننا إلا أشلاء وللقوة الباغية أن تفعل بنا ما تشاء،وكانت الكارثة مِحكاً لتضامن العرب وجامعتهم،وامتحاناً لقوة إرادتهم،وإذا بالأمّة العربية كلها تنفر لنصرتنا وتفرغ لنجدتنا،وإذا بالرأي العام العالمي ولاسيما بريطانيا العظمى والولايات المتحدة والإتحاد السوفييتي يسخط على المعتدي،وينقم منه بغِيّهِ وطيشه،وغدا السلام في الشرق الأوسط مهدداً ينذر بالشر المستطير،وهنا يذكر الشعب السوري ماكان لبريطانيا العظمى من موقف مؤثر نبيل إزاء الغدر والعدوان فاستحقت بموقفها هذا شكر الأمة ومزيد التقدير.

ولقد صبرنا حتى انقلبت النقمة نعمة،وحفر الاستعمار بيده لحده،ومن حالكات تلك الليالي السوداء بزغ فجر هذه الحرية الزهراء{ومَكرُوا ومَكرَ اللهُ واللهُ خيرُ الماكرينَ}.[آل عمران 54].

لقد انجلت الغمّة عن هذه الأمّة وصدق الله وعده ونصر جنده وهزم الطغيان وحده.

إنه لا بد لي هنا من التنويه بموقف الدول المتحالفة بريطانيا والولايات المتحدة والإتحاد السوفييتي من قضية استقلالنا،فقد أبدت منذ الأصل وسارعت إلى الإعتراف العملي بإستقلالنا وجاء إقرار الدول في مجلس الأمن  وجوب الجلاء عن وطننا دليلاً على أن مبادىء الحرية والديمقراطية والمساواة يمكن أن تصبح حقائق راهنة إذا اعترف للشعوب الصغيرة بحقها في الحرية والإستقلال.

وإني لأذكر في عيد الجلاء بالثناء أن بريطانيا أعلنت منذ الأصل أن جيوشها إنما دخلت هذه البلاد استجابة لمقتضيات الحرب المؤقتة،وأنها عازمة على سحبها ولقد برّت بوعدها وسحبت جيوشها التي لم تكن في بلادنا غير أداة سلم وطمأنينة،وها نحن أولاء نحتفل هذا اليوم العظيم بتحطيم آخر قيد من أغلال العبودية ،نحتفل باقتطاف ثمرة جهاد عشرات السنين،فقد غدت البلاد اعتباراً من هذا اليوم مستقلة استقلالا تاماً ناجزاً ذات سيادة كاملة غير مشوبة بقيد ولا منوصة بشرط وهي في وضع دولي حميد تودّ لو تهنأ بمثله كثيرات من دول العالم،فاسعدوا به يوماً خالداً مباركاً وتواصلوا فيه بالحقّ والعمل الصالح وتعاهدوا مُتحدّين على صيانة استقلالكم وإعزاز رايتكم.

بني وطني:

إن هذا الاستقلال الذي ظفرنا به بفضل جهاد الأمّة وقوّة عزمها وإتحادها هو أمانة الشهداء في أعناقنا لنورثه أبناءنا سليماً قوياً محترماً،فعلينا ألا نفرّط فيه وأن نتفانى دونه وأن نُحيطه بسياج من دمائنا وأرواحنا فالإستقلال ملاكه التضحية وقوامه الفداء.

يا أبناء الوطن:

إننا نطوي اليوم صفحة الجهاد في سبيل استقلالنا لنفتح صفحة الجهاد لصيانته وجعله واسطة لإسعاد الأمّة ورقيّها،وقد تكون صيانة الإستقلال أشقّ من الظفر به وليس السبيل إذا بهيّن ولا بيسير،وما هو أمام إرادة الأمّة بالأمر العسير،فلنتذرع إذن بالعزم الماضي والإرادة المتينة.

لقد أورثتنا فقدان السيادة الوطنية أجيالا وتحكّم الأجنبي فينا قرونا طوالاً أمراضاً ثقالا،فواجبنا أن نعمل على تقويّة أنفسنا وإصلاح ما أفسده الإستعمار،واجتثاث بذور السوء التي بذرها في تربة الوطن الغالي،وإذا كنا قد جاهدنا حتى زوال الإستعمار فعلينا أن نجاهد حتى تَعفى أثره ونقضي على ما خلّفه من أسواء ومفاسد.

كان الإستعمار عقبة كأداء تعترض تقدمنا ورقينا ولن ترقى أمة مُستعبَدة مادامت الحرية عنصر التقدم الأول،ثم ذهب هذا الإستعمار إلى غير رجعة،وجلا الظالمون فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا مُنظرِين،وزالت العقبة وغدونا غير معذورين إذا نحن قصّرنا بعد الآن في الجري مُسرعين في مضمار التقدم والإصلاح.

إننا نودع اليوم عهد الهدم وقد كانت له سبله وأساليبه،ونستقبل عهد البناء وله سبله وأساليبه،كنا نقارع بالأمس الأجنبي المستعمر باعتباره مصدر كل داء وأساس كل بلاء،فصار لزاماً علينا أن نخلص اليوم من الفقر،وأن نُبدّد ظُلمات الجهل،وأن نحارب الفوضى والشغب وأن نوطد النظام،علينا أن نكافح العلل الخلقية والنفسية كفاحنا للأوباء الجسمية ،علينا أن نصلح أداة الحكم وأن ننصرف إلى العمران وأن نعدّد الخطوط والبرامج الإنشائية والتجديدية،التي يؤدي إلى رفع مستوى الفرد الخلقي والعلمي والإقتصادي والإجتماعي ،وأن نفسح المجال أمام الكفايات وأن نصقل المواهب،وأن نجلو الصدأ عن عبقرية هذا الشعب الذي أتيحت له الفرصة أتى في ميدان الحضارة بما أتى به أباؤه الأولون.

علينا أن نرقى بإقتصادياتنا وصناعتنا وتجارتنا إلى المستوى اللائق بشعبنا الذكي الفعال،علينا أن نقضي على البلبلة الثقافية،والفوضى في مختلف مرافق العمل،علينا أن نصل بهمتنا ودأبنا بين مجد الماضي ومجد الآتي،على أن هذا المجد الذي نريد أن نشيد بنيانه وأن نُوطد أركانه إنما تقوم قواعده على تعاون أفراد الأمة وتكاتف القوى وتوجيه نشاطها نحو إسعاد الجموع وإعلاء شان الوطن.

إن مثلنا الأعلى الذي نتطلع إليه ليدعو اليوم أبناء هذه الأمة إلى التجرد عن الهوى والترُّفع عن الصَغار وإيثار المصلحة العامة على الخاصة والتفاني في رعلية القانون وإحترام النظام والولاء للدولة ومعرفة أن لقاء كل حقّ للفرد لابد من واجب عليه.

وتقوم قواعد المجد الآتي من الناحية الأخرى على تحلّي الحكومة بالعدل مقروناً بالحزم،وبالسهر على مصالح الشعب،وتغليب سلطان القانون العادل على كل سلطان،وتنمية الكفايات ومعرفة إن ما كان يجوز في عهد الإنتداب والإحتلال قد لا يجوز في عهد السيادة والإستقلال.

وإني لأرجو على ضوء ما أسلفت أن نمضي في عهدنا الإنشائي في مساواة لا تفرق بين الأديان والمذاهب،ولا تُقيم وزناً لعصبيات الأعراق والطوائف فنحن حقاً أمّة مُوحدّة لا أقليات فيها ولا أكثريات.

أما في سياستنا الخارجية فنمخض دول هيئة الأمم المتحدة أصدقّ المودّة وستكون صلاتنا في ميادين الإقتصاد والثقافة والشؤون العالمية الأخرى،الصلات التي تقتضيها طبيعة الحياة الدولية وضرورة المساهمة في النشاط العالمي على اختلاف ميادينه وتعدد مناحيه على أن نقف في ذلك على المساوات بغيرنا وعلى أن لا تمسّ سيادتنا الوطنية،وفي نطاق ميثاق الأمم المتحدة هذا الميثاق الذي دشّنا حياتنا الدولية بالمساهمة في وضعه وكان الإعتراف العملي باستقلالنا وجلاء القوى الأجنبية عن بلادنا بشير اعتناق الدول لمبادئه وتنفيذهم ىأحكامه ورعايتهم مراميه ونحن في علاقتنا الدولية لن نفرق بين دولة وأخرى ولن نسلم لدولة ما برجحان أو امتياز ولا بمركز خاص أو ممتاز.

أما صلتنا بالجامعة العربية التي هي حصن العرب المنيع ،فصلة الولاء الخالص لمبادئها،والعمل الدائب على ترقيتها،وتحقيق أهدافها،فعلى هذه الجامعة المباركة يُعقد الرجاء،وبها تُناط الآمال،وفيها تلتقي مثلنا العليا،وفي تقويتها وإعزازها توطيد دعائمها،عزّة الجانب ووفرة الكرامة وبلاد الشّام التي كانت نهدا للفكرة العربية ومنبت دعاتها الأولين وشهدائها الخالدين،بلاد الشّام التي شعّ فيها نور العرب في عهدها الزاهر،وحملت رسالة الحضارة بين أولى الدول العربية إلى الآفاق البعيدة،ورفعت العروبة على ضفاف اللوار وروابي الأندلس وأسوار الصين،لتعلن اليوم أنها تؤمن بالعروبة في أوسع معانيها وتساهم في إيمان أداء رسالة العروبة للحضارة الإنسانية،وهي رسالة سامية قائمة على الحق المطلق والسلام العادل،ولقد أعربت عن مشاعركم ورميت عن قوس عقيدتكم، حين قلت بالأمس وأقول اليوم أننا لن نقبل أن يرتفع فوق هذه البلاد إلا علم واحد هو علم الوحدة العربية،وإنه لمن مقتضيات اعتناقنا العقيدة القومية أن تقف سورية من الأقطار والشعوب العربية التي تشكو بعض القيود تقيد سيادتها وتعمل جاهدة على فكّها والإفلات من ربقتها موقف التضامن معها المؤيد الظهير لها الثابت في نصرتها.

وأما فلسطين العزيزة الجزء الجنوبي من ديار الشّام فقضيتها وخلاصها من خطر الصهيونية ركن أساسي من أركان سياستنا،وفي إنقاذها ضمانة لسياسة بلادنا ومستقبل أبنائنا،ونحن مطمئنون إلى أن تضامن الدول والشعوب العربية في نصرة قضيتها وإيمان أخواننا العرب من  أبنائها سيكفل لعروبة فلسطين بالنصر المؤزر والفوز المبين وستظل عربية لو أطبقت عليها شعوب الأرض.

يا بني وطني:

إن بلاد الشّام التي أشرق وجهها اليوم بنور الإستقلال،وتَوّج مفرقها تاج الحرية لتبتهج أيّ ابتهاج بممثلي الدول العربية ووفود الأقطار الشقيقة يشاركونها اليوم الإحتفال بقيام الجمهورية السورية الفتية ويضفون على هذا العيد بهجة خاصة فيها كل معاني الجلال،وإنها لا تنسى في زهو المهرجان ما لحكوماتها وشعوبهم على قضيتها من يد بيضاء وهي تبعث إلى أصحاب الجلالة والفخامة والسمو ملوكها ورؤسائها وأمرائها تحيات الشقيق إلى الشقيق.

إن في اشتراك فصائل من جيوش الأقطار العربية وأسراب طائراتها لمعاني تقرّ العيون وتُثلج الأفئدة،ففي ذلك معنى تعاهد الجيوش العربية في مختلف أقطارها على الدفاع الموحد المشترك عن حرية كل قطر من هذه الأقطار،وقد رأينا في استعراض الصباح الجندي المصري والجندي العراقي والجندي السعودي والجندي اللبناني والجندي الأردني والسوري يوحدهم النظام بعد أن وحدّهم الهدف وجمعتهم الغاية،فرأينا فيهم نواة الجيش العربي الأكبر،وعاد بنا جلال الموكب العسكري المُوّحد إلى أزهى عصور التاريخ العربي يوم كانت الأقطار ترسل أفلاذ أكبادها جنوداً في جحافل النصر،تحمل مشاعل الحضارة،حضارة العدل والحق لقد دلّ هذا الحشد العربي العظيم على أن مطمح العروبة في توحيد كلمتها صار حقيقة راهنة،فقد انتظمت القلوب قبل أن تنتظم البلدان ونفذت إلى الأفئدة قبل أن تتجاوز التخوم والحدود.

يا شباب الأمة:

إنكم أمل الوطن المرجى لإسعاده وعلى سواعدكم وهمتكم يعتمد في تحقيق غاياته واستعادة أمجاده.

يا بني وطني:

يطيب لي أن أتحدث اليوم بنعمة الله علي وأن أعرب عما يجيش في صدري من الحبور وأحسّه من السعادة إذ مدّ الله في عمري فرأيت وإخواني الذين حكم علينا المستعمر منذ ربع قرن بالإعدام لأننا أبينا أن نقر الأذى وأن نقف على الهوان،وأثرناها على استعماره وطغيانه حرباً مقدسة لا هوادة فيها،رأينا اليوم بفضل جهاد الأمة وتضحيتها كيف يعود الحقّ إلى نصابه ورفعنا نحن بأيدينا العلم الذي قدسناه وسنذود عن رايتنا بدمائنا والله على ما نقول شهيد”.

يقول الشيخ العلامة علي الطنطاوي رحمه الله في موضوع الجلاء(الرسالة العدد 670):

“{ما ظَننتُمْ أن يَخرجُوا وظنُّوا أنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِنَ الله فأتَاهُمُ اللهُ من حيثُ لم يَحتَسِبُوا وقَذفَ في قُلوبِهمُ الرُّعبَ يُخرِبُونَ بُيوتَهُمْ بأيديِهِم وأيدي المؤمنينَ فاعتَبروا يا أولي الأبصارِ}.[الحشر2]

ماذا في دمشقّ؟

ففي كل ميدان فيها عرس،وفي كل حيّ فرح،وفي كل شارع مهرجان!

ما هذه الزحمة؟ما هذه الوفود؟الطرقات كلها مُترعات بالناس ما فيها موطىء قدم،وحيثما سرت ترَ قباباً من الزهر وستائر من الحرير،وعلى دمشق سماء من صغار الأعلام ومصابيح الكهرباء،قد انتظمتها حبال فدارت بها،ثم انعقدت على أشكال العقود والتيجان،فكانت منظراً عجباً،إذا رأيتها في الليل حسبت السماء قد ركبت فيها،فسطعت كواكبها ولألأت نجومها،وإذا أبصرتها في النهار ظننت الربيع قد عاد مرّة ثانية،فكان كل شارع روضة فتانّة،ضرب فيها موعد حب،وكل بناء عريشة ورد وفل وياسمين…وأغلى الطنافس مبسوطات على الجدران،وأحلى الصور مُعلقات على الطنافس،والسيوف المذهبة والتحف الغالية…ما يضنّ الناس بقيّم ولا يبخلون بثمين.

والرايات:السورية والمصرية والعربية السعودية والعراقية واليمانية والأردنية…أستغفر الله العظيم،بل هي راية واحدة اتحدّت حقيقتها وتعدّدت ألوانها،لأمّة واحدة اختلفت أزياؤها وتناءت أوطانها،فألفّت بينها قبلتها وأدناها قرآنها.أمة آخى الله بين أفرادها من فوق سبع سماوات،فأراد الظالمون تفريقها بخشبات ينصبونها على الطرقات،يسمونها حدوداً  خسأ الظالمون…وخابوا..إن بناء يقيمه الله لا تهدمه خشبة نخرة ولا خرقة مرقعة!

لقد أوقد الليلة في دمشقّ خمسمائة ألف مصباح،ونشر فيها ألف ألف علم،عُدّت عداً،ورُفِع فيها مائة قبّة من النور يعدو تحت إحداها الفارس من سعتها،ووضع في أرجائها مائة مذيع مصوت،يخرج منه النداء والهتاف والخطاب فيسمع في أقصى الغوطة ويُردِّد صداه الجلمود من قاسيون،ومشت فيها خمسة آلاف(عراضة) وموكب،وأقيمت ألف(دبكة) ففي كل مكان ازدحام،وعلى كل ثغر ابتسام،وفي كل قلب فرحة،وكل الناس مبتهج مسرور،الرجال والنساء والشيوخ والأطفال،والهتاف مُتصل ما ينقطع،والنشيد دائب ما يسكت،والخطب والمحاضرات والزغاريد والأغاني،من المصوتات والرداد والحاكيات والأفواه،والطبول تقرع،والمدافع ترعد،والطيارات تركض في السماء،والسيارات تزحف على الأرض ،والصواريخ تنفجر في الجو فتساقط منها الأنوار أمطاراً،والجيش يحمل مشاعله ينشد ويزمر،يشارك الأمّة في أفراحها،وما عهدنا(هذا) الجيش يشاركنا في فرح ولا ترح! ما عهدناه إلا عوناً للغاصب علينا،ضاحكاً في مآتمنا عابساً في أفراحنا.يدور بالمشاعل في شوارع دمشقّ،يُذكّر بالجيش الإسلامي لما حمل القرآن مشعل النور الهادي فأضاء به من الارض وهدى أهلها.وعلى كل جبل من جبال دمشق نيران ضخمة أضرموها،كما أضرمت من قبل نيران(الفتح) على جبال مكة،إيذاناً بتطهير الكعبة وتهديم الأصنام،و(إجلاء) الشرك عن البيت الحرام.

وفي كل دقيقة يفد على دمشق وفد جديد:وعراضات من كل بلد وقرية وناحية،قد لبسوا أحسن ثيابهم وجاءوا يعرضون أمتع فنونهم،وأعجب ألعابهم،ويهتفون أجمل هتافاتهم،فكأنه عيد الأولمب عند اليونان:فمن صراع إلى دبكة إلى قفز إلى لعب بالسيف والترس،إلى عَدوٍ بالخيل،إلى تمثيل وغناء…

وهياكل ضخمة،أعدّها الشباب،فوضعت على ظهور السيارات،على أشكال القلاع والمدافع والمدرعات،وشىء يمثل أيام العذاب،ومراحل الجهاد من ميسلون إلى الجلاء، فالعين رائية كل لون وشكل،والأذن سامعة كل نغمة ولحن،وفي كل فؤاد هزّة طرب،وعلى كل لسان صيغة حمد وكلمة ابتهاج،والليل يتصّرم وما تخلو الساحات،ولا يفترّ النشاط،ولا يسكت الضجيج،وما يفكر أحد بمنام،فكأنما قد جن البلد.

فماذا في دمشقّ؟أي يوم هذا من أيامها،عظمت أيام دمشقّ وكرمت وجلت؟

ألا إنه يوم الفرحة الكبرى،إنه اليوم الذي كان يتمنى كل شامي أن يراه،ولا يبالي إذا رآه أن يموت من بعده.إنها الغاية التي سرنا إليها خمساً وعشرين سنة وتسعة أشهر،نطأ الحراب،ونخوض اللهب،ونسبح في الدم،ونتخطى الجثث،وننشق البارود.

إنها الأمنية الكبرى التي كان يتمناها كل سوري وكل عربي وكل مسلم.

إنه يوم الجلاء.

لقد جنّت دمشق،وحقّ لها أن تجن،فقد عاد الحبيب بعد طول الفراق،وآب المسافر بعد ما امتدّ الغياب،وعانقت الأم وحيدها بعد ما ظنت أن لا لقاء،وخرج الفرنسيون وزال الإنتداب.إنه يوم الجلاء.

فيا أيها الذين عادوا من ميسلون بقلوب كسيرة،ونظروا إلى موكب الغاصب بعيون دامعة،وحملوا الظلم بأعصاب صابرة،وشاهدوا جبروت المحتل وطغيانه ووحشيته،والعرش الذي أقاموه على دماء قلوبهم وعزائم سواعدهم هوى،والبلاد التي برأها الله واحدة قسمت فجعلت دولاً…والوطني المخلص نفي أو سجن،أو حكم عليه بالموتِ شنقاً،والخائن الملعون قد أعطي الرتب والذهب…

ويا أيها الذين خرجوا على الظلم،وعرضوا أرواحهم للموت،على شعفات الصخر،من جبال اللاذقية إلى جبل الدروز،وعلى السهول الفيح،من أعالي حلب إلى أدنى حمص،وعلى ثرى الجنات من أرض الغوطة،لم يخشوا فرنسا إذ كانت تخشاها الدول،ويرهب بأسها الأقوياء.

ويا أيها الذين نشأوا في عهد الانتداب،فرأوا في كل مدرسة مستشاراً فرنسياً هو الآمر الناهي والمدير تمثال،وفي كل وزارة مستشاراً هو الفاعل التارك…والوزير صنم،وفي كل قضاء مستشاراً هو الحاكم المنفذ وهو الأمير،وفي وسط المدن مراكز للعدو،وعلى الجبال قلاعاً له قد وجهت مدافعها إلى البلد لتضرب أبناءه إذا طالبوا بحق أو أبوا ظلماً،لا إلى الفضاء لترد عنه الأعداء،وفي كل طريق جنداً من الفرنسيين والمغاربة المسلمين…والسنغاليين والشركس والأرمن…والدمشقيين الخائنين يلوحون بأسلحتهم في وجوه أهل البلد،ويرمونهم بالشرر(في السلم) من نظراتهم،وبالنار(في الثورات) من بنادقهم..

ويا أيها الشهداء الذين بنيران العدو الباغي،في سبيل الله في سبيل الحرية،وهل تسمع أرواحكم دعائي يا أيها الشهداء؟

ويا معشر العرب في قاصٍ من الأرض ودان.

إنا نحمد الله إليكم،تبارك اسمه،وجلّ جلاله،فقد أكمل نعمته،وأتمّ مِنّته،وأخرج الفرنسيين من الشّام كله، فلم يبق منهم أحداً.

اذهبوا الآن إلى (المزة) وادخلوا القلعة،وأُمّوا الثكنة الحميدية،فإنه لا يمنعكم حارس سنغالي وجهه يقطع الرزق،ولا يردّكم ضابط فرنسي،ولا تحجزكم سك ذات أشواك..وسيروا في طريق الصالحية فادخلوا قصر(المفوض السامي) الذي كان يتنزّل منه وحي الضلال على قلوب الخونة المارقين من طلاب الحكم وعشاق الكراسي،فيكونون لربّه عبيداً أذلّة،وعلى أبناء بلدهم فراعنة مستكبرين،ولِجوا قصر (المندوب) الذي كان ينصب منه (أمس) الموت الزؤام على من يدنو من حِماه،واسرحوا وامرحوا حيث شئتم،فالبلاد بلادكم،لا فرنسي،ولا إنكليزي،ولاطلياني ولا روسي،ولا أشقر ولا أسود…ألا لا مفوض (سامي..) اليوم،ولا مندوب.

لقد ذهبوا جميعاً،وما تركوا من جنات زرعوها ولا عيون،ما تركوا إلا بيوتاً كانت عامرة فجعلها حكمهم خرائب،وجناناً صيّروها مقابر،وضمائر نفرٍ منا كانت نقية فدنسوها..ذهبوا وما أورثونا خيراً قط.

هذا قصرُ المفوض السامي الذي كان بالأمس يزعم أنه إله الأرض،تعالى الله ما من إله غيره،وكان كلما نزت برأسه نزوة من حماقة جعلها قانوناً،وحمل الناس عليها بِسنان البندقية وفم المدفع،قوانين ينقض بعضها بعضاً،ويلغي أواخرها الأوالي،ولا يحصيها  عالم ولا جاهل.

هذا هو قصر المفوض الذي سرقه من فيصل،فيا فيصل،يا أيها الملك!ارفع رأسك مرة واحدة وانظر…إنها لم تطل المدة…إن اللص قد طرد،وإن الباغي قد دارت عليه الدوائر،فما دافعت عنه جنوده،ولا حمته حصونه،ولا أغنت عنه مدافعه وطياراته.لقد جرب فينا أسباب الموت كلها فما صنعت شيئاً.لم تحرقنا ناره،ولم يقتلنا حديده،لأننا أمّة لا(يمكن أن) تموت! وأحرقته هو نار حماستنا،وقتله حديد عزائمنا،فولّى عنا باللعنة،كمادخل علينا باللعنة!

اليوم يوم الجلاء.

اليوم يبكي رجال(منا) كانوا يأكلون الطيبات،وينامون على ريش النعام،من بيع ضمائرهم للأجنبي،على حين كان الناس ينامون على التراب،ويأكلون الخبز اليابس.

اليوم يبكي رجال حملتهم الخيانة فوضعتهم على مقاعد العزّ في أبهاء الحكومة فصاروا من كبار الموظفين.

اليوم يبكي رجال كانت لهم في سجلات(الاستخبارات) أسماء فصاروا اليوم أيتاماً كالأجراء في المزبلة بعدما مات الكلب.

ولكن الشعب كله يضحك اليوم،وتضحك معه الدنيا.

اليوم يضحك البلد بالزينات والأعلام،ويضحك الليل بالأضواء والمشاعل،وتضحك المنائر بالتكبير،وتضحك النواقيس بالرنين،وتضحك الأرض والسماء.

اليوم يرى الشاميون الفرحة الكبرى التي تنقش ذكراها على قلوب الأطفال والشباب فلا تمحى أبداً،وتكون لقلوب الكهول والشيوخ شباباً جديداً،كما كانت الفجيعة في ميسلون شيخوخة مبكرة لهذه القلوب التي شابت من الهول قبل الأوان.

لقد نامت دمشق البارحة ملء جفونها من بعد ما صرمت تسعة آلاف وثلاثمائة وسبعاً وتسعين ليلة وهي تنام مفزعة الفؤاد،مُقسّمة اللبّ،تخشى أن تصيبها من الفرنسيين بادرة طيش، أو نوبة لؤم، تذهب بدار عامرة،أو تضيع حقاً ظاهراً،أو تريق دماً بريئاً، وأغفت تحلم بالمجد والحرية،وقد مرت عليها تلك الآلاف من الليالي،لا تحلم فيها إلا بتهاويل الظلم والموت والخراب،وتأنس بطيوف الأحبّة من جند العرب في مصر والعراق والحجاز ونجد،وقد زهت بهم دمشق أن قدموها ضيوفاً كراماً بل إخواناً وأصحاب البلد،وقد كانت تروعها كلما نامت أشباح ألأبالسة تتراءى في صور جند من الشقر أو السمر أو السود الفرنسيين والمغاربة والسنغاليين،وأمنت الأم على ولدها أن تتخطفه الشراكسة زبانية(كوله) فتلقيه في سجن عميق،أو منفى سحيق،أو تذيقه النكال والتعذيب،لوشاية كاذبة،أو تهمة باطلة،أو طمعاً بفدية أو مال،واطمأن السكان على منازلهم أن تدمرها في هدأة الليل قنابل الطغاة أو تحرقها نارهم أو تسرقها أيديهم!

لقد نامت دمشق البارحة وهي تُودّع عهد الإنتداب،عهد الجهاد والعذاب،لتستقبل عهد الحرية،عهد البناء.ونهضت دمشق تسبق الفجر الطالع تؤم الشوارع التي يعرض فيها جيش العروبة،فما طلعت الشمس وفي النوافذ والشرفات وعلى ظهور البنى والعمارات،في شارع فاروق وفؤاد والجامعة السورية والسنجقدار،وميدان المرجة وضفاف النهر،وفوق قباب التكية السليمانية،وعلى أشجار المسالك،وفي كل مكان يشرف على الطريق،ما طلعت الشمس وفي ذلك كله شبر واحد خال من رجل إنسان قد قام لينظر ويتطلع،وأجر المقعد الواحد بعشر ليرات،ومكان الوقوف بليرتين،فكان هذا المنظر أحد الأعاجيب.

ونُصب الفسطاط،واجتمعت تحته الأقطار العربية كلها،جاءت وفود ملوكها وأمرائها من القاهرة والرياض وبغداد وبيروت وعمان وصنعاء والقدس،يهنئونها في عيدها ويشاركونها في أفراحها،ويقبسون أول شعاعة من شمس الحرية التي أشرقت على العرب بعد ليل طويل ،وكان مشرقها دمشق.

قِفوا لحظة على هذا الفسطاط فإنها ستقف عليه الأجيال ،إنه سيقدسه التاريخ،إنه سيكون لنا كما كانت حطين للجدود.

إنها ساعة حاسمة في تاريخ العالم،فقد تحرك فيها الفلك،وانقلبت فيها تقويم البشر ورقة جديدة.

لقد ضاع حلمك يا غورو،وتبدّد،وخابت أمانيك يا ديغول،وحققّ الله الأمنية التي كان يجيش بها صدر يوسف العظمة،شهيد ميسلون، وسيحقق أماني سعد ورشيد وعبد الكريم وعمر المختار وعبد القادر وجناح في الهند،ولم لا؟

فتيهي يا دمشق واعتزّي،فقد كنت عاصمة العرب في أول الدهر،وعدت اليوم عاصمة العرب حين كنت أول بلد عربي خلص لأهله بعد الإحتلال،فلا يشاركهم فيه جيش حليف ولا منتدب ولا وصي ولا محتل…

يا دمشق لقد عادت أيام معاوية وعبد الملك والوليد،لقد اتصل التاريخ الذي كان انقطع منذ قرون!”.

ويتابع الشيخ الطنطاوي في الحديث عن يوم الجلاء(الرسالة العدد 671):

“في عمر الإنسان ساعات هي العمر،تفنى الليالي وتنقضي الأعمار وتخلد هذه الساعات في قلوب البنين.وفي تاريخ الأمم أيام هي التاريخ،تمرّ السنون مُتحدرة في دَرك الماضي،مسرعة إلى هوة النسيان،وتبقى هذه الأيام جديدة لا تبلى،دانية لا تنأى مشرقة لا تغيب.

وللإنسانية أيام هي ركن الإنسانية،لولاها لما قام لها بنيان،ولا ثبت لها وجود…أيام قد عمت بركاتها،وشملت خيراتها البشر جميعاً…أيام هي ينابيع الخير والحق والعدل في بيداء الزمان،وهي المفخرة لأمة أرادت الفخار،وما أكثر هذه الأيام الغرّ في تاريخنا.

تلك الأيام التي أفضلنا فيها على العالم كله،وسمونا به إلى الحضارة:يوم الهجرة،وبدر،والقادسية،واليرموك،ونهاوند،وأيام قتيبة،وابن القاسم في المشرق ،وعقبة وطارق في المغرب،ومحمد الفاتح في الشمال،ويوم عين جالوت،وحطين،واليوم الاغرّ الذي أعاد لنا يوم حطين،وكان فجر اليوم الجديد للعرب بل للمسلمين أجمعين:يوم الجلاء.

إنه يوم مُعلم في موكب الزمان،إنه شَعارةٌ من شعائر المجد يقف عليها الفلك كلما دار دورته وقفة فيها خشوع وفيها فرح وفيها إجلال.

إننا قد ابتهجنا بالجلاء وهتفنا له ورقصنا وصفقنا،وملأنا منازل العربية أُنساً به وفرحاً،ولكنا لم نعرف قدر يوم الجلاء،إنما يعرفه من سيأتي بعدنا،يعرفه غداً من ينعم بظل هذه الشجرة التي نبتت اليوم.هنالك وقد امتدت فروعها ونمت حتى ظلّلت بلاد العربية والإسلام،يقول أبناؤنا:يا ما أكرم ذلك القضيب الطريّ الذي صار الجذع الضخم لهذه الدوحة الباسقة!وهنالك يبلغ من خطر هذا اليوم أنه سيمجد الجيل الجديد شيوخاً قد لا تكون لهم مزية إلا أنهم رأوا هذا اليوم بعيونهم،وعاشوا فيه حقيقة لا بالخيال.وسيجلس هؤلاء الشيوخ في صدور المحافل يحدثون الناس عن الذي رأوه،ويصفون كيف بدت تباشير الفجر المبارك،ليوم العروبة الجديد،وسيكون لكل حركة تحركناها اليوم وكل كلمة قلناها،معنى كبير لا نتصوره نحن الآن!سيصير هذا اليوم بتفصيلات وقائعه ودقائق أحداثه ملكاً للتاريخ الذي يقدس كل ما يدخل حماه،ويومئذ يعرف(يوم الجلاء)!

وقد زعم العداة أننا فرحنا هذا الفرح لأننا أعطينا ما لم نكن نحلم به،كالفقير المسكين إذ يطلب فلساً فيمنح ديناراً،كلا! إننا لم نأخذ إلا الأقل من حقنا.إن الجلاء ليس عجباً،وإنما كان العجب العجاب أن يكون في ديار الإسلام احتلال.العجب أن لا نحكم نحن الأرض ونحن خلقنا من أصلاب من حكموها،وورثنا القرآن الذي دانت لهم الأرض!

ولكنا فرحنا لأن الله جعلنا نقرأ هذا التاريخ الماجد العظيم قبل أن يكتب،وأن ندرك أول الإقبال كما شهدنا آخر الإدبار،فنحن المخضرمون…وإذا كان نور التوحيد قد سطع من الحجاز فكانت المدينة عاصمة الراشدين،ثم مشى إلى دمشق فصارت عاصمة الأمويين،فكذلك كان مطلع شمس الحرية،بدت من الحجاز والجزيرة فكانت أول قطر لنا خلا من أجنبي،ثم امتدت أنوارها إلى دمشق…وهي تمشي الآن إلى القاهرة وإلى بغداد،ثم تسلك طريق الأندلس،الفردوس الإسلامي المفقود الذي سيعود،والطريق الآخر الذي يصل إلى الباكستان ديار الأطهار،فلا يبقى في ظلال المآذن كافر يحكم بغير ما أنزل الله!

وزعموا أن هذا الجلاء أتى عفواً بلا تعب،وأننا لم نرجف عليه بخيل ولا ركاب،ولولا أنها جاءت به مصلحة الإنجليز ما جاء! وكذب هؤلاء الزاعمون ولؤموا…

كذبوا والله…أو فليخبروني:أجاهدت أمة على ضعفها وقلة عددها،وعلى كثرة عدوّها وقوته مثلما جاهدنا؟

قد ابتلينا بفرنسا ذات الطيش والحمق والملايين والعدد والآفات.فسلوا الفرنسيين:هل أرحناهم يوماً واحداً من ميسلون إلى يوم الجلاء؟أما ثرنا على فرنسا وكسرنا جيوشها في خمس مواقع؟سلوا الجنرال ميشو القائد الذي حارب الألمان عند المارن:أما أباد حملته مجاهدون منا،لم يتعلموا في مدرسة حربية ولا درسوا فنون القتال،وغنمنا عتادها كله فلم يعد من الحملة بعد معركة المزرعة إلا مائتان وخمسون جندياً فقط!

سلوا الغوطة عن معارك الزور وعما صنع حسن الخراط؟سلوا النَبك وجبالها،وحماة وسهولها،وجنرالات الفرنسيين عن بطولة قوادنا الأبطال،فوزي القاوقجي،وسعيد العاص،وعشرات وعشرات إن لم أعدّهم اليوم،فما يجهلهم أحد!

أما ضرب الفرنسيون دمشق أقدم مدن الأرض العامرة بالقنابل مرتين،في عشرين سنة؟

أما أحرقوا حي الميدان وهو ثلث دمشق ودمروه فلم ينهض من كبوته إلى اليوم؟أما أضرموا النار في جرمانا والمليحة وزبدين وداريا ودير بحدل والهيجانية والغزلانية وتل مسكن ودير سلمان وقرى أخرى لا يحصيها من كثرتها العد؟

بل سلوا شوارع دمشق ودروبها وساحاتها،عن إضراباتها ومعاركها ومظاهراتها؟أما لبثت في مطلع سنة 1936م خمسين يوماً مضربة لا تجد فيها حانوتاً واحداً مفتوحاً،مقفرة أسواقها كأنها موسكو حين دخلها نابوليون،فتعطلت تجارة التاجر،وصناعة الصانع،وعاش هذا الشعب على الخبز القفار،وطوى ليله من لم يجد الخبز،ثم لم يرتفع صوت واحد بشكوى،ولم يفكر رجل أو امرأة أو طفل بتذمر أو ضجر،بل كانوا جميعاً من العالم إلى الجاهل،ومن الكبير إلى الصغير،راضين مبتهجين،يمشون ورؤوسهم مرفوعة،وجباههم عالية،ولم نسمع أن “دكاناً” من هذه الدكاكين قد مسّ أو قد تعدّى عليه أحد،ولم يسمع أن لصاً قد مدّ يده خلال هذه الأيام إلى مال،وقد كانت الأسواق كلها مطفأة الأنوار ليس عليها حارس ولا خفير،فهل قرأ أحد أو سمع أن بلداً في أوروبة أو أمريكة أو المريخ يسير في اللصوص جياعاً ولا يمدون أيديهم إلى المال المعروض حرمة لأيام الجهاد الوطني؟ولقد بقي الأولاد في المعسكر العام في المسجد الأموي أياماً طوالاً يرقبون وينظرون،فإذا فتح تاجر محله ذهبوا فأغلقوه.. ففتح(حلواني) مشهور،فذهب بعض الأولاد فحملوا بضاعته،صدور (البقلاوة والنمورة والكنافة)إلى المسجد،وتشاوروا بينهم ماذا يفعلون بها؟فقال قائل منهم:نأكلها عقاباً له!اخرس ويلك،هل نحن لصوص؟ ثم أرجعوها إليه بعد دقائق وما فيهم إلا جائع!!

فهل قرأتم أو سمعتم أن صبيان باريز ولندن ونيويورك فعلوا مثله؟

وقد عمد الفرنسيون آخر أيام الإضراب إلى فتح المخازن قسراً،فكان أصحابها يدعونها مفتوحة ولا يقتربون منها،وفيها أموالهم التي تعدل أرواحهم.

و(التبرعات)؟ألم يكن الناس يعطونها من غير أن يطلبها منهم أحد؟ألم يكونوا يتسابقون إلى دفعها؟ ألم يرفض كثير من الناس أخذ(الإعانات) ويقولوا:أعطوها غيرنا ممن هم أحوج إليها منا،نحن نجد طعاماً هذا النهار!

لقد وقع هذا وشاهدته أنا مراراً،فأيّ وطنية أعظم من هذه الوطنية؟وأيّ اتحاد أوثق من  هذا الاتحاد الذي تصبح فيه المدينة كلها أسرة واحدة؟

والبطولة والجهاد؟ألم يفعل الشاميون الأفاعيل؟ألم يهجموا على النار والحديد،ويقاوموا بالحجارة أروع وأبشع ما وصلت إليه حضارة الغرب من ضروب التقتيل والإهلاك والتدمير؟ألم يفتح الأطفال صدورهم للرصاص؟ألم يصمد الفتية العزل للجيش اللجب لا يزولون حتى يزول عن مكانه هذا الجبل،ثم يصدمونه صدمة الندّ للندّ،ثم لا ينجلي الغبار إلا عن حق يظفر أو شهيد يقتل،أو جريح يؤسر؟ألم تلبث دمشق مدة الانتداب وهي في حرب ساحتها شوارعها ويادينها،لا تكاد تختفي منها الخنادق والأسلاك والرشاشات والدبابات حتى تعود فتظهر مرة أخرى،ولا تهدأ النار في ركن من أركانها حتى يندلع لسان النار في ركن آخر،ودمشق ثابتة على جهادها؟

ألم يشيّع الأمهات أبناءهن إلى المقبرة ضاحكات هاتفات؟ألم يجاهد الطفل الصغير والمرأة العجوز،والشيخ الفاني؟ألم تمتلىء السجون بالأبرياء،ألم تضق المقابر بالشهداء؟

فهل تكلم تاريخ هؤلاء الفرنسيين في آدانهم؟هل عرفوا لهذا الشعب حقاً،هل قدروا له تضحيته،هل رفعوا قبعاتهم عن رؤوسهم حينما كانت تجوز بهم مواكب شهدائه؟هل خشعت قلوبهم حينما رأوا مسيل دمائه؟لا…إنهم نسوا تلك الدعوى الكاذبة،دعواهم أن أجدادهم هم الذين أعلنوا حقوق الإنسان،وأنهم غسلوا بدمائهم صفحة الإستعباد والإستبداد،ونسوا ما كتبه روسو وفولتير ومنتسكيو،وما قاله ميرابو وسيّيس ولا فاييت،وما كان يكذب به الفرنسيون (أيام ثورتهم تلك)على الشعوب،إذ يعلنون أنهم نصراء المظلومين!

إني ما خططت هذه الكلمات لأؤرخ فيها جهاد الشّام،فأنها تؤلف فيه الأسفار الضخام،ويخلد حديثه على طول المدى،وما ذكرت نبأ إضراب الخمسين،لأتقصى أخباره،وأجمع حوادثه،وإنما أردت أن أردّ كذبة ما زلنا نسمعها حتى من الأصدقاء…

وما عظمة جهادنا في هذا الإضراب الشامل وحده،ولا في المظاهرات الدامية،ولا في القتال والنضال،بل العظمة في هذه التربية الوطنية العجيبة التي أثبتت الشعب العربي في الشام أنه بلغ فيها غاية الغايات،فكان في اتحاده واجتماعه على الفكرة الواحدة وتحمله الجوع والألم في سبيلها،وإقدامه على الموت من أجلها،مثلاً للشعوب القوية الحرة.

وما ظنك بشعب فقير يدع في التاجر مخزنه،والعامل مصنعه ،والطالب مدرسته،ثم يؤلفون جميعاً صفاً واحداً،فينتزع حقه من أفواه البنادق،ومنافذ الدبابات ويسجل جهاده على ثرى وطنه بمداد دمه؟

وما ظنك بشعب تودع فيه المرأة ولدها،ثم تدفعه إلى الشوارع ليجاهد ويناضل،ثم ينعى إليها،ثم يحمل إلى دارها ميتاً،فتغسله بيدها،وتخرج في جنازته تهتف وتزغرد،ودموعها تسيل على خدّيها،وتدع المرأة أولادها بلا عشاء لتدفع المال للفقراء من أبناء الوطن.

أيقال لهذا الشعب إن استرد حريته،وجلا عن أرضه عدوه:لقد جاءك الجلاء عفواً وبلا تعب؟

كلا.إنها ما جاهدت أمّة مثل جهادنا،ولا حملت مثل ما حملنا.إنا قد رأينا الموت،وألِفنا الفقر،واعتدنا الجوع،وأصبحت مدينتنا بلاقع،وأهلها مفجوعين،ونساؤها ثاكلات،أفيكثر علينا أن ننعم بالجلاء؟وهل أخذناه بعد ذلك منحة من الإنكليز؟

كلا ثم كلا،إنا أخذنا حقنا بعون الله ثم بعزائمنا،ولووالله عاد فأستلبه منا أهل الأرض مجتمعين لقارعناهم عليه ونازلناهم حتى نستعيده كاملاً أو نموت دونه.وليس في الدنيا أقوى ممن يريد الموت،لأن الذي يريد الموت لا تخيفه وسائله ولا آلاته!

أستفغر الله! اللهم إنا نبرأ إليك من أن نعتمد على أنفسنا،فإنه لا حول ولا قوة إلا بك،اللهم لك الحمد وبك التوفيق،ولا اعتماد إلا عليك.

اللهم لك الحمد على أن أحييتنا حتى رأينا هذا اليوم العظيم،وشهدنا جيشنا يعرضه زعيمنا تحت علمنا…فإن هذه الفرحة تغطي على تلك الآلام…

فلا تلوموا دمشق إن مشت كلها من قبل مطلع شمس يوم الجلاء لتشهد هذا العرض.إنه عرض مبارك،التقى فيه أول مرة الأخوان الذين كانوا يتعارفون على السماع لا عرف الأخ منهم أخاه،فمشى فيه الجندي المصري إلى جانب العراقي،والنجدي إلى جنب اللبناني،والأردني مع اليماني،مشوا جميعاً في طريق واحدة على قدم واحدة إلى غاية واحدة.

اسمعوا،فهذه هي المدافع ترعد وتدوي وتزلزل الجوّ رجّة واهتزازاً.

انظروا فهذه هي الطائرات تحوّم وتحمحم،وتعلو وتنحط،وتجىء وتذهب،ولكن لا تفزعوا،فإنها لن تؤذيكم ،إنها ليست مدافع الفرنسيين التي تُدمر،ولا هي طائراتهم التي تصبّ الحمم!لقد ذهب الفرنسيون ولن يعودوا.إنها مدافعنا نحن،لقد صارت لنا يا قوم مدافع…إنها طياراتنا لقد صار للعرب طيارات،إنها أول مرة نسمع فيها المدافع تنطق بإرادتنا وأيدينا،ونرى الطيارات تعلونا فلا ترمينا بالقنابل التي فيها الموت بل بالقراطيس التي فيها السكر،تسقط في مظلات صغيرة هدية من مصر ومن العراق،وبشرى بأن أيامنا الآتية ستكون حلوة كالسكر.

فيا أيها الإخوان المصريون والعراقيون:شكراً شكراَ.ويا إخواننا جميعاً لكم الشكر.

أنتم أفضتم على هذا العيد بهاءه.أنتم ألبستموه رونقه.أنتم جعلتموه أعظم وأجلّ،حين جعلتموه(يوم العروبة) كلها،لا يوم سورية وحدها،وبكم بعد الله قوينا على حمل أثقال الجهاد،وأعباء الظلم،حتى منّ الله علينا فظفرنا،وعليكم أنتم ستقف عزائمنا وأموالنا وسواعدنا،وفيكم سنبذل مهجنا وأرواحنا،حتى يمنّ الله على أقطار العربية كلها بالحرية كما منّ بها علينا،بالحرية النقية التي لا تعكرها حماية ولا وصاية ولا انتداب،إننا لن نلقي السلاح وفي الدنيا بلد إسلامي يحتله أجنبي!

وأنت يا علمنا…اخفق مطمئناً،فقد عدت إلى مكانك،ولن تنزل منه أبداً،لن يغلبك عليه  علم غاصب آخر ولو ظاهرته عفاريت الجن ومردة الشياطين وجاء معه بعشرة قنابل ذرية،لن يأخذه منك أبداً ونحن أحياء،إلا علم(الوحدة العربية) أولا ثم علم(الخلافة الإسلامية) ثانياً إذ يبقى فيه عالياً خفاقاً إلى يوم القيامة”.

ويقول الأستاذ أحمد حسن الزيات رحمه الله في مقال له بعنوان:”يوم عظيم لسورية العظيمة(الرسالة العدد 668 بتاريخ 22 نيسان عام 1946م:

“وأيّ يوم أعظم من يوم الجلاء:جلاء المحتل عن أراضي الوطن،وجلاء الذلّ عن نفوس الناس؟

ولكل أمّة جعل الله من نوره هذا اليوم،يُشرق في أمسها إشراق العيد،أو يمض في غدها وميض الأمل.وهو أجل من آجال الله إذا جاء لايؤخر!إنما يسبقه ليل طويل بالألم،مُظلم باليأس ،مُرعد بالهول،مطلول بالدم،هواديه خطوب وأعجازه ضحايا!

ولقد كان ليل سورية الباسلة من أطول هذه الليالي وأهولها!كابدت في أوائله مشانق جمال،وفي أنصافه مدافع غورو،وفي أواخره قواذف أليفا روجيه!

ثم خفقت أشباح الشهداء بيضاً على حواشيه،ولمعت بروق الآمال تباعاً بين غواشيه،فانصدع الظلام المكفهر،واستبان الطريق المبهم،واستطاع المجاهدون أن يسمعوا على مآذن”الأمويّ”:حيَّ على الفلاح،وأن يبصروا تباشير الفوز على غرّة الصباح!

وفي الصباح المسفر حمدت سورية الحبيبة سراها الطويل المرهق،فضمدت جروحها الدامية،وكمدت جفونها القريحة،ثم ذهبت إلى “المزة” فركلت آخر جندي من جنود الإستعمار ورفعت فوق مطارها العلم،ورجعت إلى “الغوطة”فحملت ورودها الجنيّة إلى قبور الشهداء وعزفت أمامها النشيد.ثم خرجت في زينتها وبهجتها تستقبل وفود الدول العربية التي جاءت تشاركها السرور في يوم حريتها المشهود وعيد استقلالها المشترك.ثم أطلقت لنفسه المحتشمة عنان الفرح والمرح،فصدحت شوارعها بالأهازيج،وهتفت منازلها بالأغاني،ودوت مساجدها بالأدعية،وفاض النور والحبور على دمشق وأخواتها،فجلون عن أنفسهن في يوم واحد ما ركمته المحن والأحداث في قرون!

حيّاك الله يا سورية!

لولا ليلك الطويل الحالك ما أسفر هذا النهار الضاحك!

ولولا جهادك الصادق الصابر طيلة ربع قرن ما أتمّ الله عليك هذا النصر المؤزر!

ولولا دماؤك المسفوحة على ثرى وطنك الغالي ما جنيت هذه الثمرة التي تتحلّب لها الأفواه في أكثر الدول!

ولكنك يا سورية خرجت من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر!خرجت من جهاد الطمع والعدوان في غيرك،إلى جهاد الهوى والأثرة في نفسك! والانتصار على العدو الخارجي سهل كالانتصار على الداء الظاهر،ولكن الإنتصار على العدو الداخلي صعب كالإنتصار على الداء المضمر.والمجاهدون في سبيل الوطن لا يبتغون عاجل الثواب،فإذا سوّل لهم الشيطان أن يبتغوه وكلّهم الله لأنفسهم فيخسرون ما ربحوا،ويفسدون ما أصلحوا،ويسبلهم الله مجد الجهاد فلا ينالون سعادة هُنا ولا شهادة هناك!

ما أزهى نفوسنا بجلاء المحتل عنك يا سورية!وما أبهج قلوبنا بكشف الضرّ عنك يا دمشق!فهل آن لأكدار النيل أن تصفو يا بردى،ولعار”التل الكبير” أن يغسل يا ميسلون؟!”.

ويقول الأستاذ أحمد حسن الزيات رحمه الله في مقال آخر(الرسالة العدد 764 بتاريخ 3 حزيران عام 1946م:

“وهل نسيت يوم الجلاء في سورية؟

وكيف تنساه أذن الحي ولا تزال أناشيده وزغاريده تدوي في سمع الزمان؟جلت جنود الاستعمار عن أرض سورية العزيزة،فاهتزّ العالم العربي اهتزاز الغبطة،واعتزّ اعتزاز النصر،وشعر كل فرد من أفراده،في مختلف بلاده،أن فريقاً من أهله تحرر من القيد،وأن جزءاً من وطنه تطهر من المغير،وأقبلت وفود الدول العربية تشارك دمشق في الإحتفال بإقامة العرش الأمويّ بعد أن خرّت قوائمه وابتذل حماه،وقال العراق لمصر: ذلك يا أختاه هو الجلاء الذي يكشف الضرّ،والإستقلال الذي يرضي الحر،فمتى يكون لنا ولسائر أقطار العروبة مصير كهذا المصير ،يوم كهذا اليوم؟”.

ومن القصائد الجميلة في يوم الجلاء عن سورية:

يقول الشاعر شفيق جبري:

حلم على جنبات الشام أم عيد               لا الهمُّ همٌ ولا التسهيدُ تسهيدُ

أتكذبُ العين والرايات خافقة              أم تكذب الأذن والدنيا زغاريدُ

ملء العيون دموع من هناءتها           فالدمع درّ على الخدين منضودُ

لو جاء داود والنعمى تضاحكنا           لهنأ الشام في المزمار داودُ

على النواقيس أنغام مسبحة              وفي المآذن تسبيح وتحميدُ

لو ينشد الدهر في أفراحنا                ملأت جوانب الدهر في البشرى الأناشيدُ

وقال الشاعر عمر أبو ريشة:

يا عروس المجد تيهي واسحبي        في مغانينا ذيول الشهبِ

لن ترى حبة رمل فوقها               لم تعطر بدما حرّ أبي

درج البغي عليها حقبة               وهوى دون بلوغ الأربِ

وارتمى كبر الليالي دونها           ليّن الناب،كليل المخلبِ

لا يموت الحق مهما لطمت        عارضيه،قبضة المغتصبِ

وقال الشاهر بدوي الجبل:

انتزعنا الملك من غاصبه          وكتبنا بالدم الغمر الجلاء

وسقانا كأسه مترعة               وسقينا وفي الكأس امتلاء

واقتحمنا حديداً ولظى              وجزيناه اعتداء باعتداء

سكرت مما ارتوت من دمه      غصص حرّى وثارات ظماء

كلما جندل منا بطل                زغردت في زحمة الهول النساء

وقال الشاعر سليم الزركلي:

أوفود يعرب والديار دياركم            والعيد في أوطاننا عيدان

عيد بأفراح الجلاء وصنوه             بتناصر الإخوان والأخدان

أبت العروبة أن تنام على الأذى       أو تنطوي في اليأس والخذلان

وإذا العزائم شمرت عن ساقها        ومشت على الأحقاد والأضغان

ملكت زمام المجد من شطآنه          وتربعت في الملك والسلطان

وقال الشاعر بدر الدين الحامد:

يوم الجلاء هو الدنيا وزهوتها         لنا ابتهاج وللباغين إرغامُ

يا راقداً في روابي ميسلون أفق       جلت فرنسا فما في الدار هضّام

لقد ثأرنا وألقينا السواد وإن           مرت على الليث أيام وأعوام

غورو يجىء صلاح الدين منتقماً        مهلاً فدنياك أقدار وأيام

هذي الديار قبور الفاتحين فلا         يغررك ما فتكوا فيها وما ضاموا

مهد الكرامة عين الله تكلؤها       كم في ثراها انطوى ناس وأقوام

تجر ذيل التعالي في مرابعها       المجد طوع لنا والدهر خدّام

وفي 29 آذار عام 1949م فوجىء السوريون بأنباء الانقلاب الذي قام به رئيس الأركان حسني الزعيم واعتقل على إثره القوتلي ووزارؤه  في السجن،وانهالت برقيات الاحتجاج على اعتقال القوتلي من كل مكان،ولكن القوتلي قرر أن يستقيل فأطلق سراحه بعد شهر من سجنه،وفرضت عليه إقامة جبرية في بيته،حتى سافر إلى مصر.

وخلال سنوات المنفى التي قضاها شكري القوتلي في مصر،تعاقب على الحكم في سورية أربعة عهود عسكرية:

عهد الزعيم حسني الزعيم(آذار ـ آب عام 1949)،واللواء سامي الحناوي(آب ـ كانون الاول عام 1949)،والزعيم فوزي سلو(1951 ـ 1953) وأخيراً العقيد أديب الشيشكلي(1953 ـ 1954).

وبعد سقوط الأخير بإنقلاب عسكري في شباط 1954 أعيد العمل بالدستور وعاد الرئيس هاشم الأتاسي إلى السلطة التي كان قد غادرها طوعياً بعد انقلاب الشيشكلي سنة 1951.

وارتفعت الأصوات في سورية تطالب بعودة القوتلي وذهب إليه وفد كبير ضم عدداً من الشخصيات السياسية في سورية يرجونه العودة إلى وطنه.

وعاد القوتلي إلى سورية في يوم 7آب عام 1954،وطلب منه أن يرشح نفسه لرئاسة الجمهورية بعد انتهاء ولاية هاشم الأتاسي.وفاز شكري القوتلي  بالانتخابات وفي يوم 5 إيلول عام 1955 ألقى شكري القوتلي القسم الرئاسي للمرة الثانية في حياته،وبدأ العمل في ولايته الدستورية الثانية والأخيرة.

وفي شباط 1958 تم توقيع ميثاق الوحدة بين سورية ومصر مابين الزعيمين شكري القوتلي وجمال عبد الناصر،بعد أخذ موافقة مجلس النواب،وتنازل القوتلي طوعياً عن رئاسة الجمهورية العربية المتحدة لصالح عبد الناصر،الذي كرمه بلقب”المواطن العربي الأول” وقال عنه إنه الوجه العربي المشرق لسورية.

إن حلم الوحدة العربية وخاصة بين مصر وسورية كان يراود أحلام العرب منذ القديم والحديث،وكلما التقى القطران كانت تتحقق الانتصارات كما حصل في معركة عين جالوت ضد التتار،وكما حصل في معركة حطين ضد الصليبيين.

يقول الأستاذ أحمد حسن الزيات رحمه الله في مقال له بعنوان”سيفا العروبة يلتقيان” نشره في الرسالة العدد 1016 بتاريخ 22 كانون الأول عام 1952 بعد التقاء أديب الشيشكلي واللواء محمد نجيب في القاهرة:

“في الأسبوع الماضي،وفي حاضرة النيل،التقى سيفا العروبة نجيب وأديب،فالتقى طريق بطريق،واجتمع شقيق بشقيق،واتصلت نهضة بنهضة.

ولعمري ما افترقت القاهرة عن دمشق منذ جمعتها العروبة،ولا بعد النيل عن بردى منذ قربها الإسلام،ولا انقطع المصري عن السوري منذ وصلها الجوار.فالشعبان بحكم الطبيعة والواقع شعب واحد،مزجتها المجاورة والمصاهرة،وخلطتها المتاجرة والمهاجرة،حتى اتحدت النية والوجهة والغاية والأمل،فزالت الحدود،وارتفعت الحواجز،واتصلت الأسباب،ووشجت القرابة،فلم يتدابر إلا حاكم وحاكم،ولم يتناكر إلا دخيل ودخيل.ثم أجرتهما الأقدار في عنان واحد،فكابدا من فسوق الرؤساء وفجور الزعماء ما أقنطهما من صلاح الأمر واستقامة الحال،فرضيا بالدون واستسلما للهوان،وكاد العدو المشترك الذي يترصد الغفلة ويتسقط العثرة، يظن أن ملك العرب إلى انهيار،وأن ملك اليهود إلى استقرار،لولا أن الله الذي وعد المؤمنين العاملين أن يستخلفهم في الأرض،وأن يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم،وأن يبدلهم من بعد خوفهم أمنا،قد ادخر لكل متاهة هاديا،ولكل مفسدة مصلحا،فجعل ولاية الأمر في هذا الوقت الذي انهار فيه البناء،واستشرت الأدواء،وتحللت العقد،لأصحاب السيف،وهم قوم مختارون صناعتهم الدفاع،ووسيلتهم القوة،وطبيعتهم النظام،وخلقهم الطاعة،ومبدأهم التضحية”.

وقد انفجر الخلاف مابينهما(أي عبد الناصر والقوتلي)  بعد إصدار عبد الناصر قرارات التأميم في تموز عام 1961 التي اعترض عليها القوتلي بشدة قائلاً:”أخاف على الوحدة التي صنعناها معاً يا أبا خالد،أخاف عليها من هذه القرارات الإرتجالية وغير المدروسة“.ولكن عبد الناصر رفض مشورته.

وفي يوم 28 إيلول عام 1961 تمّ الانفصال،وطلب ضباط الإنفصال بقيادة المقدم عبد الكريم النحلاوي من الرئيس القوتلي العودة للبلاد(وكان في سويسرا للعلاج) واستلام الحكم،ولكنه رفض ذلك،وأعلن اعتزاله الشأن العام.

ولعل الرئيس الراحل والمواطن العربي الأول شكري القوتلي أفضل من بين سبب فشل الوحدة العربية بين مصر وسورية.

وأصدر الرئيس شكري القوتلي رحمه الله بياناً إلى الشعب بعد الانفصال بتاريخ 23 تشرين الأول عام 1961م جاء فيه:

أيها المواطنون الأعزاء،

لو اختارني الله شهيداً  في المعارك التي خضتها إلى جانبكم،منذ خمسين عاماً وأكثر،لأكرم الله شهادتي بجواره،ولكان يوم شهادتي أفضل أيام عمري.أما وقد كتب الله لي أن أرافق طويلاً تاريخ وقائعكم وجهادكم لأذوق من الحياة معكم مرّها وحلوها،وأجلس معكم مجالس هوانها ومجدها،فإنني أقلب اليوم صفحات هذا التاريخ الحافل وأشعر من الأعماق أنه من حقكم عليّ،ومن حقّ الله وهذا التاريخ،أن أقول لكم بأنه ليس في عمري كله أفضل وآثر من يومين اثنين:يوم رفعت باسمكم راية الجلاء وعلم الاستقلال في السابع عشر من نيسان عام 1946م،ويوم أعلنت باسمكم في مجلس النواب السوري في الخامس من شباط عام 1958م وحدة الجزءين العربيين سورية ومصر.

وعندما أخذت من أكفكم مجتمعة مفتاح الاستقلال لأضعه أمام باب الوحدة العربية، كنت على يقين يشبه طمأنينة العبادة بأن الله العلي القدير الذي بيده مفتاح كل مصير،قد أذن لي بأن أختم حياتي السياسية أشرف ختام،لا سيما وقد أغدقتم عليّ من مجد التحايا كمواطن عربي سلم الأمانة بمثل ما أغدقتم على المواطن العربي الذي أحطتموه بقلوبكم وأصدق آمالكم حينما وضعتم على كتفيه أعباء الأمانة.

بل كنت أشعر أنكم تودعون رئيسكم وعهدكم الذي أنهيتموه بأطيب ما تستقبلون رئيسكم وعهدكم الذي تقبلون عليه،يقيناً منكم أن من يقرأ الماضي قد يكفيه أن ينظر بعين واحدة،أما من يقرأ في غيب المستقبل إنما يجب أن يقرأ بألف عين،وأن المرحلة الجديدة التي تواجهونها لهي أمر عظيم وحدث جلل.

ويشهد الله أنكم كنتم في الأمر الذي عزمتم عليه صادقين كل الصدق،واثقين كل الثقة بأنكم إنما وضعتم مصيركم في الضفة العليا من الطموح القومي المثالي،طموح الشهداء والمجاهدين الأبرار الأخيار من أخوتكم بعد آبائكم وأجدادكم،الذين لم يبخلوا على مثالياتكم بتضحية مصالحهم وأموالهم وما يملكون،بل قد سفحوا تحت قدم المثالية العربية أطهر الأرواح وأزكى الدماء.يشهد الله أنكم أقبلتم على قيادتكم العربية،في ظل الوحدة،بكل شعور مطمئن ونفس راضية،مهما عرف عنكم من تبصر وحذر إزاء الحكم والحكام،ومهما عرفتم به من حذر وتشكك نحو ما يبذل بين أيديكم من عهود ووعود.وإن يكن الوطن في واقعه اليومي الذي لا مفر منه،ولا سبيل إلى الإشاحة عنه،مجموعة مصالح ومجتمع أفراد،فقد كنتم يوم الوحدة،كما كنتم في أيام مشهودة من تاريخ جهادكم،ترتفعون فوق مستوى الاعتبارات المصلحية لأن عاطفتكم القومية كانت دائماً نداء واستجابة للنداء،وعطاء واستعداداً للعطاء.

في هذا الخطاب الذي أوجهه اليوم إليكم،أيها الأعزاء،لأشهد الله على ما أعرف وأقول،فإنني أشهده تعالى،وهو العليم الشهيد،على أنكم باختياركم الوحدة المطلقة ونظام الحكم الرئاسي،إنما كنتم تقدرون بكل تأكيد،وتتوقعون بلا شبهات،إنكم بهيئاتكم وأفرادكم،ستشتركون اشتراكاً عملياً في بناء الوحدة وتنظيم كيانها،وتحمل التبعات في تقرير مستقبلها وتوسيع آفاقها،وتشميل دعوتها واجتذاب قلوب العرب إليها بأي شكل من أشكال الوحدة والاتحاد،لأن الوحدة لا تعني عملية ضم،والنظام الرئاسي لا يعني انعزال الراعي عن الرعية.وإنكم وأنتم طلائع دعوة الوحدة في أرض العرب،لا تنقصكم مزايا الشعب الواعي ومآثر المواطنين المجربين في ساحة المعركة،ولا تعوزكم فضائل الذكاء المنظم والعقل المستنير والإيمان القويم.

أقول،كنتم تطمحون عن حق إلى المشاركة في بناء الوحدة وتوطيد دعامتها وتنظيم واقعها،خروجاً بها من حيز العواطف إلى حدود العقل،ومن تجريد الأمل إلى واقع الحياة العملية،لأن أعز ما في الدنيا على الإنسان أن يضع بيده تصوراته،ويصوغ من المادة الملموسة أحلامه.ولقد كانت الوحدة،يوم أذنتم لي أن أعلنها باسمكم،ذروة الحلم الجميل والأماني العذاب،فما أجمل وما أعذب أن تعمل أيديكم في تطهيرها وهندسة شكلها وتخطيط وضعها،وما أعظمها وحدة تمت بالمشاركة الروحية واستقرت بالمشاركة العملية.وإنني لعلى يقين عظيم بأنكم كنتم وستبقون أبداً في حركة البناء العربي الجبار،مهندسي بناء،لا مخربين،وقادحي فكرة،لا مصطلين.

أيها المواطنون،أخواني وأبنائي،

بعد غياب يزيد عن الشهرين،سمعت من البعيد بأبناء وثبتكم وانتفاضة جيشكم الأمين.وعندما عدت إليكم،وجدت نفسي أمام أسئلة وأسئلة تبادرني من حركاتكم وسكناتكم،ومن قلوبكم وألسنتكم.وكان عليّ أن أرد على أسئلتكم وما يجول في خواطركم.

بجملة صغيرة أجيب على كل ما تتساءلون عنه وتطيلون التساؤل:إنني معكم وإلى جانبكم.إنني أقف معكم لا لأنني أنصركم ظالمين أو مظلومين،فحاشا أن أنحاز إلى الباطل أو أتنكب طريق الصواب.بل إنني معكم وإلى جانبكم لأنني أعرفكم معرفة لصيقة،وسير على الطريق الطويل،وأعرف إنه لا يمكن،مهما بلغت بكم عظائم الأمور،أن تجتمعوا على باطل وتجمعوا على ضلال.بهذه الكلمات أفتتح الجواب على أسئلتكم،وبكلمات قليلة أختتمه لأقول لكم إن خيبة أملي لكبيرة،وذهني يطوف حائراً في معالم التاريخ القريب،يتحرى معكم إيضاحاً وبيانا.

لماذا استحالت الوحدة إلى سراب؟لماذا وثب عليها من كان سبّاقاً في الوثوب إليها؟لماذا أصبحت الوحدة،في واقعها العملي شكلاً لم يكن مألوفاً في عالم الشوق العظيم والأمنيات الرائعة؟هل ضخمتها تصوراتنا،فضلّت بنا التصورات؟

أم أن العاطفة المثالية التي كانت بكل عنفوانها وراء الوحدة قد وضعت وضعاً مهيناً في الإطار التجريبي الذي أحاط بواقع الوحدة؟

إنني أستطيع أن أقول باسمكم،أيها المواطنون،إنكم لم تفقدوا أبداً حماستكم المؤمنة بوحدة العرب على أبعد مدى وأوسع نطاق.إنما الذي فقدتموه وافتقدتموه هو الاسلوب الصحيح في تجنيد النفوس المؤمنة والأيدي العاملة في ساحة النضال والعمل العربي الموحد.

إننا لا نؤمن بالعزلة في ساحة النضال،والمرحلة أمامنا طويلة،والعدو متربص بنا،متسقط مواضع الضعف في جبهتنا.وإننا لنؤمن اليوم أكثر من أي يوم مضى بوحدة المصير في وحدة النضال.

إننا في ساحة النضال القومي نبتغي جنوداً من كل فئة وطبقة وجماعة،ومن كل حقل من حقول النشاط والإنتاج.ولكن السياسة التي كانت ترسم مناهج الحشد القومي في معسكر النضال،كانت تحشر في صفوف الخيانة والرجعية والتعامل مع الأجنبي والتواطؤ مع الاستعمار،مجموعاً كبيراً من المواطنين،الذين لا يمكن أبداً أن يحشروا في زمرة الخونة والعملاء لمجرد انتسابهم إلى فئة من الناس أو طبقة من طبقات المجتمع.كذلك فإن اليد التي كانت تخطط للتعاون القومي لإشراك كل فرد وكل فعالية في أداء شرف الواجب،كانت تثيرها حرباً قاسية بين طبقات المجتمع الواحد،لتشل بالفعل حركة التعاون،وتحول دون انصباب الفعاليات جميعها في ميدان العمل القومي.ولولا وعي الشعب والألفة الاجتماعية القائمة بين أفراده وجماعاته،لسادت روح الكراهية من وراء هذه السياسة المتعسفة.كما أمعن الحكام في بلبلة الأفكار وتمييع العواطف،إلى جانب ما مارسوه من أسباب الضغط والكبت والإرهاب،حتى ساد الذعر وعمّ التذمر،وبات المواطنون لا يأمنون على حياتهم بعد أرزاقهم،مهما كانت الطبقة التي ينتسبون لها والجماعة التي ينتمون إليها.ولقد كنت أنبه وأحذر من مغبة هذه السياسة العقيمة التي تصدر عن الهيئات والفئات والطبقات أحكاماً جماعية وتهماً غيبية.وأوضحت في مناسبات كثيرة أننا في هذه البلاد لا نستطيع أن نضع الخيانة والولاء على أساس من تكوين المجتمع القائم،ولا نستطيع أن نبخس المساهمين في الحركات الوطنية خلال أربعين عاماً خدماتهم الجليلة وأيديهم البيضاء على استقلال هذا الوطن العربي وكرامته.وإنه لباستطاعة أي نظام أن يفرض على المواطنين ما شاء من الأحكام ليشرك في أموالهم مواطنيهم إشراكاً عادلاً تقتضيه مبادىء العدالة الاجتماعية وتقدير نصيب العمل.ولكن ليس باستطاعة النظام أن يسلب هؤلاء المواطنين من شرف المواطن السوري،وكرامة الإنسان الحر.

بل لا ندري لماذا يعمد الحاكم المسؤول إلى اخراج هؤلاء المواطنين من الاعتبار القومي،وقطع صلاتهم الروحية بالوطن الذي أحبوه وأسهموا في حركة بنيانه،ثم يقول إنه في سبيله إلى اتحاد قومي.

أيها الأخوة الأعزاء،

أمام هذه النماذج من أساليب التفكير والتدبير،وما نشأ عنها من عواقب وحوادث صغيرة وكبيرة،كانت تنتشر أصداؤها كلها في محيطنا الصغير انتشار القصف الشديد،أتساءل اليوم عن سر تعب الوجدان القومي في صلاته مع نظام الوحدة.وأكاد أجد وراء كل شكوى صغيرة أو كبيرة،وكلتذمر كان يفاقم أمره في العام الأخير،أثراً واضحاً لمطلب الشعب في قضايا أساسية هي بالواقع فوق المطالب الاقتصادية المادية أو السياسية،ألا وهي كرامة المواطن،وحريته في الدفاع عن حقه،وصيانة شعوره بأنه فرد ذو كيان وحرمة،وأنه مهما كان صغيراً فإنه لجدير بأن يشارك في أي عمل كبير،ومهما يكن من فروض العدالة الاجتماعية أن يذوب هذا الفرد في المجتمع،فهو إنما يذوب فيه ليعطيه من روحه وجهده ودمه،لا ليذهب فيه هباء وهدرا.

قلنا أيها المواطنون،منذ الأيام الأولى للوحدة،إننا لا نستورد المبادىء ولا نستعيرُ العقائد،ولا نخضع لصانعي المذاهب من شرق أو غرب،يحاولون إغواءنا عن مبادئنا وعقائدنا مما أتى به ديننا السمح وتراثنا الغني وتقاليدنا الحكيمة،ولكننا لم نكن نريد لنظام الحكم أن يفرض تجاربه بالقسر على جمهوره،ولم نكن نريد للحاكم بأساليب قاهرة أن يجرع الأنظمة للشعب تجريع عقاب وقصاص.

نحن نعلم أن عجلة الزمان لا يمكن أن تعود إلى الوراء،والشعوب التي لا تمضي مع مركب التطور تمشي عليها أقدام المتطورين،ونحن لا نستطيع كذلك أن نتنكب طريق الأمم الصاعدة في سلك الحضارة،وأن نطرح ما استحدث من أساليب التصنيع والتنظيم وإنماء الثروة القومية وتكوين مجتمع تسوده العدالة،إنما الذي لا بد أن نعنيه أيضاً ليبلغ الإصلاح أهدافه ونتجنب من السرعة أخطارها،أن روح العدالة الاجتماعية في أساليب التعايش والتعامل اقتصادياً واجتماعياًنليست في الواقع لدى كل الشعوب،مهما بلغت اشتراكيتها المتطرفة،سوى تسلسل منطقي في معركة تطوير وتدرج.والاشتراكية ليست في ممارستها العملية سوى السير في مناهج مرسومة عبر مراحل طويلة،لأن الخطوة الاقتصادية التي لا ترافقها حالة نفسية واجتماعية ملائمة،تنزلق انزلاقاً طبيعياً نحو هوامش الانحراف والضياع.وإن تشريعاً إصلاحياً يفرض بالقسر يمكن أن يخلق بدقائق وينفذ بساعات،لكن الوعي الاجتماعي الذي يحضن استمرار الإصلاح ويضمن نجاحه لا يمكن أن يخلق إلا بالتطور وبالحسنى التي يجب أن ترافق إنماء الوعي القومي وتفتيح الذات وتجميع الفعاليات.

وعندما نقول بالحسنى،التي هي أجمل كلمات التنزيل الحكيم،إنما نقول بالرفق والتبصر في العواقب،ومعالجة الأمور بالحكمة والتسامح،أي بنظام الحرية في اشتراكية سمحاء.

أيها المواطنون،أخواني وأبنائي،

طالما أشرتم إليّ من قريب ومن بعيد،فرادى ومجتمعين،في سركم وعلنكم،وحملتموني تبعات التاريخ وعواقب الأمور،ولطالما وقفت من المسؤولين عن مصير هذه الوحدة موقف المواطن الناصح الذي يخاطب المواطنين كما يخاطب المسؤولين،داعياً إلى الحكمة والصبر والروية.

طالما قلت لكم إننا نمر بتجربة فريدة،وإننا مسؤولون عن نجاحها،وإننا لن نفرط بالوحدة.في الوقت نفسه كنت أقول لمن بيدهم الأمر كله إن إعلان الوحدة شىء وممارستها شىء آخر،فبالعواطف قامتنوبالعقل والحكمة وبالحسنى تدوم.قد بنيت الوحدة على جبل راسخ من الثقةنوليس إلا بهذه الثقة الجماعية يستمر نموها ويصلب عودها.وكانت كل مسؤوليتي بعد أن تألف جهاز الوحدة السياسينأن أكون مواطناً مع المواطنين،أشعر بشعورهم ،وأفرح لفرحهم،وأتألم لألمهم،ولم أكن ضنيناً بكلمة حق أقولها،سواء أعبرت عن تفاؤل أو تشاؤم أو أيه جهة نظر.بل قد وقفت في بعض الأمور التي تمس كيان الوحدة،ووجدان الشعب من ورائها،موقف المحذر،لا موقف الناصح أو المخبر.وكنت أعلم في كل حال إن الأذن التي تصغي لي إنما هي أذن مجاملة لا أذن وعي،وإن اللسان الذي يخاطبني ليس لسان من يريد أن يعلم بأمر بل لسان من يقول بانه أعلم بكل أمر.ثم كنت أعود لنفسي لاتساءل:هل يمكن أن نكون أكثر حرصاً على الوحدة من المسؤول عنها،وهل بين يديه وحدة أمام الله والتاريخ وأجيال العرب؟ومن ذا الذي يجرؤ على التفريط بها وتبذير طاقاتها والاستهانة بالوجدان القومي الذي كان في أساس خلقها وتكوينها؟

إني لأنقل اليوم شعوركم أيها الأخوة،إذ أجيب بأن الذي فرط بالوحدة وأخلى بينها وبين الشعب هو جهاز الحكم برمته من الأعلى إلى الأدنى،جهاز الحكم الذي كان يخبط في أساس الوحدة على غير هدى وتبصر،جهاز الحكم الذي كانت له ألف عين وعين،لكنه لا يبصر بعين واحدة منها،جهاز الحكم تفكيراً وتدبيراً وتصميماً وتنفيذا.

هذا الجهاز الذي كان شديداً في موقف السماحة واللين،جباناً في موقف الحزم وقوة الإرادة،يتراخى عن محور الوحدة ليشد على محور النفوذ الرسمي والأنانية الشخصية،جهاز تألف للوحدة دون مستوى الوحدة خبرة وذكاء ووعياً وإيماناً،وتقرب إلى الشعب، ولكن بوصفه جلاد الشعب،جهاز الحكم الذي تألف كيانه البوليسي من قيادات ضمن قيادات،ولو طال بها الزمن لآل مصير الجمهورية كلها إلى مجموعة أقاليم يحكمها أفراد متنافرون.جهاز عجيب غريب،أنبت للجسم الواحد عدة رؤوس،وللرأس الواحد عدة ميول ونزوات وشهوات.جهاز الحكم تناوبته الزعازع،يتمرد بعضه على بعض،ويتربص يمينه بشماله،وتنفيذيه بمركزيه،حتى لتغدو صورة الحكم في الإقليم مثل صورة الحكم في آخر عهود الخلافات العربية.

ولقد كان في أساس هذه الأخطاء كلها قاعدة واحدة:تأمين الأقلية،وتخوين الأكثرية،وتسليط هيئات مصطنعة وأفراد على تنفيذ اشتراكية تعاونية لا يؤمنون بها ولا يعملون من أجلها ولا يفهمون أي مبدأ من مبادىء العدالة والتعاون.

وكان كل مدار الثقة بهم أنهم حاقدون يكرهون الناس،ويتطيرون من وجوه الخير.

وعندما أتحدث عن جهاز الحكم ومساوئه،مصغياً إلى أصوات الألوف من أبناء الشعب،وعلى الأخص في هذا البلد العربي،فإني أشير بوصف خاص إلى إغفال هذا الشعب إغفالاً عجيباً في تقرير أنظمته وعدم الالتفات إلى هيئاته ومنظماته ونقاباته في استطلاع رأي على الأقل،أو عرض وجهة نظر أو مناقشة موضوع.ولم يبق في ساحتكم كمنظمة تزعم الانتساب إلى الشعب سوى الاتحاد القومي،الذي سيطرت عليه القوة التنفيذية سيطرة غاشمة لم تترك له سوى بعض مطاهر الإرادة الشعبية،مثل شؤون بلدية كتنظيف زقاق وتنوير حي وتمديد أنابيب.ولطالما شكا النواب المعينون لمجلس الأمة من عدم جدوى وجودهم تحت قبة المجلس،لأن ليس لهم من وظائف التمثيل النيابي سوى إقرار المشاريع التي كتبها موظفو الدولة،والتصويت عليها برفع الأيدي الصامتة.فإن يكن من وراء كل هذا التحفظ والتزمت نفسية الخوف من الشعب والحذر منه،ففي التاريخ ألوف الأمثلة على أن الشعب لا يلبث أن يحذر من يحذرونه،ويبتعد عن المبتعدين عنه،ويفتح الهوة الكبيرة بينه وبينهم.وإن يكن من وراء هذا الحذر والانكماش خطة مدبرة لتقليص المشتركين في البناء العام عدداً ونوعاً،فلا يبقى في مراتب النظام الاجتماعي سوى جهاز الدولة ومجموعة الأجراء الضعفاء،فإن العدالة الاجتماعية والتعاونية القومية بريئة من هذه الخطط ومخططيها.

ومهما يكن من شأن العقائد النظرية والسياسات العملية التي سادت مصر وسورية خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة،فإنه من المحقق المؤكد أن البعض الذي قد يجوز تطبيقه في مصر،لا يمكن ولا يجدي تطبيقه في سورية،لاختلاف البيئات جغرافياً وبشرياً واجتماعياً.ومن المعروف الشائع إن خير الوحدات أو الاتحادات الناجحة في دول الأرض هي التي أعطت لا مركزية واسعة لدويلاتها أو لولاياتها،ومنحتها في كثير من الشؤون حقوقاً تشريعية وتنظيمية،تخالف القوانين العليا والأفكار السائدة نفسها،لأن الوحدة في مفهومها العلمي والعملي،مهما يكن نظام الحكم الذي يسودها،ليست في إلغاء المصالح الصغيرة والمحلية،بل بالإقرار بها والاعتراف بضروراتها،والعمل على التنسيق بينها ضمن إطار رحب من السياسة العليا،وبذلك تضمن الدولة تكافل الوحدات الصغيرة وتعاونها،وتتلافى أحوال التمزق والتفكك التي تؤول إليها لزاماً أنظمة ضيقة ونظريات غيبية تفرض على الجماهير بالقسر والإذلال.

ومع كل ذلك،أيها الأخوة والأبناء الأعزاء،فإنني أعيذكم أن تظنوا بأن التجربة الفاشلة في نظام الوحدة السياسية بين البلدين العربيين،إنما هي فشل للوحدة ذاتها كمبدأ وعقيدة وأمل أجيال.أعيذكم  من التشاؤم في تطلعكم إلى مستقبل العرب على ضوء هذه التجربة الأولى في حياة الأمة،لأن هزة الفشل المريع لم تصب وجداننا،ولم تصب عقيدتنا وطموحاتنا القومية النبيلة،بل أجدر بها أن تصيب الذين أخطأوا وضلوا في أساليب النظر والعمل،وابتعدوا عن واقع الأمة وحقيقة الشعب وسنّة التطور.

أعيذكم من الحساب العجول بأن فشل التجربة الأولى قد يعني فشل كل تجربة ومضاء في سبيل وحدة العرب.وإنه لجدير بي أن أذكركم بما قلت يوم قيام هذه الوحدة،بأنه ليس من العجب أن تتحد أقطار العرب،بل العجب كل العجب أن تبقى على القطيعة والفرقة.

بل بوسعي أن أرفع صوتي عالياً بالتفاؤل ،لأن التجربة الأولى في حياتنا القومية قد رسمت لنا طريقاً في التخطيط،لتشكل من أشكال الوحدة الراسخة البناء،يتوفر لها الباحثون والعلماء والمجربون،هيئات وأفراداً في كل بلد عربي،قبل أن ينظر فيها رجال الدولة والحاكمون ومجالسهم.

أقول وأرفع صوتي بالتفاؤل،لأن عمر الأمم لا يقاس بالسنوات القليلة،والشعوب التي تتوفر في حياتها التجارب،تتوافر لها دون سواها إمكانات النجاح والصواب.

وإن يكن من حظ هذا البلد العربي الأمين أن يكون ميدان التجربة الأولى،فإنه،وهو صاحب رسالة ودعوة عربية عريقة،لأجدر أن يكون اليوم أكثر حماسة واندفاعاً إلى وحدة عربية جريئة يتقدم بها إلى الشعب العربي في جميع الديار،وفي مقدمتها مصر العربية الشقيقة.

ولكي تكونوا،أيها الأخوة المواطنون،على أهبة العمل ومستوى الدعوة والرسالة،عليكم أن تعلموا جميعاً بأنكم يجب أن تنطلقوا من قواعد صالحة للانطلاق،ومن أرض ثابتة راسخة تحت الاقدام.عليكم أن تدركوا بأن وحدتكم الوطنية،المدعومة بتعاون الأفراد والجماعات،وفي مقدمتها رجال العمل السياسي والتوجيه القومي والاصلاح الاجتماعي،هي المنطلق المكين الذي يؤهلكم لأداء الرسالة القومية،ويمهد للكلمة المخلصة الصادقة،ترسلونها في سبيل العروبة والحق.

إن الوحدة الوطنية التي تلزمها ظروفكم الداخلية والخارجية،ضرورة أساسية من ضرورات هذه المرحلة التي نجتازها في حياتنا القومية والدولية،لأنكم شعباً وجيشاً،غدوتم ملء عين الزماننوالتاريخ ينظر إلى نياتكم وأعمالكم وعواقبها.

إن وحدتنا الوطنية ضرورة مبرمة من ضرورات الدفاع عن كياننا وعن قوميتنا وشرف عروبتنا ونحن نقف على خط النار إزاء العدو الصهيوني الأثيم،الذي لن نغمض عيوننا عن نزوات شروره وعدوانه،ولن نغفل في حسابنا مؤامرات الاستعمار ومكائد الغدر والغادرين.

وإن هذه الوحدة الوطنية التي يجب أن تتمسكوا بها أيها المواطنون،وتدعموها بكل عزيمة وإيمان،هي سبيلكم إلى دعم جيشكم الأمين في انطلاقه القوي إلى أهداف أمة العرب في تحرير فلسطين وكسر شوكة الغاصبين.

إن الوحدة الوطنية إنما تقوم على مبادىء وأهداف بينة،تلتفون حولها وتصدقون القول والعمل .ولكم من تاريخكم القريب والبعيد،قبل الوحدة،وقبل الجلاء،ومنذ طلائع فجر الجهاد،مبادىء وعقائد لا يمكنكم أن تحيدوا عنها مهما تبدلت الظروف وأنظمة الحكم وتعاقب الحكام.

وفي مقدمة هذه المبادىء المهمة:

ـ سلامة وطنية بجيش قوي

ـ سيادة الدولة في الدعوة إلى السلام بالعدل وعدم الخضوع لمناطق النفوذ وسياسة الحرب والمعسكرات

ـ اشتراك وجداني وعملي في نصرة القضايا العربية،في مقدمتها فلسطين والجزائر وعُمان،وجميع قضايا التحرر العربي.

ـ متابعة الدأب من أجل تحقيق الوحدة العربية،والمباشرة بلا إبطاء في إرساء قواعد التضامن العربي،عسكرياً واقتصادياً وسياسياً.

ـ إعداد الشعب في الميدان الداخلي إعداداً منظماً،في مختلف نواحي النشاط الاجتماعي والاقتصادي والفكري،للإفادة من جميع الفعاليات على أساس من الحرية،كافلة الإنتاج والإبداع،وفي حدود تنهيج واقعي لإنماء الثروة القومية وبسط العدالة الاجتماعية ورفع مستوى المواطنين،وعلى الأخص عمالاً وفلاحين.

أنتم مدعوون أيها المواطنون إلى وحدة وطنية بميثاق قومي،تقوم على هدى المبادىء والعقائد التي هي مكاسب جهادكم وكفاحكم وسيرتكم القومية المشرفة،التي كانت منذ مطلع هذا القرن قدوة للشعوب ومنارا.

وإنني لوطيد الأمل أن تبادروا إلى الخروج من تيارات الفترة العصيبة التي اجتزتموها بوعي وسلام،وتتطلعوا إلى المستقبل بشجاعة وعزم وتفاؤل.وأرجو أن تدركوا كل الإدراك حقيقة أولية من حقائقنا القومية العربية:إن أي نزاع واختلاف في الاجتهاد والرأي في نطاق المجموعة العربية لن يكون سوى خلاف عائلي عابر،من شأنه أن ينير الطريق ويرشد إلى الصواب ويمهد لجو أكثر ألفة وصفاء.

وإنه لجدير بي في كلمتي إليكم،أن أخص بتحية التقدير والإعجاب جيشكم المظفر،حامي الديار وحارس الشرف والكرامة والحرية.جيشكم الذي وضع نفسه في خدمة الحق والحرية،وأعرب في انتفاضته النزيهة الخيرة السمحاء عن آلامكم وآمالكم،التي هي آلامه وآماله،فأضاف إلى أوسمته التي تحملها رايته الخفاقة،أثمن وسام هو وسام الشعب.

أيها الأخوة والأبناء الأعزاء،كلمتي الأخيرة إليكم أنكم أنتم وحدكم مسؤولون في تقرير المستقبل،وأن القيادات في صفوفكم عناوين زائلة،وتبقون أنتم الشعب،سطور البقاء والخلود.ولقد استطعت أن أتوفر على خدمة نضالكم وجهادكم،مواطناً عادياً وجندياً مكافحاً،أكثر مما أتيح لي أن أتوفر لهذه الخدمة الشريفة،رئيساً وحاكماً ومسؤولا.

ولطالما أغدقتم عليّ من العطف والمحبة والعزة،ما ملأ نفسي رضى،وضميري طمأنينة،وليس من مزيد أبداً.وإن أعظم ما يطمح إليه عامل في الحقل العام،عانق القضية المقدسة منذ مطلع هذا القرن،فتى وشاباً وشيخاً،أن يستحق استمرار الرضى عنه في صفوف المواطنين العاديين،مواطناً صالحاً وجندياً.”.

وأصبح ناظم القدسي رحمه الله أول رئيس لسورية في حكومة الانفصال(14 كانون الاول 1961م ـ 8 آذار 1963م).

والرئيس ناظم القدس ولد في حلب عام 1905م وتوفي في المملكة الأردنية الهاشمية عام 1997م.ودرس الحقوق في دمشق،ثم في الجامعة الأمريكية في بيروت،ثم في جامعة جنيف.وكان سفيراً لسورية في حكومة شكري القوتلي بعد الاستقلال وقدم أوراد اعتماده للرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت في 19 آذار عام 1945م.

وفي يوم 30 حزيران عام 1967 وبعد هزيمة العرب مع إسرائيل في الخامس من حزيران توفي شكري القوتلي رحمه الله متأثراً لما حصل لبلاده وأمته عن عمر ناهز 75عاماً،بعد أن تعرض للذبحة القلبية وخاصة عند سماعه نبأ سقوط الجولان في يد إسرائيل،وأعيد جثمانه مجللاً بالعلم السوري،بواسطة من الملك فيصل بن عبد العزيز،وخرجت جنازة شعبية مهيبة لم تشهد مثلها مدينة دمشق وكان المشيعون يصرخون:”لا إله إلا الله،وشكري بك حبيب الله” وصُلي على جثمانه في الجامع الأموي ووري الثرى في مدافن الأسرة في مقبرة الباب الصغير بدمشق. رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.

(نقلاً عن إسلام أون لاين ـ مقال لسمير الحلبي،وويكيبيديا)

العهد الوطني:

وعاد لدمشق وجهها العربي الحرّ الأصيل وهي عاصمة للجمهورية العربية السورية،وواجهت منذ نشأتها المؤامرة على العروبة وفلسطين وذلك بوجود الكيان الصهيوني في فلسطين،وكانت دمشق مركز المقاومة وجيش الإنقاذ،ودخلت حرب فلسطين عام 1948،وتآمرت قوى الشر في العالم وبمساعدة وخيانة بعض حكام العرب،خسرت الحرب وأعلن قيام دولة الاحتلال الصهيوني.

ثم حدثت مجموعة من الإنقلابات العسكرية التي سلبتها الحرية والديمقراطية،ومنها انقلاب الزعيم حسني الزعيم في 30 آذار عام 1949م،والذي حلّ المجلس النيابي ووضع كل من الرئيس شكري القوتلي وخالد العظم في سجن المزة.

وفي 13 آب عام 1949قام انقلاب آخر أطاح بحسني الزعيم بقيادة سامي الحناوي ومحسن البرازي،وبعد يومين على الانقلاب سلّم الحناوي السلطة رسمياً إلى هاشم الأتاسي.وتمّ أعدام حسني الزعيم.

وفي 19 كانون الأول 1949م قام العقيد أديب الشيشكلي بحركة انقلابية وعين خالد العظم لتشكيل حكومة جديدة.وعين الرئيس هاشم الأتاسي في 7 نيسان رئيساً للجمهورية.

وفي حزيران عام 1952م قام أديب الشيشكلي بحل البرلمان وشكل حكومة برئاسة فوزي سلو الذي تسلم السلطتين التنفيذية والتشريعية .

وفي عام 1953 ثبت الشيشكلي رئاسته باستفتاء شعبي،وتخلى عن منصبه كرئيس للأركان لشوكت شقير.

وفي 25 شباط قامت حالة تمرد عسكري ضد الشيشكي فقدم استقالته وهرب إلى بيروت ومنها إلى السعودية.

وفي 5 تموز عاد شكري القوتلي بعد 5 سنوات من النفي ولقي ترحيباً واسعاً.

وفي 18 آب عام 1955 م انتخب شكري القوتلي رئيساً للجمهورية وشكل سعيد الغزي حكومته .

وفي عام 1956م حصلت أزمة السويس في مصر(العدوان الثلاثي)فقامت قوات سورية بأمر من عبد الحميد السراج بتدمير عدد من محطات الضخ البترولية الخاصة بنفط العراق.

وفي الأول من شباط عام 1958 قامت الوحدة بين مصر وسورية.

وتم الانفصال عام 1961 م بواسطة العقيد النحلاوي.

ومن ثم حدثت مجموعة أخرى من الانقلابات العسكرية أتت بالحزبية والطائفية،وسلبت دمشق حتى اليوم بريقها وحريتها.فمنها انقلاب البعث في الثامن من آذار عام 1963م ،ومن ثم انقلاب حركة 23 شباط 1966م وعين فيه نور الدين الأتاسي رئيساً للجمهورية ويوسف زعين رئيساً للوزراء وصلاح جديد أميناً قطرياً مساعداً.

ثم حدثت هزيمة الخامس من حزيران عام 1967م.

ثم حدث ما يسمى الحركة التصحيحية في 12 تشرين الثاني علم 1970م واستولى حافظ الأسد على السلطة،وقام باعتقال كل من صلاح جديد ويوسف زعين ونور الدين الأتاسي،أما وزير الخارجية إبراهيم ماخوس فقد هرب إلى الجزائر.

وفي 22 شباط عام 1971م أصبح حافظ الأسد رئيساً للجمهورية العربية السورية حتى وفاته في العاشرمن حزيران عام 2000م.ومن ثم استلم الحكم من بعده ابنه بشار الأسد.

والجدول التالي يبين رؤوساء الدولة في الجمهورية العربية السورية منذ انتهاء الحكم العثماني:

 ـ عهد الإمارة:سمو الأمير فيصل بن الحسين 28 إيلول 1918مـ 8 آذار 1920م.

ـ عهد الملكية:جلالة الملك فيصل بن الحسين 28 آذار 1920ن ـ 25 تموز 1920م.

العهد الانتدابي الفرنسي:المفوضون الفرنسيون:25 تموز 1920م ـ 12 حزيران 1932م

ـ رئيس الجمهورية السيد محمد علي العابد:11 حزيران 1932م ـ 21 كانون الأول 1936م.

ـ رئيس الجمهورية السيد هاشم الأتاسي:21 كانون الأول 1936م ـ 7تموز 1939م

ـ رئيس الجمهورية الشيخ تاج الدين الحسني:12 إيلول 1941م ـ 17 كانون الثاني 1943م.

ـ تولى مجلس الوزراء السوري السلطة التنفيذية بالوكالة:17 كانون الثاني 1943ن ـ 25 آذار 1943م.

ـ رئيس الدولة السيد عطا الأيوبي:25 آذار 1943م ـ 19 آب 1943م.

رئيس الجمهورية السيد شكري القوتلي:1943م 1949م.

ـ القيادة العامة للجيش:30 آذار 1949م ـ 26 حزيران 1949م.

الزعيم حسني الزعيم:26 حزيران 1949م ـ 13 آب 1949م.

ـ مجلس الوزراء برئاسة السيد هاشم الأتاسي وممارسته صلاحيات رئيس الجمهورية والسلطتين التشريعية والتنفيذية:14 آب 1949م ـ 13 كانون الأول 1949م

ـ رئيس الدولة هاشم الأتاسي:14 ؤكانون الأول 1949م ـ 4 إيلول 1950م

ـ رئيس الجمهورية السيد هاشم الأتاسي: 5 إيلول 1950م ـ 2 كانون الأول 1950م.

ـ العقيد أديب الشيشكلي:2 كانون الأول 1951م ـ 10 تموز 1953م.

ـ العقيد أديب الشيشكلي: 11 تموز 1953م ـ 25 شباط 1954م

ـ رئيس الجمهورية السيد هاشم الأتاسي:1 آذار 1954م ـ 5 إيلول 1955م.

ـ رئيس الجمهورية السيد شكري القوتلي:6 إيلول 1955م ـ 21 شباط 1958م .

ـ رئيس الجمهورية العربية المتحدة جمال عبد الناصر :22 شباط 1958م ـ 27 إيلول 1961م

ـ القيادة الثورية العربية للقوات المسلحة:28 إيلول 1961م ـ 13 كانون الأول 1961م.

ـ القيادة العامة للجيش والقوى المسلحة:28 آذار 1962م ـ 13 نيسان 1962م

ـ رئيس الجمهورية ناظم القدسي:13 نيسان 1962م ـ 7 آذار 1963م

ـ انقلاب البعث والمجلس الوطني لقيادة الثورة:7 آذار 1963م ـ 23 شباط 1966م .لؤي الأتاسي رئيس مجلس القيادة الثوري الوطني ومن بعد الفريق أمين الحافظ رئيس المجلس الجمهوري 27 تموز 1963م وحتى 23 شباط 1966م

ـ انقلاب نور الدين الأتاسي وصلاح جديد:25 شباط 1966م ـ 28 تشرين الأول 1968م.

ـ نور الدين الأتاسي:29 تشرين الأول 1968ـ 19 تشرين الثاني 1970م

ـ انقلاب حافظ الأسد وتعيين أحمد الخطيب:19 تشرين الثاني 1970م ـ 22 شباط 1971م

ـ أحمد الخطيب:16 شباط 1971م ـ 22 شباط 1971م.

الفريق حافظ الأسد:14 آذار 1971م ـ 10 حزيران 200م.

ـ عبد الحليم خدام(مؤقت) 10 حزيران ـ 17 تموز 2000م

ـ بشار الأسد:17 تموز  2000ـ….

دِمشقّ

هي أقدم مدن سورية،وأقدم عاصمة مأهولة في العالم، لأن القبائل التي هاجرت إلى هذه البقاع أقامت أولاً في هذه الأنحاء لتوفر خصبها بكثرة مياهها ثم تفرقت.حتى أن استرابون المؤرخ ذكر مغاورها في العصر الحجري ولا تزال آثارها فيها وحولها،فلهذا كانت هذه المدينة العريقة في القدم أشهر مدن سورية وأفخمها آثاراً وأوفرها خصباً وأغناها خيرات وأكثرها متنزهات وأغزرها مياهاً.

يعود نشوء دمشق إلى تسعة آلاف سنة قبل الميلاد،كما دلت الحفريات بالقرب منها في موقع تل الرماد.

ورد اسم دمشق في ألواح تحوتمس الثالث فرعون مصر بلفظ”تيماسك”.. كما ورد في ألواح تل العمارنة “تيماشكي”…وفي النصوص الأشورية ورد بلفظ”دا ماش قا”…وفي النصوص الآرامية بلفظ”دارميسك”…ولعل الكلمة تعني الأرض المسقية أو أرض الحجر الكلسي…وفي العصور الإسلامية أطلق عليها اسم “الفيحاء” و”جلق”..

وعلو دمشق عن سطح البحر الرومي ألفان ومائتان وستون قدما،وموقعها في مستوى من ألأرض يشرف عليها جبل قاسيون المعروف بجبل الصالحية نسبة إلى الصالحيين الذين هم جماعة من  النابلسيين المُنتسبين إلى مسجد أبي صالح خارج الباب الشرقي منها لنزولهم فيه وانسابهم إليه ثم لانتقالهم إلى سفح ذلك الجبل الذي نسب إليهم وبقيتهم هي اليوم آل النابلسي عندنا.

(مسجد أبي صالح قديم كان يلزمه أبو بكر بن سيد حمدية الزاهد وقيل أنه جدّده ثم خلفه فيه أبو صالح صاحبه فنسب إليه ولما حوصرت قرية جماعيل النابلسية في أيام الحروب الصليبية ترك آل جماعة هؤلاء بلادهم وهاجروا إلى دمشق فنزلوا فيه)

وعلو جبل قاسيون 3707 قدم.ويشرف على دمشق من الغرب الجنوبي جبل الشيخ المعروف قديماً بجبل حرمون(أي القمة العالية)وعلوه 9400 قدم وهو يرطب جوها بنداه البليل المحمول على أجنحة النسيم.

وحولها الغوطتان الشرقية والغربية وهما من متنزهات الدنيا الأربعة لأنهما حدائق رائعة وجنان غناء , ينساب فيها نهر بردى،وينضم إليه نهر الفيجة فيدخل المدينة ويتوزع عليها أنهراً سبعة بهندسة بديعة فيروي جميع الأرض التي حوله والمدينة بجميع أحيائها ولذلك سماه اليونان بلغتهم مجرى الذهب لخصب أرضه وبه لقب يوحنا الدمشقي من قدماء العلماء الدمشقيين الذين نبغوا في أيام الدولة الأموية لفصاحته.

ومدينة دمشق مُسوّرة بسور عظيم منيع ذات أبواب حديدية ضخمة،وبقي سورها وأبوابها إلى زمن إبراهيم باشا المصري(1831 ـ 1840) فسلمه السكان مفاتيح المدينة عندما فتحها ودخل من بوابة الله مع حاكم لبنان الأمير بشير الشهابي الكبير وولده الأمير خليل،وأمّنَ الأهلين.

وكانت قلعة دمشق قديمة ومحصنة ولها سور حولها وخندق يردّ عنها الغارات فَجُدِّدتْ في العصور المتوسطة ولا تزال أبنيتها ماثلة في غربي المدينة.

ولقد جمعت أسماء المؤلفات في هذه المدينة مما سمي باسمها فكانت أكثر من خمسين وأكبرها تاريخ ابن عساكر المشهور وهو من مخطوطات المكتبة الظاهرية الشهيرة .

أسماء دِمشقّ واشتقاقها:

ذكر القلقشندي في موسوعته “صبح الأعشى” من الأسماء:دمشقّ وجِلقّ،وجاء في الروض المعطار تسميتها جيرون والعذراء…الخ

ـ أولها الشّام:

وهذا من أقدم أسمائها لأنّه اسم أب الذين احتلوها واختطوها من اللوديين والآراميين.وهو الغالب على ألسنتنا إلى اليوم.ولا سيما عند العامة حتى إنهم قلما يقولون “دمشق”.ومعنى سام بالعبرانية اسم فهو بلا شك أب الأسماء واسم أب الآباء الذين تديروها.ولقد ذكره النابغة الجعدي عند فتح هذه المدينة في أيام العرب وتعيير أبي الزهراء القشيري بإصابة رجله في مواقعها.فقال النابغة يخاطب المعير:

فإن تكن قدم “بالشّام”نادرة     فإن بالشّام أقداماً وأوصالا

(نادرة:أي زالة وواقعة)

وإن يكن حاجب ممن فخرت به     فلم يكن حاجب عماً ولا خالا

فتكون تسمية عاصمة الشّام باسم بلاد الشام من باب تسمية الجزء باسم الكل مجازاً.

يقول الأستاذ خليل الصمادي:

“الشام كلمة سريانية تعود إلى سام بن نوح الذي استوطن تلك البلاد بعد الطوفان.حكم الساميون الشام منذ عهد نوح،وعرف عنهم شدّة البأس في القتال وحب السفر،وسرعة التعلم.وظلت لغتهم السريانية  ـ بفضل الآراميين والفينيقيون ـ اللغة العالمية سبعة عشرة قرون من القرن السابع قبل الميلاد إلى القرن السابع الميلادي،ولا يعرف أية لغة أخرى دامت كل ذاك العهد.واخترعوا لها أبجدية أصبحت أساس أبجديات العالم كله.وقد عرف عن أهل الشام تمسكهم الشديد بلغتهم السريانية حتى إذا جاء الإسلام رحبوا به بشدة وساعدوا العرب ضد الروم، ثم إنهم تحولوا جميعاً إلى الإسلام في سنين قليلة،واستبدلوا لغتهم السريانية باللغة العربية فسادت على سائر اللغات.

جاء في كتاب “معالم دمشق التاريخية للدكتور الشهابي وأحمد الإيبش:

“يطلق اسم الشّام اليوم على مدينة دمشق في كافة البلدان العربية على لسان الناس في لغتهم المحكية،وأولهم أبناء القطر العربي السوري الذين يتعارفون على إطلاق هذا الإسم على العاصمة دمشق.وأما اسم دمشق فيقتصر غالباً على الفصحى أو على اللغة المكتوبة.

واسم “الشام” بالأصل مصطلح جغرافي يشمل البقاع الممتدة من العريش جنوبي الساحل الفلسطيني إلى نهر الفرات شمال شرق سورية الطبيعية،ويعرف هذا الإقليم عموماً ب”بلاد الشّام”،ويشمل سورية ولبنان وفلسطين والأردن.

قال أبو بكر الأنباري:في اشتقاق اسم الشّام وجهان،فيجوز أن يكون مأخوذاً من اليد الشؤمى وهي اليسرى،ويجوز أن يكون فَعلى من الشوم.

قال أبو القاسم:قال جماعة من أهل اللغة الشام والشآم قد تذكر وتؤنث،ويجوز أن لا تُهمز فيقال:الشام،فيكون الإسم جمع شامة.

وقال الكلبي:سميت الشام بشامات لها حمر وسود وبيض،أي لاختلاف ألوان أرضها،وقيل:بل لكثرة قراها وتداني بعضها من بعض،فشبهت بالشامات.

وقال قوم:هو من شوم الإبل،وهي سودها،وحضارها هي البيض.

وقال آخرون:سميت الشام باسم سام ابن نوح عليه السلام،وذلك لأنه أول من نزلها،فجعلت السين شيناً لتغير اللفظ الأعجمي.

والواقع أن هذا الرأي الأخير هو الصواب في اشتقاق اسم الشام من سام ابن نوح.

غير أن إطلاق اسم سام بن نوح على هذا القطر لم يرد أبداً في النصوص القديمة،بل عُرفت الأقطار بأسماء عديدة،ومنها:سورية،بلاد آرام،أرض كنعان(فلسطين)،أدوم(الأردن)فينيقية(ساحل لبنان).وأما إطلاق اسم الشام على الإقليم المذكور فاقتصر على الرواة العرب قبل الإسلام،ولعل هذا التعبير نشأ لدى القبائل العربية الجنوبية في عسير واليمن،فشاع آنذاك وبقي مستخدماً طوال العهود الإسلامية واستمر إلى يومنا الحاضر.

والطريف أن مصطلح”الشام” لم يقتصر في بلاد الحجاز على معناه الجغرافي كإسم إقليم فحسب،بل تحول إلى مصطلح سمتي يدل على الاتجاه،فاستعيض عن اسم الشمال باسم”الشام”،وعن اسم الجنوب باسم”اليمن”،وهذا بسبب التوضع الطبيعي لبلاد الحجاز بين بلاد الشام واليمن على محور شمالي ـ جنوبي بوجه التقريب.فكان الذاهب شمالاً يقال أنه قد “أشأم” أو”تشاءم”،والذاهب إلى الجنوب يقال أنه قد “أيمن” أو”تيامن”.

ـ ثانيها دِمشقّ:

جاء في الويكيبيديا مايلي:

“دمشق:هي عاصمة الجمهورية العربية السورية،ومركز محافظة دمشق،وهي إحدى أقدم مدن العالم مع تاريخ غير منقطع منذ أحد عشر ألف عام تقريباً،وأقدم مدينة ـ عاصمة في العالم،أصبحت عاصمة منطقة سوريا منذ عام 635.

هناك عدة نظريات في شرح معنى اسم دمشق،أوفرها انتشاراً كون اللفظة سامية قديمة بمعنى الأرض المسقية،ويعود ذلك لموقع المدينة الجغرافي في سهل خصيب يرويه نهر بردى وفروعه العديدة،مشكلاً بذلك غوطة دمشق،وأيضاً يتميز موقع المدينة بوجود جبل قاسيون فيها.

منذ العصور القديمة اشتهرت دمشق بوصفها مدينة تجارية،تقصدها القوافل للراحة أو للتبضع،وكانت المدينة إحدى محطات طريق الحرير،وطريق البحر،وموكب الحج الشامي،والقوافل المتجهة إلى فارس أو آسيا الصغرى أو مصر أو الجزيرة العربية.

من أقدم الوثائق التي ذكرت فيها دمشق على مرّ التاريخ رُقم مدينة إيبلا العائدة إلى حوالي 2000قبل الميلاد،إذ ورد ذكرها تحت ما يُسمى “داماسكي“،كما أن ذكرها جاء أكثر من مرة في النصوص المصرية القديمة،ومن أبرزها ألواح “تحتمس الثالث” العائدة إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد،حيث ذكرت باسم”تيمساك“،وفي رسائل تل العمارنة باسم”تيماشكي” وفي الفترات التي تبعت ذلك تعاقبت عدة أسماء عليها مع كل دولة جديدة كانت تحكم المنطقة،فأطلق عليها الأشوريون “دَمَشقا” وأحيانا استخدموا اسم”إيميري شو” أيضاً،والأراميون كانوا يطلقون عليها اسم”ديماشقو“،كما ورد اسمي “دار ميساك“أو”دار ميسيق” في بعض النصوص الأرامية الذي قد يعني”الأرض المسقية” أو”المكان الوافر بالمياه” أو”أرض الحجر الكلسي” ومنه في العصور الأنتيكية،عرف في اللغة اللاتينية،ومنها اللغات الأوروبية المعاصرة ببعض التحريف ليصبح”داماسكس”.

بعد الفتح الإسلامي للشام عُرفت المدينة بالكثير من الأسماء،منها دمشق الشام تمييزاً لها عن مدينة غرناطة في الأندلس التي سُميت أيضاً دمشق العرب،وذات العماد لكثرة الأعمدة في أبنيتها،وباب الكعبة لوجودها على طريق مكة،والفيحاء لإتساعها ورائحتها الزكية،وأيضاً جِلّق وحصن الشام وفسطاط المسلمين.كما تُسمى أيضاً بالشام على طريقة تسمية الفرع بالأصل.

يوجد خلاف كبير وافتراضات عديدة بشأن أصل اسم دمشق نفسه وطريقة اشتقاقه من العربية،فأنصار الجذر العربي للإسم يرونه ناجماً عن مصطلح دمشق في اللغة العربية القديمة أي”إذا أسرع”،ولذلك يقال أن المدينة سُميت باسمها لأن أبناءها دمشقوا أي أسرعوا في بنائها.أما غالب المؤرخين الذين أعادوا اللفظ لكونها سريانية،أو لاتينية،لا العربية،فيرون أنه أشتق من كلمة”دُمَسكس” بمعنى المسك أو الرائحة الطيبة،فيما يرى آخرون أنها سُميت تيمناً بالقائد اليوناني”دماس” الذي أسس المدينة،ونظراً إلى ذكر المدينة في رسائل تل العمارنة والكرنك في مصر باللغة الهيروغليفية تحت مُسمى”دمشقوا ودَمشقا” كما ساد الاعتقاد بأن الكلمة مشتقة من اسم أحد أحفاد النبي نوح”دَماشِق”.

ويقول الأستاذ العلامة محمد كرد علي رحمه الله(دمشق مدينة السحر والشعر):

“دمشق بكسر الدال وفتح الميم وإسكان الشين،قالوا إن أصلها لفظة آرامية مماتة(مشق) تتقدمها دال النسبة.وقد وردت في اللغة الهيروغليفية على هذا النحو تقريباً،ومعناها الأرض المزهرة أو الحديقة الغناء.

وأطلق الآراميون عليها اسم(درمسق) والسريان(در مسوق)،وأهل لغة التلمود “درمسقين”،وقالوا إن إرم ذات العماد التي وردت في القرآن الكريم هي دمشق بعينها،وبعض المفسرين يذهبون إلى ذلك،الآية الكريمة:{ألمْ ترَ كيفَ فعلَ ربُّكَ بعادٍ*إرمَ ذاتِ العِمادِ*الَّتي لم يُخلق مثلُها في البلاد}قال شبيب بن يزيد النعمان بن بشير:

لولا التي علقتني من علائقها          لم تمسِ لي إرم داراً ولا وطناً

قالوا أراد دمشق،وإياها عنى البحتري بقوله:

إليك رحلنا العيس من أرض بابل        يجوز بها مست الدبور ويهتدي

فكم جزعت من وهدة بعد وهدة          وكم قطعت من فدفد بعد فدفد

طلبنك من أم العراق نوازعاً               بنا وقصور الشام منك بمرصد

إلى إرم ذات العماد وإنها                 لموضع قصدي موجفاً وتعمدي

ومعنى آرام العالية أو سهل مرتفع نحو ألفي قدم عن مساواة البحر،وقد وردت في التوراة عدة أسماء مضافة إلى آرام.

وجاء في دائرة المعارف الإسلامية(المجلد التاسع ص264):

دِمِشْق أو دِمَشق أو دمشق الشام،ويقال لها أيضاً الشام فقط.

واسم المدينة يرجع إلى ما قبل العهد الإسلامي:فقد ورد في قائمة تحتمس:تمسقو،وفي الأشورية:دمشقى وتمشكى.

وظهر الإسم في العهد القديم متصلاً بقصة إبراهيم عليه السلام(سفر التكوين ـ الإصحاح 14 ـ آية 15).

لقد أول المؤرخون هذا الاسم تآويل شتى والأقرب في هذه التسمية أنها لودية أو أرامية(أي كلدانية أو سريانية قديمة)ذكرتها آثار الكرنك وكتابات تل العمارنة باسم(تماسكو)باللغة الهيروغليفية(اللغة المصرية المقدسة)ومعنى الكلمة المزهرة أو المثمرة تسمية بغوطتها الخصيبة.

وقال مؤرخ دمشق ابن عساكر الذي عاش وتوفي في القرن الثاني عشر الميلادي في موسوعته “تاريخ مدينة دمشق” أن اسم دمشق مشتق من كلمة “دوموسكوس”اللاتينية،ومعناها المسك،فعُرب وأضحى دمشق”داماسكوس”،وأن اسم نهرها بردى كان في الأصل:”باراديوس”أي الفردوس،قبل أن يعرب ويصبح بردى،ولولا هذا النهر لما توسعت وأضحت واحة غناء ضمن الصحراء التي تحيط بها.

ولقد ذكرها كثير من العرب بهذا الإسم منهم أبو عبادة البحتري بقوله:

أما دِمشقّ فقد أبدت محاسنها    وقد وفى لك مطريها بما وعدا

إذا أردت ملأت العين من بلد     مستحسن وزمان يشبه البلدا

ومن هذا الاسم أخذ اليونانيون كلمة(داماسكوس)وعنهم نقل الإفرنج تسميتهم للمدينة وصناعاتها.

وأما قولنا (دمشق الشام) فليس إلا تمييزاً لها عن غرناطة الأندلسية المسماة (دمشق الغرب أو الأندلس) لأن سكانها كانوا من طوارىء دمشق الذين ذهبوا إليها مع من ذهب إلى الغرب فاختاروها سكناً لهم لكثرة مياهها وحدائقها والجبل الثلج المطل عليها فكانت أشبه بمدينتهم الأصلية.

وجاء في كتاب”معالم دمشق التاريخية” للدكتور قتيبة الشهابي وأحمد الأيبش:

“دمشق: يلفظ الإسم بكسر الدال وفتح الميم.وهذا الاسم يقتصر عادة على العربية الفصحى،بينما غلب على المدينة اسم الشام على لسان العامة في أكثر البلدان العربية.

واسم دمشق قديم جداً،ورد ذكره في النقوش الأثرية المصرية باسك خيطا وربما كان معنى الكلمة :الفضة.وإذا كان هذا صحيحاً فلعله يكون أول ذكر لدمشق في التاريخ.

وورد في نص قديم اسم(دمشومس) وهو يشبه لفظة دمشق.

وورد ذكر دمشق باللغة الهيروغليفية وهي اللغة المصرية المقدسة في آثار ومكاتبات تل العمارنة والكرنك،في عداد المدن التي فتحها تحوتمس

الثالث في القرن الخامس عشر قبل الميلاد،على صورة دِمسقا،ودِمسغي.وصورتهما في المخطوطات المصرية:تيمسقو،أو دمسقو،أو تيماشكي ـ أورو ومعناها:الأرض الزاهرة أو المثمرة أو الحديقة الغناء.

وورد ذكر دمشق في الآثار والكتابات الأشورية:دمشقي،أو تمشكي،أو دمشقا،بتخفيف الميم أو تشديدها.ولدمشق ونواحيها في الكتابات الآشورية اسم آخر وهو:غاراميريشو أو بحذف الأول:أميريشووأميريش،وفسروه:قلعة الآموريين،واستنتجوا من هذا الاسم أن الآموريين ملكوا على دمشق ونواحيها.

كما ورد اسمها في ألواح إيبلا(حوالي 2400 قبل الميلاد) هكذا:ديماشكي،أو دامسكي.

أما الآراميون فقالوأ:دَرمسق،ودرمسوق،ودور مسقين.

وورد اسم دمشق في تواريخ الأنبياء القديمة،وكان الكنعانيون يدعونها”دَمِّسق”.

وفي مطلع العهد الروماني ذكر الجغرافي الإغريقي سترابون دمشق التي زارها وتحدث عنها كأشهر مدينة في القسم الغربي من آسيا.

أما اليونان والرومان فإنهم لم يختلفوا البتة في اسم دمشق،فدعوها

(دمسقوس).

وفي غضون الحكم اليوناني الهيليني لسورية في عهود البطالمة والسلوقيين أطلقت على اقليم دمشق عدة تسميات وألقاب كما يلي:ألحق اسم (أرسينوي) باسم المدينة نسبة للمستوطنة التي أنشأهها بطليموس فيلادلف في منتصف القرن الثالث قبل الميلاد.يليها اختيار دمشق عاصمة في عهد أنطيوخوس التاسع السيزيكي لإثر قسمة سورية عام 111 قبل الميلاد.ثم ظهر اسم ديمترياس نسبة للمستوطنة التي أسسها أحد ملوك السلوقيين سنة 95 قبل الميلادأو سنة 8 قبل الميلاد.

ثم في عهد الحكم الروماني لسورية نالت دمشق أثناء حكم الامبراطور هادريانوس لقب (ميترو بوليس)،أي حاضرة أو مدينة رئيسية.ثم حازت في عهد الكسندروس سيفيروس لقب مستعمة رومانية،ثم رُفعّت إلى رتبة مدينة من مدن (الديكا بوليس) وهي المدن العشرة الرئيسية في سورية الطبيعية.

وذكر الباحث الآثاري والمؤرخ الفرنسي جان سو فاجيه في كتابه”لمحة تاريخية عن مدينة دمشق”:في القرن الحادي عشر قبل الميلاد كانت دمشق عاصمة المملكة الآرامية،التي كانت آنذاك أعظم دولة في سورية،ويمكن الفرض بأن الآراميين قد أتوا من بلاد ما بين النهرين،ونرى قرى واحة دمشق جميعها تسمى بالأسماء الآرامية،مثل كفر بطنا،وعقربا وغيرهما.

أما من ينعم النظر في وجوه اشتقاق اسم دمشق من اللغة الآرامية أو الكلدانية فيكاد يجزم بان هذا التركيب اللفظي إنما هو سامي جملة وتفصيلا:

ـ يرى المستشرق الألماني ريتسلوب أن دمشق لفظة آرامية أصلها (مشق) تتقدمها دال النسبة في هذه اللغات(د ـ مشق)ومعناها الأرض المزهرة والحديقة.

ـ ويرى الدكتور أنيس فريحة أن دمشق اسم آرامي قديم جداً:دارمسوق،دارميشق،دمّشق،ويظهر أن الكلمة مركبة من (دار) ومن (مشق) أو(مسق) ويكون المعنى:بيت الوفر والغنى.

أطلقت على مدينة دمشق على مرّ العصور التاريخية أسماء وألقاب عديدة،ومنها:

ـ رأس بلا آرام:كما وردت في العهد الآرامي

ـ مدينة نعمان الأبرص الآرامي:وهو قائد جيوش آرام

ـ بيت رِمُّون:نسبة إلى هيكلها الذي ينسب إلى رمّون اللودي

ـ قرية المسرّة:من ألقابها في العهد الآرامي

ـ مدينة إلعازر:خادم إبراهيم الخليل

ـ جِلّق

ـ جيرون:أو حصن جيرون

ـ ديمترياس:اسم الجالية اليونانية التي ألحقت بالمدينة

ـ قاعدة سوريا المجوّفة:في عهد الحكم الروماني

ـ عين الشرق كلّه:كما أسماها الامبراطور الروماني يوليانوس

ـ الشام

ـ دمشق الشام

ـ شام شريف:لقب أطلقه الترك العثمانيون على المدينة

ـ حاضرة الروم:من أسماء دمشق في عصر الجاهلية

ـ حصن الشام:من أسماء دمشق في صدر الإسلام

ـ ذات العماد:سميت بذلك لكثرة أعمدتها.

ـ إرم ذات العماد:قيل إن الذي بنى دمشق جيرون بن سعد بن عاد بن إرم بن سام بن نوح،وسماها:إرم ذات العماد.

ـ التين:قيل الواردة في القرآن الكريم(سورة التين) وقيل هو جامعها

ـ فسطاط المسلمين:كما ورد في الحديث الشريف:أي موئلهم وملاذهم.

باب الكعبة:اسم أطلق عليها في صدر الإسلام.

ـ جنة الأرض

ـ قصبة الشام:استعمله عدد من المؤرخين والجغرافيين المسلمين

ـ الفيحاء:أطلق عليها لسعة سهلها وفساحتها

ـ الغنّاء:نسبة لخضرتها وغوطتها

ـ عز الشرق أوله دمشق:من قصيدة لأمير الشعراء شوقي رحمه الله.

ـ الثالث جِلقّ: (امرأة)

يقال أن كلمة جلق إما تحريف الكلمة اليونانية وكان فيها كنيسة بهذا الاسم ذكرها ابن عساكر وغيره ولعلها كنيسة باسم مريم أم المسيح عليه السلام وقرب الكنيسة باب الجنيق المسدود في زمن ابن عساكر.فقيل (جِنّق) ثم بالإبدال جلّق)وإما أنها فارسية من كلمتين هما(كل) أي زهرة و(لك)بمعى مائة ألف فيكون المعنى مائة ألف زهرة إشارة إلى غوطتها .

وقد وصف حسان بن ثابت دمشق بهذا الإسم فقال:

لله درُّ عصابة نادمتهم               يوماً(بجلّق) في الزمان الأول

يسقون من ورد البريص عليهم    بردى يصفق بالرحيق السلسل

وأما البريس أو البريص الذي ذكره حسان هنا فهو إما منتزه أو قصر وربما كان محرفاً عن كلمة(براديوس) اليونانية ومعناها الفردوس.وكان البريص يسمى أيضاً المقسلاط وهو موضع النحاسين الآن.

وجاء في كتاب معالم دمشق التاريخية لقتيبة الشهابي وأحمد الأيبش:

جِلَّق:

من أسماء دمشق.ذُكر هذا الاسم كل من أرّخ لدمشق، وكل من كتب في جغرافية ديار الإسلام،ومنهم ابن عساكر مؤرخ دمشق الكبير،غير أنه لم يبحث في اشتقاق الاسم.

وذكره ياقوت الحموي في معجمه الشهير”معجم البلدان” فقال:جلّق:بكسرتين وتشديد اللام وقاف،وهي لفظة أعجمية،ومن عرّبها قال هو من جَلَق رأسه:إذا حلقه.وهو اسم لكورة الغوطة كلها،وقيل بل هي دمشقّ نفسها،وقيل جلّق موضع بقرية من قرى دمشق،وقيل صورة امرأة يجري الماء من فِيها في قرية من قرى دمشق،قاله نصر.قال حسان بن ثابت الأنصاري:

لله دَرُّ عصابةٍ نادمتهم       يوماً بِجلّق في الزمان الأول

هذا وقد اختلف المؤرخون في موقع جلّق كما اختلفوا في اسمها،فقيل أنها تتبع غوطة دمشق وكانت من منازل أمراء بني جفنة الغساسنة،وتأتي في الأهمية بالدرجة الثانية بعد الجابية،وكانت فيها كنائس وحدائق ومياه غزيرة.وقيل أنها كانت مصيفاً للخليفة الأموي يزيد بن معاوية.

وقد غمض اشتقاق كلمة جلّق،فقيل أنها يونانية تحريف كلمة (جينيك)ومعناها:امرأة،إذ كان فيها كنيسة بهذا الاسم ذكرها ابن عساكر وغيره وقرب الكنيسة “باب الجِنيق” المسدود،فقيل فيها “جنّق” ثم بالإبدال “جلّق”.

وذكر الحصني في منتخبات التواريخ أن اسم جلّق كان يطلق على صنم في قرية شرقي دمشق يقال لها الذنوبة،وهذا الصنم كان على صورة امرأة رتقاء مطبقة الفرج يخرج الماء من فيه وأذنيه وعينيه إلى بركة هناك.

وقيل أن الاسم فارسي من مقطعين:”كلُ” أي زهرة أو وردة،و”لك” أي مئة ألف،فيكون معناها:مئة ألف زهرة،إشارة إلى غوطتها،ثم عدلوا عن ضمّ أولها إلى الكسر وأتبعوا اللام للتخفيف فقالوا:جِلّق.وإن صحّ هذا الرأي تكون من تسمية الفرس الذين حكموها في القرن السادس قبل الميلاد.

ويقول مؤلف الكتاب:غير أننا نعتقد بأن هذا يندرج تحت إطار الوهم والسطحية،عدا عن المغالطة التاريخية،فدمشق وغوطتها وقراها ليست تحمل أسماء فارسية كما توهم بعض الباحثين،ذلك أن الفرس الأخمينيين لم يمكثوا في الشام عهداً طويلاً (دخلوها في القرن السادس قبل الميلاد وخرجوا منها عام 333 قبل الميلاد منهزمين أمام جيوش الاسكندر المقدوني)،ولم يتركوا بسوريا أي أثر يدل عليهم أو على حضارتهم.ثم إن اللغة الفارسية الحديثة التي يشتق منها الباحثون هذه الأسماء لم تكن هي ذانها الشائعة غداة حكم الأخمينيين لسوريا.

ـ الرابع جيرون:

أطلقه بعضهم على المدينة من باب تسمية الكلّ باسم الجزء مجازاً لأنه من أبواب جامعها الكبير أيام كان هيكلاً لليونانيين. فكلمة جيرون يونانية بمعنى فناء الدار أو الهيكل .

وكان اسم جيرون للباب الشرقي من أبواب الهيكل وهو المعروف اليوم بباب النوفرة.ولا تزال آثار السور الذي كان يحدق به ظاهرة في الزقاق الذي على يمين الداخل إلى الجامع من ذلك الباب وهو الموصل إلى الظاهرية.وحول الباب عمودان ضخمان يدلان على عرض السوق في ذلك العهد وكانت الأروقة قائمة على هذه الأعمدة لسير الناس والسوق بينهما للعجلات والحيوانات.وحوله كتابات يونانية على يمين الداخل في موضعين.وعلى اليسار حانوت صغير فيه باب على عتبته العليا نقوش بديعة يدل على أن الأرض قد ارتفعت عن مساحة أرض الشارع القديمة إلى أكثر من نصف الباب علواً:ومثلها إلى شرقي الجامع عند باب البريد ثلاثة أعمدة .وقد ذكر بعض الشعراء باب جيرون فقال أحدهم:

باكر “دمشق” بمشق أقلام الحيا    زهر الرياض مرصعاً ومكللا

واجرر”بجيرون”ذيولك واختصص   مغنى تأزر بالعلى وتسربلا

الخامس:أسماء أخرى لدمشق:

سماها يوليانوس الروماني(عين الشرق كله) لعمرانها.

وبيت رامون نسبة إلى هيكلها الذي كان باسم الإله رامون اللودي ومنه اسم برمانة في ظاهر دمشق.

ومن ألقابها الفيحاء لإتساعها،والغنّاء لإلتفاف أشجارها الكثيفة،وجنّة الأرض لكثرة حدائقها وغزارة مياهها.

وفي تسميات أحيائها وضواحيها اشتقاقات تكشف القناع عن وجه كثير من الحقائق الغامضة .

فمن اللغة الفينيقية(دمّر)وهي تحريف(دامور)أو(تامور)أو(تامار) وهو عندهم الإله المحامي .و(بلاط) تحريف بعل باليت.وفي جبل القلمون قرية فليطة وهي من هذا الاشتقاق.

والأسماء الآرامية أكثر من غيرها مثل(بيت لهيا) أي بيت الألهة.و(المعرة) بمعنى المغارة.

ومنها الحثية:مثل(الشاغور) بمعنى الصغير.و(قطنا) تحريف(كتنا) وهو اسم الحثيين.وكذلك(الغوطة) فإنها تحريف(الكتنة) وال(يبوسية)مثل(يبوس)و(كفر يبوس) تسبة إلى اليبوسيين من الكنعانيين.

واليونانية:مثل (بلاس) بمعنى قصر.و(عين ترما) أي الحمة وهي العين الحارة المياه.و(الفيجة)وهي تحريف(بيجة) اليونانية بمعنى الينبوع.و(نهر ثورا) أي نهر النظر في اليونانية وقيل أنها باسم حكيم اسمه(ثورا).

والرومانية: مثل جبل(القلمون) بمعنى المناخ أي جودة الهواء.و(بانياس) من بان إله الغابات وهو من أسماء أنهارها اليوم.

والعبرانية:ومنها(المزة) وهي باسم حفيد عيسو ومعناه الخوف.أو هي يونانية بمعنى التلة أو الربوة وقيل عربية تحريف المنتزه.

والفارسية:مثل (جوبر) من جويبار بمعنى مسيل النهر الصغير.

منازل القبائل العربية حول دمشق:

من مقال للأستاذ صلاح الدين المنجد في مجلة المجمع العربي بدمشق:

كان في الشام قبل الإسلام قبائل كثيرة من العرب المتحضرة وغير المتحضرة نزحت من شبه الجزيرة العربية،ونزلت في بادية الشام بين الفرات ووادي العاصي،وفي بعض المدن أو حولها.

فمن هذه القبائل قضاعة التي صارت إلى ملوك الروم،وأوتيت تنوخ بن مالك الملك،ودخلوا في دين النصرانية فملكّهم ملك الروم على من ببلاد الشام من العرب.ومن بعدهم سليح ومن بعدهم جاء بنو جفنة الغسّانيون  وظلوا حكاماً حتى قبيل الفتح سنة 584،حين حُمل المنذر الغساني أسيراً إلى عاصمة الروم فتصدّعت أحوال العرب في سورية وتفكّكت عرى وحدتهم حتى اختارت كل قبيلة منهم أميراً.

وقد غلب على دمشق قبائل قيس واليمن.ونزلت في دمشق وفي قرى الغوطة.لأن فيهما منفرجاً لهم ولمواشيهم.

ومن هذه القرى نذكر:الأوزاع وكانت قرية على طريق مقابر الفراديس.وقام مقامها في القرن السادس الهجري حي العقيبة.والأوزاع بطن من حِمير وقيل من همدان.وكانت من قرى اليمانية.

أما الصّدف فقرية كانت غرب مقبرة الفراديس(الدحداح اليوم).

ونزل الأشعريون وهم من القحطانية في مرج سمي مرج الأشعريين.وكان غرب باب الحديد الذي للقلعة،أي محل السنجقدار اليوم حتى المرجة ودار البلدية وما يليها غرباً.

أما الغوطة فقد كانت فيها غسان وبطون من قيس وقوم من ربيعة ولكن الكثرة الكاثرة كانت من اليمن.

كانت داريا أعظم القرى اليمانية في الغوطة وقد نزل بها عبس وخولان وفرد من رجب .

دمشق في الموسوعة الألمانية(بروك هاوس):

دمشق وتعرف عند العرب باسم دمشق الشام،وبالفرنسية”داماس”.هي عاصمة دولة سوريا،تقع على ارتفاع 690 م من سطح البحر،يسير فيها نهر بردى ويحيلها إلى واحة.وهي من إحدى أهم المراكز العالمية والدينية في الشرق.وتوجد فيها جامعة أنشئت عام 1923م،والمجمع اللغوي العربي الذي أنشىء عام 1919م،ويوجد فيها المتحف الوطني والمكتبة الوطنية،كما يوجد فيها مقر البطريرك الأرثودوكسي اليوناني لأنطاكية .

ودمشق تعتبر نقطة مواصلات هامة نحو حلب وبغداد وعمان ومكة وبيروت.

ودمشق القديمة مهددة بسبب استمرار العمران وتشكل الأبنية الحديثة والجسور…كما أن الغوطة مهددة أيضاً بسبب حركة العمران والصناعات والمنشأت.

ومن حيث الصناعات فإن دمشق تشتهر بصناعة النسيج والأغذية والإسمنت،كما أنها مشهورة بالأعمال والصناعات اليدوية،وخاصة فيما يتعلق بالحرير والبروكار والصناعات الخشبية الخزفية،والمصنوعات النحاسية والنسيجية.ويوجد في دمشق معرض دولي ومطار دولي.

ومن الناحية التاريخية:تدل الاكتشافات الأثرية على أن غوطة دمشق قد سُكنت حتى 300 قبل الميلاد.وأما اسم دمشق فقد وجدت في كتابات الكاتب الفرعوني (ثوتموسيوس) (1479 ـ 1436 قبل الميلاد).كما وجدت أيضاً في رسائل العهد القديم حوالي 1350 قبل الميلاد.وكان لدمشق أهمية كبرى حوالي عام 1000 قبل الميلاد كعاصمة للآراميين،والتي كانت تنافس الإسرائيليين.ومن ثم توحدت دمشق مع عدة مدن سورية أخرى وفلسطين من أجل مقاومة الآشوريين.والذين تمكنوا عام 732 قبل الميلاد من احتلال دمشق.ومن ثم أصبحت دمشق تابعة للدولة الآشورية وعاصمتها بابل حوالي 605 قبل الميلاد،ومن ثم تابعة لحكم الاسكندر عام 333 قبل الميلاد،ومن ثم لحكم الأنباط لفترة قصيرة،ومن ثم احتلها الرومان حوالي 64 قبل الميلاد،وبقيت تابعة لهم حتى الفتح الإسلامي.وكثير من الآثار المشهورة في دمشق تعود للحكم الروماني.

وفي عام 636 ميلادي وقعت دمشق والتي كانت تابعة للعقيدة اليعقوبية والآرامية تحت حكم المسلمين العرب.

وفي عام 639 أصبحت دمشق مقراً للوالي معاوية بن أبي سفيان.وتحولت إلى عاصمة الدولة الأموية عام 661 م.وبالتالي مقراً للخلافة الإسلامية.وفي عام 750م انتقلت الخلافة إلى بغداد بعد مجىء العباسيون.وقلت أهمية دمشق منذ ذلك الحين واصبحت إحدى مدن الخلافة العباسية.

وفي عام 878م أصبحت دمشق تابعة لسلطة الحكام الطولونيون المصريين.وفي عام 945ن تحت الحكم الإخشيدي،وما بين 970 ـ 1076م تحت الحكم الفاطمي.

وعادت للمدينة أهميتها تحت حكم السلاجقة عام 1154م ومن ثم الحكم الأيوبي حوالي 1174م وأصبحت مركزاً إسلامياً هاماً لمقاومة الصليبيين.وأثناء حكم الأيوبيين ازداد عدد سكان المدينة وظهرت أهميتها الاقتصادية،وظهرت فيها آثار عمرانية ومساجد ومدارس للتعليم كما أقيمت فيها الأسواق ومجاري المياه وازدادت أهميتها التجارية.كما ظهرت في هذا العصر الأيوبي الأحياء  والحارات القديمة والتي تميز المدينة القديمة حتى اليوم.

ومن ثم خضعت للحكم المملوكي،وفي عام 1516 للحكم العثماني بقيادة السلطان سليم الأول.وأصبحت دمشق مركزاً هاماً كعبور للمسلمين القاصدين للحج في مكة المكرمة،وزادت أهميتها الاقتصادية وتم توسيع المدينة.

وابتداء من القرن التاسع عشر للميلاد أصبحت دمشق مركزاً هاماً لما يسمى حركة القومية العربية.وفي عام 1920م خضعت للانتداب الفرنسي.وفي عام 1946 حصلت على الاستقلال .

وجاء في معجم البلدان لياقوت الحموي:

دِمشقّ:بكسر أوله،وفتح ثانيه،هكذا رواه الجمهور،والكسر لغة فيه،وشين معجمة وآخره قاف.

البلدة المشهورة قصبة الشام،وهي جنة الأرض بلا خلاف لحسن عمارة،ونضارة بقعة،وكثرة فاكهة،ونزاهة رقعة،وكثرة مياه،ووجود مآرب.

قيل:سُميت بذلك لأنهم دَمشقوا في بنائها أي أسرعوا،وناقة دمشقة اللحم:خفيفة.

وقال أهل السير:سميت دمشق بدماشق بن قاني بن مالك بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام،فهذا قول ابن الكلبي.وقال في موضع آخر:ولد يقظان بن عامر سالف وهم السلف وهو الذي بنى قصبة دمشق،وقيل:أول من بناها بيوراسف،وقيل:بُنيت دمشق على رأس ثلاثة آلاف ومائة وخمس وأربعين سنة من جملة الدهر الذي يقولون إنه سبعة آلاف سنة.وولد إبراهيم الخليل عليه السلام بعد بنائها بخمس سنين،وقيل إن الذي بنى دمشق جَيرون بن سعد بن عاد بن إرم ابن سام بن نوح عليه السلام،وسماها إرم ذات العماد، وقيل:إن هوداً عليه السلام نزل دمشق وأسس الحائط الذي في قبلي جامعها، وقيل إن العازر غلام إبراهيم عليه السلام بنى دمشق وكان حبشياً  وهبه له نمرود بن كنعان حين خرج إبراهيم من النار وكان يسمى الغلام دمشق فسماها بإسمه.وكان إبراهيم عليه السلام قد جعله على كل شىء له،وقيل:سميت بدماشق بن نمرود بن كنعان وهو الذي بناها.وقال آخرون سميت بدمشق بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام،وهو أخو فلسكين وإيلياء وحمص والأردن وبنى كل واحد موضعاً فسمي به.

ويتابع ياقوت الحموي:” وكان في الموضع الذي يعرف الآن بباب الساعات عند الجامع الأموي صخرة عظيمة يوضع عليها القربان فما يقبل منه تنزل نار تحرقه،وما لا يُقبل بقي على حاله،فكان هابيل قد جاء بكبش سمين من غنمه فوضعه على الصخرة فنزلت النار فأحرقته،وجاء قابيل بحنطة من غلته فوضعها على الصخرة فبقيت على حالها.فحسد قابيل أخاه وتبعه إلى الجبل المعروف بقاسيون المشرف على بقعة دمشق وأراد قتله،فلم يدر كيف يصنع فأتاه إبليس فأخذ حجراً وجعل يضرب به رأسه فلما رآه أخذ حجراً فضرب به رأس أخيه فقتله على جبل قاسيون،ويقول ياقوت الحموي ولقد رأيت هناك حجراً عليه شىء كالدم يزعم أهل الشام أنه الحجر الذي قتله به.وأن ذلك الاحمرار الذي عليه أثر دم هابيل،وبين يديه مغارة يقال لها مغارة الدم .

وقالوا في قوله عز وجل:{وآويناهما إلى ربوةٍ ذاتِ قرارٍ ومعين}[المؤمنون 50]قال:هي دمشق ذات قرار وذات رخاء من العيش وسعة ومعين كثيرة الماء.

وقال قتادة:في قوله تعالى والتين والزيتون:التين الجبل الذي عليه دمشق،والزيتون:الذي عليه بيت المقدس.

وقيل:إرم ذات العماد:دمشق.

وقال الأصمعي: جنان الدنيا ثلاث:غوطة دمشق،ونهر بَلخ ونهر الاُبلةّ

وقال الخوارزمي:جنان الدنيا أربع:غوطة دمشق،وصُغد سمرقند،وشعب بَوَّان، وجزيرة الأُبلّة وقد رأيتها كلها وأفضلها دمشق.

وقد روي عن كعب الأحبار:إن أول حائط وضع في الأرض بعد الطوفان حائط دمشق وحرّان.

ويتابع ياقوت الحموي:وفي الأخبار إن إبراهيم الخليل عليه السلام ولد في غوطة دمشق في قرية يُقال لها بَرزة في جبل قاسيون.

وفي الحديث الشريف:إن عيسى عليه السلام ينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق.وقال:إنها كانت مأوى الأنبياء ومصلاهم،والمغارة التي في جبل النيرب يقال إنها كانت مأوى عيسى عليه السلام.

ويقول الأستاذ العلامة محمد كرد علي رحمه الله(دمشق مدينة السحر والشعر):

“تعلو دمشق 2200قدم أو نحو 691 متراً عن سطح البحر المتوسط،قامت في نجد من الارض،يطل عليها من الشمال جبل قاسيون،وهو فرع من فروع جبل سنير الذي يُطلق على بعضه اليوم اسم جبل قلمون،ويشرف عليها من الجنوب الجبل الاٍود وجبل المانع،ومن الغرب جبل الشيخ المعروف بحرمون في التوراة وبجبل الثلج عند قدماء العرب،وغربها مفتوح وكذلك شرقها،فهي سهلية جبلية،ومعتدلة الهواء تأخذ الفصول الأربعة فيها حكمها،وهي هبة(بردى) الذي سماه اليونان نهر الذهب،كما أن مصر هبة النيل،يسقي بردى المدينة بعد تقسيمه ستة أنهار،منها ما يدخل البلد وهي بردى النهر الأصلي وقنوات وبانياس ويزيد وتورا،واللذان يسقيان الضاحية فقط الداراني وقناة المزة.

وكانت دمشق لقربها من جزيرة العرب والعراق ومصر مدينة تجارية تصل بين الشرق والغرب،وظلت عامرة على اختلاف العصور نحو أربعة آلاف سنة،فهي أقدم مدينة في العالم باقية على عمرانها،ومما تفخر به أن لها الواديين:وادي بردى ووادي العجم،يشق الأول نهر بردى مضافة إليه مياه عين الفيجة،ويشق الثاني نهر الأعوج المعروف عند القدماء باسم فرفر،ومخرجه من سفوح جبل الثلج،ولا يدخل المدينة بل يسقي بعض قراها القريبة.

ومن خصائص دمشق أنها وسط غوطتها الغنّاء تخرج لها بقولها وفاكهتها وأخشابها وأحطابها،هي على مقربة من إقليم حوران تجلب منه حبوبها الجيدة،وعلى أميال يسيرة من إقليم الجولان ترعى فيه ماشيتها،على فراسخ قليلة من مصايفها ومشاتيها.ترى في بعضها الهواء العليل البليل طوال السنة،وفي الوقت عينه تشهد حكم الصيف،فغورها على مقربة من نجدها،وجبالها كسهولها تتعاون على جلب الخيرات إليها،والثلج لا يخلو من أعالي جبالها صيفاً وشتاءً،وماء الشقة يجلب إليها في أنابيب تسقي دورها ومصانعها،وندر في المدن الكبرى مدينة كهذه تُسقى ماءً طاهراً لذيذاً :ماء عين الفيجة.وبهذا قلّت الأمراض الوافدة على ما كانت في الأعصار الخالية.

جوامع دِمشقّ القديمة والمشهورة

 ـ الجامع الأمويّ

الجامع الأمويّ في دمشق،يقع في قلب المدينة القديمة.

إن أول معبد معروف لدينا حيث يقوم الجامع الأموي الآن هو معبد حَدد الآرامي.وحَدد:هو إله العاصفة أو الصاعقة والبرق وكان يعبد في دمشق منذ ثلاثة ألف سنة،ولم تكشف الحفريات عن المعالم الدقيقة لهذا المعبد لكنه وصف بأنه أعظم المعابد وأكبرها وأقدسها،وكان يقصده الناس من جميع أنحاء القرى الآرامية.وكان يقوم على رابية ترتفع عن مستوى المدينة نحو ستة إلى عشرة أمتار،ويصعد إليه بسلالم ،ويحيط بالمعبد سوران أحدهما خارجي وله مدخلان فخمان من الشرق والغرب لازالت بعض أعمدتها قائمة.أما السور الثاني فكان يحيط بالهيكل وحدوده حدود الجامع الأموي الآن وله برج مربع في كل من زواياه الأربعة وأرضه مرصوفة بالفسيفساء.

ومن المرجح أن المعبد أصبح يحمل اسم معبد جوبيتر الدمشقي عقب سيطرة الرومان على دمشق،ولا زالت آثار المعبد الذي كان من أضخم المعابد الرومانية واضحة حتى يومنا هذا.

ويتفق المؤرخون على أن المعبد تحول إلى كنيسة في عهد الامبراطور تيودورس الأول(379 ـ 395م) .ويستدل من الدراسات المختلفة أن الكنيسة (القديس يوحنا المعمدان) كانت قد تدهورت قبيل الفتح الإسلامي.

عندما دخل خالد بن الوليد فاتحاً أقام الصلاة في الزاوية الجنوبية الشرقية ليس بعيداً عن الكنيسة،وصلى معه الصحابة ومنهم أمين الأمة أبو عبيدة بن الجراح،،فكان هذا أول مسجد في الشام ،وفيه أقيم محراب مازال يحمل اسم الصحابة.

وقد حول المسلمون فيما بعد الجزء الشرقي إلى مسجد،فكان المسلمون والنصارى يدخلون من باب واحد،هو باب المعبد الأصلي إلى جهة القبلة،فينصرف المسلمون إلى جهة الشرق والنصارى إلى جهة الغرب.

وفي عصر الخليفة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه كان يصلي في هذا المسجد المؤقت،يدخل إليه من الباب القبلي الروماني،وما يزال قائماً في جدار القبلة.

وكان معاوية قد أنشأ لنفسه قصر الخضراء المتاخم لهذا الجدار،وقد أنشأ معاوية في المسجد مقصورة خاصة به، هي أول مقصورة في الإسلام.

وتتفق معظم الروايات على أن أخذ النصف الغربي من الكنيسة كان لقاء التعويض على النصارى بالكفّ عن أخذ كنائسهم الأخرى الواقعة في المنطقة التي فتحت من دمشق حرباً وإعادة أربع كنائس لهم.

بدأ الخليفة الوليد بن عبد الملك الإستعداد لعملية البناء في عام 86 هجري الموافق 705 م، وقد أمر بهدم كل مداخل المعبد(وليس الكنيسة) من منشآت رومانية وبيزنطية،وأبقى على الجدران فقط.

(والوليد بن عبد الملك هو من أقام مسجد قبّة الصخرة وباشر بإنشاء المسجد الأقصى في المكان الذي صلى فيه عمر الفاروق رضي الله عنه عندما جاء إلى القدس وقدّم لسكانها العهدة العمرية).

وقد أنفق على بناء الجامع خراج الشام سنتين،وقيل إنه أخذ ربع أعطيات من أهل دمشق تسع سنين وكانت خمسة وأربعين ألفاً يستعين بها على عمارة الجامع.

وفي رواية أخرى:أن ما أنفق على الجامع كان 400 صندوق في كل صندوق أربعة عشر ألف دينار أي خمسة ملايين وستمائة ألف دينار ذهبي.

ويذكر لنا المؤرخ صلاح الدين المنجد في كتابه “حمامات دمشق”أن الخليفة الوليد بن عبد الملك بعد بناء الجامع الأموي خاطب أهل دمشق قائلاً لهم:”من حقكم أن تفخروا على الناس بأربعة أشياء هي: ماؤكم وهواؤكم وفاكهتكم وحماماتكم فأردت أن أجعل خامسها مسجدكم”.

ويعتبر جامع بني أمية في دمشقّ أكمل وأقدم آبدة إسلامية ما زالت محافظة على أصولها منذ عصر مُنشئها الخليفة الوليد بن عبد الملك الذي حكم من 86 ـ 96 هجري الموافق 705 ـ 715 م .

للجامع الأمويّ ثلاثة مآذن وأربعة أبواب وقبّة كبيرة وثلاث قباب في صحنه.استغرق بنائه حوالي عشر سنوات.

والمآذن الثلاثة تعود إلى ثلاث حقب مختلفة:

ـ المئذنة الأولى الشمالية:1

تتوسط الجدار الشمالي وتعرف باسم مئذنة العروس،أو المئذنة البيضاء أو الكلاسية نسبة إلى حي الكلاسة التي تقع عنده.

شُيّدت هذه المأذنة في العهد الأموي عند بناء الجامع سنة 96هجري في عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك،وجدّدت في العهود المتلاحقة كا لأتابكي والنوري والأيوبي والمملوكي.كما أصيبت بأضرار طفيفة في زلزال دمشق سنة 1173هجري.

ويذكر الريحاوي في كتابه “العمارة العربية الإسلامية”:شيدت مآذن العالم الإسلامي كلها على نسق مئذنة العروس،أبراجاً مربعة طوال قرون عديدة،ولم يتغير شكل المآذن إلا بعد القرن الثاني عشر للميلاد،حين أخذت تظهر مآذن مضلعة وأخرى مستديرة.

وسبب تسميتها بالعروس فتعود إلى مظهرها عندما كانت تتلألأ بأنوار الفوانيس في المناسبات مما يجعلها تشبه العروس ليلة زفافها.

2 ـ والمئذنة الثانية الشرقية:

في الناحية الشرقية وتعرف بمئذنة عيسى أو مئذنة النوفرة نسبة لحي النوفرة.

سميت باسم عيسى بن مريم عليه السلام،لورود أحاديث نبوية شريفة تذكر أنه سوف يبعث في آخر الزمان بدمشق،وسينزل على”المنارة البيضاء”شرقي دمشق.

والثالثة الغربية:

في الناحية الغربية،وبالتحديد في زاويته الجنوبية الغربية. وتعرف بمئذنة قايتباي،حيث أمر بإعادة بنائها سنة 893 هجري الموافق 1488م إثر حريق الجامع.أو المئذنة المسكية لأنها تشرف على سوق المسكية.

 (السلطان المملوكي الأشرف قياتباي المحمودي أحد سلاطين المماليك البرجية)

وهذه المأذنة مملوكية الطراز ولذا فإنها تشبه مآذن القاهرة المعاصرة لها.وتعتبر واحدة من أجمل مآذن دمشق والعالم الإسلامي.

أما قباب الجامع:

ـ قبّة الخزنة(بيت المال):تقع في الجهة الغربية لصحن الجامع.

قبة الساعات(قبة زين العابدين):تقع في الجهة الشرقية لصحن الجامع.

قبة النوفرة(أو قبة عائشة):وتقع بين القبتين السابقتين ويوجد تحتها بركة ماء.

قبة النسر:تعلو الحرم بارتفاع يقارب 36متر.أطلق العرب على الحرم اسم النسر،القبة رأسه والرواق القاطع جسمه والأروقة عن يمينه وشماله جناحاه.

وجاء في كتاب “المعالم التاريخية لدمشق” للدكتور قتيبة الشهابي:

“هي قبّة الرصاص الكبرى لحرم الجامع الأمويّ.

تعتبر قبّة النَسر،وهي قبّة الجامع الأمويّ الكبير،أشهر قبّة في مدينة دمشق.عُمرّت مع الجامع عام 86هجري بأمر الخليفة الأمويّ الوليد بن عبد الملك واستغرق البناء عشر سنوات.ولبناء قبّة النسر هذه قصة أوردها مؤرخ دمشق ابن عساكر في تاريخه الكبير.

وتعرض كلٌّ من الجامع والقبّة إلى حرائق وزلازل وكوارث عديدة في تاريخهما الطويل،كان آخرها الحريق الهائل عام 1893م.

وأشهر من وصف الجامع وقبّته من الرحالين:ابن جبير الأندلسي عام 585هجري وهو هام جداً،وابن بطوطة المغربي عام 726هجري،وابن فضل الله العمري في النصف الأول من القرن الثامن الهجري.

أما عن تسمية قبّة النسر،فكتب ابن بطوطة:قبّة الرصاص التي أمام المحراب المسماة بقبّة النسر،كأنهم شبّهوا المسجد نسراً طائراً والقبّة راسه،وهي من أعجب مباني الدنيا،ومن أي جهة استقبلت المدينة بدت لك قبّة النسر ذاهبة في الهواء منيفة على جميع مباني البلد.

وذكر الدكتور عبد القادر الريحاوي :أطلق العرب على المصلى الحرم اسم النسر:القبّة رأسه،والرواق جسمه،والأروقة عن يمينه ويساره جناحاه.

تبلغ مساحة المسجد كله 157×97م وتبلغ مساحة الحرم 136×37م أمالا مساحة الصحن فهي 22×60م وينفتح في الصحن أربعة أبواب:

1ـ الباب الشمالي:

أو باب الفراديس ويسمى أيضاً باب الناطفانيين ومؤخراً باب العمارة أو الكلاسة.

2ـ الباب الغربي:

يعرف بباب البريد ويفتح باتجاه المسكية(سوق الكتبيين والوراقين قديماً).

3ـ الباب الجنوبي:

ويدعى باب الزيادة أو باب القوافين ،وهو الباب الوحيد الذي يفتح على الحرم مباشرة.وينفذ منه إلى سوق الصاغة والبيمارستان العتيق وسوق القمح .

الباب الشرقي:

ويسمى أيضاً باب النوفرة،وكان قديماً يسمى باب جيرون.ومنه ينفذ إلى درب العجم أو النوفرة(جيرون قديماً)

أما الصحن فإنه محاط من جوانبه الثلاثة بأروقة شامخة ،ومن الجنوب تتفتح أبواب الحرم التي أصبحت مغلقة بأبواب خشبية تعلوها قمريات زجاجية ملونة مع كتابات.

أما حرم المسجد فهو مؤلف من قناطر متشابهة عددها 24 قنطرة يقطعها في الوسط جناح متوسط ويغطيه سقف سنمي في وسطه تنهض قبة النسر .

وفي حرم الجامع أربعة محاريب ،المحراب الأصلي في منتصف الجدار القبلي،وهذه المحاريب مخصصة للمذاهب الأربعة.

ويقوم إلى جانب المحراب الكبير منبر حجري رائع.ولقد زينت جدران الحرم بالفسيفساء والرخام.ويحتوي المسجد على ضريح النبي يحيى عليه السلام(يوحنا المعمدان)

ويبدو الجامع مهيمناً على مدينة دمشق القديمة بهامته المُتجلية بقبّة النسر،وبمآذنه الثلاثة التي أقيمت في وقت لاحق فوق الصوامع الأموية والمئذنة الشمالية هي الأقدم ولقد أضيف إليها منارة في عصر صلاح الدين الأيوبي ثم في عصر العثمانيين وفوق الصوامع أنشئت المئذنة الشرقية في عصر الأيوبيين ثم العثمانيين ،والمئذنة الغربية أنشأها السلطان قايتباي.

المقصورة التاجية:

يقول الأستاذ محمد أحمد دهمان(في رحاب دمشق):

إن الجدار الشمالي في الزاوية الشرقية من الجامع الأموي تم بنائه في سنة 553هجري كما تشير إلى ذلك عدة كتابات عليه.وهذا الجدار تأثر بعدة زلازل بعد هذا التاريخ،أعظمها زلزال سنة 1173 هجري الذي أحدث تخريبات عظيمة في دمشق والجامع الأمويّ.وهذه الزاوية الشرقية الشمالية كان فيها خزانة كتب وحلقة علم وهي التي عرفت في كتب التاريخ بالمقصورة التاجية.وهي مقصورة حنفية.وكانت المقصورة التاجية معقلاً علمياً للتكتل الحنفي يدعمها ملك دمشق المعظم عيسى ذو الحماسة الشديدة لمذهبه الحنفي.

وتاج الدين الكندي أستاذ الملك،هو الذي تنسب إليه المقصورة التاجية في الجامع الأموي.ولقد ولد سنة 520 هجري ببغداد،وتوفي سنة 613 هجري بدمشق.ودفن بسفح جبل قاسيون وبني عليه قبة،وجعلت له تربة.

وهو أستاذ الملوك الأيوبيين،ومنهم الملك الأفضل ملك دمشق وأخوه الملك المحسن وهما ابنا صلاح الدين،وأستاذ الملك المعظم عيسى ملك دمشق وفلسطين.ومن الذين أخذوا عنه ياقوت الحموي صاحب معجمي الأدباء والبلدان،وابن العديم وسبط ابن الجوزي صاحب مرآة الزمان،وابن الساعاتي …

الزاوية الغزالية:

ويقابل هذه المقصورة من جهة الغرب مقصورة شافعية تعرف بالزاوية الغزالية لأن الغزالي الشهير نزلها ودرس فيها بعد الشيخ نصر المقدسي المتوفى سنة 490 هجري ووقف عليها صلاح الدين الأيوبي قرى بصيدا

متحف الجامع الأموي:

في ركن الزاوية الشمالية القريبة من الجامع أقيم هذا المتحف عام 1989م،ويضم نفائس الجامع القديمة وبعض الأحجار والسجاد واللوحات الخطية الجميلة،مع مصابيح إنارة وقطع فسيفساء وخزف ونقود إسلامية وساعات وصفحات من المصاحف المخطوطة القديمة.

أقسام الجامع الأموي:

1 ـ باب جيرون والدهليز

2 ـ مشهد الحسين

3 ـ قاعة المئذنة الشمالية الشرقية

4 ـ قبر الملك الكامل

5 ـ مقرعمر بن عبد العزيز

6 ـ باب الكلاسة أو العمارة

7 ـ مئذنة العروس

8 ـ قاعدة المئذنة الشمالية الغربية(زاوية الغزالي)

9 ـ مشهد عثمان(قاعة الاستقبال اليوم)

10 ـ باب البريد

11 ـ مشهد عروة (بيت الوضوء اليوم)

12 ـ قاعدة المئذنة الجنوبية الغربية

13 ـ محراب الحنابلة

14 ـ محراب الحنفية

15 ـ محراب الخطيب

16 ـ محراب المالكية أو محراب الصحابة

17 ـ قاعدة المئذنة الجنوبية الشرقية وفوقها المئذنة البيضاء

18 ـ مشهد أبي بكر

19 ـ مقام النبي يحيى

20 ـ قبة الساعات

21 ـ قبة البركة

22 ـ قبة المال أو الخزنة

23 ـ باب الزيادة:

هو الباب القبلي للجامع الأموي.ولم يكن هذا الباب موجوداً في البناء الأصلي للجامع عندما كان كنيسة،فلما بناه الأمويون أحدثوا في جداره الجنوبي من طرفه الغربي هذا الباب فسمي لذلك باب الزيادة.وعرف أيضاً باسم باب الساعات في القرن الرابع الهجري،ويعرف باب الزيادة في أيامنا باسم باب الصاغة،نسبة لسوق الصاغة القديم قبالته،أو باسم باب القوافين نسبة لسوق القوافين الذي كان بالقرب منه أيضاً.

لم يحافظ الجامع على الشكل الذي بني عليه فقد تعرض لكثير من الحرائق والزلازل التي غيرت معالمه كثيراً.كما تعرض للإهمال فترات طويلة من الزمن.وفكر الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز رحمه الله في إزالة مظاهر الترف منه والتي رأى فيها خروجاً عن التعاليم الإسلامية.لكن أهل الشام دافعوا عن زينة الجامع لأنها بنيت من أموالهم وجهدهم.لا من بيت مال المسلمين فعدل عمر عن نيته.

المدرسون تحت قبة النسر:

جاء في مقال للشيخ العلامة محمد بهجة البيطار رحمه الله (في أحد أعداد مجلة المجمع العربي بدمشق):

ـ العلامة الشمس محمد الميداني:هو محمد بن محمد بن يوسف بن أحمد بن محمد الملقب شمس الدين،الحموي الأصل،الدمشقي المولد،الميداني،الشافعي،عالم الشام ومحدثها،وصدر علمائها،الحافظ المتقن.كان الحكام لا يستطيعون الظلم خوفاً منه،ويحترمونه أقوى احترام،مع عدم تردده إليهم،وقلة اكتراثه بهم .توفي بالقولنج في يوم الاثنين الثالث عشر من ذي الحجة سنة 1033.

ـ العلامة الإمام الشيخ نجم الدين محمد الغزي العامري الدمشقي الشافعي:محدث الشام ومسندها،تولى التعليم تحت قبة النسر بعد الشمس الميداني.وبقي يدرس سبعاً وعشرين سنة،وهو قدر مدة الميداني.توفي يوم الأربعاء ثامن عشر جمادى الآخرة سنة غحدى وستين وألف عن ثلاث وثمانين سنة .

ـ العالم الفاضل الشيخ سعود الغزي الدمشقي الشافعي،ابن نجم الدين الغزي ومفتي الشافعية بدمشق،وابن مفتيها،وابن ابن مفتيها،واستمر يدرس تحت قبة النسر  بعد وفاة والده.

ـ العالم الجليل الشيخ محمد الاسطواني الدمشقي الحنفي،الفقيه الواعظ الاخباري،كان أحد أعاجيب الدنيا في حلاوة المنطق،وحسن التأدية،ومعرفة أساليب الكلام،لا يمل حديثه بحال،وكلما طال طاب.

ـ الشيخ محمد بن تاج الدين المحاسني الدمشقي الحنفي الخطيب بجامع دمشق:كان فاضلاً أديباً جامعاً لمحاسن الأخلاق.دفن بمقبرة باب الفراديس بالقرب من جده الأمير الحسن البوريني.

ـ الشيخ محمد بن يحيى الخباز البصير المعروف بالبطنيني،الدمشقي الشافعي،المحدث الفقيه الورع الصالح الناسك،كان غاية في الورع ذا صلابة في دينه،ينكر المنكر ولا يخاف في الله لومة لائم،وكان متواضعاً خلوقاً،عليه سكينة ووقار.وكانت وفاته في سنة 1075.

ـ الإمام الجليل الشيخ علاء الدين الحصفكي الدمشقي مفتي الحنفية بدمشق وصاحب التصانيف الفائقة في الفقه وغيره،ومنها الدر المختار.وكان عالماً محدثاً فقيهاً نحوياً.مات سنة 1088.

ـ الإمام محمد بن أحمد العيثاوي الدمشقي،كان قوالاً بالحق،لا تأخذه في الله لومة لائم.توفي سنة 1080.

ـ الشيخ يونس المصري ابن أحمد المحلي الأزهري الكفراوي الشافعي،نزيل دمشق ومدرس الحديث بها.توفي سنة 1120.

ـ الشيخ محمد بن علي بن محمد المعروف بالكاملي الشافعي الدمشقي:كان فقيهاً واعظاً بركة الشام،وسيماً منوراً،عليه أبهة العلم ورونقه،توفي سنة 1131.

ـ الشيخ الإمام إسماعيل بن محمد الشهير بالجراحي الشافعي العجلوني المولد،الدمشقي المنشأ والوفاة،الحجة العمدة،الورع.توفي بدمشق في المحرم سنة 1163هجري.

ـ الشيخ صالح الجينيني الأصل،الدمشقي المولد،شيخ الحديث ولد بدمشق ونشأ بها،ومات سنة 1170،وكانت مدة تدريسه تسع سنين.

ـ الإمام الكبير الشهاب أحمد المنيني،الطرابلسي الأصل،المنيني المولد(قرية من قرى دمشق)،الدمشقي المنشأ.كان ألمعياً نحوياً،أديباً حاذقاًنلطيف الطبع،حسن الخلال.توفي سنة 1172 وكانت مدة تدريسه سنة واحدة.ودفن بتربة مرج الدحداح.

ـ العلامة علي أفندي الداغستاني الًأصل والمولد،نزيل دمشق،ومدرس الحديث بها،توفي رحمه الله بعد أن أصتبه مرض الفالج سنة 1199.ودفن بسفح جبل قاسيون.

ـ السيد محمد العطار،وقد أجمع النلس على طيب أصله.وكان في أحكامه تقياً بعيداً عن المحارم.

ـ العلامة المحدث الشمس محمد الكزبري،توفي رحمه الله سنة 1221هجري.

ـ الشيخ عبد الرحمن الكزبري:ابن الشيخ محمد الكزبري،الشافعي الدمشقي،محدث الديار الشامية،وكانت مدة تدريسه اثنتين وأربعين سنة.توفي في البلد الحرام.وصُلي عليه في الحرم الشريف ودفن في مقبرة المعلا.

ـ الشيخ عبد الله الكزبري ولد الشيخ عبد الرحمن،واستلم التدريس بعد وفاة والده حتى توفي سنة 1265هجري.

ـ الشيخ العالم الجليل أحمد مسلم الكزبري شقيق الشيخ عبد الله الكزبري،توفي سنة 1299هجري.

ـ الشيخ سليم بن أحمد بن عبد الرحمن بن محمد الكزبري.

الشيخ المحدث العلامة بدر الدين الحسني:

الشيخ بدر الدين ابن الشيخ يوسف بن عبد الرحمن بن عبد الوهاب بن عبد الله ابن عبد الملك بن عبد الغني المراكشي السبتي المغربي أصلاً، الدمشقي مولداً

يقول الشيخ محمد بهجة البيطار رحمه الله:”كان الشيخ بدر الدين الحسني خاتمة المحدثين تحت قبة النسر،إذ لم يخلفه أحد في حفظه وعلمه فيجلس مجلسه ويحقق شرط الواقف.

كان علم الفقيد كَعلم من سبقه من أولئك الأئمة ـ علم حفظ ورزاية،لا علم كتب وقراءة،وفرق بين علم يضيع بضياع الكتب ويذهب بذهابها،وعلم يبقى محفوظاً مدى العمر في الصدر،يحدث صاحبه ويملي على الناس منه في أي آن ومكان،ولا يبالي بالكتب حضرت أو نأت عنه.

لما احترقت خزانة دار الحديث ـ وكان فيها مخطوطات الفقيد النفيسة ومؤلفاته التي كان كتبها في صباه،كما احترق غيرها من مكتبات دمشق في الحريق الذي وقع في سوق الحميدية سنة 1330 هجري ـ أخذ يقرأ الدروس الخاصة والعامة من حفظه،ويمليها على الطلاب من مكنونات صدره،والعلم ماوعته العقول والصدور،لا ما أودعته القراطيس والسطور.وكان أستاذه الأوحد العلامة الجليل الشيخ أبو الخير الخطيب .

أما الحديث فلا نعلم له نظيراً له في حفظه، ولا في ضبط رجاله،ومعرفة سنده،وحسبه روايته له في الجامع الأموي تحت قبة النسر وقد دأب على ذلك نحو ثلاثة أرباع القرن.ومما يقضي بالعجب من تلك الدروس أنها كانت محط رجال الحكم والعلم،وأن محدثنا العظيم كان يُراعي فيها حال المستمعين،ويتكلم بما تدعو إليه الحاجة والمناسبة،فإذا وقف على درسه رجال الحكم أخذ يعظهم ويذكرهم بما يجب للأمة على ولاة الأمور،فلا يصدرون عنه إلا وقد مُلئوا إعجاباً بلطف تنقلاته،وبديع مناسباته،وأخذه أياهم بالحق والصدق،وإذا حضر علماء الدين ملكتهم الحيرة والدهشة مما وعاه قلبه،ورواه لسانه من تلك الأحاديث النبوية موصولة الأسانيد،صحيحة الضبط،تامة الحفظ،يتلوها من غير توقف ولا تلعثم،كأنما يغترف من عباب،أو يقرأ في كتاب،مع ذكر ما قاله أئمة هذا الشأن فيها،واستحضاره ما أورده العلماء من معانيها.

الحرائق التي تعرض لها:

1 ـ الحريق الأول شعبان سنة 461 هجري(حزيران 1068م):

وهو أسوأ الحرائق،وكان المسؤول المباشر عن هذا الحريق جنود الدولة الفاطمية الشيعة،فقد كانت الحروب تدور في دمشق بينهم وبين الجنود المغاربة،وحدث عصر يوم الرابع عشر من شعبان سنة 461هجري  أن ألقى الفاطميون النار في قصر الخضراء المجاور للجامع،فامتدت النيران إليه ولم تتركه إلا قاعاً صفصفاً،فدثرت محاسنه،وسقطت سقوفه وتناثرت فصوصه المذهبة.وبعد الحريق صارت أرضه طيناً في الشتاء،وغباراً في الصيف،واستمرت على ذلك الحال مائةً وخمسين سنة حتى عهد العادل أبي بكر بن أيوب.(خطط دمشق لأكرم حسن العلبي نقلاً عن ابن كثير وتاريخ البصروي).

2 ـ الحريق الثاني:شوال سنة 740هجري الموافق آذار سنة 1339م:

وقع في آخر ولاية الأمير تنكز على دمشق،وكان موقفه من المسؤولين عن هذا الحريق وإعدامهم بدون الرجوع إلى السلطان الناصر محمد من الاسباب التي عجلّت بعزله وقتله.

وقد كان هذا الحريق متعمداً ومدبراً،فقد اجتمع بعض النصارى في قرية جوبر وعملوا كعكعاً من نفط وأدخلوه في سوق الرجال عند الدهشة،ووضعوه خلسة في بعض الدكاكين،كما وضعوا بعضه بعيداً عن الجامع لإبعاد التهمة عنهم.

وفي المساء احترق سوق الدهشة(قيسارية تجارية شرقي الجامع)،فتعلقت النار بداربزينات المئذنة الشرقية وانهارت،ثم احترقت المدرسة الأمينية وما حولها،وتمت السيطرة على الحريق قبل استفحال أمره.

ولما تحقّق تنكز من وجود مؤامرة لحرق الجامع،اعتقل رؤوس المتآمرين،وكتب محضراً بأسمائهم وأقوالهم،واستفتى القضاة في عقوبتهم،فأفتوا جميعاً بمصادرة أموالهم،وزاد الحنفي والمالكي بقتلهم سياسة،فصلب منهم إحدى عشر رجلاً على الجمال،وطيف بهم في أنحاء المدينة،ثم أحرقوا بالنار حتى صاروا رماداً.

وفي سنة 794هجري احترقت المئذنة الشرقية،ودخلت النار إلى الجامع واتهم اليهود بحرقه،فأعتقل سديد اليهودي وأحرق مع آخرين(المرجع السابق للعلبي).

وجاء في مقال للأستاذ صلاح الدين المنجد نشره في أحد أعداد مجلة المجمع العربي بدمشق، بعنوان:حريق الجامع الأموي بدمشق سنة 740 هجري:

“وقع حريق سنة 740 هجري في السنة الأخيرة من ولاية تنكز.ففي السادس عشر من شهر شوال،شبّ الحريق أوائل الليل،بقيسارية الدهشة بسوق اللبادين.وكاد هذا الحريق يأخذ المسجد كله.وسارع الناس،والعسكر وأمراء الألوف،وعلى رأسهم تنكز إلى إخماد النار فما خمدت إلا بعد يومين وليلتين.

وبعد ليالٍ ـ على قول ابن كثير ـ وقع حريق ثان ،وكانت الخسارة عظيمة جسيمة.

أثار نشوب هذين الحريقين المتواليين الشك في نفوس الناس،وبعد التحقيق تبين أن جماعة من رؤوس النصارى بعضهم من كتاب الدولة وعمالها دبروا أمر هذين الحريقين.

ويبدو أن الراهبين اللذين دبرا الحريق فرا إلى قبرص بوساطة عامل بيروت.أما نائب السلطان تنكز،فلما تحقق لديع أن الحريق من فعل النصارى أمسك من رؤوسهم نحواً من ستين رجلاً،ووجهت فُتيا إلى قضاة القضاة الأربعة بدمشق،سئلوا فيها إذا كان النصارى قد نُقض عهدهم بما فعلوه؟وهل يلزمهم ضمان ما أتلفوه؟وهل يقتلون أو ينفون؟..فأجمعوا على أن عهدهم ينتقض،وأن أموالهم تؤخذ،وأفتى الحنفي والمالكي بقتلهم،وسكت عن أمر القتل الشافعي والحنبلي.

وعمد عندئذ تنكز ـ على قول ابن كثير ـ إلى رؤوساء النصارى هؤلاء فأخذهم بالمصادرات والعقوبات وأنواع المثلات،ثم أحرقوا بالنار.

وإذا كان عمل تنكز قد أرضى المسلمين فإنه أغضب السلطان الناصر محمدا(بن قلاوون)ً،فكتب إلى تنكز يُنكر عليه قتل النصارى،وإن في ذلك إغراءً لأهل القسطنطينية بم يرد إليهم من التجار المسلمين وقتلهم،ثم عزل تنكز وقُتل بعد ذلك.

3 ـ الحريق الثالث:شعبان سنة 803هجري الموافق آذار 1400م:

وهذا الحريق مدّبر أيضاً،وهو لم يأت على الجامع بل أتى قبله على دمشق كلها في عهد تيمورلنك.

ذلك أنه بعد أن أتى تيمورلنك وأمراؤه وأتباعهم إلى المدينة،أطلق جنوده فيها يوم الأربعاء سلخ رجب سنة 803هجري،فدخلوها ومعهم السيوف مشهورة فساقوا الرجال والنسوان،ثم طرحوا النار في المنازل،وكان يوماً عاصفاً،فعمّ الحريق البلد واستمر ثلاثة أيام حسوماً،فاحترق الجامع وسقطت سقوفه وزالت أبوابه وتفطر رخامه،ولم يبق غير جدره قائمة،وذهبت معه،مساجد دمشق ومدارسها وحماماتها وأسواقها وقياسرها،وصارت أطلالاً بالية(نفس المرجع السابق للعلبي).

4 ـ الحريق الرابع 27 رجب سنة 884هجري الموافق 14 تشرين الأول سنة 1479م:

وهو من الحرائق الكبرى التي لم يتعرض لها الكثيرون،لعدم وجود المصادر المطبوعة عن تلك الفترة.

وتفصيل الأمر،أنه في ليلة الأربعاء 27 رجب،احترقت الأسواق المحيطة به،وحاول الناس منع النار من الدخول إليه،ولكن دون جدوى،وانتشرت النار في الناحية القبلية،ثم عمّت الجامع بأسره،وتوقفت عند باب الكلاسة،وبعد يومين سقطت قبّة النسر،وسقط معها نصف المئذنة الغربية،فاضطر الناس إلى الصلاة في صحنه وفي مدرسة الكلاسة والكاملية والمشهد الشرقي،وألقى الخطيب خطبة من على كرسي في صدر الصحن،وقد تضافرت الجهود لإعادته كما كان.ولقد أمر السلطان قايتباي بسرعة إصلاح الجامع وترميمه.

(نفس المرجع السابق نقلاً عن المؤرخ البصروي).

5 ـ الحريق الخامس:السبت 4 ربيع الآخر سنة 1311هجري الموافق 17 تشرين الاول سنة 1893م:

وهو آخر حريق تعرّض له الجامع،وسببه أن أحد العمال الذين يصلحون سقف الجامع،أشعل ناراً(كان يدخن نارجيلة وهو يقوم بالتصليحات) في يوم عاصف،في الجهة الواقعة فوق باب الزيادة القبلي،فلم تلبث النار أن انتشرت انتشارها في الهشيم،وعمّت الجامع كله،ولم تمض ساعتان ونصف حتى أتت عليه،فاحترق الحرم كله والرواق الشرقي ومشهد الحسين،وسوق القباقبية والقوافين،كما احترق زقاق”الحمراوي” المجاور،وأصبح الجامع قاعاً صفصفاً،ليس فيه إلا جدره والجهة الغربية من الصحن،ومن الآثار النادرة التي احترقت مصحف عثمان الذي غفل الناس عنه لانشغالهم بإطفاء الحريق”.

ولم يسلم إلا المشهد الغربي وبدأ الناس بإزالة الأنقاض من الجامع وبعد أن تمت عملية التنظيف بدىء بجمع التبرعات وتسابق الناس إلى الجود والعطاء.

وفي عام 1314 هجري الموافق 1896 م بدأت عمليات ترميم المسجد بأمر من الوالي ناظم باشا  وبإشراف لجنة مشكلة لهذا الغرض برئاسة رئيس مجلس إدارة الولاية أحمد باشا الشمعة ودام العمل تسع سنوات وقدرت النفقات بسبعين ألف ليرة ذهبية.

نظم العالم السيد علي الألوسي قصيدة إثر حادثة الحريق التي لحقت الجامع الأموي سنة 1311هجري وقبل تعميره وإعادته وقال فيها:

الله من نوب الزمان فكم لها        من فاجعات أعظمت وقعاتها

بالجامع الأموي قف متفكراً        في حادث عمّ الورى بجهاتها

نار تطاير بالقلوب شرارها         وتصاعد الزفرات من زفراتها

يا جامعاً جمع المحاسن إذ غدا    للشام شامتها وعين حياتها

قد كنت مجتمع الفضائل والتقر    في المسلمين لدرسها وصلاتها

ولطالما قصدت إليك أولو النهى   تبغي الأسانيد العلا برواتها

ثم ختمها بهذا البيت:

وكذا الزمانُ مسر ومساءة         هذي الحياة وهذه حالاتها

قالوا في الجامع الأموي:

يقول علّامة دمشق الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله(مقال بعنوان:من صور الحياة في دمشق:في صحن الجامع الأموي ـ مجلة الرسالة العدد 89:

“في أمسية طلقة(من صيف سنة 489هجري) خرج الناس على عادتهم ـ إلى صحن المسجد الأمويّ ـ فبسطوا فيه البسط،وأسرجوا السرج،حتى(كاد المسجد يقطر ذهباً،ويشتعل لهباً)،وأقبلوا عليه زرافات ووحداناً،يقضون بالصلاة  حق الله عليهم،وبالاجتماع والتعاون حقّ بعضهم على بعض،ويعودون بثواب الله،واطمئنان النفس وراحة البال.

وليس أشهى إلى النفس،ولا أحلى في العين،من صحن الأمويّ في ليالي الصيف،وإن المرء ليطوف ما يطوف،وينشق عبير الأزهار،ويسمع تغريد الأطيار،ويصعد الجبال تتفجر منها العيون،ويدخل الجنان تجري من تحتها الأنهار،ثم يعود إلى الأمويّ فيراه أجمل من ذلك كله،ويجد في نفسه حين يجلس فيه هزّة طرب،ونفحة أنس،لا يجدهما في شىء من ذاك…

وكانت عشيّة ريحة،تنسم نسماناً منعشاً،فامتلأ المسجد بالناس وهم بين متوضىء يخلع رداءه فيلقي به على بلاط المسجد الأبيض الناعم،ويسرع إلى قبة الماء،وهي(في وسط الصحن) وهي صغيرة مثمنة،من رخام عجيب،محكم الإلصاق،قائمة على أربع سوار من الرخام الناصع.وتحتها شباك حديد في وسطه انبوب نحاسي،يمجّ الماء إلى علو،فيرتفع ثم ينثني كأنه قضيب(لجين) وقد زينت جوانبها بالمصابيح،ومصل يبتغي جماعة فلا يلبث حتى يجدها فيقوم في الصف خاشعاً،يشغله جلال الله الذي يقف بين يديه،عن الدنيا التي خلفها وراء ظهره.وجالس إلى حلقة من هذه الحلقات الكثيرة يستمع إلى محدث أو فقيه أو واعظ،أو ينصت لقارىء،أو يذكر الله مع الذاكرين،أو مستند إلى اسطوانة من الأساطين أو محتب تحت رواق من الأروقة،يقرأ في مصحف،أو ينظر في كتاب،أو يسبح على أصابعه،أو يتفكر في شأن من الشئون،أو ينتظر الصلاة فينعم بجمال المسجد،ورقّة النسيم،ويكون من انتظاره الصلاة كأنه في صلاة.

وكان حيال قبّة زين العابدين(قبّة الساعات)في شرقي المسجد،رجل رثّ الثياب،ما عليه إلا مزق مردمه،وخلقان بالية.يرنو بعينه إلى الناس تارة،وينظر إلى المسجد أخرى،فيقرأ فيه تاريخاً جليلاً،يقرؤه في هذه القبة الباذخة،قبّة النسر،وهي(من أعجب مباني الدنيا،ومن أي جهة استقبلت المدينة بدت لك قبة النسر،ذاهبة في الهواء،منيفة على جميع مباني البلد).

وهذه المنارة العالية التي يسميها الناس(منارة عيسى) لما جاء في الحديث أن عيسى عليه السلام ينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق،ويعجب من سموقها وارتفاعها.وهذه المنارة العربية التي بناها المسلمون،فأجادوا بنيانها،ووضعوا فيها العجائب من براعة الزخرف،ودقة النحت،والضبط والأحكام.

والمنارة الشمالية(منارة العروس)وقد ازينت وأوقدت فيها المصابيح،وقام في شرفتها المطلة على الصحن(المؤقت) ليعلن دخول العشاء .

ودخل المسجد قروي له مسألة.فسأل عن مجلس المفتين حتى دُلّ عليه عند قبة عائشة،فجاء فعرض عليهم مسالته،فلم يجد عند واحد منهم جوابها.فذهب يدور على الفقهاء والمحدثين يسألهم،فلم يفز منهم بطائل،فيئس منهم وهمّ بالخروج من المسجد….والفقير ينظر إليه،ويعجب من حاله وحالهم.وعزّ عليه أن ينصرف آيساً،فأشار إليه فلما جاءه قال:اعرض علي مسألتك…فضحك القروي وصاح:انظروا يا قوم إلى هذا المجنون!إنه يجيبني عن مسألتي،وقد أعجزت المفتين والفقهاء وأصحاب الحديث! فأقبل الناس على الصوت،وطفقوا يتكلمون،فقال قائل:دعه فإنه مجنون..وقائل:لا عليك أن تسأله فلعل عنده علماً…وقائل:سله واحمل جوابه إلى المفتين،فانظر ما هم قائلون؟

ثم سكتوا،وسكت كل من في المسجد،وانقطعت أصوات القراء والمدرسين والذاكرين،ولم يبق فيهم متكلم،لأنها قد تكلمت فوق رؤوسهم النبوة،وسمعوا(الله أكبر) تدوي في نواحي المسجد،تهبط عليهم من المآذن كأنما هي هابطة من السماء،فيها روعة الوحي،وجلال الدين،وجمال الإيمان….فتقوضت المجالس،ورصت الصفوف،وتحاذت المناكب،وقال الإمام:الله أكبر…فماتت الدنيا في نفوسهم وامّحت منها الشهوات،وطمست فيها الميول،لأنه مهما يكن من كبير فالله أكبر! ولا إله إلا الله.فلما قضيت الصلاة،عادوا إلى القروي،فقالوا له:اذهب فسل صاحبك.فذهب إليه،فقال:ياهذا ،زعمت أنك قادر على الجواب،فهل أنت على قولك؟قال: أستعين بالله.قال:وقد أعجزت المفتين وحيرتهم،أفأنت تستطيع أن تجيب عليها؟قال: أستعين بالله.قال:هي كذا وكذا…قال الجواب:كيت وكيت.وابتدر الفقير الباب!

وحفّ الناس بالقروي،فقالوا:هل أجابك؟بم أجابك؟قل لنا بماذا أجابك؟

فقال:وما أنا بقائل لكم حرفاً حتى ألقى المفتين،وأسرع وأسرع معه الناس إلى المفتين،وقد عادوا إلى مجلسهم,فقال:أرأيتم ذلك الفقير؟قالوا:نعم.قال: قد أجابني عن مسألتي فضحكوا من جفائه وجهالته،وقالوا: بم أجابك؟قال: بكذا وكذا فلما سمعوه أخذ منهم الجدّ مأخذه،ونظر بعضهم إلى بعض وكلهم مشدوه حائر لا يدري مم يعجب:أمن كثرة علم الرجل مع رثاثة هيئته.أم من رثاثة هيئته مع كثرة علمه،ثم انتهوا،فقالوا:ويحكم،أدركوا الرجل،فإن له لشاناً،وما نظنه إلا آية من آيات الله جاءت تُرينا حقيقة العلم،وسمو الفقر،وجلال التواضع…أدركوا الرجل.

فقالوا: قد خرج.

قالوا: أو ليس فيكم من يعرفه؟

فقال رجل من القوم:والله ما رأيناه إلا في السميصاتية وقد نزلها منذ أيام،فكان ينظف كنفها ومراحيضها،ويتخذ مجلسه على الباب.حتى أذنوا له بالدخول.وما رأيناه إلا عاكفاً على صلاة أو مشتغلاً بتسبيح،ولم يكلم أحداً!

قال المفتون:ويحكم ،قوموا بنا إليه.

فلما دخلوا عليه،قالوا: من أنت؟

قال: رجل من الناس.

قالوا:سمعنا جوابك،وإنا نسألك بالله الذي لا إله إلا هو إلا ما أخبرتنا من أنت.

قال: إنا لله وإنا إليه راجعون…أما وقد أقسمتم،فأناأبو حامد الغزالي.

فصاحوا:حجّة الإسلام! وانكبوا على يديه يقبلونهما،ويسألونه أن يعقد لهم مجلساً في الغد.ثم انصرفوا.فلما كان الغد نظروا فإذا …الشيخ قد فارق دمشق!

وفي مقال آخر للشيخ العلامة علي الطنطاوي رحمه الله يقول:

“وقد تشرّفت فزرتُ آلافاً من المساجد،في الداني والقاصي من بلاد الإسلام،عامرها وداثرها،فرأيت المسجد الحرام،ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم،والمسجد الاقصى،والأزهر المعمور،ومسجد أبي حنيفة والجيلاني في بغداد،وابن طولون والمتوكل في القاهرة،وسرَّ من رأى،وآثار مسجدي الكوفة والبصرة،والمسجدين العظيمين:المسجد الجامع في دهلي،وآثار مسجد قوة الإسلام في دهلي القديمة،ومساجد الملايا وجاوه،فما رأيت فيها كلها بعد المساجد الثلاثة التي ميّزها الله وجعل الصلاة فيها أفضل بدرجات،مسجداً هو أقدم قدماً،وأفخم مظهرا،وأجمل عمارة،وأحلى في العين منظراً،من الجامع الأموي في دمشق.

كان مدرسةَ دمشق،فيه الحلقات يدرّس فيها كل علم،وكان النادي يجتمع فيه الناس كلما دهم البلدَ خطب،وكان الأموي في عهد نشأتنا الأولى لبّ دمشق،فكانت الدار القريبة هي القريبة من الاموي،والبعيدة هي البعيدة عن الأموي،وكانت الأرض الغالية هي التي جاورت الأموي ،وكان الأموي ملعبنا ونحن أطفال،ثم كان مدرستنا الثانية ونحن طلاب،ندخله إذا انصرفنا من المدرسة فنصلي فيه،ونقف على حلقاته،وما كان يخلو وقت فيه من حلقتين أو أكثر،وكنا نتبوأ مقاعدنا في بعضها،نأخذ الفقه والحديث واللغة والنحو،وكنا نؤمّه في عشايا الصيف مع آبائنا،نتخذ من صحنه متنزهاً وأُنساً،وكنا نؤمّه في ليالي الشتاء نتخذ من حرمه ملجأ وأمنا،وكان الأموي مثابة النضال الوطني على عهد الانتداب،فيه تُلقى الخطب،وفيه تُعَدّ المظاهرات،ومنه تسري روح النضال في الناس،فكان للدين والدنيا،وللعبادة والعلم،ولكل ما فيه رضا الله ونفع الناس،وكذلك يكون المسجد في الإسلام.

وأكثر ما كثر عليه تَردادي،واتصل به حبلي،لما كنت في المدرسة الجَقمقية،ثم لما صرت من بعد في مكتب عنبر،وأُولعت من أيام الجقمقية(سنة 1919م) بأن أنقل كل خبر أجده عن الأموي،واستمر ذلك أكثر من أربعين سنة،فاجتمع لي من الأوراق والجذاذات والمذكرات ما يملأ درجاً كبيراً.وكنت كلما عزمت على تصفيته،وإخراجه في كتاب،تعاظمني الأمر فتهيبته،وقد جمعت كل ما وجدته عنه في ابن عساكر،و”الدارس”و”محاسن الشام”و”مسالك الأبصار”و”البداية والنهاية”و”الروضتين”وذيله،و”شذرات الذهب” و”معجم البلدان”و”النجوم الزاهرة”و”تاريخ ابن القلانسي”،و”السلوك”للمقريزي،وكتب ابن طولون،وما كتبه القاسمي وبدران.ورأيت بعض الرسائل المخطوطة وكتباً أخرى لا أريد الآن إحصاءها.

وكنت كلما تقادم العهد،ازدادت هذه الأوراق كثرة،وازددت لها تهيباً،حتى إذا صح مني العزم قليلاً،استخرجت سلسلة الأحاديث التي كنت حدّثت بها من إذاعة دمشق عن الأموي من سنين ثم تركتها،فلما طلبت مني المديرية العامة للأوقاف أن أكتب شيئاً عن الأموي،يكون كالدليل للسائح،استخرجتُ منها هذه الخلاصة التي أقدمها اليوم،على أني سأخرج إن شاء الله الكتاب الكبير عن الأموي وكل خبر فيه معزو إلى مصدره”.

وفي مقال آخر بعنوان”وقفة على طلل”نشر في مجلة الرسالة العدد 614 يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله:

“هذا هو( الأموي)لا يزال على عظمته وجلاله،لا يُدانيه في سعته وفخامته مسجد في دنيا الإسلام،غير أن صورته في ناظري قد تبدلت وامحت روعتها وبطل سحرها.وماذا تصنع الجدران والسقوف إذا ذهبت الوجوه،ومضى الساكنون،وتغيّرت الروح؟لقد أضحى الأموي غير الأموي،فلا دروسه تلك الدروس،ولا علماؤه أولئك العلماء.ولا جوه ذلك الجو.إن المدن كالأشخاص تخلق كل يوم خلقاً جديداً.وقد ماتت دمشق التي نشأنا فيها،دمشق الإسلامية المرحة الفاضلة التي لم يكن فيها ماخور مشهور ولا ميسر ظاهر ولا عورات باديات،ولا حانات ولا ملهيات،وكانت فيها المرأة لبيتها،والرجل لأهله،والعلماء عاملون بعلمهم،مُطاعون في أمتهم،والحي كالبيت الواحد في تعاون أهله وتعاطفهم،والمساجد عامرة والرجولة بادية،وأهل الدين لا يأكلون به الدنيا،ولا يتخذونه تجارة.فيا أسفي على دمشق التي ماتت! ويا رحمة الله على تلك الايام:أيام لم نكن نعرف من الدنيا إلا المتع الفاضلة والفضائل الممتعة،نلهو ونلعب ولا كلهو فتية اليوم ولا كلعبهم.كان أقصى ما نأتيه أن نركض في الأموي،أو ننقسم عند المساء قسمين،فنقيم بيننا سوق حرب سلاحها المقالع والعصى،وقد نجرح أو نكسر،ولكننا نتعلم الرجولة والقوة ثم نرجع متفقين،وأن نتلهى عن الدرس بقراءة قصة عنتر وحمزة البهلوان،نتلقى منهما ما ينقصنا من علم الكر والفر والمبارزة والقتال،وأن نمكر بالمدرسين،وإن أممنا لهواً وأردناه،فشهود خيال الظل (كراكوز) .أما التأنق والتجمل والترقق فلم نكن ندري منه شيئاً”.

وجاء في دائرة سفير للمعارف الإسلامية:الجامع الأموي:

هو المسجد الجامع بمدينة دمشق.أنشأهُ الخليفة “الوليد بن عبد الملك بن مروان” سنة 88هجري الموافق 706م،وجاء تصميمه على هيئة المسجد النبوي بالمدينة،وهو أول مسجد يتضمن محراباً ومقصورة ومآذن وميضأة.وعنه أخذت المساجد الاخرى شكلها وترتيبها،مثل:المسجد الأقصى،الذي بُني سنة 96 ـ 97 هجري الموافق 714 ـ 715م،وجامع القرويين بفاس،الذي بُنى سنة 193هجري الموافق 808م،والمسجد الجامع في قرطبة الذي بُنى سنة 170 هجري الموافق 786م.

وقد استغرق بناء المسجد تسع سنوات،وقيل:اشترك في بنائه نحو اثنى عشر ألف عامل.وتُوفى الوليد قبل أن يكتمل بناء المسجد بعام،فأكمله أخوه”سليمان بن عبد الملك” ،وتكلف البناء نفقات طائلة،قيل:إنها بلغت نحو أحد عشر ألف ألف دينار ومائتي ألف دينار.

ولما أستخلف عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه شكا النصارى إليه ما قام به الوليد بن عبد الملك حيث ضمّ الجزء المتبقى من كنيسة يوحنا المعمدان إلى المسجد،فكتب عمر إلى عامله يأمره بردِّ ما زاد في المسجد إلى النصارى،فكره أهل دمشق ذلك،وقالوا:نهدم مسجدنا بعد أن أذّنّا فيه،وصلينا،ويُردُّ بيعه!وكان فيهم سليمان المحاربي وبعض الفقهاء فعرضوا على النصارى أن يعطوهم جميع الكنائس التي في “الغوطة”،وكانت تقع جميعاً في الجزء الذي فتحه المسلمون عَنوة من دمشق،على أن يتنازلوا عن كنيسة يوحنا،ويمسكوا عن المطالبة بها،فرضوا بذلك وأعجبهم.

وقد أراد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أن يجرد محراب المسجد من الذهب ،وقال:إنه يشغل المصلين في الصلاة،إلا أنه عدل عن هذا الأمر،إذ وجد فيه غيظاً للعدو.وكان وفد من الروم قد ساءهم ما رأوا من جمال المسجد وزخرفته.

وقد تعرض المسجد لعدد من الحرائق والزلازل،التي أتت عليه كليّاً وجزئيّاً،وأثرت فيه تأثيراً مباشراً،ففي سنة 132هجري الموافق 749م أصيب المسجد بزلزال أدى إلى تشقق سقفه،ثم تعرض لزلزال سنة 233هجري الموافق 847م أدى إلى سقوط مئذنته وتراكم الأحجار فيه كأنها جبل،ثم أصيب بحريق كبير سنة 461هجري الموافق 1068م أتى على المسجد كله،ولم يبقَ منه إلا الجدران،وظل المسجد على تلك الحالة بعد حريقه نحو أربعة عشر عاماً،حتى قام”نظام الملك”وزير “ملكشاه السلجوقي” بتجديد عمارة السقف والقبة وسقف المقصورة والطاقات والأركان الاربعة.

وفي سنة 503 هجري الموافق 1109م تم تجديد الحائط الشمالي القديم بأمر الوالي”طغتكين”،وذلك في خلافة “المستظهر بالله” العباسي،ثم شبّ حريق كبير في المسجد سنة 570هجري الموافق 1174م أتى على مئذنة العروسة،لكن “صلاح الدين الأيوبي” أمر بتجديدها في العام نفسه.وفي سنة 597هجري الموافق 1200م أصيب الجامع بزلزال شديد،أدى إلى هدم قسم من المنارة الشرقية وسقوط قبة النسر،وقد أسندت بأوتاد خشبية.وفي سنة 600 هجري الموافق 1203م أمر الملك العادل الأيوبي بتبليط صحن المسجد.

وفي سنة 668هجري الموافق 1269م كان الناس يتخذون المسجد مكاناً للنوم،وأقاموا فيه الخزانات والمقصورات التي قاربت الثلاثمائة،لكن الملك الظاهر”ركن الدين بيبرس” أزالها،ثم تشققت جدران المسجد إثر زلزال عنيف وقع سنة 702 هجري الموافق 1302م.وقد قام الأمير “تنكز” بإعادة بناء المنارتين الشماليتين،بالإضافة إلى دعم الجدار القبلي من جانبيه الشرقي والغربي.

وفي سنة 740هجري الموافق 1339م شبّ حريق أتى على المئذنة الشرقية وقسم من الجانب الشرقي من المسجد،غير أن أعنف حريق تعرض له المسجد هو الحريق الذي وقع في سنة 1311هجري الموافق 1893م حيث أتى على المسجد كله،ولم يبق منه إلا الجدران،وذلك في ساعتين ونصف الساعة،والتهمت النيران كل محتويات المسجد النفيسة.

وفي سنة 1314 هجري الموافق 1896م بدأ بناء المسجد ثانية،وأنجز النصف الشرقي في سنتين،وافتتح في رمضان سنة 1316هجري الموافق كانون الأول 1898م،وقد اكتمل البناء كله في تسع سنين،وأفتتح في 28 جمادى الأولى سنة 1320هجري الموافق 3 إيلول سنة 1902م.

وللمسجد ثلاثة مداخل محورية،وكان في كل ركن من أركانه الأربعة برج،ولا يزال البرج الجنوبي الغربي باقياً حتى اليوم.

ويتألف المسجد من صحن،تحف به أربعة أروقة،أكبرها رواق القبلة الذي يشتمل على ثلاث بلاطات موازية لجدار القبلة،تغطيها ثلاثة جمالونات،ويفصل بين كل منها بائكات،تتألف من صفين من العقود،ترتكز على أعمدة رخامية،ويقطع البائكات مجاز يمتد من الصحن إلى المحراب،ويرتفع سقفه أعلى من سقف البلاطات،ويعلوه جمالون.

وفي هذا المجاز القاطع قبة حجرية ترجع إلى عصر متأخر عن عصر بناء المسجد،تسمى”قبة النسر”،وقد أعيد تجديدها على غرار شكلها الأصلي بعد احتراقها هي والمسجد سنة 1311هجري الموافق 1893م.

وتحف بالصحن بائكات،ترتكز على دعائم وأعمدة،نظامها على هيئة عمودين،ثم دعامة على التوالي.ومن الملاحظ أن بعض الأعمدة قد استبدلت بها دعائم.

وعقود بائكات الصحن على هيئة حدوة الفرس،ويعلوها صف من النوافذ،بحيث يعلو كل عقد نافذتان.

وكان المسجد مفروشاً يالرخام،كما كانت جدرانه  مصفحة بالرخام بارتفاع قامة،ثم بزخارف من الفسيفساء،لا يزال بعضها باقياً بالرواق الغربي.

وبالمسجد بضع نوافذ تشتمل على أقدم زخارف هندسية إسلامية معروفة،ويتضح فيها التأثير الإغريقي الروماني.

وتعتبر أبراج المسجد الأربعة ـ المآذن الأولى في الإسلام وبقى تأثرها في تصميم المآذن، ولا سيما في شمالي إفريقية والأندلس.ويتضح أثر تصميم المسجد في مسجد قرطبة ومساجد غربي العالم الإسلامي عامة.

وجاء في كتاب حدائق الإنعام في فضائل الشام لإبن عبد الرزاق الدمشقي ـ فصل الجامع الأموي ـ ):

“روي عن أبي ثوبان أنه قال:”ما ينبغي أن يكون أحد أشدّ شوقاً إلى الجنة من أهل دمشق،لما يرون من حسن الجامع الأموي”.

ويحكى عن الفرزدق أنه قال:”أهل دمشق في بلدهم قصر من قصور الجنة ـ يعني الجامع الاموي ـ .

ويُحكى أنه لما قدم الإمام المهدي(الخليفة العباسي) يريد بيت المقدس دخل مسجد دمشق،ومعه كاتبه الأشعري فقال له:سبقتنا بنو أمية بثلاث.قال: وما هي يا أمير المؤمنين؟قال: بهذا البيت،وما أعلم على وجه الأرض مثله،وبعمر بن عبد العزيز،ولا يكون فينا ـ والله ـ مثله، وبكثرة الموالي، وليس لنا مثلهم.ثم أتى بيت المقدس،فدخل الصخرة،فقال لكاتبه:يا أبا عبد الله،وهذه رابعة،فإن الوليد هو الذي بنى قبّة الصخرة من بيت المقدس،وبنى المسجد النبوي ووسّعه،حتى أدخل الحجرة الشريفة فيه.

ومن شرف هذا الجامع أنه لا يخلو من مصلٍّ فيه،وتال لكتاب الله تعالى ،أو ذاكر،أو متعلم. ولا يخلو من صلاة الجماعة في وقتي الظهر والعصر والمغرب.ومما قيل فيه:

بجامع جلّق ربِّ الزعامة           أقمْ تلقَ العناية والكرامة

ويمِّمْ نحوه في كلِّ وقتٍ             وصلِّ به تصِل دارَ الإقامة

مُصَلّى فيه للرحمنِ سرٌّ             ومثوى للقبولِ بهِ علامة

دمشق لم تزل للشام وجهاً          ومسجدها لوجهِ الشام شامة

وجاء في نفس المرجع أيضاً:

“وأما قبر سيدنا يحيى الحصور بن زكريا عليهما السلام فإنه بجامع بني أمية بدمشق الشام،وقد دفن فيه رأسه،وضريحه هذا عليه المهابة والأنس والوقار،يُقصد للتبرك والتضرع إلى الحي الكريم الغفار،وتلتمس عنده العامة وألاباب المعارف والمعارج مشاهدة الأنوار والأسرار وقضاء الحوائج.وكيف لا وهو المذكور في القرآن بالفضائل الجليلة،والمنعوت فيها بالنعوت الشريفة الجميلة.وقد خصّه الحي الواحد الأحد بأنه لم يتسم قبله باسمه أحد.وقد قُتل ظلماً وهو يصلي.قال في تهذيب الأسماء:اتفق العلماء على أن سيدنا يحيى عليه السلام قُتل ظلماً شهيداً،وأُخذ رأسه ووضع في طست،وقُدِّم لأعدائه.

ـ جامع التوبة

جامع التوبة:

في محلة العقيبة،من مساجد دمشق الأيوبية، وهو أحد جوامع دمشق السبعة المشهورة:الجامع الأمويّ وجامع يلبغا وجامع التوبة وجامع الدقاق وجامع باب المصلى وجامع الحنابلة وجامع تنكز.

ويذكرون في سبب تسميته جامع التوبة أنه كان في أول أمره خاناً(يقال له خان الزنجاري) يلجأ إليه الفساق وأهل الخلاعة والبطالة،وتمارس فيه المنكرات جهاراً، فرفع أهل المحلة خبره إلى الملك الأشرف موسى بن الملك العادل صاحب المدرسة العادلية فاشترى الأشرف الخان وحوله إلى جامع سنة 632هجري، وأوقف عليه أربع عشرة دكاناً كانت تقع شماله،وأشرف على العمارة ناظره يحيى بن عبد العزيز.فسماه الناس جامع التوبة إشارة إلى توبته مما كان يقع فيه من المناكر.

احترق المسجد سنة 699هجري في فتنة غازان ملك التتار الذي اجتاح دمشق يومئذ فجُدد،ثم خرّبه جنود تيمورلنك سنة 803 هجري فأعيد تجديده على يد الأمير شاهين الشجاعي الذي أوقف فيه حلقة لدراسة القرآن الكريم عرفت بالمدرسة الشاهينية.

وتضررت مئذنته في زلزال سنة 1173هجري.

تعرض لقنابل القوات الفرنسية يوم 29 آيار فأعيد تجديده.,اجريت عليه بعض الترميمات سنة 1931م.

يبلغ طول الجامع نحو 75 خطوة وعرضه نحو 45 ،وأهم ما فيه من الآثار محرابه الباقي على رونقه من عهد إنشائه وقد قام قوسه على عمودين مبرومين من الرخام الأبيض بشكل جميل.وقنطرته محلاة بنقوش بارزة أندلسية متخذة من الجص وقد أحيط أعلى المحراب بإطار جميل مؤلف من كتابات كوفية مشجرة وفي ذروة قنطرة المحراب دوائر مثمنة كتب في كل واحد منها أسماء الجلالة والنبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الأربعة.وفي الوسط دائرة مؤلفة من كتابات كوفية مشجرة وعن يمينها وشمالها صورة محراب صغير فيه نقوش بديعة وبالجملة فإن هذا المحراب قد يكون أنفس أثر في دمشق من حيث تمثيله الفن العربي في القرن التاسع للهجرة.

ولجامع التوبة بابان أحدهما في نصفه الشمالي،والثاني في شرقه إلى جهة الشمال،وهو أعظمُ من الأول وبأعلاه نقوش ناتئة مقرنصة وقد كتبت على عتبة بابه خلاصة وقفية الجامع وهذه صورتها:

بسم الله الرحمن الرحيم إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله.أمر بعمارة هذا الجامع المبارك المولى السلطان الملك الأشرف أبو الفتح موسى بن السلطان الملك العادل أبي بكر بن أيوب تغمدهم الله برحمته وذلك في سنة اثنتين وثلاثين وستمائة وتمم عمارته وجددها خطيبه الناظر في أمره العبد الفقير إلى الله تعالى يحيى بن عبد العزيز بن عبد السلام أثابه الله الجنة والوقف عليه جميع الحوانيت الملاصقة لجداره الشرقي وهن أربع عشرة حانوتا وعضادة مجاورة لمنارته من الشام وحانوتان وعضادة تحت الحجرة المنشأة لسكن الخطيب وخمس حوانيت وعمارة سادسة شمالي المسجد المحاذي لهذا الباب وطباقهن ثلاث حجر انشاء الخطيب وخزانة في مجازهن وفندق غربي دار البطيخ تحت القلعة وكتب في سنة تسع وأربعين وستمائة والحمد لله وحده.وكتب أسفل هذه الأسطر بخط دقيق:وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه.

(الأستاذ محمد أحمد دهمان ـ أحد أعداد مجلة المجمع العربي بدمشق)

ولقد أجريت للمسجد عملية تجديد شاملة سنة 1408 هجري،تناولت جداره الشمالي الخارجي وأرض الحرم وأبوابه وشتى مرافقه.

وهو اليوم ما يزال يحتفظ ببعض الآثار القديمة المتمثلة بمنارته المتينة وواجهته الشرقية،وصحنه وأبوابه،والموضأ ذي القبة الجميلة وجداره الشمالي وبعض نقوش في الداخل.

مسجد الجامعة

جاء في مقال للدكتور محمد بن لطفي الصباغ رحمه الله وأسكنه فسيح جناته(رسائل مسجد الجامعة ـ المجموعة الثانية):

“فإن الجامعة السورية كانت في الأصل ثكنة عسكرية،أقامها العثمانيون في ظاهر البلد بدمشق،على عادة الدول في إنشاء ثكنات الجند،يجعلونها خارج المدينة.

وكان في وسط تلك الثكنة مسجداً،لأن الحياة العسكرية والمدنية كانت ماتزال قائمة على أساس الإسلام…فلا بدّ من قيام المسجد في كل مؤسسة من مؤسسات الدولة المسلمة.وكنا ندعوها:بالقشلة الحميدية،نسبة إلى بانيها السلطان عبد الحميد.

وخرجت تركيا من بلاد الشام…وجاء الفرنسيون مُستعمرين،فاحتلوا الثكنات،وأنزلوا فيها جنودهم،وكانت القشلة الحميدية واحدة منها.وإمعاناً منهم في الإساءة إلى هذه الأمّة المنكوبة اتخذوا المسجد لأمور أخرى هي أبعد ماتكون عن حرمة المسجد.

وعانت الأمة من بطش الفرنسيين ما عانت..ولكنها لم تلن لها قناة معهم،ولا استسلمت لجبروتهم مدة بقائهم،وقاومتهم بالإسلام وتحت لوائه،واستطاعت هذه الجموع المسلمة بفضل من الله أن تحرر بلاده من الاستعمار،وأن تطرد الفرنسيين وأن تبدأ العهد الوطني…وكان مما صنعته الحكومة الوطنية أن اتخذت هذه الثكنة مقراً للجامعة السورية التي أنشأتها في مطلع عهدها،وكانت كلياتها هي الطب والحقوق والصيدلة والعلوم والآداب.وكليتا الطب والحقوق كانتا في أيام العهد الفيصلي والانتداب بعنوان المعهد الطبي ومعهد الحقوق.

وقد ذكر أستاذنا الشيخ محمد بهجة البيطار رحمه الله أن هذا المكان الذي تقوم فيه تلك الثكنة والمستشفى الوطني الذي أصبح فيما بعد مستشفى الجامعة،وكنا ندعوه قبل ذلك:بمستشفى الغرباء.هذا المكان هو مقبرة الصوفية التي كانت خارج دمشق.وقد دفن فيها ـ كما تحدث كتب التراجم ـ عدد كبير من رجالات العلم والسياسة والجاه والثروة،وما يزال قبر شيخ الإسلام ابن تيمية فيها معروفاً حتى الآن.

فصار طلاب الجامعة يُصلون في المسجد القائم في وسط الجامعة،وكان مكاناً مهجوراً كأنه مستودع.فعاد إلى الغرض الذي بني من أجله،وهو عبادة الله وإقامة الصلاة وذكر الله وقراءة القرآن.

وكان هذا المسجد شجىً في حلوق عدد من الطلبة والأساتذة الذين لا يريدون أن تصطبغ الجامعة بالصبغة الإسلامية،ذلك لأن أعداءنا استطاعوا ـ مع الاسف ـ أن يخدعوا شباباً من شبابنا ويزينوا لهم سبيل الغيّ،ويلبِّسوا عليهم قائلين:إن سبب تخلفكم هو ارتباطكم بالدين…لقد كان هؤلاء المخدوعون يريدون اقتلاع المسجد…ولكنهم لم يستطيعوا.

وبعد أربع سنوات من نشوء الجامعة دخلتُ كلية الآداب في سنة 1369 ـ 1370 هجري الموافق 1950 ـ 1951م إذ أنشئت الجامعة سنة 1365 ـ 1366هجري الموافق 1946 ـ 1947م،أي بعد جلاء الفرنسيين عن بلاد الشام.وكان المسجد مايزال يتعرض للكيد والمكر.

فشكلت أول لجنة لهذا المسجد وكانت مؤلفة من الأخ سعيد الطنطاوي والأخ هيثم الخياط وكاتب هذه السطور،وكنا كلما سمعنا بخبر يتصل بكيد للمسجد شكلنا وفداً كبيراً من الطلاب ودخلنا على رئيس الجامعة نطالبه ببسط وحصر وتهيئة مكان لوضوء الطلاب،وكان وقتذاك الدكتور قسطنطين زريق.وهو أستاذ لبناني الجنسية أعير من الجامعة الأميركية في بيروت.وكنا نصل في أحيان كثيرة من وراء هذه المقابلات إلى غرضين هما:ترسيخ أركان المسجد،والفوز بعدد من البسط والحصر والإصلاحات.

وفكرت اللجنة بوسيلة تثّبت بقاء المسجد إلى الأبد،وتقطع على الخصوم طريقهم فكان اقتراح أن تُصلى الجمعة فيه.

وكانت الصعوبة في وصول المصلين إلى المسجد،والطلبة يوم الجمعة قليلون،والجامعة في خارج البلدة،لأن دمشق كانت ماتزال في حدودها التي أدركناها…لم تتوسع هذا التوسع الذي يراه المرء اليوم.

وقد قررنا ـ من أول يوم ـ أن نقيم صلاة الجمعة فيه على السنّة،وأن لا تكون فيه بدعة من البدع التي تعجّ بها مساجد الشام ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وبدأنا  ـ نحن أعضاء اللجنة ـ ننشط في إقناع الطلاب بأن يؤدوا صلاة الجمعة في مسجد الجامعة،وصلينا أول جمعة وكان عددنا قليلاً جداً

ثم رأينا أن نطلب من خطيب من خطباء الشام المشهورين أن يخطب الجمعة في هذا المسجد،ثم سعينا لدى مديرية الأوقاف ومديرية الإذاعة لنقل الخطبة من خلال إذاعة دمشق من المسجد.ولم تكن في ذاك الوقت وزارة للأوقاف ولا وزارة للإعلام.ورأينا أن ذلك يكون دعوة لقصد هذا المسجد والإقبال على الصلاة فيه..وتمّ لنا ما أردنا..وكررنا هذه التجربة مرات.

ولم يمض وقت طويل حتى أضحى المسجد مقصوداً من كل نواحي المدينة،وكان يؤمه نوعان من الناس:

المثقفون الذين يتطلعون إلى سماع خطبة من مستوى مرتفع في المعنى والأسلوب.

ومُحبو السنة الذين يكرهون البدع وينفرون منها ولا يجدون مسجداً واحداً يخلو منها غير هذا المسجد.

وكثر عدد المصلين فيه حتى أصبحوا يملؤون الحدائق الواقعة في وسط الجامعة المُحدقة بالمسجد والحدائق المحيطة بالجامعة وأروقة كلية الطب.

وجنّ جنون المُبتدعة كيف يقوم في دمشق جامع لا بدعة فيه.وحاولوا إرسال نفر من أتباعهم ليقرؤوا فيه شيئاً مما يتصل ببدعهم،فعمد واحد منهم ـ نسأل الله له الخير والتوفيق والنجاة ـ إلى قراءة شىءٍ من ذلك وكانت الصلاة منقولة بالإذاعة،فطلبت من المؤذن أن يؤذن فوراً..فأذّن وذاك يقرأ..ولم نمكنه من إحلال البدعة في هذا المسجد.

وكنا نخاف أن يرسل هؤلاء المبتدعة ناساً يفرضون بدعهم بالقوة فتقع فتنة ويقوم صدام،يؤديان إلى إغلاق المسجد،وبلغنا أنهم أعدّوا لذلك فقام الأخ الكريم زهير الشاويش بتصرف فيه حكمة وفيه تخويف هؤلاء القوم من أن يقدموا على إثارة الشغب والتشويش،فصرفت الفتنة واستمر المسجد على السنّة من غير بدعة،وبقيت خطبة الجمعة فيه.

وكان مسجد الجامعة منبراً حرّاً جريئاً،تُقال فيه كلمة الحقّ بقوة وإقدام،لا يبالي الخطيب بالمتاعب والعقبات ولا يخشى في الله لومة لائم.

وما زلت أذكر خطبة أستاذنا الشيخ علي الطنطاوي التي أنكر فيها على مدارس دوحة الأدب ما قامت به في حفلتها السنوية التي كان فيها رقص البنات أمام الناس الأجانب على وجه يخالف الحشمة والآداب الإسلامية وأعلن أن كل من أرسل بنته لهذا الحفل فهو:ديوث كما يقضي بذلك حديث صحيح وكانت الخطبة تنقل بالإذاعة فقطعت الإذاعة ولكن بعد أن قال الخطيب كل مايريد أن يقول.وعوقبت الموظفة التي كانت مسؤولة عن المراقبة واسمها فاطمة البديري.

ولما أقيم أول صنم في دمشق ليوسف العظمة خطب أحد أعضاء لجنة المسجد خطبة في إنكارِ هذا المنكر(الخطيب كان كاتب المقال الدكتور محمد لطفي الصباغ رحمه الله)وقد جرّت عليه هذه الخطبة من جراء الملاحقة بعض التكدير والتعب.

وهكذا استمر مسجد الجامعة يؤدي دوراً قيادياً في بلاد الشام..أيام الوحدة مع مصر..فقد كانت تنطلق منه كلمة الحقّ مدوية لا تعرف المداهنة ولا المجاملة ولا الخوف…أذكر أنه تعرض بعض أساتذة الدين إلى الإيذاء والتعذيب من قبل بعض رجال السلطة في ذاك العهد.فأنكر ذلك أشد الإنكار خطيب المسجد،وكان يومها الأستاذ عصام العطار،وكان لكلمته أثر طيب في رفع هذا الأذى عن هؤلاء المدرسين الفضلاء.

ثم كانت الستينيات وتعرّضت بلاد الشام لهزات سياسية شديدة،ولم يكن في كثير من الأحيان للبلد مؤسسات دستورية ولا شعبية فكان مسجد الجامعة هو الصوت الذي يعبّر عن رغبات الأمة وآلامها،وكان الأستاذ عصام العطار يقود فكر الأمة ويوضح للناس المواقف السياسية التي تمر بها بلادهم.

أما الخطباء الذين كانوا يقومون بخطبة الجمعة في هذا المسجد فقد كانت لجنة المسجد هي التي تختارهم وكانوا ينتقون انتقاء دقيقاً،وممن أذكره منهم:الأستاذ مصطفى السباعي والأستاذ أديب صالح والأستاذ عصام العطار والأستاذ مصطفى الزرقا والأستاذ أحمد مظهر العظمة والأستاذ محمد بهجة البيطار،والأستاذ أمين المصري وعدد من أعضاء لجنة المسجد وغيرهم.

وكان إذا قدم زائر من أهل العلم إلى دمشق دُعي لإلقاء الخطبة في هذا المسجد وأذكر من هؤلاء العلماء أبا الحسن الندوي.ثم تغيرت الأحوال وارتقى هذا المرتقى الصعب ناس آخرون.

هذا وقد كتبت ما كتبت وأنا بعيد عن أوراقي وعن النسخ الأولى من هذه الرسائل،ولكنني شهد الله وجدت متعة عظمى في العيش في ذكرى تلك الأيام الزاخرة بالنشاط على الرغم من ظروفٍ صعبة كانت تمرّ بها بلادنا الحبيبة.

سقى الله أيام الجامعة..تلك الأيام التي كانت الدعوة فيها متاحة للدعاة.وحيىَ الله بلاد الشام التي كانت وستبقى إن شاء الله بلد الإسلام التي أخرجت الأوزاعي والنووي والعز ابن عبد السلام وابن تيمية والذهبي والمزي وابن القيم وابن كثير وغيرهم كثير…وستخرج من يتابع طريقهم ويحمل لواء الإسلام والدعوة من بعدهم فلقد شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه البلاد بأنها خير بلاد الله في أرضه كما جاء في حديث عبد الله بن حوالة الصحيح.

وحيَّ أولئك الجنود المجهولين الذين كانوا يملؤون حياتهم بأعمال حققت قدراً من الخير لدعوتهم وبلادهم..ورحم الله من سبق إلى دار البقاء منهم.

إن ذكريات الجامعة ذكريات عميقة الجذور في نفسي وقد أتاحت لي كتابة هذه المقدمة أن أراجعها وأتذكر كثيراً من معالمها وأحداثها وأحيى في جوها العبق.

(الرياض في 18 المحرم 1405هجري).

الجوامع داخل دمشق

(مقال للاٍستاذ محمد أحمد دهمان نشره في مجلة المجمع العربي بدمشق)

أما الجوامع التي هي داخل دمشق فجامعان:

الجامع الأموي

والثاني جامع بقلعة دمشق

وأما الجوامع المختصة بحواضر دمشق فعدتها سبعة جوامع:

1 ـ جامع المصلى:

قبلي دمشق في ميدان الحصا.

وهو من الجوامع الكبيرة،أقيم في ميدان الحصى بجوار مسجد النارنج،ويظن أنه قد أنشىء في العصر السلجوقي،وبقي هذا الجامع مهملاً إلى أن أمر الملك العادل أبو بكر بن أيوب بتجديده عام 606هجري.كما جُدّد أيضاً عام 740 هجري في أيام السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون ونائبه عن الشام تنكز،وجدّد أيضاً في العهد العثماني عام 1217هجري على يد السيد محمد قباقبي .وسقفه يشبه سقف الجامع الأمويّ،ولم يبق من بنائه الأيوبي إلا قاعدة المئذنة.

وتسمية هذا الجامع لأنه أعدّ خصيصاً لكي يصلي فيه الحكام والعلماء والأعيان وبقية الناس صلاة العيدين الفطر والأضحى.والناس يسمون المحلة بأسرها باب مصلى ويتوهمون أن باب مصلى أحد أبواب دمشق القديمة

2 ـ جامع ابن الجراح بباب الصغير من الشرق،،ويطلق عليه أيضاً جامع جرّاح

يُنسب إلى جرّاح المنيحي،ويعرف بمسجد الجنائز.أول من أمر ببنائه السلطان صلاح الدين الأيوبي في المحرم سنة 578هجري.وفي سنة 631 هجري جدّده الملك الأشرف الأيوبي وجعل له الأوقاف.واحترق سنة 643هجري فجدّده الأمير محمد بن غرس الدين قُليج النوري سنة 648هجري،واكتمل التجديد سنة 652هجري.

وقد جدد المسجد في العصر الحديث ولكنه شبه مهجور لبعده عن المناطق السكنية ووقوعه بين الموتى،ونادراً ما يصلى فيه على الجنائز لإستئثار جامع السنانية والباشورة بهذا الأمر.

3 ـ جامع أنشأه الصاحب شمس الدين (غبريال خارج الباب الشرقي)

4 ـ جامع الزنجانية بباب توما مجاور خان الطعم،ولا أثر لهذا الجامع اليوم غير قبر يدعى بقبر الزنجاري وهو شرقي مسجد منجك بمحلة مسجد الأقصاب .

5 ـ جامع التوبة بالعقيبة.

6 ـ الجامع السيفي التنكزي(جامع تنكز):

وتسميه العامة جامع دنكز.ويوجد بين ساحة المرجة ومنتصف شارع النصر.من مشيدات العهد المملوكي في شارع النصر.قرب نزلة زقاق رامي.

أنشأه الأمير سيف الدين تنكز نائب السلطنة يومئذ بدمشق،وهو من خيرة نواب دمشق في عهد المماليك أيام السلطان الناصر محمد بن قلاوون.تولى نيابة دمشق بين 712 ـ 740 هجري،وكانت أيام نيابته بدمشق أيام ازدهار واستقرار،وقد قتل في أوائل سنة 741 هجري،ونقل جثمانه من الاسكندرية إلى دمشق ودفن في تربته لصيق جامعه من الشرق.وتنكز كلمة تركية معناها البحر.

وشيد جامع تنكز عام 717 هجري، وقد اختار له تنكز أجمل موقع في دمشق على نهر بانياس.وقد بوشر ببنائه في صفر سنة 717هجري وتكامل البنيان في شعبان سنة 718 هجري.

وهو يتميز بمئذنته الرائعة المضلعة التي تعتبر أقدم مئذنة مملوكية بدمشق.وفيه روائع فنية في المحراب ومدفن تنكز.

وقد أحرق الجامع في عدوان 29 آيار سنة 1945م فجدّد ووضع له تصميم جميل.

وفي سنة 1371هجري تم من قبل إدارة الأوقاف هدم المسجد وأقيمت بدلاً منه محلات تجارية،بني فوقها المسجد بالاسمنت والحجر الأبيض،وشتان ما بين مسجد تنكز الحقيقي وهذا البناء الغريب.

7 ـ جامع الثابتية وهو من جهة باب الجابية.ونتكلم عنه بالتفصيل في مكان آخر.

وأما الجوامع المتصلة بحواضر دمشق فعدتها سبعة أيضاً:

1 ـ جامع بيت لهيا.وهو جامع قديم،وبيت لهيا قرية عامرة .كان محلها القصاع حول المستشفى الانكليزي اليوم .وقد اضمحلت هذه القرية في القرن العاشر الهجري.

2 ـ الجامع المظفري أو جامع الجبل أو جامع الحنابلة بجبل الصالحية.ويعرف أيضاً بجامع الصالحين.

باشر ببنائه الشيخ أبو عمر محمد بن قُدامة سنة 598هجري في الصالحية،شمالي المدرسة العمرية،وساعده في الإنفاق عليه الشيخ علي الفامي من مسجد الأقصاب.وأرسل الأمير مظفر الدين كوكبوري صاحب إربل،مالاً جزيلاً لإكمال البناء،وحفر له بئراً،وخصص له الأوقاف،ولذلك سمي بالمظفري.وتم اكتماله ببناء المنبر سنة 604 هجري.

والجامع اليوم معروف ومشهور في الصالحية،وقد جدّد سنة 1408 هجري وطلي بالدهان،وأدخلت عليه تعديلات جديدة.

3 ـ الجامع الجمالي الأفرمي بجبل الصالحية.

بناه الأمير جمال الدين الأفرم نائب الشام سنة 706هجري.وكان له الأثر الحميد في مقارعة المغول،ولا سيما سنة 699هجري، فأحبه أهل الشام.وقد بني الجامع في قاسيون شرقي تربة العادل كَتبغا،وكان متولي عمارته الصاحب شهاب الدين الحنفي وجاء غاية في الحسن والإتقان على نهر يزيد.وقد هدم المسجد كلية سنة 1955م وأعيد بناءه بالإسمنت والحجر الأبيض ويقع اليوم أسفل ما يسمى”بجادة الباشكاتب”،شرقي ساحة المالكي على الطريق العام.

4 ـ جامع بقرية النيرب.

5 ـ جامع بقرية المزة.

6 ـ الجامع الكريمي بالقبيبات أو جامع الدقّاق

ويقع في الميدان الفوقي شرقي الطريق العام مقابل حمام الدرب.

بناه القاضي كريم الدين عبد الكريم بن هبة الله،وكان الرجل الثالث في الدولة بعد السلطان ونائبه في الشام تنكز.

وكان كريماً يحب العلماء ويقربهم ويوفي ديون الغارمين.وقد أمر ببناء الجامع في عاشر صفر سنة 718هجري وانتهى البناء في شعبان من العام نفسه.

وفي سنة 1350 هجري جدّدته الأوقاف وبنت له دكاكين على الشارع العام.

7 ـ الجامع الكريمي بالقابون(لا يوجد له أثر اليوم) .

جامع السنانية

يقول الأستاذ صلاح الدين المنجد(مجلة الرسالة العدد 662):

ينسب إلى بانيه يوسف بن عبد الله سنان باشا،نائب الشام والوزير الأعظم.

(وليس كما يظن إلى المهندس التركي المعروف سنان باشا).

وهذا النائب والوزير ولي الوزارة للسلطان مراد خان،ومات سنة 1004 هجري.وقد بدأ بعمارة مسجده هذا سنة 995هجري وتمّت عمارته سنة 999هجري.

وهو يقع خارج باب الجابية،وهو في منطقة من أشدّ مناطق دمشق ازدحاماً.

جامع يلبُغا:

في حي البحصة الجوانية،جوار ساحة المرجة شمالاً.بناه نائب السلطنة المملوكي بدمشق سيف الدين يلبغا اليحياوي الذي تولّى أمارة دمشق سنة 746هجري،وخلّف آثاراً عظيمة أشهرها جامعه الكبير هذا،وقبّة النصر التي اشتهرت بقبّة يلبغا في القدم وحمامين في غربي باب الجابية،وقيسارية كبرى خارج باب الفرج وقفها مع الحمامين على جامعه.. وكان يلبغا تركي الجنس وأحد المُقربين إلى الملك الناصر،ولكنه قتل فيما بعد وأرسل رأسه إلى القاهرة.

وشرع في إنشاء الجامع سنة 747هجري على تل كان يشنق عليه المجرمون،ويسمى “تل المستقين”.وتم بناءه في شهر رمضان سنة 757هجري،وجاء في غاية الحسن والبهاء.

وصار في عهد المماليك أحد أهم جوامع دمشق.

وفي عام 1960م قامت إدارة الأوقاف بهدمه كما فعلت مع جامع تنكز وغيره.

جامع لا لا باشا

مسجد في الطرف الغربي من شارع بغداد.

شيدّه أحفاد والي الشام العثماني لا لا مصطفى باشا(الجد الأكبر لعائلة مردم بك بالشام)قرب الطرف الغربي لشارع بغداد سنة 1355هجري.وذلك بديلاً عن المسجد الأقدم الذي بناه الوالي المذكور في حديقة سامي باشا مردم بك عام 972هجري،وهدم عند تحويل الحديقة المذكورة إلى سوق الهال القديم في شارع الملك فيصل.

ولالا مصطفى باشا بوشناقي الأصل(البوسنة)وهو الصدرالأعظم وفاتح قبرص.حكم سنة 971هجري ،وهو الذي فتح جزيرة قبرص.

زوجته فاطمة خاتون بنت محمد ابن الملك الأشرف قانصوه الغوري.تولّى الشام بين 971 ـ 976هجري،وتوفى ودفن في اسطنبول عام 988هجري.ولقب لا لا تركي(لالِه) يطلق على الباشا المختص بتعليم أولاد السلطان.

مسجد أبي الدرداء

في قلعة دمشق،ينسب إلى الصحابي الجليل عُويمر بن زيد بن قيس أبي الدرداء الأنصاري الخزرجي رضي الله عنه،شهد اليرموك،وحضر حصار دمشق،وسكن حمص وولي قضاء الشام زمن عمر الفاروق وكانت داره بباب البريد،وقد توفي في دمشق بين سنة 30 وسنة 32هجري في خلافة عثمان ذو النورين رضي الله عنه،ودفن في غربي القلعة (مفاكهة الخلان).

أما المسجد فكان واحداً من مساجد عديدة في القلعة،ولكن لم يبق غيره وهو اليوم قائم على يسار المتوجه من العصرونية إلى جهة الغرب.

والمسجد مؤلف من قبة صغيرة تطل على نهر بانياس،وفي الزاوية الشمالية الشرقية ضريح الصحابي أبي الدرداء،وقد جُدّد المسجد والضريح عدة مرات في العصر العثماني.كما جُدّد أخيراً بعد فتح شارع القلعة سنة 1403هجري،بعد أن كان مدرسة للدرك السوري(خطط دمشق لأكرم العلبي).

جامع أبي النور

في الصالحية،شرقي مدرسة الصاحبة.في حي ركن الدين شارع عبد الغني النابلسي،من مشيدات العهد الأيوبي.

بناه الأمير سيف الدين محمد سنة 614هجري الموافق 1217م،لأبيه زين الدين قراجا الصلاحي صاحب صرخد المتوفى سنة 604هجري الموافق 1207م.وقد أطلق الناس على تربته بعدئذ اسم الولي أبو النور.

وقد هدم المسجد  سنة 1390هجري الموافق 1970م ،وأقيمت على أنقاضه عمارةٌ كبيرة من عدة طبقات وأبقي على الإسم الأول للجامع الذي أصبح اليوم مقراً رسمياً لجماعة الشيخ أحمد كفتارو.ويشغل قسماً كبيراً منها المعهد الشرعي وكلية الدعوة الإسلامية.

جامع الشيخ بدر الدين الحسني

من المساجد الحديثة،بني على ضريح الشيخ محمد بدر الدين الحسني البيباني،مُحدِّث الشام الأكبر،المتوفى سنة 1354هجري الموافق 1935م.يقع المسجد في القسم الشرقي من مقبرة الباب الصغير،إلى الشرق من مقابر آل البيت،وهو من الحجر الأبيض،وفي صحنه الواسع غرف أرضية وعلوية،تتخذ مقراً لطلاب جمعية إسعاف طلاب العلوم الشرعية.وفي القسم الشمالي من الحرم ضريح الشيخ الحسني رحمه الله.

جامع بعيرة

عند ميدان “السبع بحرات”،في زاوية التقاء شارعي الباكستان والشهبندر،أنشأه سنة 1357هجري الوافق 1938م  الحاج أبو راشد بعيرة،ودفن في قلب الحرم من الناحية الغربية.

جامع درويش باشا

جامع نزهٌ شمالي المدرسة السيبائية،بناه والي دمشق العثماني درويش باشا سنة 982هجري وكان من خيار الولاة العثمانيين،دخل دمشق سنة 979هجري فسار بأهلها سيرة حسنة،ونشر الأمن وتعقب المجرمين وتوفي سنة 987هجري ونقل جثمانه إلى تربته التي بناها بجوار جامعه من القبلة.

وقد بنى في دمشق حمام القيشاني وخان الحرير وغير ذلك،وعين الشيخ إسماعيل النابلسي مدرساً في جامعه،ثم الحسن البوريني.

وقد جُدّد الجامع سنة 1945م كما جدّد السبيل إلى جواره.والجامع اليوم من جوامع دمشق العثمانية الرائعة،تملأ ألواح القيشاني جنباته.

جامع الشيخ رسلان

يُنسب إلى الشيخ الزاهد رسلان بن يعقوب الجعبري الدمشقي النجار،وقد صحب الشيخ أبا عامر المؤدب،وهو المدفون معه تحت القبة.

وكان يتعبد في مسجد صغير في باب توما(وقد هدم وأقيم على أنقاضه مسجد جعفر الصادق)،بجوار منزله،ثم انتقل إلى مسجد درب الحجر قرب الباب الشرقي(البيانية اليوم)وصار يعظ في الجناح الشرقي بينما يعظ زميله الشيخ أبو البيان في القسم الغربي من الجامع المذكور،ثم أقام الشيخ رسلان وأصحابه في مسجد خالد بن الوليد،وقد مات بين سنة 550هجري وسنة 560.

وقد وُصف بأنه كان ورعاً قانتاً صاحب أحوال ومقامات.

ولأهل الشام عموماً اعتقاد كبير فيه وينسبون له أموراً غريبة في حياته وبعد مماته،الله أعلم بصحتها.

وفي المسجد ثلاث قباب،إحداها دفن تحتها بانيها جمال الدين الرسيمي سنة 709هجري والثانية دفن فيها الأمير بدر الدين حسن سنة 824هجري.أما قبة الشيخ رسلان فإن فيها عدداً من العلماء والصالحين مثل الشيخ أحمد الحارون،وآخر من دفن فيها أوائل سنة 1407هجري الشيخ محمد صالح الفرفور رحمه الله.

والمسجد يقصد اليوم للزيارة والتبرك،ولصيقه من الجنوب الغربي مسجد خالد بن الوليد الذي نقض من أساسه لإعادة بنائه ويقال إنه أول مسجد في دمشق.وقد كان وجود الشيخ رسلان بركة،إذ لولاه لهدمت تربة باب توما وتحولت إلى حديقة.

جامع الرفاعي

مسجد يقع في الميدان الوسطاني،إلى الشمال من حمام الرفاعي،وقد احترق سنة 1925م فأعيد بناؤه بعد خمسة عشر عاماً،ويرجح أن يكون المسجد من العصر العثماني.

جامع زيد بن ثابت أو جامع الثابتية

جامع قديم ومعروف غربي دمشق في منطقة باب سريجة ـ الفحامة ـ  شارع خالد بن الوليد،يظن أنه من مشيدات العهد المملوكي.وينسب إلى الصحابي الجليل زيد بن ثابت،ولكنه من المعروف أنه قد توفي في المدينة المنورة ودفن فيها بعد سنة 41هجري.ويظن أنه قد تم بناء الجامع في حدود سنة 710 هجري.وقد نقض الجامع كله سنة 1389هجري الموافق 1969م  وأعيد بناؤه على ما هو عليه اليوم.

جامع عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق

كان مسجداً صغيراً شمالي مقبرة الفراديس،بجانب قبة ابن منكورس، في شارع بغداد ،ويظن العامة أن فيه قبر عبد الرحمن بن أبي بكر،والصواب أنه رجل تركي اسمه عبد الرحمن.وقد جدّد المسجد سنة 1392هجري على نفقة الشيخ أحمد العبد الله العجيل الكويتي،ووسع القبر ووضع له ضريح خشبي كبير،وكان المشرف على بنائه الشيخ محمد سعيد الشلاح.والمسجد من طراز فريد ولا سيما منبره.

جامع الشيخ عبد الغني النابلسي

في الصالحية، حي ركن الدين،قبلي المدرسة العمرية وشرقي الحاجبية،يُنسب إلى الشيخ عبد الغني النابلسي،عالم دمشق الذي ذاع صيته وطبقت شهرته الآفاق وتوفي سنة 1143هجري الموافق 1730م.

وهو الشيخ عبد الغني بن إسماعيل النابلسي الحنفي الدمشقي النقشبندي القادري.درس في الجامع الأموي،واستقام في داره قرب الجامع الأموي في سوق العنبراتية(الصاغة القديمة)مدة سبع سنوات.وتوفي ودفن في داره في 26 شعبان سنة 1143هجري.وأما مسجده فيقال أنه بني بعد وفاته بحوالي السنة،وقد وُسع في عهد السلطان عبد الحميد الثاني،وجدد الجامع تجديداً شاملاً سنة 1409هجري الموافق 1988م.

جامع العفيف

في غربي الصالحية جنوب المدرسة المرشدية،في منطقة تعرف به،جادة العفيف الآخذة من الجسر الأبيض إلى المهاجرين.

وربما ينسب إلى العفيف بن أبي الفوارس المتوفى سنة 662هجري والذي تولى عمالة الجامع الأموي ومخزن الأيتام،كما يقول أبو شامة.وفي سنة 1369هجري الموافق 1950م  هدمته مديرية الأوقاف،وأقامت مكانه بناءً حديثاً من الاسمنت والحجر الأبيض.

جامع القاري أو جامع السفرجلاني

أو جامع حمام القاري،يقع في منطقة “مكتب عنبر” بين مأذنة الشحم والقيمرية.بناه سنة 1111هجري الشيخ عمر بن يحيى السفرجلاني،وعرف باسم الحمام الذي يقابله فسمي جامع حمام القاري،أو جامع القاري.وقد جدده الشيخ عيد السفرجلاني سنة 1345هجري.

جامع القاعة

في حي الميدان ـ قاعة ـ جامع كبير بني سنة 1214هجري.وقد هدم بالكامل وأقيم مكانه جامع كبير سمي”جامع القاعة” أو جامع الحسين،وتم ذلك سنة 1393هجري،وكان يخطب فيه الشيخ حسين خطاب رحمه الله.

جامع القدم

مسجد قديم ذكره ابن عساكر ،وقد جدد سنة 1353هجري وكان يدرس فيه الشيخ عبد القادر أرناؤوط.

جامع الشيخ مُحيي الدين

أول جامع عثماني بدمشق،أمر ببنائه السلطان سليم العثماني يوم دخل دمشق فاتحاً سنة 922هجري،ولذلك يقال له أيضاً الجامع السليمي.وقد صمم المسجد المهندس العثماني شهاب الدين بن العطار،وبوشر بالبناء فيه في 26 رمضان سنة 923هجري،وصليت في الجامع أول صلاة للجمعة في 24 المحرم سنة 924هجري،أي أن البناء لم يستغرق أكثر من أربعة أشهر.

وقد بُني على ضريح الشيخ محيى الدين بن عربي الطائي الأندلسي الذي استقر في دمشق فصنّف ودرس،واختلفت الآراء حوله بين مغالٍ في مدحه وبين متهم له،وقد أنصفه ابن كثير فقال:”صنّف الفتوحات المكية وفيها ما يُعقل ومالا يعقل،وما يُنكر ومالا يُنكر،وما يُعرف وما لا يُعرف،وله كتاب يسمى فصوص الحكم،فيه أشياء كثيرة ظاهرها كفر صريح”(البداية والنهاية).

وقد توفي الشيخ محيى الدين بدمشق سنة 638هجري الموافق 1240م،ودفن في تربة ابن الزكي في الصالحية،وكانت جنازته حسنة،كما يقول ابن كثير.ودفن إلى جانب الشيخ محيى الدين عدد من المشاهير،منهم الأمير عبد القادر الجزائري(نقل جثمانه بعد ذلك إلى الجزائر).

مسجد محمود بن زنكي

في منطقة”قفا الدور” بدمشق،ينسب إلى السلطان محمود بن زنكي المتوفى سنة 624هجري،وقد دفن في قبة مسجده هذا،ثم دفن معه ابنه الشاب عثمان في قبر واحد.وليس هو السلطان محمود بن زنكي الشهيد كما يظن البعض.

جامع مسجد الأقصاب أو جامع السادات

جامع قديم ومشهور خارج باب السلام،ويعرف أيضاً بجامع منجك،ويقال بوجود سبعة من الصحابة فيه،منهم حجر بن عدي.

وقد جدد المسجد سنة 854هجري،وثانية سنة 900هجري.

ويعرف الحي كله باسم هذا المسجد،وهو واحد من المساجد الجامعة القديمة الكبرى الثمانية في دمشق وهي:جامع التوبة وتنكز ويلبغا والحنابلة والمصلى والدقاق ومنجك.

جامع منجك

في الميدان الوسطاني،بناه الأمير ناصر الدين محمد بن إبراهيم منجك الكبير،في حدود سنة 810 هجري.

ومنجك الكبير هذا هو نائب الشام،وصاحب المدرسة المنجكية وحمام منجك،وابنه ناصر الدين هو من وسّع جامع الأقصاب والمدرسة العمرية وتوفي في دمشق سنة 844هجري ودفن في تربته قرب جامعه المذكور في “الجزماتية” اليوم.

وقد جدد المسجد تجديداً شتملاً في العصر العثماني،وكان فيه في أوائل القرن الرابع عشر،مدرسة للشيخ إسماعيل الميداني.

جامع النقشبندي

في حي السويقة بدمشق،غرب مقابر الباب الصغير،وجنوب قصر حجاج،ويعرف أيضاً بجامع المرادية نسبة لبانيه مراد باشا والي دمشق العثماني والذي توفي في دمشق سنة 976هجري ودفن في تربته لصيق الجامع من الشرق.

وقد تكامل بناء المسجد سنة 981هجري وبنيت قبة على قبر الواقف،وكان في سنة 1335هجري يضم عشرين غرفة وهو مركز الطريقة النقشبندية بدمشق.

وقد تمَ تجديد الجامع في شهر رمضان سنة 1409هجري وبشكل تام.

مسجد ابن هشام

في أول سوق مدحت باشا،مقابل خان الدكّة،وفي سنة 831هجري أعاد القاضي بدر الدين بن مزهر بإعادة بناء الجامع،وجعل له منارة فائقة الحسن.وجدد المسجد سنة 1408 هجري،وليس فيه اليوم من الآثار القديمة إلا بعض الواجهة الشمالية.وتعود شهرة المسجد اليوم إلى إمامه وخطيبه الشيخ محمد لطفي الفيومي.

جامع الورد

غربي منطقة العُوينة،التي عرفت فيما بعد باسم سوق ساروجة.وهو من مشيدات العهد المملوكي في سوق ساروجة عند زاوية التقاء حارة الورد بالطريق العام.

وقد كان يقال له “جامع حمام الورد” نسبة إلى الحمام الواقع إلى الشمال منه،ثم عرف بجامع الورد اختصاراً،ويعرف تاريخياً باسم جامع برسباي أو الحاجب،نسبة لبانيه الأمير”برسباي”الحاجب،الذي تولى نيابة طرابلس وحلب،وتوفى سنة 851 في سراقب وحمل جثمانه إلى دمشق ودفن في جامعه المذكور.

أنجز بناء الجامع يوم الجمعة الرابع عشر من رمضان سنة 830 هجري الموافق 1426م.

والجامع معروف ومشهور في سوق ساروجة،وكان شيخه عالم الشام أبو اليسر عابدين.

مسجد الآجري

من مساجد حي العقيبة التي تحولت إلى مكتبة عامة،قبالة الباب الشرقي لجامع التوبة،ذكره طلس بقوله:”كان في القديم قبّة ضريح الإمام محمد بن أبي بكر الآجري الحنبلي المتوفى سنة 860هجري الموافق 1456م من العهد المملوكي ثم تهدمت القبة فجدد بناءها الشيخ الفاضل محمد أبو الخير الميداني وجعلها مسجداً وأنشأ فيها مكتبة وضع فيها نحو ألف كتاب وقفها للعامة كما جعل فيها دروساً دينية يلقيها على الطلاب.

جامع الإيمان

من المساجد الحديثة المشهورة في منطقة المزرعة.

جامع الكويتي أو جامع العثمان

من المساجد الحديثة المتميزة،يقع في طريق ركن الدين،بني على نفقة الشيخ عبد اللطيف العثمان،ووضع حجر الأساس فيه سنة 1382هجري.

جامع بدر

من المساجد الحديثة غرب أبي رمانة،وشرق شارع المالكي.

جامع الفاروق

من المساجد الحديثة،في شارع بغداد،غرب جامع الفردوس.

جامع حمزة والعباس

من مساجد دمشق الكبرى في حي التجارة.

جامع الأكرم

في أقصى طريق أوتوستراد المزة،بناه أكرم العجة،وقدمه هدية لمنطقة المزة.وإلى الشمال منه يقع جامع الشافعي.

جامع الشيخ عبد الكريم الرفاعي

في دوار كفر سوسة،ينسب إلى الشيخ عبد الكريم الرفاعي تلميذ الشيخ علي الدقر والشيخ بدر الدين الحسني وشيخ جامع زيد.وأبناءه الشيخ أسامة والشيخ سارية الرفاعي.

المدارس الشرعية

المدرسة العمريّة في الصالحيّة

(نقلاً عن مجلة التراث العربي العدد 109 آذار 2008م)

في عام 1156م رحل الشيخ أحمد بن محمد بن قدامة من قريته (جمّاعيل) بنابلس في فلسطين سراً،مهاجراً في سبيل الله،هرباً من بطش باليان بن بارزان الفرنسي،حاكم إقطاعية جبل نابلس،الذي قتل كثيراً من المسلمين،وعذب آخرين فقطّع أيديهم وأرجلهم ،ولم يكن في الفرنج أعتى منه ولا أظلم.وقد صحب الشيخ في هجرته ثلاثة من أقاربه قاصدين دمشق،فنزلوا في مسجد أبي صالح،خارج باب شرقي ،ضيوفاً على بني الحنبلي المتولين على وقف المسجد وإمامته،ثم لحق بالشيخ خمس وثلاثون نفساً،بينهم أولاده وبعض أحفاده وأصهاره،وتوالت هجرة آخرين إلى المكان نفسه ،الذي مكثوا فيه ما يقارب من ثلاث سنوات ،ثم غادروه إلى دير في سفح قاسيون،اختاره لهم رجل صالح يدعى أحمد الكرخي، وبنى القوم في ذلك المكان المهجور بيوتاً ثلاثة أتبعوها برابع ما فتئت تتسع بتشييد دور وحوانيت ومساجد،حتى عمرت المنطقة بالسكان والعلماء والزهاد،واتسعت معها شهرة بني قدامة،وذاع صيت الشيخ أحمد والمهاجرين الذين عرفوا بالتقوى والزهد والصلاح فسموا بالصالحين وسميت المنطقة بالصالحيّة نسبة إليهم.

وقد اعتزل الشيخ أحمد الناس وآثر الخلوة والعبادة تاركاً تصريف شؤون أهله وجماعته إلى ابنه أبي عمر،الذي كان زاهداً مجاهداً مقداماً شجاعاً عابداً.

ترك أبو عمر المدرسة العمرية،التي بدأ ببنائها سنة 557هجري بين مسجدي محيى الدين بن عربي وعبد الغني النابلسي،بعد أن أرسى بنيانها ونظم نهجها الذي استقرت عليه،وبعد أن رأى سفح قاسيون المهجور تدبّ فيه الحياة بقيام المدرسة والجامع والدير.وبعدما رأى إقبال الناس على عمارة الجبل والسكن فيه. وبعدما سمع اسم قاسيون يتحول إلى اسم الصالحية التي باتت،في أقل من قرن واحد،بلدة عامرة تكتظّ بالسكان،وتعمر فيها المدارس التي تنشر شتى أنواع العلوم وتقدم لكل قاصديها،من المقيمين والوافدين ،ضيافة سخيّة تشمل المأوى الكريم والمعيشة الهانئة في خلوات تؤوي طلاب العلم بفضل ما وقفه عليها أهل الخير من ريع وأرزاق لتقف الصالحية في وجه تيمورلنك وتقدم من أبنائها ما يقارب عشرة آلاف شهيد يصدونه عن غزو دمشق وتخريبها.

وقد وصف القلقشندي الصالحية:مدينة ممتدة في سفح الجبل تشرف على دمشق وضواحيها،ذات بيوت ومدارس وربط وأسواق وبيوت جليلة.

والحديث عن المدرسة العمرية،التي سميت بالشيخة أو الشيخية،متشعب وفضلها لا يمكن حصره لما هي عليه من حقيقة حضارية متميزة،فمنها تَخرّج الآلاف من الفقهاء والقراء والمحدثين،وضمّت غرفها وخلاويها،التي قاربت الثلاثمائة والستين ألف طالب في وقت واحد،وكان مدرسوها وشيوخها من أعاظم الشيوخ،فهي أشبه بجامعة تضم عدة كليات لمختلف فئات الطلبة وطبقاتهم ومستوياتهم،وقد أوقف المحسنون الأوقاف اللازمة عليها لكي تفي بمتطلبات مناهجها في التعليم،وكانت من الكثرة بحيث لا يمكن حصرها ولا طرائق صرفها.

وكان الطالب لا يقبل فيها إلا بشروط معينة في مقدمتها أن يتمتع بالسلوك الحسن والأدب والتقوى…وكان لها مكتبة خاصة بها عامرة بآلاف الكتب من كل الفنون،حتى ضمت نفائس الكتب ونوادرها.

والمدرسة العمرية مدرسة عظيمة جمعت أقساماً متعددة لتحفيظ القرآن وعلومه،ورواية الحديث وعلومه،وتعليم الفقه ومذاهبه.

يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله:كان فيها كلية للقرآن وقراءاته وعلومه،وقسم خاص للمكفوفين،وقسم للأطفال، وإن الدراسات والتلاوات كانت تستمر طيلة الليل والنهار.كان فيها عدة خزائن فيها نفائس الكتب،وكان طلابها يأكلون وينامون فيها،يوزع في كل يوم ألف رغيف ويطبخ للجميع وتقدم لهم الفواكه والحلوى،ومعهم جيش من الموظفين لهم رواتب وسجلات.وللطلاب سجلات وتفقد،وكان لشيخها مرتبة مدير الجامعة في هذه الأيام”.

يذكر أن قاضي دمشق عبد المحسن الاسطواني كلّف لجنة في سنة 1328هجري الموافق 1910م بالطواف على مدارس دمشق ووصف حالها وما فيها من طلاب،وما قد تحتاج إليه من لإصلاح وترميم ،فذكرت اللجنة في التعريف بالمدرسة العمرية،أن فيها 110 غرف،والحجرات المأهولة بالطلبة خمس وفيها عشرون طالباً،وباقي الغرف بيد الفقراء،وحجراتها قديمة جداً وضيقة.

واحتفالاً بالقرن الخامس عشر الهجري تبنت وزارة الأوقاف افتتاح المدرسة العمرية وترميمها،وقد وضع في عام 1990م حجر الأساس لمشروع إقامة مركز البحوث الإسلامية في هذا المبنى التاريخي.

ويقول الأستاذ محمد أحمد دهمان(في رحاب دمشق):

“لم يمض على استقرار أحمد بن قدامة خمسُ سنين في الصالحية حتى توفي سنة ثمان وخمسين وخمسمائة وقد بثّ الروح العلمية فيمن كان معه من الشباب ممن هاجر،وأخذوا في تلقي العلم من علماء دمشق ثم رحلوا إلى غيرها من البلدان في طلب العلم ثم رجعوا إلى الصالحية التي أصبحت وطنهم فأثروا فيها الأثر العظيم في حياتها العلمية والاجتماعية،وساعدهم الملوك الأيوبيين وأمراؤهم ببناء المدارس،وإشادة المعاهد،وحبس العقارات والأوقاف العظيمة عليها.

وكان للشيخ أحمد بن قدامة المذكور ولدان عالمان حصلا في العلم شهرة واسعة تزيد على شهرة أبيهما،أحدهما موفق الدين المقدسي مؤلف كتاب المغني الذي يعد من أمهات الفقه الإسلامي ولد بجماعيل سنة إحدى وأربعين وخمسمائة وكان عمره عشر سنين حين هاجر به أبوه.وتوفي بدمشق سنة عشرين وستمائة ودفن بالصالحية.

والإبن الثاني وهو الأكبر الشيخ أبو عمر أخو موفق الدين.ولد بجماعيل سنة ثمان وعشرين وخمسمائة وكان عمره لما هاجر به أبوه ثلاثاً وعشرين سنة،تلقى العلم عن والده وعن غيره من علماء دمشق،ورحل إلى مصر فسمع بها من أبي المفاخر سعيد بن الحسن الماموني،وأبي محمد بن بري النحوي،وممن أخذ عنه العلم ولده شمس الدين بن عبد الرحمن  قاضي القضاة في عصره،وابن أخته ضياء الدين المقدسي منشىء المدرسة الضيائية ومؤلف كتاب “المختارة”الذي رجحه العلماء على كتاب المستدرك للحاكم.

وأخذ عنه محدث البلاد المصرية الحافظ المنذري.وتوفي الشيخ أبو عمر سنة سبع وستمائة وكان للشيخ أبو عمر أثراً كبير في بث العلم والعمران في الصالحية فقد كان سريع الكتابة يكتب كل يوم كُراسين من كتب العلم يقدمها إلى الطلاب مجاناً بلا مقابل وبذلك كان يهيىء للطلاب أعظم سبب من أسباب العلم وهو الكتاب.أما من جهة العمران فقد أنشأ في الصالحية أعظم وأبرز بناء فيه،وهو المدرسة العمرية،والجامع المظفري الشهير بجامع الحنابلة.

تقع المدرسة العمرية في أعظم الأماكن النَزهة في دمشق حين تم بناؤها،فتقوم في سفح قاسيون على نهر يزيد الذي يمر في طرفها القبلي،ويُطل الجالس فيها على مدينة دمشق وقُببها ومناراتها الجميلة وما يحيط بها من قصور وحدائق وبساتين .ولا تزال هذه المدرسة موجودة إلى الآن بين مسجدي الشيخ محيى الدين والشيخ عبد الغني النابلسي.

وكان بناء المدرسة صغيراً متواضعاً في البدء،ولكن الله قيضّ لهذه المدرسة من زاد فيها ووسعها حتى انتهى عدد حجراتها إلى ستين وثلاثمائة فيما قيل.

وتعد المكتبة العمرية من أهم مكتبات دمشق فقد اجتمع فيها أهم الكتب الإسلامية،وزاد في أهميتها أن المدرسة الضيائية التي أنشأها ضياء الدين المقدسي مؤلف المختارة كان قد جاب أقطار العراق وبلاد العجم والقطر المصري وانتقى أحاسن الكتب وأجودها،حتى اجتمع له ما لم يجتمع لغيره وأوقف هذه الكتب على مدرسته التي أنشأها في سفح قاسيون فكان مما فيها أوراق بخطوط الأئمة الأربعة كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد.وكان فيها توراة وإنجيل قديمان بالخط العبري والسرياني الأسطر نجيلي على ورق غزال،ولا تزال بعض أوراق منهما محفوظة في دار الكتب الظاهرية في دمشق.وقد أصاب هذه المدرسة ومكتبتها ما أصاب غيرها من مدارس دمشق من الانحلال والاختلال فأضيفت مكتبتها إلى مكتبة المدرسة العمرية.

على أنه لم يمض وقت طويل على انحلال المدرسة الضيائية حتى تسرب ذلك إلى المدرسة العمرية وغيرها من مدارس الشام،وأخذ كل متول وناظر على مدرسة يتصرف فيها وفي كتبها وعقاراتها ما شاء له الهوى.

أما حال المدرسة الحاضرة فيمثلها قول القائل:

معاهد آيات خلت من تلاوة         ومنزل علم مقفر العرصات

المدرسة الضيائية

يقول الأستاذ محمد أحمد دهمان(في رحاب دمشق):

أصبحت اليوم داراً شرقي جامع الحنابلة الشرقي.أنشأها المحدث الحافظ ضياء الدين المقدسي.ولد بدير الحنابلة سنة سبع وستين وخمسمائة وأخذ عن علماء الصالحين ودمشق ثم رحل إلى مصر والعراق وحلب وحرّان ومكة،ورجع بعد خمس سنين إلى دمشق بعلم كثير وأصول خطية نفيسة فتح الله عليه بها هبة وشراء واستنساخاً وبنى مدرسة وقفها على الحنابلة وأوقف فيها الكتب التي حصلها وتوفي سنة 643 وأوقف فيها كثير من العلماء كتبهم كموفق الدين المقدسي،والحافظ العز بن عبد السلام،وابن الحاجب،والبهاء عبد الرحمن…ولذلك كانت مكتبتها أعظم مكتبة علمية في دمشق.

المدرسة البادرائية 

جاء في مقال نشر في أحد أعداد مجلة الحديقة للعالم محب الدين الخطيب مايلي:

“في يوم من أيام عام 655هجري نزل على دمشق ضيف بغدادي جليل القدر واسع العلم،وهو الشيخ نجم الدين عبد الله بن محمد البادرائي،مدرس المدرسة النظامية في بغداد.

وكان مع علمه وأدبه حكيماً سياسياً متواضعاً وقوراً،واسع الصدر،يملأ قلب من يجتمع به،وكان ـ لتوافر هذه الصفات به ـ رسول الخلافة إلى ملوك الآفاق في الأمور المهمة،وإصلاح الأحوال المدلهمة.

وكان مدة وجوده في دمشق موضع حفاوة علمائها وأعيانها،بما عُهد في أهل هذه المدينة ـ منذ القِدم ـ من دماثة الأخلاق ،والرقة واللطف،متمثلةً فيهم حضارة أقدم مدينة باقية على وجه الارض.

وكان من آثار ما لقيه النجم البادرائي من حفاوة الدمشقيين به أنه عزم على أن يترك في مدينتهم أثراً له يُذكر به في الدنيا،وتُخلّد له به المثوبة في الآخرة،فكان أول ما خطر بباله أن يكون هذا الأثر بشكل مدرسة يقيمها في نقطة متوسطة بين ثلاثة أحياء كبرى من أحياء مدينة دمشق،فأنشأ “المدرسة البادرائية” بين حيّ العمارة وحي باب السلام وحي القيمرية،وكانت لهذه الأحياء يومئذ مكانة وسيادة بما لسكانها من شأن وفخامة.

واختار مدرّس المدرسة النظامية أن تكون مدرسته في دمشق في مكان دار الأمير أسامة التي كانت قبل ذلك في موضع هذه المدرسة،وسرعان ما قام بنيانها،وبدت محاسنها،فأقيم لافتتاحها احتفالٌ اشترك فيه السلطان الناصر وفحول العلماء وكبار الأمراء الأعيان وأهل الثروات الطائلة.وتلي في يوم الاحتفال كتاب الوقف الذي وقفه الضيف البغدادي على المدرسة الدمشقية،وفيه أسماء قرى وبساتين وعقار رُصدت كلها على نفقة هذه المدرسة والمنقطعين فيها لطلب العلم.

ومما اشترطه أن يكون طلبة هذه المدرسة غير متزوجين،وأن لا يدخلها امرأة،ليضمن انقطاع القوم للعلم ،ما داموا فيها،فلا يصرفون أوقاتهم إلا في تحصيله.

وقد تولى التدريس في هذه المدرسة العلامة شيخ الشافعية في وقته بالشام برهان الدين أبو اسحاق،ثم ولده كمال الدين من بعده.وجعل نظرها إلى وجيه الدين بن سويد،ثم صار النظر إلى ذريته ،فاستمرّ فيهم عدَّة قرون.

ومن محاسن المدرسة البادرائية أنه كان فيها خزانة كتب في زمن الواقف،ولا بد أنها ازدادت واتسعت بعد ذلك،إلى أن جاءت عصور الجهل الأخيرة،فامتدّت إليها الأيدي وزالت من الوجود.

ويقول الدكتور قتيبة الشهابي(مشيدات دمشق):

“من مشيدات أواخر العهد الأيوبي في حي العمارة الجوانية ـ زقاق البادرائية ـ تنسب لمنشئها سنة 654هجري الموافق 1256م الإمام نجم الدين أبي محمد عبد الله بن أبي الوفاء محمد بن الحسن بن عبد الله بن عثمان البادرائي البغدادي الفرضي،توفي سنة 655هجري الموافق 1257م.وكانت في موضع هذه المدرسة أيام الرومان دار للأسقفية ثم صارت للأمير أسامة الجبلي أحد كبار أمراء السلطان صلاح الدين الأيوبي،وإليه ينسب حمام أسامة أو سامي بلغة اليوم،ومنه زقاق حمام سامي الواقع عنده.

المدرسة الجقمقية

يقول الأستاذ محمد أحمد دهمان في كتابه في رحاب دمشق:

“هي أكبر قاعة في دمشق،وأكمل وأجمل مجموعة فنية سالمة من النقص رغم احتاجها إلى الإصلاح والترميم.وإن أول من خططها وأسس جدرانها علم الدين سنجر الهلالي.ولم يكتب له أن يتمّها.وفي سنة 824 هجري جدّد بناءها الأمير سيف الدين جقمق بالهيئة التي بقيت عليها إلى اليوم،وأنشأ في شمالها (خانقاه)يفصل بينهما الطريق.

ويقول الدكتور قتيبة الشهابي(مشيدات دمشق):

“وهي من مشيدات العهد المملوكي في حي الكلاسة،لصيق ضريح السلطان صلاح الدين من جهة الشرق،تنسب لمنشئها نائب دمشق في العهد المملوكي الأمير سيف الدين جقمق التركماني الأصل،الذي اعتقل وقُتل في قلعة دمشق ثم دفن في مدرسته هذه إلى جانب أمه التي توفيت قبيله بوقت قصير.ولقد أنشئت المدرسة على أنقاض دار القرآن الهلالية التي خربت أيام تيمورلنك سنة 803هجري الموافق 1401م،ويشغل المبنى حالياً متحف الخط العربي.

دار الحديث السكرية

(مقال للأستاذ محمد أحمد دهمان نشره في مجلة المجمع العربي بدمشق،وفي كتاب في رحاب دمشق)

يهتم أنصار الإمام تقي الدين أحمد بن تيمية بالبحث عن المدرسة التي كان يقطنها ويدرس فيها بعد أبيه عبد الحليم بن تيمية.ومن الذين درسوا فيها أيضاً:الحافظ الذهبي،ثم صدر الدين سليمان بن عبد الحكم المالكي.

يذهب بعض الباحثين في عصرنا إلى أنها واقعة في سوق السكرية وأنها هي المسجد المسمى اليوم بمسجد السادات، الكائن في سوق مدحت باشا.

إن المدرسة الخيضرية(المشهورة في عصرنا بالخضيرية) تعين لنا موقع دار الحديث السكرية وموقع القصاعين تماماً.فالنعيمي والبقاعي والعلموي متفقون على أن  دار الحديث السكرية بالقصاعين .وإذا رجعنا إلى تاريخ ابن عساكر نراه يشير إلى أنه كان في مكانها مسجد فهو حينما يعدد المساجد التي قبلي دمشق يقول:مسجد في درب القصاعين سفل عن يسار الداخل.ولو ذهب الإنسان اليوم إلى القصاعين(حارة الخضيرية) لوجد على يسار الداخل إليها مسجداً هو(الخيضرية) وإذا كانت (الخيضرية) بنيت عام 878 شمالي السكرية اتضح لنا أن السكرية هي مكان المسجد الذي أشار إليه ابن عساكر.

وبعد فلم يبق للسكرية أثر في عصرنا وأصبحت داراً من الدور،وموقعها قبلي جامع الخضيرية قرب باب الجابية.

دار الحديث الأشرفية

جاء في مقال للأستاذ برهان الدين محمد الداغستاني(مجلة الرسالة العدد 86):

“هي التي بناها الملك الأشرف موسى بن العادل الأيوبي،ونجز بناؤها سنة 630 هجري،ودرس بها جلّة من العلماء مثل ابن الصلاح وابن الحرستاني وأبي شامة والنواوي والشريشي والفارق وابن الوكيل وابن الزملكاني والحافظ المزني والسبكي وابن كثير وغيرهم.وهذه الدار لا تزال تؤدي رسالتها في نشر العلم،وعلم الحديث بنوع خاص .وقد اعتراها شىء من الفتور في أواخر القرن الماضي حتى أرسل الله إليها الفقيه الشيخ يوسف البياني المغربي،فأعاد إليها حياتها ونشاطها،ثم تولى شانها من بعده المحدث الأكبر الشيخ بدر الدين الحسني.

ويقول الأستاذ محمد أحمد دهمان(في رحاب دمشق):

من أنواع المدارس التي عرفت عند المسلمين،دور الحديث.وهي المدارس المختصة بدراسة علم حديث النبي العربي محمد صلى الله عليه وسلم.

ويذكر ابن الأثير وابن خلكان والمقريزي أن أول حديث أنشئت على وجه الأرض هي دار الحديث النورية في دمشق أنشاها نور الدين محمود بن زنكي للحافظ أبي القاسم بن عساكر صاحب تاريخ دمشق الشهير.

بنى الملك الأشرف موسى أخو الملك الكامل مدرستين للحديث في دمشق.إحداهما سنة 634هجري وهي بصالحية دمشق وتدعى بدار الحديث الأشرفية البرّانية وشرط أن تكون للمحدثين الحنابلة.والثانية داخل دمشق شرقي قلعتها من جهة القبلة وتدعى بالأشرفية الجوّانية(مازالت موجودة ومعروفة بالإسم نفسه في سوق العصرونية)وشرط أن تكون للمحدثين الشافعية واحتفل بافتتاحها ليلة النصف من شعبان سنة 630 هجري.

وترجع شهرة دار الحديث الأشرفية في دمشق إلى قانونها الداخلي الذي يقضي بأن يتولى التدريس فيها أعلم رجل بالحديث في مدينة دمشق وأن يجلب إليها كل من له ميزة في رواية الحديث لا توجد في غيره،سواء في دمشق أو في غيرها من البلدان ليستفاد من علمه واختصاصه ولذلك صار فيها من المدرسين،والمحدثين جماعة لم توجد مثلها في غيرها من دور الحديث.

وأول من تولى مشيخة الحديث فيها:تقي الدين أبو عمرو بن الصلاح صاحب المقدمة المشهورة في علوم الحديث،ثم جمال الدين عبد الصمد بن الحرستاني،ثم أبو القاسم عبد الرحمن الشهير بأبي شامة،ثم محيى الدين يحيى بن شرف النووي….

ويقول الأستاذ صلاح الدين المنجد(مجلة الرسالة العدد 662):

الأشرف الأيوبي هو من بنى دار الحديث الأشرفية الجوانية.وهي جوار باب القلعة الشرقي،غربي العصرونية،وما تزال قائمة.ودرس بها في أيامها ابن الصلاح وأبو شامة وغيرهما.

وبنى الأشرف مدرسة ثانية هي دار الحديث الأشرفية البرانية وهي في السفح  شرقي المرشدية،وغربي الأتابكية.

ويقول الدكتور قتيبة الشهابي(مشيدات دمشق):

“من مشيدات العهد الأيوبي في جادة المدارس من حي الصالحية(سوق الجمعة اليوم) شيّدها الملك الأشرف مظفر الدين موسى بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب سنة 634هجري الموافق 1236م.وقد تعرضت لعديد من الكوارث خلال حياتها،فمن عمليات النهب والسلب الذي قام بها جنود غازان التتار،غلى الاختلاس وتحويل أقسام كمها إلى دور للسكن ومزارع للورود والرياحين،وأضيفت إلى هذه القائمة اليوم بضع محلات لبيع المفروشات المعدنية والنجارة وما شابه.

المدرسة الأتابكية

من مشيدات العهد الأيوبي في جادة المدارس(سوق الجمعة اليوم)،بجوار دار الحديث الأشرفية البرانية،تنسب لتركان خاتون ابنة الملك عز الدين مسعود بن زنكي،أخت أرسلان أتابك وزوجة الملك الأشرف موسى الأيوبي،توفيت سنة 640هجري الموافق 1242م ودفنت في مدرستها هذه.واليوم قد درست وزالت معالمها وتحول المكان إلى مسجد صغير تعلوه مئذنة ويعرف على ألسنة الناس(بالتابتية) تصحيفاً لكلمة الأتابكية(د قتيبة الشهابي ـ مشيدات دمشق ذوات الاَضرحة).

المدرسة الإخنائية

من مشيدات العهد المملوكي في حي الكلاسة،بجوار المدرسة الجقمقية من جهة الشرق وبينهما الطريق الواصل إلى باب الجامع الاموي.شيّدها قاضي القضاة بدمشق شمس الدين محمد بن القاضي تاج الدين محمد بن فخر الدين عثمان الإخنائي الشافعي،المتوفى سنة 816هجري الموافق 1413م والمدفون في مدرسته هذه.

أقيمت المدرسة الإخنائية على أنقاض دار القرآن الرشائية التي أنشئت سنة 440هجري الموافق 1009م .وتشغل المبنى اليوم أمانة الفتوى العامة.(د قتيبة الشهابي ـ نفس المرجع)

المدرسة الأمجدية

من مشيدات العهد الأيوبي في زقاق الصخر،لصيق تربة المدرسة الفروخشاهية من جهة الجنوب،وتعرف أيضاً بتربة بهرام شاه وبالتربة البهرامية.أنشأها والمدرسة الملك المظفر عمر،لأبيه الملك الأمجد أبو المظفر بهرام شاه بن فروخشاه بن شاعنشاه بن أيوب صاحب بعلبك،الذي قتل سنة 628هجري الموافق 1231م ودفن فيها وقد زالت المرسة وبقيت التربة(د قتيبة الشهابي).

المدرسة البدرية

من مشيدات العهد الأيوبي في ساحة الميسات وتعرف اليوم بتربة البدري،وتنسب إلى منشىء المدرسة الأمير بدر الدين حسن بن الداية المعروف بلا لا أو لؤلؤ وتعني المؤدب،وهو شقيق السلطان نور الدين محمود بن زنكي بالرضاع ومن هنا جاءت تسميته بابن الداية وكان من كبار أمرائه.وقد أقيمت المدرسة في بدايات القرن السابع للهجرة ولم يبق منها سوى التربة التي رممت حديثاً

دار القرآن الأفريدونية

مشيدة مملوكية في سوق السنانية،عند بداية الطريق الآخذ من باب الجابية إلى الميدان التحتاني،قبالة التربة المردمية.أنشأها التاجر الكبير شمس الدين أفريدون العجمي المتوفى في العهد المملوكي سنة 749هجري الموافق 1348م  والمدفون فيها.وتعرف أيضاً بمسجد العجمي.(قتيبة الشهابي)

دار القرآن الدلامية

مشيدة مملوكية في طلعة المقدم الآخذة من الجسر الأبيض إلى سوق الجمعة في حي الصالحية،شيدها في العهد المملوكي الخواجا الكبير شهاب الدين أبو العباس أحمد زين دلامة البصري سنة 847هجري الموافق 1443م ودفن فيها عند وفاته.(قتيبة الشهابي)

دار القرآن الصابونية

منشأة مملوكية في سوق النحاتين،على الطريق العام الذاهب من باب الجابية إلى حي الميدان التحتاني،قبالة مقبرة الباب الصغير،أنشأها شهاب الدين أحمد القضائي بن علم الدين بن سليمان بن محمد البكري الدمشقي المعروف بالصابوني،فرغ من إنشائها سنة 868هجري الموافق 1464م .

المدارس الأخرى في دمشق

جاء في مقال نشر في مجلة المجمع العربي بدمشق للحسن بن أحمد بن زفر الإربلي الشافعي المتطبب في ذكر عدد مدارس دمشق وعدتها إحدى وتسعون مدرسة قال:

تفصيلها:

مدرسة العادلية الكبيرة،والعادلية الصغيرة،والظاهرية،والبادرائية،والقيمرية،والأمينية،والناصرية،والمسرورية،والأقبائية،والجاروخية،والنقوية،والعزيزية،والمجاهدية،والرواحية،والفلكية،والركنية،والعذراوية،والعصرونية،والشامية الجوانية،والأكزية،والطيبة،والصلاحية،والكردية،والطبرية،والسامرية،والعمادية،والدماغية،والنجيبيبة،والقليجية،والفتحية،

والرواحية.

وفي الجامع الأموي ثلاث مدارس:وهي المدرسة الغزالية،والقوصية،والكلاسة.

فهذه جملة عدد مدارس الشافعية التي هي داخل مدينة دمشق وهي خمس وثلاثون مدرسة.

ولهم خارج دمشق ثمان مدارس وهي:المدرسة الأتابكية،والشامية البرانية،والظاهرية،والفرخشاهية،والأسدية،والبهنسية ومدرسة ابن سناء الدولة،ومدرسة السبع مجانين.

وأما مدارس الطائفة الحنفية،فجملتها إحدى وثلاثون.

داخل دمشق إحدى وعشرون مدرسة وهي:المدرسة الظاهرية،والنورية،والصادرية،والبلخية،والقيلجية،والخاتونية،والريحانية،والجوهرية،والقيمازية،والطرخائية،ومدرسة القلعة،والعزية،والعذراوية،والمعينية،والدماغية،والمقدمية،والشبلية،والاقبالية،والفتحية،ومدرسة القصاعين.

ولهم بالجامع الأموي مدرسة واحدة وتعرف بزاوية الحلبيين.

ولهم خارج دمشق عشر مدارس وهي:المدرسة الزنجارية،والمعظمية،والمرشدية،والشبلية،والفرخشاهية،والعزيّة،والخاتونية،والركنية،والعلمية،والماردانية.

وأما مدارس الطائفة الحنبلية.فجملتها عشر مدارس.

داخل دمشق ست مدارس وهي:المدرسة الحنبلية،والجوزية،والمسمارية،والصدرية.

ولهم بالجامع الأموي مدرستان:حلقة الأوزاعي،وحلقة المحراب.

ولهم خارج دمشق بجبل الصالحية خاصة أربع مدارس وهي:دار الحديث الأشرفية،والصاحبية،والضيائية،ومدرسة الشيخ أبي عمر رحمه الله.

وأما مدارس الطائفة المالكية فهي أربع مدارس وكلها داخل دمشق وهي:المدرسة النورية،والشرابيشية،والصمصامية.ولهم بالجامع الأموي واحدة وتسمى حلقة السفينة.

يقول الشيخ العلامة علي الطنطاوي رحمه الله عن هذه المدارس وكيف لم تعد كما كانت في مقال له بعنوان”صور دمشقية سوداء من ربع قرن”نشره في كتابه مع الناس ونشر عام 1935م :
“ذهبت أمس إلى المدرسة الأمينية(قبلي باب الزيادة المعروف بباب القوافين من أبواب الجامع الأمويّ،وهو شرقي المجاهدية جوار قيسارية القواسين بظهر سوق السلاح،وكان به بابها وهو اليوم من سوق الحرير وتعرف هذه المحلة قديماً بباب القباب،وهناك دار مسلمة بن عبد الملك،قيل إنها أول مدرسة بنيت بدمشق للشافعية،بناها أتابك العساكر الملقب بأمين الدولة ربيع الإسلام أمين الدين كستكين بن عبد الله السفتكي المتوفى سنة 541هجري وقد بنيت المدرسة سنة 514هجري….وجاء ذكرها في ترجمة الغزالي في طبقات السبكي لما زار دمشق،ودرس بها ابن خلكان وغيره،وكان لها شأن بين مدارس دمشق كبير.جدّد عمارتها واستخلص بعض ماسرقه منها الجيران وجعلها مدرسة ابتدائية مدة أربعين سنة الشيخ شريف الخطيب وقد توفى رحمه الله سنة 1959م)وهي المدرسة الإسلامية التي انحطمت على جدرانها ثمانية قرون وهي قائمة،وماتت من حولها ثمانمائة سنة وهي حيّة،ونشأت دول وانقرضت،وبدئت تواريخ وختمت وتبدلت الأرض وتغيّرت،وهي ماضية في سبيلها،عاكفة على عملها،قد انقطعت عن الأرض من حولها،واتصلت بالسماء من فوقها فعاشت في سماء العلم والناس يعيشون في أرض المادة.

دخلتها فإذا هي صامتة ساكنة،لا يسمع في أبهائها صوت مدرس بدرس أو دارسين بتلاوة،وإذا في كل فصل من فصولها رهط من التلاميذ،متفرقون في زوايا الفصل،لا تنفرج شفاههم عن بسمة السرور،ولا تلمع عيونهم ببريق الجذل،وإذا الأستاذ صاحب المدرسة قابع في غرفته،يفكر حزيناً،وينظر آسفاً،وهو الذي لم يأل العملَ جهداً،ولم يسىء بالله ظناً

فلما رآني قام إليَّ يُحدّثني عن المدرسة،ويعلمني علمها،فإذا المدرسة قد زلزلت في مطلع العام المدرسيّ،لأن الناس قد مالوا عن المدارس الإسلامية وزهدوا فيها،وزاغوا إلى المدارس الأجنبية وأقبلوا عليها،وضنّوا على مدارسنا بدينار واحد في العام،ليمنحوا تلك ثلاثة أرباع الدينار في الشهر.

وأفاض الأستاذ في البيان،حتى امتلأت نفسي حَزَناً فخرجت حزيناً فمررت على “الكاملية”

(هي التنكزية الصغرى دار قرآن وحديث شرقي حمام نور الدين الشهيد وراء سوق البزورية أنشأها نائب السلطة تنكز سنة 730هجري،وسميت الكاملية الهاشمية لأن الأستاذ الشيخ كامل القصاب جدّد بناءها وجعلها مدرسة ثانوية فكانت حيناً من أرقى مدارس دمشق)

فإذا هي في خطب أشد،ومصيبة أفدح،فجزت ب”الجوهرية”

(شرقي تربة أم الصالح داخل دمشق بحارة بلاطة المعروف اليوم بزقاق المحكمة أنشأها الصدر نجم الدين بن عباس التميمي الجوهري سنة 676هجري،وكان بعضهم أواخر القرن الماضي قسمها ثلاث دور…وقد أعادها مدرسة وجدد بناءها الشيخ عيد السفرجلاني رحمه الله رحمة واسعة،وقد هدمت سنة 1958م وصار مكانها شارعاً)

فإذا هي ماتت بعد شيخ الشام،الشيخ عيد السفرجلاني،وإذا فيها بنات يقرأن ويصحن ويلعبن،فسلكت على”التجارية”

(مدرسة مستحدثة أسسها طائفة من تجار دمشق وكانت قبيل الحرب وأوائله أرقى مدرسة ثانوية في دمشق وكان مديرها والد الشيخ علي الطنطاوي الشيخ مصطفى الطنطاوي)

فإذا دارها الكبيرة في زقاق الفخر الرازي خلاء قواء وإذا هي قد انقلبت إلى الخيصرية فاتخذت فيها دار،ورأيت”الجقمقية”

(هي شمال الجامع الأموي أسسها سنجر الهلالي وولده شمس الدين فانتزعها الملك الناصر حسن سنة 761هجري وأمر بعمارتها فبنيت بالحجر الأبلق وجاءت غاية الحسن واحترقت في فتنة تيمور فجدّد بنيانها سيف الدين جقمق وخصّ الخانقاه بالصوفية وأضاف إليها مدرسة للأيتام وتربة وفي هذه المدرسة تخرّج أكثر رجال دمشق المعروفين على يد الشيخ عيد السفرجلاني رحمه الله)

القاعة التاريخية الجميلة،والمدرسة الأثرية الجليلة فإذا هي قد اتخذت داراً.

فذهبت وأنا أحسّ الألم يقطع في كبدي،والأسى يحزّ في قلبي،وودت لو أن الله قبضني إليه قبل أن أرى مدارسنا الإسلامية،لا تستطيع أن تعيش في البلد الإسلامي،ولا تجد من يشد أزرها ويأخذ بيدها…وأممت شارع بغداد،أروّح عن نفسي بخضرة البساتين،وجمال الكون،وانطلاق الهواء،ومنظر الجبل،فما راعني إلا أفواج من الناس قد ازدحمت على باب بناء كبير،كأنه قلعة من القلاع،أو قصر من القصور،حتى لقد كادت تسد بكثرتها الشارع العريض ،ما راعني إلا الناس على باب”مدرسة اللاييك” يتدافعون ويتزاحمون،كأنهم على باب الجنة،فكل يطمع أن يسبق إليها،وكلما فتح الباب لواحد،لحظته العيون بالغيظ،ورمقته بالحسد..فسألت قوماً أعرفهم ينظرون كما أنظر،ماذا هناك؟ فقالوا:هم المسلمون يريدون أن يسلموا أبناءهم إلى رجال اللاييك ليصبوا في قلوبهم ما يشاؤون من عقائد باطلة في الدين،وعواطف زائفة في الوطنية،وزهادة في اللغة،وكره للتاريخ الإسلامي،والقومية العربية،ويدفعون إليهم الأموال الطائلة،وما يشترون بها إلا الكفر لأبنائهم،والزيغ والإلحاد،وحبّ الغريب،وبغض القريب،وما يشترون إلا أعداء لهم ولأوطانهم ،يحاربونهم،ويغزونهم في أخلاقهم وعقائدهم ،وهم قد انحدروا من أصلابهم،وخرجوا من ظهورهم،أفرأيت بلاءً أشد،وخزياً أكبر،من أن يحاربوننا بأبنائنا،ويأخذوا على ذلك أموالنا؟

فقلت:لا والله! وسرت،أخشى أن تتمزّق والله من الألم كبدي،فمررت على”مدرسة الفرير” فإذا الجموع أكثر،والازدحام أشدُّ،والمسلمون يرجون الخوري…أن يُنسي أبناءهم القرآن،ليحفظهم الإنجيل،ويبغض إليهم محمداً وابا بكر وعمر،ويحبب إليهم بطرس ولويس ونابوليون..فسرت مسرعاً،لا يطول بي وقوف فتحرقني نار الحزن،وأخذت طريقي إلى مدرستي،أسلك إليها شارع البرلمان،فإذا على باب”مدرسة الفرنسيسكان” أمام الكنيسة الفخمة،جمهور من المسلمين لا يحصيهم عدّ،يأخذون بأيدي بناتهم،ليدخلوهن إليها…فعدت أدراجي إلى شارع الصالحية فأخذت حافلة “التراموي” إلى مدرستي في حيّ المهاجرين،في لحف جبل قاسيون.

ولم يستقر بي في المدرسة مقام ،حتى أقبل علينا شيخ من مشايخ المسلمين،على رأسه عمامة بيضاء كأنها برج،وحول يده كُمّ كأنه خرج تتدلى منه سبحة لا يفتأ يعدّ حباتها ويلعب بها،وقد يُخطىء مرّة فيسبّح عليها،يجرّ بيده ولداً،فخذاه مكشوفتان وعلى رأسه كُمّة،فقلت له:ما هذا يا شيخ؟أعورة من أعلى،وعورة من أسفل؟

قال: وما ذاك؟

قلت:ألم يكفك أن تكشف عورته،وأنت تذكر الله،وتتلو كتابه،وتظهر منه ما أمر الله بستره،حتى تضمّ إلى العورة عورة أخرى تجىء من فوق رأسه،فتلبسه القبعة؟

فقال:(ولوى لسانه وتفيّهق وتشدّق):وما هي بعورة في مذهبنا

قلت:وما مذهبك يا مولانا؟

قال: مذهب الإمام مالك

قلت: ذاك لمن لا يفرّق بين عورة الملتحي وعورة الأمرد،هذا الذي في مذهب مالك،لا مع مثل ابنك الذي لا تؤمن معه الفتنة.

وبعد…فهذا طرف من الحقيقة،وقليل من كثير من الواقع،نسوقه بلا تعليق!”.

وجاء في مقال لآخر للشيخ العلامة علي الطنطاوي رحمه الله بعنوان”وقفة على طلل”(الرسالة العدد 614):

“في حمى المسجد الأموي،وفي ظلال سوره العالي،بين مثوى البطل الأجلّ الملك الناصر صلاح الدين والمدرسة الكلاسية الأثرية،وبين المدرستين القديمتين السميساطية والأخنتئية،تقوم المدرسة الجقمقية الخالية المائلة ـ التي بناها سنجر الهلالي ـ وجدّدها الملك الناصر سنة 761هجري ثم احترقت فجددها الأمير سيف الدين جقمق فنسبت إليه.

ما مررت بهذه المدرسة الخربة المعطلة،وذكرت ما أودعتها من عواطف،وما تركت فيها من حياتي،إلا تلفت القلب،وصفى الفؤاد،واعتجلت في النفس خواطر،وانبثقت للعين صور،أقرّ بالعجز عن صوغها ألفاظاً مقروءة وجملاً،ووضعها في هذه القوالب الجامدة الضيقة وهي أشد انطلاقاً من النور وأوسع من الزمان….ولا أجد إذا أردت وصفها إلا هذا الحديث المعاد،وهذا القول المكرر المعار الذي لا يفتأ الشعراء من عهد امرىء القيس الذي وقف واستوقف،وبكى واستبكى،يعيدونه ويرددونه،وهو ما يزال ومعناه جديد في كل قلب،سريع إلى كل لسلن،فأسائل هذه الجدران المائلة،وأخاطب…هذه الغرف الخالية.. وآه!لو تصف هذه الجدران ما رأت وتنطق الأبواب،وآه! لو تعي المغاني وتحدث المباني!وأنّى؟! وما وعت قلوب الناس ولا وفت حتى يفي الجماد!

لقد عشت دهراً لو قيل لي فيه،إنه سيأتي عليك يوم تجوز فيه بهذه المدرسة فلا تقف عليها إلا وقفة التذكر والحنين،ثم تمضي وتنساها بعد خطوات،لما صدقت!فكيف هانت علي هذا الهوان،وقد كانت بالأمس نصف دنياي.وهل دنيا التلميذ إلا داره ومدرسته والطريق بينهما؟وقد كانت أبداً في فكري وحسي:في الصباح حين أتوجه إليها،وفي النهار حين أكون فيها.وفي المساء حين أعود منها،قد تجمعت فيها أفراحي كلها وأتراحي،وأصدقائي جميعاً وأعدائي،وكانت بضعة مني.بل كيف أنكرت ذلك الطفل الذي كان في سنة 1918 تلميذاً يحمل اسمي وملامح وجهي؟كيف جوزت لنفسي أن أطرح آراءه،وأهزأ بأفكاره.وأحقر ما كان يعظمه؟لقد ذهب المسكين ولا أدري أين ذهب،وجئت من بعده،ولكني لم أنس حوادثه.فهل الذاكرة هي الشىء الفرد الذي يبقى ثابتاً في الإنسان،على حين تبدل العقول والأجسام؟

ولذلك وقفت اليوم على(الجقمقية) ولكني لم أجد فيها ما أريد.لقد عدا سارقان على أحلى ذكرياتي فسرقاه في غلس الليل،كما يسرق النباشون الذهب من قبور الفراعنة،ولم يدعا لي إلا كل تافه حقير،فبماذا أتحف القراء بعد الذي صنعه معي هذان اللصان:الزمان والنسيان؟!

هذه هي المدرسة التي أودعتها عهد الطفولة وذكرياته العذاب،لا تزال قائمة جدرانها،ماثلاً بنيانها،وهذه هي الطرقات التي كنت أسلكها غادياً إليها من داري ورائحاً منها إليها،وهذا هو (الأموي)العظيم الذي كنا نعرج عليه كل يوم بكرة وظهراً وعشية،وما بيننا وبينه إلا أن نخرج من باب المدرسة فندخل من بابه،نغافل(الحسكي) ونقفز،فيلحقنا بعصاه ونحن نتضاحك ونروغ منه نعدو في صحن الجامع الواسع النظيف،حتى يكل المسكين ويتعب فيدعنا مكتفياً بما تسعده به قريحته من روائع فن الهجاء،فإذا انصرف عنا،وذهب الحافز لنا على اللعب،عقلنا ودخلنا نستمع إلى أصحاب الحلقات فيه.

فأين أيامنا في هذه المدرسة،وهل تعود هذه الايام؟أين ذلك الشيخ الحبيب إلى كل نفس،الجليل في كل عين،شيخ الشام ومعلمها ستين عاماً،ستين عاماً وهو دائب على عمله العظيم يأخذ من هذه الأمة أطفالاً صغاراً،فيردهم إليه شباباً متعلمين،يصب من عقله الذي يزيد على البذل في أدمغتهم،ومن إيمان في صدورهم،فتعلم من الولد وأبوه وجده.أي والله وهذه سجلات مدرسة فسلوها تنبئكم،بذلك هو الإامام الشيخ عيد السفرجلاني.

هذه هي المدرسة! هذا البنيان فأين السكان؟أين رفاقي فيها؟أين من كان يجمعهم مقعد واحد،وكانوا سواء في كل شىء لا يميز أحد منهم على أحد إلا بمقدار ما ينجح في درس،أو ينال ثناء من أستاذ.وكان فلان الفقير عريف الصف والمقدم في التلاميذ.وكان الشيخ يتخذ منه مصلاً مضروباً لأبناء الأغنياء،ويبشره بالمجد والمال والرتب،وبأنه سيمشي على الورد المفروش حين يمشي أولئك على الشوك.

رحمك الله يا شيخنا فلقد أصبت في كل ما كنت تقول إلا في هذا.تعال انظر تر الدهر قد ضرب بيننا،ففرق الإخوان،وشتّت الخلان،فتفرقوا في أفاق الأرض،وانتثروا على سلم الحياة علاء وخفضاًنوسار الأكثرون على الأشواك فدميت أقدامهم الحافية،ومشى قوم على الورق والفل والياسمين،وحازوا المال والمجد والرتب،ولن أسمي لك أحداً كيلا أفجعك بآرائك وفضائلك.

فيا أيتها المدرس ـ خبرينا لماذا لا نستطيع أن نعود أدراجنا في طريق الزمان ـ كما نملك أن نرجع في طرق الأرض؟لماذا لا نقدر أن نقف في الفترة السعيدة من أعمارنا،كما يقف المسافر في البقعة الجميلة إذا جاز بها؟

إذن لعدت أدراجي فلصرت العمر كله تلميذاً فيك،أستمتع بجوار ذلك الشيخ النوراني،وأعيش في جو أنيس من نصائحه ومواعظه وقصصه،وأبقى أبداً ذلك الطفل الذي لا يدري ما لاالشر،هذا ما تمنيت أن أكونه وهيهات أن تتحقق الأماني الكواذب!

إني كلما رأيت هذه المدرسة خالية خاوية خربة لا يحفل بها أحد،ولا يذكر شيخها إنسان،أيقنت أن الجحود سجية في هؤلاء الناس.

أتنسى دمشق شيخها ومعلمها الذي أحسن إليها؟إن هذا الشيخ لم يكن عالماً مؤلفاً،ولا سياسياً حاكما،ولا فيلسوفاً مفكرا،فلقد بنى في نهضة دمشق ركناً لم يبنِ أضخم منه عالم ولا حاكم ولا فيلسوف.لقد كان معلم أولاد ولكن أولاده صاروا قادة هذا البلد.لقد أنشأ مدرسة منظمة يوم لم يكن في دمشق إلا الكتاتيب.لقد كان مربياً بالفطرة لم يقرأ بستالوسي،ولا تعلم أصول التدريس ولكنه كان أحسن مربٍ رأيته…

فيا أيها القراء لا تقولوا،ومن الشيخ عيد السفرجلاني،وماله يملأ صفحات الرسالة بأخبار نكرة في الرجال…فكم في ظلام النسيان من عظماء حقاً،وكم في ضياء الشهرة من أصنام قائمة نظنها ناسا،وهي مبنية من جامد الصخر،أو بارد النحاس”.

وجاء في مقال للأستاذ عز الدين التنوخي (كاتب سر المجمع العلمي العربي):

“إن هذه الدار التي نحن مجتمعون الآن في صحنها كانت تعرف بالمدرسة الظاهرية الجوانية،وهي بقية ثلاث مئة مدرسة كانت عامرة في القرون الوسطى بالعلم والأدب في مدينتا هذه العظيمة،وكانت مدرسة للحنفية والشافعية يدرسون فيها الحديث وعلومه،وقد أنشأها الملك الظاهر بيبرس البندقداري ودفن فيها هو وابنه الملك السعيد  ولا تزال على هذه المدرسة مسحة باقية من جمالها القديم يبدو في موضعين منها:في مدخل الظاهرية الجميل،والموطن الثاني هو القبة الظاهرية التي دفن تحتها هذا الملك الشامي المجاهد ودفن إلى جانبه ابنه الملك السعيد.

وكان لكل مدرسة في دمشق خزانة كتب خاصة تشتمل على نفائس الكتب وكثير منها بخطوط مؤلفيها،ثم بلغ من إهمال العلم في دمشق أن أمسى قوّام هذه المدارس للفقر وقلة الراتب وضعف الشعور بالواجب يبيعون هذه المخطوطات،وأقبل الأجانب من قناصل ومستشرقين يشترون تراث السلف بأبخس الأثمان،مما ألقى في روع عالم الشام وباعث نهضتها العلمية الشيخ طاهر الجزائري أن يجمع شتات هذه المبعثرات من خزائن الكتب ويضعها في القبة الظاهرية،فأشار على الوالي بذلك وهو حمدي باشا فألف سنة 1296 هجري لجنة خاصة جعل رئيسها العلامة السيد علاء الدين عابدين،فجمعوا هذه الكتب من عشر مدارس ووضعوها في خزائن كبيرة تحيط بضريح الملك الظاهر الذي عاش في حياته تحت ظلال السيوف البواتر،ودفن بعد مماته تحت ظلال الكتب والدفاتر.

وبقي أمر الخزانة الظاهرية على هذه الحال إلى أن وسدت الحكومة أمر الولاية عليها إلى المجمع العلمي العربي يوم إنشائه في سنة 1919م .

قلعة دِمشقّ

أنشئت قلعة دمشق، في الزاوية الشمالية الغربية من المدينة القديمة ضمن السور،في عصر الملك العادل أبي بكر محمد بن أيوب شقيق السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي وخليفته.ولقد أقامها مكان قلعة سلجوقية أنشئت عام 469 هجري الموافق 1076م،وبناها الأمير أتسز بن أوق الخوارزمي التركماني وأعلن فيها سلطة السلاجقة.

وكانت قلعة هامة استفاد منها نور الدين بن زنكي وصلاح الدين الأيوبي في حماية دمشق من تهديد الصليبيين عام 542 هجري الموافق 1148.ثم توهنت وهدمت بسبب الزلازل والحروب.وتم ترميمها عام 1985 م.

ويؤكد وجود هذه القلعة السلجوقية أقوال المؤرخين،وما تبقى من منشآت أهمها البرج الشمالي الذي جدّده صلاح الدين عام 585 هجري الموافق 1188م .وفيها دفن أولاً  نور الدين وصلاح الدين ثم نقل جثمانيهما إلى قبريهما في دمشق القديمة.

تبلغ مساحة القلعة 33176 متر مربع وهي ذات شكل مستطيل،يبلغ طولها 240 ـ 250 متر وعرضها 165 ـ 120 متر.ويحيطها من الخارج سور منيع ذو أبراج مربعة ضخمة يبلغ عددها 12برجاً،وينفتح في جسم أسوار القلعة أربعة أبواب:

ـ باب الحديد في سورها الشمالي وكان له جسر فوق بردى.وسمي بذلك لأنه كان كله من حديد .

ـ باب جسر الخندق الشرقي وهو الباب الرئيسي لأنه يفتح في المدينة عند سوق العصرونية.

ـ الباب الغربي أو باب السرّ عند جادة السنجقدار وكان السلاطين والأمراء والولاة يدخلون منه سراً ويخرجون.

ـ باب السر الجنوبي الواقع مقابل دار السعادة والمغطى حالياً بمباني سوق الحميدية.وسمي كذلك لأنه كان مخصصاً لمرور متسلّم القلعة فقط بصورة سرية غالباً.

ويحيط بالقلعة خندق تم توسيعه عام 612 ـ 614 هجري الموافق 1214 ـ 1216 م هو بعرض 20 متراً وقد يصل إلى 5 أمتار،وقد ردم الخندق إلا من الجهة الشمالية حيث أصبح مجرى لنهر العقرباني.

وكان في القلعة عدد من المنشآت الهامة،ومنها مسجد أبي الدرداء رضي الله عنه،والقصر ودار المسرّة ودار رضوان،وقد زالت أكثر هذه المنشآت.

لقد كانت القلعة منذ بداية إنشائها،حصناً عسكرياً هاماً،وكانت مقراً للسلاطين الأيوبيين،وفيها كانت تمارس جميع النشاطات السياسية والاجتماعية،فكانت مدينة محصنة،فيها القصور والحمامات والمساجد،وفيها دفن عدد من الملوك ثم نقلت رفاتهم إلى خارج القلعة.

وفي العصر المملوكي(659 ـ 922 هجري الموافق 1260 ـ 1516 م أصبحت القلعة مقراً لنواب السلطنة إذ أصبحت القاهرة هي العاصمة،وكان الملوك المماليك يقيمون فيها عند قدومهم إلى دمشق.

وقد لعبت القلعة دوراً هاماً في الدفاع عن مدينة دمشق وبخاصة عند غزو التتار عام 658 هجري الموافق 1259 م ولكنها سقطت أمام عنف ضربات المنجنيق التي أتت على البرج الغربي ـ الجنوبي .

وقد عني الملك الظاهر بيبرس بترميمها،وكان كثير التردد والإقامة فيها لقيادة معاركه ضد الصليبيين والتتار.

وفي العصر العثماني أصبحت القلعة مقرً للانكشارية والدالية ويرأسها آغا القلعة ومهمته استقبال وتوديع الوالي.

أما أهم المنشآت المدنية التي مازالت حتى الآن فهي جامع أبي الدرداء رضي الله عنه وهو قاعة واسعة تتصل بالبرج الشمالي المتوسط.ويعلو القاعة قبة وفي الحرم ضريح ينسب إلى الصحابي أبي الدرداء.

ومنذ عام 1982 وحتى عام 1985 تم اخلاء القلعة من الأبنية المضافة إليها،وتمّ إعادة بناء البرج الجنوبي الغربي كاملاً وترميم الأسوار الشمالية.

تعرضت القلعة إلى العديد من الكوارث كهدم بعض أجزائها نتيجة الزلازل .كما تعرضت للقصف من قبل القوات الفرنسية إبان العدوان على دمشق سنة 1945م فتهدم جزء منها بالإضافة إلى دور كثيرة في منطقة العصرونية والأحياء المجاورة للقلعة.

سور وأبواب مدينة دمشقّ

سور دمشق

لقد بُني سور دمشق في العهدين الإغريقي والروماني،ويبلغ طوله 1500متر وعرضه 750 متر ،وتبلغ مساحة دمشق القديمة داخله 105 هكتارات.ولم يتأثر السور أثناء الفتح العربي لدمشق عام 14 للهجرة،إلا أن انتقال الخلافة فيما بعد من دمشق إلى بغداد قلّل الاهتمام والعناية به فتهدّمت أجزاء منه،كما أن العباسيين أنفسهم قاموا بهدم أجزاء منه حين دخولهم دمشق،ولكن السلطان نور الدين الشهيد أعاد بناء السور ورمّمه وبنى عليه الأبراج الدفاعية،كما قام ببناء سور مزدوج في المنطقة المُمتدّة من باب السلام وباب توما حتى الباب الشرقي بحيث أصبحت المنطقة الواقعة بين هذين السورين تعرف باسم”بين السورين”.

أبواب دمشق

كانت لليونان القدماء عادة دينية في بناء مدنهم لم يسبقهم إليها أحد،فقد كانوا يعملون لأسوار المدن الهامة من مدنهم سبعة أبواب،وكانوا يقفون كل باب لإسم كوكب من الكواكب السبعة،وهي الشمس والقمر وزحل وعطارد والزهرة والمشتري والمريخ.

وكانوا يرسمون فوق كل باب نقشاً في الحجر صورة الشكل الذي كانوا يرمزون به إلى ذلك الكوكب،ويعملون بجوار كل باب من داخله معبداً صغيراً لهذا الكوكب.

أما دمشق فكان سورها عندما ملكوها قديماً  يحصرها في بقعة ضيقة،فوسعوه وعملوا له سبعة أبواب ووقفوا الباب الأول(الشرقي)للشمس،والثاني(باب كيسان)لزحل،والثالث(باب الصغير)للمريخ،والرابع(باب الجابية)للمشتري،والخامس(الجينيق)للقمر،والسادس لعطارد،والسابع(باب توما) للزهرة.

ثم دخل الرومان سوريا،وعندما اعتنقوا المسيحية في عهد الامبراطور قسطنطين،حوّلوا أسماء الأبواب من وثنية إلى مسيحية لتذكارات قديسين وأعياد،ومنها في دمشق:باب توما كان للزهرة وخصص لإسم الرسول توما.وباب بولص وهو باب كيسان وقد كان لزحل.

يقول المؤرخ ابن عساكر:دمشق بنيت على الكواكب السبعة،وجعل لها سبعة أبواب ،وصور على كل باب صورة الكوكب المرصود له،فباب كيسان الذي يرمز لزحل بقيت الصورة عليه حتى الآن،بينما خربت على الأبواب الأخرى.وقد قامت هذه الأبواب بحماية الكتل السكنية داخل السور إذ لايمكن الوصول إلى المدينة إلا عبر هذه الأبواب التي يسهل إغلاقها في وجه أي هجوم مفاجىء.

وأبواب دمشق هي:

1 ـ باب كيسان

أحد أبواب دمشق القديمة في الزاوية الجنوبية الشرقية من السور.وهو أحد الأبواب الرومانية الأصلية السبعة،وكان مخصوصاً بكوكب زُحل(ساتورن)إله الزراعة عند الرومان.أما اسم كيسان فينسبه ابن عساكر إلى كيسان مولى معاوية بن أبي سفيان،قيل نزل عليه يوم فتح دمشق.ويقال إن الاسم سرياني الأصل ولعله قيصون ويعني طرفي أو أقصى،وهذا يفيد الحد الاقصى للمدينة من الزاوية الجنوبية الشرقية.

أغلق باب كيسان في عهد السلطان نور الدين الشهيد،وفتح باب الفرج.

وأعيد فتحه في العهد المملوكي سنة 765هجري على يد نائب الشام سيف الدين منكلي بغا،وشاع عليه منذ ذلك الحين اسم الباب القبلي..

وأثناء الاحتلال الفرنسي أعيد إنشاؤه وترميمه عام 1939م وبنيت خلفه كنيسة القديس بولس.ويقال إن القديس بولس تم تهريبه من نافذة فوق الباب في سور دمشق،لينجو من اضطهاد اليهود والرومان بعد اعتناقه المسيحية،وهو من نشرها في أوروبا بعد خروجه من دمشق.

2 ـ الباب الشرقي

أحد أبواب دمشق القديمة،في الجهة الشرقية.وسمي بذلك لأنه شرقي البلد،بناه الرومان على أنقاض الباب اليوناني القديم في السنوات الأوائل من القرن الثالث.وكان له زمن الرومان شأن كبير.والباب الشرقي هو الباب الوحيد الروماني الذي وصل إلينا كما تركه الرومان،ولذا فله قيمة تاريخية كبرى.وكان الباب ينسب للشمس.

واشتهر الباب الشرقي في أحداث الفتح الإسلامي لمدينة دمشق عندما نزل عليه خالد بن الوليد رضي الله عنه عنوة وافتتح المدينة عام 14 هجري.ودخل منه نور الدين الشهيد لما ضمّ دمشق إلى إمارته عام 549 هجري.وقد رحبّ به أهل دمشق إشتهاره بالعدل وجهاده ضد الصليبيين وفتحوا له الباب الشرقي وهم يصيحون كما ذكر ابن القلانسي:نور الدين يا منصور.وبسيفك فتحنا السور.

والباب الشرقي يتألف من ثلاثة مداخل:مدخل كبير في الوسيط وعلى جانبيه مدخلان صغيران.وعليه مئذنة تعود في الأصل إلى عهد نور الدين الشهيد،وجدّدت بعده،وما زال على البوابة الشمالية منه كتابة تحمل تاريخ تجديد نور الدين للباب وسور دمشق بشكل عام.

3 ـ باب توما

أحد أبواب دمشق من الجهة الشمالية الشرقية،واسم الحي الواقع داخله.وينسب إلى عظيم من عظماء الروم اسمه توما.

وأقام الرومان بالقرب من باب توما كنيسة وديراً إلى جهة الشمال منه.ومن ثم جعلت الكنيسة فيما بعد مسجداً.

وعندما سقطت دمشق بيد الفاتحين العرب المسلمين ودخل القائد عمرو بن العاص من باب توما كما ذكر البلاذري.

أعيد بناؤه في عهد الملك الأيوبي الناصر داوود عام 1228 م وفي العهد المملوكي قام الأمير تنكز بتجديده عام 1333م .يرمز هذا الباب إلى كوكب الزهرة.

4 ـ الباب الصغير

أحد أبواب مدينة دمشق القديمة،في الجهة الجنوبية الغربية.

وهو واحد من أبواب دمشق الأصلية السبعة التي اختطّها اليونان وأعاد بناءها الرومان عندما نظّموا مدينة دمشق مجدداً.وخصّ اليونان والرومان هذا الباب لكوكب المريخ(مارس إله الحرب).وبعد الفتح أطلق عليه اسم الباب الصغير لأنه كان أصغر أبواب دمشق حين بنيت.دخل منه القائد يزيد بن أبي سفيان عند فتح دمشق.

أعاد بناؤه الملك نور الدين الشهيد عام 1156 م. وقام بتجديده أيضاً الملك عيسى بن أبي بكر الأيوبي العادل شقيق صلاح الدين  عام 623هجري( 1226 م) .وتسمي العامة هذا الباب اليوم باب الشاغور لأنه يفضي إلى هذه المحلة.

5 ـ باب الجابية

أحد الأبواب الرومانية القديمة لدمشق،وهو بابها الغربي.بناه الرومان حوالي القرن الثاني للميلاد،وكان يتناظر في موقعه مع الباب الشرقي على طرفي الشارع المستقيم،وكان مكرساً لكوكب المشتري(جوبيتر).

أتت شهرة هذا الباب والباب الشرقي من عبور جيوش الفتح الإسلامي بقيادة خالد بن الوليد وأبو عبيدة بن الجراح منهما لتحرير دمشق،عام 14 هجري.وفي علم 132 هجري هدمه العباسيون عندما خربوا دمشق وسورها، وكان باب الجابية مؤلفاً من ثلاث فتحات،لم يبق منها إلا الفتحة الجنوبية.وقد أعاد الملك نور الدين الشهيد ترميمه عام 560 هجري( 1165م) ثم قام الملك شرف الدين عيسى بتجديده.

وأما سبب تسمية الباب فينسبها المؤرخون العرب إلى قرية الجابية،وهذه تعرف اليوم باسم تل الجابية،وتقع شرقي بلدة نوى في حوران،وتعرف أيضاً على ألسنة الناس باسم(جبا).وهذه البلدة البعيدة من قرى حوران كان لها أهمية حيث تقاسم العرب فيها الغنائم بعد معركة اليرموك،ونزلها الخليفة عمر الفاروق مع الصحابة للتداول في شؤون الفتح فكان يوم الجابية وكانت خطبة الجابية،وفي الجابية عقد المؤتمر الذي بويع لمروان بن الحكم بالخلافة.

6 ـ باب الفراديس

أحد أبواب دمشق القديمة،بين باب الفرج وباب السلام.وهذا الباب واحد من الأبواب السبعة الأصلية للمدينة منذ أيام الرومان،وكان منسوباً لكوكب عطارد(ميركوري)وأما تسمية باب الفراديس فقد كانت تطلق على الباب منذ ما قبل الفتح الإسلامي،وتنسب إلى محلة خارج البلد مما يليه تسمى الفراديس كما ذكر ابن عساكر.والفراديس جمع فردوس،أي بستان وروضة.

ويعرف الآن بباب العمارة عند العامة،لأن ما يليه من داخل المدينة حي العمارة الجوانية ومن خارجها العمارة البرانية.وهذا الباب دخل منه يوم الفتح القائد شُرحبيل بن حسنة.

أعيد ترميمه في عهد الملك الصالح نجم الدين أيوب عام 1241 م

7 ـ باب الفرج

أحد أبواب دمشق القديمة في الجهة الشمالية.يقع في سور دمشق الشمالي مما يلي القلعة مباشرة إلى شرقها.وهو ليس من الأبواب الرومانية السبعة القديمة،بل أحدث في العهد الأتابكي أمر ببنائه السلطان نور الدين الشهيد الذي حكم دمشق بين 549 ـ 569 هجري،وسماه باب الفرج تفاؤلاً لما وجد من التفريج لأهل البلد بفتحه.وباب الفرج مزدوج،والداخلي منه هو الذي أحدث أيام نور الدين،وجدّده من بعده الملك الصالح أيوب عام 639 هجري.وأما الخارجي فيعود بناؤه إلى العهد المملوكي،وعليه شعار مملوكي (رنك* بشكل زهرة الزنبق).

ويسمى اليوم عند العامة باب المناخلية،وكان يدعى سابقاً في العهد العثماني باب البوابجية(نوع من الأحذية الخفيفة).

8 ـ باب السلامة

من الأبواب المُحدثة،في العهود الإسلامية،ولم يكن موضعه باب روماني قديم.وهو أجمل أبواب المدينة القديمة،وله قوس عربية بديعة.

ويعرف بباب السلام،وهو بين باب توما وباب الفراديس.

أنشىء في عهد الملك نور الدين الشهيد في أواسط القرن السادس الهجري،وذلك من باب التفاؤل لأن هجوم الأعداء على المدينة من ناحيته كان متعذراً،فوراءه كثير من الأشجار وفرع نهر بردى.

وجدّد في عهد الملك الصالح نجم الدين أيوب عام 641 هجري( 1243م) .وما تزال عليه كتابات من العهدين الأيوبي والمملوكي.

9 ـ باب جَيرون

هو باب السور الخارجي لمعبد جوبيتر،والباب الشرق للجامع الأموي.وقد زال هذا الباب عام 753هجري كما ذكر ابن كثير في البداية والنهاية.وتوجد له بقايا ماثلة إلى الجهة الشرقية من محلة النوفرة،ويفصلها عن حي القيمرية.

ومن الأسماء التي أطلقت على هذا الباب اسم باب الساعات،وشاع هذا الاسم أيام نور الدين الشهيد،بعدما وضعت أمامه الساعة المشهورة التي وصفها ابن جبير في رحلته لدمشق في العهد الأيوبي سنة 580 هجري.وصانع هذه الساعة هو فخر الدين ابن الساعاتي وبقيت هذه الساعة والتسمية على الباب حتى عهد المماليك.وكذلك فإن اسم باب الساعات أطلق على باب الزيادة في الجامع الأموي.

10 ـ باب النصر

لا وجود لهذا الباب اليوم،وكان في موقع سوق الأروام الحالي عند مدخل سوق الحميدية.وهو باب مستحدث ولعل ذلك في العهد السلجوقي.ذكره ابن عساكر باسم باب الجنان.وبقي باب النصر موجوداً حتى عام 1863م عندما قام والي الشام شروانلي محمد رشدي باشا بإزالته لتوسيع مدخل سوق الحميدية.وكان يعرف قديماً بباب اليهود لأن محال اليهود من داخله ومقابرهم من خارجه فاستقبح الملك الظاهر غازي وقوع هذا الاسم عليه فسماه باب النصر بعد أن هدمه وبناه.

الأسواق القديمة الأثرية

سوق الحميدية

من أشهر أسواق دمشق،وأكثرها إثارة،يُضاهي سوق الموسكي بالقاهرة،وهو مغطى بسقف حديدي ملىء بالثقوب الصغيرة التي تنفذ منها الشمس أثناء النهار.

يبلغ طول سوق الحميدية الذي ينتهي بالمسجد الأمويّ ستمائة متر وعرضه 15 متر وارتفاعه 8 أمتار.

بُنى سوق الحميدية في مرحلته الأولى في عهد السلطان عبد الحميد الأول عام 1780 م ويقال أنه أخذ اسمه الحميدية من أيام ذلك السلطان العثماني.ويشتهر سوق الحميدية ببيع جميع أنواع الأقمشة الحريرية والملبوسات الجاهزة وأدوات الزينة.

تمتد سوق الحميدية وصولاً إلى أحد فروعها المسمى”المسكية” وهو سوق للكتب والقرطاسية،حتى يصل إلى أعمدة “جوبيتر” وهي بقايا لمعبد وثني بُني أيام الإغريق لم يبق منه سوى أعمدته الرخامية المرمرية الجميلة،والمزينة بكؤوس مزخرفة من الرخام،والذي يتصل بساحة يعتقد أنها كانت فناء للمعبد المذكور،ليجد الزائر نفسه أمام البوابة الرئيسية للجامع الأموي الكبير،ويحيط بالسوق عدد من الأوابد الأثرية والتاريخية فعلى يمينها تقع قلعة دمشق الشهيرة التي يتقدمها تمثال البطل صلاح الدين الأيوبي وضريحه الذي يقع بين السوق وبين حي العمارة التاريخي،وقبل أن يصل زائر سوق الحميدية إلى أعمدة جوبيتر ينحرف يساراً حيث يجد المكتبة الظاهرية .

وتتفرع عن سوق الحميدية وتحاذيها أسواق كثيرة تزيد عن اثنتي عشرة سوقا.ويقال أكثر،وهي أسواق مهنية تخصصية نذكر منها:سوق مدحت باشا:وهي سوق طويلة مسقوفة مثل سوق الحميدية بناها الوالي العثماني مدحت باشا.

وسوق البزورية وفيها يباع كل شىء يتعلق بالأغذية والحبوب والبذورات المجففة إضافة إلى السمنة العربية والزيوت والبهارات.

وسوق الحريقة المتخصصة بالأقمشة.

وسوق الخياطين.وسوق الصاغة.وسوق الناخلية.وسوق العصرونية .وسوق القباقبية.وسوق السروجية(صناع سروج الخيل).وسوق الحرير.وسوق العرائس المتخصصة بلوازم الأعراس ويسميها السكان سوق تفضلي.وسوق الطويل وسوق المسكية وسوق القيشاني الذي تباع فيه الكلف والأزرار وسواها.وسوق الصوف وسوق القطن وسوق العبي للعباءات العربية.

وجاء في كتاب “معالم دمشق الأثرية”للدكتور قتيبة الشهابي:

“سوق الحميدية أشهر أسواق دمشق القديمة،بين جدار القلعة الغربي ومدخل سوق المسكية.

بني هذا السوق على مرحلتين:

1 ـ القسم الغربي:في عهد والي دمشق محمد باشا العظم عام 1780م في عهد السلطان عبد الحميد الأول،وهو يمتد بين الدرويشية أو باب النصر وهو عند المدخل الغربي لسوق الحميدية الحالي والعصرونية.وعرف بالسوق الجديدة،وتم ذلك في عهد السلطان عبد الحميد خان الأول.ومحمد باشا بن مصطفى العظم ولد في دمشق سنة 1143هجري،وعين والياً على دمشق سنة 1185هجري ،وقد بنى فيها منشآت عمرانية كثيرة،فجدد ضريح النبي يحيى في الجامع الأموي،وصنع ضريحاً من نحاس لقبر الشيخ محيى الدين بن عربي،وعمّر غالب أضرحة الأولياء في دمشق وخارجها،كما بنى القلاع على طريق الحج،وبنى محكمة الباب،في الزقاق المسمى باسمها”زقاق المحكمة”،وكان من أحبّ الولاة العثمانيين على أهل دمشق،وقد خرج في جنازته معظم أهل دمشق ودفن في مقبرة الباب الصغير شمالي قبر بلال الحبشي رضي الله عنه.

2 ـ القسم الشرقي:في عهد والي دمشق راشد ناشد باشا،في سنة 1303 هجري،الموافق 1383م.

وهو يمتد بين سوق العصرونية وباب البريد.وتم ذلك في عهد السلطان عبد الحميد الثاني.وقد اقتضى توسيعه فتح المدخل الضيق لقسمه الغربي عند باب النصر(باب السرايا) فأزال والي دمشق العثماني شروانلي محمد رشدي باشا هذا الباب عام 1863م.ومنذ إتمام السوقين أطلق عليهما اسم :سوق الحميدية،نسبة إلى السلطانين المذكورين،وصار السوق أهم مركز تجاري بدمشق يختص ببيع جميع أصناف اللوازم البيتية والألبسة وما شاكل.بينما كان سوق مدحت باشا في ذلك العهد مختصاً بالبضائع الغذائية.

وفي عام 1302 هجري الموافق 1884م تجدد سوق الحميدية من باب الجامع الأموي الغربي إلى دائرة المشيرية في الدرويشية،وقد سقف على طرز مدخل باب الجامع الأموي الغربي المسمى”زلحفة” وقد استبدل الوالي حسين ناظم باشا هذا السقف الخشبي وسقوف الأسواق الكبيرة بسُقف من الحديد والتوتياء وقاية لهم من الحرائق.

وفي سنة 1329هجري الموافق 1911م تعرض لحريق كبير أتى على كثير من محلاته.

وفي سنة 1338هجري الموافق 1920م احترق القسم الشرقي منه برمته ووصلت النيران إلى خان الجمرك وسوق المسكية،وكانت الخسائر جسيمة.

وفي سنة 1344هجري قصف السوق والمنطقة الجاورة له بالقنابل الفرنسية وذلك مساء 10 تشرين الأول سنة 1925م وقد دمرت المنطقة تماماً.

وفي سنة 1358 هجري قامت دائرة الأوقاف بهدم الآثار التاريخية في السوق وهي حمام عذراء والمدرسة القجماسية والمدرسة الأحمدية.

وفي سنة 1403 هجري هُدم المدخل الغربي للسوق مع سوق الخجا من أجل كشف القلعة.

ومن المشيدات التاريخية في سوق الحميدية نذكر جامع الأحمدية.ومن الأسواق الجانبية التي تتفرع عنه:

ـ في النسق الجنوبي:سوق الأروام،ومداخل شوارع الحريقة،زقاق المرستان،السليمانية،جادة سوق الحرير.

ـ في النسق الشمالي:سوق نصري،سوق العصرونية،سوق البورص،سوق مردم بك،سوق الجرابات،سوق وكالة العشا،سوق باب البريد.

وجاء في ال”ويكيبيديا”:

“سوق الحميدية:

من أشهر أسواق دمشق في سوريا،وأهم وأشهر أسواق الشرق على الإطلاق،وأكثرها جمالاً ورونقاً،وقد وصفه المؤرخون بأنه فسيح رائع البناء،ووصفوه بأنه مدينة تجارية صناعية في قلب دمشق القديمة،ووصفه الباحثون بأنه درّة الأسواق وأجملها،وهو مغطى بالكامل بسقف من الحديد ملىء بالثقوب الصغيرة التي تنفذ منها الشمس أثناء النهار ومبلط بالحجر ـ البازلت الاسود ـ ويعد ملتقى الزائرين والسياح من كافة بقاع الدنيا.

يبدأ سوق الحميدية عند نهاية شارع النصر مع شارع الثورة عند منطقة الدرويشية،ويمتد السوق لمسافة تقارب الميلين،الجزء الأول منه يقع بجوار قلعة دمشق وفيه العديد من المساجد والمباني التاريخية العريقة،وتصطف على جانبيه المحلات التجارية من كل نوع وصنف على طابقين،وتتفرع منه أسواق كثيرة مثل:سوق السروجية،وسوق البزورية،وسوق الصاغة،وسوق المناخلية،وسوق العصرونية،وسوق الحرير،وسوق العرائس،وسوق القباقبية،وسوق الخياطين،وغيرها.وينتهي سوق الحميدية عند بوابة معبد جوبيتر الروماني وأعمدته الباسقة،ومنه إلى الساحة أمام الجامع الأموي في قلب المدينة القديمة.

ويوجد في سوق الحميدية صالات ومحلات للبوظة الدمشقية ومن أشهرها وأقدمها بوظة بكداش المعروفة منذ نهاية القرن التاسع عشر.

سوق الخُجا

غربي قلعة دمشق على جدارها.بُني على فسحة من الأرض غربي القلعة كان مكانها قسم من الخندق الذي ردم في أواخر القرن التاسع عشر،وقد ابتاع هذه الفسحة راغب بن رشيد الخوجة من الدائرة العسكرية بتشجيع من الوالي العثماني حسين ناظم باشا إبان ولايته الأولى(1895 ـ 1907م) للتخلص من تراكم الأقذار التي كان الناس يلقون بها في خندق القلعة،مما كان يؤدي إلى انتشار الأمراض والروائح الكريهة.وقد بنى السوق شخص يدعى ابن الأصفر,واضطر جنود السلطنة إلى العمل في إعماره للحصول على المال اللازم لمعيشتهم بعد أن عجزت الدولة عن دفع مرتباتهم آنذاك.

كان للسوق أربعة أبواب:الأول من سوق الأروام،والثاني تجاه سوق النحاسين،والثالث هو النافذ من باب القلعة القديم الغربي إلى اتجاه سوق القميلة وجامع سيدي خليل،والرابع المقابل لجامع السنجقدار.

هذا وقد جُدّد السوق عام 1905م وقام الوالي حسين ناظم باشا بتغطيته والأسواق الكبيرة الأخرى بسقوف من الحديد والتوتياء وقاية له من الحريق.

وكلمة “خوجة” هي كلمة تركية تعني المؤدب.

وقد زال هذا السوق،هدم أواخر عام 1983م،ومكانه الآن فسحة للمدخل الغربي لقلعة دمشق،نصب فيها تمثال لصلاح الدين الأيوبي،وبني سوق بديل باسم:سوق الخجا الجديد في شارع الثورة.

سوق الطويل

طريق يمتد بين باب الجابية والباب الشرقي.وهو الاسم البديل على ألسنة الناس للشارع المستقيم في المدينة القديمة.وسمي بذلك لأنه أطول طريق مستقيم في المدينة القديمة،وهو يشطرها إلى قسمين بالطول ما بين البابين المذكورين.أنشأه الرومان أثناء تنظيمهم للمدينة بعد فتحهم لها بقيادة “بومبيوس”عام 64 قبل الميلاد،وأسموه باللاتينية الدرب المستقيم(فيا ريكتا)،ويبلغ طوله حوالي 1500 متر،وكان عرضه آنذاك حوالي 25 متر.وعلى جانبيه كان يقوم صفان من الاعمدة الكورنثية الضخمة.وهذا الأسلوب درج عليه الرومان في جميع مدنهم المعروفة،كما في تدمر وبصرى وأفاميا وجرش.

وأما الروم البيزنطيون فأطلقوا عليه بلغتهم اليونانية اسم “إفثيا ريمي”.

وبعد الفتح الإسلامي لدمشق تغيرت معالم هذا الطريق،وفي عهد المماليك وفي نصفه الثاني تحديداً أطلق على القسم الغربي منه اسم”سوق جقمق” نسبة إلى الأمير ونائب الشام المملوكي سيف الدين جقمق العلائي(822 ـ 824 هجري) باني المدرسة الجقمقية وخان جقمق.وفي أواخر العهد العثماني أطلق على القسم ذاته من الطريق اسم “سوق مدحت باشا” والي الشام عندما قام بتوسيعه عام 1878م.

سوق مدحت باشا

شارع تجاري هام مستقيم يمتد بين باب الجابية وسوق البزورية.ويعرف أيضاً بسوق الطويل،وكان يسمى في العصر الروماني الشارع المستقيم.فهو من أسواق دمشق الموغلة في القدم.

ذكرنا عنه في الكلام عن السوق الطويل.وفي أواخر العهد العثماني قام الوالي مدحت باشا(أبو الدستور العثماني) بتوسيعه سنة 1878م بعد أن أشعل الحرائق عمداً في الدور السكنية التي كان السوق مكتظاً بها إثر معارضة سكانها للإخلاء.ومنذ ذلك الحين حمل اسم مدحت باشا.

وفي عام 1890م جُدّد أيام الوالي رؤوف بك.ثم قام الوالي حسين ناظم باشا بتغطيته بالحديد والتوتياء،حماية له من امتداد الحريق منه وإليه،بعد أن كان مسقوفاً بالخشب في العهد المملوكي.

وفي عام 1925م احترق قسم منه إثر القصف الفرنسي لمنطقة الحريقة.وما زال سقفه المعدني يحمل آثار ثقوب الرصاص إبان الثورة السورية.

وفي هذا السوق خمسة خانات مشهورة هي:خان الدكّة وخان الزيت وخان جقمق وخان سليمان باشا وخان الصنوبر،وتباع فيه المنسوجات الوطنية والعباءات ولوازمها،وفي قسمه الشرقي تباع المواد الغذائية والعطارة،وتحاذيه من الجنوب مجموعة أسواق هي:سوق النسوان وسوق الذراع وسوق القطن وسوق الحبالين والدقاقين والخريزاتية.

ولم يشتهر هذا السوق شهرة سوق الحميدية على الرغم من أنه الأقدم،ولقد جدد السوق عام 1408 هجري،ووضعت فيه المصابيح الحديثة وطليت المحلات بلون واحد.

ومن المشيدات الهامة في سوق مدحت باشا جامع هشام ومئذنته البديعة.وهو من مساجد العهد المملوكي شيده القاضي بدر الدين بن مزهر سنة 831هجري الموافق 1472م.

سوق المسكية

خارج الباب الغربي للجامع الأموي قبالة باب البريد.عند الطرف الشرقي لسوق الحميدية في منطقة معبد جوبيتر الدمشقي.

وهي سوق صغيرة اختصت منذ القديم ببيع الكتب والورق جرياً على نظام المدن الإسلامية حيث توجد أسواق الوراقين بقرب الجوامع الكبرى.وكان اسم هذه السوق في العهد المملوكي كما ذكر ابن عبد الهادي:سوق الكتبيين والوراقين والطيبيين في باب البريد.

وانتشرت في هذه السوق المكتبات ومحلات الوراقين،ثم زاد عليها دكاكين باعة المسك والعطور والمسابح،فغلب عليها اسم المسكية.

وسوق المسكية كان من معالم دمشق الجميلة المحببة،وفيه بعض أطلال معبد جوبيتر القديم.وتباع في هذا السوق الكتب المدرسية المستعملة على وجه الخصوص،إلى جانب الكتب الدينية والتاريخية أو التراثية،أو حكايا الأولين كسيرة الملك سيف ابن ذي يزن والزير سالم وعنترة وأبي زيد الهلالي وغيرها،بالإضافة إلى اللوحات القرآنية وصور الحرمين الشريفين.

هذا وقد زال سوق المسكية في عام 1984م إثر تنظيم المنطقة لكشف الواجهة الغربية للجامع الأموي.

سوق الهال

بين سوق ساروجة شمالاً وشارع الملك فيصل جنوباً.

هو سوق الخضار والفواكه الرئيسي بدمشق.أنشىء ضمن حديقة سامي باشا مردم بك الواقعة بين محلة خان الباشا وجادة القبّارين وشمالها،وذلك سنة 1928 ـ 1930م .وفي سبيل ذلك هُدم مسجد لا لا باشا القديم وأعيد بناؤه في شارع بغداد سنة 1936م.

وكلمة الهال فرنسية بنفس اللفظ(هالة) وتعني أيضاً السوق العامة للخضار.

والجدير بالذكر أن مثل هذا السوق كان قائماً في عهد المماليك،حيث توجد دور البطيخ لبيع الخضر والفواكه بأصنافها.

وفي أواخر الثمانينات من القرن العشرين أنشىء سوق جديد باسم سوق الهال الجديد في منطقة الزبلطاني وبدأ السوق القديم يفقد وظيفته.

سوق الخياطين

يتعامد مع سوق مدحت باشا من جهة الشمال،وهو يوازي سوق البزورية،ومدخله من شرقي خان جقمق،وتباع فيه الألبسة العربية والمنسوجات الوطنية،وفيه خان الجوخية ومدرسة إسماعيل باشا العظم والمدرسة النورية الكبرى والمدرسة النجيبية،وهو سوق مملوكي قديم،وطرأت عليه بعض التعديلات في العصر العثماني.

سوق المُرادية

هو مجمع تجاري كبير يضم سوقين ومقهى ووكالة تجارية،وقد بني سنة 1005هجري.

ينسب إلى الوالي مراد باشا الذي عمّر هذا السوق عند باب البريد.وهو من أقدم أسواق دمشق العثمانية،وقد طرأت على المنطقة تغييرات كبيرة،بحيث ضاعت آثار السوق تقريباً.

سوق العتيق

بين النهاية الجنوبية لشارع الثورة وساحة سوق الخيل.

لم يرد ذكر هذا السوق في العهد المملوكي،وأول إشارة له كانت في كتاب”دمشق في مطلع القرن العشرين” للعلاف،وذلك أواخر العهد العثماني.وما زال السوق موجودا،ًوهو مختص اليوم ببيع اللحوم والمقادم والرؤوس والسمك،وكافة أنواع السقط من المواشي.ولقد هدم في القرن العشرين لإعادة تنظيم المنطقة.

سوق القيشاني

كان سوق القيشاني أصلاً في الباب الشرقي وكانت تصنع فيه ألواح القيشاني التي امتازت بها دمشق.

وفي حدود سنة 980 هجري بنى والي دمشق درويش باشا،مجموعة من المنشآت العمرانية الهامة ومنها جامعه وتربته قرب باب الجابية وخان الحرير والسوق بالقرب من سوق الجوخ وعمر هناك مقهى كبيراً لعله من أقدم مقاهي دمشق العثمانية كما بنى حمامه المشهور وفرشه بالقيشاني فسمي حمام القيشاني،وكان من أجمل حمامات دمشق على الإطلاق.

ويختص سوق القيشاني ببيع المطرزات ولوازم الأعراس.

سوق باب الجابية وباب سريجة

وهو سوق طويل يبدأ من جامع السنانية،ويتجه غرباً حتى ينتهي عند جامع زيد بن ثابت،وهو مجموعة من الأسواق القديمة.

وفي السوق تقوم بعض الآثار القديمة وهي من الشرق إلى الغرب:حمام الجديد،وحمام عز الدين،وجامع عز الدين،وفي جنوبه الغربي حمام التوريزي وجامع التوريزي …

سوق العصرونية

جاء  في كتاب أسواق دمشق القديمة للدكتور قتيبة الشهابي:

“يمتد هذا السوق من الجنوب إلى الشمال بين سوق الحميدية قبالة زقاق المرستان تقريباً وسوق المناخلية.

أطلقت تسمية سوق العصرونية على هذا السوق والمناطق المجاورة له نسبة للمدرسة العصرونية.أنشأها الإمام شرف الدين عبد الله بن محمد بن أبي عصرون الموصلي الدمشقي حوالي سنة 575هجري الموافق 1180م.

ومن الطريف أن البضائع التي تباع فيه من أدوات منزلية ومطبخية بصورة خاصة أصبحت تعرف في زمننا هذا باسم”أدوات العصرونية” واختصاراً”العصرونية”.

تتواجد في سوق العصرونية مشيدتان تاريخيتان هما:

أ الجدار الشرقي لقلعة دمشق وبابها الرئيسي.

ـ مبنى البنك الامبراطوري العثماني:وحل محله بنك زلخا

سوق باب البريد

يقول الدكتور قتيبة الشهابي في المرجع السابق:

“هو سوق مسقوف بساتر هرمي من الحديد والتوتياء يمتد بين النهاية الشرقية لسوق الحميدية قبالة جادة سوق الحرير وزقاق الكلاسة باتجاه جنوبي شمالي.

ذكره القساطلي(الروضة الغناء في دمشق الفيحاء) بأنه أجمل أسواق المدينة كلها وأحسنها وبه تباع منسوجات هذه البلاد ومنسوجات بلاد الافرنج الثمينة،وفي وسطه قبة شاهقة قائمة على أعمدة عظيمة عليها كتابات بالعربية والكوفية.وهي القبة التي بناها الوالي العثماني مراد باشا.وقد هدمت هذه القبة حين فتح سوق الحميدية في المرحلة الثانية للبناء.ولقد كان سوق باب البريد في العهدين المملوكي والعثماني سوقاً هاماً واسعاً لا كما هو عليه الان.

سوق البزورية

يقول الدكتور قتيبة الشهابي في المرجع السابق:

“يمتد هذا السوق المغطى بساتر معدني قوسي من الشمال إلى الجنوب،من زقاق بين البحرتين الواصل إلى قصر العظم،وحتى سوق مدحت باشا،وبه تباع السكاكر والمربيات والحلويات.وتباع فيه حالياً  أيضاً خلافاً للتوابل والبزورات رقائق الكلاج والقمر الدين،وأنواع الشموع،وعلب الأفراح والمناسبات السعيدة،والعطورات والنباتات العطرية الطبية والزيوت والدهانات وصبغاتها،والزيوت النباتية والسمنة…

من المشيدات الهامة في السوق خان أسعد باشا العظم وقبالته خان العمود،ثم حمام نور الدين الشهيد،كما يقع قصر العظم قرب نهايته الشمالية،كذلك تقع دار القرآن والحديث التنكزية في زقاق معاوية المجاور لحمام نور الدين.

أسواق دمشق الأخرى

يقول الأستاذ محمد زيود في مقال له في أحد أعداد مجلة المجمع العربي بدمشق عن التجارة في الشام وأسواقها التجارية:

“كانت التجارة في دمشق تتمركز في الأسواق التجارية،التي كانت بمثابة قلب المدينة،وتمتد على طول الشوارع من الجانبين.كانت الأسواق في معظم مدن الشام،ودمشق خاصة،لا تخلو من جامع،ومن حمام،وسبيل ماء أيضاً،ولها كما للطرق،أوقاف خاصة لإصلاحها.وكان المحتسب يقوم بالإشراف على الأسواق وتحديد أماكنها وتخصصها ومراقبة سير أعمالها والتثبت من أن المعاملات في السوق تتم حسب المبادىء والقيم الإسلامية.

وفي العصر الإسلامي كانت الأسواق تتمركز قرب المسجد الجامع،فأقربها للجوامع أسواق الشماعين لحاجة الجوامع إلى الإضاءة ليلاً،ثم سوق العطارين والطيبيين باعة البخور،وذلك للتقطير والتبخير بالجوامع،ثم أسواق القباقبية لوجوب الوضوء،ثم هناك سوق العدول”المأذونين” لأن العقود كانت تتم بالجوامع،ثم سوق الكتب،فالجوامع كانت تقوم بمقام المدارس.

ثم تتابع الأسواق في البعد عن مركز المدينة والجوامع فتبعد أسواق الدباغين والصباغين والسراجين والحدادين عن المنازل،حرصاً على راحة الشعب والسكان.

وقد تجمع أصحاب الحرف في أسواق متخصصة،فأصبح لكل جماعة من الصناع سوق خاصة بهم.وشملت الأسواق كما وصفها ابن عساكر كل حاجات المجتمع من مأكولات ومنتجات وملابس وغيرها.

ذكر ابن عساكر أسماء أسواق دمشق وسويقاتها وسقائفها وما تحتويه وعدّ منها الكثير من الأسماء.

وهذه الأسواق كانت مصدر إعجاب للمؤرخين والرحالة فوصفوها بأنها كانت مراكز تجارية هامة،تحتوي على صناع مختلفين وتجار يبيعون كل أنواع الحرير كالخزّ والديباج النفيس الثمين .

أهم الأسواق خارج أسوار دمشق:

ـ سوق السنانية:ينسب إلى الوالي العثماني سنان باشا.

ـ سوق الدرويشية:نسبة إلى الوالي درويش باشا.

أهم الأسواق داخل أسوار دمشق:

ـ سوق الوزير:نسبة إلى الوزير محمد باشا العظم،ويعرف بالسوق الجديد وأقيم سنة 1192م.

المدرسة العادلية و الظاهرية

جاء في مقال للأستاذ محمد أحمد الدهمان في مجلة المجمع العربي بدمشق:

قامت المدرسة الظاهرية على دار من أعظم دور دمشق وأكثرها شهرة تدعى بدار العقيقي اشتهرت في العهد الفاطمي بنزول الأشراف العلويين فيها.

ومذ حلّت الأسرة الأيوبيّة مدينة دمشق سكن هذه الدار كبير الأسرة نجم الدين أيوب والد السلطان صلاح الدين وأخيه الملك العادل.

ولما دخل السلطان صلاح الدين الأيوبي دمشق فاتحاً لها سنة 569 بعد وفاة السلطان نور الدين نزل بدار والده أيوب المعروفة بدار العقيقي.كما أن الملك العادل نزلها حينما دخل دمشق سنة 589.

وقد يكون حب صلاح الدين الشديد لهذه الدار دفعه لأن يبني تجاهها ـ من جهة الغرب على بعد خمسة أمتار منها ـ مدرسة وقبّة لدفنه.فلما توفي سنة 597 حفظت جثته بالقلعة حتى تم بناء مدرسته وقبّة قبره فنقل إليها سنة 619 لتطل روحه على الدار التي أحبها كثيراً وعاش فيها أمداً طويلاً.ومثله الملك الأشرف ابن الملك العادل الذي دفن على مقربة من عمه صلاح الدين .كما أن خاتون أخت صلاح الدين والعادل رجعت بعد موت زوجها مظفر الدين صاحب إربل وسكنت دار العقيقي حتى توفيت سنة 643 وهي صاحبة المدرسة الصاحبية بسفح قاسيون.

وبعد انقراض الدولة الأيوبية انتقلت هذه الدار إلى ملك الأمير فارس الدين أقطاي المستعرب الأتابك.ومن ورثته اشتريت هذه الدار لجعلها مدرسة ومدفناً للملك الظاهر بيبرس”.

ويقول الاستاذ محمد كرد علي في مقال له آخر بعنوان العادلية والظاهرية نشره في أحد أعداد مجلة المجمع العربي بدمشق:

“من أهم مدارس دمشق الباقية بعض الشىء إلى اليوم المدرستان العادلية والظاهرية.

وكانت أول مدرسة أنشئت على هذا النحو المتعارف في أيام الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي فإنّه كان أول من تقرّب بهذه المآثر.

وكان الشّام خالياً من العلم وأهله فأصبح في عهده وعهد أسرته وخليفته صلاح الدين يوسف بن أيوب مقراً للعلماء والفقهاء والصوفية لصرف همّة نور الدين إلى بناء المدارس والربط وترتيب أمورها.

والمدرسة العادلية الكبرى ـ تمييزاً لها عن العادلية الصغرى التي كانت داخل باب الفرج شرقي باب القلعة الشرقي  لمنشئتها زهرة خاتون بنت العادل أبي بكر بن أيوب ـ شمالي الجامع بدأ بإنشائها نور الدين محمود بن زنكي،ولم تتم، ثم عمل فيها الملك العادل سيف الدين ولم تتمّ،ثم ولده الملك المعظم ووقف عليها أوقافاً ونسبها لوالده الذي دفن فيها وهي من أعظم مدارس الشافعية إن لم تكن أعظمها.

وقد تم انشاء هذه المدرسة سنة 618 هجري،وزارها الحريق مرتان:

فقد احرقت سنة 696 هجري لما غزا غازان التتري من أحفاد هولاكو دمشق وعملت النار في أخشابها وأبوابها وخزائنها وكتبها.

وفي المرة الثانية لما جاءت جموع التتار دمشق سنة 778 فأحرقوا المدرسة العادلية ،ونالها شىءٌ من لهيب الحريق الذي سرى يوم فتنة تيمورلنك سنة 803 .ومن الغريب أن يبقى الجاران العظيمان منها قائمين بعد ذينك الحريقين،دع ما طرأ على دمشق من الزلازل التي اشتدت فيها وهزتها مرات في عصور مختلفة.

دَرّس في هذه المدرسة وسكنها كثير من أعيان العلماء في الملّة منهم جمال الدين الحصيري وشمس الدين بن خلكان وبهاء الدين بن الزكي وتقي الدين السبكي ….وولد بها قاضي القضاة بالشام ابن جماعة المتوفى سنة 694 حيث كان منزل والده قاضي القضاة.وممن سكنها ودرس بها من المتأخرين الشهاب أحمد المنيني صاحب التآليف المشهورة المتوفى سنة 1172 وآخر من درس بها من أولاده محمد المنيني مفتي دمشق.

هذه المدرسة جعلتها الحكومة منذ جلاء الترك عن سورية داراً للآثار العربية ومقراً للمجمع العلمي العربي.

وجاء في كتاب “في رحاب دمشق” للأستاذ محمد أحمد دهمان(مقال نشره في مجلة المجمع العربي سنة 1954م):

“من دواعي الفخر لمدينة دمشق أن تقوم المدرسة العادلية الكبرى على رعاية اللغة العربية منذ سبعة قرون ونصف،وأن تكون  نواة فكرة سامية وهدف عال نحو اللغة العربية.

وضع أسس هذه المدرسة لدراسة الفقه الشافعي السلطان نور الدين محمود بن زنكي سنة 568هجري ولم يرتفع بنائها إلا القليل حتى عاجلته المنية.وفي سنة 612هجري أزال الملك العادل بناء نور الدين وعمل مكانه مدرسة عظيمة للشافعية بعد أن وسع مساحتها ودعيت باسمه.وتوفي الملك العادل سنة 615 هجري ،فقام ابنه الملك المعظم بإكمال بناء هذه المدرسة وجعل لها قبة لدفن أبيه.

يعود الفضل إلى إتمام هذه المدرسة إلى الملك المعظم الذي نفذ مشروع سلفه وأوقف عليها الأوقاف العظيمة.

أنجب الملك العادل أخو صلاح الدين ستة عشر ولداً كان في طليعتهم الملك الكامل محمد(ملك مصر)والملك المعظم عيسى(ملك دمشق) والملك الأشرف موسى(ملك الجزيرة وبلاد الأرمن ثم دمشق) وقد كان الملك المعظم عالم البيت الأيوبي غير منازع،ويقول الأستاذ خليل مردم بك :إن الملك المعظم في بني أيوب كالمأمون في بني العباس.

ويقول عنه ابن خلكان:إنه كان عالي الهمّة حازماً،شجاعاً،مهيباً،فاضلاً،جامعاً شمل أرباب الفضائل،محباً لهم،كان يحب الأدب كثيراً،وله رغبة فيه.

لقد كان الملك المعظم وهو ملك دمشق وفلسطين وشرقي الأردن وحوران كان ينزل من قصره في قلعة دمشق يتخطى الطرقات إلى دار أستاذه تاج الدين الكندي في جيرون(حارة النوفرة شرقي المسجد الأموي اليوم) والكتاب تحت إبطه وربما كان الطلاب مستمرين في درسهم فيسكتون عند حضوره فيقول الملك المعظم لأستاذه:لا والله،إنما القراءة بالنوبة فليتموا.

ويقول سبط ابن الجوزي:كان يحب الفقهاء ويحرضهم على الاشتغال بالعلم .

وجاء في مقال للأستاذ عبد الهادي هاشم في مجلة المجمع العربي بدمشق بعنوان”المدرسة العادلية والمجمع العلمي العربي”:

“في دمشق الخالدة أحياءٌ جميلة كثيرة،ولعل من أقدمها وأقدسها حيّ”باب البريد” الذي نوّه به الشاعر عندما قال:

حَوِّل ركابك عن دمشق فإنها     بلدٌ تذِلُّ له الأسودُ وتخضعُ

ما بين “جابيها” و”باب بريدها”     قمرٌ يغيبُ وألف شمس تطلعُ

ضمّ هذا الحيُّ معالمَ شواهدَ على ماضي دمشق الأغرّ الحافل،ومجدها الأعزّ الباهر،كجامع بني أمية،وضريح السلطان صلاح الدين الأيوبي،والمدرسة الظاهرية،والمدرسة العادلية،ومدارس أخرى كثيرة يطول تعدادها.

بدأ بإنشاء المدرسة العادلية ملكٌ حبيبٌ إلى قلوبِ الدمشقيين منذ ثمانمائة سنة هو نور الدين بن زنكي.ثم جاء الملك العادل أخو صلاح الدين الأيوبي فزاد في رقعتها،وغيّر بناءها،وأرادها مدرسة ضخمة فخمة جامعة.ولما أعجلته المنية عن إتمام ذلك قام ابنه الملك المعظم بإتمام عمارتها،ونقل جثة والده إليها،وأودعها قبة هذه المدرسة.

وكان الملك المعظم هذا ملكاً ولا كالملوك.كان عالماً فاضلاً،محققاً حافظاً،سعى في نشر العربية,وشجع الناس على حفظها وإتقان علومها،وأجرى على العلماء الجرايات والأرزاق الراتبة،وأخذ بيدهم وأكرمهم،وكرّمهم ورعاهم،ودعاهم إلى الانصراف إلى التدريس والترجمة والتأليف،ولا سيما تأليف معجم عربي شامل،يضم ما توزعته كتب اللغة الموثوقة.وأنشأ هذه المدرسة العادلية على اسم والده داراً للمطالعة عامرةً بالكتب التي وقفها عليها.

وقد غدت العادلية منذ عمارتها مثابة لأعلام العلماء،ومثوى لأفاضل المؤلفين،يدرسون فيها ويدرّسون،ويقرؤون ويُقرئون،ويروون ويؤلفون.وإنا لنعلم أسماء الكثيرين من جلّة العلماء الذين نزلوها،كما نعرف أسماء بعض الكتب التي أُلفت فيها.فمن هؤلاء العلماء ابن مالك النحوي الشهير،ومنهم ابن خلكان الذي أقام في العادلية أمداً من الزمن،وأُثرت عنه فيها أخبارٌ طريفة.ومن هؤلاء العلماء ابن خلدون،فخر علماء العرب في القرن الثامن الهجري،وأحد   رواد علم فلسفة التاريخ،وعلم الاجتماع في العصر الحاضر.

,ومن الكتب العظيمة التي ألفت بين جدران المدرسة العادلية كتاب”وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان”لابن خلّكان،وهو من أفضل كتب التراجم وأوثقها.ومنها كتاب”الروضتين في أخبار الدولتين” النورية والصلاحية لأبي شامة..

وفي تاريخ هذه المدرسة أيام مشهودة مشهورة،منها يوم تدشينها سنة 619 هجري،وقد وصفه بعض المؤرخين يومذاك.وكان مما قاله:”حضر السلطان المُعظّم،فجلس في إيوان المدرسة،وجلس عن يمينه شيخ الحنفية جمال الدين الحصري،ثم شيخ الشافعية فخر الدين بن عساكر،ثم القاضي شمس الدين الشيرازي،ثم القاضي محيى الدين بن الزكي.وجلس عن يسار السلطان إلى جانبه مدرس المدرسة قاضي القضاة جمال الدين المصري،ثم سيف الدين الآمدي،ثم القاضي شمس الدين بن سني الدولة،ثم القاضي نجم الدين خليل قاضي العسكر.وجلس مقابل السلطان تقيُّ الدين بن الصلاح وغيره.

ولكن دولاب الزمن يدور،ويرين على عيون القوم سِنةٌ من جهلٍ وتواكلٍ وفتور.وتصبح المدرسة العادلية في أواخر العهد العثماني داراً متداعية الأركان،متهدّم الجدران،فيها قاضٍ يسكنها ولا يعمرها،وحجراتٌ خاوية خالية،وباحة ترتع فيها الهوامَ وسائمة الحيوان.

وبعد أن جلا الترك عن هذه الديار،وقامت الحكومة العربية فرَعت اللغة وسدنتها،جعلت العادلية مقراً للمجمع العلمي العربي،وأذكت شعلة كاد ينطفىء أوارها،وشدّدت عزائم أوشكت أن تنيَ وتفتر،وأرجعت المدرسة إلى سابق عهدها:مثوى للأدباء،ومجمعاً للعلماء،وحصناً للغة وحِرزاً لكنوزها الغالية.

وفي الثلاثين من ىشهر تموز عام 1919م اجتمع المجمع العلمي العربي لأول مرة في المدرسة العادلية،وعقد جلسة مشهودة فيها،ومن الذين حضروا يومذاك الأساتذة:محمد كرد علي،وأمين سويد،وسعيد الكرمي،وأنيس سلوم،وعبد القادر المغربي،وعز الدين علم الدين التنوخي،وعيسى اسكندر المعلوف،وديمتري قندلفت.وفي هذه الجلسة تقررت الاستعانة بأعضاء شرف،منهم السادة:عبد القادر المبارك،ومحسن الأمين العاملي،وفارس الخوري،وعبد الرحمن الشهبندر،ومرشد خاطر.

وجاء في مقال لأسماء الحمصي في مجلة المجمع العربي بدمشق عن المكتبة الظاهرية:

“المدرسة الظاهرية سميت باسم الملك الظاهر الذي دفن فيها،وهو ركن الدين بيبرس البندقداري،ولّي الملك سنة 658 هجري وهو أبرز ملوك الدولة البحرية المملوكية.وعرفته الحروب وهو أمير،فارساً مقداماً إن في موقعة “المنصورة”التي هزم فيها الفرنجة في عهد توران شاه،أو في موقعتي “عين جالوت” و”بيسان” اللتين هزم فيهما التتار في عهد “قطز”.

واستلم بيبرس الحكم بعد قتله قطز بعد معركة عين جالوت،وبويع سلطاناً على مصر والشام.

ويعتبره المؤرخون المؤسس الحقيقي لعظمة الدولة البحرية،فقد قضى على المؤامرات،وفتح عدداً من البلاد،وملأ الدنيا مهابة زهاء سبعة عشر عاماً.التفت خلالها إلى إصلاح مملكته.

وكما اتصف بالشّجاعة والإقدام في الحروب وحسن ترتيبها،عرف بالدهاء والكرم وحبّ الخير والإحسان إلى الفقراء.وكان يكرم العلماء وينطوي تحت مشورتهم ويقربهم.

ومن أجلّ أعماله مكافحة الكبائر،وعقاب مرتكبيها وتشديد النكير عليهم والقيام بأعمال عمرانية كثيرة،كان فيها كسب أدبي كبير لمصر والشام.

وشيّد الظاهر المدارس،ومنها المدرسة الظاهرية بدمشق،وبانيها الملك السعيد أبو المعالي ناصر الدين محمد بركة قان ابن الملك الظاهر بيبرس(658 ـ 678 هجري)ولكنه لا يستبعد أن يكون أبوه الظاهر قد فكر ببناء ظاهرية دمشقية تحمل اسمه كتلك التي بناها في القاهرة إلا أن الموت عاجله قبل أن ينفذ فكرته.فقد توفي ـ مسموماً على ما روت الكتب ـ يوم الخميس الثامن عشر من محرم سنة 676 هجري.فأخفى الأمير بدر الدين بيليك الخزندار خبر موته،وأمر بحمله إلى قلعة دمشق ليلاً حيث غسل،وحنط،وكفن ،وجعل في تابوت علق هناك في بيت من بيوت البحرية.وصدر أمر السعيد ببناء الظاهرية مدرسة ودار حديث وقبّة لدفن أبيه.بدأت عمارتها سنة 676 هجري في جمادى الأولى وتم إنجاز البناء في آخر جمادى الآخرة سنة 676 هجري وحمل التابوت ليلاً وصلي عليه في الجامع الأموي ودفن في الخامس من رجب سنة 676 بالقبّة من المدرسة الظاهرية.

افتتاح المدرسة الظاهرية:

بدء التدريس في المدرسة بعد إتمام بنائها في الثالث عشر من صفر سنة 677 هجري.

وفي منتصف ذي القعدة سنة 678 هجري توفي الملك السعيد ووري بالتربة الظاهرية إلى جانب أبيه.

وسبب تسميتها بالمدرسة الجوانية تمييزاً لها عن المدرسة الظاهرية البرانية التي بناها الملك الظاهر غازي ابن الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي،خارج باب النصر بمحلة المنيبع،شرقي الخاتونية الحنفية،وغربي الخانقاه الحسامية،بين نهري القنوات وبانياس على الميدان بالشرف القبلي وجعلها على الشافعية.

موقع المدرسة الظاهرية:

تقع المدرسة الظاهرية الجوانية من دمشق في حي العمارة بين بابي الفرج والفراديس ،تجاه العادلية(مقر مجمع اللغة العربية اليوم)بينهما طريق باب البريد المفضي إلى الجامع الأموي.

ومن أوائل من درسوا فيها قاضي القضاة صدر الدين سليمان بن أبي العز الحنفي الأذرعي(594 ـ 677) شيخ الحنفية في زمانه وصاحب الجامع الصغير.

ومن علماء الشافعية نذكر العلامة أبو حفص عمر بن إسماعيل الربعي الفارقي الدمشقي(598 ـ 689) .

وكذلك درس فيها العديد من علماء الحديث.

ويقول الدكتور محمد زهير البابا في مقال له في مجلة المجمع العربي بدمشق بعنوان”المدرسة الظاهرية ومكتبتها”:

“في وسط مدينة دمشق،وبالقرب من باب البريد،يرى الزائر في الوقت الحاضر بناءين جميلين متشابهين،يفصل بينهما طريق ضيّق.وهما المدرسة العادلية وفيها قبر الملك العادل أبي بكر بن أيوب،المتوفى سنة 615 هجري،ويقابلها المدرسة الظاهرية،وفيها قبر الملك الظاهر ركن الدين أبي الفتوح بيبرس التركي البندقداري،المتوفى سنة 676 هجري،وقبر ابنه الملك السعيد محمدبن بركة خان المتوفى سنة 678 هجري.

يعد ابن شداد،واسمه عز الدين محمد بن علي،أشهر من وضع كتاباً تحدّث فيه عن حياة الملك الظاهر وفتوحاته وأعماله.

وهو مؤرخ وجغرافي سوري،وحينما بدأ غزو المغول لمدينته حلب لجأ مع أهله إلى مصر.ثم انخرط في خدمة الملك الظاهر،فحصل على مكانة مرموقة،نظراً لفضله ومزاياه.وقد بيّن ابن شداد في كتابه تاريخ الملك الظاهر،الطرق التي سار عليها في توطيد دعائم حكمه،واكتساب محبة رعيته واحترامها.

قام الظاهر بطرد الصليبيين من الساحل السوري،وأحيا الخلافة العباسية بالقاهرة،بعد سقوطها على يد هولاكو في بغداد،وحرّم الخمور وتدخين الحشيش،وعاقب بشدة كل من كان يخالف أحكام الشريعة الإسلامية،أمَّ مكة حاجاً،وأمر بكسوة الكعبة الشريفة.أنشأ عدداً كبيراً من المدارس والمساجد والبيمارستانات والحمامات العامة.كما أمر بترميم القلاع التي خرّبها الأعداء في مصر والشام.وتراجع عن فرض الضرائب التي كان ضربها،حينما شعر بتذمر الشعب.

كان الملك الظاهر كما يقول ابن شداد،جبّاراً في الأسفار والحروب،شديد الوطأة على الأعداء من التتار والفرنج وغيرهم.

توفي الملك الظاهر في يوم الخميس الثامن والعشرين من شهر محرم سنة 676 هجري.

تحويل المدرسة الظاهرية للمكتبة الظاهرية:

كانت أكثر المدارس والمساجد والزوايا والبيمارستانات في دمشق تحوي في خزائنها عدداً كبيراً من المخطوطات والمطبوعات المهداة إليها من أهل البر والإحسان.كما كان بعض علماء دمشق ووجهائها يحفظون في منازلهم نسخاً نادرة من أمهات كتب التراث العلمي والديني.ولما ازداد الطلب على شراء تلك الذخائر،من البلاد وخارجها،وازداد عدد سماسرة الكتب ولصوصها،تقدم رئيس الجمعية الخيرية في دمشق،وهو الشيخ علاء الدين بن العلامة محمد عابدين،بعريضة إلى الوالي العثماني مدحت باشا،يقول فيها مع زملائه:إن دمشق تملك الكثير من خزائن الكتب،الموقوفة على روّاد العلم،والتي فرغت من كنوزها أو كادت بنتيجة الاختلاس والسرقة.وإنهم يخشون أن يضيع هذا النزر اليسير المتبقي.

وفي عام 1295 هجري الموافق 1877 م استطاع الوالي مدحت باشا الحصول على موافقة الباب العالي بجمع الكتب من بعض المكتبات الوقفية بدمشق،وأن يكون مقرّها في التربة الظاهرية.ومن بعد أشرف على تلك الدار بعض علماء دمشق،باسم جمعية المكتبى العمومية.

واستطاع الشيخ طاهر الجزائري رحمه الله،بمعونة زملائه أعضاء هذه الجمعية،القيام بجمع عدد كبير من المخطوطات والكتب،الموقوفة في بعض مكتبات دمشق،وأن يودعوها المكتبة العمومية تحت قبة الظاهرية.

بقيت دار الكتب العربية مقتصرة على قبة الظاهرية،والتي تحولت لمستودع للكتب وقاعة للمطالعة.وأصبحت مرتبطة مع المجمع العلمي العربي بالجامعة السورية،التي تم إنشاؤها عام 1919م في أمورها المالية دون الإدارية.

وتم انفصال المجمع عن الجامعة عام 1926م وتحولت مدرسة الظاهر بيبرس إلى أول مكتبة رسمية عامة في مدينة دمشق.وارتفع عدد المخطوطات والمطبوعات الموجودة في المكتبة الظاهرية عام 1928 م إلى ما يزيد على أربعة آلاف مخطوط وعشرة آلاف كتاب مطبوع تقريباً.

مكتب عنبر

شيّده يوسف عنبر،من أثرياء دمشق،وبدأ البناء سنة 1284 هجري الموافق 1867م،لكنه لم يتمكن من إتمامه لأسباب مادية،فوقع مكتب عنبر في ملك الدولة العثمانية لدين كان لها على يوسف عنبر،وصيّرتها أول مدرسة إعدادية حكومية سنة 1304 هجري الموافق 1886 م ،حيث عرفت باسم المدرسة الملكية الإعدادية أو مكتب عنبر(كانت كلمة مكتب في العهد العثماني تطلق على المدرسة).وتتميز زخارف الطابق الأرضي الذي شيده يوسف عنبر بالبذخ الزخرفي،بينما يتصف الطابق الثاني الذي أقامته الدولة العثمانية بالبساطة والتقشف.

ثم تحولت في مطلع القرن العشرين إلى مدرسة حكومية للفنون النسوية(تجهيز للبنات) وفي الثمانينات رمم مكتب عنبر وجعل قصراً للثقافة.

جاء في الويكيبيديا:

“مكتب عنبر هو مَعلم أثري يقع في حي المنكنة في منطقة دمشق القديمة شرق المسجد الأموي،ويقع بمسافة قصيرة عن الشارع المستقيم،وهو يعتبر المنزل الأكبر بالمقارنة بمنازل المدينة القديمة،وبُني وصُمم في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي على يد السيد يوسف أفندي عنبر،وهو ثري يهودي دمشقي وقد أنفق على إنشائه 43ألف ليرة سورية،وهو مبلغ ضخم في ذلك الحين،وهو بناء متميز ومتقن البناء يُعد نموذجاً للبيت الدمشقي،شكله مستطيل بمساحة 5000 متر مربع وهو مقسم لثلاثة أقسام،كل قسم له باحته الخاصة التي تحيط بها الغرف،ويبلغ مجموعها 40 موزعة على طابقين،صادرته الدولة العثمانية لتحوله إلى مدرسة للأولاد أو كما سُمي مكتب،ويعد من أجمل البيوت الدمشقية القديمة التي لم يطرأ عليها أي تغير نتيجة العوامل الطبيعية والبشرية،وهو يعد صرح حضاري هام،ومركز تعليمي رائد كان له أثر كبير في النهضة العلمية والثقافية،وقد تخرج منه أبرز وأهم من تقلدوا المناصب في دمشق وبيروت.ومن الذين درسوا فيه نخبة من المربين العرب منهم:الشيخ عبد القادر المبارك،وجودت الهاشمي،ومحمد البزم،وكامل نصري،وعبد الرحمن سلام،ومحمد الداودي،ومحمد علي الجزائري،ورشيد بقدونس،وشكري الشربجي،وأبو الخير قواص،وسليم الجندي،ومسلم عناية،وجميل صليبا،وجودت الكيال،ويحيى الشماع،وعاصم البخاري،وكان لهم اليد في تعليم العربية،وبعث التراث العربي،وسُمّي المكتب أنذاك مدرسة التجهيز ودار المعلمين.

ومن الذين تخرجوا من مكتب عنبر نذكر:الشيخ علي الطنطاوي،وظافر القاسمي،وعبد الكريم الكرمي الشاعر الفلسطيني(أبو سلمى)،وأنور العطار،وشكري القوتلي،وحسني سبح،وبدوي الجبل،وشكري فيصل،وزكي المحاسني،وأمجد الطرابلسي،وسعيد الغزي،ونزيه الحكيم ورياض العابد وغيرهم…

يقول الشيخ العلامة علي الطنطاوي رحمه الله(كتاب دمشق ـ ص 134):

“لقد عاش مكتب عنبر من أواخر القرن الذي مضى إلى أوائل الحرب الثانية،وهو يضم جمهرة المتعلمين في هذا البلد.كان هو الثانوية الرسمية المفردة في دمشق،فكان يمرّ عليه كل شاب في دمشق.يدخل إليه ثم يخرج منه فيعلو في مدارج الحياة.أو يغوص في أوحالها،حتى ما تكاد تجد اليوم كبيراً في دمشق،ولا صاحب اسم،ولا ذا منزلة،إلا وقد جاز يوماً بمكتب عنبر.

ولقد كان من تلاميذه رجال،لو عاشوا كلهم إلى الآن،لكان أصغرهم اليوم في الخامسة والسبعين(نشر المقال سنة 1963م).هم الذين كنا ندعوهم رجال الرعيل الأول،وكانوا هم أول من رفع صوته بذكر العربية على عهد الاتحادين من الترك(يقول الشيخ الطنطاوي على الهامش:وما كان الترك العثمانيون الأولون أمة سوء،ولقد تسلموا الحكم والأرض الإسلامية مزق مرقعة،ورقع ممزقة،في كل مدينة ملك،وعلى كل رابية علم،مماليكها ملوكها وعبيدها سادتها،فأقاموا للإسلام دولة كانت ثالثة الدولتين الكبيرتين:الأموية،والعباسية.وكان منها أول الأمر ملوك صالحون كبار،ثم خالف آخرها سيرة أولها،ودب الفساد إليها ،حتى كان عهد الاتحاديين،فكانوا قوماً كفرة فجرة،لا يرضى بحكمهم مسلم تركي،بله المسلم العربي،الذي حرصوا على تجريده من عربيته،كما حرصوا على إخراجه من إسلامه).وتسلسلت القوافل من بعدهم،تجوز كلها بهذه الواحة الظليلة،تستمتع بزهرها،وتجني من ثمرها،قبل أن توغل في صحراء الحياة.

ويا ليتني أستطيع أن أروي لكم الفصل الذي حفظته من ذلك التاريخ الطويل! لقد عشت فيه ست سنين،كانت أحفل سني حياتي بالعواطف،وأغناها بالذكريات،وكانت لنفسي كأيام البناء في تاريخ الدار،لو عاشت بعدها ألف سنة لكانت كلها تبعاً لهذه الأيام،التي يرسم فيها المصور،وتخطط الغرف،ويرسى الأساس.

ست سنين،ولكنها كانت هي العمر.

لقد عشت في دنيا لم تعرف الغش،ولا الخداع،ولا زيف الصداقات.لم يكن يتقدم فيها إلا الجاد العامل من الطلاب،ولا يتأخر إلا الخامل الكسولنولا يعلو أحد درجة إلا إذا ثبت بالامتحان،أنه أهل لهذا العلاء.

لقد كان عهد مكتب عنبر،جنتي التي خرجت منها ثم لم أعد إليها،أطير من فوق أسوارها،وأبوابها الموصدة،بجناحين من ذكرى وخيال،حتى أدخلها مرة ثانية،فأعيش فيها،في حلم ممتع فتّان.

كان موعد دخولي المكتب سنة 1920م ولكني لم أدخله إلا بعد ذلك بسنتين،ما قصرت عنه سني،ولا عاقني عنه كسلي،ولكن طال إليه طريقي.

ذلك أننا شهدنا في سنتين اثنتين،مولد انقلابين،وموت حكومتين،أدركنا عهد الترك،ورأينا ذهاب الترك،وعشنا في حكم فيصل،وأبصرنا انهيار حكومة فيصل،فكانوا كلما جدّت حكومة ونحن في الصف الخامس أعادونا إلى الصف الرابع،فلم نستقر في الصف الخامس إلا سنة 1921ن على عهد الفرنسيين،وقد كنا فيه سنة 1918م على أيام العثمانيين.

لقد كان أول درس حضرناه في مكتب عنبر للشيخ عبد الرحمن سلام،فاستقبلنا ـ رحمة الله عليه ـ بخطبة رنانة،أعلن فيها أنه غدا ذلك اليوم مدرساً للعربية حقاً.

ذلك أن من كان قبلنا من التلاميذ،قد درسوا في العهد التركي،فنشؤوا )إلا من عصم الله) على ضعف بالعربية،ومن كان معنا درسوا في العهد العربي فكانوا أقوى ملكة،وأقوم لسانا.

رحمة الله على شيخنا عبد الرحمن سلام،فلقد كان نادرة الدنيا،في طلاقة اللسان ،وفي جلاء البيان.ولقد عرفت من بعده لسن الأدباء ومصاقع الخطباء،فما عرفت لساناً أطلق،ولا بياناً أجلى.ولست أنسى خطبته حينما أطلَّ من شرفة النادي العربي،قبل يوم ميسلون على بحر من الخلائق،تموج موجان البحر،قد ملأ ما بين محطة الحجاز،والمستشفى العسكري في بوابة الصالحية،وسراي الحكومة،وحديقة الأمة(المنشية) وكبّر تكبيرة رددتها معه هذه الحناجر كلها،وأحسسنا كأن قد رددتها معه الخمائل من الغوطة،والأصلاد من قاسيون.ثم صاح صيحته التي لا تزال ترنّ في أذني وراء ثلاث وأربعين سنة،حتى كأني أسمعه يصيح بها الآن:غورو،لن تدخلها إلا على هذه الأجساد!

رحمة الله عليه،وعلى أستاذنا سليم الجندي،الذي جاءنا بعدما فارقنا سلام،قافلاً إلى بلده بيروت.فكنا أول تلاميذه،والذي كرهناه لما رأيناه،ثم أحببناه لما خبرناه.الجندي الذي مات وما أعرف تحت أديم السماء أعلم منه بالعربية وعلومها،الجندي الذي ما رأينا مثله.ولا أظن أننا سنرى مثله أبداً.

وعلى أستاذنا عبد القادر المبارك،الذي كان الإمام في اللغة،والمرجع فيها،قيد أوابدها،وجمّع شواردها،وحفظ شواهدها.وكان أعلم العرب بالعرب،عرف أيامهم،ووعى أخبارهم،وروى أشعارهم.وكان المفرد في بابته،لا نظير له في العلماء،تحس إذ تجالسه وتسمع منه،كأن الأصمعي أو أبا عبيدة قد تمّثلا لك في جبته،وكأن ما كنت تقرؤه في التاريخ،قد عاد لك حتى رأيته بالعيان.

أما درسه،فما حضرت درساً أكثر منه حياة،وأبقى في نفس سامعه أثراً.إن نغمته لا تزال إلى اليوم في أذني،وكلماته لا تزال في قلبي.

كُنّا ندخل (الصف) في مثل(العراضة):أصوات عالية متداخلة،وضجيج صاخب مزعج.وكان المدرسون يجدون مشقة في إسكات المتكلمين،وتهدئة الصاخبين.فإذا كان درس الشيخ المبارك،رأى التلاميذ الباب قد انفرج مصراعاه،وبدا من بينهما جبين عريض،من فوقه خط أبيض،ثم ظهر وجه الشيخ وعمامته،وجلجل صوته الذي كان يعرف من بين أصوات البشر جميعاً،بضخامته وجهارته،بصدر بيت من الشعر،فيسكت الطلاب ليسمعوا،فيخطو الخطوة الثانية فيكون في الصف،ويتم البيت،ويشرع بالدرس.

وكان يدرس الفقه،يقرئنا(مراقي الفلاح) أولاً،ثم(الأحكام الشرعية لقدري باشا).ولكن درسه لم يكن يقتصر على الفقه،بل كان فيه مع الفقه تفسير وحديث،وقواعد من الأصول،يسوقها بعبارات موجزة محكمة بليغة،يلقيها ويرددها،ويكتبها بالخطّ الثلث على اللوح،بعرض الحوارة،وكان يتخذ ضوابط يجمع فيها أحكام الفقه،ومفردات الغريب،نحفظها فلا ننساها.

أما (البزم) فلم نقرأ عليه،لقد قرأ عليه من جاء من التلاميذ بعدنا،فخبرونا أنه كان مدرساً نادر المثيل،كان فصيح اللهجة،بيّن الاسلوب،تعرف ذلك من سلامه وكلامه،إذا سألك كم الساعة ؟)أدركت من سؤاله أنك أمام إمام في العربية،صارت الفصاحة له طبعاً لا تطبعاً.

أما الشيخ الداوودي،رحمه الله،فقد كان يدرس في صفوف غير صفوفنا،فلم أحضر عليه،ولكن من حضر عليه بؤكد القول أنه كان من لطفه وظرفه،وعطفه على تلاميذه،وحرصه على إفهامهم وتفننه في ذلك ما لا ينسونه.وكان شيخاً أبيض اللحية مريضاً.وكان يجىء المدرسة في آخر عمره على أتان بيضاء،وكان لذلك العهد مثل السيارة الخاصة اليوم.فكان ينزل عنها عند آخر الدهليزنفيأخذ تلاميذه بيديه،يساعدونه حتى يدخل الصف،فيكون كأحسن مدرس عرفوه،فإذا خرج إلى (الفرصة) لم يبق فيه قوة،فيلقي بنفسه على الأريكة يضطجع،يستريح إلى وقت الدرس التالي.

ولما توفي سنة 1926م أو قريباً منها.ألقيت على قبره رحمه الله كلمة لي ،وقصيدة لأخي أنور العطار،وكان طالباً معنا،وكان ينظم الشعر الجيد من تلك الأيام.

لقد كان مكتب عنبر هو الثانوية الرسمية المفردة في دمشق،بل كلن الثانوية الوحيدة الكاملة في سورية،فكان يأتي إليه الطلاب من كل مكان ليكملوا دراستهم فيه.فلذلك اختاروا لتدريس كل علم فيه أكابر علمائه.فكان من مدرسينا في الرياضيات الأستاذ جودة الهاشمي رحمه الله،الذي رأيته مرة بعدما خرجت من المدرسة بسنين،فسلمت عليه فابتسم لي،فكدت أقضي من الدهشة قال:مالك؟

قلت:لا شىء. قال: أراك دهشت.قلت:لأني رأيت عجباً! قال: وما هو؟ قلت: رأيتك يا سيدي تستطيع الابتسام!

وكنا نظنه لا يبسم أبداً

ومن مناقبه أنهم فتحوا باب تحقيق واسع،إثر زيارة المسيو(دجوفنيل) وأعدوا أسئلة يسألونها التلاميذ،ليعرفوا من دبّر الأمر،ومن تولى كبره،واستدعوا التلاميذ كلهم واحداً بعد واحد ليجيب عليها،وكنت فيمن دُعي،فلما صرت في غرفة المدير،وأخذت القلم لأكتب،اقترب مني،وقال لي هامساً:ما بتعرف شىء،مو هيك؟

قلت: نعم يا سيدي.وكتبت تحت كل سؤال،لا أدري.

وتبين أن التلاميذ كلهم أجابوا ب لا أدري،وكان ذلك بتوجيه الأستاذ الهاشمي،وكان هو المدير.ومرّ الحادث على جلاله وعظمه بسلام،ولم ينل أحداً من التلاميذ كبير سوء.ولو كان المدير غيره لقوّضت المدرسة على رؤوس من فيها.

وكان المدير لما دخلنا المدرسة شريف بك رمو،وهو أميرالاي متقاعد،عسكري صارم،ثرنا عليه الثورة المعروفة،فولي الإدارة بعد خلعه المربي الكبير،العالم الجليل،الذي لم يف له هذا البلد،وهو أبو(المعارف) فيه،وأستاذ أساتذته،مصطفى تمر،ثم وليها جودة بك الهاشمي،ثم وليها الأستاذ محمد علي بك الجزائري وهو أعلى سناً وكان جودة بك من تلاميذه .

وكان زميله في تدريس الرياضيات الأستاذ مسلم عناية،عليه الرحمة.ولقد سحت في البلدان،ولقيت الرجال،ودانيت الأذكياء من العلماء والأدباء،ولا والله لم أجد فيمن لقيت أذكى من هذا الرجل ذكاء،ولا أحدّ ذهناً.

لقد كان جودة بك عالماً بالرياضيات،هضمها(كما يقولون) هضماً،وقتلها فهماً،واحسن فيها تعليماً وتفهيماً،وأعانه على ذلك سكوت الطلاب في درسه،واستماعهم لقوله،فأفاد واستفاد.

أما مسلم بك،فقد كان عبقرياً من أفذاذ الرجال،ممن لا تلد الولادات إلا واحداً منهم في كل قرن.

كان ضابطاً كبيراً من أركان الحرب عند العثمانيين،وكان من أعلم الضباط بفنون العسكرية،وكان أستاذاً في العلوم بفروعها كلها،أستاذاً في الكيمياء يرجع إليه مدرسوها في معضلات مسائلها،لا يكتمون ذلك عنا،ولا يخفونه علينا،أستاذاً في(الطبوغرافيا)،أستاذاً في علم الموسيقى،وكان يعرف الفرنسية ويدرسها،والتركية وكان أديباً فيها،والألمانية وكان يتقنها.

هؤلاء كانوا أساتذتنا:المبارك للدين،وإن كانت دروسه في الواقع للدين والدنيا،والعلم والعمل،والجد والهزل،وما يقال في الدرس عادة،وما لا يقال.

والجندي للعربية،وكان عنده العلم الغزير،وعنده جواي كل سؤال،وحل كل مشكلة.

وجودة الهاشمي ومسلم عناية للرياضيات.

والدكتور جودة الكيال،والدكتور يحيى الشماع للعلوم،وهي تجمع الفيزياء والكيمياء والتشريح والنبات والحيوان وحفظ الصحة.

وكان الأستاذ حسن يحيى الصبان يدرسنا التاريخ،والدكتور كامل نصري يدرسنا الجغرافيا.

وأشهد لقد علمونا الدين والخلق،كما علمونا العلم،وأفادونا بثمرات تجربتهم في الحياة،مثلما أفادونا بدروسهم،وكانوا لنا آباء قبل أن يكونوا معلمين.

وكان من معلمينا الذين لا ينسون:الأستاذ عبد الوهاب أبو السعود،وكان يعلمنا الرسم .وما كنا نبالي بالرسم،ولا نقيم له وزناً،ولا كان القائمون على التعليم يعدلونه بالعلوم التي يدرسها غيره من الأساتذة،ولكن عبد الوهاب يضطر جليسه أن يبالي به،وأن يلتفت إليه،فكيف بتلميذه؟لقد كان أحد رواد(التمثيل) الأوائل،فكان يلقي درسه(وما درسه؟)كأنه رواية (درامية) على المسرح،فما ظنك برواية تمثل في الصف.

وكان في المدرسة معيدان:الأول عاصم بك البخاري،والثاني عزة أفندي الرفاعي،هكذا كنا ندعوهما.أشهد أن للأستاذ الرفاعي فضلاً على الرياضة في دمشق،لا أجد اليوم من يذكره أو يشكره،فهو الذي بعث الله على يده الروح الرياضية بعد أن ماتت،وهو الذي نشأ على يده أكابر أبطالها،رفاقنا:محمود البحرة عبقري الرياضة،وحسن الهاشمي،وأحمد سامي السمان بطل القفز العالي رحم الله الجميع.

لقد كان مكتب عنبر مثابة العلم،وكان موئل الوطنية،وكان مصدر الحركات الشعبية،ومبعث النضال ،ولقد كتب لي أن أقوده في يوم من أعظم  أيام نضاله.

ويتابع الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله:”أين أنت يا مكتب عنبر رحم الله أيامك…أين أنت ياعهود الصبا،ويا مراتع الأحلام؟تعالي انظري ماذا صنعت الأيام بتلك الأحلام..إنك لاتدري يا أخي ظافر ماذا صنعت بي هذه السطور.لقد انتزعت قلبي من صدري،فعادت به إلى بيوت دمشق.

يا أسفي على تلك الجنات،على تلك(الصحون)التي يبسم في أرضها المرمر،ويضحك في (أحواضها) الزهر،ويتربع في جنباتها الشمشير،وتتخطر من حول بركتها صبايا الليمون والنارنج،ولها من ثمرها مثل نهود الصبايا،والياسمين المطيف بأغصانه من حول اللإيوان،والمليسا المتعلقة خشية السقوط بالجدران،والدوالي التي تتمدد على السطوح،تعمل النهار،تستمد من حرّ الشمس ما ينضج الثمر،وتستريح الليل لتحلم في ضوء القمر.

….على  تلك”المربعات”و”القاعات”و”الفرنكات”و”المصبات” على ذلك الفن الشامي الأصيل،الذي قفز من فوق البحر،فوصل الشاطىء الغربي في إسبانيا،بالشاطىء الشرقي في الشام،وحمل عبقرية العمران،إلى بلاد المغرب والاسبان،فامتلأ بسحرها كل مكان،وبقيت فيه إلى الآن….على دارنا وداركم،على( مكتب عنبر) الذي كان جنّة من جنات الشام.وما كَلفي من تلك المنازل بأرضها وجدرانها ولا بسقوفها وأركانها، ولا بصحنها وإيوانها، ولا بوردها وريحانها ،ولكن على من غير من سكانها…

تلك يا أخي مرابع صبانا،وأين مني تلك المرابع؟سقى الله أيامها،أين وبيني وبينها البيد والصحارى،وبيني وبينها عمر،تقضّى أكثره ولم يبق منه إلى الأقل،وحياة كان أجمل ما فيها تلك الأيام العذاب”.

وقال ظافر القاسمي:”ما أحلى أيامك يا مكتب عنبر،إني أكاد أقطع بأنها أحلى فترة مرت في حياتي ذلك لأنه لم يكن مكتباً لتعليم الفتيان فحسب،وإنما مؤسسة قائمة بذاتها لها تقاليدها وأعرافها ولها نظمها وطرائقها،ولأنه كان معقلاً من معاقل الوطنية الصادقة”.

قصر العظم

يقع قصر العظم عند سوق البزورية إلى الجنوب من الجامع الأمويّ.شيدّه الوالي أسعد باشا العظم سنة 1749م،فوق جزء من معبد جوبيتر الروماني.استغرق بناء القصر ثلاث سنوات،حيث جنّد أسعد باشا أمهر الصناع والعمال،فجاء القصر آية في الإبداع وحسن العمارة والفخامة وجمال الزخارف والنقوش،وقسم إلى قسم السلملك(لاستقبال الزوار) والحرملك (قسم النساء والمعيشة).

زار هذا القصر امبراطور ألمانيا غليوم الثاني عام 1898م واتخذه المفوض السامي الفرنسي الجنرال سراي مقراً لإقامته في بدايات الإحتلال الفرنسي لسوريا.

وقصر العظم قد سجل في هيئة اليونيسكو كأحد أهم المباني الأثرية في دمشق .

عندما قذفت القوات الفرنسية مدينة دمشق بالقنابل لإخماد الثورة السورية الكبرى،أصيب قصر العظم وتهدّم جزء كبير منه فأعيد ترميمه إلى ما كان عليه في السابق وصار متحفاً للتقاليد الشعبية عام 1954م.

وجاء في موسوعة الويكيبيديا:

قصر العظم” :

هو قصر شُيّد في القرن الثامن عشر الميلادي،ويقع في النهاية الشمالية لسوق البزورية بدمشق القديمة،وعلى شماله يقع الجامع الأموي،وتبلغ مساحته الإجمالية 6400 متر مربع،وهو من بناء والي دمشق الوزير أسعد العظم عام 1749م،ويعد القصر نموذجاً للفن المعماري الإسلامي المتطور،فتخطيطه ونمط بنائه وزخارفه في الحجر والرخام والخشب والمعدن تمثل صورة عن مباني دمشق في العهد العثماني.

تم ترميم قصر العظم في عام 1954م ليصبح من أجمل وأروع القصور ونماذج العمارة الدمشقية،وتحول إلى متحف للتقاليد الشعبية،ورمم القصر بجميع أقسامه الداخلية والخارجية وقاعاته وتم تجهيز قاعات عديدة تعرض الكثير من العادات والتقاليد وتمثل الفلكلور السوري.

بُني قصر العظم كمقر سكن خاص من قبل أحد أواخر ولاة سوريا الأتراك ويسمى بأسعد العظم،وتم تشييده بثلاثة أجنحة،وأكبرها الجناح الوسط ويسمى جناح العائلة(الحرملك)وجنوباً يقع جناح الضيوف(السلاملك) ومساحته تبلغ حوالي نصف مساحة جناح العائلة،وجناح الضيوف معد لاستقبال والترحيب بالضيوف.وفي الشمال يقع جناح أصغر،يستخدم كمركز لأعمال التدبير المنزلي،ويقع فيه المطبخ والمخازن.

اتخذه المفوض السامي الفرنسي مقراً لإقامته .وتعرض القصر لأضرار كبيرة خلال القصف الفرنسي لدمشق إبان الثورة السورية عام 1925م،حيث قام الجنود الفرنسيون بقصف الحي القديم للمدينة،وقد تضرر قصر العظم جداً،حيث اندلعت النيران في غرفة القاعة الرئيسية،والحمامات الساخنة الخاصة،واحترقت سقوفها،وتدمرت الاجزاء العليا من الحيطان.

اشترت الحكومة السورية المنزل عام 1951م من عائلة العظم،وقررت المديرية العامة للأثار ترميمه وبنائه وفق ما كان عليه وإنشاء متحف وطني في القصر.وتم افتتاح المتحف الجديد للعموم وذلك في 13 إيلول عام 1954م.

التكيّة السليمانية في دمشقّ

في مقال نشر في مجلة المجمع العربي بدمشق للأستاذ جعفر الحسني:

“إن التكية السليمانية تقع عند مدخل دمشق الغربي، في ميدان الشرف الأدنى،ويمر نهر بردى عبر شمالها.أمرببنائها  السلطان سليمان القانوني بن السلطان سليم الأول العثماني فاتح الشام،على أنقاض القصر الأبلق للملك الظاهر بيبرس،وهي من أروع الفن المعماري التركي،والأبدع من بنائها هي الغاية السامية التي أسست من أجلها.على شكل تكية من جهة الغرب ومدرسة في الشرق وسوق يمتد بين هذه المدرسة ونهر بردى.وجمعت لعمارتها أجمل أصناف الأحجار والرخام والفصوص الملونة.

(وهي من تصميم المعماري سنان الذي ارتبط اسمه بتشييد صروح اسطنبول الشهيرة)

بدأ في بناء التكية سنة 962هجري الموافق 1554م وانتهت سنة 967هجري الموافق 1559م أمام الوالي خضري باشا.أما بناء المدرسة فقد انتهى سنة 974هجري الموافق 1566م أمام الوالي لالا مصطفى باشا.

يقول الكاتب جعفر الحسني:”عثرت بين سجلات مديرية أوقاف دمشق على نسخة عن وقفية هذه التكية سجلت فيها أوقافها وعينت نواحي البر التي يجب إنفاق غلاتها عليها.ولو سلمت إلى يومنا أوقافها لكفى ريعها لإنشاء عدة جامعات عصرية وعشرات المؤسسات الخيرية .قدر عشر هذه الأوقاف بموجب حكم صادر عن محكمة التمييز السورية عام 1931 بنحو من ثلاثة ملايين قرش تركي ذهباً.

يكمن وراء كل مؤسسة دينية إسلامية هدف خيري وثقافي،ولو رجعنا إلى نصوص وقفياتها لكشفت لنا عن صفحات مشرقة من الحضارة الإسلامية وتفننها في أساليب نشر الثقافة الدينية وإلى جانبها الحدب على اليتيم والمسكين والمريض.

وتبين إحدى الوثائق بيان القرى الموقوفة من وراء التكية السليمانية ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

ـ الزبداني بالكامل.الأشرفية من توابع الزبداني .صيدنايا .المرج من أعمال الشام.المزة من توابع غوطة دمشق.عقربا .دوما.مسرابا. المليحة. داريا…..

كان الغرض من إنشاء التكية إيواء الفقراء وإطعامهم،حيث أن كلمة تكية بالتركية تعني المطعم العمومي للفقراء والدراويش،يأكلون فيه وقد يبيتون.

في أواخر القرن العشرين حولت بعض أجزاء التكية إلى المتحف الحربي وذلك في القسم الشمالي من التكية،وأما القسم القبلي فأصبح مسجداً،وأما  إلى جهة الشرق  فإنه يستخدم سوقاً للصناعات اليدوية الشعبية.

وجاء في موسوعة الويكيبيديا:

“سميت نسبة إلى السلطان سليمان القانوني الذي أمر ببنائها عام 1554م في الموضع الذي كان يقوم عليه قصر الظاهر بيبرس المعروف باسم قصر الأبلق في مدينة دمشق.وكانت تخدم عابري السبيل والفقراء والحجاج في طريقهم وتأمن لهم الطعام والمأوى والتعليم للفقراء.والتكية من تصميم المعماري التركي معمار سنان ،أشهر معماري عثماني.وأشرف على بنائها المهندس ملا آغا.بدأ بناؤها سنة 1553م وانتهى سنة 1559م في عهد الوالي خضر باشا،أما المدرسة الملحقة بها فتم بناؤها سنة 1566م في عهد الوالي لا لا مصطفى باشا.

تبلغ مساحتها أحد عشر ألف متر مربع.أبرز مايميز طراز التكية السليمانية مئذنتاها النحيلتان اللتان تشبهان بالمسلتين أو قلمي الرصاص لشدة نحولهما،وهو طراز لم يكن مألوفاً في دمشق حتى تلك الحقبة.

تضم التكية قسمين:

ـ التكية الكبرى التي تتألف من مسجد ومدرسة.

ـ التكية الصغرى والتي تتألف من حرم للصلاة وباحة واسعة تحيط بها أروقة وغرف تغطيها قباب متعددة.وكانت التكية الصغرى مأوى للغرباء،وطلبة العلم،وتضم اليوم المتحف الحربي السوري وسوق الصناعات الشعبية.

قبّة ابن منكورس

يقول الأستاذ محمد أحمد دهمان في كتابه في رحاب دمشق:

“هذه القبة في شمالي مقبرة الدحداح في دمشق،وقد فصل بينهما شارع بغداد الذي أنشىء أيام الثورة السورية الأخيرة،وهي تعدّ من القبب الجميلة في دمشق،ويلاصق هذه القبة من الشمال مسجد صغير وهو بحالة خربة،وفي وسط القبة أربعة قبور،ثلاثة على صف واحد،وواحد مفرد شرقي القبر القبلي،وليس لهذه  القبور شواهد،إلا القبر الشمالي فلا يزال عليه شاهد قائم في طرفه الشرقي،مكتوب عليه:

رحمة الله،باسم الله الرحمن الرحيم،يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان،هذا قبر الفقير إلى الله تعالى الراجي رحمته ،موسى ابن المولى السعيد الشهيد مظفر لدين عثمان بن المولى السعيد الشهيد ناصر الدين منكورس.

قبّة المسجف

يقول الأستاذ محمد أحمد دهمان في كتابه”في رحاب دمشق”:

قبة أيوبية جميلة في طريق المزة القديم الذي من جهة حي باب السريجة.وتظهر القبة على يمين الطريق المحلق الجديد الممتد بين المزة وكفر سوسة.فهي تبعد عن شرقي المزة نحو ربع ساعة،وعن شمالي كفر سوسة نحو ثلث ساعة،وفي شرقيها الطريق الموصل إلى باب السريجة.

والمسجف هو أبو القاسم بن غنائم بن يوسف العسقلاني وابنه عبد الرحمن شاعر أيوبي.

البيمارستان النوري 

مدينة دمشق هي مدينة الخير والخدمات الصحية والاجتماعية والخيرية.وقد اشتهرت منذ القديم بما يسمى بوجود”البيمارستان”.

والبيمارستان: كلمة فارسية مركبة من كلمتين هما:”بيمار” أي المريض،و”ستان” ومعناها المكان.والمعنى:المصح أو المشفى.وقد سادت هذه التسمية قروناً عديدة من الزمن،من العهد السلجوقي في القرن الخامس الهجري إلى ختام العهد المملوكي في مطلع القرن العاشر.وفي العهد العثماني تحولت التسمية إلى”خستخانة“.

وقد بنى أولها الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك في القرن الأول الهجري بالقرب من باب دمشق الشرقي لعزل المصابين بمرض الجذام تفادياً لانتشار العدوى إلى الاصحاء.

وأسس البيمارستان الثاني منها نور الدين بن محمود الزنكي عام 549هجري.فكان يتألف من أربعة أقسام خصص كل واحد منها لعلاج نوع من الامراض.

وأما البيمارستان الثالث فكان معروفاً باسم”القيمري”،بالصالحية وقد بناه الأمير سيف الدين القيمري الكردي عام 656هجري.

وكان قريباً من جامع الشيخ محيى الدين بن عربي،ومتميزاً بإطلالة نوافذه على شجر النارنج المحيطة به والذي تفوح من أزهارها رائحة زكية منعشة للنفوس.

وقد ظل هذا البيمارستان مفتوحاً حتى اوائل القرن الرابع عشر الهجري ومن ثم قامت بلدية دمشق بإنشاء مستشفى الغرباء  بالقرب من تكية السلطان سليم.وقال العالم محمد كردي علي رحمه الله في كتابه “خطط الشام” أن منشئه كان أبو الحسن بن أبي الفوارس في القرن السايع الهجري.

وكانت لتلك البيمارستانات أوقافُ كثيرة تدرّ عليها الأموال الضرورية لإطعام المرضى ومعالجتهم ودفع أجور الأطباء والممرضين.

وجاء في موسوعة الويكيبيديا:

“البيمارستان النوري:يقع في قلب مدينة دمشق في الحريقة،جنوب غرب الجامع الأموي،شرق سوق الحميدية،ويعد واحداً من ثلاثة بيمارستانات اشتهرت بها المدينة.

الأول بُني قبله،وكان يُعرف باسم”بيمارستان الدقاقي” ثم سُمي بالعتيق،والآخر بُني في منطقة الصالحية وسمي البيمارستان القيمري.

بناه الملك العادل نور الدين زنكي عام 543هجري الموافق 1154م،وخصصه كمشفى للمساكين والفقراء،وأوقف عليه جملة كبيرة من الكتب الطبيةوكان يتسع لألف وثلاثمائة سريروقد كان الأطباء يفدون إليه من كل البلاد، ثم تحول ليصبح واحداً من أشهر المشافي ومدارس الطب والصيدلة في البلاد الإسلامية،وقد تعلم فيه كبار الأطباء مثا ابن سينا والزهراوي.حيث أن البيمارستان النوري كان يؤدي وظيفة هامة بالإضافة إلى معالجة المرضى،وهي تدريس وإعداد الطلاب ليكونوا أطباء،وقد عمل في الطبابة فيه أشهر الأطباء العرب،منهم ابن النفيس وابن أبي أُصيبعة،وكان المرضى يتلقون الدواء والغذاء والكساء مجاناً حتى يتماثلوا للشفاء.

تعرض البيمارستان خلال حقب تاريخية طويلة إلى تغييرات وتعديلات شتى.ففي سنة 803هجري تعرض للدمار على يد تيمورلنك،وبعد رحيله عاد لاستقبال المرضى ولكن على نطاق ضيق.وتحول سنة 1318 هجري إلى مدرسة للبنات في عهد السلطان عبد الحميد،وفي سنة 1358هجري تحول إلى مدرسة تجارية حتى رمم أخيراً عام 1396هجري وأصبح متحف للطب والعلوم عند العرب.

وجاء في مقال بعنوان”المارستان النوري”للدكتور سامي حداد(كتاب دمشق مقالات مجموعة للمحامي أحمد غسان سبانو):

“يقع المارستان النوري في جادة المارستان إلى الجهة الشرقية من سوق الحميدية.ويبعد عن القلعة نحواً من خمسمائة متر تقريباً.

أنشأه السلطان العادل نور الدين محمود أبو الثنا بن زنكي أق سنقر سنة 549هجري الموافق 1154م وهو من أشهر المارستانات العربية ولاتزال أبنيته قائمة.ونور الدين زنكي هو ثاني ملوك الدولة النورية كردي الأصل حكم في العجم والعراق والجزيرة وتسلم زمام الحكم في سوريا بعد قتل والده عماد الدين في سنة 541هجري الموافق 1146م وامتد حكمه إلى مصر وتوفاه الله سنة 569هجري الموافق 1173م.

ندر أن خلّد التاريخ لأحد من ملوك الأرض ذكراً كالذي خلّده لنور الدين.فإليك ما قال فيه ابن الأثير:”وطبق ذكره الأرض بحسن سيرته وعدله وقد طالعت سير الملوك المتقدمين فلم أر فيها بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن من سيرته ولا أكثر تحرياً منه للعدل واشتهر بزهده وعبادته وعلمه وكان لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرف إلا في الذي يخصه من ملك كان قد اشتراه من سهمه من الغنيمة…ولقد شكت إليه زوجته الضائقة فأعطاها ثلاثة دكاكين في حمص كانت له يحصل منها في السنة نحو عشرين ديناراً فلما استقللتها قال ليس لي إلا هذا وجميع ما بيدي أنا فيه خازن للمسلمين لا أخونهم فيه ولا أخوض نار جهنم لأجلك”.

أما سبب بنائه المارستان فيرجع إلى أنه حارب الافرنج في حرب الصليبيين الثانية فوقع في أسره بعض أكابر ملوكهم فقطع على نفسه في فدائه مالاً عظيماً وشاور أمراءه بذلك فأشار كلّ بعدم إطلاقه لما كان فيه من الضرر على المسلمين.ومال نور الدين إلى الفدية بعد أن استخار الله تعالى فأطلقه ليلاً.فلما بلغ الفرنجي مأمنه مات وبلغ نور الدين خبره فبنى بذلك المال المارستان ومنعهُ لأنه لم يكن عن إرادتهم.وتولى بناءه كمال الدين الشهرزوري وكان الحاكم المتحكم في الدولة النورية بدمشق.وكان في ذلك الزمن طبيب يدعى مؤيد الدين أبو الفضل بن عبد الكريم المهندس بارعاً في علم الهندسة وفن النجارة.فصنع أكثر أبواب المارستان.

وأول ترميم جرى في أيام الملك الجواد مظفر الدين يونس بن شمس الدين ممدود بن الملك العادل سنة 635 هجري الموافق 1237م.وتولى الطبيب بدر الدين المظفر ابن القاضي مجد الدين الرئاسة على جميع الأطباء والكحالين والجراحين بدمشق وكتب له منشوراً بذلك.فاشترى بدر الدين دوراً كثيرة ملاصقة للمارستان وأضافها إليه وكبر بها قاعات كانت صغيرة.وبناها أحسن بناء وجعل الماء فيها جارياً فاكتمل بها المارستان.

والترميم الثاني جرى في أيام الملك المنصور سيف الدين قلاوون ملك مصر  الذي أتى الشام إذ كان أميراً سنة 675هجري الموافق 1286م فأصابه بها قولنج عظيم فعالجه الأطباء بأدوية أخذت من المارستان النوري فحفظ ذلك ولما تملك على مصر أمر ناظر المتارستان بدمشق أن يعيد ترميمه.وأقيمت في أثناء هذه الترميمات لوحة رخامية تذكارية فوق الباب الداخلي ونقش عليها:

بسم الله الرحمن الرحيم.

{والذين يُنفقونَ أموالَهم في سبيل الله ثم لا يُتبعونَ ما أنفقوا منّاً ولا أذىً لهم أجرهم عندَ ربِّهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون}[البقرة 262]

{وما تُقدِّموا لأنفسِكُم من خيرٍ تجدوه عند الله هو خيراً وأعظمَ أجراً}[المزمل 20].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له”[رواه مسلم عن أبيهريرة رضي الله عنه]

والمولى السلطان الغازي في سبيل الله نور الدين أبو الثنا محمود بن زنكي بن آق سنقر قدس الله روحه من جمع الله سبحانه وتعالى لذاته وصف العالمين.ومن شرط وقفه الذي اشهد به على نفسه أنه وقف على المارستان المعروف بإنشائه وجعله مقراً لتداوي الفقراء والمنقطعين من ضعفة المسلمين الذين يرجى برؤهم.وهو يستعدي إلى الله تعالى من يساعد في تغيير مصارف وقفه واخراجها عما شرطه ويخاصمه بين يديه يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً.وجدّد ماكان تهدم من بنيانه وبناء أوقافه في الأيام السلطانية العادلية الصالحية خلّد الله سلطانها بنظر الفقير إلى الله تعالى عمر بن أبي الطيب غفر الله له ولمن أعان من المسلمين على عمارة هذا الوقف المبارك.وكان الفراغ منه فجر العشر الأول من ربيع الثاني سنة 682.

والترميم الأخير جرى في القرن الثامن عشر على يد حسن باشا التركي المعروف بشوريزري حسن وبقي المارستان عامراً يستقبل المرضى إلى سنة 1317هجري الموافق 1899م وكان أطباؤه وصيادلته لا يقلون عن العشرين حتى قامتبلدية دمشق بإنشاء مستشفى الغرباء وجعلت بناية المارستان النوري مدرسة أميرية للبنات.

ترجم لنا ابن أبي أصيبعة عدداً من الأطباء الذين خدموا المارستان النوري ومنهم:

1 ـ أول طبيب عقد نور الدين عليه ادارة المارستان هو أبو علي أبو المجد بن أبي الحكم عبيد الله بن المظفر بن عبد الله الباهلي وأطلق له جامكية وجراية.

وكان أبو الحكم من الحكماء المشهورين والعلماء المذكورين والأفاضل في صناعة الطب والأماثل في علم الهندسة والنجوم.كان يدور على المرضى في المارستان ويتفقد أحوالهم كل يوم.وبعد الفراغ من ذلك يطلع إلى القلعة ويتفقد المرضى من أعيان الدولة.ثم يرجع إلى المارستان ويجلس في الديوان الكبير وكان نور الدين قد وقف جملة كبيرة من الكتب الطبية وضعت في خزانتين في صدر الديوان الكبير.وتوفي بدمشق سنة نيف وخمسماية هجرية.

2ـ الشيخ مهذب الدين أبو الحسن علي بن عبد الله عيسى بن هبة الله النقاش.مولده ومنشؤه ببغداد عالم بالعربية والأدب يتكلم الفارسية.اشتغل بصناعة الطب على أمين الدولة هبة الله صاعد بن التلميذ.ثم أتى إلى دمشق وذهب إلى مصر ثم رجع إلى دمشق وخدم فيها الملك العادل نور الدين وخدم أيضاً في المارستان النوري.ولما مات الملك العادل خدم صلاح الدين الأيوبي وتوفي سنة 574هجري الموافق 1178م وكان كثير الإحسان محباً للجميل.

3 ـ موفق الدين أبو نصر أسعد بن أبي الفتح الياس بن جرجس المطران.كان سيد الحكماء وافر الآلاء جزيل النعماء أمير أهل زمانه في علم صناعة الطب وعملها.خدم صلاح الدين فغمره بإحسانه،وأترفه بمننه،وكان يحترمه ويجله لما قد تحقق من علمه.توفي سنة 578هجري الموافق 1191م.

4 ـ مؤيد الدين أبو الفضل محمد بن عبد الكريم بن عبد الرحمن الحارثي المعروف بالمهندس ولد ونشأ بدمشق.كان أول أمره نجاراً ونحاتاً وهو الذي نجر أبواب المارستان النوري.وكان يصلح ساعات الجامع الأموي بدمشق وهي من صنع والده.وقد طب للمارستان وتوفاه الله سنة 599هجري الموافق 1202م .

5 ـ موفق رالدين بن عبد العزيز بن عبد الجبار بن أبي محمد السلمي.كان كثير الخير محباً له مؤثراً للجميل غزير المروءة شديد الشفقة على المرضى وخصوصاً من كان منهم ضعيف الحال يتفقدهم ويعالجهم ويوصل لهم النفقة وما يحتاجون إليه من الأدوية والأغذية.خدم المارستان الكبير ثم الملك العادل أبا بكر بن أيوب.وتوفي سنة 604 هجري الموافق 1207م.

6 ـ رضي الدين أبو الحجاج يوسف بن حيدرة بن الحسن الرحبي تلميذ مهذب الدين النقاش.خدم صلاح الدين الأيوبي وـخاه الملك العادل أبا بكر بن أيوب.وكان أحد الأساتذة الذين ألقوا الدروس على الراغبين في علم الطب بالمارستان ومن معاونيه مهذب الدين الدخوار وعاش مائة سنة وتوفي سنة 613هجري الموافق 1216م.

7 ـ كمال الدين أبو منصور المظفر بن علي بن ناصر القرشي.كان كثير الخير وافر المروءة كريم النفس اشتغل في الطب على الشيخ رضي الدين الرحبي وبقي سنين يتردد على المارستان يعالج فيه المرضى احتسابا.توفي سنة 612 هجري الموافق 1215م.

8 ـ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن عبدان بن عبد الواحد بن اللبودي.أفضل أهل زمانه في العلوم الحكيمة وفي علم الطب.وكان ذا همة عالية وفطرة سليمة وذكاء مفرط.خدم الملك الظاهر غياث الدين غازي بن صلاح الدين وتوفي سنة 621هجري الموافق 1224م.

9 ـ مهذب الدين أحمد بن الحاجب.له تصانيف جليلة خدم صلاح الدين والمارستان النوري الكبير.

10 ـ مهذب الدين أبو محمد عبد الرحمن بن علي بن حامد الدخوار.ولد ونشأ بدمشق واشتهر هو وأبوه بالكحالة.واجتهد في تحصيل العلوم ونسخ الكتب وقرأ الطب على الشيخ رضي الدين الرحبي وموفق الدين المطران وفخر الدين المارديني.خدم الملك العادل أبا بكر بن أيوب بصناعة الطب.ولما توجه الملك العادل إلى مصر أخذه معه وولاه رياسة أطباء الديار المصرية بأسرها وأطباء الشام ولما استقر ملك الملك المعظم بالشام بعد موت أبيه استدعى مهذب الدين إليه ،فخدم المارستان خير خدمة.وأسس مدرسة لتعليم الطب في داره فاجتمع إليه خلق كثير من أعيان الأطباء وغيرهم.ووقف داره وجعلها مدرسة يدرس فيها من بعده صناعة الطب ووقف لها ضياعاً وعدة أماكن يستغل منها ما يصرف في مصالحها.ولمهذب الدين كتب كثيرة في الطب واللغة وكان شاعراً رقيقاً.

11 ـ أبو الثناء محمود بن محمد بن ابراهيم بن شجاع السيباني الحانوي ويعرف بابن رقيقة.أكرمه الملك الأشرق واحترمه وأن يواظب على معالجة المرضى بالمارستان الكبير.توفي سنة 635هجري الموافق 1237م.

12 ـ أوحد الدين عمران بن صدقة الاسرائيلي.ولد بدمشق وكان أبوه طبيباً وحظي عند الملوك واعتمدوا عليه.خدم المارستان الكبير في أيام الدخوار وابن أبي أصيبعة وتوفي سنة 637هجري الموافق 1239م.

13 ـ سعد الدين أبو اسحق ابراهيم ابن عبد العزيز بن عبد الجبار بن محمد السلمي.ولد بدمشق وتوفي سنة 644هجري الموافق 1246م.

14 ـ رشيد الدين علي أبوالحسن بن خليفة بن يونس بن أبي القاسم بن خليفة وهو ابن عم ابن أبي أصيبعة.باشر المرضى في المارستان الكبير في أيام الدخوار وموفق الدين المطران.ولاه الملك العادل أبو بكر بن أيوب طب المارستانين بدمشق وله كتب كثيرة في الطب والأدب والحساب.

15 ـ شرف الدين أبو الحسن علي بن يوسف بن الحسن الرحبي.ابن رضي الدين الرحبي.ولد بدمشق وحذا حذو أبيه وهو أشبه به خلقاً وخلقاً.خدم مدة في المارستان الكبير وتولى التدريس في المدرسة الدخوارية توفي سنة 667هجري الموافق 1268م.

16 ـ جمال الدين عثمان بن يوسف بن حيدرة الرحبي.مولده ومنشؤه بدمشق خدم المارستان الكبير.توفي سنة 657هجري الموافق 1258م.

17 ـ بدر الدين بن قاضي بعلبك.استخدمه الملك الجواد مظفر الدين بن يونس بن شمس الدين ممدود بن الملك العادل.ولاه الرياسة على جميع الأطباء والكحالين والجراحين.جدد في محاسن الطب ما درس وأعاد من الفضائل ما دثر وكان محباً لفعل الخير.

18 ـ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن ابراهيم ابن أبي المحاسن الكلي.

19 ـ عز الدين أبو اسحق ابراهيم بن محمود بن السويدي ولد بدمشق ونشأ بها.

20 ـ عماد الدين أبو عبد الله محمد بن القاضي الخطيب الدنيسري.

21 ـ ابن العبري.

حمامات دمشق

لقد كانت هناك حمامات عامة في سوريا إبان الحكم الروماني بدمشق وأنطاكية وتدمر كذلك،ولكن عدد الحمامات التي أنشئت في العصر الأمويّ بلغ سبعة وخمسين حماماً استناداً إلى كتاب نشره الأستاذ منير كيال بدمشق عام 1966م.ماعدا الحمامات التي بُنيت خارج أسوارها،وفي القرى المجاورة لها.وكل حمام كان مؤلفاً من ثلاثة  (البرّاني والوسطاني والجوّاني)،يؤمه الرجال والنساء في أوقات محددة لكل منهم.وقد تفنن الدمشقيون بتزيين جدران هذه الحمامات بالقيشاني وأرضها بالرخام،وكانوا يضيئونها بالفوانيس.

أما القسم البراني فكان يتألف من ساحة واسعة تتوسطها بحرة ماء ونافورة،وتكتنفها مسطبتان خشبيتان مرتفعتان ومفروشتان بالبسط وبجانبها خزن لوضع الثياب النظيفة فيها والمناشف التي توزع على المستحمين.

والوسطاني :هو عبارة عن قاعة كبيرة جداً توجد فيها مراحيض وعدّة أجران كبيرة مزودة بالماء الساخن والماء البارد،يساعد فيها المستحمين مستخدمون يقومون بتدليك وتفريك أجسامهم.

وأما الجواني:فتعلوه قبة ينفذ النور الخارجي منها بطاقات زجاجية مدورة وتنتهي فيه مراحل الإستحمام بصبّ المياه المذابة فيها أقراص “الترابة الحلبية” المعطرة على الرأس والجسم.

لقد كانت تلك الحمامات مزودة بمياه نهر بردى قبل وصول مياه نبع عين الفيجة إلى دور دمشق ومرافقها العامة في عام 1932م وجعلته مشروعاً وطنياً ملكاً لأهالي دمشق يصل إلى دورهم من الخزانات بأنابيب مرفقة بعدادات ليدفع كل مشترك ثمن المياه التي يستهلكها.

وفي مقال للأستاذ محمد أحمد دهمان في مجلة المجمع العربي بدمشق:

الحمامات داخل دمشق جملتها أربعة وسبعون حماماً.

حمام الكمالي،وحمام الوزير،وحمام جاغان،وحمام قنيعش،وحمام العدل وحمام ابن يمن،وحمام سوق علي،وحمام الأندرن وحمام أبي نصر،وحمام الصفي،وحمام قراجا،وحمام الشريف،وحمام البعل وحمام حارة الخاطب(في حي الشاغور)وحمام سويد،وحمام نور الدين بسوق البزوريين،وحمام السلم وحمام أستاذ الدار،وحمام الوجيه وحمام أبي شامة،وحمام الغرز،وحمام العجج،وحمام السنبوسك،وحمام الجبن،وحمام الشامي،وحمام الزيبق،وحمام لؤلؤة،وحمام الصفي،وحمام سعيد،وحمام خطلبا،وحمام رحيبة،وحمام العلوي،وحمام أسد الدين،وحمام الفايز،وحمام العرايس،وحمام الصوفي،وحمام آخر لسُعيد،وحمام الزنجالي،وحمام قاضي اليمن،وحمام كرجى،وحمام حديد،وحمام المارستان،وحمام القيمرية،وحمام الحريميين،وحمام القطيطة،وحمام الزريزير،وحمام درب العجم الكبيروالصغير،وحمام الصحن،وحمام المؤيد،وحمام السلارية،وحمام سامه،وحمام الكاس،وحمام خفيف،وحمام صاحب حمص،وحمام العقيقي(لصيق المدرسة الظاهرية)،وحمام جاروخ،وحمام القاضي،وحمام الملك الزاهر،وحمام ابن موسك،وحمام القصير،وحمام تميرك،وحمام عز الدين داخل باب النصر(باب النصر أحد أبواب دمشق القديمة ويسمى بباب الجنان وبباب دار السعادة وهدم سنة 1381هجري)،وحمام دار السعادة،وحمام بدرب الشعارين،وحمام القاضي خليفة،وحمام ابن أبي الطيب،وحمام درب اللُبان،وحمام آخر للشريف،وحمام آخر للمارستان،وحمام بدر الدين بحارة البلاطة،وحمام تربة أم الصالح ويعرف بحمام ست الشام أيضاً،وحمام أرجواش،وحمام شركس،وحمام أنشأه القرماني بين السورين بباب الجابية،وحمام مجهول بين باب الفرج وباب الفراديس،وحمام درب الحجر.

وأما الحمامات التي هي خارج دمشق وهي في حواضرها فجملتها أربعة وثلاثون حماماً وهي:

حمام حكر السماق،وحمام خطاب،وحمام الحسام،وحمام الحاجب،وحمام القصر،وحمام الظاهرية،وحمام العتيقا بالشاغور،وحمام مسجد القصب،وحمام عز الدين الحموي،وحمام الجلاطي،وحمام لاجين،وحمام الريش،وحمام عاتكة،وحمام الحكر،وحمام ديلم،وحمام الظاهر بالطون،وحمام المرمدة،وحمام جرادة،وحمام تمر الساقي،وحمام العقيبة،وحمام الراهب،وحمام الصالح،وحمام الشجاع،وحمام قرقين، وحمام الجلال،وحمام إسرائيل،وحمام العونية،وحمام العونية الأخرى،وحمام الكحال،وحمام الجواميس،وحمام مجهول عند بستان الدمشقي،وحمام تنكز بحكر السماق.

وأما الحمامات المتصلة بحواضرها فجملتها تسعة وعشرون حماماً:

حمام ابن العديم،والحمام الجديد،وبقرية المزة ثلاث حمامات وهي المسعودي وحمام العفيف وحمام العوافي،وبقرية كفر سوسيا حمام ،وبالقبيبات حمام قديم(هي ما يطلق عليها الآن الميدان الفوقاني وفيها جامع الدقاق)،وبالسهم خمس حمامات،وبالنيرب حمام هو حمام العز،وبجبل قاسيون أربعة عشر حماماً وهي:حمام الجورة،وحمام الزهور،وحمام المدفف،وحمام القاضي،وحمام الورد،وحمام عبد الحميد،وحمام الشبلية،وحمام برقا،وحمام خرنوبة،وحمام الياسمين،وحمام النحاس القديمة،وحمام أخرى جددها القرماني وتعرف بحمام النحاس أيضاً،وبين حرستا وأرزونة حام واحد يعرف بحمام مسيلمة.

حمام نور الدين الشهيد

بناه السلطان العادل نور الدين محمود الشهيد سنة 567هجري،وجعله وقفاً على مدرسته النورية الكبرى،وذكره الحافظ ابن عساكر،.يقع في سوق البزورية بجوار خان أسعد باشا العظم.وهو من أقدم الحمامات الدمشقية القائمة في أيامنا.

وقد عمره بعدما خرب،حسن باشا الكنخدا بحدود سنة 1020 هجري،بأمر من الوالي أحمد باشا الحافظ.

وهو اليوم من أجمل حمامات دمشق.

وجاء في موسوعة الويكيبيديا:

حمام نور الدين الشهيد:هو من أقدم حمامات دمشق القديمة المصنفة في قائمة التراث العالمي.يقع في سوق البزورية المتفرع من سوق مدحت باشا الشهير في دمشق بجانب خان أسعد باشا العظم،بناه السلطان نور الدين زنكي الشهيد سنة 565هجري الموافق 1169م.وقد رُمم الحمام بإشراف المديرية العامة للآثار والمتاحف عام 1969م،ويرتاده السياح والزوار.

حمام الورد

في سوق ساروجة إلى الشمال من جامع حمام الورد،وهو من الحمامات الأثرية المسجلة لدى المديرية العامة للآثار والمتاحف.

ويقال أن بانيه هو الأمير صارم الدين صاروجا المظفري،أحد أمراء تنكز المتوفى سنة 743هجري،وهو من الحمامات العاملة في دمشق اليوم.

حمام المقدم

هذا الحمام يعود إلى القرن السادس الهجري،ومازال موجوداً إلى اليوم.

يقع في حي الشيخ محيى الدين بن عربي ،منطقة الشركسية،حارة المقدم.

وقد يكون من بناه الأمير الغازي المجاهد يونس بن يوسف ابن المقدم وهو من بنى المدرسة المقدّمية البرانية بحارة الركنية بالصالحية، أو قد يكون فخر الدين ابراهيم ابن الأمير شمس الدين محمد ابن المقدم(توفي 597هجري)وهو صاحب التربة المقدمية في مرج الدحداح.والعامة تسمي الحمّام :حمّام المقدَّم أو حمام المقدِّم أو المأدِّن.ويوجد الحمام في حارة أو جادة ابن المقدَّم والتي تمتد من الجسر الأبيض إلى جادة المدارس بالصالحية.

حمام القيشاني

يتفرع من سوق الحرير.أطلقت التسمية في الأصل على الحمام الذي بناه والي دمشق العثماني درويش باشا في حدود سنة 980 هجري،وسمي بهذا الاسم لأنه كُسي بالقيشاني.غير أن هذه التسمية عمّت على السوق الذي يقع به الحمام،وتحول الحمام نفسه إلى جزء من هذا السوق عام 1325 هجري .وقال عنه القاسمي:”كان شهيراً في الحسن والرونق وحسن الخدمة،ونال حظاً من الإقبال حتى صارت تضرب به الأمثال”.

وأما القيشاني فهو نوع من ألواح الآجر المكسو بطبقة رقيقة من الغضار الصيني الملون،والذي يشوى لكي تتصلب طبقة الغضار وتأخذ قواماً أملس لماعاً.وازداد استعمال وانتشار القيشاني في أيام العثمانيين،وبدمشق عدد من الأوابد استعملت فيها كسوة القيشاني كجامع سنان باشا ومئذنته الشهيرة.

حمام أمونة

في بوابة الآس،على بعد خطوات من مقبرة الذهبية وهي الفرع الشرقي من مقبرة الدحداح.

وهو اليوم من الحمامات القليلة العاملة،وهو حمام متواضع يدخله الفقراء الذين يكثرون في تلك المنطقة.

حمام البكري

في منطقة باب توما،في حارة النحوي.لصيق مسجد الخير،ومدخل الحمام تحت مئذنة المسجد .

وهو اليوم حمام متطور وجديد مثل حمام نور الدين الشهيد وحمام المقدم والشيخ رسلان.

حمام الجوزة

حمام مشهور له تاريخ عريق،وكان من أرقى حمامات دمشق في سوق ساروجة،وهو مسجل اليوم ضمن الأبنية الأثرية التي تعود إلى القرن السادس الهجري.

حمام الحموي أو حمام السلطان

من أقدم حمامات دمشق المملوكية الباقية،يقع في طريق القصاه عبر شارع الملك فيصل بمنطقة مسجد الاقصاب، غربي مسجد القصب وينسب إلى بانيه الأمير عز الدين أيبك الحموي.

كان من مماليك الظاهر بيبرس المقربين،ودخل دمشق نائباً عنها سنة 691هجري ،وشارك في معركة شقحب ضد المغول سنة 702هجري،وتوفي في سنة 703هجري ودفن في تربته غربي قاسيون،وقد وصف بالصلاح والشجاعة والشهادة والكرم.

أما الحمام فقد بناه سنة 694هجري،وكان من أجمل حمامات دمشق،حتى إن السلطان سليماً الأول اختاره من دون الحمامات الأخرى بدمشق،وربما جاءت تسميته بحمام السلطان لهذا السبب.

حمام الخانجي

من الحمامات الأثرية،بجوار دار محمد باشا العظم(متحف الوثائق التاريخية) شرق سوق ساروجة.

حمام الشيخ رسلان أو حمام الجورة

ويدعى حمام باب توما أيضاً،ويقع في منطقة باب توما،جادة الجورة.وقد جدد حديثاً .

حمام العمري

في منطقة العقيبة،مقابل باب جامع التوبة الشمالي.

وسمي بهذا الاسم نسبة للشيخ عمر الاسكاف الحموي،الذي كان متصوفاً،ولا زالت زاويته غرب الحمام.

حمام القيمرية

وهو من حمامات القرن السادس،يقع في “حارة الحمام” شمالي المدرسة المسمارية وشرقي المدرسة القيمرية.ويعتبر من الحمامات التقليدية في دمشق.

حمام الملك الظاهر

أقدم حمامات دمشق الباقية،يقع في باب البريد شمالي دار الكتب الظاهرية.

ينسب إلى أحمد بن الحسين العقيقي المتوفى سنة 378هجري،ولذلك يقال له حمام العقيقي.

حمام القرماني

يقع  في سوق العتيق جادة القرماني،أسفل سوق ساروجة.وكان في أواخر العقد الخامس من أكثر حمامات دمشق ارتياداً ونشاطاً لموقعه في وسط مدينة دمشق قريباً من فنادق سوق ساروجة العديدة حيث يكثر الغرباء عن دمشق.

حمام النوفرة

ويقع عند أسفل درج باب جيرون(النوفرة) للمسجد الأموي ويعرف قديماً باسم حمام درب العجم الكبير.

حمام السلسلة

يقع في منطقة الكلاسة،قرب الباب الشمالي للجامع الأموي المسمى بباب الناطفيين،إلى جهة الشمال.وكان يسمى أيضاً حمام باب الناطفيين.ويعرف أيضاً بالمؤيد.

حمام الحدادين

ويعرف أيضاً بحمام الدرويشية،ويقع في منطقة الدرويشية قريباً من مسجد درويش باشا.

حمام الجديد أو حمام القماحين

يقع في مدخل باب السريجة من جهة السنانية جنوبي الزاوية الشاذلية.

حمام عز الدين

يقع في جادة باب السريجة.

حمام السروجي

يقع في حي الشاغور ،جادة تحت الحمام.وهو من الحمامات الأثرية،ويعود إلى القرن السادس هجري.

حمام الزين

يقع في السويقة ـ قصر الحجاج ـ جانب دار القضماني وهو من حمامات القرن الثامن الهجري.ويعتبر من الأبنية الأثرية.

العادات والأعراف الشامية في حمامات السوق

(منير كيال ـ الحمامات الدمشقية):

 ـ دخول الحمام:

عندما يدخل المرء إلى الحمام يبدأ بالسلام على المعلم والناطور،وتهنئة الزبائن الذين انتهوا من استحمامهم الموتواجدين بطبيعة الحال في البراني.فيردونعليه:وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.ويرحب به المعلم(أو الناطور في حال غياب المعلم)قائلاً:أهلاً وسهلاً تفضل،شرّف عالمسطبة.

دور الأجير والناطور:

وينادي على أجير الأرضية قائلاً:عتّب له يا ولد.فيسارع ذلك الأجير ويفرش فوطة التعتيبة على الأرض لوضع حاجات الزبون عليها ريثما يتم خلع ثيابه.ويسارع الناطور فيقدم للزبون بقجة الفوط وتضم:فوطة لصرّ ثياب الزبون،وفوطة يحزمها على وسط الزبون وتسمى الوسط أو(الماويّة)،وفوطة ثالثة تسمى(الظهريّة) إذ يضعها على ظهر وكتفي الزبون ليحمي جسمه من برد البراني.

وخلال خلع الزبون ملابسه،يقوم الناطور ببسط فوطة الماوية بشكل يستر بها عورة الزبون عن أعين الآخرين المتواجدين في البراني من زبائن وسواهم.ولحظة انتهاء الزبون من ذلك يقوم الناطور بلفّ تلك الفوطة على خصر الزبون بخفة بارعة.ثم يتقدم الزبون من المعلم أو الناطور ويسلمه ما لديه من أشياء ذات قيمة،ساعته ودراهمه وخواتمه وأقلامه ومفاتيحه.

دور التبع:

ومن ثم يدخل إلى الوسطاني فيقضي حاجته في بيت الخلاء ثم يستقبله التبع قائلاً:أهلاً وسهلاً،شرّفت.ويسأله عن كيفية رغبته في الاستحمام،هل يريد مثلاً دواءً لإزالة الشعر قبل الاستحمام أم يريد شفرة.وهل يريد صابوناً وليفة يحمم بها نفسه،أم يريد مصوبناً يغسله (ويُكيّسه)ويفركه بالكيس ويصوبنه بالليفة والصابون.وهل يريد تمسيداً بعد الاستحمام أم لا.فإن أراد الاستحمام بنفسه يتركه التبع بعد أن يقدم له الصابون والليفة.وإن أراد الزبون الاستحمام بواسطة المصوبن،فإنه يقدّمه للريس.وإذا صدف وكان الريس مشغولاً بتحميم أحد الزبائن فإن التبع يأخذ الزبون ويجلسه على مسطبة بيت النار ويرش الماء الحار على بلاطات ممر بيت النار فيتصاعد البخار،وبالتالي يغرق الزبون في البخار ويعرق وتتحلل مفرزات جسمه.وفي هذه الأثناء يكون التبع قد أحضر للزبزن آنية نحاسية مملوءة بالماء الساخن(طاسة كبيرة) يضعها بين قدمي الزبون،فيضع فيها الزبون قدميه مما يساعد على تحلحل تعبه.

الاستحمام مع الريس:

عندما يأتي دور ذلك الزبون،يأتيه التبع ويدعوه إلى الريس قائلاً:شرّف سيدي إلى مقصورة الصنعة،أجا دورك،فيستقبله الريس مرحباً ويجلسه في مقابلته ويتناول الريس كيساً من القماش الصوفي أو الوبر فيغسله جيداً بالماء والصابون أمام الزبون قبل استعماله،ومن ثم يتقدم من الزبون فيجلس في مقابلته وجهاً لوجه فيأخذ بيد الزبون اليمنى فيفركها ثم اليد اليسرى،وبعدها يبطح الزبون على قفاه فيأخذ صدره،فوجه ساقيه بالتفريك،وهنا ينادي على التبع قائلاً:هات راسية يا ولد.فيجيب التبع حاضر يا ريس.ويحضر التبع الراسية،وهي عبارة عن منشفة يجعلها التبع على شكل دائري(كعكة) يضعها تحت رأس الزبون،بعد أن يقلبه على وجهه،بحيث يضع يديه تحت رأسه فوق الراسية،ثم يخرج التبع،ويتابع الريس التفريك،فيبدأ من ساقي الزبون إلى ما بين كتفيه،ثم يجلسه ثانية وجهاً لوجه،فيفرك له تحت إبطيه ورأسي كتفيه ووجهه إذا أراد.

ومن عاداته أن يجر الوسخ بالكيس أولاً من الكتف والظهر إلى رأس اليد ويفتله بالكيس ثم يطلع المستحم عليه ليريه مهارته في تكييسه وأنه متسخ بدنهنويصفف له فتائل الوسخ أمامه لذلك أيضاً.ولا يخلو ذلك من ارهاق للمستحمّ.

وعندما ينتهي الريس من ذلكنيصبّ على جسم الزبون الماء الساخن،فيزول الوسخ.وإذا رغب الزبون بالتدليك يعمل الريس على ضرب مفاصل الزبون وشدها مع الضغط عليها…وتتم كل هذه الأعمال بحشمة تامة،حتى أن الفوطة لا تفارق وسط الزبون.

ثم يشرع الريس بغسل رأس الزبون ثلاثة أو أربعة أدوار(أتمام) وعقب كل دور يسكب الماء الساخن على رأس الزبون ليزيل عنه الصابوننفإذا (زقزق) الشعر ينتهي تحميم الرأس.

وهنا تبدأ عملية الصوبنة(التلييف).فيحضر التبع للريس طاسة نحاسية كبيرة يملؤها بالماء الساخن ويضع فيها قطعاً من الصابون الفاخر وليفة من ليف مخيط بخيطان من قشر القنّب(مصيص).فيغسل الريس الليفة أمام الزبون،ويحضر له التبع ماءً ساخناً جديداً.ومن ثم يمسك الريس الليفة المغطسة بالماء والصابون بيد ويضرب بيده الأخرى الصابون والماء الساخن حتى تتشكل كمية كبيرة من رغوة الصابون بالليفة والطاسة…وهذا ما يسمى بالتفوير.

ثم يشرع الريس بعملية تلييف الزبون،وهي تمر بنفس مراحل التفريك التي أتينا على ذكرها…وعندما تنتهي يدق بلطف(يطبطب) على وسط(صلب) الزبون ويقول له:نعيماً سيدي.فيجيبه:الله ينعم عليك.وينهض الزبون فيسكب الريس على جسمه الماء،حسب رغبة الزبون حاراً أو فاتراً أو بارداَ.

وعندما ينتهي الاستحمام يطلب الريس من التبع إحضار المناشف،فيأتيه بزوج من المناشف البيضاء يلف واحدة حول وسط الزبون خلال نزعه الفوطة عنه(الماوية) ويلقي بالمنشفة الثانية على كتفي الزبون(الظهرية) ويخرجه إلى الوسطاني.حيث ينادي على الناطور ليتسلمه.

الناطور…ونعيماً:

ويسارع الناطور إلى الوسطاني مباركاً للزبون استحمامه(نعيماً سيدي).

وعلى رأسه يقجة تضم عدداً من المناشف النظيفة الناصعة البياض أو المقصبة(حسب أهمية ومكانة الزبون).ويعمد على تجفيف جسم الزبون،ويغير له المناشف بمناشف جافة ويلف رأس الزبون بمنشفة نظيفة رأسية(خوليّة) ويجلسه على مسطبة الوسطاني ليستريح وليتلائءم جسمه مع اعتدال حرارة الوسطاني.وقد يغيّر له المناشف مرة ثانية وثالثة وفي كل مرة يقول له:”الله يجعله نعيماً سيدي”.ثم يسير بالزبون إلى البراني ويجلسه على المسطبة،ويغير له المناشف ويبالغ في الإكرام فيضع له فوق منشفة(الظهرية) منشفة أخرى يسمونها(المراية) وهي من النوع الحريري الممتاز كما يضع له على فخذيه منشفة حريرية مماثلة(فوق الماوية) يسمونها(المقدم).ومنشفة حريرية أخرى تغطي كامل الجسم.

وخلال ذلك يقدم الناطور للزبون المشروب حسب رغبته بارداً أو حاراً من كازوز أو عصير أو شاي أو قهوة،زهوراتنكاكاونيانسون، قرفة، زنجبيل…ويقدم ذلك المشروب على منضدة عالية معدنية(طربيزة) مع علبة دخان وعلبة عود ثقاب.وقد يقدم له نارجيلة إذا أراد.

وبعد تناول المشروب يغير له المناشف فيجفف له عرق جسمه ثم يغير له ثانية وثالثة حتى يكتفي الزبون ويكون مسروراً ويتم ذلك من قبل الناطور بخفة ولهفة بارعتين تثير انتباه الزبون إلى مدى العناية بهزوسبب ذلك التكرار في تغيير المناشف للزبون هو أن تنشيف الجسد يكون بالتدرج البطىء وليس بمسح الجسد.

ثم يقدم له بقجة ثيابه،ويساعده على ارتداء ملابسه ولف زناره فوق سرواله وميتانه أو قنبازه.وبعدها ينادي على أجير الأرضية ليقدم له الحذاء بقوله:رجّل يا ولد.فيأتي ذلك الأجير بمنشفة يضعها على المسطبة ويضع الحذاء على درجة أمامها،فيقعد الزبون على المنشفة ويلبسه الأجير حذاءه إذا أراد.ثم ينهض الزبون إلى المعلم فيستلم أماناته التي كان قد أودعها لدى المعلم حين دخوله إلى الحمام.

وفا الحمام:

بعد ذلك يدفع للمعلم أجر(وفا) استحمامه وإجرة استحمامه للريس إذا كان قد استحم بمساعدته كما يدفع ثمن المشروب إذا كان قد تناول مشروباً..كما يدفع الإكرامية للتبع على خدمته له وثمن الدواء(النورة) ويدفع الإكرامية(الحلوان) لكل من قام بخدمته والحفاوة به.ثم يخرج مودعاً بمظاهر الاحترام.

محطة الحجاز وسكة الحديد الحجازية

جاء في مقال بمجلة المنار العدد 429:

“إن الدولة العثمانية لما رأت أن المسلمين الساكنين في ممالكها والمتفرقين في أنحاء كرة الأرض كمسلمي تونس والجزائر وفاس في الغرب،ومسلمي الهند والأفغان وإيران والصين وسائر المشرق يأتون من كل فج عميق في كل سنة لأداء فريضة الحج وزيارة حرم الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم وقبره الشريفين ورأت ما يعانيه أولئك الحجاج من بعد المسافة وتحمل مشاق الطريق المملوء بالمصاعب والمتاعب وركوب متون الإبل لقطع تلك الصحارى الشاسعة ارتأت أن تمد سكة حديدية تمتد من حيفا ومن دمشق إلى المدينة المنورة.وقد كان لهذا الأثر الجليل مقصدان:

الأول:إجابة إلحاح مسلمي الأرض على مقام الخلافة في ذلك الوقت بهذا العمل ليتمكنوا من أداء فريضة الحج وسنة الزيارة بسرعة تامة وراحة واطمئنان على أموالهم ،إذ يوجد فيهم الشيخ العاجز والطفل الصغير والنساء وغيرهم من ذوي المعاذير كالأعرج والأعمى والمُقعد.

والثاني:تأمين سلطة الخليفة على الحرمين الشريفين،إذ كان كل خليفة من خلفاء المسلمين يلقب بخادم الحرمين الشريفين.

وقد تشكلت لجنة عامة لهذا المشروع لحث الناس على التبرع وجمع الإعانات له،وكانت اللجنة تنشر مقدار الإعانات وأسماء أصحابها في الجرائد التركية والعربية وغيرها من صحف العالم.

وفي 18 آب عام 1921م صدر قانون بإلحاق السكة الحجازية بنظارة الأوقاف بناء على كونها من الأوقاف الإسلامية الموقوفة على الحرمين الشريفين،وفيه أن ريعها يصرف قسم منه على تأمين دوام عمارتها،والقسم الآخر يصرف على الخيرات والتحسينات في سبيل استكمال استراحة حجاج بيت الله الحرام،وتأمين راحتهم في حلهم وترحالهم.

وعلى هذا فالأوقاف الصحيحة لوقف السكة الحديدية لا تباع ولا تشرى ولا يجوز هبتها لأحد،وإن لكل فرد من أفراد الأمة الإسلامية بعيداً كان أو قريباً حق الانتفاع بها في الحج والزيارة،وما يتبعهما من تجارة،وحق المدافعة عنها إذا اعتدي عليها.

وجاء في موسوعة الويكيبيديا:

محطة الحجاز في دمشق هي محطة انطلاق الخط الحديدي الحجازي التاريخي الذي كان يصل بلاد الشام والمدينة المنورة انطلاقاً من دمشق والذي توقف العمل به منذ عام 1917م،ويعتبر أحد معالم مدينة دمشق التاريخية.

ولدت الفكرة لأول مرة عام 1864م وللأهمية الكبيرة لمدينة دمشق وكمنطلق لحملات الحج فكانت تتوافد إلى دمشق من دول آسيا الوسطى عشرات الوفود استعداداً لمحمل الحج الدمشقي الذي ينطلق من دمشق إلى المدينة المنورة ومكة في الجزيرة العربية وكانت فكرة إنشاء الخط الحديدي بدلاً من طريق القوافل القديم التي كانت رحلة الحج تستغرق 40 يوماً للوصول للأراضي المقدسة وتأخر تنفيذ المشروع حتى نهاية القرن الثامن عشر في عهد والي دمشق حسين ناظم باشا ورجل الدولة الدمشقي أحمد عزة باشا العابد أمين سر السلطنة أيامها وتم إنجاز الخط الحديدي وكان إنجازاً كبيراً،وقد تكلف المشروع خمسة آلاف ليرة ذهبية عثمانية،وكان ينقل وفود الحجيج من دمشق وكذلك التجار ونقل المسافرين والبضائع إلى الجزيرة العربية،وتم العناية بشكل واضح بمبنى المحطة وهو من المباني الأثرية المميزة في وسط مدينة دمشق.

وللمحطة تاريخ عريق في الذاكرة الدمشقية في القرن العشرين حيث تنطلق منها القطارات في اتجاهات مختلفة منها قطار المصايف الشهير الذي يصل إلى المصايف الدمشقية العريقة وأعالي الجبال المحيطة بدمشق وإلى سرغايا ويمر القطار في مناطق جميلة جداً في ريف دمشق من الربوة إلى دمر والهامة وعين الخضرة وعين الفيجة ومضايا وبقين ومصايف وادي بردى وإطلالة سهل الزبداني وصولاً إلى مصيف الزبداني الشهير.

غوطة دمشق ونهر بردى

يقول مؤرخ دمشق ابن عساكر رحمه الله:

“ان اسم نهر بردى كان في الاصل “باراديوس” أي الفردوس،قبل أن يعرب ويصبح بردى.

ويقول الدكتور قتيبة الشهابي في كتابه”دمشق تاريخ وصور”:

“إن الإغريق أطلقوا على نهر بردى اسم “نهر الذهب” وأن ذكره جاء في التوراة كذلك.

وذكر الدكتور قتيبة الشهابي في كتابه”معالم دمشق التاريخية”:كتب الخوري أيوب سميا مقالة ضافية عن نهر بردى وهاكم الخلاصة:

“إن أول اسم ذكر به هذا النهر في التاريخ هو نهر”أبانة” في القرن التاسع قبل الميلاد في الكتاب المقدس.والواضح أن هذا الاسم انتقل من النهر الأصلي إلى أحد فروعه(نهر بانياس)،وكلمة أبانة أو أبانا آرامية تعني الصخور المشقّقة.

أما اسم بردى الذي اشتهر به النهر إلى اليوم فإن المؤرخين العرب يجمعون على  أنه من العربية،من البرودة أي النهر البارد.ومنهم ياقوت الحموي وابن عساكر والبكري والإصطخري…وهذا وهم واضح…والصواب أن بردى من كلمة(فرديس”السريانية وتعني الجنة،ومنها في العربية كلمة الفردوس وفي اليونانية باراديسوس.فبردى منقولة من السريانية الآرامية إلى اليونانية،ومن هذه إلى العربية.

ولعل النهر أخذ هذا الإسم من غوطة دمشق التي كانت بمثابة الفردوس في النزاهة والجمال والأنهار والأشجار،واليونان هم الذين أطلقوا عليه هذا الاسم”.

ينبع نهر بردى في سهل الزبداني(نبع بردى)،وفي جريانه لا يلقى أية روافد ذات أهمية تذكر إلا فيما عدا بعض الينابيع لا سيما عين الفيجة الذي يرفده بمياه غزيرة، ويمر في واد يحمل اسمه”وادي بردى” تكتنفه قرى”عين الفيجة” والجديدة والأشرفية والهامة ودمر قبل أن تنساب فروعه السبعة في أحياء دمشق ودورها ويخرج منها ليروي قرى الغوطة وحقولها المشجرة خلافاً للأنهر التي تصب عادة في البحار.

كما أن طوله لا يتجاوز سبعين كم .ويتراوح تصريفه السنوي ما بين 300 ـ 400 كم مربع .وتبدأ تفرعات النهر من الهامة التي تبعد حوالي 6كم من مدينة دمشق،فنهر بردى يمر بين مدينتي الهامة وقدسيا ويفصلهما عن بعضهما.

وتأخذ تفرعاته بعد ذلك أقواساً متباعدة عن بعضها وهي ليست تفرعات طبيعية،وإنما هي أقنية اصطناعية،حفرت في مراحل تاريخية مختلفة.حيث يقال أن قناة تورا قد بنيت في زمن الآراميين أي قبل ما يزيد على عشرة آلاف سنة قبل الميلاد،بينما الفروع الأخرى حفرت في العهد الروماني الذي بدأ سنة 64 قبل الميلاد وانتهى سنة 630م،وتم بناء قناة يزيد في فترة الخلافة الأموية.

وجاء في موسوعة الويكيبيديا:

نهر بردى:

نهر في دمشق العاصمة السورية ينبع من بحيرة نبع بردى في جنوب الزبداني على سلسلة الجبال السورية شمال غرب دمشق ويصب في بحيرة العتيبة جنوب شرق مدينة دمشق،ماراً بمدينة دمشق القديمة والغوطة.

ينبع نهر بردى من الجنوب الغربي لوهدة الزبداني في الجبال،من نبع فوكلوزي غزير عند أقدام جبل الشير منصور،على ارتفاع يزيد عن 1100م.يسير بعدها متعرجاً بضعة كيلومترات حتى مزرعة التكية،حيث يدخل في وادي عميق شديد الانحدار شهير باسم وادي بردى.ويتابع سيره حتى يدخل مدينة دمشق عند الربوة بعد أن تكون تفرعت منه ستة فروع.عن يساره أنهار(يزيد وثورا)وعن يمينه أنهار(المزاوي والديراني،قنوات،بانياس)مرتبة من المستوى الأعلى إلى المستوى الأدنى في الجريان،حيث تعتبر هذه الأنهار الصغيرة أو الأقنية خانق الربوة على مناسيب مختلفة،ثم تتباعد على شكل مروحة تغطي جميع أحياء مدينة دمشق،وبعد خروجها من مدينة دمشق تنتشر في جميع مناطق غوطة دمشق مشكلة بهذه الشريانات شبكة ري الغوطة.وفي مجرى النهر عند وادي بردى،يتلقى النهر عدة ينابيع أهمها نبع عين الفيجة الذي يضاعف في غزارة وحجم مياه بردى.ويخترق المجرى الأصلي لبردى،دمشق والغوطة في اتجاه الشرق والشمال الشرقي،حتى يصل إلى سبخة العتيبة بحيرة،بعد أن يكون النهر قد قطع بين منبعه ومصبه مسافة 71كم.

ولقد ارتبط اسم نهر بردى بمدينة دمشق،وكان للنهر الأثر الكبير في حضارة المدينة عبر العصور وتغنّى به العديد من الشعراء قديماً وذكر في الكثير من المراجع التاريخية لأهميته ويقول المؤرخ ابن عساكر أن نهر بردى كان يعرق قديماً باسم”نهر باراديوس”أي بمعنى نهر الفردوس،وأطلق عليه الإغريق اسم”نهر الذهب” وقد ذكر نهر بردى في الكتاب المقدس التوراة وفي مراجع تاريخية كثيرة ويوجد لوحات فسيفساء تاريخية تبين نهر بردى ماراً بين منازل دمشق.

يقول الشيخ العلامة علي الطنطاوي رحمه الله(مجلة الرسالة العدد 52):

(بردى) سطر من الحكمة الإلهية،خطّته يدُ الله على صفحة هذا الكون،ليقرأ فيه الناس ببصائرهم لا بأبصارهم فلسفة الحياة والموت،وروعة الماضي والمستقبل،وخصّته للأمة العربية فجمعت فيه تاريخها الجليل ببلاغة علوية معجزة.

والقرآن الذي جعل الآية المعجزة في القرآن هو الله الذي جعلها في الأكوان.

والله الذي أعجز ملوك القول،وأمراء البلاغة،بسور من آيات وكلمات وحروف،هو الله الذي أعجز قادة العقل،وأئمة الفلسفة،بسور من بحار وأنهار وكهوف.

وما (بردى) إلا سورة من قرآن الكون المعجز البليغ ـ وليس إعجازه في أنه يجري،ولكن إعجازه في أنه ينطق.وبأن في كل شبر منه تاريخ حقبة من العصور.وتحت كل شبر أنقاض أمة من الأمم:أمة ولدت في حجره،ورضعت من لبانه،وحَبت بين يديه،ثم قويت واشتدّت،وبنت فأعلت،وفتحت فأوغلت،ثم داخلها الغرور،وحسبت أنها شاركت الله في ملكه،فظلمت وعتت واستكبرت،فبعث الله عليها نسمة واحدة من وادي العدم،فإذا هذه العظمة وهذا الجبروت ذكرى ضئيلة في نفس بردى،وأنقاض هينّة في أعماقه،وصفحة  أو صفحتان في كتاب التاريخ.وإذا بأمة أخرى تخلفها في أرضها،وترثها مالها،ثم يكون سبيلها سبيلها:فقام الفينيقيون على أنقاض الحيثيين،والكنعانيون بعد الفينيقيين،والفرس بعد الكنعانيين،واليونان بعد الفارسيين،والروم بعد اليونانيين،والغساسنة بعد الرومانيين،والمسلمون بعد الغسانيين ثم قام العباسيون بعد الأموييين،ثم قام صلاح الدين،ثم جاء الترك بعد السلجوقيين،ثم جاء فيصل بن الحسين،ثم جاءت جيوش الفرنسيين.

هكذا يدور الفلك في السماء،ويدور السلطان في الارض،فتنشأ من القبر الحياة،ويغطي على الحياة قبر،والسلسلة لا تنتهي،والناس لا يعتبرون.

و(بردى) يبتسم ساخراً من غرور الإنسان،ضاحكاً من جهالته.يحسب نفسه شيئاً،فيضارع الكون،ويتطاول بعقله إلى الله،وما هو من الكون إلا ذرة من الرمل ضائعة في الصحراء،وما عمره إلا ثانية واحدة من عمر(بردى).

(بردى) وهو يجري على الأرض،رمز لتاريخ الأمة العربية وهو يجري في الزمان.ففي كل قسم من بردى فصل من التاريخ:

يخرج بردى من بقعة في (الزبداني) منعزلة،لا يبلغها إلا من كان من أبنائها عارفاً بمداخلها ومخارجها،ويسير بردى في غور عميق لا يخرج إلى هذه الجنان الجميلة الفتانة التي قامت على مقربة منه،يسلك قرارة الوادي،تلتطم أمواهه وتصطدم،ثم يبلغ بردى(الفيجة) وهناك تصب فيه أمواهها العذبة الصافية الزاخرة،فلا تخالطه ولا يخالطها،ويسير النهر خمسين متراً،ومن إحدى جهتيه بردى القليل العكر،ومن الأخرى الفيجة الكثيرة العذبة،ثم يختلطان،فتضيع قلته وكدورته،في كثرتها وصفائها،ويغدو بردى قوياً عذباً زاخراً،نحو أرض الورود والثمار.

يبلغ بردى(بسيمة) ويبلغ(الجديدة) فيسير بين بسيمة والجديدة،في أجمل البقاع على وجه الارض ،ويسقي هذه الخمائل فيكون شكرها إياه،أفنان الورود،وأغصان الأشجار التي تتدلى فوقه ،وتلمس خده لمساً رقيقاً،وتقبل جبينه قبلة طاهرة،وهو يلين فترى حصباءه ،ويشتدّ أخرى فيرغي ويزبد،ويكون له منظر مرعب ولكنه جميل.مرهوب ولكنه محبوب.

ويبلغ بردى(الربوة) ويمشي حيال النيربين،وينقسم بردى إلى أقسام سبعة انتثرت نثراً بين عدوتي الوادي:يزيد،وتورا،وبردى،وبانياس،والقنوات،والديراني،وعقربا،منها القوي المتين،ومنها الضعيف المستكين.

ثم يدخل بردى دمشق، فلا يصفق بالرحيق السلسل،ولا يتمايل على الورود والرياحين، بل يصفق بالأوحال والحشائش،ويميل على الأقذار والأوساخ،ويشح ماؤه وينضب ثم يضيع ويضمحل.

ثم يخرج إلى (الغوطة) فإذا نشق نسيمها عاودته الحياة،ونشأت في مجراه الجاف الصلب،عيون وينابيع،فإذا بلغ(جسر الغيضة) عاد قوياً زاخراً عذباً”.

فروع نهر بردى:

1 ـ نهر بانياس:

فرع رئيسي من نهر بردى،يتفرع عن الضفة اليمنى للنهر،وتنتهي في الشاغور بعد أن تمر بجامعة دمشق،يمر بدمشق القديمة من شمالها الغربي إلى جنوبها الشرقي.

يُعرف هذا النهر لدى المؤرخين باسم”بانياس”أو”باناس”،ويعتقد بعض الباحثين أنه نهر”أبانا” المذكور في الكتاب المقدس.

ولاشك أن لفظة باناس هي رومية الأصل(أبانوس) تلقاها العرب عن البيزنطيين .وذكره باسم باناس المؤرخ ابن عساكر وياقوت الحموي والعماد الأصبهاني الكاتب بقوله:

إلى ناسِ باناس لي صبوةٌ         لها الوجدُ داعٍ وذكرى مثيرُ

ويعتبر نهر قُليط فرع صغير لنهر بانياس .وهو يمر ببساتين الشاغور وبالقرب من الباب الشرقي،وقد سمته العامة”قليط” لأنه يحمل الأقذار والنفايات،ويضرب بوساخته المثل.

2ـ نهر ثورا:

فرع من بردى جنوبي نهر يزيد،يتفرع عن الضفة اليسرى من النهر وتروى أراضي جوبر وزملكا وعربين وتمر قبل ذلك بعدة أحياء من مدينة دمشق هي المهاجرين وسوق ساروجة والقصاع.

.اختلف في تسمية هذا النهر،فقال البعض أنه سمّي باسم أمير يدعى “ثورى” كان قبل الإسلام،وقال آخرون: نسبة إلى أحد ملوك المسلمين السلاجقة،وهو تاج المُلك ثورى زوج زمرد خاتون أم شمس المُلك.وقيل بل باسم حكيم يدعى”ثورا”،وهي كلمة يونانية تعني الحكمة أو النظر.وكان اسم النهر قديماً”نهر سقط”.وتسميه العامة بدمشق:نهر تورا.

3 ـ نهر الدَّيراني:

فرع رئيسي من نهر بردى.ويسمى أيضاً “الداراني” كما ذكره ابن عساكر.سمي بذلك لأنه يسقي قرية داريا جنوبي دمشق،وقسماً من أراضي المزة.وهو يتفرع عن الضفة اليمنى للنهر في دمر،ويروي أجزاء من المزة وكفر سوسة وداريا.

4 ـ نهر العقرباني:

فرع صغير من نهر بردى.يمر شمالي المدينة القديمة ملاصقاً قلعتها وسورها،ثم يلتفّ شرقيها(مواجهاً للباب الشرقي)،حتى يبلغ قرية عقربا جنوب شرقي دمشق في غوطتها الشرقية.

5 ـ نهر القنوات:

فرع رئيسي من نهر بردى.يتفرع من نهر بردى خارج المدينة في موقع الربوة،ثم يمر بها متشعباً إلى فرعين:في جنوبها وشرقها،ويسقي معظم أحيائها الجنوبية مثل الشاغور والقدم.ولعله سمي بذلك لأنه كان يسقي قرية “قينية”،وهي قرية درست كانت جنوب غربي المدينة،لذلك كان يدعى قديماً:”نهر قينية”.

أو أنه سمي بذلك نسبة لقنوات المياه الحجرية لبرومانية القديمة التي تكثر على طول مجراه الجنوبي في الحي الذي سمي باسمه”حي القنوات”.

6 ـ نهر يزيد:

من فروع بردى الرئيسية بأعلى الصالحية.تتفرع عن الضفة اليسرى للنهر في شمال مدينة الهامة وتستغل مياهها في ري الأراضي وتمر من المهاجرين والأكراد ثم تتجه إلى القابون وحرستا ودوما.

ويذكر المؤرخون أن الخليفة الأموي يزيد بن معاوية هو الذي شقّه.ويقال أنه وسعه وجدده فنسب إليه.ويذكر البحاثة الخوري أيوب سميا:يفرع نهر يزيد من قرب الهامة إلى الجهة الشرقية ويسير إلى دمّر،ومنها يسير في خرق صخري في جانح جبل قاسيون إلى ما فوق صالحية دمشق.وعندما ينتهي من فوق دمر والربوة يمر في أراضي كانت تخص دير المرّان قديماً،ثم يتابع جريه إلى ما فوق بلدة النيرب الآرامية القديمة،ثم يمر النهر إلى بلدة الميطور القديمة.

غوطة دمشق

لقد كانت غوطة دمشق مثار إعجاب الرحالة والمؤرخين فانبهروا بها،وأسهبوا في وصفها، فالمهلبي(المسالك والممالك) يصف غوطة دمشق قائلاً:”

وطول الغوطة ثلاثون ميلاً،وعرضها خمسة عشر ميلاً،ولا تكاد الشمس أن تصل إلى أكثر أرضها لكثرة الشجر،والماء يخترق في جميع هذه الغوطة فإنها مقسومة للضياع متوزعة للشرب….”.

ويصفها ابن طولون الصالحي  المتوفى سنة 953هجري في مخطوطة محفوظة في خزانة جامعة ليدن في هولندا فيقول عن دمشق:

“أما صفتها فإنها من أحسن بلاد الشام مكاناً وأعدلها هواءً وأطيبها نشراً،وأكثرها مياهاً،وأغزرها فواكه،وأوفرها مالاً،وأكثرها جنداً،ولها ناحية تعرف بالغوطة ،تشتمل على خمسة آلاف بستان وثلثمائة وخمسة وأربعين بستاناً وعلى خمسمائة وخمسين كرماً وهي من شرقي دمشق وشمالها بها ضياع كالمدن مثل المزة وداريا وحرستا ودمر وبيت لاهيا وعقربا وبها كلها جوامع.

ويصفها المقدسي(أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم) بأنها:”بلد خرقته الأنهار،وأحدقت به الأشجار،وكثرت به الثمار،مع رخص أسعار،لا ترى أحسن من حماماتها ولا أعجب من فواراتها…وهي جنة الدنيا…”.

ويقول عنها ياقوت الحموي(معجم البلدان):”بأنها قصبة الشام،وهي جنة الأرض بلا خلاف،لحسن عمارة،ونضارة بقعة،وكثرة فاكهة،ونزاهة رقعة،وكثرة مياه.ومن خصائصها،التي لم أر في بلد آخر مثلها،كثرة الأنهار بها وجريان الماء في قنواتها”.

وقال عنها الخوارزمي:”جنان الدنيا أربع:غوطة دمشق ،وصغد سمرقند،وشعب بوان ،وجزيرة الأبلة،وقد رأيتها كلها،وأفضلها دمشق”.

يقول العلامة محمد كرد علي في كتابه “دمشق مدينة السحر والشعر):

“الغوطة ودمشق لازم وملزوم،ومعنى الغوطة من الغائط وهو المطمئن من الأرض،والغوطة ما أحاط بدمشق من بساتين وقرى،وسقي على الأكثر بمياه بردى ومشتقاته.يبدأ حدها من فوهة الوادي عند الربوة غرباً،ممتداً إلى المزة وداريا وصحنايا والأشرفية وسبينة وسبينات في الجنوب،وينتهي في الشرق بالريحان والشفونية وحوش مباركة وحوش الأشعري وحوش المتبن وحوش خرابو والفضالية والنشابية وبيت نايم،وينتهي في الشمال بجبل قاسيون وسنير،ويشرف الجبل الأسود وجبل المانع على الغوطة من الجنوب،كما يشرف عليها جبل الثلج أو جبل الشيخ من المغرب،ويحدها شرقاً إقليم المرج،ومن هنا تفتح حدودها فتحة طويلة حتى الحماد أراضي بادية الشام.

وقدر طول الغوطة بنحو عشرين كيلوكتراً تقريباً،ويختلف عرضها بين عشرة وخمسة عشر كيلوكتراً،وتبلغ مساحتها نحو 40600 هكتاراً أي نحو خمسة وستين ألف فدان بفدادين الغوطة،أو نحو مائة ألف فدان مصري،ومدينة دمشق داخلة في هذه المساحة،وتحتوي الغوطة على اثنتين وأربعين قرية عدا الحدائق والبساتين المحيطة بها،وهي يتألف منها عشر قرى كبيرة.

وفي الغوطة قرى كالمدن مثل دوما وحرستا وعربيل وجوبر وداريا وكفر سوسية والمزة،وتربتها أجود تربة تسمد كلما أرويت،لأن أنهارها تدخل دمشق وتحمل قاذوراتها،وهذا مما يعاون على خصبها وإمراعها.وفي الغوطة تجود جميع الحبوب والبقول وعامة الأشجار المثمرة،ما خلا النخيل والحوامض بسبب برد الشتاء،والغوطة تمون دمشق،ومنها أكثر مادة حياتها،ولولا الغوطة ما كانت دمشق.

وهي في مجموعها من أجمل متنزهات العالم بما حبتها به الطبيعة من جمال أشجارها وخصب أرضها،لا تتعب من إخراج خيراتها صيف شتاء،واشتهرت فاكهة الغوطة بلذيذ طعمها وعجيب نكهتها،فكمثراها ودرّاقها ومشمشها وتفاحها وسفرجلها وأعنابها مضرب الأمثال،قال الصلاح الكتبي:وروي عن بعضهم أنه اتفق أن مر يوماً ببعض شوارع القاهرة،وقد ظهرت جِمال كثيرة حمولتها تفاح فتحي من الشام،فعبقت روائح تلك الحمول فأكثر التلفت لها،وكانت أمامه امرأة تسير ففطنت لما داخله من الإعجاب بتلك الرائحة،فأومأت إليه وقالت:هذه أنفاس ريا جِلقا،وهذا الشطر من أبيات لطراد بن علي الدمشقي المعروف بالبديع،اشتهرت وغنّى بها المغنون وهي:

يا نسيماً هبَّ مسكاً عبقاً            هذه أنفاس ريا جِلقا

كف عني والهوى ما زادني        برد أنفاسك إلا حرقا

ليت شعري نقضوا أحبابنا          يا حبيب النفس ذاك الموثقا

يا ريلح الشوق سوقي نحوهم        عارضاً من سحب عيني غدقا

وانثري عقد دموع طالما            كان منظوماً بأيام اللقا

قال ياقوت:وبدمشق فواكه جيدة فائقة طيبة،تُحمل إلى جميع ما حولها من البلاد،من مصر إلى حران وما يقرب ذلك فتعم الكل.وما برحت الغوطة مقصد أهل دمشق للنزهة والقصف،وقد أخرجت طائفة كبيرة من العلماء والأدباء في مختلف العصور،وهي في الواقع بمثابة أحياء تبعد قليلاً عن العاصمة الكبرى،ولاغنى لأبنائها عن الاختلاف إلى العاصمة كل يوم،فالاختلاط بين الغوطتين والدمشقيين متصل،يألف بعضهم بعضاً ويتزوج بعضهم من بعض،والغوطية تصبح دمشقية بعد مقامها قليلاً في دمشق،والدمشقية تصبح فلاحة غوطية إذا أقامت في الغوطة سنين،نقول:فلاحة،أي متمرنة على الأعمال الزراعية والأعمال البيتية التي تستلزمها حياة القرى،وفي الغوطة نزل كثير من العرب،تشهد لذلك الفصحى الباقية في لهجتهم،ومن العرب الذين نزلوها غسان وبطون من قيس،وبها قوم من ربيعة وبعض بطون من كلب،ومن بني زبيد فرقة وآل فضل والحريث من زبيد من القحطانية.

وللنواجي الشاعر في الغوطة:

ألا إن وادي الشام أصبح آية           محاسنه ما بين أهل النهى تُتلى

وإن شرفت بالنيل مصر فلم تزل       دمشق لها بالغوطة الشرف الأعلى

والشرف الأعلى موضع نزه من غربي دمشق يعلو عن قرارة الوادي،وليس لك في الغوطة أن تقول هذا المكان يفضل ذاك،فكل محالها ومنازلها جميل تأخذ بمجامع القلوب،كما قال أحدهم:

أنّى اتجهت رأيت ماءً سابحاً       متدفقاً أو يانعاً متهدلا

وكأنما أطيارها وغصونها         نغم القيان على عرائس تجتلى

وكأنما الجوزاء ألقت زهرها       فيها وأرسلت المجرة جدولا

ويمر معتدل النسيم بروضها         فتخالُ عطاراً يحرقُ مندلا

أو كما قال فتيان الشاغوري:

كأن طيور الماء فيه عرائس         جلين على شاطئيه خضر الغلائل

إذا كرعت فيه تيقنت أنها             تزق فراخّاً وهي زغب الحواصل

وكم سمك فيه عليه جواشن           من التبر صيغت وهو بادي المقاتل

جريح بأطراف الحصا فخريره          أنين له من حس تلك الجنادل

إذا قابل النهر الدجى بنجومه            أرانا بقعر الماء ضوء المشاعل

تغلغل في الوادي فوافى كقينة          منعمة حسناء ليس بعاطل

فعانقها حتى انثنت مشمعلة              تقل على ظهر الصفا بطن حامل

ويتابع العلامة محمد كرد علي رحمه الله:”أتى لي في الغوطة ستون سنة،تسلمني الطفولة إلى الشباب،والشباب إلى الكهولة،والكهولة إلى الشيخوخة،ولا قيت ربيعها وصيفها وخريفها وشتاءها،وما لقيت منها إلا نضرة وسروراً.

أنعشني هواؤها،وأدهشتني أرضها وسماؤها،وما فتئت منذ وعيت أقرأ في صفحة وجهها الفتان آيات الإبداع والإعجاز.

في ربوعها شهدت الطبيعة تقسو وتلين،وتغضب وترضى،وتشح وتسمح،فراعني جمالها وجلالها،وشاقني تجنيها ووصالها.نشقت أنفاس رياها وهي ترفل في زهرها ووردها،واستهوتني مجردة من ورقها وثمرها ونباتها،فأخذت بها كاسية عارية،وطابت لي مطيبة وتفلة.

تربة تقبل وتمحل،وأدواح تعمق وتثمر،وجداول تفور وتغور،وآبار تفيض وتغيض،وجو يغيم ويصحو،ودوي عبس وضحك،وهناك هناء،وهناك يسر،وهناك شقاء،وهناك عسر.

همت بسحرها في سحرها،وبشمسها تأفل وراء شجرها،وراقني وابلها وطلها،ونداها وضبابها،وجليدها وجمدها،وثلجها وبردها،ودمقها وزمهريرها،نسيمها وأعاصيرها.

غنتني طيورها بأطيب الأنغام ترددها من وُكناتها في جناتها،وما تبرمت الأذن بنعيق البوم ونعيب الغربان،وعواء بنات آوى،ونباح الكلاب،ونقيق الضفادع،في المظلم والمقمر من لياليها،واهتززتُ للديكة تصيح،والغنم تثأج،والمعيز تثغو،والبقر يخور،والخيل تصهل والحمير تنهق.

شاطرت القوم أفراحهم وأتراحهم،وكاثرتهم في مواسمهم وأعيادهم،ورأيتهم يلبسون الخلق البالي،ورأيتهم يلبسون الزواق الحرير،ورأيتهم يطعمون طيب الطعام وأمرأه،ورأيتهم لا يشبعون من خبز الذرة والشعير،راقبتهم في سكونهم وهوشاتهم،وفي تلاتلهم ومشاكلهم،وفي سعتهم وضيقهم،وعاشرتهم وسامرتهم،على نقص محسوس في تربيتهم،أدركتهم يستعيضون عن اللبن والطين والقصب والكلس في بنيانهم بالقرميد والآجر والحجر والأسمنت،وعهدتهم يمتطون الفَره من الخيل والبغال والحمير،ويحملون أثقالهم على الجمال،ويجرونها بالثيران،ثم اتخذوا المركبات والعجلات،وركبوا الدرجات والسيارات.

(انتهى كلام العلامة محمد كرد علي)

وتعد دمشق مع غوطتها من أشهر المناطق في زراعة البقول والخضار،والغوطة هي مصدر غذاء دمشق بالبقول،وما زاد منها يصدر إلى المناطق المجاورة.

وكذلك اشتهرت دمشق وغوطتها بأنواع ممتازة وفريدة من الورد والأزهار والرياحين،ومنها الورد والنرجس والبنفسج والياسمين والنسرين والقرنفل والشقائق والأقحوان.

واختصت دمشق بصنع الروائح العطرية وبماء الورد،والذي كان يصدر إلى كثير من بقاع العالم.

ودمشق وغوطتها مشهورة بأنها بلاد الفواكه والأعناب،والزيتون .

وذكر الثعالبي أن زيت الشام يضرب به المثل في الجودة والنظافة،وإنما قيل له الزيت الركابي لأنه يحمل على الإبل في الشام.

كما اشتهرت دمشق بكروم العنب،وخاصة مدينة داريا اشتهرت بعنبها الزيني والداراني،ودوما بعنبها الأحمر اللذيذ.ويعد أبو البقاء خمسين صنفاً من أنواع العنب في قرى الغوطة،من أشهرها الزيني،والبلدي،والداراني والحلواني،والأسود،…وكان الزبيب الذي يصنع من العنب على قائمة الصادرات الشامية.

ولتفاح دمشق شهرة كبيرة،وعد منه أكثر من ثلاثة وعشرين نوعاً.

وكذلك تشتهر دمشق وغوطتها بالتين،وخاصة في منطقة برزة،وعد منه ستة عشر صنفاً.

وأما المشمش فإن زراعته في الشام قديمة،وخاصة في الغوطة،وهو منقطع النظير بنكهته ومائيته.ويستخرج منه عصير المشمش،والقمردين بعد تجفيفه.

وكذلك اشتهرت دمشق وغوطتها بزراعة الرمان، وإليها ينسب الرمان الشويكي،وكذلك زراعة الإجاص والسفرجل.واللوز والجوز والخوخ والبندق.

وجاء في موسوعة الويكيبيديا:

“غوطة دمشق:تحيط بمدينة دمشق من الشرق والغرب والجنوب وهي تتبع دمشق وريف دمشق وهي سهل ممتد من بساتين غنّاء من أشجار الفاكهة تعد من أخصب بقاع العالم،وقد جاء في كتاب عجائب البلدان:”الغوطة هي الكورة التي قصبتها دمشق وهي كثيرة المياه نضرة الاشجار متجاوبة الأطيار مونقة الأزهار ملتفة الأغصان خضرة الجنان”.

استدارتها ثمانية عشر ميلاً كلها بساتين وقصور تحيط بها جبال عالية من جميع جهاتها ومياها خارجة من تلك الجبال وتمتد في الغوطة عدة أنهار وهي أنزه بقاع الأرض وأحسنها”.

وهي إحدى جنات الدنيا والغوطة عبارة عن غابة من الأشجار المثمرة البساتين وكان القدماء يعدونها من عجائب الدنيا.

وتشتهر غوطة دمشق بخصوبة الأرض وجودة المياه حيث تغذي بساتين الغوطة مجموعة من الأنهار الصغيرة من فروع نهر بردى وشبكة من قنوات الري وهي عبارة عن بساتين من شتى أنواع أشجار الفاكهة وبساط أخذر ممتد فيه كل أنواع الخضروات ومن أشهر فواكه وثمار الغوطة المشمش بأنواعه البلدي والحموي والتوت(التوت الشامي) والخوخ والأرصيه والدراق والكرز والجوز وكذلك تشتهر بزراعة كافة أنواع الخضار والذرة الشامية والزهور،وربيع الغوطة له رزنقه وجماله المميز حيث الربيع بكل معانيه.

وتقسم الغوطة إلى قسمين متصلين هما:الغوطة الغربية والغوطة الشرقية.

الغوطة الغربية:

بداية الغوطة الغربية من مضيق ربوة دمشق ـ الربوة بين الجبال(خانق الربوة) وتمتد غرباً وجنوباً إلى مناطق محيط المزة وكفر سوسة وداريا ومعضمية الشام التي تشتهر بكافة أنواع العنب والكسوة التي تشتهر بزراعة الثوم وتسمى الكسوة أيضاً وادي العجم والتي يمر بها نهر الأعوج الذي ينبع من سفوح جبل الشيخ وينتهي ببحيرة الهيجانة وتعتبر المناطق التي يمر بها نهر الأعوج هي الغوطة الغربية ومناطق وبلدات كثيرة محاطة بالأشجار المثمرة وأشجار الحرو وكافة أشجار الفاكهة مثل المشمش والتوت الشامي والجوز البلدي وغير ذلك من فواكه الغوطة والبساتين والمروج بامتداد رائع أخضر يحتضن الطبيعة.

الغوطة الشرقية:

مركز الغوطة الشرقية وبدايتها هي مدينة دوما وتمتد نحو الشرق والجنوب محيطة بمدينة دمشق ببساط أخضر وكثافة أشجار الفواكه الشامية الشهيرة(الجانيرك والمشمش والخوخ والدراق والكرز والتوت والجوز وغيرها)وزراعة الذرة الشامية وجميع أنواع الخضروات والسرو وأشجار الحور الباسقة الممشوقة وتواصل الغوطة امتدادها إلى مناطق وقرى وبلدات أصبحت مدن الآن مثل:سقبا وزملكا وجرمانا والمليحة وعقربا وحزّة وكفر بطنا وعربين إلى أن تلتقي بالغوطة الغربية لتكمل إحاطة دمشق بالبساتين.

تمتد في الغوطة الكثير من الآثار القديمة التي تعود لعصور قديمة متعددةونذكر منها تل الصالحية والذي يقع على بعد 14كم وفيه آثار من العصر الحجري القديم،وتل أسود ويقع إلى الشرق ويحتوي على آثار تعود للعصر الحجري الوسيط والقديم،وكذلك تل مرج ويقع في منطقة حوش الريحانة وتل أبو سودة بالقرب من المرج وآثار كثيرة في جسرين وعين ترما وحران العواميد وبلدة حمورة،والتي تعرف الآن بحمورية.هذا غير الآثار الدينية”.

ويقول الأستاذ محمد كرد علي رحمه الله  عن غوطة دمشق(بين القديم والحديث،والمقتبس العدد 94):

“إيه غوطة الفيحاء،مجلى الطبيعة ومغنى الأنس،وروضة الطيبات،ومهبط التجليات.

سلام زكي كتربتك المسكية،جمال بسطك السندسية،عطر كأنوار أدواحك الجنية.وتحية طيبة تتساقط على عمرانك،تساقط الوابل والطلّ على جناتك الغناء،وحراجك الغلباء،وأشجارك الميلاء،وغلاتك الكثيرة الإيتاء.

سلام عليك يا مستقر النّعماء،وقرارة الهناء والرخاء،وخير خلوة يفزع إلى أرجائها الناسكون والعالمون،ويتقلب في أجوائها عشاق الطرب وأرباب المجون.

فيك تتجسم عظمة خالق السماوات إذا بالغ في الإفضال على الأرضين،وتبدو قمة الخلق إذا صحت عزائمهم أن يكونوا عاملين لا خاملين،فليس في الأقاليم ما يفوقك باعتدال المواسم،وافترار المباسم،وتلون المظاهر وتنوع الثمرات والأزاهر،وتلوي الجداول والأنهار،وتجلى الطبيعة في العشايا والأسحار.

سلام على وادي دمشق إنه آية الحسن والإحسان،فيه تتجدّد الحياة كل حين لأنه بمنزلة الربيع من الزمان،ويحلو العيش في ظل أفيائه على سذاجته مهما كان مراً،وتطمئن النفس إلى التنقل في ربوعه برداً كان أو حراً.

إيه غوطة جِلّق لم يؤثر عنك أن أمسكت خيراتك عاماً عن أبائك،فلا تفتأين على الدهر تخرجين لساكنيك أفلاذ أكبادك،على تعاقب الأمم والدول ،وتصدقين الودّ لكل من يطلب قربك،فيعيش معك في رخاء وصفاء.

سلام على سكونك في الليالي الظلماء والقمراء،ربيعاً كان أو صيفاً أو خريفاً أو شتاء،وهنيئاً مريئاً لمن يستمتعون بالنظر إليك من الصباح إلى المساء،ويتعهدونك بالحرث والكرث والتقليم والتنقية والزرع والإرواء،سواء عندهم حمارة القيظ وصبارة القرّ،وظلمة الليل وشمس النهار.

سلام عليكم إنهم مثال النشاط في المزارعين،لا يضنون على أرضهم بأوقاتهم وأتعابهم،وهي تجودهم ضروب الخير والمير كلما جودوا زراعتها،وتزيدهم بركات على بركات كلما رعوها فأحسنوا رعايتها،وهم  مهما صهرت جسومهم حرارتها،وصفرت سحناتهم رطوبتها.بيض الوجوه شمّ الأنوف، لأن رزقهم مناط أيديهم العاملة،لا يعتمدون في تحصيل قوتهم،على خير قوّتهم،ولا يتكلون إلا على من ينزل الغيث،ويمرع الزرع ويدر الضرع،ولو حسن فيها نزع الفضول من العقول،وأنيرت بأنوار علوم المدنية على الأصول ،فتعهد أبناؤها بالتربية كما تربى عندهم الرياض والحقول،وتوقى مما يؤذي الزروع والثمار والبقول،لكانت خير بقعة يسكنها ساكن في الحياة،ولصح عليها قول من قال: طوبى لمن كان له في أرضها مربض شاة.

سلام غوطة دمشق كلما غرّدت أطيارك فلك على المشاعر سجع الحمام واليمام،وهديل العندليب والهزار،وتغريد العصفور والشحرور،كيف لا تستهوين النفس،ونعيق الغربان ونقيق الضفادع،إذا رددهما الصدى في لياليك،يفسرهما القلب بمعان لا تفهم منهما في الكور الأخرى،كما يفسر في النهار ثغاء الماعز والحملان ،وخؤار البقر وجوار الثيران.

فسلام وألف سلام عليك يا كريمة الطبع،وبديعة الصنع،وعريقة المجد،ونبيلة الجد والجد،وزكية العرق،وهنية الرزق،وطيبة النجار،والمحسنة للأهل والجار،ففي مغانيك تصفو النفس من كدورات هذه الحضارة الملفقة، وتنجو من سماع فظائع الإنسانية المعذبة،وبقليلك وإن كان قليلك لا يقلل له قيل ـ يغتبط الإنسان ـ ولا يتكالب على حطام الدنيا تكالب الضاري من الحيوان،ويطلع الزهرة ربّة الجمال من منافذ أفقك توحي إلى الخيال روحاً من عندها،فتفيض القرائح وترق العواطف،وفي منبسط صعيدك الطيب،يسلو الخاطر همومه،وتطرب الحواس،من دون ما كاس،ولا نغمة أوتار وأجراس.

وفي هذا الريف العجيب تقرأ سور العدل الإلهي في تقسيم الأرزاق فلا فقر مدقع،ولا غنى مفرط،ويعيش القائمون على تعهده عيشاً متشابهاً إلا قليلاً،يغتني أفراد منهم بذكائهم واقتصادهم،فلا ترى في فقرائهم سلاطة الجياع أرباب النهم،ولا في أغنيائهم قسوة قلوب أهل الرفاهية والنعم،فسبحان من وفر للغوطة قسطها من الغنى والغناء،وضاعف لها حظها من الجمال والاعتدال،وأجزل لها عناصرها الحيوية فزادها كرّ الجديدين نماء إلى نماء”.

مصايف دمشق

في المنطقة الغربية من ريف العاصمة دمشق والتي تشكل امتداداً طبيعياً لسلسلة جبال لبنان الشرقية،توجد مجموعة من مواقع الإصطياف والسياحة وخاصة منها الواقعة على نبع نهر بردى وفي منطقة القلمون ونذكر منها:الزبداني وبلودان وبقين ومضايا ووادي بردى وعين الفيجة وعين الخضراء وجديدة يابوس والديماس ومعلولا….

الزبداني

تقع على بعد 45 كم غربي دمشق،وترتفع عن سطح البحر حوالي 1200 متر،وتحيطها جبال لبنان الشرقية.وقد عرفت المدينة في عهد الآراميين باسم “زبادوني” أي خلاصة الخير،وتشتهر المدينة بسهلها الخصيب ومياهها الغزيرة والعذبة وينبع منها نهر بردى ونبع الفيجة بالإضافة إلى عدة ينابيع صغيرة مثل نبع الجرجانية .

وفي سهل الزبداني تنتشر الأشجار المثمرة والخضار ومن أهم الفواكه المشهورة فيه الكرز والخوخ والدراق والإجاص.

جاء في موسوعة الويكيبيديا:

“الزبداني:

هي مدينة ومصيف سوري وأقدم وأشهر المصايف العربية،تتبع المدينة محافظة ريف دمشق ومنطقة الزبداني،وتقع على مسافة 45كم شمال غرب العاصمة دمشق.وتمتد المدينة على سفوح جبال لبنان وتشرف على سهل رائع هو سهل الزبداني.

ارتبط تاريخها بأقدم عاصمة في التاريخ دمشق،وتقع على يمين الطريق الدولي الذي يربط دمشق ببيروت،في وسط المسافة بين دمشق وبعلبك،في وهدة جبلية في سلسلة الجبال السورية،حيث ترتفع عن سطح البحر مابين 1150ـ 1250 مترأ.وتقع الزبداني في المنطقة نصف جافة إلى نصف رطبة،بمعدل أمطار يبلغ 500 مم في العام.تحدّها سلسلتان جبليتان،هما جبل سنير من الغرب وجبل الشقيف من الشرق،ويتوسطها بساط أخضر يشكل سهل الزبداني.

تحيط بالمدينة مجموعة من البلدات والقرى،وهي:بلودان وبقين ومضايا وسرغايا وعين حور وبر هليا،وينبع من جنوبها نهر بردى.كما تكثر الينابيع في الزبداني،فمنها نبع العرق والكبري والجرجانية،وتتنوع فيها الثمار وأشجار الفاكهة من تفاح الزبداني والإجاص والخوخ والدراق والجوز والتين والعنب وغيرها.

تسمى ب”زبداني” بكسر الزاي وسكون الباء،وتلفظ أيضاً بفتح كليهما،وهذا هو الأصح،لأنه منقول عن أصله الآرامي،وأما الياء الأخيرة في الكلمة فلقد وردت مخففة لا مشددة.أصل الكلمة الآرامي(السرياني) كان على صيغة الجمع”زابادوناي”،ثن نقلت إلى اليونانية في القرن الرابع قبل الميلاد باسم”زابادوني”،والأصل في اللغة الآرامية والسريانية ثم العربية واحد،والمفرد منها”زبد”،ومعناه اللب أو لب الخيروخلاصته،فدخلت إلى اللغة العربية بنفس اللفظ والمعنى.

تاريخ الزبداني موغل في القدم ويترافق مع تاريخ مدينة دمشق.فقد استوطن الإنسان هذه المنطقة من الأرض لكثرة خيراتها ووفرة مياهها،ويعتقد أن سكانها القدامى يعودون في أصولهم إلى سكان مدينة دمشق وبعلبك والأماكن المجاورة لهما مثل الأبلية أي سوق وادي بردى في جبال دمشق،وكلشيش أو عنجر وما جاورهما.

لقد كانت هذه المدينة ذات أهمية كبيرة كطريق تجاري لقوافل بين المدينتين التاريخيتين(دمشق وبعلبك).وكطريق عسكري للفتوحات والحروب.

يعود أصل سكان هذه المدينة إلى الآراميين الذين كانوا أول من سكن هذه البلاد،وهم من نسل سام بن نوح،والذين نُسبوا إلى جدهم آرام بن سام،وهم الذين أسسوا مدينة دمشق منذ آلاف السنين وسموها باسم جدهم سام أو “شام” وفي ذلك الوقت تم تعمير عدد من المدن مثل الزبداني والسفيرة وحلبون وإيليا أو سوق وادي بردى ومنين وصيدنايا”.

يقول الأستاذ عز الدين التنوخي(مجلة الرسالة العدد 274):

“أنا اليوم مصطاف في وادي الزبداني الذي لو نزله من قبل لامرتين لوصفه بما لم يصف به وادي حمانا في لبنان الغربي،ولا سيما بجفاف الهواء،وصحة الماء،واعتلال النسيم،واعتدال الإقليم.

وعين بقين التي تكاد تكون منقطعة النظير بين عيون بلاد الشام في صفائها وخفة مائها،وما اشتملت عليه من عناصر تذيب الرمل والحصاة،وتزيد في الهضم ما تشاء فتتعب الطهاة.

يمتد وادي الزبداني الجميل من الجنوب إلى الشمال بين طودين أو سلسلتين من الجبال الشرقية والغربية،وعلى سفوح الطود الشرقي تضطجع قريتا “مضايا” و”بقين” وقصر الجرجانية،وقرية بلودان أعلى قرى الوادي وفيها الفندق الفخم الذي يعد من  أجمل قصور الفنادق الشامية،وفي الجانب الشمالي من بطن الوادي قامت قرية الزبداني أم القرى،ومهوى قلوب الورى”.

ويقول الأستاذ عبد الله رعد في مقال له بعنوان “الاصطياف في ربوع الشام”نشره في مجلة المجمع العربي بدمشق وألقاه محاضرة في 28 تشرين الثاني سنة 1924م:

“إقليم الزبداني”:

ويدعى بلسان الإدارة قضاء الزبداني وهذا التعريف تقسيم تركي بقي لنا في جملة ما بقي من تراث الأتراك.وكان الأتراك يسمون قضاءً كل إقليم أو جزء إقليم يرأس إدارة الحكومة فيه قائم مقام،ولعل السبب في ذلك وجود قاضي ومحكمة شرعية فيه.وهذا الإقليم قائم في غرب دمشق يشقه خط سكة حديد من شرقه إلى غربه كما يشقه نهر بردى من قرب كورة الزبداني إلى حدود دمشق.

وقال ياقوت المؤرخ العربي في كتابه “معجم البلدان”:الزبداني كورة معروفة بين دمشق وبعلبك منها يخرج نهر دمشق وإليها ينسب العدل الزبداني الذي كان يسترسل بين صلاح الدين الأيوبي والفرنج (والعدل كان رجلاً من أهل هذه الكورة دخل في خدمة صلاح الدين فكان يبعثه رسولاً إلى الافرنج فلم يحسن وظيفته أو ربما خان مولاه)

وجاء في دائرة معارف لا روس عن الزبداني:كان يسمى قديماً ابيلا أو آبل  عند الرومان ،يبعد عن دمشق  إلى الغرب في أسفل جبل سنير(جبل الشيخ).

وتبين النصوص القديمة أن آبل أي سوق وادي بردى اليوم إحدى قرى إقليم الزبداني كانت مدينة عامرة في عهد اليونانيين السلوقيين ثم صارت إمارة من بعدهم في عهد الرومان فدعوها ابيلينية.

أما الزبداني فيظهر أن اسمها قديم العهد أيضاً أخذه اليونان والرومان عن الإسم العبراني(زَبَدا) أي مكان الخصب،ويقول بعضهم أنه نسبة إلى زبدا قائد زينب ملكة تدمر.

ويتابع الكاتب:”واقليم الزبداني ويقال له أيضاً الغوطة الغربية،جنة من جنان الشام ،لما فيه من الينابيع المتدفقة بالمياه العذبة الرائقة،والبساتين الملأى بالأشجار المثمرة،تحيط بها أسوار من أشجار الحور الباسقة والجوز ذات الظل الوارف والأثمار الشهية،تتخللها الرياض بزهورها العبقرية،وثمارها العطرية،والحقول والسهول السندسية،ويخترقها نهر بردى الجميل  في بقاع هي من أطيب بقاع الدنيا تربة وهواء.

وكذلك العيون التي تنبجس من جبال الزبداني إن هي إلا عصارة ثلوجها الكثيرة ولها موقعها من الصحة كعين حور وعين النسور وعين حل جرابك وعين بقين وعين الجرجانية …

ويكثر في الزبداني التفاح والسفرجل وبقية الأثمار والبقول ولها شهرة خاصة بتفاحها السكارجي المعروف بتفاح الزبداني وهو تفاح ذو رائحة زكية .

وعلى مقربة من الزبداني نبع نهر بردى بسفح الجبل الغربي،ثم يسير هذا الماء سيراً بطيئاً وهو ينساب كالأفعى ذات اليمين وذات الشمال بين سهول الزبداني حتى التكية ،ومن هناك تبدأ الشلالات العديدة وتتكسر مياه النهر على الصخور إلى أن تلتقي بمياه نبع عين الفيجة فيختلط الماءان ويسيران نهراً مزبداً إلى دمشق وغوطتها”.

بلودان

بالقرب من الزبداني وفي منطقة أعلى منها،على بعد 3كم منها، تقع مدينة بلودان،وهي من أجمل مصايف دمشق،حيث ترتفع حوالي 1500 متر فوق سطح البحر،وهواء بلودان أكثر برودة،ومنظر السهل فيها غاية في الجمال وبخاصة عند مغيب الشمس وراء الجبال البعيدة في الأفق،ومن أشهر فنادقها فندق بلودان الكبير،والذي كان ينزل فيه أمير الشعراء شوقي والموسيقار محمد عبد الوهاب.

وبلودان قرية قديمة جداً وهي كلمة آرامية مؤلفة من قسمين:”بلو” تعني التفاح أو اللوز،و”دان” وتعني القرية وهذا يعني بلد التفاح واللوز.وهناك تفسير آخر للاسم يقول:بيل اسم إله،ودان موقع أو معبد،وبذلك يكون المعنى “معبد الإله”.إلا أن التسمية الأولى أرجح إذ تكثر في المنطقة أشجار اللوز والتفاح.

جاء في موسوعة الويكيبيديا:

بلودان:مصيف سوري يقع في شمال غرب دمشق،على ارتفاع 1550متراً فوق سطح البحر،تقع على هضبة تطل على سهل الزبداني ببساتينه وأشجاره المثمرة.تبعد بلودان عن دمشق 50 كم.

ومصيف بلودان من أقدم المصايف في سوريا والمنطقة العربية وله شهرته في اجتذابِ السياح منذ القرن التاسع عشر بسبب مناخه البارد صيفاً،الكثير من المشاهير زاروا بلودان عبر تاريخ هذا المصيف،وقد زار بلودان في عام 1885م ولي عهد إيطاليا الأمير فيكتور عمانويل،وفي عام 1898م زارها امبراطور ألمانيا غليوم الثاني برفقة زوجته وزارها الملوك والرؤساء والوزراء وقد عقدت في فندق بلودان الكبير الكثير من المؤتمرات العربية أشهرها مؤتمر بلودان الذي جمع الحكام العرب عام 1937م والذي أسهم في تأسيس جامعة الدول العربية.

وتشتهر بلودان بالأشجار المثمرة والأحراج دائمة الخضرة وتكثر فيها ينابيع المياه مثل نبع أبو زاد وشلالاته ونبع عين النسور ونبع عين البيضا وينابيع حزير،كما تتساقط الثلوج على بلودان بغزارة تصل في المواسم الجيدة إلى سماكة متر أحياناً.وفي بلودان الكثير من المنتزهات والمنشأت السياحية .

بقين

وهي قرية جبلية مشهورة بنبعها الشهير الذي تتدفق مياهه المعدنية العذبة من جوف الجبل.تقع على ارتفاع 1350م عن سطح البحر.

وتقع إلى الجنوب الشرقي من الزبداني،على بعد 6كم منها.ومن المألوف أن يتوقف الغادون أو الرائحون على طريق الزبداني ـ بلودان عند هذا النبع ليشربوا منه ويملأوا ما يحملون من زجاجات وأوعية.

وجاء في موسوعة الويكيبيديا:

“بقين: بلدة ومصيف سوري عريق من مصايف ريف دمشق في سوريا،تتميز بنبعها الشهير “نبع بقين” وبمنزهها التاريخي الساحر الذي يتربع على النبع ويشرف على مناظر رائعة.

تقع بلدة بقين على سفوح سلسلة الجبال في الطريق من دمشق إلى الزبداني،وتتبع إدارياً لمحافظة ريف دمشق وقد اشتهر فيها نبع بقين بمياهه الصحية الطبيعية وتم إنشاء معمل ومصنع لتعبئة تلك المياه،وتستعمل مياه النبع في معالجة بعض الأمراض وتفيد في تفتيت الحصى والرمل وفي وقاية وسلامة الأسنان وغير ذلك وكذلك تستعمل طبياً في تحضير أغذية الأطفال لنقائها وخصائصها الصحية”.

مضايا

واقعة حذاء بقين وبجنوبها على مسافة 2كم منها ،مياهها غزيرة تنبع ضمن حدودالأبنية وهي عين الحديد وعين الجديدة وعين أمين.

وجاء في موسوعة الويكيبيديا:

“مضايا:هي بلدة وناحية سورية إدارية تتبع منطقة الزبداني في محافظة ريف دمشق.تقع البلدة شمال غرب دمشق على السفح الشرقي لسلسلة جبال لبنان الشرقية،وتبعد عن العاصمة دمشق 45كم،وتعد مصيفاً رئيسياً هاماً جنباً إلى جنب مع مدينتي الزبداني وبلودان.وتشتهر بزراعة التفاح والكرز والدراق والخوخ وكذلك الإجاص،يمر فيها نهر بردى كما يوجد بها عدد من الينابيع والعيون كنبع الكوثر وعين ميسة”.

سرغايا

قرية واقعة بشمال الزبداني علوها عن سطح البحر 1372م وبها نبعان رائقان هما عين سردة وعين الموقد،ذات هواء نقي جبلي .

وجاء في موسوعة الويكيبيديا:

“سرغايا:هي بلدة ومصيف سوري يقع شمال مدينة دمشق،وسط منطقة جبلية بالقرب من عدد من المصايف السورية المعروفة مثل الزبداني وبلودان،وهي تابعة إدارياً لمنطقة الزبداني ضمن محافظة ريف دمشق.

تبعد عن دمشق حوالي 55كم،وهي تقع على ارتفاع 1450متراً فوق مستوى سطح البحر.

تكثر الينابيع في سرغايا والتي تتميز بمائها العذب البارد الصافي كما تتنوع الاشجار المثمرة بمختلف أنواعها:التفاح بأنواعه،والإجاص بأنواعه،والدراق بأنواعه،والكرز والمشمش والعنب والسفرجل والتوت والجوز والجارنك…

وادي بردى وباقي المنتزهات:

عين الفيجة

قرية اشتهرت بجودة النبع السائل منها ،وقد أخذ قسم منها لتروية مدينة دمشق بالأنابيب.

وجاء في موسوعة الويكيبيديا:

“عين الفيجة:هي بلدة وناحية تقع غرب دمشق في وادي بردى بين السلاسل الجبلية وهي تبعد عن دمشق حوالي 15كم ومن سفوح جبالها يتدفق نبع الفيجة الذي يزود مدينة دمشق بحاجتها الأساسية من مياه الشرب.وتتفجر مياه العين من سفح جبل القلعة،وهو نبع غزير إذ تبلغ غزارته في فصل الربيع حوالي 30متر مكعب في الثانية بالإضافة إلى نقاوة المياه،فقد أثبتت الفحوص أن ماء الفيجة من أجود المياه على مستوى العالم والصخور الكلسية التي تختزن هذه المياه بعيدة عن مصادر التلوث بالإضافة إلى خلو المياه من الطفيلات والجراثيم.

تعد عين الفيجة مركز سياحة واصطياف وتكثر فيها المطاعم والمتنزهات ويمر فيها خط حديدي يربط بين دمشق والزبداني وسرغايا.

تتبع ناحية عين الفيجة لمنطقة الزبداني في محافظة ريف دمشق.

ترتفع عين الفيجة عن سطح البحر حوالي 890م وهي تقع في بيئة جبلية تحيط بها مجموعة من الجبال هي جبل الهوات من الشرق وجبل القلعة من الشمال وجبل القبلية من الجنوب ،يجتازها نهر بردى في طريقه إلى دمشق حيث يغذي النهر مايرفده من مياه نبع الفيجة في فصل الربيع وبداية الصيف.

وتمتاز عين الفيجة بمناخها المعتدل صيفاً والبارد نسبياً شتاء ويبلغ معدل الأمطار السنوي فيها 400مم وتغطي الثلوج الجبال المحيطة بها معظم فصل الشتاء.

أما من ناحية الزراعة فعين الفيجة تمتلىء بساتينها الخضراء بأشجار الفواكه المثمرة كالعنب والرمان والتين والزيتون والمشمش والجوز والتي تسقى من مياه بردى ونبع الفيجة وأشجار التين والعنب التي تزرع في الجبال المحيطة بالقرية وتسقى من مياه الأمطار(بعل).

عين الخضراء

جاء في موسوعة الويكيبيديا:

“عين الخضراء:

هي مصيف وقرية سورية تقع غرب ريف دمشق على ضفاف نهر بردى في منطقة وادي بردى ،يمر بها قطار المصايف المعروف ويوجد بها عدد من المطاعم والاستراحات السياحية.

ومن أهم متنزهات وادي بردى بالإضافة إلى عين الفيجة، وعين الخضراء،نذكر أيضاً:بسيمة،الأشرفية،الهامة،الربوة، ودمر.

دُمَّر

جاء في كتاب معالم دمشق التاريخية للدكتور قتيبة الشهابي:

“دمر: ضاحية سكنية غربي مدينة دمشق.

وهو اسم آرامي قديم،وهناك من يقول أنه مشتق من السريانية”تمرتا” أي شجرة النخيل.

وفي العصر الإسلامي غلب على الموقع وما حوله اسم”عقبة دمر”،والعقبة في العربية هي الطريق في أعلى الجبال،والإسم ينطبق اليوم على الطريق الواصل من أسفل قبّة السيّار إلى مدخل دمر،في الظهر الغربي لجبل قاسيون.وكانت هذه المنطقة تسمى قديماً”الردّادين” لأنه كان يقف بها بعض الحراس لصالح الحُجّاج وظيفتهم ردّ الهاربين من المكتارية والرقيق وغير ذلك.وكانت في القرن التاسع عشر تعرف باسم”درب الديب”.وفي أيامنا ففيها نصب الجندي المجهول.

وأما مشروع دمر فقد جاء في موسوعة الويكيبيديا:

“مشروع دمر:

هو الاسم المتعارف عليه بين سكان دمشق لمنطقة سكنية حديثة البناء تقع إلى الغرب من دمشق وترتفع عن سطح البحر 950م.

الربوة

يقول الأستاذ محمد أحمد دهمان في كتابه”في رحاب دمشق”:

“الربوة هي التي قال عنها الرحالة ابن بطوطة:هي من أجمل مناظر الدنيا ومتنزهاتها وبها القصور المشيدة والمباني الشريفة،والبساتين البديعة.

ويقول البدري:سميت بالربوة لأنها مرتفعة مشرفة على غوطتها ومياهها،وكل راب مرتفع على ما حوله يقال له ربوة.

وبالحقيقة فإن ما يسمى اليوم بالربوة ليس بربوة وإنما هو واد تتدفق فيه المياه وتنساب،ولكن كان في هذا الوادي محل يقصده الناس للزيارة والتبرك يسمى بالربوة وقد زال اليوم ولم يبق منه أثر إلا كتابة كوفية فيه منقوشة على صفحة الجبل فبقيت التسمية شائعة على الوادي الذي كانت فيه الربوة.

ويقول ابن طولون عما كان في الربوة من الآثار:كان بها التخوت وهو قصر مرتفع على سن جبل به قاعة  لبوابه وطيفان على هيئة الإيوان ينظر الجالس هناك من مسافة يوم لو لم يكن حائل وبه مئذنة ومسجد وميضأة،وتحته نهر ثورى ،وفوقه نهر يزيد،يصعد إليه من سلم حجر بناه نور الدين للفقراء فإن الأغنياء لهم قصور.

وفي هذا القصر يقول تاج الدين الكندي أستاذ الملوك الأيوبيين وناشر علم الأدب والعربية بدمشق:

إن نور الدين لما رأى                في البساتين قصور الأغنياء

عمر الربوة قصراً شاهقاً            نزهة مطلقة للفقراء

ويقول الرحالة ابن جبير الأندلسي الذي زار دمشق عام 580 هجري :”بآخر جبل قاسيون وفي رأس البسيط البستاني الغربي من دمشق الربوة المباركة المذكورة في كتاب الله تعالى مأوى المسيح وأمه صلوات الله عليهما،وهي من أبدع مناظر الدنيا حسناً وجمالاً وإشراقاً،وإتقان بناء واحتفال وتشييد،وشرف موضع”.

ويقول ابن طولون:”إن بها جامعاً بخطبة،وأربعة مساجد،ومدرسة يقال لها المنبجية موقوفة على مدرس حنفي وطلبة”.

وجاء في كتاب”معالم دمشق التاريخية للدكتور قتيبة الشهابي:

“الربوة:خانق طبيعي عند مجرى بردى إلى الغرب من سهل دمشق.والربوة إحدى أشهر معالم دمشق منذ الأزل .كانت ولا زالت مقصداً للمتنزهين لما تتميّز به من غنى بالمياه والخضرة.

قال ابن بطوطة في القرن الثامن الهجري:هي من أجمل مناظر الدنيا ومتنزهاتها،وبها القصور المشيدة والمباني الشريفة والبساتين البديعة.

وقال البدري في القرن التاسع الهجري:سُميّت بالربوة لأنها مرتفعة مشرفة على غوطتها ومياهها.

وقال ابن طولون المؤرخ في القرن العاشر الهجري:الربوة أعظم متنزهات دمشق،كان بها أربعة مساجد وجامع ومدرسة.وكان بها (التخوت)،وهو قصر مرتفع على سنّ جبل،وكان بها خمسة مقاصف،إثنان شرقي نهر بردى وثلاثة غربية.كما كان بها كثير من القصر والأبنية على طرفي واديها.

ومما ذكره المؤرخون أن نور الدين الشهيد قد بنى في الربوة قصراً للفقراء وأوقف عليه قرية داريا.وكانت الربوة زاخرة بمزارع الزعفران،كما كان دير مُرّان يشرف عليها،وبقي عامراً إلى القرن السابع الهجري.

أما الجبل الغربي للربوة فيحمل اسم(الدف) لكثرة الدفوف المزروعة بالزعفران فيه،كما يحمل الجبل الشرقي اسم(الجُنك) لأن رأسه يشبه آلة الطرب التركية(الجُنك) وهي عود أو طنبور ذو رقبة طويلة.

أحرق الصليبيون الربوة عند حصارهم لدمشق عام 543هجري ثم خُرّب ما تبقى من قصور بها في القرنين الحادي والثاني عشر للهجرة على يد عسكر الإنكشارية.أما اليوم فلم يبق من الآثار القديمة بالربوة سوى بقايا صخرة(المنشار) .

النيرب

يقول الأستاذ محمد أحمد دهمان(في رحاب دمشق):

“محلة كانت عامرة آهلة بالسكان تلي الربوة من جهة دمشق.

والنيرب كلمة سريانية معناها الوادي ولكن يراد بها سفح قاسيون مما يلي الربوة،ويقال أيضاً النيربان:يعني بهما النيرب الأعلى وهو الذي بين نهري يزيد وثورى،والنيرب الأسفل هو ما بين ثورى وبردى وقد ورد لفظ النيربين في شعر وجيه الدولة ابن حمدان فقال:

سقى الله أرض الغوطتين وأهلها        فلي بجنوب الغوطتين شجون

فما ذكرتها النفس إلا استخفني         إلى برد ماء النيربين حنين

وقد كان شكي للفراق يروعني          فكيف يكون اليوم وهو يقين

ويصف ياقوت النيرب فيقول:قرية مشهورة بدمشق على نصف فرسخ في وسط البساتين أنزه مكان رأيته.

ويقول البدري:إنها أعظم المحلات وأخضرها وأنضرها،حسنة الأثمار كثيرة الأزهار،وبها سويقة وحمام يقال له حمام الزمرد وجامع بخطبة وهي مسكن الرؤساء والأعيان،وبها دار قاضي القضاة نجم الدين يحيى بن حجي.

ولا يزال اسم النيرب معروفاً مشهوراً حتى عصرنا هذا ولم يبق فيه من الآثار إلا أساس قبة ومنارة في بستان يسمى بستان المئذنة .

وجاء في كتاب “معالم دمشق التاريخية”للدكتور قتيبة الشهابي:

النيرب:اسم قديم لمتنزه يقع اليوم موضع حي المالكي وأبي رمانة.وكانت تتألف قديماً من بساتين واسعة وكانت تقسم إلى النيرب الأعلى والنيرب الأدنى.

أما النيرب الأعلى فهو يقع بين نهري يزيد وثورا،ويمتد من الجسر الأبيض حتى بساتين الدواسة غرباً(حي نوري باشا اليوم).أما النيرب الأدنى فيمتد بين نهري ثورا وبردى جنوباً.

والنيرب تسمية آرامية قديمة(نربا)وتعني الوادي.

الشّادروان

متنزه في الربوة على ضفّة نهر بردى.وهي كلمة فارسية معناها:الميزاب،أي مسيل الماء.سمي بذلك لوجود شلالات صغيرة فيه.

معلولا

تقع هذه البلدة الجبلية الجميلة الشهيرة على بعد 60 كم من دمشق على الطريق السريع الذي يربط دمشق بحلب،وترتفع 1200 م عن سطح البحر،بيوتها معلقة أو محفورة في صخر الجبل كأنها خلية النحل.فيها ديران قديمان:جبعدين ونجعا.وتعني كلمة معلولا:المدخل بالآرامية.

وتعتبر مدينة معلولا أقدم مدينة مسيحية في سوريا.ومن أهم معالم معلولا:دير القديسين سركيس وباخوس:ويرجع تشييده إلى القرن الرابع الميلادي.ودير مار تقلا.

وجاء في موسوعة الويكيبيديا:

“معلولا:مدينة سورية تقع في شمال شرق دمشق على بعد حوالي 56كم،وترتفع عن سطح البحر بحوالي 1500م،اسمها يعني”المدخل” بحسب اللغة الآرامية التي مازال سكان معلولا يتحدثون بها.

تشتهر بوجود معالم مسيحية مقدسة ومعالم قديمة يعود تاريخها للقرن العاشر قبل الميلاد”.

صيدنايا

وهي تقع على مسافة 30 كم من دمشق وتقوم على تلة غنية بالكروم وبساتين الزيتون وفيها دير شهير أنشىء عام 547م .وصيدنايا أصلها السرياني:صيدا ـ نايا وتعني سيدتنا.

وجاء في موسوعة الويكيبيديا:

“صيدنايا:هي مدينة سورية تقع في محافظة ريف دمشق.تعد من أعرق الحواضر المسيحية في المشرق العربي،تقع على ارتفاع 1450متر عن سطح البحر،تشتهر بجمال طبيعتها ومقدساتها المسيحية.وتقع على بعد 30كم شمال غرب دمشق ضمن سلسلة جبال القلمون،ويحدها من الجنوب “معرة صيدنايا” ومن الغرب “تلفينا”و”منين”،ومن الشمال الشرقي”رنكوس”.

ومن أهم الأديرة والمقدسات المسيحية فيها هو دير سيدة صيدنايا والذي بناه الامبراطور البيزنطي “جوستنيان” في القرن السادس الميلادي.

عرنة

وهي قرية واقعة في حضن جبل الشيخ على ارتفاع 1400 م عن سطح البحر وعلى بعد 52 كم من دمشق وتشتهر بينابيعها الكثيرة التي تربو عن 300 نبع،وتتجمع مياهها لتشكل نهر الأعوج وتشتهر بفواكه الكرز والتوت والدراق والتفاح.

جبل قاسيون

يقول الأستاذ محمد أحمد دهمان رحمه الله(كتاب:في رحاب دمشق):

قاسيون: هو الجبل الأشم الذي تقوم مدينة دمشق عند أقدامه،يتصل من جهة الغرب بسلسلة جبال لبنان ومن الشمال والشرق بسلسلة جبال قلمون الممتدة إلى منطقة حمص.

عملت مياه دمشق على استقلال هذا الجبل وجعله جبل مدينة دمشق خاصة.

قامت مياه بردى مع مياه الفيجة تساعدهما في أيام الشتاء مياه السيول والأمطار تعمل على فصله عن جبل المزة المتصل بجبال الشيخ وحوران.وأخذت تؤثر في جسمه الصلب ألوفاً من السنين حتى فتحت خليجاً تنساب فيه وتمرّ منه.

وعملت مياه قرية منين على فصل هذا الجبل من جهة الشرق عن سلسلة جبال قلمون ففتحت لها ممراً فيه كمياه بردى وبذلك أصبح الجبل خاصاً بمدينة دمشق عرف بها وعرفت به ،ويعرفه ياقوت الحموي بقوله:قاسيون الجبل المشرف على مدينة دمشق.

سكن أهل المدينة دمشق هذا الجبل قبل أن يسكنوا دمشق،وعاشوا فيه أجيالاً طويلة من الزمن حتى إذا كثروا وتناسلوا وارتقت معارفهم وتجاربهم هبطوا إلى السهل المنبسط أسفله فبنوا مدينتهم دمشق ولكن مدينتهم الأولى هي قاسيون،ففيه نشأوا أولاً،وإليه رجعوا اليوم.

لقاسيون سفحان يفصل بينهما نهر يزيد فما كان على ضفته الشمالية فهو السفح الأعلى: وهو سفح كبير خال من الماء ولم يكن فيه من شىء من البناء إلا محلة دير مُرّان،وإلا بعض دور قليلة متفرقة في أنحائه وبعض بنايات مقدسة كالأديرة ومغارة الدم والجوع وكهف جبريل.

أما السفح الأدنى:فهو ما كان على ضفة نهر يزيد الجنوبية،وهو سفح مزدهر ناضر عملت يد الإنسان فيه فنظمته ونسقته،وغرست فيه أنواع الأشجار المثمرة والبقول والأزهار والرياحين،ويرجع الفضل في ذلك إلى نهر يزيد الذي يستمد من مائه خيراته وبركاته،وبالحقيقة فإن سفح قاسيون هو خير بقعة زراعية في دمشق لطيب أرضه ووفرة مياهه،وتسلط أشعة الشمس عليه من الجنوب والشرق والغرب،يضاف إلى ذلك نشاط زُرّاعه الذين يخدمونه أكبر خدمة،ويسمدون أرضه بقمامات دمشق،والزرع دائم في كل فصول السنة،وإذا كانت الأراضي الخصبة تؤتي أكلها مرتين في كل عام فسفح قاسيون يؤتي أكله بضع مرات في السنة،وهو الذي يموّن دمشق طوال السنة بأنواع الخضروات والبقول التي تتركب منها السلطات:كالسلق والبراصيا والكراث والسبانخ والكزبرة والبقدونس والخس الصيفي والشتوي والفجل وغير ذلك.

أما ما كان في قاسيون وسفوحه من المنشآت والمحلات الآهلة بالسكان فهي سبع محلات:دير مران،الربوة،النيرب،أرزة،بيت أبيات،مُقرى،الميطور”.

وجاء في كتاب”معالم دمشق التاريخية” للدكتور قتيبة الشهابي ولأحمد الإيبش:

قاسيون:اسم الجبل المشرف على دمشق من جهتها الشمالية.

نقل المؤرخ ابن طولون الصالحي في القرن العاشر الهجري بكتابه”القلائد الجوهرية في تاريخ الصالحية” عن سبط ابن الجوزي:قاسيون جبل شمالي دمشق ترتاح النفس إلى المقام به،ومن سكنه لا يطيب له سكنى غيره غالباً.واختلفوا لأي معنى سمّي بذلك،فقيل لأنه قسا على الكفار فلم يقدروا أن يأخذوا منه الأصنام،وقيل لأنه قسا فلم تنبت فيه الأشجار على رأسه غالباً.

غير أن ابن طولون أضاف في كتابه المذكور أن جبل قاسيون قيل بانه كان حافلاً بالأرز والنخيل،وكان فيه اثنتا عشر ألف نخلة قطعها تيمورلنك.كما ذكر ابن طولون أن قاسيون يعرف بجبل الصالحين،وجبل الصالحية.ويرجع تاريخ هذه التسمية إلى عام 554هجري لنزول بني قدامة المقادسة بسفحه واشتهارهم بالصالحين،ومنهم أتت تسمية ضاحية الصالحية بسفح قاسيون.

ومن الأسماء الأخرى التي أطلقها الجغرافيون والرّحالون العرب على قاسيون:جبل دمشق،وجبل الشام ،وجبل الأنبياء،والتين.

وجاء في موسوعة الويكيبيديا:

“جبل قاسيون:جبل يشرف على مدينة دمشق،والذي يعد امتداداً جغرافياً للسلاسل الجبال السورية الغربية.وتقع في سفحه بعض أحياء دمشق مثل:حي المهاجرين،وحي ركن الدين،وحي أبو رمانة،والشيخ محيى الدين ..

ترتفع قمة جبل قاسيون أكثر من 1150م،وتوجد على قمة الجبل محطة لتقوية البث الإذاعي والتلفزيوني.

يعد جبل قاسيون أحد أماكن التنزه والترفيه المحيطة بمدينة دمشق بإطلالته،إذ يمكن مشاهدة مدينة دمشق بالكامل منه.يقع على سفح الجبل من الجهة الجنوبية الغربية نصب الجندي المجهول في مكان مميز،تنتشر المنتزهات والمطاعم والمقاهي والإطلالات الجميلة التي تشرف على مدينة دمشق وعلى منطقة دمر وغيرها،كما توجد أحد أهم المعالم الأثرية وهي “مغارة الدم” أو ما يسمى”مقام الأربعين”.

يضم جبل قاسيون قبّتين تاريخيتين هما:مبنى مرصد قاسيون”قبّة السيار” الأثري على قمة جبل الجنك،و”قبّة النصر” المُدمرة الآن.

مغارة الأربعين:أو مغارة الدم

تشرف على دمشق من أعلى جبل قاسيون.

قيل:تسمى هذه المغارة بمغارة الأربعين لأن فوقها مسجداً فيه أربعون محراباً،كما تعرف بمقام الأربعين.ويقال:أنها سميت بذلك لأن رجلاً رأى فيها أربعين شخصاً يصلون،ثم خرج وعاد فلم يجد أحداً منهم.وقيل أيضاً أن سيدنا يحيى بن زكريا أقام هو وأمه فيها أربعين عاماً،وأن الحواريين الذين أتوها مع عيسى بن مريم كانوا أربعين،وقد أنشىء ضمن المسجد المحدث هناك أربعون محراباً.

وتدعى هذه المغارة أيضاً:مغارة الدم،لأن فيها فتحة تمثل فماً كبيراً يظهر فيه اللسان والأضراس والأسنان وسقف الفم بتفاصيل متقنة،وأمامها على الأرض صخرة عليها خط أحمر يمثل لون الدم،وفي سقف المغارة شقّ صغير ينقط منه الماء.

دير مُرّان:

هي محلة كانت عامرة آهلة بالسكان،ومحلها اليوم في السفح الواقع أسفل قبة السيار وأعلى بستان الدواسة،يطل منها الإنسان على الربوة وحدائقها التي كان يزرع قديماً فيها الزعفران ولا تزال تلك الجهة حتى اليوم تدعى بدير مران،ذكره أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني وقال:إنه دير على تلعة مشرفة عالية تحتها مروج ومياه حسنة.

ولا نعلم الوقت الذي اندثر فيه هذا الدير،ولعل ذلك في أواخر القرن الخامس الهجري زمن الحكومة الأتابكية حينما عجزت عن تقرير الأمن في البلاد بسبب الحروب الصليبية  فهجر هذا الدير وتتابع خرابه.

وكانت هذه المحلة من متنزهات بني أمية،وفي الأغاني أن جريراً الشاعر قدم على عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك وهو نازل في دير مران.

وفي العصر العباسي،انتقلت دار الإمارة من دمشق إلى دير مران لأن العباسيين كانوا لا يطمئنون إلى السكنى داخل دمشق خوف الوثوب بهم والثورة عليهم.لذلك اختار العباسيون دير مران لحصانته وجمال موقعه وطيب هوائه فنزلوا في بعض القصور التي كانت فيه.

وفي عصر المأمون أقيم مرصد فلكي في جبل قاسيون بين سني 215 ـ 218 هجري.

وتبين النصوص على أن دير مران كانت دار إمارة في العهد العباسي والطولوني والفاطمي إلى زمن زوال سلطتهم عن دمشق.

قبة السّيار:

قبّة تقوم على الجزء الغربي من جبل قاسيون،وتشرف على دمشق.

تربض على جبل”الجنك”،وهو الجزء الغربي من قاسيون،وتشرف على خانق الربوة،وإلى الشرق من هذه القبّة وتحتها قليلاً كانت بقايا أطلال يُظن بأنها دير مرّان القديم الذي كان يعلو بستان الدوّاسة،وهذا الدير ذكره مؤرخو دمشق الأوائل كابن عساكر وغيره.

يختلف المؤرخون على نسبة هذه القبّة،فمنهم من ينسبها إلى الأمير سيّار الشجاعي من العهد المملوكي،وهناك من يخالف هذا القول.

وذكر ابن عساكر أن القبّة بناها المأمون،وصيرها موقداً توقد النار في أعلاها لكي ينظر إلى ما في عسكره في الليل،وقيل أنها كانت مرصداً للفلك.

قبّة النصر:

يقول الأستاذ صلاح الدين المنجد(مجلة الرسالة العدد 662):

توجد في دمشق،فوق ذروة من ذرى قاسيون،بناء مربع مفتوح الجوانب،فوق قبة.كانت من منتزهات الصالحية،لإشرافها على الربوة،وعلى دمشق،اسمها قبة النصر،بناها نائب الشام برقوق الذي قاتل سوار بك فأخذه غدراً،ثم أقام هذه القبة سنة 877هجري ذكرى انتصاره وقد ذكر هذا ابن طولون في تاريخه.

ويقول الأستاذ محمد أحمد دهمان(في رحاب دمشق):

“وهي ـ أي قبة النصر ـ من القباب الشهيرة تقع في قمة جبل قاسيون،بقيت عامرة إلى سنة ثلاث وسبعين ومئة وألف ثم سقطت بسبب الزلزال العظيم الذي حصل في هذه السنة،وبقي لها بقية ترى من بعد على هيئة كرسي  ويسميها الناس كرسي الداية،وعندما دخلت جيوش الحلفاء دمشق سنة 1941ن هدموها خوفاً أن تتخذ علامة لضرب المواقع العسكرية.

وجاء في كتاب “معالم دمشق التاريخية” للدكتور الشهابي:

“قبة النصر كانت في أعلى جبل قاسيون.أنشأها نائب الشام في العهد المملوكي برقوق الظاهري عام 877هجري في أعلى جبل قاسيون فوق الصالحية عند مغارة شدّاد،بمناسبة انتصار الدولة على شاه سوار الغادري الذي أعلن العصيان عليها في إمارة كيليكيا.فسماها قبّة النصر على سوار،أو قبّة النصر.

سقطت هذه القبّة في زلزال 1173هجري.ثم أزيل ما تبقى منها عام 1941م،أزالتها قوات فيشي الفرنسية المتحالفة مع قوات المحور(الألمان)،لئلا تتخذ كنقطة علّام عسكرية من قبل جيش الحلفاء البريطاني الذي دخل مؤازراً لقوات الجنرال ديغول.وكان الناس يحرّفون اسمها إلى قبة النسر،ومنهم من يطلق عليها اسم”كرسي الداية”لأنها تشبه الكرسي الذي تجلس عليه المرأة وقت الوضع.

الأحياء الدمشقية القديمة

تضم مدينة دمشق العديد من الأحياء.ومن أهمها:

النوفرة:

حي بأول القيمرية شرقي الجامع الاموي.وكانت تسمى سابقاً”حي جيرون”،وينسب إليها باب جيرون وهو الباب الشرقي للجامع الأموي.وسميت بعد ذلك بالنوفرة لوجود فوارة ماء في حوض رخام مما يلي باب جيرون.

ولعل من أشهر المعالم السياحية في الحي”مقهى النوفرة”.وهو أقدم مقهى في دمشق حيث يتجاوز عمره 500 سنة.

إذا ما نزلت البضع الدرجات أمام الباب الشرقي للجامع الأموي ستجد نفسك في فسحة الفوارة التي تتوسطها بركة ماء مظللة بعريشة عنب وإلى يمينك أشهر مقاهي دمشق:مقهى النوفرة.

في هذا المقهى يروي الحكواتي قصص بطولات عنترة حين ضرب بسيفه أربعون رأس إلى اليمين ومثلها إلى اليسار،كما كانت “القيامة” تقوم إذا أنهى الحكواتي كلامه وعنترة في السجن،وكم من رجل قرع باب الحكواتي في منتصف الليل مطالباً إياه تحرير البطل وفك أسره قبل طلوع النهار…وكم من مرة كانت فيها المشاجرة تحتدم بين المتحيزين للزير سالم وآخرون لجساس،الأمر الذي ينتهي ببعض صفعات ولكمات ويذهب عدد من الكاسات والكراسي ضحية لذلك.

وسُمي المقهى بالنوفرة نسبة للنافورة التي كانت تتدفق بارتفاع 4 ـ 5 أمتار في بحرة مجاورة للمكان.وقد توقفت هذه النافورة بعد توقف النهر الذي كان يغذيها واسمه “نهر يزيد” عن الجريان منذ أكثر من 50 عاماً.

الصالحية:

تقع على سفح جبل قاسيون،وتمتد منطقة الصالحية من بوابة الصالحية جنوباً إلى جامع الأربعين شمالا ومن مسجد أبي النور شرقاً إلى العفيف غرباً.وهي منطقة تحتوي العديد من الآثار من العهد الأيوبي كحمام المقدم ومقام أبي النور،والمدرسة الركنية،ومن العهد العثماني نذكر مسجد الشيخ محيى الدين بن عربي.

يقول الأستاذ محمد أحمد دهمان(في رحاب دمشق):

“أجمل قسم من أقسام دمشق وأجود ناحية من نواحيها،وأصبحت سيدة مدينة دمشق بناءً وتنظيماً وقيمة.

في هذه المنطقة الممتازة،وقبل ثمانمائة عام مضت(المقال بتاريخ 7 شباط 1947م)،قامت فيها حضارة رائعة،كتبها التاريخ بإكبار وإعجاب،إذ أنشىء في هذه الناحية عشرات من المعاهد والمدارس وأخرجت فحولاً من العلماء والأدباء والفقهاء والمحدثين.

سبب تسميتها بالصالحية:

يمكن الرجوع إلى ما ذكر أعلاه عن هجرة أهل فلسطين وخاصة من نابلس بسبب المعاملة السيئة من الصليبيين لأهل نابلس والقدس وهجرتهم إلى دمشق وسكنهم في سفح قاسيون والذي سمي من بعد  الصالحية.

لم يمض على نزول بني قدامة الصالحية في سفح قاسيون ثلاثون عاماً حتى أصبح هذا السفح مدينة عظيمة تعج بالسكان وتكتظ بالمباني الفخمة الرائعة من مدارس وجوامع ومعاهد حتى غدت مدينة العلم والمدارس والقباب والمآذن.

يقول الرحالة ابن بطوطة عن الصالحية:

“هي مدينة عظيمة لها سوق لا نظير لحسنه وفيها مسجد جامع ومارستان.وأهل الصالحية كلهم على مذهب الإمام أحمد بن حنبل”.

ويقول القلقشندي:

“مدينة الصالحية،مدينة ممتدة في سفح الجبل تشرف على دمشق وضواحيها ذات بيوت ومدارس،وربط،وأسواق،وبيوت جليلة،ولكل من دمشق والصالحية،البساتين الأنيقة بتسلسل جداولها،وتغني دوحاتها،والجواسق العلية،والبركُ العميقة،والبحيرات الممتدة،تتقابل بها الأواوين والمجالس،وتحف بها الغراس والنصوب المطرزة بالسرو الملتف،والحور الممشوق القد،والرياحين المتأرجة الطيب،والفواكه الجنيةنوالثمرات الشهية،والأشياء البديعة التي تغني شهرتها عن الوصف،ويقوم الإيجاز فيها مقام الإطناب”.

ركن الدين:

حي بسفح قاسيون شرقي الصالحية.سُمي بذلك لأن فيه المدرسة الركنية البرانية التي أنشأها الأمير ركن الدين منكورس الفلكي وهو أحد ولاة دمشق في العصر الأيوبي،وهو غلام فلك الدين أخي السلطان العادل الأيوبي لأمّه.ويوجد مدفن الوالي ركن الدين منكورس في جامع ركن الدين في ساحة شمدين آغا.

وبنيت المدرسة عام 625هجري ودفن فيها الأمير ركن الدين عام 631هجري.

والجدير بالذكر أن للأمير ركن الدين المذكور مدرسة أخرى تعرف بالمدرسة الركنية الجوانيّة بحي العمارة الجوانية بناها في نفس العام.

وفي الشمال من مقبرة الدحداح توجد قبّة تعرف بقبّة ابن منكورس،ويفصل بينهما شارع بغداد.وتضم القبة قبر الأمير فخر الدين موسى ابن عثمان ابن ناصر الدين منكورس،المتوفى عام 704 هجري.

وحي ركن الدين من الأحياء القديمة في دمشق،يعود تاريخه إلى حوالي 1170ميلادي في الفترة الأيوبية،ويشكل حالياً أكبر تجمع للأكراد في مدينة دمشق.

الشيخ محيى الدين:

محلة وتربة وجامع بالصالحية.تنسب إلى تربة المتصوف المشهور الشيخ محيى الدين بن عربي المتوفى سنة 638هجري.والمكان الذي دفن فيه كان يدعى آنذاك تربة القاضي محيى الدين بن الزكي.ثم طغت شهرة الشيخ محيى الدين بن عربي على المكان فسميت التربة باسمه.

وعند فتح العثمانيين لدمشق عام 922هجري على يد السلطان ياوز سليم خان الأول ابن بيازيد،أراد السلطان إعمار التربة المذكورة إكراماً لإبن عربي،فأمر عام 923 هجري بإنشاء جامع عظيم فوقها،فكان أول بناء للعثمانيين بدمشق،وتم البناء عام 924هجري فدعي جامع الخنكار وهي كلمة فارسية مختصرة من “خُداوندكار”أي السلطان.وعمرّت قبالة الجامع تكية باسم التكية السليمية(أو تكية السلطان سليم).واليوم تسمى المحلة المجارة بأكملها باسم”الشيخ محيى الدين”.

الميسات:

منطقة قبلي الصالحية،أبو جرش.وكانت في الماضي بساتين خضراء على طريق عين الكرش،وفيها بعض الترب كالتربة البدرية،ويمر بأراضيها نهر ثورا.ويقال أن سبب التسمية لوجود شجر الميس فيها والذي اشتهرت به دون بساتين دمشق الأخرى.

والميس:شجر من فصيلة البوقيصيّات ثمارها عنبية صغيرة القد سوداء حلوة الطعم.

أبو رمانة:

حي حديث بأسفل المهاجرين.وهو من أبرز أحياء الطبقة الراقية في مدينة دمشق ويضم عدداً من السفارات والمكاتب والفيلات السكنية والمنازل الراقية.

يروى أنه كان في المنطقة قبل إعمارها قبر وبالقرب منه شجرة رمان،وكان البعض يعتقد بأن صاحب هذا القبر ولي من أولياء الله،وغيرهم يراه شهيداً من الشهداء الصالحين،ولجهلهم باسمه دعوه:بأبي رمانة.

وفي أواخر الحرب العالمية الثانية بدأ تنظيم الشارع وإعماره بالأبنية الحديثة،ودُعي بعد العام المذكور باسم شارع الجلاء كذكرى لإستقلال سورية وجلاء الفرنسيين عنها.ولكن اسم أبو رمانة غلب عليه وبقي تلهج به ألسنة الناس حتى يومنا الحاضر.(دمشق تاريخ وصور لقتيبة الشهابي).

وقد شقت محافظة دمشق عام 1945م طريق أبي رمانة بهدف الربط بين منطقة المهاجرين والصالحية،ومن ثم انتشرت الأبنية على طرفي الشارع لتمتد المنطقة نحو الساحة المرتفعة من الجهة الغربية والتي أطلق عليها فيما بعد اسم”ساحة المالكي” نسبة إلى الضابط السوري العقيد “عدنان المالكي” الذي أغتيل أواسط خمسينيات القرن الماضي وأقيم له تمثال وسطها.

وإلى الشرقي من حي أبي رمانة توجد جنينة السبكي(حديقة زنوبيا)،على امتداد شارع المهدي بن بركة.وهذه الحديقة محدثة في بدايات النصف الثاني من القرن العشرين،وسميت بذلك نسبة إلى “بستان السبكي” الذي كان معروفاً في تلك المنطقة.وآل السبكي إحدى العائلات المعروفة بدمشق،وهي أسرة علم هاجر أجدادها من مصر إلى الشام في أوائل عهد المماليك،وأصلهم من “سُبك”من أعمال المنوفية بمصر،وتولّوا في ذلك العهد مناصب رفيعة في التدريس والقضاء في مصر والشام ولهم مؤلفات عديدة،ومن أشهرهم شيخ الإسلام تقي الدين السبكي(توفي عام 756 هجري) وبهاء الدين السبكي(توفي عام 763 هجري) وتاج الدين السبكي (771هجري) .وللسبكيين تربة معروفة في حارة المتاولة بالصالحية على مقربة من مسجد طوطح.

وفي منتصف شارع أبو رمانة توجد جنينة المدفع.وكان موضعها في أواسط القرن العشرين ساحة خالية يوضع فيها مدفع في شهر رمضان يطلق عند حلول موعد الإفطار والإمساك والعيد،ولا زال هذا الاسم باقياً إلى يومنا هذا رغم زوال المدفع.ثم سميت الحديقة رسمياً حديقة ابن هانىء وإن كان عند الناس مازال اسم جنينة المدفع هو المألوف.

ومن الحدائق المشهورة أيضاً حديقة المعري،وحديقة الجاحظ.

المالكي:

حي سكني كبير وحديث يمتد بين حي المهاجرين وساحة الأمويين.

شرع في شقّه بأواخر الخمسينيات من القرن العشرين،واكتمل إعماره في الثمانينيات.فصار اليوم أفخم وأفره حي في مدينة دمشق الحديثة.

ومن أقسامه:غرب المالكي،أو حي الحواكير،سمي بذلك لأنه كان مليئاً بحواكير الصبار.وإلى الجنوب منه شارع جواهر لال نهرو الذي يصل إلى ساحة الأمويين.

كانت منطقة المالكي في السابق بساتين خضراء تتخللها بعض الدويرات والقصور في العهد العثماني.ويخترقها نهر ثورا في وسطها.

وسبب التسمية فيعود إلى العقيد عدنان المالكي أحد ضباط الجيش العربي السوري الذي أغتيل عام 1955م وأقيم له تمثال في الساحة التي تعرف باسمه اليوم،ومتحف ضمن حديقة في الطرف الشمالي للساحة،وفوقها تربة العادل كتبغا(العادلية البرانية)من العهد المملوكي.

الروضة:

منطقة غربي الصالحية بين ساحة عرنوس وشارع أبي رمانة.وهي حي سكني حديث قام في أواسط القرن العشرين،سميت بذلك لأنها كانت من جملة البساتين الخضراء المشجّرة التابعة لبساتين الصالحية وتعتبر من المتنزهات.ولما أنشئت بها الدور أقيمت على طراز الفيلات الحديثة الفخمة،فكانت هي وشارع أبي رمانة المحاذي لها من أفخم أحياء دمشق آنذاك.

الأزبكية:

في منتصف شارع بغداد.يمتد من شارع الثورة غرباً حتى بستان الديوانية شرقاً على جانبي شارع بغداد الذي فُتح سنة 1925م.وكانت هذه المنطقة قبل فتح الشوارع تضم بساتين عصفور والسميرية والكركة والديوانية والعمادية.

ولا يعلم بوجه التحديد مصدر الإسم،ويقال تيمناً بميدان الأزبكية الشهير بالقاهرة.وهناك من يقول لوجود مقهى كبير صيفي شتوي يدعى”مقهى الأزبكية”،وكان من أشهر مقاهي دمشق وأكبرها،وهو أقرب إلى المسرح منه إلى المقهى.وأما موقع هذا المقهى اليوم فهو مكان محطة المحروقات الواقعة إلى اليسار في الطريق المتجه من ساحة السبع بحرات إلى ساحة التحرير،وتعرف هذه المحطة باسم”كازية الأزبكية”

المزرعة:

حي بين ساحة السبع بحرات وحي الشهداء.أسس في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي.يحده من الشرق منطقة العدوي ومن الشمال ركن الدين، وعين الكرش والسبع بحرات جنوبا،وعرنوس وساحة الشهبندر غرباً.ً

وكان مكان الحي بساتين وفيها مزرعة لبعض الناس،وبدأ الإعمار فيها بشكل بسيط في الربع الأول من القرن العشرين،وبتاريخ 17 آذار عام 1926م قامت فيها معركة بين الثوار وقوات الاحتلال الفرنسي،مما نجم عنها أن قام الفرنسيون بتخريب المحلة بأكملها.وبداية من عام 1930م نشط العمران في المنطقة ونشأ الحي المعروف.ومن أشهر شوارعها شارع الملك العادل.ومن أشهر معالمه أيضاً جامع الإيمان،وملعب المزرعة(نادي بردى).

عين الكرش:

حي كبير إلى الشمال الغربي من سوق ساروجة.يقع مابين شارع 29 آيار من جهته الغربية وشارع بغداد من الشمال.

سمي بهذا السم نسبة إلى نبعة ماء تسمى”عين الكرش”،كانت موجودة خلف معهد اللاييك.وكان هذا النبع يتغذى من نهري ثورا ويزيد وهما روافد لنهر بردى.

الديوانية:

بين شارع بغداد ومنطقة العدوي السكنية.واسم المحلة القديم:بستان الديوانية.وبهذه المحلة توطن عدد من المهاجرين الألبان(الأوناؤوط) في بدايات القرن العشرين.

السّادات:

محلة بين العمارة البرانية وشارع بغداد.وهو من الأحياء الدمشقية القديمة والذي يعد أولها من حيث النشأة خارج السور،ويتميز بجوامعه  والعديد من الشوارع المتفرعة منه.يحد الحي من الشمال منطقة الخطيب،وشارع بغداد،وساحة التحرير،ومن الشرق منطقة باب السلام وصولاً إلى العمارة،وجنوباً أسوار دمشق القديمة وشارع الملك فيصل والمناخلية إلى المرجة،وغرباً منطقة العقيبة والسمانة.

تنسب تسمية الحي إلى جامع السادات الزينبية،ويدعى مسجد الرؤوس،فيه ضريح لأقصاب السادات الصحابة،كتب عليه أنه يضم سبعة من الصحابة(أو رؤوسهم) وهم:حجر بن عدي الكندي،وشريك بن شدّاد الحضرمي،وصيفي بن فسيل الشيباني،وقبيصة بن ضبيعة(ابن حرملة)العبسي،ومحرز بن شهاب السعدي،وكدام بن حيّان العنزي،وعبد الرحمن بن حسان العنزي.ولذلك فهو يسمى أيضاً:مسجد الأقصاب،أو مسجد القصب،وتحرف العامة هذه التسمية إلى (مزّ القصب).وكان يقال له قديماً مسجد ابن منجك نسبة إلى الأمير محمد بن إبراهيم ابن منجك الذي جدده في عهد المماليك عام 811هجري.

ويبدو أن نسبة الحي إلى سادات الصحابة غير صحيحة،وأنه عثر في الحي على حجر نقشت عليه كتابة يونانية من عدة أسطر، منها كلمة سادات.

القزازين

محلة في شارع بغداد إلى الشرق مباشرة من مقبرة الدحداح.

العدوي:

منطقة سكنية كبيرة تقع إلى الشمال من شارع بغداد.وكانت تعد جزءاً من بستان الديوانية.وآل العدوي سموا بذلك لإنتمائهم لقبيلة عدي العربية،ومن مشاهيرهم بدمشق القاضي محمود بن العدوي الصالحي مؤلف كتاب”الزيارات” بدمشق، توفى 1032هجري.

الحريقة:

منطقة تقع بين سوق الحميدية وسوق مدحت باشا.كان في هذه المنطقة حتى مطلع القرن العشرين حيّ سكني واسع يعرف باسم”سيدي عامود” وكان واحداً من أفخم أحياء المدينة وفيه الكثير من الدور الدمشقية العريقة الغنية بالزخارف والنقوش،وكان من أشهرها دار مراد أفندي القوتلي.وفي بدايات الإحتلال الفرنسي لسوريا أصيب هذا الحي بنكبة مفجعة عندما عمدت قوات الإحتلال الفرنسي إلى قصف مدينة دمشق رداً على اندلاع الثورة السورية،ففي يوم 18 تشرين الأول عام 1925م فتحت نيران المدفعية الفرنسية من جبال المزة على المدينة،وقد تركز القصف بشكل رئيسي على حيىّ الشاغور والميدان اللذين كانا معقلاً للثوار،كما طال القصف أيضاً حي سيدي عامود المذكور فاندلعت فيه النيران وانتشرت في أنحائه حتى أتت عليه بالكامل،ولم ينج من هذه النيران أثر أو بيت بما في ذلك ضريح سيدي الشيخ أحمد عامود،باستثناء البيمارستان النوري الذي سلم من الدمار.وقد شارك الطيران الحربي الفرنسي في أعمال القصف.وبقي حي سيدي عامود يشتعل عدة أيام،وكان الحريق هائلاً روّع أبناء المدينة حتى غلب اسم”الحريقة” على المنطقة وما زال دارجاً عليها حتى اليوم.وحلت محله اليوم أبنية حديثة تؤلف منطقة تجارية واسعة معروفة.

ويوجد في الحريقة سوق الصاغة.وهو سوق مخصوص كبير محدث،يجتمع فيه الصاغة ويبيعون الحلي الذهبية والفضية والمجوهرات.وأول نشوء لسوق الصاغة بدمشق كان في العهد الأيوبي،حينما ظهرت سوق الصائغين قبلي الجامع الاموي.وفي عهد المماليك ازدهرت هذه الصناعة كثيراً،وكان للصاغة بأواخر العهد الأيوبي سوقان:الصاغة العتيقة وسوق اللؤلؤ عند سوق الحدادين،والصاغة الجديدة في القيسارية التي أنشئت عام 631 هجري قبلي النحاسين.

جاء في موسوعة الويكيبيديا:

“الحريقة:هي المنطقة الواقعة جانب سوق الحميدية من جهة الجنوب من دمشق،وسوق مدحت باشا من جهة الشمال،بين جادة الدرويشية غرباً وسوق الخياطين شرقاً.عُرفت بالسابق باسم”سيدي عامود”نسبة للولي سيدي أحمد عامود الذي كان مدفوناً فيها،وأصبحت تعرف باسم”الحريقة” بعد الحريق الذي شبّ فيها إبان القصف الفرنسي لدمشق عام 1925م وأدّى إلى دمار واسع على الكثير من البيوت والآثار المعمارية الهامة.

كانت الخسارة أكبر من أن تعوض،فقد تواجدت في هذه الحريقة بيوتات دمشقية عريقة الطراز،تميزت بغنى زخارفها الداخلية حسب اسلوبي الباروك والركوكو،إلى جانب المشيدات التاريخية الهامة التي لم يسلم منها إلا نذر يسير،ولم يبق لها من أثر سوى الخرائب والأطلال.ومن هذه البيوت التي خربت دار القوتلي التي شيدها مراد أفندي القوتلي في زقاق العواميد،كما احترق معها في نفس الوقت ضريح سيدي عامود الذي سميت المنطقة باسمه.وتهدمت أيضاً دار القنصل الألماني”لوتيكة” ومقر القنصلية الألمانية سابقاً”.

القيمرية:

حي كبير شرقي الجامع الأموي.وكانت تسمى قديماً”الحريميين”كما ذكرها ابن عساكر في القرن السادس الهجري،وكانت سوقا.فلما أنشأ بها مقدّم الجيوش الأمير ناصر الدين أبو المعالي حسين القيمري الكردي(أحد قواد الملك الناصر يوسف الأيوبي الثاني)المتوفى عام 665هجري مدرسة القيمرية الجوانية البرى دعيت المحلة باسمها،وتوجد مدرسة أخرى تدعى القيمرية الجوانية الصغرى بسوق القباقبية.

والقيمري:نسبة إلى قيمر:قلعة في جبال الموصل وخلاط ينسب إليها جماعة من أعيان الأمراء بالموصل وخلاط،وهم أكراد.

ولقد كانت القيمرية في جميع العهود من أهم أحياء دمشق لقربها من الجامع الأموي،وكان فيها أجمل الدور الدمشقية القديمة.

وجاء في موسوعة الويكيبيديا:

“القيمرية”حي قديم من أحياء دمشق القديمة،يقع ضمن سور المدينة القديمة ويعد من أهم الوجهات السياحية ضمن دمشق لحفاظه على روحه التراثية وبيوته القديمة.

تعود تسميته إلى شيخ عاصر زمن الفتوحات الإسلامية يدعى”قيمر”وهناك مصادر تقول أن في مدينة دمشق بنى الأمراء الأكراد العديد من المنشآت المعمارية،وقد أنشأ الأمير الأيوبي ناصر الدين الحسين بن عبد العزيز القيمري الكردي المدرسة القيمرية الكبرى الجوانية التي أعطت اسمها لحي القيمرية،والتي يطلق عليها العوام اليوم اسم”المدرسة العتيقة ومدرسة القطاط”..يحده من الشرق حي باب توما،ومن الغرب الجامع الأموي بدءاً من منطقة النوفرة،ومن الشمال حارة”الجورة”ومن الجنوب شارع مدحت باشا بين الكنيسة المريمية وسوق الخياطين.

ومن المعالم الأثرية في حي القيمرية نذكر:

ـ باب جيرون:

ـ الكنيسة المريمية:أحد أقدم كنائس الروم الأرثوذكس في العالم

ـ الزاوية السعدية،حمام البكري،حمام نور الدين الشهيد،سوق الخياطيننسوق البزورية،خان أسعد باشا،وخان السفرجلاني،وكذلك يقع في الحي:مكتب عنبر.

الكلاسة:

حي شمالي الجامع الأموي.وكان المحلة أولاً موضعاً لعمل الكلس لسد احتياجات الجامع عندما كان قيد الإعمار،ثم جُعلت من الزيادات لما ضاق بالناس.وفي عام 555هجري أنشا بها السلطان نور الدين الشهيد مدرسة احترقت مع مئذنة العروس سنة 570 هجري.وهي اليوم حي مشهور وبه ضريح السلطان صلاح الدين الأيوبي في المدرسة العزيزية.وعرف سابقاً بدرب الخزاعين وجادة السلطان صلاح الدين.

سوق البزورية:

سوق يتقاطع مع شارع مدحت باشا وينتهي حتى مدخل قصر العظم.وهو من أكبر الأسواق داخل دمشق القديمة،تباع فيه جميع أنواع البزور والحبوب والتوابل والمصنوعات الغذائية المحلية والعطور.

جاء في موسوعة الويكيبيديا:

“البزورية: هو سوق تاريخي يقع إلى الجنوب من الجامع الأموي في دمشق يضم السوق العديد من الخانات التاريخية والمباني والمتاجر التي تبيع مواد العطارة والزهورات الشامية والأعشاب الطبية التي تستخدم في الطب الشعبي،وكذلك أنواع من السكاكر والحلويات المتنوعة والملبس الدمشقي الشهير والفواكه المجففة والصابون، ولهذا السوق شهرة عبر التاريخ.

تمتد البزورية بين قصر العظم وسوق الصاغة القديم شمالاً،إلى سوق مدحت باشا مقابل فتحة حارة مئذنة الشحم جنوباً،ومن ثم ينعطف شرقاً ليضم إليه قسماً من الشارع المستقيم وسوق مدحت باشا.وهو مغطى بساتر قوسي معدني من شماله وحتى جنوبه.

يضم سوق البزورية أجمل منشأتين معماريتين قديمتين في دمشق القديمة هما:

ـ خان أسعد باشا العظم،وهو من أكبر وأكمل خانات دمشق القديمة وأجمل خانات الشرق الأوسط.

ـ حمام نور الدين الشهيد،وهو أشهر حمام دمشقي .

العصرونية:

سوق شرقي قلعة دمشق.يحده من الجنوب سوق الحميدية ومن الشمال امتداد شارع الكلاسة وسوق المناخلية ومن الغرب قلعة دمشق ومن الشرق الجامع الاموي وباب البريد.

أسست السوق قبل حوالي 150سنة،وهي سوق متخصصة في بيع مستلزمات مطابخ البيوت والأدوات المنزلية والأدوات النحاسية والزجاجية والأراكيل…

ومن المباني التاريخية التي تضمها السوق جامع دار الحديث الأشرفية،ومبنى مدرسة زهرة خاتون وجامع يدعى جامع الخندق.

سميت بذلك نسبة إلى المدرسة العصرونية الموجودة فيها.أنشأها قاضي القضاة شرف الدين بن أبي عصرون المتوفى سنة 585 هجري.وفي أواخر العهد العثماني غلبت عليها السمة التجارية،فكثرت بها محال بيع الأدوات المنزلية وبعض الخردوات.

القباقبية:

سوق يمتد على طول الجدار الجنوبي للجامع الأموي.وكان في عهد المماليك يقع شمالي الجامع الأموي داخل باب الفراديس.أما سوق القباقبية الحالي فقد وصفه نعمان القساطلي أواخر العهد العثماني بقول:”بهذا السوق يعملون القباقيب والصناديق والصواني الجميلة المطعمة بالصدف،وهذه السوق تمتاز عن غيرها بكون سقفها معقوداً بالحجارة”.

وكان السوق ذا صفين جنوبي وشمالي،أزيل الشمالي منه والذي كان يستند إلى الجدار الجنوبي للجامع الأموي،وقاية لهذا الجامع من الحريق،ولكشف الجدار الهام أثرياً،وذلك في بداية الثمانينات من القرن العشرين.

ويشغل السوق حالياً خرّاطو الخشب للنجارة العربية،ومحلات الصاغة وباعة الأثريات،وزال منه تخصصه الأساسي بالقباقيب بعد أن بطل استعمالها أو كاد.

باب البريد:

هو الباب الغربي لمعبد جوبيتر الدمشقي،بين سوق الحميدية والمسكية.

جاء في مجلة المعرفة:

“باب البريد: هو أحد أحياء دمشق القديمة،وهو الباب الغربي لمعبد جوبيتر،بين سوق الحميدية والمسكية.يقع قرب المسجد الأموي حيث كان قائماً أحد أبواب دمشق القديمة وهو باب البريد”.

الدرويشية:

محلة مشهورة خارج باب الجابية،بينه وبين مدخل سوق الحميدية.وكانت تعرف في عهد المماليك باسم سوق الأخصاصية أو سوق الأخصاصيين،نسبة إلى من يبيعون الأخصاص والأقفاص.ثم حملت المحلة اسم الدرويشية في بدايات العهد العثماني عندما قام والي دمشق العثماني درويش باشا ببناء جامع درويش باشا الذي تمّ عام 982 هجري.

وذكر طلس:وهذا الجامع من أعظم جوامع دمشق وأبهاها منظراً وأغناها نقوشاً وزخارفاً وقاشانياً،أما محرابه ومنبره فهما آيتان من آيات الفن،وهو على النمط العثماني.

مأذنة الشحم:

حي في القسم الأوسط والغربي من دمشق القديمة،جنوبي سوق مدحت باشا.وكانت المحلة تدعى قديماً “قبّة الشحم”.

ويبدو من اسم محلة مأذنة الشحم أنها ربما كانت مركزاً لبعض الصناعات التي يدخل في تركيبها الشحم كصناعتي الصابون والشمع،خصوصا أنه بقربها سوق يعرف”بالدهيناتية”أو”الدهيانتيين” ويقع بين سوق السلاح والبزوريين،ويعمل فيه سائر الأدهان من دهن اللوز وغيره ويباع،فسميت المحلة بذلك وألحق الاسم بمأذنة هناك تابعة لجامع صغير بنيت في العهد المملوكي سنة 770هجري.

وبمأذنة الشحم تلّة تسمى”تلّة السماكة” هي أعلى منطقة بدمشق القديمة داخل السور،يميل الاعتقاد إلى أن قصر مملكة آرام دمشق كان يقوم عليها في ذلك العهد.

وكانت محلة مأذنة الشحم حتى بدايات القرن العشرين من أجمل الأحياء وكان فيها أجمل الدور الدمشقية،وكانت من أرقى أحياء دمشق.وقد أنجب هذا الحي الكثير من الشخصيات السورية ومنهم الرئيس شكري القوتلي والشاعر الكبير نزار قباني…ومن معالم الحي نذكر مقهى وحمام الناصري،ومدرسة  أم الفضل والمدرسة المحسنية والمدرسة اليوسفية…

القنوات:

حي كبير إلى الغرب من منطقة الدرويشية.سمي بذلك نسبة لنهر القنوات الذي يمر به،أو لعله بسبب وجود قنوات مياه رومانية قديمة به لا تزال آثارها باقية إلى اليوم.

جاء في موسوعة الويكيبيديا:

“القنوات: حي دمشقي عريق ،أسسه الأثرياء من أهل دمشق،فبنوا البيوت الواسعة التي مازال بعضها قائماً ومسجلاً أثرياً.وأخذ الحي اسمه من أحد فروع نهر بردى الذي يتفرع من ناحية الشادروان،حيث يخترق هذا النهر الحي وتسيل مياهه ضمن قناة رومانية محمولة على قناطر حجرية لكي تتم من خلاله سقاية المدينة القديمة،ولا تزال هذه القناطر ظاهرة للعيان.

ومن المعالم العمرانية فيه:مدرسة ثانوية السعادة،وبيت فخري البارودي.ومن أهم الشخصيات التي عاشت فيه:أبو خليل القباني،وفخري البارودي.

السنانية:

محلة خارج باب الجابية.سميت بذلك نسبة إلى المجموعة العمرانية الموجودة فيها،والتي أنشأها والي الشام العثماني سنان باشا الوزير الأعظم(تولى دمشق 998هجري).وهذه المجموعة العمرانية تضم المسجد المشهور ومكتبة السنانية وسبيلاً.وجامع سنان باشا من أجمل مساجد دمشق،وأعجب ما فيه منارته الرشيقة ذات الستة عشر ضلعاً،الملبسّة بالفسيفساء اللازودري والأخضر.

وسوق السنانية يعد النموذج الأول لأسواق دمشق المغطاة،ويحتوي السوق على محال لبيع الحبوب ومشاغل لصناعة الأدوات المنزلية من الخشب والقش.

السنجقدار:

محلة تقع بين ساحة المرجة وقلعة دمشق.تنسب إلى جامع السنجقدار المشهور بها.بناه الأمير المملوكي سيف الدين أرغون شاه الناصري المتوفى عام 750 هجري.وفي العهد العثماني قام بتجديده سنان آغا جاويش الإنكشارية عام 1008 هجري وعرف منذ ذلك العهد “جامع السنجقدار”.

والسنجقدار:كلمة تركية مؤلفة من سنجق ودار،وتعني حامل الراية.وذلك لأن السنجق الشريف أي العلم الذي كان يُحمل آنذاك في احتفال محمل الحجّ كان يودع في هذا المسجد يوماً وليلة(ويكون محفوظاً عادة بالقلعة).

يتميز حي السنجقدار ببيع الفواكه المجففة وتنتشر فيه الفنادق بكثرة.

السُّروجية:

سوق إلى الشمال المجاور لقلعة دمشق.وهو أحد أسواق دمشق القديمة المشهورة،وهو منذ أيام المماليك حيث ذكره بعض المؤرخون في القرن التاسع الهجري،وذكر ابن عبد الهادي بأن هذا السوق تباع فيه السروج وآلة الخيل،وسماه في ثمار المقاصد:سوق آلة الخيل.وفي أيامنا هذه تباع فيه السروج والأحزمة الجلدية والحبال والأقمشة السميكة من لوازم صناعة الخيام والشوادر.

الدقاقين:

في وسط سوق مدحت باشا،قبالة سوق البزورية.وهو من الأسواق التقليدية بدمشق،ولا وجود له اليوم ،وكان مختصاً بحرفة دقّ أثواب الحرير وأثواب القطن.وحرفة الدقاقين زالت من دمشق بأواخر العهد العثماني،ولكن الاسم بقي على المحلة،وصاحب حرفة الدقّ يعرف بالدقاق.وهو اسم عائلة معروفة بدمشق.

المجتهد:

منطقة وشارع رئيسي غربي ساحة باب المصلى.وكانت بالأصل بساتين تابعة لمحلة قبر عاتكة،عرفت باسم “بستان المجتهد” وهو اسم عائلة بدمشق.وارتبط اسم هذه المنطقة باسم”مستشفى المجتهد” الكبير الذي تم البدء ببناءه في عام 1947م وانتهى الإنشاء عام 1955م.وقام الرئيس شكري القوتلي بافتتاح المشفى شخصياً.

كفر سوسة:

من ضواحي دمشق الجنوبية الغربية.والكلمة آرامية مركبة من مقطعين:كفر وتعني قرية،وسوسية وتعني الخيل.أي قرية الخيل.ويستدل من ذلك أنها كانت مكاناً لتربية الخيول في عهد الآراميين.

تبعد كفر سوسة عن مركز مدينة دمشق أي ساحة المرجة حوالي 6 ـ 8 كم.

وفي التسعينيات من القرن العشرين قامت فيها أبنية شاهقة وأصبحت غالية الثمن.

المِزَّة:

ضاحية غربي دمشق.وكانت المزة قرية قديمة أقامت فيها بعد الفتح الإسلامي لدمشق قبائل يمانية من بني كلب فسميت”مزة كلب”،وكانت ثاني أهم مراكزهم بعد قرية داريا.

واسم المزّة قديم،وقد ذكره ياقوت الحموي في معجم البلدان:المِزّة بالكسر ثم التشديد ،وهي قرية كبيرة غناء في وسط بساتين دمشق بينها وبين دمشق نصف فرسخ.وبها فيما يقال قبر “دحية الكلبي” صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ويقال أن اسم المزة آرامي قديم(مَزوه) ويعني مخزن الحبوب.ويقال أن الأصل يوناني ومعناه الرابية.ويقال أنها سميت بالمزة نسبة إلى طعم الصبار الحلو الذي اشتهرت به .

وجاء في موسوعة الويكيبيديا:

“المزة:إحدى مناطق مدينة دمشق تقع في الجهة الغربية الجنوبية للمدينة على سفح جبل المزة،وكانت في السابق قرية من قرى غوطة دمشق الغربية.

سكن فيها الصحابي “دحية الكلبي” والصحابي”أسامة بن زيد”.وهي قرية”الحافظ المزي” تلميذ ابن تيمية.

ازدادت أهميتها في العصر الحديث عندما أقام بها الفرنسيون مطار المزة العسكري الذي كان سابقاً مطار دمشق الرئيسي قبل إنشاء مطار دمشق الدولي في الجهة الجنوبية الشرقية من دمشق.

تعد المزة الآن من أحدث مناطق دمشق وأكثرها رقياً وتطوراً،وتحتوي على مدينة الجلاء ومدينة الشباب وعدد من كليات الجامعة ومنها كلية الآداب والعلوم وكلية الطب البشري وكلية طب الأسنان،وتوجد فيها بعض الوزارات ومنها الإعلام،والتعليم العالي،كما يوجد بها قصر العدل.ومن المشافي :مشفى الرازي،ومشفى الأسد الجامعي،ومشفى الأسدي ،ومشفى المواساة.ومشفى الأطفال.ومن الجوامع المشهورة نذكر:جامع الأكرم،وجامع الشافعي…

باب توما:

أحد أبواب دمشق من الجهة الشمالية الشرقية،واسم الحيّ الواقع داخله.

هذا الباب واحد من أبواب دمشق القديمة التي اختطّها اليونان ومن بعدهم الرومان،وأعيد بنائه في زمن الملك الناصر داوود عام 1228م.

وكانت لليونان القدماء عادة دينية في بناء مدنهم لم يسبقهم إليها أحد،فقد كانوا يعملون لأسوار المدن الهامة من مدنهم سبعة أبواب،وكانوا يقفون كل باب لإسم كوكب من الكواكب السبعة،وهي الشمس والقمر وزحل وعطارد والزهرة والمشتري والمريخ.

وكانوا يرسمون فوق كل باب نقشاً في الحجر صورة الشكل الذي كانوا يرمزون به إلى ذلك الكوكب،ويعملون بجوار كل باب من داخله معبداً صغيراً لهذا الكوكب.

أما دمشق فكان سورها عندما ملكوها قديماً مشعثاً يحصرها في بقعة ضيقة،فوسعوه وعملوا له سبعة أبواب ووقفوا الباب الأول(الشرقي)للشمس،والثاني(باب كيسان)لزحل،والثالث(باب الصغير)للمريخ،والرابع(باب الجابية)للمشتري،والخامس(الجينيق)للقمر،والسادس لعطارد،والسابع(باب توما) للزهرة.

ثم دخل الرومان سوريا،وعندما اعتنقوا المسيحية في عهد الامبراطور قسطنطين،حوّلوا أسماء الأبواب من وثنية إلى مسيحية لتذكارات قديسين وأعياد،ومنها في دمشق:باب توما كان للزهرة وخصص لإسم الرسول توما،وهو أحد  رسل المسيح الإثني عشر.وباب بولص وهو باب كيسان وقد كان لزحل.

وأقام الرومان بالقرب من باب توما كنيسة وديراً إلى جهة الشمال منه.

وعندما سقطت دمشق بيد الفاتحين العرب المسلمين ودخل القائد عمرو بن العاص من باب توما كما ذكر البلاذري.

القصاع:

حي سكني إلى الشمال من باب توما.ظهرت هذه التسمية بأواخر القرن التاسع عشر،نسبة إلى القصّاعين الذين كانوا بالمنطقة،وهم من يعملون القِصاع،مفردها القَصعة وهي وعاء من الفخار أو النحاس يستعمل للطعام كالصحن العميق الواسع.

وكانت في موضع القصّاع قديماً قرية آرامية عرفت باسم”بيت لهيا” وتعني بالآرامية بيت الآلهة،ثم اضمحلت في القرن العاشر للهجرة وصار في موضعها بساتين عرفت باسم”بساتين الزينيبية”نسبة لعين ماء فيها تسمى الزينبية.

وكان أول مبنى أقيم في هذه البساتين هو مستشفى فيكتوريا المعروف بالمشفى الإنكليزي ثم تلاه المستشفى الفرنسي عام 1904م.

وفي عام 1925م فُتح شارع بغداد وربط هذان المستشفيان ببوابة الصالحية،وتلا ذلك نزوح العائلات المسيحية من حي الميدان بعد أن أشبعها المستعمر رعباً من الثوار فسكنت فيه.كما زاد من اتساع حي القصاع سكنى اللاجئين الأرمن الذين هربوا من تركيا وأقاموا بدمشق خارج الباب الشرقي.وفي عام 1931م ربط هذا الحي بخط الترام حتى ساعة المرجة.

القصور:

منطقة تمتد بين جادة الخطيب وساحة العباسيين.وكانت في السابق تسمى”بستان الكزبري”وكان فيها مباني على طراز الفيلات فدعيت بالقصور.

الشيخ رسلان:

محلة خارج باب توما.سميت نسبة إلى الشيخ الزاهد المتصوف المشهور أرسلان الدمشقي،وتسميه العامة”الشيخ رسلان”.وهو أرسلان بن يعقوب بن عبد الرحمن بن عبد الله الجعبري،أصله من قلعة جَعبر،وكانت وفاته بين عامي 555 ـ 560 هجري،كما ثبت كتاب ابن طولون”غاية البيان في ترجمة الشيخ أرسلان”.

ولازال مقام الشيخ أرسلان معروفاً اليوم بدمشق،وفيه ثلاثة أضرحة:أحدها للشيخ أرسلان،والآخر للشيخ أبي عامر المؤدب معلّم الشيخ أرسلان وبه أيضاً رفات إبراهيم بن عبد العزيز السندي خادم الضريح الأرسلاني ومحمد بن سوار بن إسرائيل بن الحسن الشيباني الدمشقي،والثالث لأبي المجد خادم الشيخ أرسلان.كما دفن في هذه التربة الشيخ أحمد الحارون العارف بالله.

وكان أصحاب الشيخ أرسلان يلقبونه باسم”الباز الأشهب”.

البحصة:

حي غربي سوق ساروجة،بين ساحة المرجة وبوابة الصالحية.وأما تسمية البحصة فهي لفظة عامية تعني:الحصاة مفرد حصى،حصب حصباء.ومرد هذا الاسم هو وقوع المنطقة المذكورة على الحافة الشمالية لنهر بردى شمالي ساحة المرجة.

البرامكة:

محلة كبيرة غربي محطة الحجاز وجنوبي جامعة دمشق.أطلقت التسمية نسبة إلى مقبرة البرامكة التي كانت في هذا الموضع.وفي عهد المماليك غلب على المحلة اسم مقابر الصوفية أو تربة الصوفية لأنها اختصت آنذاك بأضرحة المتصوفة،وممن دفن فيها ابن تيمية وابن كثير وابن الصلاح الحنبلي وقطب الدين الخُضيري.ثم شيد أواخر العهد العثماني ثكنة القشلة الحميدية،ثم تحولت هذه الثكنة أيام الانتداب الفرنسي إلى نواة الجامعة السورية التي ضمت في البداية مدرستي الطب والحقوق.وكان من نتيجة ذلك أن اندثرت غالبية قبور الصوفية ولم يبق لها أثر.

الحلبوني:

زقاق بمحلة البرامكة.وكانت محلة الحلبوني تعرف في العهد المملوكي باسم”وادي الأعجام”،وفي العهد العثماني تحول الاسم إلى بستان الأعجام،كما حمل بأواخر القرن التاسع عشر اسم زقاق المَنلا،وبقي يعرف بذلك حتى اشتراه حسن أفندي الحلبوني وعمّر فيه قصره سنة 1340 هجري.وعمّر إلى جانبه الجامع فَعُرف به.أما نسبة الحلبوني فتعود إلى قرية حلبون من قرى التل شمالي دمشق تشتهر بجبالها ومتنزهاتها.

مرجة الحشيش:

مكان معرض دمشق الدولي(قبل نقله إلى موقعه الحالي).

كانت المرجة منذ القرون الوسطى ميداناً عاماً للمدينة وتعرف باسم “المرج الأخضر”،وكانت تمتد من موضع التكية السليمانية حتى مكان ساحة الأمويين،وما يليها غرباً يدعى “صدر الباز”وشرقيها”ميدان الشقراء” و”وادي البنفسج”.

ولمرور نهر بردى في قلبها أول دخوله المدينة اتسمت المحلة بالنضارة والاخضرار فسميت بهذا الاسم.وكانت متنزهاً كبيراً تقام فيه السيارين،وفيها الرياض وميادين سباق الخيل  والمطاعم.

ومن أجمل أقسامها كانت”بين النهرين”والتي تسمى اليوم ساحة المرجة.

وكانت المحلة تدعى قديماً”مرج السلطان”أو “ميدان ابن أتابك”،نسبة للسلطان العادل نور الدين الشهيد،الذي جعلها وقفاً للحيوانات المريضة ترعى فيها بحرية وأمان إلى أن يوافيها الأجل.

وفي بدايات العهد المملوكي عرفت المحلة باسم”ميدان القصر” نسبة إلى القصر الأبلق الذي أقامه فيها السلطان الظاهر بيبرس في أواسط القرن السابع الهجري،وكان من محاسن دمشق،في موضع التكية السليمانية اليوم.ثم في القرن التاسع للهجرة صارت المحلة تعرف باسم”الميدان الأخضر”.وفي أوائل القرن العشرين الميلادي عرفت المحلة باسم”المرجة الخضراء” أو”مرجة الحشيش”.وفي زمن الاحتلال الفرنسي أقيم فيها الملعب البلدي وميدان لسباق الخيل.ثم أقيم على أرضها معرض دمشق الدولي عام 1954م .

بوابة الصالحية:

اسم الصالحية يغلب اليوم على هذه الساحة بين الناس،وفي الأصل الصالحية اسم لكل الضاحية الكبيرة التي تقع على سفح جبل قاسيون مشرفة على دمشق من جهتها الشمالية الغربية،وتمتد حتى جامع الألربعين شمالاً وإلى العفيف غرباً.

وتشمل محلات وأحياء وحارات كثيرة.ولما ازداد عمران ضاحية الصالحية في أواخر القرن الفائت وأوائل الحالي(القرن العشرين) لم تعد تعرف باسمها العام،بل صارت تعرف متفرقة بأحيائها القديمة والحديثة  كالشيخ محيى الدين وركن الدين وأبي جرش والمهاجرين وحي الأكراد ….وفي الربع الثاني من القرن العشرين نظمت في موقع بوابة الصالحية ساحة عرفت باسم ساحة بوابة الصالحية،ثم أطلق عليها اسم ساحة يوسف العظمة،وهي اليوم من أشهر ساحات دمشق،وقد يدعوها البعض باسم ساحة المحافظة لوقوع مبنى محافظة مدينة دمشق عندها.

الطلياني:

حي بأسفل الجسر الأبيض،ويعرف أيضاً بجادة الطلياني.ونشأت هذه الجادة في زمن نشوء طريق الصالحية،وكان موضعها بستان يُعرف ببستان شحرور.وهي تمتد من جادة عرنوس إلى ساحة الجسر الأبيض مخترقة بستان الرئيس شرقيها وبستان غنيم غربيها،ومنها يمتد زقاق الحياة نسبة إلى مدرسة الحياة أو مدرسة الطب التي كانت في قصر زيوار باشا العظم.وسميت بذلك نسبة إلى المدرسة والمستشفى الإيطاليين القائمين فيها.وقد أسست المدرسة عام 1911 م وابتدأ بناء المستشفى عام 1913م وافتتح عام 1925م.وكان إلى جنوبه مقر القنصلية الإيطالية.

عرنوس:

محلة بين الشهداء والطلياني.والمحلة كانت تضم تربة لآل عرنوس،وهم عائلة دمشقية معروفة من حي سوق ساروجة،وكان ضريح الولي عرنوس معروفاً ويعرف باسم سيدي الشيخ عرنوس.

الشهداء:

محلّة بين ساحتي البرلمان وعرنوس.سميت بذلك نسبة إلى “قبور الشهداء” القائمة ضمن قرية قديمة كان أسمها”أرزة” ذكرها الحافظ ابن عساكر،نزلها العرب منذ الفتح الإسلامي ثم اضمحل أمرها في منتصف القرن العاشر الهجري.ويقال أنهم ثلاثة أخوة من الصحابة قتلوا في فتح دمشق،وبني عندهم مسجداً.

وفي عصرنا الحاضر يرى الداخل إلى مسجد الشهداء هذه القبور الثلاثة،وقد كتبت عليها الأسماء:حرملة ابن وائل،ومسعود بن جابر،واسم الثالث مساعد.

العفيف:

جادة آخذة من الجسر الأبيض إلى حي الشركسية.وسبب التسمية وجود الجامع الموجود فيها والذي ينسب إلى “الشيخ العفيف” والموجود ضريحه داخل الجامع،والعامة تسميه”الشيخ تقالة”.

شُورى:

أول طلعة من شارع ناظم باشا”السكّة).وتعرف بطلعة شورى وهي الطلعة الآخذة من بداية حي المهاجرين شرقاً إلى الجادات العليا.وكانت تسمى سابقاً زقاق المهندس.والإسم مستمد من عائلة شورى الدمشقية المعروفة.

المرابط:

من أحياء المهاجرين،الجادة الأولى،السكّة.وتنسب التسمية إلى جامع المرابط،الذي أوصى ببنائه التاجر مراد المرابط المغربي الذي توفي عقيماً،وقد سعى في بنائه أخوه علي أفندي المرابط.وتم البناء عام 1930م.وهو اليوم من مساجد حي المهاجرين المعروفة.

الشعلان:

محلة غربي جادة الصالحية.

في مطلع العشرينات من القرن العشرين اشترى الشيخ نوري الشعلان رئيس عشيرة الروّلة من ياسين باشا الهاشمي رئيس وزراء العراق السابق المتوفى بدمشق داره الكائنة في المحلة المذكورة،ومنذ ذلك الحين حملت الدار والمحلة معاً اسم”الشعلان” نسبة إلى الشيخ النوري الذي قضى أواخر حياته فيها حتى وفاته عام 1942م.كما قام الشيخ المذكور ببناء مسجد بجوار داره عام 1926م فعرف باسمه.وما زال المسجد والدار قائمين معروفين إلى أيامنا،وبقي اسم الشعلان شائعاً على المحلة.

المهاجرين:

منطقة سكنية واسعة على سفح جبل قاسيون.

عقب فقد الدولة العثمانية بعض أراضيها في أوروبا كالبلقان،هاجرت أعداد كبيرة من العائلات المسلمة التي كانت تقطن فيها إلى البلاد الإسلامية،ولذا كلّف السلطان العثماني عبد الحميد خان الثاني والي دمشق حسين ناظم باشا بإيواء بعضهم،فاختار منطقة على سفوح جبل قاسيون كانت تدعى الردّاَدين للإقامة هؤلاء المهاجرين الذين وصلوا دمشق قادمين من”الرومللي” سنة 1890 و 1896م.

وفي عام 1900 وصل فوج جديد من اللاجئين من جزيرة كريت إثر مذابح عام 1897م،فأنشأ لهم حسين ناظم باشا حياً آخر على بعد 200 متر إلى الغرب من المنطقة الأولى،وسميت المحلة بأكملها”المهاجرين” نسبة إليهم.وما زالت تقطن دمشق عائلة منهم وتعرف ب”الكرتلي”وحرف الاسم إلى “كردلي”.

لكن حي المهاجرين لم يكن المنطقة الوحيدة التي نزلها الكريتيون،فقد كانوا أيضاً في سوق ساروجة بالقرب من جامع يلبغا.

وفي عام 1905م بدأ تطور حي المهاجرين نحو الغرب،وزاد نموه بسرعة عام 1913ن إثر إيصال الترام إليه،كما زاد تسارعه منذ عام 1920م.

سوق ساروجة:

حي كبير بين العقيبة وبوابة الصالحية.وهو أول منطقة من دمشق بُنيت خارج أسوار المدينة في القرن الثالث عشر الميلادي.

أصل التسمية:سُويقة صاروجا،ومعنى السويقة كمصطلح عمراني:تجمع سكني صغير مستقل ذو بوابة أحياناً،وبه مسجد أو جامع وسوق صغيرة ومنها أتت تسمية السويقة بصيغة التصغير،وحمام وفرن،وجميع المستلزمات الحياتية للتجمع المدني.وأسلوب السويقات لم يكن معروفاً في مدينة دمشق القديمة داخل السور،ولكن بدءاً من القرن السادس الهجري بدأت تظهر مجمّعات سكنية خارج السور على شكل سويقات صغيرة كالعقيبة مثلاً،بعد أن كانت المناطق الواقعة خارج الأسوار تقتصر على الميادين غير المأهولة بشكل سنوي دائم.

وهذه السويقات أصبحت نواة الضواحي التي اتسعت فيما بعد،وخير مثال على ذلك ضاحية الميدان الكبرى التي فاقت بحجمها مدينة دمشق القديمة نفسها.وازدهرت عمارة السويقات في عهد المماليك خصوصاً(من أواسط القرن السابع إلى مطلع القرن العاشر الهجري)،فمنها سويقة صاروجا.

إن أقدم ما يعرف عن المحلة التي نشأت بها هذه السويقة،هو أنها كانت إبان عهد السلاجقة أحد الأرباض المتاخمة للمدينة،ولم يكن بها أي عمران يذكر،اللهم إلا بعض المنشآت الصغيرة الخاصة ضمن البساتين غير المعمورة.

وفي العهد الأيوبي ازدهرت المحلّة بقيام المدرسة الشامية البرانيّة التي أمرت بإنشائها الخاتون ستّ الشام أخت صلاح الدين الأيوبي في عهد حكم أخيها السلطان الناصر.وتعتبر هذه المرحلة نقطة البداية في ازدياد أهمية المحلّة،وذلك لضخامة المدرسة آنذاك وتأثيرها الكبير في الحياة العلمية بدمشق.

ثم في عهد المماليك ،إثر انحسار خطر التتار الذين أصيبوا بهزيمة ساحقة في معركة عين جالوت على يد المماليك عام 658هجري،نشطت حركة العمران بشكل هائل في مدن الدول المملوكية،خصوصاً إثر القضاء على خطر الغزاة الصليبيين في عهد السلطان المنصور قلاوون وابنيه السلطانين الناصر محمد والأشرف خليل،وعلى يد هذا الأخير تم القضاء نهائياً على الوجود الصليبي في بلاد الشام بسقوط عكا عام 690 هجري.

وفي عهد حكم السلطان الناصر محمد ابن قلاوون الذي تسلطن 32 عاماً حافلة بالإستقرار والمآثر الحضارية،حظيت دمشق باهتمام كبير على يد كافلها الأمير الكبير سيف الدين تنكز الناصري،الذي كان أثيراً لدى السلطان الناصر المذكور،وكان للناصر شغف بالغ بدمشق فقد عاش فيها سنّي طفولته.وبلغت دمشق ذروة بهائها حتى خاتمة تنكز المفجعة بإعدامه عام 740 هجري على يد صاحبه السلطان الناصر بنفسه.

وفي حكم النائب تنكز كان نشوء سويقة صاروجا المملوكية،على يد الأمير المملوكي صارم الدين صاروجا المظفري،في عام 740 هجري،وهي نفس السنة التي أعدم فيها تنكز.

ومنذ بداية نشوءؤ هذه السويقة اتسع فيها العمران،ويرى الباحث الفرنسي “سوفاجيه” أنها كانت خاصة بإسكان الضباط والجنود المماليك،ولذلك كان فيها حارات”الديلم” و”السودان”.وهؤلاء من طوائف العسكر المملوكي .ولكن قامت أيضاً في الحي مجتمعات مدنية وخاصة في القرن التاسع الهجري ومنها مسجد عمر بن موسى الدوادار المعروف اليوم بمسجد القرمشي في زقاق الكمّار،وتربة بَلبان في حارة قولي،ومسجد برسباي في حارة الورد.

ومنذ نشوء الحي في أواسط القرن الثامن الهجري حمل اسم مؤسسه الأمير صاروجا،وسمته العوام في دمشق فيما بعد ساروجا أو سوق ساروجا بدلاً من سويقة صروجا.

وأما الأمير صاروجا فقد أسرّ فيما بعد وسُملت عيناه عام 740 هجري وأرسل إلى القدس ثم عاد إلى دمشق ومات فيها أواخر عام 743هجري كما ذكر المؤرخ صلاح الدين الصفدي،ولا يعرف أين دفن.

على أن حي سوق ساروجة لم يشهد نهضته الكبرى إلا في العهد العثماني،حينما بدأ بالاتساع شمالاً نحو عين كرش وبساتين الصالحية،وقامت به في القرن الثاني عشر الهجري كثير من الدور الجميلة الفارهة والحمامات الأنيقة الواسعة،بالإضافة إلى المساجد القديمة.واستمر الحي في الرقي والاتساع حتى حمل لقب”اسطنبول الصغيرة”.

ومن أشهر الأبنية الأثرية الموجودة في ساروجة اليوم:المدرسة الشامية البرانية،جامع الورد،حمام الورد،حمام الجوزة،حمام القرماني،بيت العابد،بيت العظم،بيت اليوسف،بيت الإبش(وفيه قاعة الصيد المشهورة).

جوزة الحَدبا:

زقاق بسوق ساروجة.وكان قديماً يعرف باسم”طلعة جوزة الحدبا”أو “نزلة جوزة الحدبا”،فأما اسم الجوزة فهو نسبة إلى شجرة جوز كانت هناك في القرن التاسع عشر سمي بها الحي،ولقبت بالحدباء لأنها كانت مائلة الجذع.وكان في هذا الموضع مسجد قديم من العهد الفاطمي،بناه الوزير المزدقاني،لم يبق منه إلا كتابته وهي ماثلة اليوم.

حارة العبيد:

في حي سوق ساروجة غربي حارة الورود.وأورد المؤرخ ابن طولون الصالحي في معرض تعداده لحارات دمشق في القرن العاشر الهجري:حارة السودان وحارة الديلم بسويقة صاروجا.فيبدو من كلامه أن هاتين الحارتين كانتا منزلاً لبعض فرق العسكر المملوكية من الجُلبان(المرتزقة الأجانب)السودان والديلم،والمراد بالسودان الزنوج الأفارقة،أما الديلم فهم من شعوب آسيا الوسطى عند بحر الخزر.والواقع أن حي سويقة صاروجا عندما أنشىء في القرن الثامن الهجري بعهد المماليك كان ضاحية خارج سور المدينة تتبلع لبعض الأمراء والعسكريين المماليك،فلم يكن غريباً أن يضم منازل لأسكان الجند،وكان منها على ما يبدو هاتان الحارتان.ولعل اسم “السودان” تحول بالتواتر إلى”العبيد” وبقي إلى عصرنا الحاضر.

حارة القرماني:

في سوق ساروجة.سميت نسبة ألى مسجد القرماني الموجود بها،أنشأه محمد القرماني في العهد العثماني عام 969هجري،ونسبة الإسم”القرماني” إلى قَرمان أو كَرمان،مدينة في أواسط بلاد الترك الآسيوية كانت عاصمة سلالة قرمان أوغلو في القرن الثامن الهجري.وقرمان أوغلو أعظم سلالة تركمانية نشأت في آسيا الصغرى بعد سقوط السلطنة السلجوقية أواخر القرن السادس الهجري.قضى عليها الأتراك العثمانيون سنة 872 هجري.

حارة قولي:

في سوق ساروجة.تنسب إلى أسرة القولي التي كانت تقيم في المحلة المذكورة،وذكر طلس:قيل لنا أن بها ولياً به سًميّت،ولا زال موجوداً إلى اليوم يسمى”شيخ محمد”.ومعنى اسم القولي أو الخولي متعهد أو ناظر المزرعة.أنشئت هذه المحلة في عهد نائب السلطنة الملوكي الأمير سيف الدين تنكز بأيام السلطان الناصر محمد بن قلاوون.

حارة المفتي:

في سوق ساروجة،بحذاء جامع الورد.وسميت نسبة إلى قصر المفتي المرادي الذي عمرّه جدّ العائلة مراد بن علي المرادي(توفي 1132هجري) في آخر الحارة،ومكانه اليوم بناء حديث.وآل المرادي أسرة توارثت افتاء الحنفية بدمشق فترة من الزمن في النصف الثاني من العهد العثماني،وكان منهم على سبيل الذكر محمد خليل بن علي المرادي(توفي 1206 هجري) المؤرخ المشهور صاحب كتاب”سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر”….فشاع لقب”المفتي” على قصر المرادي في سوق ساروجة،ثم أطلق الاسم على الحارة بكاملها.

حارة الورد:

في سوق ساروجة.سميت نسبة إلى”حكر الورد” الذي كان في موقعها وكان هذا الحكر ملكاً للأمير ابن صُبح في أيام نائب السلطنة المملوكي سيف الدين تنكز،وذلك قبيل إنشاء سويقة صاروجا التي ابتدأ إنشاؤها عام 740 هجري عشية مقتل تنكز في نفس السنة المذكورة.وكانت في هذا الحكر دار الأمير ابن صبح وقد مكثت ذريته في نفس هذه المحلة وبقيت أعقابهم في حارة الورد إلى أيامنا الحاضرة،وهم آل سَبح من الأسر الدمشقية المعروفة،وهدمت دارهم بأواسط الثمانينات من القرن العشرين عند تنظيم المنطقة.والطريف أن اسم”صبح” تحوّل مع الأيام إلى “سبح” لعدم وجود حرف الصاد في الأبجدية الكردية،حيث أن الأمير ابن صبح كردي الاصل.

كان أول ذكر لإسم “الورد” في تسمية حكر الورد السابقة لسويقة صاروجا،ثم اختفت التسمية من مصادر القرن الثامن لإستحداث تسمية”سويقة صاروجا” التي شملت الحكر المذكور وعمّت على كامل المنطقة.ويبدو ان اسم “الورد” قد عاد إلى الظهور مجدداً ،وأطلق على الحمام الذي اكتمل بناءه في سنة 722هجري والذي بناه الأمير علاء الدين ابن صبح جوار داره شمالي الشامية البرانية.واطلق عليه اسم حمام الورد كما ذكر ابن عبد الهادي في كتابه ثمار المقاصد في أواخر القرن التاسع الهجري.وأطلق أيضاً اسم جامع الورد على جامع برسباي(نائب دمشق المملوكي المتوفى عام 852هجري).

ستّي زيتونة:

نزلة ستّي زيتونة في سوق ساروجة،شرقي سلطان مجاهد.والعوام تظن ستي زيتونة وليّة صالحة،وهو من أوهام العامة.بل إن هناك لافتة خشبية فوق باب قديم لحجرة شبه متداعية كتب عليها:”هذا مقام الشهداء الستة الذين دفنوا تحت الزيتونة”.ولا وجود للزيتونة اليوم،ومن غير المعروف من هم هؤلاء الشهداء.

السلطان مجاهد:

موضع بين سوق ساروجة والعقيبة.أطلقت تسميته نسبة إلى الغازي المجاهد شمس الدين شروة ابن حسين المهراني المعروف ب”سبع المجانين” أو “السبع المجانين” المتوفى في العهد الأيوبي سنة 642هجري،والمدفون بمدرسته المعروفة”المدرسة المجنونية” والتي كانت في المحلة المذكورة وبقيت منها اليوم تربته،وفوق نافذتها حجر منقوش بالنص المؤرخ.

ومع الزمن تبدّلت تسمية”السبع مجانين” على ألسنة الناس إلى “السبع مجاهدين” ثم حُرفت التسمية إلى “الشيخ مجاهد” وإلى “سيدي مجاهد”

العقيبة:

حي كبير إلى الشرق من سوق ساروجة.يعود تاريخه إلى أكثر من 700 عام.ويحتوي الكثير من البيوت الأثرية والجوامع والجادات التي تعود لمئات السنين،كانت السبب في إدراجه ضمن مدينة دمشق القديمة رغم وقوعه خارج السور.

كانت المنطقة تسمى قديماً أرض”الأوزاع“،نسبة إلى قبيلة الأوزاع اليمانية التي كانت تقيم في هذا الموضع في القرن الاول للهجرة،وهي من بطون حمير أو همدان،ومن مشاهيرها أبو عمرو عبد الرحمن ابن عمرو الأوزاعي المتوفى في بيروت سنة 157هجري وهو الذي نسبت إليه ضاحية الأوزاعي هناك،وقبره فيها معروف.

ثم في القرن الخامس أو السادس للهجرة عُمرّت هذه المنطقة في العهد السلجوقي،وصارت تعرف ب”العقبة الكبرى” أو”العقبة العتيقة”،والعقبة بالعربية المرقى الصعب من الجبال أو الطريق في أعلى الجبل،ثم خُفف الاسم على ألسنة الناس إلى”العقيبة” بصيغة التصغير،وذكر ابن عساكر:”سميت بذلك لوقوعها على المنحدر الذي يحدّ وادي النهر من ناحية الشمال.

وقد وصفها القلقشندي في موسوعته صبح الأعشى في مطلع القرن التاسع:وأما جانبها الشمالي،ويسمى العقيبة،فهو مدينة مستقلة بذاتها،ذات أبنية جليلة وعمائر ضخمة يسكنها كثير من الأمراء والجند.

ويحدد ابن طولون موقعها قرب محلة قناة العوني قبالة باب الفراديس من خارجه وقرب جامع الجوزة.

يضم الحي العديد من الأماكن الأثرية التي أعيد ترميمها كفندق”صح النوم” و”القصر الشامي”،كما يحوي الحي جامع”تحت المئذنة” وهو الجامع الوحيد الذي يحتوي مئذنة دون جامع.ولعل من أهم المساجد الموجودة في الحي نذكر جامع التوبة.

وقد سكنته على مدار مئات السنين الكثير من العائلات نذكر منها:الحلبي،البرهاني،السمان،القحف،الحافظ،دبس وزيت،….

قفا الدور:

المنطقة الاقعة شرقي عين الكرش،بينها وبين مقبرة الدحداح.

السّمانة:

حي إلى الشمال من منطقة العقيبة.اسمها الشائع”مطرح ما ضيّع القرد ابنه”،وأما اسم السمانة فيبدو أنه أطلق عليها نسبة لحرفة السِّمانه،والسّمان هو من يبيع السمن ومشتقاته،وأما في لهجة أهل دمشق فهو أيضاً البقّال عموماً.

تحت المادنة:

في حي العقيبة،عند جامع الخرزمي.سميت بهذا الاسم نسبة إلى جامع الخرزمي،والذي يعرف أيضاً بجامع الجرن الأسود أو جامع تحت المادنة’وذلك لأن مئذنته تقع أمامه ويفصل بينهما الطريق.

حارة القرد:

في حي السّمانة بالعقيبة.وتعرف أيضاً باسم حارة العجام.والطريف في الأمر أن اسمها الشائع على ألسنة الناس هو(مطرح ما ضيّع القرد ابنه).

حارة ألاعجام:

في محلة قفا الدور في العقيبة.ويقال أن بعض الحجاج الأتراك والألبان وغيرهم كانوا ينزلون هذه الحارة عند موسم الحج في طريقهم إلى الحجاز،ولذا سميت حارة الأعجام.وكانت هذه الحارة تعرف أيضاً بحارة القرد وحارة الجديدة،كما يطلق عليها اليوم:حارة العجام.وفيها مسجد قديم مجدد يعرف بمسجد السمرقندي.

حكر السرايا:

بمحلة مسجد الأقصاب من حي العقيبة.وهي تسمية قديمة من العهد العثماني،ولا نعلم ما هي السرايا التي سميت المحلة بها،غير أن فيها إلى اليوم دوراً كبيرة فخمة لعلها كانت مصدر التسمية.وبالمحلة مسجد قديم يعرف باسم مسجد حكر السرايا.

الديمجية:

في السّمانة من حي العقيبة.وأصل الكلمة:حرفة كانت رائجة بدمشق في العهد العثماني وهي(الدِّيما)وصاحبها الدِّيمجي:وهو حائك شقق قماش الديمة،من القطن بوجه الخصوص.

الدّاقور:

في محلّة السلطان مجاهد بالعقيبة.وأما الاسم فيظن أنه اسم علم أو كنية.

الدحداح:

بين العقيبة والعمارة البرانية،في شارع بغداد اليوم.كان مكانها قديماً مرج يعرف بمرج الدحداح نسبة إلى أبي الدحداح الدمشقي المحدّث الذي دفن فيه،وهو أحمد بن محمد بن اسماعيل التميمي الدمشقي المتوفى عام 372هجري.وكان هذا المرج مجاوراً لمقبرة الفراديس المواجهة لباب الفراديس شمالي السور،وهذه المقبرة تنسب بدورها إلى قرية الفراديس التي شاع عليها أيضاً اسم”الأوزاع” في القرون الأولى للفتح،ومن الأسماء الأخرى التي أطلقت على مقبرة الفراديس:مقبرة الذهبية.

ومع الأيام اندمج مرج الدحداح مع المقبرة وصار جزءاً منها،غير أن اسمه غلب عليها ونسي الناس اسم الفراديس.

وقد تغيرت حدود المقبرة على مر العصور،وفي العصر الحديث أزيل منها قسم عند شقّ شارع بغداد عام 1925م وكان هذا القسم يضم قبّة قديمة وقبوراً سلجوقية نقلت بعض أحجارها إلى مقبرة الدحداح الحالية.

وتعتبر مقبرة الدحداح من أهم وأكبر مقابر مدينة دمشق،وهي الثانية في الحجم بعد مقبرة الباب الصغير،تضم إلى اليوم قبوراً قديمة كقبر المؤرخ أبي شامة،وتؤلف شواهدها مادة مفيدة للدراسات التاريخية،كما تضم عدداً من أضرحة شهداء الثورة السورية وضحايا مجزرة البرلمان عام 1945م.

ومن الأعلام المدفونين فيها نذكر:أنور العطار،محمد جميل الشطي،محمد خيري المفتي،محمد رضا العطار،حسني الزعيم،نهاد قلعي…

العمارة:

حي كبيرشمالي دمشق القديمة،داخل السور وخارجه.سُميَّ الحي نسبة إلى “عمارة الأخنائي” وهي بناء أقامه شمس الدين محمد الأخنائي خارج باب الفراديس.ولا يُعلم موضعها على التعيين،أنشئت في القرن الثامن الهجري من العهد المملوكي،فصار الناس يلهجون باسمها ويقولون:عند عمارة الأخنائي.

والحي قسمان:قسم داخل سور المدينة القديمة ويدعى”العمارة الجوانيّة”،والآخر خارج السور ويدعى”العمارة البرانيّة”.

حارة المزابل:

بحي العمارة الجوانية.قيل أنه كان لقصر الأمير عبد القادر الجزائري الذي أنشأه بالعمارة الجوانية في أوائل القرن التاسع عشر جسر خشبي على فرع من نهر العقرباني،يصل بين زقاق النقيب(الذي به القصر)وبين حي الشرف الأعلى،وكانت بقرب الجسر أرض خلاء استخدمت لتلقى فيها مزابل القصر،فسميت لذلك “المزابل”.ثم صارت هذه الأرض حارة أو محلة وأضحى بها في أواخر القرن التاسع عشر جنائن ومتنزهات على طرفي النهر.

المناخلية:

محلة وسوق بين سوق العصرونية وشارع الملك فيصل.يعود تاريخه إلى أكثر من 1800عام.

أول ذكر ورد لها كان في القرن السادس للهجرة عند ابن عساكر باسم”سوق المناخليين”.وكلمة مناخليين أو مناخلية هي حرفة من يتعاطون صناعة أو بيع المناخل،وهي ما يُنخل به من دقيق وسواه بقصد غربلته وإزالة نخالته.والأن أصبح الحي وتحول إلى تجارة الخردوات والعدد الصناعية.

يضم سوق المناخلية مباني تاريخية هامة ومنها:جامع سنان باشا،وباب الفرج وهي إحدى بوابات دمشق السبع.

مقبرة الباب الصغير:

مقبرة كبيرة خارج الباب الصغير،جنوب غرب دمشق القديمة.يرجع تاريخها إلى السنوات الأولى لدخول الإسلام.

كانت أكبر مقابر دمشق في العصور الماضية ولا زالت إلى اليوم،واسمها الشائع:تربة باب الصغير،أو باب الصغير اختصاراً.وكان قبل الفتح الإسلامي لدمشق خارج كل باب من أبوابها مقبرة،كمقبرة الباب الشرقي وباب توما والفراديس(الدحداح اليوم)ومقبرة باب كيسان،غير أن مقبرة الباب الصغير كانت على مدى تاريخ دمشق الطويل المقبرة الكبرى للمدينة،حتى أنها تعتبر اليوم ذات قيمة أثرية لما تضمه من كتابات قديمة على شواهد القبور العائدة إلى جمسع العصور التي مرّت بها المدينة دون استثناء.وهي اليوم بالإضافة إلى مقبرة الدحداح كل ما تبقى من المقابر القديمة خارج أبواب دمشق.

ومن الأضرحة المشهورة فيها نذكر:

معاوية بن أبي سفيان،والوليد بن عبد الملك،وشمس الدين الذهبي،وابن هشام النحوي،وابن رجب الحنبلي،وابن قيم الجوزية،وابن عساكر،والرئيس شكري القوتلي،والشاعر نزار قباني…

الجسر الأبيض:

بين طريق الصالحية وجادة العفيف.وسميت المحلة نسبة إلى جسر كان بها يقع على نهر ثورا ويوصل إلى الصالحية،أطلق عليه اسم جسر ثورا أو الجسر الأبيض.والجسر الأبيض كان قائماً منذ القرن السادس الهجري على الأقل،بدليل ذكره من قبل المؤرخ ابن عساكر.ومحلة الجسر الأبيض كانت في عهد المماليك بقعة من أنزه أراضي دمشق،وصفها أبو البقاء البدري في القرن التاسع في كتابه المشهور”نزهة الأنام في محاسن الشام”.

جسر فكتوريا:

جسر على نهر بردى عند تقاطع شارع بيروت وشارع سعد الله الجابري.عُمّر هذا الجسر فوق نهر بردى ليصل بين محطة القطار وفندق فيكتوريا،وذلك ما قبل عام 1912م،وسمي نسبة إلى الفندق الذي حمل اسم الملكة فيكتوريا  التي كان مقرراً أن تزور دمشق ولكن الزيارة لم تتم.

ولقد زال الجسر اليوم وكذلك الفندق،وبقيت تسمية جسر فيكتوريا قائمة على الموقع الممتد بين التكية السليمانية ومبنى الحايك غربي ساحة المرجة.

الجقمقية:

في حي الكلاسة إلى الشمال المجاور للجامع الأموي.وسميت نسبة إلى المدرسة الجقمقية الموجودة فيها،وهي من الآثار المملوكية بدمشق،أنشأها الأمير سيف الدين جقمق الداوادار سنة 824 هجري بعدما كانت خربة إثر نكبة تيمورلنك.واسم جقمق بالتركية:قداحة من حجر الصوان لإشعال النار.

الشاغور:

حي كبير يمتد داخل القسم الجنوبي الغربي للمدينة القديمة وخارجه.ويقال أن اسم الشاغور:هو من معنى جريان الماء وتدفقها.وهو حي شامي دمشقي قديم ويعد من أعرق الأحياء فيها.وكان في فترة الاحتلال الفرنسي من المواقع الهامة في المقاومة الوطنية،ومن أبرز زعمائه:يوسف العظمة وحسن الخراط.

الميدان:

أكبر ضواحي دمشق الجنوبية.وأقدم ذكر للميدان ورد عند المؤرخ ابن القلانسي في القرن السادس الهجري،وكذلك ابن عساكر الذي يقول في تاريخ دمشق:حارة الميدان المعروفة بالمُنية.ويوجد في الميدان مسجد قديم يعود إلى العهد الفاطمي ويعرف بمسجد “فلوس”.

وسميت المنطقة بذلك لأنها كانت ميداناً رحباً واسعاً تقام فيه سباقات الخيل وجميع ضروب الفروسية من مبارزة ورماية ومصارعة.

ومن الأسماء القديمة التي أطلقت عليه”ميدان الحصى”وكان هذا الإسم مختصاً بالمحلة المحاذية لجامع باب المصلى التي كانت لقربها من المدينة أول ما سكن من أراضي الميدان،وعرفت باسم”الميدان التحتاني”.ثم شاع اسم “ميدان الحصى” ليشمل الضاحية برمتها،وسبب التسمية أنه كان يمر بأرضه الكثير من فروع بردى عبر العصور القديمة،فكانت الأنهار تحمل معها الحصى المتفتت من الجبال الغربية فترسب في أرضه قبل أن تتلاشى قوة المياه شرقاً باتجاه البادية.

هذا ولم تشهد ضاحية الميدان العمران الفعلي حتى عهد الدولة المملوكية،فقبل هذا العهد كانت المدينة تقوم ضمن السور ولم يكن خارجها ضواحي مسكونة أو عمران بالمعنى الصحيح(ما خلا العقيبة والصالحية).وفي العهد المملوكي بدأت الضواحي السكنية بالظهور خارج الأسوار،فمنها السويقات خارج أبواب المدينة كالسويقة المحروقة وسويقة صاروجا،عدا التوسعات التي طرأت على الصالحية والعقيبة.

وتقسم ضاحية الميدان في عرف أهل دمشق وأهلها إلى ثلاثة ميادين هي:الميدان التحتاني مما يلي محلة باب المصلى،ثم الميدان الوسطاني،ثم الميدان الفوقاني عند بوابة الله.ويضم الميدان أحياء وحارات عديدة جداً.

وكانت ضاحية الميدان تزدحم بالجموع الغفيرة من الناس مرتين في السنة:مرة عند خروج محمل الحج من “بوابة الله” بأسفل الميدان الفوقاني إلى الحجاز،والأخرى عند رجوعه إلى دمشق.

والميدان اليوم حي سكني يشتهر أهله بالنخوة والكرم تبعاً لأصولهم الريفية،كما قد تنسب إليهم بعض الشدّة”التخانة”فيقال:هدول الميادنة اصبعتهم تخينة”.كما أن حي الميدان ومنذ عشرات السنين مشهور بمحلات الحلويات السورية والمطاعم والمطابخ العريقة…

وقد اشتهر حي الميدان في مقاومة الفرنسيين.

ومن علمائه المشهورين نذكر:محمد الأشمر،وحسن حبنكة الميداني،وحسين خطاب،ومحمد كريّم راجح،وعبد القادر الأرناؤوط،ومصطفى البغا….

ومن المساجد التاريخية المشهورة في حي الميدان:جامع الحسن،وجامع الدقاق،ومسجد منجك،….

القابون:

ضاحية في الطرف الشمالي الشرقي من دمشق.وذكر محمد كرد علي أن اسم قابون سرياني،ويعني العامود.

قبر عاتكة:

من أحياء دمشق الجنوبية إلى الشمال من مشفى المجتهد.

كان في هذه المحلّة قصر أم البنين عاتكة بنت يزيد بن معاوية زوجة عبد الملك بن مروان،كانت تضع خمارها بين يدي اثني عشر خليفة كلهم لها محرم،فأبوها يزيد بن معاوية،وأخوها معاوية بن يزيد الملقب بمعاوية الصغير،وجدها معاوية بن أبي سفيان،وزوجها عبد الملك بن مروان(قد توفى في قصرها)وأبو زوجها مروان بن الحكم،وابنها يزيد بن عبد الملك،وبنو زوجها الوليد وسليمان وهشام أبناء عبد الملك،وحفيدها الوليد ابن يزيد،وابن ابن زوجها يزيد بن الوليد بن عبد الملك،وإبراهيم بن الوليد المخلوع.

وقصر عاتكة أمر ببنائه زوجها الخليفة عبد الملك بن مروان،في أنزه بقعة ظاهر دمشق،وسكنته مدّة حياتها ثم دفنت فيه.وفي العهد العباسي زال القصر،ولم يبق سوى القبر المنسوب إليها،وتحولت أرض عاتكة إلى حي سكني يعرف باسم قبر عاتكة.

الساحات الدمشقية

ساحة الأمويين

أوسع وأكبر ساحة بدمشق، أمام مبنى الإذاعة والتلفزيون ،إلى غربها على طريق الربوة.تقع عند النهاية الغربية للمدينة،وتؤلف عقدة مواصلات رئيسية،حيث تشكل نقطة التقاء بين ثلاث مناطق من مدينة دمشق القديمة والجديدة وهي:

ـ منطقة القنوات

ـ منطقة المهاجرين

ـ منطقة المزة

ويتفرّع عنها الطريق الآخذ إلى مصايف دمشق باتجاه لبنان ،وكذلك يصب في الساحة عدد من أهم شوارع دمشق وهي:شارع المالكي وأتوستراد المزّة ،وشارع شكري القوتلي،وشارع جواهر لال نهرو.

تم تنظيم هذه الساحة في عهد الإستقلال،وسميت بساحة الأمويين تيمناً بالازدهار الذي شهدته دمشق إبّان كانت عاصمة للعالم الإسلامي في العهد الأموي.ويوجد في طرفها نصب لسيف دمشقي كرمز لقوة المدينة ومنعتها.

يقع على أطراف الساحة عدد من المباني والمنشآت أهمها:

ـ الهيئة العامة للأركان

ـمكتبة الأسد الوطنية

ـ حديقة تشرين

ـ فندق شيراتون

ـ الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون

ـ دار الأسد للثقافة والفنون

ساحة الحجاز

أمام محطة الحجاز،عند تقاطع شارع النصر بشارع سعد الله الجابري.

أما بناء المحطة فقد كان جزءاً من مشروع السكة الحديدية الحجازية الضخم،الذي بدىء بتنفيذه سنة 1900م،وكانت الغاية منه ربط السلطنة العثمانية اسطنبول ببلاد الشام فالحجاز وصولاً إلى المدينة المنورة ومكة المكرمة،مما أضفى عليه اسم الحجاز.ويعود أكبر الفضل في إنشائه إلى أحمد عزة باشا العابد أمين سر السلطان عبد الحميد الثاني.

وتم إنشاء محطة الحجاز بدمشق قبيل الحرب العالمية الأولى(السفر برلك) التي اندلعت عام 1914م.والذي قام بهندستها مهندس ألماني وآخر اسباني ،وبنيت وفق طابع عمارة عربي متأثر بالعمارة الأوربية.

ساحة العباسيين

في الجهة الشرقية للمدينة،نهاية شارع حلب.يتفرع منها أهم الشوارع بدمشق كشارع بغداد،كما تعتبر المنفذ الحيوي للغوطة الشرقية كجوبر وزملكا وعربين وحمورية بالإضافة إلى الطريق الواصل لمطار دمشق الدولي والمناطق الجنوبية.

أنشئت هذه الساحة في عهد الاستقلال لتكون عقدة مواصلات رئيسة بين شارع حلب والقصور وكورنيش التجارة والزبلطاني،وهي اليوم من أهم ساحات المدينة.

ساحة المرجة:ساحة الشهداء

مركز المدينة،بين شارع النصر وحي البحصة.

كانت هذه المحلةّ في عهد المماليك لا أكثر من متنزه،بين مسجد يلبغا ومسجد تنكز المملوكيين،وكانت تتميز بالنزاهة والخضرة ويتفرّع بها بردى إلى فرعين بينهما جزيرة غنّاء تحفّ بها المياه.

ثم في منتصف العهد العثماني شاع اسم هذه المنطقة(الجزيرة)أو (بين النهرين)للسبب المذكور أعلاه،وبقيت مجرد متنزه يقصده الناس.

وفي عام 1807 م قام والي دمشق كنج يوسف باشا بعمارة مبنى هام في المكان الذي تقوم عليه اليوم بناية العابد.وصار هذا المبنى داراً للحكومة(سرايا الحكم)بعد أن كان مقرها في المشيرية(موضع القصر العدلي)

ومنذ ذلك الحين بدأت تزداد أهمية المحلة كموقع للأبنية الحكومية وكساحة رسمية للمدينة،ففي عام 1866م تولى دمشق محمد راشد باشا،وفي أيامه تمّت تغطية نهر بردى عند ساحة العدلية والبريد والبرق.وكذلك عزم والي دمشق مدحت باشا(ولّي 1878م) على إعادة تنظيم هذه المحلّة ولكن لم يُتح له المجال لقصر فترة ولايته.

ومنذ أن تولى حسين ناظم باشا دمشق سنة 1895م وانتهاء بناء دار البلدية(موضع بناء الشربتلي) وبناء السرايا الجديدة(وزارة الداخلية لاحقاً) صارت تسمية المنطقة:الميدان الكبير،أو ساحة السرايا.وأما تسمية ساحة المرجة فهي قديمة على ألسنة الناس،منذ أن كانت خضراء مغروسة بالاشجار والأزهار.

ومنذ ذلك الحين،أي عهد ولاية حسين ناظم باشا بأوائل القرن العشرين صارت ساحة المرجة هي الساحة الرسمية الرئيسية لمدينة دمشق،وتركزّت فيها دوائر الحكومة الهامة:سرايا الحكمـ دار البلدية ـ مبنى العدلية ـ مبنى البريد والبرق ـ مبنى طبابة المركز ـ بناء العابد.وهذا عدا عن الأسواق كسوق علي باشا،والفنادق كقصر الشرق،ودور السينما كزهرة دمشق والإصلاح خانة والكوزموغراف وغازي وسنترال وفاروق والنصر،والمقاهي كمقهى علي باشا والكمال والورد وديمتري كارَّة،والمسارح كزهرة دمشق والنصر والقوتلي.

واكتملت شهرة هذه الساحة عندما أقيم في وسطها حديقة صغيرة تضم النصب التذكاري للإتصالات البرقية(عمود التلغراف) بين دمشق والمدينة المنورة،الذي أنشىء عام 1907م أيام ولاية حسين ناظم باشا.وهذا النصب مقام من البرونز وصممه فنان إيطالي اسمه بابلو روسيني،وجعل على أعلاه مجسم لمسجد سراي يلدز في اسطنبول.وصار النصب والمسجد أعلاه شعاراً لمدينة دمشق كما صارت المرجة قلبها.

وفي عام 1907م تم تدشين خط الترام او الحافلة الكهربائية التراموي وتسييره في شوارع دمشق.ومن ثم السيارة التي دخلت إليها عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918م وكان الدمشقيون يسمونها أتونبيل.

وفي السادس من آيار عام 1916م قام جمال باشا السفاح بإعدام عدد من الأحرار في هذه الساحة ولذا سميت ساحة الشهداء.

ساحة النجمة

في شارع المجلس النيابي.سميت بذلك لأنها مركز ساحة يتفرع منها ثمانية شوارع بحيث تبدو على الخريطة وكأنها نجم ذو ثمانية إشعاعات.

والجدير بالذكر أن المنطقة التي تضم اليوم كلاً من:ساحة النجمة ونادي الشرق وكنيسة اللاتين ومدرسة الأخوات الفرنسيسكان كانت تعرف في القرن التاسع عشر باسم:بستان الجارية.وهذا البستان كان ملكاً لآل الإيبش حتى الثلث الأول من القرن التاسع عشر،ثم تم تقسيمه وقامت به الأحياء الحديثة.

ساحة السبع بحرات

ساحة واسعة عند أول شارع بغداد من الغرب.أنشئت عام 1925م عند شقّ شارع بغداد في عهد الإنتداب الفرنسي،وأقيم فيها نصب تذكاري على شكل قبة تخليداً لذكرى الكابتن دي كار بانتري الفرنسي الذي كان قائداً لقوى الهجانة،ولقي حتفه في 12 إيلول عام 1925م أثناء حراسته لقافلة سيارات بغداد على يد الثوار السوريين في هذه الساحة.وجعل النصب على شكل قبة وأربع واجهات مقوسنة فوق سبع بحرات متراكبة على شكل طبقات،صممت جميعها وفق فن العمارة الإسلامية.وكان على الطرف الشمالي من الساحة ثكنة عسكرية فرنسية(مكان المصرف المركزي اليوم والذي أنشىء عام 1953م).وبديهي أن اسم السبع بحرات الشائع على ألسنة الناس أطلق نسبة إلى البحرات السبع المذكورة.

ثم هدم النصب عام 1946م،وبقيت البحرات على حالها،واستبدلت تسمية الساحة آنذاك بساحة 17 نيسان تخليداً لذكرى الجلاء.

يتفرع من الساحة ستة شوارع هي:شارع 29 آيار الذي ينتهي في الصالحية،وشارع العابد وشارع الباكستات وشارع الشهبندر وشارع جول جمال .

الشوارع الرئيسية

شارع بغداد

شارع رئيسي يمتد بين السبع بحرات وساحة التحرير.

في عام 1333هجري الموافق 1915م تولّى دمشق في العهد العثماني الوالي خلوصي بك،وابتدأ أول عمل له بفتح “الجادة الخلوصية” من أمام المستشفى أول جادة الصالحية المنتهية إلى القصاع.وبقيت تلك الجادة في حيز التخطيط الهندسي إلى أن تم تنظيمها من قبل سلطات الإحتلال الفرنسي عام 1925م لربط المدينة بغوطتها،ولتأمين تنقل القوات الفرنسية بين المدينة وبساتين الغوطة التي كان يعتصم بها الثوار،ولتسهيل ارتباط هذه القوات بالمستشفى العسكري الفرنسي في حي القصاع.

وسمي الشارع باسم:شارع بغداد لأنه يرتبط بالطريق البري الذي يصل بين دمشق وبغداد.

وقد شُق شمالي أحياء:سوق ساروجة،العقيبة،القزازين،والسادات.

ومن أشهر مباني الشارع:جامع لا لا باشا قبالة معهد اللاييك.

شارع حلب

بين ساحة التحرير وساحة العباسيين.وهو شارع حديث سمي بذلك لأنه يؤدي إلى الطريق الآخذ إلى حمص وحلب،عن طريق ساحة العباسيين.

شارع الحَمرا

يمتد بين ساحة عرنوس وشارع البرلمان.وهو شارع تجاري هام محدث،فُتح في السبعينات من القرن العشرين عند تنظيم المنطقة،ليكون تجمعاً تجارياً وسوقاً يضم عديداً من المهن،واستقطب زمن إنشائه كثيراً من التجار لأهميته وتكاثف حركة المارة فيه.

وتتركز فيه اليوم غالبياً محلات بيع الألبسة الجاهزة والمجوهرات والأقمشة والهدايا في الطوابق الأرضية،والمكاتب التجارية وعيادات الأأطباء ومكاتب المحامين والمهندسين في الطوابق العليا.

أما الإسم الرسمي للشارع فهو:شارع الحرية،غير أن التسمية الشائعة على ألسنة الناس:شارع الحمرا،تشبيهاً له بشارع الحمرا الشهير في بيروت،والذي كان قبل الحرب الأهلية اللبنانية أهم مركز تجاري في العالم العربي.

شارع خالد بن الوليد

شارع رئيسي يمتد بين شارع النصر ومحلة المجتهد في الميدان.

فتح هذا الشارع الوالي العثماني عارف بك المارديني سنة 1331هجري(1912م) في عهد السلطان محمد رشاد الخامس،وسماه الجادة الرشادية.ومن ثم سمي في عهد الحكومة العربية(1918 ـ 1920م) باسم شارع خالد بن الوليد،وعلى ألسنة الناس بجادة سيدي خمار(يقال أنه توجد فيه مقبرة الصحابي ذي مخمر الحبشي).

وفي بدايات الاحتلال الفرنسي صار قسمه الشمالي الممتد بين شارع النصر وشارع القنوات يسمى شارع كاترو(مدير الاستخبارات الفرنسي)،بينما بقيت تسمية شارع سيدي خمار قائمة حتى باب السريجة.وفي عام 1940م بنت دائرة الاوقاف الإسلامية على جزء من أرض مقبرة ذي مخمر الصحابي جامعاً جديداً باسم جامع خالد بن الوليد فصار يعرف الشارع باسم :خالد بن الوليد.

شارع سعد الله الجابري

يمتد بين محطة الحجاز وجسر فيكتوريا.

في عام 1335هجري الموافق 1916م تسلم ولاية دمشق تحسين بك الأرناؤوطي فعمل على شق هذا الطريق بين الجسر الجديد التحتاني(جسر فيكتوريا) ومحطة الحجاز.وسمي عندئذ “السليمانية”.

وفي عام 1920م احتلت فرنسا دمشق بقيادة الجنرال”كوابيه” فقامت السلطات الفرنسية بتسمية الجادة باسم”شارع الجنرال كوابيه”،بينما بقيت تسمية”شارع المحطة” على ألسنة الناس أو “شارع الحجاز”.

وبعد الجلاء في سنة 1946م،تحولت التسمية إلى شارع”سعد الله الجابري” وهو إحدى الشخصيات الوطنية المعروفة(1892 ـ 1947م) نشأ في حلب وتخرج من المدرسة الملكية في الأستانهة.تولى رئاسة الوزراء ثلاث مرات خلال الأعوام 1943 ـ 1946م،كما تولى وزارة الخارجية أكثر من مرة.

شارع الشهبندر

بين ساحة السبع بحرات وساحة الجبّة مروراُ بساحة الشهبندر.

تم فتحه في الأربعينيات من القرن العشرين إبان الحرب العالمية الثانية،ضمن منطقة المزرعة،أواخر عهد الاحتلال الفرنسي.وسمي نسبة إلى الدكتور عبد الرحمن الشهبندر(1879 ـ 1940م).تخرج طبيباً سنة 1906م،وكان من رجالات السياسة في سوريا إبان عهد الاحتلال الفرنسي،ومات مُغتالاً عام 1940م.

شارع العابد

يمتد بين ساحة السبع بحرات والمجلس النيابي .وفتح هذا الشارع في الثلاثينات من القرن العشرين،وسمي نسبة إلى محمد علي بك العابد،أول رئيس للجمهورية السورية في عهد الاحتلال الفرنسي،خلال الأعوام(1932 ـ 1936م).

شارع الملك فيصل

يمتد بين شارع الثورة والعمارة وصولاً إلى القصاع.نشأ هذا الشارع نتيجة امتداد العمران في حي العمارة نحو الشرق،واتساع حي باب توما خارج السور،ثم التقاءهما معا،وذلك قبيل الحرب العالمية الأولى بفترة وجيزة.وسُميّ باسم الملك فيصل ابن الحسين ملك سوريا في عهد الحكومة العربية(1918 ـ 1920م).وتم ربط هذا الشارع وساحة المرجة بخطوط الترام سنة 1931م.

شارع النصر

يمتد بين سوق الحميدية ومحطة الحجاز.سُمي بذلك نسبة إلى باب النصر القديم الذي كان قائماً مكان سوق الأروام عند المدخل الغربي لسوق الحميدية وكان أحد أبواب المدينة.

أعاد أحمد جمال باشا السفاح تنظيم هذا الشارع في خاتمة العهد العثماني سنة 1914م على حساب عديد من الدور وجزء من جامع عيسى باشا وقسم من أرض السرايا القديمة(المشيرية)،فسمي باسمه منذ ذلك التاريخ:شارع جمال باشا.

وكان مكان هذا الشارع في عهد المماليك وأوائل العهد العثماني طريق غير معمور يسمى”حكر السماق”،مهده الأمير سيف الدين تنكز نائب دمشق المملوكي زمن السلطان الناصر محمد بن قلاوون،وبنى فيه مسجده المشهور،وما زال إلى اليوم معروفاً(جامع تنكز).(والسماق:نبات بري حامض كان يزرع في المنطقة).

وبعد زوال الحكم العثماني من سورية عام 1918 عاد اسم باب النصر ليطلق على الشارع برمته،بالرغم من زوال هذا الباب.

ومن المباني الهامة جداً في شارع النصر نذكر دار المشيرية العسكرية والتي سميت فيما بعد القصر العدلي،ويعتبر هذا المبنى من أقدم الأبنية التي شيدت في تلك المنطقة أيام الوجود العثماني في بلاد الشام،وكان اسمها سابقاً دار السعادة.

بُنيت دار السعادة على شكل قصر جميل في بداية القرن السادس عشر وقبل دخول العثمانيين بلاد الشام عام 1516م،ضمن محلة كانت تدعى سابقاً “محلة الأخصاصي” أو سوق الأخصاصيين،وذلك نسبة إلى التجار الذين كانوا يبيعون الأخصاص والأقفاص.ثم مالبث أن تبدل اسم المحلة تدريجياً فسميت”الدرويشية” عند بناء جامع درويش باشا(مكان بناء القصر العدلي اليوم)وظلت هذه الدار قائمة إلى أن احترقت.

وفي بداية عام 1573م تغير اسمها من دار السعادة إلى سراي الحكومة،والذي كان مقراً للحكومة الرسمي ،وداراً للوالي العثماني.

وأول من اتخذها مقراً لسلطته وممارسة صلاحيته كان والي الشام العثماني شعبان أحمد شمسي باشا عام 1554م وهو صاحب المدرسة الأحمدية التي تسمى اليوم بجامع شمسي أحمد باشا في سوق الحميدية،تبعه في ذلك الوالي عيسى باشا صاحب المسجد قرب السرايا على ناصية جادة الدرويشية،وكذلك الوالي محمد باشا العظم.وآخر الولاة العثمانيين الذين اتخذوا السراي مقراً لهم كان الوالي حسن إبراهيم باشا.

وفي أواخر العهد العثماني تحولت التسمية رسمياً من اسم السرايا فصارت تعرف باسم”دار المشيرية العسكرية” .وقد كانت دار المشيرية مركزاً لانطلاق محمل الحج الشامي إلى الديار المقدسة،حيث تنطلق قافلة الحج من مسجد أبي الدرداء في قلعة دمشق يتقدمها السنجق الشريف،ويؤتى به من سوق البوابجية إلى جامع السنجقدار حيث يصلي وجهاء القوم صلاة الظهر جماعة بإمامة أمير الحج،فيأخذون من الجامع سنجق وراية الحج الشامي ويطوفون بها أحياء الشام ثم يُسار بالسنجق والمحمل إلى دار المشيرية العسكرية،فيضعون به الصرة السلطانية التي تم تجهيزها من الزيوت والشموع والمياه العطرية والتي ترسل إلى الحرمين الشريفين لغسل الكعبة المشرفة والحجرة النبوية بهما.ويرسو المحمل في قاعتها الكبيرة وتتلى قصة المولد النبوي ويظل اللواء والمحمل ليلة واحدة تحت حراسة الجند وتطلق المدافع قذائفها عند خروجهما من دار المشيرية ابتهاجاً بهذه المناسبة.

وفي عام 1920م أطلق على الدار اسم “دار المندوبية “نسبة إلى الانتداب الفرنسي،وصارت مقراً لدوائر المندوب السامي الفرنسي.

وفي عام 1945م احترقت هذه الدار بسبب نيران أصابتها،وقامت حكومة الرئيس شكري القوتلي رحمه الله بتشييد المبنى من جديد وهو مبنى القصر العدلي اليوم في دمشق،ونقلت إليه جميع دوائر العدل الشرعية والمدنية.

البيوت الدمشقية

جاء في موسوعة الويكيبيديا عن البيت الدمشقي القديم:

مكونات البيت من الداخل:

1 ـ أرض الديار:ويتوسطها النافورة وعلى جوانبها الحديقة المليئة بالأشجار والأزهار بالإضافة إلى العريشة.فهناك الياسمين والنارنج والكباد والليمون الحلو والحامض والبرتقال وهي من الأشجار التي لايتبدل ورقها ولا يتساقط لا في الصيف ولا في الشتاء بل تظل خضراء نضرة طوال العام.

2 ـ الصدر:وهو مكان اجتماع سكان المنزل

3 ـ غرفة الضيوف

4 ـ غرف النوم

5 ـ بيت المونة:وهنا يتم تخزين الطعام بالإضافة إلى تكديس الغذاء وحفظه لأستخدامه في ما بعد بالإضافة إلى السطوح وغالباً ما يكون مغطى بالعريشة،وأيضاً يكون داخل المنزل في الطابق العلوي ما يسمى”الشباك” أو النافذة التي تطل على الحارة.

وبدأ هذا النوع من العمارة الخاصة لدمشق من عام 1036م الموافق 389هجري.

ويقول الدكتور العلامة محمد بن لطفي الصباغ رحمه الله(مقال:التقليد يذهب بأصالة الأمّة):

“لقد كنا نعيش في بيوت توافرت لها الشروط الصحية،وعناصر الجمال العمراني،وأسباب الراحة والمتعة والسكن النفسي،وتتفق مع أخلاقنا وقيمنا.كان البيت جنّة وارفة الظلال،فيها الماء الجاري دائماً في بُحيرة يدعونها(البحرة)وكان ماؤها المستمر في الجريان صافياً بارداً،حتى إن الناس إذا أرادوا أكل البطيخ في الصيف وضعوا البطيخة فيها،فما تلبث حتى تصبح باردة كأنما كانت في ثلاجة،وفيها الشجر المثمر من البرتقال والليمون بنوعيه الحامض والحلو،والنارنج والكبّاد والعنب بأنواعه العديدة من الزّيني والبلدي والحُلواني والأحمر الدُوماني والأسود وغير ذلك،وفيها الورد والفلُّ والياسمين بأنواعه العديدة،فإذا دخل المرءُ البيت وبلغ ساحة الدار السماوية سمع زقزقة العصافير والأطيار،وشمَّ العطر والروائح الزكية،واستمتع برؤية الخضرة والظل الظليل،وداعب وجهه الهواء العليل،ووجد الستر التام فهو في هذه الجنّة محفوظٌ بحفظ الله لا يرى أحداً من الجيران،ولا يراه أحد منهم ،وتغشاه الشمس الجميلة بدفئها وحرارتها.

وتحيط بهذا الساحة الغرفُ التي تُطلُّ نوافذها على الساحة،فيتجدد الهواء فيها،وتدخلها الشمس،ويملأ جوها الضياء،ولا يُزعج ساكنها صوتٌ خارجي ولا ضجة.

وإذا دخلت المرأة الدار وجاوزت المدخل استطاعت أن تلقي حجابها،وأن تتجول في جَنبات الدار وغرفه،وهي آمنةٌ من كل المزعجات،فلا تخشى النظرات الآثمة والتطلعات الفضولية ولا مراقبة الآخرين.

وللضيوف مكان منعزل خاص،وهو ما يسمونه البراني،يقيم فيه الضيف فلا يسمع صوتاً من الداخل،ولا يحجز حريّة أهل البيت.

أما ساكنو هذه البيوت فكانوا يتمتعون بأنواع المُتع التي يُتيحها لهم هذا الطراز من البناء،فساحة الدار التي تدعى في دمشق(أرض الديار) تُغسل كل يوم بالماء قُبيل الغروب،وتُفرشُ أرضها في الصيف بالسجاد والبُسط والفرش والنمارق استعداداً للسهرة التي يتمع فيها أفراد الأسرة جميعاَ.فإذا صلّى أهلُ الدار المغربَ أخذوا مجالسهم فيها،يسمعون غناء الطيور وخرير الماء.ويتناولون فيها طعام العشاء،ويأنس بعضهم ببعض متكئين متقابلين،وتُدار عليهم كؤوس الشاي،فينسى الجالسون فيها تعبهم ويبقون في هذا الأنس الممتد حتى يغزوهم النعاس”.

وجاء في مقال للشيخ العلامة علي الطنطاوي رحمه الله(كتاب دمشق ـ ص 101):

“هذه البيوت التي كانت تبدو من وراء الأبواب،من الحارات الضيقة المظلمة التي كانت فيها،كأنها مخازن التبن،فإذا دخلها الداخل،فقد دخل جنة تجري من تحتها الأنهار:الصحن المشرق الذي يضحك فيه الزهر،ويسبّح الطير ويبسم الرخام،وتزهى النقوش والآيات على الجدران،يقوم في صدره الإيوان العظيم،وتطل عليه الغرف المشمسة الدافئة فهو مشتى ومصيف،وهو نزهة وسكن،والبركة يتدفق منها الماء،ويثب على حافاتها. عالم مستقل،لا ترى منها ولا تُرى،ولا تعدو ولا يعدو عليك أحد.

أين هذه البيوت،من هذه السجون المغلقة المطبقة التي قلدنا فيها غيرنا؟سجون ليس فيها صحن ولا شجرة ولا بركة،ولا يزقزق فيها عصفور،ولا تسجع فيها يمامة،ولا ترى منها وجه السماء،إلا إن خرجت إلى الشرفة فصرت على مرأى الناس جميعاً.

والتي لا يكتم فيها شىء،يراك جارك،وأنت في فراشك،ويكشف سرك وسر من يكون معك،هذا إذا أنت لم تسكن الأقبية،تحفر في الا{ض كالخلد،وتدفن نفسك حياً،كأنك قد صرت من الأموات،قبل الممات”.

وجاء في مقال في صفحة العربي الحر مقالً بعنوان: البيت الشامي:

“يلاحظ الزائر لبيت دمشقي تاريخي اهتمام أهل الشام بتزيين وزخرفة الدور من الداخل.فقد كانوا ينظرون في البناء إلى ثلاثة مقاصد في آن واحد:المحافظة على الدين،والصحة،وطبيعة الإقليم معا.

والنافذة في البيت الشامي لابد منها لنفوذ النور ودخول الشمس وتجديد الهواء،وكانت تفتح على صحن الدار والإيوان والمشارق الواسعة فقط ولا تفتح على خارج الدور كالطرق بحيث يظل كل ما في الدار ضمن جدرانها ولا يتعداها بعيداً عن أنظار الغريب والقريب على حد  سواء.

ويقال إن أول بيت عربي شيّد في دمشق كان للخليفة معاوية بن أبي سفيان حيث شيد داره التي عرفت بدار الإمارة وبقصر الخضراء أيضاً نسبة إلى القبة الخضراء التي كانت تعلوها وكانت إلى جوار الجدار الجنوبي للجامع الأموي  الذي بني لاحقاً.

وعندما يدخل الزائر أحد البيوت الشامية القديمة العريقة فأول ما يواجهه عند بوابتها ما يسمى”الخوخة” التي تسمح بمرور الإنسان وحيداً ضمن باب البيت الكبير.أما مفردات البيت الشامي من الداخل فتبدأ بعد دخول البيت من الخوخة وفي الطريق لصحن الدار يمر الزائر بدهليز”ممر ضيق ومعتم”حتى إذا دخله يقف أمام فسحة ضخمة مفتوحة إلى السماء تزينها الأشجار والنباتات الشامية العريقة والزهور الدمشقية النادرة.فهناك الياسمين وشجر التوت والنارنج والكباد والليمون الحلو والحامض والبرتقال وهي من الأشجار التي لا يتبدل ورقها ولا يتساقط لا في الصيف ولا في الشتاء بل تظل خضراء نضرة طول العام وهكذا يكون صحن الدار كروضة غناء تغني عن الحدائق الخارجية للقاطن.

ومن مفردات البيت الشامي الليوان وقاعات الاستقبال والضيافة حيث لا يخلو سقف الليوان من الزخارف الخشبية ،ولا تخلو أي دار من قاعة رئيسية للضيافة والاستقبال .

وفي الطوابق الأولى هناك منشر للغسيل يسمى المشرفة وهو شبيه بالفسحة السماوية،وإذا وجد أعلى من هذا الطابق نجد غرفة  تسمى “الطيارة”،ويفصل ملكية البناء في الأسطح جدار خفيف الوزن مصنع على نموذج البغدادي ومكسو باللبن أو الطابوق أو الكلس العربي ويسمى بجدار “الطبلة”.

وإذا دخل الزائر المطبخ يشاهد مفرداته في البيت الشامي وهي المدخنة والموقد ومكان تخزين الحبوب وبيت المونة”السقيفة”.

وشاع في دمشق القديمة استخدام الشرفات المطلة على الحارات والأزقة من الأعلى بنوافذ واسعة،وكذلك شاع استخدام المساحات الهوائية من الممتلكات العامة عن طريق بناء امتدادات للطابق العلوي على قناطر فوق الطرق والزقة والحارات واستخدام السطوح لاستقبال الهواء النقي وأشعة الشمس عن طريق مصاطب وحدائق علوية وحجرات إضافية صغيرة .

وفي مقال له بعنوان”دارنا الدمشقية” يقول الشاعر الكبير نزار قباني:

“لا بد من العودة مرة أخرى إلى الحديث عن دار”مئذنة الشحم” لأنها المفتاح إلى شعري،والمدخل الصحيح إليه.

وبغير الحديث عن هذه الدار تبقى الصورة غير مكتملة،ومنزوعة من إطارها.

هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر؟بيتنا كانت تلك القارورة.

إنني لا أحاول رشوتكم بتشبيه بليغ،ولكن ثقوا أنني بهذا التشبيه لا أظلم قارورة العطر،وإنما أظلم دارنا.

والذين سكنوا دمشق،وتغلغلوا في حاراتها وزواريبها الضيقة،يعرفون كيف تفتح لهم الجنة ذراعيها من حيث لا ينتظرون.

بوابة صغيرة من الخشب تنفتح،ويبدأ الإسراء على الأخضر،والأحمر،والليلكي،وتبدء سمفونية الضوء والظل والرخام.

شجرة النارنج تحتضن ثمارها،والدالية حامل،والياسمينة ولدت ألف قمر أبيض وعلقتهم على قضبان النوافذ،وأسرالسنونو لا تصطاف إلا عندنا.

أسود الرخام حول البركة الوسطى تملأ فمها بالماء..وتنفخه..وتستمر اللعبة المائية ليلاً ونهاراً..لا النوافير تتعب…ولا ماء دمشق ينتهي.

الورد البلدي سجاد أحمر ممدود تحت أقدامك..والليلكة تمشط شعرها البنفسجي،والشمشير،والخبيزة،والشاب الظريف والمنثور،والريحان والأضاليا،وألوف النباتات الدمشقية التي أتذكر ألوانها ولا أتذكر أسمائها….لا تزال تتسلق على أصابعي كلما أردت أن أكتب.

القطط الشامية النظيفة الممتلئة صحة ونضارة تصعد إلى مملكة الشمس لتمارس غزلها ورومانتيكيتها بحرية مطلقة،وحين تعود بعد هجر الحبيب ومعها قطيع من صغارها ستجد من يستقبلها ويطعمها ويكفكف دموعها.

وعشرون صحيفة فل في صحن الدار هي كل ثروة أمي

كل زر فل عندها يساوي صبياً من أولادها.لذاك كلما غافلناها وسرقنا ولداً من أولادها ..بكت..وشكتنا إلى الله..

ضمن نطاق هذا الحزام الأخضر…ولدت…وحبوت..ونطقت كلماتي الأولى.

كان اصطدامي بالجمال قدراً يومياً.كنت إذا تعثرت أتعثر بجناح حمامة…وإذا سقطت أسقط على حضن وردة.

هذا البيت الدمشقي الجميل استحوذ على كل مشاعري وأفقدني شهية الخروج إلى الزقاق…كما يفعل الصبيان في كل الحارات.ومن هنا نشأ عندي هذا الحس”البيتوتي” الذي رافقني في كل مراحل حياتي.

إنني أشعر حتى اليوم بنوع من الإكتفاء الذاتي،يجعل التسكع على أرصفة الشوارع ،واصطياد الذباب في المقاهي المكتظة بالرجال،عملاً ترفضه طبيعتي.

وإذا كان نصف أدباء العالم قد تخرج من أكاديمية المقاهي،فإنني لم أكن من متخرجيها.

لقد كنت أؤمن أن العمل الأدبي عمل من أعمال العبادة،له طقوسه ومراسمه وطهارته،وكان من الصعب علي أن أفهم كيف يمكن أن يخرج الأدب الجاد من نرابيش النراجيل،وطقطقة أحجار النرد.

طفولتي قضيتها تحت”مظلة الفي والرطوبة” التي هي بيتنا العتيق في “مئذنة الشحم”.

كان هذا البيت هو نهاية حدود العالم عندي،كان الصديق والواحة،والمشتى،والمصيف.

أستطيع الآن،أن أغمض عيني وأعد مسامير أبوابه،وأستعيد آيات القرآن المحفورة على خشب قاعاته.

أستطيع الآن أن أعد بلاطاته واحدة واحدة.وأسماك بركته واحدة واحدة.وسلالمه الرخامية درجة درجة.

أستطيع أن أغمض عيني،وأستعيد بعد ثلاثين سنة مجلس أبي في صحن الدار،وأمامه فنجان قهوته،ومنقله،وعلبة تبغه،وجريدته،وعلى صفحات الجريدة تساقط كل خمس دقائق،زهرة ياسمين بيضاء…كأنها رسالة حب قادمة من السماء.

على السجادة الفارسية الممدودة على بلاط الدار ذاكرت دروسي،وكتبت فروضي،وحفظت قصائد عمرو بن كلثوم وزهير،والنابغة الذبياني،وطرفة بن العبد.

هذا البيت “المظلة” ترك بصماته واضحة على شعري،تماماً كما تركت غرناطة وقرطبة وإشبيليا بصماتها على الشعر الأندلسي.

هذه اللغة الشامية التي تتغلغل في مفاصل كلماتي،تعلمتها في البيت المظلة الذي حدثتكم عنه.

ولقد سافرت كثيراً بعد ذلك،وابتعدت عن دمشق موظفاً في السلك الديبلوماسي نحو عشرين عاماً وتعلمت لغات كثيرة أخرى ،إلا ان أبجديتي الدمشقية ظلت متمسكة بأصابعي وحنجرتي وثيابي،وظللت ذلك الطفل الذي يحمل في حقيبته كل ما في أحواض دمشق من نعناع وفل وورد بلدي.

إلى كل فنادق العالم التي دخلتها…حملت معي دمشق..ونمت معها على سرير واحد”.

ويقول الدكتور عفيف البهنسي في كتابه الشام الحضارة:

“البيت الذي أصبنا نأوي إليه بعد الحرب العالمية الثانية،بيت غريب مستورد.فهو لا يحترم عاداتنا وتقاليدنا ولا ينسجم مع مناخ بلادنا ولا يشكل مرحلة من مراحل فن العمارة التقليدي.

لقد كانت ثمة أسباب لإنشاء هذه المعلبات الطابقية،منها متانة الاسمنت وطواعيته لتشكيل العمارة،ومنها انفتاح الناس على مظاهر الحياة الأوربية كعلامة من علامات التقدم،ومنها أيضاً وفرة المال بين أيدي بعض الناس.

ولقد وصمت البيوت التقليدية على أنها عتيقة متخلفة ولك يدر بخلد الذين بارحوها إلى مناطق جديدةنوإلى بيوت جديدة قد تكون أكثر انتظاماً وأوفر خدمة،أنهمتركوا فيها عالماً أصيلاً وذكريات تمتد إلى آلاف السنين،وأنهم هجروا حنيناً كانت أزقة الحارات وجدران البيوت وظلال النارنج والياسمين قد أترعت منه نفوسهم وخواطرهم.

انتقلوا من الأحياء القديمة إلى أحياء جديدة ذات شوارع عريضة وأرصفة وحدائق خارجية وواجهات مفتوحة على الشوارع،وكان انتقالهم هذا إلى عالمهم الجديد قد كلل سيماءهم بمسحة غريبة،فلقد هجر الناس لباسهم التقليدي واستغنت المرأة عن براقعها وانكشفت الحياة الخاصة لتعرض على النوافذ والشرفات،وانقطعت الإلفة بين أبناء الحي من الأهل والأصدقاء وأصبح المنزل مغلقاً لا تربطه بالأرض إلا طبقات من المساكن لم يألف نظيرها في حياته السكنية الماضية أبداً.

ويرتد إلى جوانح الناس حنين جامح إلى تلك البيوت القديمة التي احتوت شخصيتهم وقيمهم،وقد أصبحت موئلاً للغرباء والعتاد وأصحاب الصناعات.وتهفو نفوسهم أن تعود إلى عالمها الروحي الوديع النقي الهادىء،أن تعود إلى الوطن بعد هجرة قاسية.أن تعود إلى الذات.البيت القديم هو الوطن العريق فيه عبق التراث ولحن السكينة وأفراح الأسرة المتكافلة…ماذا بقي منه ؟ما هي حدود الحاضر من أبعاد الماضي ؟سؤال حزين ولكنه مُلّح ولجوج.

وإذا كان لابد من تعريف يضاف على ماقدمناه من تعريف،فإننا نقول:أن البيت العربي هو مسكن الروح والجسد،وموطن النفس العائدة من شرودها اليومي إلى جنتها العائلية.

والمسكن في تكوينه وهندسته شديد الانسجام مع ظروف المناخ،ونعرض هنا بعض مظاهر هذا الانسجام.

ـ تلتصق المساكن ببعضها متداخلة أو تفصلها الأزقة الضيقة والدروب،مما يعطي المدينة وأحياءها طابع التلاحم الذي يساعد عدم التعرض للرياح والشمس عدا أنه يعطي المدينة طابع التماسك والوحدة.

ـ تنفتح المساكن على فناء داخلي يسمى الصحن وهو من أهم ميزات عمارة المساكن العربية الإسلامية،التي تجعل هذه العمارة أكثر تكييفاً مع ظروف المناخ،ذلك أن مستوى حرارة الصحن لا تتأثر بتيارات الجو الخارجية،ولذلك فإن الفرق الحراري فيها ضئيل،ولأن الغرف المحيطة بهذا الصحن تنفتح عليه فإن هذه الغرف تبقى أيضاً محتفظة بحرارتها دون أن تتأثر بتقلبات الطقس الخارجية.

وعدا ذلك فإن الصحن يسمح بظلال على امتداد النهار كما أنه يحتفظ بهواء نظيف غير ملوث.

والإيوان:هو قاعة بدون جدار رابع منفتحة كلياً على الصحن يركن إليها أهل البيت ويستقبلون فيها ضيوفهم مستفيدين من اتساع الصحن وأشجاره وبركته ومن هواءه النظيف المعتدل.

يبلغ ارتفاع سقف القاعة الكبرى والإيوان في المسكن الدمشقي ضعف ارتفاع مستوى الغرف الأخرى،وهذا الارتفاع يساعد على الاحتفاظ بنقاوة الهواء،وعلى تلطيفه المستمر كما هو الأمر بالنسبة للقباب التي تقام في الأماكن العامة كالمساجد والخانات والتكايا والبيمارستانات.

تحفل المساكن العربية بالبرك(بحرة) والفستقيات(فستقية) وبالسلسبيل(المصب) وتقوم البركة في منتصف الصحن واسعة يبلغ قطرها 3 ـ 6 أمتار،أما الفستقية فهي صغيرة قطرها متر وهي إما أن تكون مرتفعة أو منخفضة وتصنع من الرخام المشقف أو من الفسيفساء الرخامي الهندسي ومكانها ضمن القاعة،والسلسبيل لوح مرمري أو مزين بشقوف رخامية مجزعة قائم على الجدار يسيل من أعلاه الماء على صفحة من هذا اللوح المحاط بإطار وقاعدة مزخرفين.

واهتمام المعمار بالمياه محاولة لتلطيف الجو الجاف في داخل البيوت بل وفي داخل الغرف أيضاً

ونمضي إلى داخل المنزل القديم،إلى الصحن حيث البركة الواسعة في منتصف الصحن،وحيث الأشجار المثمرة كالنارنج والليمون،وحيث الزهور كالياسمين والورد والريحان،ولندقق أيضاً في الخطوط الأفقية والشاقولية المحيطة بالصحن،والتي تشكلها حدود الطبقات والنوافذ،وإلى الأبواب والأقواس والزخارف الحجرية والخشبية،هذه العناصر الزخرفية التي تحقق جمال العالم الداخلي في المسكن،إنها صورة عن سعي المؤمن إلى تحقيق روعة العالم الداخلي في أعماق نفسه،فالخطوط الأفقية المحيطة بالصحن هي رمز لحلقات الوجود المادي المحيط بالكون أو بالملأ الأعلى،وتتصل الأرض وجميع حلقات الوجود المادي بالسماء عن طريق المركز المتمثل ببركة الماء التي تتدفق من أوسطها نافورة مستمرة الانبثاق.

ومن الناحية المعمارية يتلاءم البيت الشامي مع المناخ والتقاليد والمفهوم العميق للمسكن من حيث هو عالم داخلي مستقل عن كل مظاهر العالم الخارجي.ومن الناحية الفنية هو مجال كامل للزخرفة والتزويق بجميع أنواعه”.

خانات دمشق

تعود لفظة الخان إلى أصل فارسي الأصل،أطلق على مكان مبيت المسافرين.

والخانات نوعان:

ـ الخان البراني:يقام على طرق السفر خارج المدن على منابع المياه ومجاري الأنهار،ويبتعد الواحد عن الآخر مسيرة نهار(ما يقارب 30كم)،وكان الخان يقدّم الخدمات للتجار والرحالة والمسافرين كافة.

ـ خان المدينة:وظيفته استقبال التجار بشكل عام من باعة الجملة ومروجي البضائع.وفي هذا المكان كان يتم البيع والشراء، ثم صار الخان منزلاً طويل الأجل لاستقبال المسافرين، ريثما ينتهون من بيع بضاعتهم ويتمون تجارتهم.وكما كان لكل بضاعة دار،صار لها خان يرتبط اسمه بها،فهنالك مثلاً:خان للحرير وخان للحبالين وخان للزيت وخان للرز وخان للصوف وخان للقطن وخان للجلود وخان للزعفران وخان للقيشاني وخان للصنوبر وخان للجوخ والخياطين وخان للنحاس وخان للصابون وخان للورق.

كما أن بعض الخانات ارتبط اسمها باسم مؤسسها أو مالكها مثل خان جقمق وخان المرادية وخان سليمان باشا وخان أسعد باشا وخان السفرجلانية وخان العامود وخان العصرونية وخان الصواف وخان السلق وخان مردم بك وخان الكزبري وخان شموط وخان القوتلي.

ولعل أقدم خان خارجي أنشىء في العهد الإسلامي هو الخان الذي بناه الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك عام 748م،على مقربة من قصر الحير الغربي في البادية السورية ليربط بين مدن العراق وتركيا والشام.

خان الرز:

يقع في منتصف سوق مدحت باشا،بني على شكل شبه مستطيل وهو خان صغير الحجم ومؤلف من طابقين ويعود تاريخ إنشائه إلى عام1899م.

خان الحرير:

يقع داخل أسوار مدينة دمشق القديمة في سوق الحرير بجانب خان وسوق القيشاني،جنوب الجامع الأموي،وهو من خانات العهد العثماني،أنشأه والي الشام العثماني درويش باشا في زمن السلطان العثماني سليم الثاني سنة 981هجري الموافق 1573م.

خان العامود:يقع داخل أسوار دمشق القديمة في منتصف سوق البزورية،ويعود تاريخ إنشائه إلى عام 1295 للهجرة الموافق 1878م،إبان ولاية الوالي العثماني المصلح مدحت باشا.

خان الصنوبر:أو الخان الفوقاني:يقع داخل أسوار دمشق القديمة في منتصف سوق مدحت باشا ،وكان مشهوراً ببيع جميع أنواع البقوليات والصنوبر.بني عام 1304هجري الموافق 1886م وكان معروفاً باسم خان الحماصنة.واحترق قسم منه عام 1925م وصار يعرف باسم الخان المحروق.

خان أسعد باشا العظم:يقع في منتصف سوق البزورية داخل أسوار مدينة دمشق القديمة يحده شمالا حمام نور الدين الشهيد.بناه والي الشام العثماني أسعد باشا العظم إبان خلافة السلطان محمود الأول،وتم بناؤه عام 1753م.وكان من أكبر وأعظم خانات الشرق قاطبة.تبلغ مساحته حوالي 2500 متر مربع.

بقي هذا الخان العظيم يؤدي وظيفته كخان رسمي حتى بدايات القرن العشرين عندما انتشرت الفنادق في ساحة المرجة وما جاورها.

خان سليمان باشا:يقع داخل أسوار مدينة دمشق القديمة في منتصف سوق مدحت باشا ،يقابل الخان سوق الخياطين وسوق البزورية.يعتبر من أكبر الخانات الشامية ضخامة بعد خان أسعد باشا العظم،بناه الوالي العثماني سليمان باشا العظم وانتهى بناءه عام 1736م

(نقلاً عن موقع سوريتنا برس).

صناعات دمشق

جاء في كتاب دمشق مدينة السحر والشعر للعلامة محمد كرد علي:

“عرفت دمشق في معظم عصورها بأنها مدينة صناعية،كما هي مدينة زراعية تجارية،ويرجع توفيقها في صناعاتها إلى وفرة المواد الأولية المستخرجة من أرضها،وإلى أن كل صنعة يتسلسل العمل بها في بيوت مخصصة على الأغلب،فالصوف والقطن والكتان والقنب والحرير والوبر والمرعزي تنسج منه بزها وديباجها وأطلسها وأعبئتها وأغطيتها،والحديد والفولاذ والنحاس تصنع منه نحاسها وآلتها وقربها،ومن أخشابها تصنع مقاعدها ومناضدها وأصونتها ومرافق بيوتها وقاعاتها،ومن تربتها تعمل زجاجها وآنيتها وقاشانيها وآجرها،وهكذا في كل ما تنبت الأرض،ويدفن في بطنها من المعادن،قال الإدريسي:ولكل بلد ومدينة خاصية تحتفظ بها في نوع من الصناعة،وأهم ما كان منها في مدينة دمشق

كانت هذه المدينة في القرن الرابع الهجري جامعة لضروب من المحاسن وصنوف من الصناعات،وأنواع من الثياب الحرير كالخز والديباج النفيس الثمين العجيب الصنعة،يُحمل منها إلى كل بلد،ومصانعها في كل ذلك عجيبة،وقد احتوت طرزها على أفانين من أعمال الثياب النفيسة،ومحاسن جمة،فلا يعادلها جنس ولا يقاومها مثال،وقيل:إن اسم الدمقس مشتق من اسم مدينة دمشق،وأن الثياب التي يسمونها”داماسكو”وتصنع برسوم في جسم الثوب معمولة غليظة تُنسب إلى دمشق.وكان الغزل والنسيج مما يعانيه جمهور الناس في الحاضرة والضاحية حتى شُهد لهم بالبراعة في ذلك،ولكل قرية ولكل مدينة اختصاص بصنع شىء تُعرف به ويُعرف بها،ويُنفق ما يحاك من ذلك في بلاد الشام،وما زاد يُصدّر إلى الخارج.

وما برحت الصناعات الشامية على كثرة منافسة البضائع الأجنبية لها رائجة لمتانتها وجمالها،وثبات ألوانها،ورخص أسعارها.

وخُصّت أيضاً بدبغ الجلد تعمل منه الأحذية والسروج والروايا والزكرات والصناديق وما شاكل ذلك،وهي جميلة ورخيصة.

واشتهرت دمشق بالنجارة منذ الزمن الأطول،ومازال أهلها يتفننون فيها ويماشون الزمن في نشوئها،ينجزون الأبواب والدرفات والنوافذ وأصونة الثياب وخزائن الزينة والمناضد والكراسي والمقاعد والأرائك والمكاتب والإطارات والمغاسل،والصناديق والتوابيت والرحال وألواح درس الحبوب وأعواد الطرب،تعمل من خشب الجوز والزيتون والليمون والميس والعرعر والدردار والشربين والتنبوب والسرو والصنوبر مما يكثر في الأرض الشامية،أو من خشب الجوز الأمريكاني والخشب الروماني والقيليقي وغيرها من الأخشاب المجلوبة.

ومما يدل على متانة خشب الحور المعروف بالرومي تلك النموذجات التي بقيت منه محفوظة من القرن الخامس في دار الآثار،وكانت الصناديق تُصنع في الماضي من خشب الجوز فتقوى على القرون،وتُحفر فيها نقوش وصور جميلة.

وكان الدهان من الصناعات الدمشقية المتفردة بها هذه المدينة،ويكون ذا ألوان ثابتة لا تنصل بالحرارة ولا بالبرودة،ولا ينال منها السوس ولا الحشرات،والدهان المعروف اليوم بالعجمي مما تفردت به دمشق.

وأزهرت صناعة التنزيل في خشب الخزائن والأصونة والمقاعد والكراسي بالصدف أو بقطع الليمون،ويقال لصناعة الحفر والتنزيل”الأبلق” وهي من أجمل الصناعات أيضاًنتدهن الحجر بالنقوش والأشكال ويحفر ويدهن بصب الاصباغ في الشقوق،ثم يجلى ويصقل،فيأتي صبغها برّاقاً ثابتاً كأنه من أصل الحجر.

ومن القديم كانت دمشق تفاخر بما تصنع من السيوف المحلاة،لما أختصت به من الصفاء والاخضرار،تُكتب فيها آيات وأشعار بماء الذهب،ومثل ذلك الخناجر والرماح،وتطريق الحديد مما عُرفت به دمشق قبل الإسلام.والقيانة أو القردحة أي صنع السلاح،مما كانت له أسواق رائجة،عرف الصليبيون ذلك ونسبوها في عهدهم إلى دمشق،وكان العرب نقلوا صناعة السيوف إلى الأندلس فنُسبت إلى دمشق .

وكان أرباب الصناعات في القديم يجزئهم ما يُستخرج من حديد البلاد،ومن النحاس تعمل أواني البيوت كالقدور والمغارف والأطباق والمناقل والدلات”أوعية القهوة” والطسوت والصواني والصحون والصحاف والمصافي والملاعق والسطول والمساخن والهواوين والمدقات وغير ذلك.

واشتهرت دمشق قديماً بصناعة الزجاج،وكان يضرب المثل بصفائه،ويُتخذ للزخرفة والزينة،ومنه الأكواب والآنية على اختلاف ضروبها،والأباريق والجامات والسكرجات والمضخات والأقداح والقوارير والكيزان والبواطي،والكئوس والفناجين وزجاجات المصابيح وغيرها.

ومن ثم اشتهرت فيما بعد صناعة الخزف الملون يتخذون منه بلاطاً للدور والغرف والمستحمات.

ومما اشتهرت به دمشق صناعة الصياغة،أي صناعة الذهب والفضة،والتفنن في تصويرها بوضع الأحجار الكريمة خلالها،تعمل منها الأكلة والتيجان والأقرطة والشنوف والخواتيم والدمالج والقلائد والأطواق والخلاخل.

ومن أهم الصناعات صناعة البناء والنحت،وقد ساعد على تجويد البناء تعدد مقالع الحجر بالقرب من المدينة”.

دمشق واستقبال شهر رمضان المبارك

جاء في مقال نشر في موقع صدى زيد بعنوان:عبق دمشق وسحر رمضان:

“في رمضان تخيم على دمشق تلك المدينة العتيقة الرابضة على سفوح جبل قاسيون أجواء ساحرة تزيد هذه المدينة العتيقة تفرداً وجمالاً.

فأول مايطرق رمضان أبواب الدمشقيين في ليلة النصف من شعبان ـ تلك الليلة التي اعتاد الدمشقيون إحياءها في المساجد ـ فيحرك لواعج الشوق في قلوبهم،ويهيىء الأرواح والأفئدة أن تحتضن نفحة من نفحات السماء.

ويترقب الدمشقيون موعد إثبات الهلال في مشهد عجيب من يوم التاسع والعشرين من شعبان،فالكل يسأل(ثبتوها؟)والجميع يتزاحم في الأسواق يعد العدة لشهر الصوم.

وتعلن المحكمة الشرعية في قصر العدل ثبوت هلال رمضان بالرؤية الشرعية وترتسم على الشفاه أجمل تعابير التهنئة والتبريك:(رمضان مبارك)(الله يحيكم لأمثالو)(كل عام وأنتم بخير).

وتستقبل دمشق ضيفها العزيز الوافد بضربات المدفعية تهز أرجاء دمشق فرحاً وطرباًنوتتعالى صيحات التكبير على مآذن دمشق العتيقة الرشيقة إيذاناً بحلول عيد المسلمين الأعظم.

وينام الدمشقيون تلك الليلة تداعب خيالاتهم ذكريات رمضان أيام زمان،ليهبوا من نومهم على طَرق طبلة(المسحر) ذلك الذي تسري نداءاته بين أزقة الشام العتيقة لتنبه آذان أهلها الغافلين في دعة وأمان.

وتتداعى نساء البيت لوصع(السفرة) فكل واحدة لها مهمة،إحداهن توقظ إخوتها،والأخرى تعد(قمر الدين)،وثالثة تسكب المربيات والأجبان في صحائف الخزف الصيني،ورابعة(تلقم الشاي)،ويتحلق أهل البيت حول مائدة السحور العامرة بأنواع(الحواضر) الدمشقية التي لا يعرف طعمها إلا من ذاقها،لا يغنيه وصفها عن ذوقها.

وتلامس الدموع صفحات الخدود إذ تصافح الآذان ترانيم السحر وابتهالات(الرابطة)،وتصدح رابطة المنشدين بأرقّ القصائد تحملها نسمات السَحر من أطهر بقعة في قلب دمشق النابض،من حضن دمشق الدافىء،من مفخرة تاريخها الغابر من جامعها الأموي.

ويتناهى إلى سمعك في هدوء السحر ذلك الصوت الأسطوري الذي سرى فيه يوماً عبق دمشق وسحرها فكان صوت”توفيق المنجد” وهو يلهب العواطف فرحاً بالقادم الغالي،ويصدح بصوته منشداً”روّح فؤادك قد أتى رمضان”.

ويؤذن للسحر فتنفض العائلة عن سحورها،ليهيىء الرجال أنفسهم لصلاة الفجر في مسجد الحي،وتتداعى النساء ل”لمّ السفرة”وارتداء”غطاء الصلاة”علهنّ يدركن شيئاً من بركة الصلاة في السحر.

يسير الأب مع أبنائه في مهابة وإخبات،ويتلاقى أهل الحي في طريقهم إلى بيت الله،فتتعانق الأرواح في فضاء الحارة الدمشقية،وتتصافح القلوب قبل الأيدي في رحاب مسجد الحي الذي يدلف إليه المصلون قبل الوقت المعتاد،وكأنما ألهب الشوق إلى لقاء الله قلوبهم فما يطيقون الانتظار،وتنقضي الصلاة وما يتلوها من اوراد وأذكار،ويهرع الناس إلى مصاحفهم يعانقونها عناق الواله المشتاق.

وتطلع شمس اليوم الأول من رمضان تداعب أشجار النارنج والليمون،وتلاعب الحبق والياسمين،وتتمايل أشعتها بين “زواريب” دمشق وحاراتها الضيقة،وتنشر ضياءها على مشارب البيوت وأسقف الأسواق.

وتتبدى أسواق دمشق عن أبهى حلة وأحلى زينة،وتعرض للغادي والرائح ما لذّ وطاب من أطعمة ومشروبات لا يغني وصفها عن ذوقها.

وتدخل سوق البزورية فلا تملك بصرك أن يرمي بنظراته إلى بهاء ما فيه،ولا تمسك قلبك أن يهفو إلى لذيذ ما حواه.فلا تملك يدك عندها أن تمتد لتشتري ما تريده النفس ويسر به الأولاد.

وتعود إلى بيتك عند الأصيل وقد انحنت الشمس إلى الغروب رويداً رويدا،فتتلقاك الأهل ببسمة حانية وكلمات رقيقة(الله يعطيك العافية،ولا يحرمني من فوتك عليّ)،وتتراكض من حولها بناتها ينظرن ما أتيت لهن من لذيذ”المعروك”و”الناعم”.

وما أجمل لحظات رمضان قبل الغروب والبيت كله في شغل وحركة،فالبنات تعد مائدة الإفطار،والأب يتلو آيات من القرآن،والأبناء يطرقون أبواب الجيران ب”سكبة” الأم إلى جاراتها من الطعام،وتتناثر الأطباق على مائدة الإفطار،ويتحلق الشاميون حولها وعيونهم تحتار بين أطايبها.

وتخلو حارات الشام وشوارعها إلا من أطباق الطعام يتهاداها الجيران قبل مدفع الإفطار،ويجلس”كبير العيلة” وحوله الأبناء والأحفاد يتحلقون حول مائدة الإفطار،ويرهف بعضهم السمع إلى المدفع،وآخرون ينصتون إلى أذان الأموي الجماعي الذي أراده أهل دمشق دليلاً فريداً على حبهم للجماعة والوحدة.

وينساب صوت المؤذن رخياً خاشعاً بين أزقة الشام وحواريها،وتهدأ الحركة في الحارة لتبدأ الحركة على المائدة،ويعلو صوت الأب بالدعاء وهو يرتشف ماء”الفيجة” عذباً فراتاً أساغه الله لأهل الشام دون غيرهم،فتؤّمن الأم وبناتها على دعواته،ويتساقى الجميع”شراب الورد”و”العرقسوس”و”التمر هندي”،ويضحك الكل في جو ملؤه المرح والسرور.

ولا ينسى أهل الشام أن يشربوا الشاي بعد الفراغ من الطعام،يرتشفونه ساخناً علّه يقذف فيهم حرارة القوة ليقوموا مسرعين إلى صلاة التراويح،والتي تمتلىء فيها مساجد دمشق بالشيب والشباب،ويتداعى الدمشقيون إلى الصلاة،كل يسأل صاحبه:”وين الصلاة اليوم؟”.

ويؤم الناس المساجد وقد لبست أبهى حللها،وتهيأت لاستقبال ضيوفها،وتتلاصق الأجساد في صلاة ينساب فيها صوت الإمام ندياً هادئاً،يلف المكان بهالة من الخشوع والإخبات،وينعم المصلون بسماع جزء كامل من القرآن ينفض عن قلوبهم غفلة رانت عليه أياماً وربما شهورا.

وينفضّ المصلون بعد ذلك إلى بيوتهم،فيخرجون من المسجد جماعات جماعات،جماعات تتعانق فيها البسمات وتتعالى منها الضحكات،ويبلغ كل رجل بيته فيدلف إليه وقد هيأت له زوجه الفاكهة والمكسرات والتف حوله الأهل والأولاد،فيداعبهم ويلاطفهم،ويمازحزنه ويضاحكونه ويكون أجمل سهر وأطهر سمر،يقضي فيه الرجل حق أهله بعد أن قضى في الصلاة حق ربه.

وتمر ليالي رمضان،وتتعاقب أيامه،وتبرهن دمشق لربها كل ليلة أنها على العهد باقية…ظئر الإسلام..وفسطاط المسلمين….

الكتاتيب…الحكواتي…الكركوزاتي…

جاء في مقال للأستاذ شفيق جبري في مجلة المجمع العربي في دمشق بتاريخ 1 تشرين الأول سنة 1961م:

“كانت مراكز الثقافة في السنين الماضية الكتاتيب،ثم كانت عامة الشعب تستمع إلى ما كانوا يسمونه يومئذ:”الحكواتي”و”الكركوزاتي” وممثل الروايات.

كانت الكتاتيب في حارات دمشق أبرز مجتمع من مجتمعات التعليم،والقائم على الكتّاب يقال له شيخ الكتّاب،وقد جاء في”قاموس الصناعات الشامية”تعريف لشيخ الكتّاب:فهو يلقّن الأطفال حروف الهجاء،مفردها ومركبها وشكلها،ثم يعلمهم قراءة القرآن والكتابة وطرفاً من الحساب”.

وأفاض صاحب”القاموس” بعد ذلك في الكلام على الأجور في الكتاتيب،وكان اسم هذه الأجور الخميسية لأن أهل الأولاد يدفعونها يوم الخميس.

ولكن كيف كانت الكتاتيب وكيف كان التعليم وكيف كان شيخ الكتّاب؟

أكثر الكتاتيب كانت في المساجد،كان الكتّاب في غرفة مظلمة لا يدخلها نور ولا هواء فكان الأولاد محشوكين فيها حشكاً،الهواء فاسد، فلا رياضة ولا فتح شبابيك،كان الشيخ في بعض الكتاتيب يجلس على “طرّأحة” في الأرض وأمامه منصّة صغيرة،يصوّب نظره في الأولاد وسصعّده،وفي يده عصا طويلة اسمها في العاميى”مسطيجة” وهي من القصب،فإذا تحرّك ولد في آخر الكتّاب أو ضحك أو كلّم رفيقه كان الشيخ يهزّه بهذه”المسطيجة” من محله دون أن يتلحلح،فمرّة تقع العصا على طربوشه،ومرّة على طاقيته،وحيناً على كتفه،وحيناً على صدره،فيقلع الولد عن الحركة إذا كان يتحرك،أو عن الضحك إذا كان يضحك،أو عن الكلام إذا كان يتكلم،وطريقة التدريس كانت قائمة على أن يضع كل ولدٍ قرآناً على ركبتيه،فيتربع على الحصير،فيقرأ القرآن وهو يهتز،مرّة يميل ذات اليمين ومرّة ذات الشمال،وحيناً يهبط برأسه وحيناً يرفع الرأس،وكثيراً ما كان الأولاد يقرؤون ما يقرؤون والشيخ لاهٍ بأكل”التسقية” في الصباح،ينتظر الخميس لأخذ الخميسية،وأكثر ما يصل إليه الولد في قراءة القرآن الكريم سورة ياسين،فإذا وصل إلى هذه السورة الشريفة ظهرت دلائل النجابة عليه.

وإني لا أنسى انصراف الأولاد من الكتاتيب في العصر وكل واحد منهم قرآنه في كيس من الكتان معلّق على كتفه.

أذكر من كتاتتيب تلك السنينم كتّاب الشيخ محمد علي الحكيم في سوق مدحة باشا مقابل خان جقمق،والشيخ كان مشهوراً بحسن الخط،فهو عصبي المزاج،قصير القامة،سريع الخطو،وكتّاب الشيخ حسن البغجاتي في مدرسة نور الدين الشهيد،وكتّاب الشيخ سليم النحلاوي في زاوية السعدي في أول حارة النصارى.أما الكتّاب المشهور فهو كتّاب الشيخ عيد السفرجلاني،والأولاد فيه من أهل البيوتات في دمشق،ومن أبناء التجار وذي الحالة الحسنة.ومن الشيوخ الذين درسوا فيه الشيخ كامل الكريّم وكان مشهوراً في حينه.

وعلى ذكر الكتاتيب لا ينبغي لي أن أهمل ذكر”الخجا”،والمراد بهذه المادة المعلمة التي كانت تعلم البنات في الكتّاب،فكان للبنات كتاتيب يقصدها الأولاد الصغار فيجتمع الأولاد والبنات معاً،وقد بقيت في ذهني أسماء”الخجا” عيّوش و”الخجا”خدّوج.أذكر أن كتاتيب البنات كانت في البيوت،ومن آثار تلك الكتاتيب في خاطري كتّاب في محلتنا القديمة في الشاغور،على مقربة من حمّام الركابي.

هكذا كانت الكتاتيب لما فتحت عيني على الدنيا في دمشق،أما عامة الشعب فكانوا يسرعون في المساء إلى ما كانوا يسمونه”الحكواتي”.وقد جاء في تعريف هذه المادة في “قاموس الصناعات الشامية” أنه اسم لمن يحفظ الحكايات ويلقيها عن ظهر قلبه أو من الكتاب،وأكثر”الحكواتية”كانوا يحفظون قصص عنترة والملك الظاهر والملك سيف أو حكايات من نمط آخر مضحك.

لقد سمعت بعض “الحكواتية” في صغري فقد كانوا يمثلون تمثيلاً في خلال قراءة الحكاية.كان الواحد منهم يمسك الكتاب بيده ويجول في “القهوة” من أولها إلى آخرها والجمهور على يمينه وعلى شماله وهو في وسطهم يجىء ويذهب.وكان صوته يختلف على اختلاف معاني الكلام،فإذا احتاج الكلام إلى الشدة كان”الحكواتي” شديداً في صوته،وإذا احتاج إلى الرقة كان رقيقاً،وإذا وصل إلى موطن من مواطن البطش كان جباراًزوهكذا كان يؤثر في جمهور الناس بنبرات صوته وباختلاف هذه النبرات.

يحكي “الحكواتي” والمستمعون من الناس لاهون بأراكيلهم،يملؤون خواطرهم من صور حكاياته،لا صلة لهم بالدنيا ومشكلاتها،همّهم في تلك الساعة أن يعرفوا ماجرى لعنترة أو للملك الظاهر أو للملك سيف،فالدنيا كلها كانت في نظرهم أخبار عنترة والملك الظاهر وغيره من الملوك،حياة وادعة،هادئة،بسيطة،تبدأ في التبكير إلى حرفهم التي ذكرها صاحب”القاموس” وتصّفى مشكلاتها في المساء بالإصغاء إلى”الحكواتي” وبما يشحن به أذهانهم من صور البطولة والشجاعة والحب وما شابه ذلك.

وأغلب “الحكواتية”كانوا في آخر الوقت يقفون عند مقطع من مقاطع الحكاية حيث يحب المستمع أن يعرف ما جرى لعنترة أو لغيره من أبطال الحكايات،فكان “الحكواتي” في وقفته هذه يربط المستمع ويقيّده حتى يبكر في الليلة الآتية إلى”القهوة” .

وكما كانت العامة في دمشق تذهب إلى”الحكواتية”في المساء فتبقي حكاياتهم في أذهانهم صوراً وآثاراً شتّى كذلك كانوا يقبلون على”الكركوزاتي”.لقد وصف صاحب”القاموس” “الكركوزاتي” فعرّفه وذكر محل شغله وأدوات عملهوتكلم في اختلاف لهجاته،كل لهجة تناسب الصورة التي يعرضها،فلهجة”مدلّل” تختلف مثلاً عن لهجو”عيواظ:.وأكثر الحارات القديمة في دمشق كان فيها”كركوزاتي”.والإقبال عليه كان يشتد في رمضان.وكما كان يذهب الأولاد الصغار إلى”الكركوزاتي: كذلك كان يذهب إليه الشباب والشيوخ من أهل الحارة.وقد كان في بعض الأحيان حسن الصوت فيقرن حسن تمثيله بحسن صوته.

قالوا في دمشق

الأديب العلّامة الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله(الرسالة العدد 419):

(دمشقّ!)…وهل تُوصف دمشق؟هل تصور الجنّة لمن لم يرها؟

من يصفها وهي دنيا من أحلام الحبّ وأمجاد البطولة وروائع الخلود؟

من يكتب عنها(وهي من جنات الخلد الباقية) بقلم من أقلام الأرض فان؟

دمشقّ:التي يحضنها الجبل الأشمّ الرابض بين الصخر والشجر،المُترّفع عن الأرض تَرفُّع البطولة العبقرية الخاضع أمام السّماء خضوع الإيمان الصادق..

دمشقّ: التي تعانقها الغوطة،الأمُّ الرؤوم الساهرة أبداً،تصغي إلى مناجاة السواقي الهائمة في مرابع الفتنة،وقهقهة الجداول المُنتشية من رحيق بردى،الراكضة دائماً نحو مطلع الشمس،تخوض الليل إليها لتسبقها في طلوعها،وهمس الزيتون الشيخ الذي شيّبته أحداث الدهر فطفق يفكر فيما رأى في حياته الطويلة وما سمع،ويتلو على نفسه آيات حكمته،وأغاني الحور الطروب الذي ألهاه عبث الشباب ولهو الفتوّة عن التأمل والتبصر،فقضى العمر ساحباً ذيل المجون مائساً عجباً وتيهاً،خاطراً على أكتاف السواقي وعلى جنبات المسارب ليغازل الغيد الحسان من نبات المشمش والرمان،ويميل عليها ليقطف في الربيع وردة من خدّها،أو ثمرة من قلائد نحرها،ثم يرتدّ عنها يخاف أن تلمحه عيون الجوز الشواخص،والجوز ملك الغوطة جالس هناك بجلاله وكبريائه،ولا جلال ملك تحت تاجه،وعاهل فوق عرشه.

دمشقّ:التي تحرسها(الربوة) ذات (الشادروان) وهي خاشعة في محرابها الصخري تسبح الله وتحمده على أن أعطاها نصف الجمال حين قسّم في بقاع الأرض كلها النصف الثاني..

وما الربوة إلا حلم ممتع غامض يغمر قلب رائيه بأجمل العواطف التي عرفها قلب بشري فيذكر كل إنسان بليالي حبه وساعات سعادته،ثم يتصرّم الحلم ويستحيل إلى ذكرى حلوة لا تمحوها الأحداث ولا تطغى عليها سيول الذكريات…

الربوة:لحن من ألحان السماء ألقته مرة واحدة في أذن الأرض…

الربوة:هي الربوة لمن يعرفها وكفى!

دمشقّ: من أقدم مدن الارض وأكبرها سناً وأرسخها في الحضارة قدماً.

كانت مدينة عامرة قبل أن تولد بغداد والقاهرة وباريس ولندن،وقبل أن تنشأ الأهرام وينحت من الصخر وجه أبي الهول،وبقيت مدينة عامرة بعد ما مات أترابها واندثرت منهن الآثار،وفيها تراكم تراث الأعصار،وإلى أهلها اليوم انتقلت مزايا كل من سكنها في سالف الدهر،ففي نفوسهم من السجايا مثل ما في أرضها من آثار التمدن وبقايا الماضي طبقات بعضها فوق بعض…

فالحضارة تجري في عروقهم مع الدماء،وهم ورثتها وحاملو رايتها،وهي فيهم طبع وسجيّة،ولقد تكون في غيرهم تطبعاً وتكلفا،فأيّ مدينة جمع الله لها من جمال الفتوة وجلال الشيخوخة كالذي جمع لدمشقّ؟

وأصعد جبل دمشق حتى تبلغ قبّة النصر،ثم انظر وخبرّني هل تعرف مدينة يجتمع منها في منظر واحد مثل ما يجتمع من دمشقّ للواقف عند قبة النصر؟

انظر ترَ البلد كله ما يغيب عنك منه شىء:ها هنا قلب المدينة وفيه الجامع الذي لا نظير له على وجه الأرض ـ لا أستثني ولا أبالغ ـ وقبّة النَسر تعلو هامته كتاج الملك،بل كعمامة الشيخ،وها هي ذي مناراتها التي تعد مائة وسبعين منارة،منها عشرون من أعظم منارات العالم الإسلامي،قد افتنّ بناتها في هندستها ونقشها،فاختلفت منها الأشكال واتفقت في العظمة والجلال،لا كمآذن بغداد التي لا يختلف شىء منها عن شىء،فإذا أبصرت منها واحدة،فكأنما أبصرتها جميعاً…

يحفّ بذلك كله  الغوطة الواسعة التي تبدو للناظر كأنها بحر من الخضرة قد نثرت فيها القرى التي تنيف على الأربعين عدّا،أكبرها (دوما) ذات الكروم،و(داريا) التي تفاخر بعنبها كل أرض فيها عنب،و(حرستا) بلد الزيتون ومنبت الإمام محمد صاحب أبي حنيفة،و(جرمانا) وهي حديقة ورد،وكفر سوسية،وكفر بطنا،والأشرفية،وصحنايا،ووراء الغوطة سهول المزة عن اليمين،وسهل القابون عن الشمال،وبطاح من الأمام،وسهول تمتد إلى الأفق،حيث تغيب الجبال البعيدة في ضباب الصباح،ووهج الظهيرة،وصفرة العصر،وسواد الليل…

إنك تشمل هذا كله بنظرة منك واحدة وأنت قائم مكانك،فأين ترى مثل هذا؟

وبردى ؟

لما قدم شاعر العرب عاصمة العرب ومرّ على بردى وهو يمشي بين قصر أميّة ودار البلدية مشية العاجز الهرم،قال له صاحبه مستقلاً بردى مستخفاً به:أهذا الذي ملأت الدنيا مدحاً له؟يظن صاحب شوقي أن النهر بكثرة مائه وبعد ضفتيه.ما درى أن بردى هو الذي يجري في الوادي زاخراً متوثباً نشيطاً لا الذي يجري في (المرجة) متهافتاً كليلاً،وأنه هو الذي أطعم دمشق الخبز،وهو الذي زرع بساتين الغوطة،وهو الذي أنار دمشق بالكهرباء وسير فيها وفي غوطتها (الترام)وهو الذي لا تضيع قطرة منه واحدة على حين تمر دجلة على بغداد مرَّ الكرام،تقرأ عليها السلام…ثم تحمل خيرها كله لتلقيه في البحر،لا تمنح بغداد منه إلا ما تأخذه بالمضخات والنواعير التي لا تسير إلا بمال  .فمن رأى مثل(بردى) في برّه بأرضه وكثرة خيراته نهراً؟

من ذاق أطيب من مائه؟من أبصر أجمل من واديه؟

لقد علّم أبناءه الولع بالخضرة والظلال،وحببَّ إليهم أفانين الجمال،فصارت(السيران) من مقومات الحياة في دمشق لا تحيى أسرة إلا بها،ولا تستغني عنها،فهي لهم كالغذاء،فهل يستغنى عن الغذاء؟

هل يمكن أن يجىء يوم صائف من أيام الشتاء فتبقى دمشقية أو يبقى دمشقي في بيته لا يؤم(المهاجرين)،حيث يجتمع الشعاف والصخور وفي ظلال الآس الرجال والنساء على طهر وعفاف،وتدور أكواب الشاي(الأخضر) خمر المسلمين،وتنطلق بالغناء الساحر أوتار الحناجر وتجري خيول السبق في ساحة الجريد،ثم جاء وقت الصلاة قاموا إليها فلا ترى إلا جماعات وأئمة،ثم ينفضّ اجتماعهم عن طرب وفروسية وعبادة،وتلك هي المثل العليا لأهل الشّام.

وهل تمر أمسية من أمسيات الصيف على دمشقي قاعد في دكانه أو قابع في بيته؟

تعال انظر جماعاتهم في قهوات(شارع بغداد) وفي كل قهوة مؤذنها(إي والله) وإمامها.وعلى ضفاف بردى عند(صدر الباز) وفي (الميزان) أجمل موضع في دمشق ،وأمامهم سماورات الشاي الصفر الرشيقة،وفي كل حلقة مغنيها،وليس مثل الشاميين في الولع بالغناء،فلا ينفرد الرجل بنفسه إلا غنى لها،فالفلاح وهو نازل من قر يته مع الفجر يغني،والحوذي وهو يسوق عربته إلى (جسر تورا) أو إلى (كيوان) يغني،وأجير الخباز وهو يحمل المعجن على رأسه يغني،ونداء الباعة كله غناء وشعر..

قف ساعة على ظهر الطريق واسمع ما ينادي به الباعة ترَ عجباً لا شبيه له في البلاد،قصائد من الشعر غير أنها مرسلة القوافي،وطرائف من الغناء غير أنها محلولة القيود،تمشي إلى القلوب طليقة حرة لا تسمي شيئاً بإسمه،وإنما هي مجازات وكنايات،عجب منها بعض من كتب عن دمشق من سياح الإفرنج فتساءل في كتاب له عما نظم للباعة هذه الأشعار الرقاق!

وتعال استمع هذا البائع وهو يتغنى بصوت يقطر عذوبة وحناناً(يا غزل البنات،يا ما غزلوك في الليالي،يا غزل البنات)ويضغط على (الليالي)ويمد(البنات)،هل يستطيع قارىء أن يؤشر يحرز ما ذا يبيع هذا المنادي!لا لن أقول فتعالوا إلى دمشق لتأكلوا غزل البنات…

وهذا بائع يهتف بكلمة واحدة لا يزيد عليها(الله الدايم)هل يقنع في حسابك أنه يبيع (الخس)،وأن(يا مهون ياكريم) نداء بائع(الكعك) عند الصباح،وان من الباعة من ينادي بالحكم الغوالي كهذا الذي ينادي (ويل لك يا ابن الزنا يا خاين)فيفهم الناس أنه بائع (الترخون).

أولا يشجيك ويثير سواكن أشجانك بائع العنب حين تدنو أواخره فينادي بصوت حزين(هدوا خيامك وراحت أيامك.ما بقي في الكرم غير الحطب يا عنب،ودّع والوداع لسنة يا عنب).ألا تحس كأنه يودع حبيباً عزيزاً عليه؟

وبائع العسل(أي الشمندر) وقد أوقد ناره في الصباح البارد،ووضع(حلته) وصفّف رؤوس الشمندر الأحمر ونادى في أيام الشتاء (بردان! تعال صوبي بردان…أنا بياع العسل) ألا يحببّ إليك أكل العسل.

واسمع العجائب في نداء بائع اللملفوف(اليخنا) (يخنا واطبخ،والجارية  بتنفخ،والعبد على الباب،بقلع الكلاب).

وبائع الحمص المسلوق(البليلة):( بلبيلة بلبلوك،وسبع جوار خدموك يا بليلة).

وبائع الزعرور:(أبيض أحمر يا زعبوب،تمر محنّى يا زعبوب،البزر يا زعبوب).

واستمع إلى الشعر والخيال في نداء بائع الجرادق(يا ما رماك الهوا،وقلبي انكوى،يا ناعم).

وبائع التين(دابل وعلى دبالك يا عيون الحبيب،ومن دباله يمشي لحاله).

وبائع الباذنجان(أسود ومن سواده هرب الناطور).ألا تعجبك صورة الناطور وقد هرب من سواد الباذنجان؟

وهذا كله من ولع الشاميين بالغناء وإقبالهم عليه حتى انعقد إجماع فقهاء الذوق فيهم على أنه  لا يصح اجتماع أو سمر إلا بالغناء،وإذا سها عنه ساه،فكفارته إطعام عشرة أصدقاء صدر كنافة شامية،أو صدر(كُلْ واشكُر) أو غير ذلك من الحلويات التي لا يخالف أحد في أن دمشق أبرع مدينة في صنعها.واسألوا محل(أسدية) في القاهرة،ومطعم الفردوس في بغداد،واذكروني بالخير،فإن الدال على الخير كفاعله.

والدمشقيون أكرم الناس ،وأشدّهم عطفاً على الغريب،وحباً له، فهم يؤثرونه على الأهل والولد،ومدينتهم من أنظف المدن لتدفق مائها وكثرة أنهارها،ووصولها إلى الأحياء كلها ودخولها البرك في الدور،حتى لا يخلو حي من نهر.فنهر(يزيد) يسقي الصالحية،و(تورا) يسقي العقيبة وسوق صاروجا،و(باناس) يسقي القيمرية،و(قنوات) يسقي حي القنوات،وقد أخذت مياه عين الفيجة(وهي أصفى العيون وأعذبها تنبع من جبل على عشرين كيلاً من دمشق)فسيرت مياهها في بطون حتى أبلغت دمشق فأدخلت دورها،فشرب منها الناس أعذب ماء وأبرده.

والشاميون مولعون بالنظافة والطهارة،حتى إنه ليعد من أكبر عيوب المرأة ألا تغسل أرض دارها كل يوم مرة أو مرتين بالماء غسلاً وتمسح جدرانه وزجاجه،على رحب الدور الشامية،واتساع صحونها،وكثرة مرمرها ورخامها.وادخل المسجد ترَ بلاطها يلمع كالمرايا،ويحبب الصلاة إلى من ليس من أهلها.وعرج على المطاعم تبصر الأطعمة مصفوفة أمامك في القدور الصغار النظاف باناقة تجيع الشبعان ،ونظافة تطمئن إليها نفس الموسوس.

أما ألوان الطعام في الشام فلا يضاهيها شىء في غيرها،وما أكل الغريب في دمشق حلواً ولا حامضاً ولا حاراً ولا بارداً إلا استطابه على طعام بلده،وما استطاب الشامي في غير بلده طعاماً قط.ومن خير مطاعم مصر والعراق،وألذّها طعاماً وأحسنها نظاماً،ما كان صاحبه شامياً أو كان على مذهب أهل الشام.ثم إن خدم المطاعم والقائمين عليها طيعون أذكياء،وهم يدركون باللمحة السريعة،ويفهمون بالإشارة الخفية.

ودمشق أرخص بلاد الله وفيها النعيم المقيم ولا تخلو من ثمر قط لا في الصيف ولا في الشتاء.أما جودة ثمارها فأشهر من أن تذكر،وفيها من العنب ما يزيد على خمسين نوعاً،ومن المشمش تسعة أنواع،ومن التين قريب من ذلك،ومن الدراق والكمثرى والتوت الشامي والجوز واللوز ما لا يوجد مثله في غيرها.

والدمشقيون أهل براعة في الصناعة وعندهم من المعامل الكبيرة معمل للإسمنت عظيم(في دمر ظاهر دمشق)ومعمل للأقمار(الكونسروة) لا نظير لما يصنعه.ومعمل للدباغة كبير،ومعمل للجوخ ،ومعامل كثيرة لا تحصى للمنسوجات القطنية والصوفية والحريرية والجوارب (والكرافات)،ومعامل للزجاج،ومعامل صنعت أكثر من أنواع الأدوية وحكم الأطباء بجودة ما تصنعه،ومعامل لأنواع السكاكر والمربيات(والشوكولاته).

وفي دمشق مدرستان للعلم الديني فيهما أكثر من خمسمائة طالب متعمم فضلاً عن الصغار،ومدرسة للطب تدرس العلوم كلها بالعربية،ولأساتذتها فضل كبير على ما وضع من المصطلحات العلمية في لغة العرب.وفيها مدرسة للحقوق العربية.وفيها أنشء أول مجمع عربي صحيح.

وفي الشام كثير من الآثار الباقية من القرون الخالية:كالقلعة والسور،والمدارس،والمارستانات،والمساجد القديمة،والربط والخانات،ولكل من ذلك حديث طويل وتاريخ حافل.وفيها مدافن كثيرين من أعلام الإسلام في السياسة والعلم والأدب والتصوف.وفي مكتبتها الظاهرية نوادر المخطوطات،حتى أنها لتعدّ أغنى الخزائن الإسلامية فريدة. ودمشق ذاخرة بالعلماء في كل فن وعلم.وليس للعروبة مثل دمشق موئلاً وملاذاً،وليس في المسلمين مثل أهلها تمسكاً بالدين وإقامة لشعائره،فمساجدها ممتلئة أبداً،فيها كل شاب متأنق تراه فتحسبه من شراب مياه التايمس أو السين،وهو مسلم حقاً،مؤمن صدقاً،ناشىء في طاعة الله،ومساجد بلاد العرب إن امتلأت فبالشيوخ والشيب!.

والمنكرات في دمشق مقموعة وأهلها الأذلاء.وللعلماء العقلاء المخلصين منزلة عند أهل دمشق ليس لأحد من أبناء الدنيا مثلها.

والسفور في نساء الشام قليل نادر،والاحتشام والستر عام شامل.

وأهل الشام كالماء لهم في الرضا رقته وسيلانه،وفي الغضب شدّته وطغيانه،بل كان لهم من البركان فورانه وثوراته.

وبعد فأي مزاياك يا دمشق أذكر،وإلى أي معاهدك أشتاق،وأيهما أحن إلى حسنه وأهيم بجماله ،وفيك الدين وأنت الدنيا،وعندك الجمال وعندك الجلال،وأنت ديار المجد وأنت ديار الوجد،جمعت عظمة الماضي وروعة الحاضر،وسيكون لك المستقبل…المستقبل لك يا دمشق.عشت وعاش بنوك والسلام عليك ممن غربته عنك وأنكرته،وأشقيته بالوفاء حين أسعدت بالغدر الغادرين”.

وفي مقال آخر للعلامة علي الطنطاوي بعنوان:دمشقيات ـ من الجادة الخامسة ـ( نشر في مجلة الرسالة العدد 320) يقول:

آمنتُ بالله واستثنيتُ جنّتهُ          (دمشقّ) روح وجنات وريحان

اللهم،إن كنت كتبت لي(برحمتك) الجنة،فاجعل جنتي في الآخرة على مثال(دمشق)،واجعل قصري فيها في (الجادة الخامسة)!

ولكن كيف لي بتصوير(الجادة الخامسة) لقراء(الرسالة) وهم منتشرون في أقطار الأرض كلها؟وكيف لي بإقناعهم،ولكل منهم بلده،وكلّ ببلده فخور!

إنَّ الشام درّة تاج الكون،وإنها بيت القصيد في (معلقة) الوجود،وإنها اللذّة الكبرى مجسمة،وإنها العاطفة السامية،والحبّ مصوّراً هضاباً وصخوراً ومروجاً وبساتين…وإن الجادة الخامسة درّة دمشق،وبيت قصيدها،وإن الذي تشرف عليه منظر أقل ما يقوله الصادق فيه وأبعده عن المبالغة وألصقه بالحقّ الصراح أنه أجمل منظر على ظهر الأرض،وأن الله حين وزع الجمال على البقاع…فخصّ كل واحد منها ـ بنوع واحد منه ـ جمعه كله لدمشق،ووضع أفضل مجموعة منه في (الجادة الخامسة).

ولقد كنت في البادية منذ أسبوع آيباً إلى دمشق،أحدقّ في الأفق علي أرى خيال دمشق:بلد الحب،بلد اللطف،بلد الكرم،بلد الجمال…فلا أرى إلا الصحراء بوجهها الكالح الكئيب الصامت الرهيب،فأفرّ من مرآها وأغمض عنها عيني،أحاول أن أختلس من الزمان إغفاءة،فأقطع هذا الطريق المضني على مطية الكرى…فلا أرى في منامي إلا طيف دمشق البلد الحبيب،ولا أكاد أستمتع به حتى تقصيه عني سيارة(نيرن) بهديرها الذي يطرد الأحلام،ودويّها الذي يطيّر شياطين الشعر،وثقلها ورزانتها التي تشبه أحلام قوم الفرزدق…ولبثت على ذلك حتى جاوزنا (الضمير)،واستقبلنا دمشق من طريق حمص،وكنت في شبه غفوة…فما أحسست إلا إخواناً لنا من أهل بغداد كانوا معنا في السيارة ينبهوني ليسألوني.فانتبهت،فإذا أنا أرى حولي طلائع الخضرة تمتد إلى السفوح البعيدة.فقالوا:أهذه هي (الغوطة)؟فضحكت وقلت:هذه سهول لها نظير في كل أرض…فكيف تكون هي الغوطة التي ليس لها في الارض نظير؟انتظروا تروا… وسرنا خلالها لسهول ننعم فيها النظر فنرى من جمالها كل لحظة ما لم نكن رأينا…حتى بدت أوائل الكروم،كروم(دوما)…منذا الذي لم يسمع بها؟تلك التي طارت شهرتها في الآفاق،فأسكرت بمشهدها العشاق وذوي الأذواق،كما أسكرت برحيقها من كان من أهل الرحيق.فقالوا:هذه هي الغوطة؟قلت:لا،بل هذه كرومها،فانتظروا الغوطة التي فتنت أجدادكم من قبلكم،وفتنت من قبلهم الروم والفرس،وتفن كل ذي لبّ إلى يوم القيامة!…وسرنا خلال(الكروم)،وهي تمتد عن أيماننا إلى حيث لا يبلغ البصر،و(المناظر)،قائمة على العيدان الرفيعة،منثورة في الأرض،ضاربة في السماء،لا يُحصيها العدّ،كأنها أعشاش العاشقين،أو منارات يؤذن فيها دعاة الغرام،تبعث في النفس ذكريات الحب الدفين(وفي نفس كل إنسان منه ذكريات)،فتعيد الحب حيّاً.وسرنا خلالها حتى بلغنا(الغوطة)،فسلكنا جانباً منها يحاذي دوما وحرستا.فقلت:هذه هي الغوطة!وسكت فلم أعرّفها لهم،ولم أقرظها،بل تركتها تقرظ نفسها…ففعلتْ وأربتْ على ما كان من الخيال منها،فذهب الإعجاب بالقوم كل مذهب ،ونال من نفوسهم كل منال ،فسكت اللسان،ونطق القلب،وقالت العينان،وشحّت اللغة،فما تبضّ إلا بقطرة ما فيها ريّ ولا بلل…

وبلغنا دمشق،فقلت للقوم:إن في سفر الطبيعة صفحات مختلفات،في كل بلد صفحة منها.فسهل وجبل وواد وصحراء وبحر ونهر…فتعالوا أشرف بكم على صفحة فيها كل الصفحات.تعالوا أطلعكم على دمشق،وقد رأيتم منها سهلها وغوطتها،لتروا جبلها وصحراءها وواديها! فأبوا عليّ،وجنحوا إلى الهرب،وتعلّلوا بالتعب،وأصررت وأبيت…فرأيتهم لانوا كارهين،فاغتنمت لينهم،ولم أبال كراهيتهم،لعلمي أن ما سيرون سيقع منهم موقع الرضا وفوق الرضا..وأخذنا سيارة من المرآب الذي استودعناه حقابئنا،إلى(الدار) التي استأجرها لنا أخي..في الجادة الخامسة.فما انعطفت بنا السيارة نحو(طريق الصالحية)،وشاهد أصحابنا البيوت ترتقي في الجبل ،وهو يجلسها في حجره،ويحوطها بذراعيه،وينحني عليها برأسه الهائل المتوج بالصخر،حتى تبدّل سخطهم رضا،وطفقوا يسألون!…فقلت:أما الذي إلى اليمين،حيث البيوت الواطية المتلاصقة،والمآذن الكثيرة السامقة،والقباب،فحيا الأكراد والصالحية.ثم تتالى بناء المدارس في الصالحية،حتى إن شارعاً يدعى الآن:شارع(بين المدارس) في الشركسية يحوي أكثر من عشرين مدرسة باقية قبابها وأبوابها،فضلاً عما اندثر منها.وآخر هذه المدارس وأعظمها المدرسة العمرية،أنشأها الشيخ أحمد بن قدامة المقدسي في منتصف القرن السادس الهجري،ونمت حتى صارت(جامعة)،ودعيت بالمدرسة الشيخة،ثم تضاءلت حتى رجعت اليوم خراباً كأكثر مدارس الشام،واختلس الجيران ما قدروا عليه من ساحاتها وأبهائها فأدخلوها بيوتهم…

وأما الذي إلى اليسار فحيّ المهاجرين،وقد كان قبل ثلاثين سنة جبلاً أجرد،فأسكن فيه ناظم باشا(المهاجرين) من (كريت) بعد عدوان اليونان عليها،وبنى لهم أكواخاً صغيرة،ثم حال الحال فصارت قصوراً للأغنياء،غير أنها لا تزال بقية من تلك الأكواخ خلال القصور،ولا تزال قطع جرداء من الجبل أو صخور ماثلة بين الدور…

وذهبت السيارة ترتقي في الطريق الصاعد إلى(المهاجرين)،وكلما علونا فيه شيئاً،بدت لنا من دمشق والغوطة أشياء،حتى إذا بلغنا نهاية الطريق الذي يمشي عليه (الترام) انكشف لنا أعظم منظر تقع عليه عيني:من ورائنا الجبل الفتان(قاسيون)،وهو في الجبال كالفتى الغرانق في الرجال،قوي ولكنه وديع،وحلو ولكنه عظيم،وعن أيماننا جبل المزة ووادي الربوة،ذاك الذي يجري فيه بردى في السبعة الأنهار:يزيد وتورا وبردى وبانياس وقنوات وعقربا والديراني،تتسلسل كأنها أطواق اللؤلؤ على أحلى جيد،تمتد من صلب هذا الجبل حيث يجري(يزيد)إلى سفحه،حيث يمشي(تورا) من تحته،إلى أسفل الوادي،إلىسفح الجبل الآخر،إلى صلبه،والأشجار على ضفاف الأنهار كلها،والشلالات تنحدر من الأعلى إلى الأدنى تتكسر على الصخور،وتنحط،تخالطها أشعة الشمس فيكون لها بريق ولمعان كلمعان الماس،وأين منها لمعان الماس؟..

وعن شمائلنا الفضاء الرحب،تملؤه الغوطة كبحر ما له آخر،أمواجه خضر…وتقوم في وسطه دمشق،دمشق الجميلة،دمشق القديمة،دمشق الخالدة.والجامع الأموي في وسط البيوت تظلله قبّة النسر،كأنه رجل طوال واقف بين صبية صغار،ومن الدور التي شبهناها بالصبية ما فيه سبع طبقات،ولكنه الأموي معجزة البناء الإسلامي…ومناراته الثلاث الهائلة…يا لدمشق ومناراتها السبعين والمائة،وغوطتها وبرداها!..

قلت:هل بقى من الطبيعة لون لم تحوه دمشق؟

قالوا:لا والله،إلا أن يكون البحر،وهذا بحر من الخضرة شهدنا أنه لا إله إلا الله،وان دمشق أجمل بلاد الله!

قلت:شهدتم وأنتم في (الجادة الأولى) فكيف إذا صعدتم إلى (الجادة الخامسة)؟

وبعد…فيا أسفي على أيامي التي قضيتها ساكناً في (البلد) ويا عجباً من قوم عندهم(حي المهاجرين) ويقطنون في غيره،وعندهم قاسيون وينامون(تحت) في السهل! وكيف يؤم الناس المصايف،ويذهبون إلى بلودان ولبنان،وهنا(الجادة الخامسة) لو حلف رجل بأوثق الأيمان على أنها أجمل من لبنان،وأعذب ماء،وأطرى هواء،لما أثم ولا حنث؟

اللهم عفوك! فإني والله لا أستحق هذه النعمة،ومالي على أداء شكرها طاقة!”.

وفي مقال له نشره في كتابه”دمشق”وتحت عنوان”دمشق التي عرفتها وأنا صغير نُشر عام 1960م يقول العلامة الشيخ الطنطاوي رحمه الله:

“إن موضوعي اليوم ملامح من دمشق قبل خمسين سنة.جلاها لعيني وأعاد صورتها إلى نفسي،وقوفي أمس على الدار التي كنا نسكنها في تلك الايام.

ذلك أني ذهبت إلى العقيبة(يقول الشيخ على الهامش:خرج من هذا الحي من الأدباء خير الدين الزركلي،ومعروف الأرناؤوط،وأنور العطار،وشكري فيصل)أزور صديقاً لي فيها،فلما صرت (تحت المئذنة) قلت أدخل(الديمجية) فأجدد العهد بها،وقد طال عهدي بفراقها.

ودخلت زقاقاً عرضه متران،حتى إذا قاربت المسجد وقفت،وجعلت الأيام تمر بي راجعة أراها تطوي لي السنين حتى رأيتني إماماً رسمياً في المسجد قبل ثمان وثلاثين سنة،ثم أرى الأيام تمر بي راجعة،حتى رأيتني وأنا صغير،قبيل الحرب وخلال سنيها الأولى.

لقد سكنا هذه الدار ثلاثين سنة وسكنها من بعدنا الشيخ الكافي رحمه الله.(ديار) أرضها من (العدسة) السوداء وجدرانها من الطين،وفي صدرها غرفة رطبة لا تستطيع الشمس أن تدخلها تفصي إلى غرفة أصغر منها،مظلمة تحتاج في الظهر إلى مصباح،وفي الطرف الآخر من الرحبة مطبخ،وفوق ذلك غرفتان.

وكانت تجري في الدار ساقية،قد جاءت من(نهر تورا)تقطع ثلاثة ىلأاف متر لتصل إلينا،تجري مكشوفة تحمل كل ما يلقى فيها،وكانوا يشربون منها قبل أن يجر ناظم باشا ماء الفيجة إلى الشام،ومن ترفع عنها شرب من مياه الآبار،ولما وعيت كانت سبل الفيجة قد أنشئت وكنا نملأ الأوعية منها،من المرجة أولاً،لأنه لم يحدث إلا سبيل واحد فيها،ثم من فيجة الحارة،وكنا نملأ الجرار من ماء الفيجة للشرب والطبخ فقط،وما عدا ذلك فكان له ماء الساقية.

وكنا نأخذ الماء منها قبيل الفجر لأنه يكون أنظف،ثم نصلي وكان أهل الحي جميعاً يفيقون قبل الشمس،يصلون ويلبثون أيقاظاً،لا تجد في الناس من كان ينام إلى ما بعد طلوع الشمس،لأنه لم يكن فيهم من كان يسهر إلى ما بعد العشاء،إلا أن يكون عرس أو مولد أو تلبيسة وهذا شىء نادر.

كنا نفطر صباحاً ونتعشى بعد العصر،أما الغداء فلم يكن مألوفاً عند عامة الشاميين،وكان الخير كثيراً وكان كل شىء رخيصاً.فكنا نأكل خبز القمح الخالص،والسمن العربي الصافي ،لم يكن قد سمع أحد باسم السمن النباتي فإذا انقضى الفطور وانصرف النساء إلى أعمالهن وذهب الرجال إلى أسواقهم أو إلى دواوينهم،وكان أكثر التلاميذ يذهبون إلى المدرسة بالقمباز والقبقاب.

وكانت الدار مستورة،لا يرى من فيها أحداً،ولا يراهم منها أحد،لا نافذة لها على الطريق،ولا شرفة للجيران عليها،وكان في البيت جدي وجدتي وأمي وعمتي،وفي كل دار عدد كبير من الرجال والنساء والأطفال يعيشون معاً عيش الصفاء والوئام.

وكان عندنا جامع التوبة وهو جامع مبارك فيه أنس،يحس داخله الطمأنينة والانشراح،وقد أسس من أول يوم على التقوى،ذلك أنه كان في الأصل خاناً ترتكب فيه أنواع الموبقات،فاشتراه أحد ملوك الأيوبيين وجعله جامعاً،فسمي جامع التوبة،وقد كان فيه الشيخ سليم المسوتي ولم أدركه،ولكن أدركت من كبار تلاميذه الشيخ مصطفى الطنطاوي(أبي)،والشيخ أبا الخير الميداني،وأدركت كذلك الشيخ الحلواني،والشيخ الكافي،والشيخ البرهاني الكبير،والشيخ دبس وزيت،والشيخ محمود الياسين رحمهم الله جميعاً.

وكان الحي كأنه دار أسرة واحدة فكان أهله شركاء في الفرش والآنية،إن احتاج أحد إلى شىء قرع باب جاره فاستعاره،وإن كان فرح أو كان مأتم،اشتركوا جميعاً في البذل وفي العمل وفي العاطفة.

وكان الرجل يعتبر نساء الحي كلهن أهله،ويحفظهن ويغار عليهن كغيرته على أهله،وكانت كل امرأة تنظر إلى نساء الحي نظرها إلى أهلها،تقدر كل كبيرة تقديرها لأمها،وتعطف على كل صغيرة عطفها على بنتها.

وكان في مدخل كل حارة سمان أو عطار من طبقة(الزكرتية)،وهم كانوا أهل المروءة والنخوة،وكانوا أشبه بطبقة الفرسان في أوربة،ووظيفة هذا السمان أو العطار،أن يراقب الحارة،فإن رأى شاباً غريباً في الحي سأله من أين؟وإلى أين؟وإن خرجت امرأة وحدها،يراقبها يرى أين تذهب وحدها.

وكان نساء الحي جميعاً بالحبرة(الملاءة) المزمومة،الساترة،وكان على الوجه المنديل الخشن ذو الثقوب،وكانت المرأة المتعبدة تلبس الإزار الأبيض،وكانت الحبرة عامة حتى إن النساء النصرانيات واليهوديات كن يلبسن الملاءة ولكن بلا منديل،فكان الفرق بينهن وبين المسلمات أن الوجه منهن مكشوف،أنا أعرف ذلك وكان على أيامي.

وكانت المرأة لا تخرج إلا باللباس الطويل الذي يصل إلى نصف الساق،وكانت تستحي البنت أن يراها أبوها في البيت بالكم القصير أو بالصدر المكشوف،ولا تظهر بزينتها إلا أمام زوجها،وكانت الزينة بالأبيض وقليلٍ لا يرى من الأحمر،وبصبغ الحواجب وتزجيجها،أما أحمر الشفاه فلم يكن معروفاً.

وكان الشعر طويلاً،يتفاخر النساء بطوله،ولم تكن موضة قص الشعر،ولم تكن المرأة تظهر لسلفها ولا يرى الرجل وجه امرأة أخيه،لأنه أجنبي عنها شرعاً،إلا بمخلص شرعي.

وكانت البنت تتزوج في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة والشاب يتزوج في السابعة عشر أو الثامنة عشرة فلا يبلغ الثالثة والعشرين حتى يكون قد استقل بعمله،أو صار شريكاً لأبيه،وصار له مورد،وصار له أولاد،ولم يعد كَلاً على أبيه ،بل صار هو الذي يساعد أباه.

وكان الناس يتركون أعمالهم ويغلقون دكاكينهم من بعد صلاة العصر ثم يذهبون إلى السيران في صدر الباز أو الربوة أو مصطبة الهبل(ملاحظة:أقيم مستشفى المواساة على مصطبة الهبل فيما بعد)ينصبون سماور الشاي،ويبردون البطيخة في النهر ويتعشون جميعاً،الرجل مع أهله أو مع أصحابه ثم يصلون المغرب ويعودون إلى دورهم.

قد أدوا حق أنفسهم بالراحة والمتعة،وحق أهليهم بالكسب والإنفاق ،وحق الله بالطاعة والعبادة،لا يهتمون بسياسة ولا رياسة ولا يتصلون بالحكومة إلا إن عرض عارض أو ألمّت ملّمة.

ولم تكن في الشام جريدة عامة تباع علناً.كانت جرائد تطبع أعداداً قليلة ترسل للمشتركين،ولم يكن شىء من هذه المجلات المصورة،ولا هذه الرواياتنولا هذه الكتب العامة،وكان الناس يفرقون بين الحلال والحرام،وإن توقفوا سألوا العلماء،ولم يكن التجار يأخذون رباً ولا يعطونه ولا يمنعون زكاة ولا يبخلون بإحسان.فكان الفقراء في راحة،والأغنياء في سلام.

ولم يكن الاصطياف معروفاً فكان الرجل يأخذ أهله إلى دمر أو الجديدة أو بسيمة يومين أو ثلاثاً،ثم يعود،وليس في هذه القرى قهوة مفتوحة ولا ناد ولا كازينو،إنما هي الغياض وأطراف السواقي وشعفات الجبال،ثم إذا كان وقت الصلاة أذن المؤذن وأمّ الإمام،ولقد كان يجتمع في سهل العين الخضراء،في صلاة المغرب أكثر من ستة صفوف فيها ستمئة مصلٍ ولا يتأخر عن الصلاة أحد.

وكانت المصايف البعيدة،قرى منقطعة،وأنا أعرف بلودان وهي ضيعة ما فيها بناء جديد،وأعرف عين بقين،وهي منحدر حوله الشوك لا تصل إليها المعزى إلا بمشقة.

وما أدري بعد،ما وقع هذه الصورة في نفوسكم،ولكن الذي أدريه أن هذه هي ملامح عن دمشق التي عرفتها وأنا طفل من نحو خمسين سنة،فانظروا أين مشينا في هذه السنين الخمسين؟

لقد ربحنا شيئاً وخسرنا شيئاً كثيراً فاحسبوا أنتم لتنظروا ما الذي ربحناه وما الذي خسرناه”.

وقال في مقال آخر بعنوان”ذكريات“( نشره في مجلة الرسالة العدد 205):

“هما موقفان لا أزال أذكرهما،أو تغمض عيني كفّ الغاسل:

أما الأول فعلى ضفاف بردى،في الثامن والعشرين من إيلول 1936م.

وأما الثاني فعلى شاطىء دجلة في الخامس من آيار عام 1937م.

كان بردى يخطو على مهل،مُتهللاً منطلق الوجه،يرد على الشمس الوليدة أول تحياتها،وهي تغمره برشاش من عطر أشعتها الحمراء..وكنت في السيارة الفخمة،أنظر إلى جموع المُودّعين من الصحب والرفاق،الذين خرجوا من بيوتهم في هذا الصباح،ليودعوني قبل نزوحي إلى العراق فأقلب النظر في وجوهههم،شاكراً لهم فضلهم،حزيناً لفراقهم،ثم أتأمل بردى صديق الصبا وسمير الوحدة ونجيّ النفس،فأبصر في خلاله ظلال الحور والصفصاف تميس دَلاً وتيهاً،وأرى ظلال المآذن البعيدة السامقة تضطرب في الماء فأبصر فيها ذكرياتي حيّة تطالعني وتحدثني،وتعيد على مسمعي قصة حياتي،وتتلو علي تاريخي فأحسّ بلوعة الفراق،وأشعر في تلك الساعة بأني أحبّ دمشقّ..دمشقّ مثوى ذكرياتي،

ودنياي من الدنيا،وغاية أملي في حياتي..ثم يطوي المرج هذه الصور كلها،ولا يدع حيال عيني إلا صور أخوتي،فأتاملها بعين دامعة وقلب واجف خائف من الفراق،ثم تجتمع كلها في وجه واحد،هو أحبّ الوجوه إليّ وأدناها إلى قلبي…وألمح في الماء مشهداً طال عليه العهد ونأى به الزمان.فأراه ينفض عنه غبار السنين العشر،ويعود حياً جديداً..

رأيتني في محطة الحجاز،آية الفن الحديث في دمشق،والمحطة مائجة بأهلها كما يموج البحر بمياهه،فمن مسافر عجل،ومن مودع باك،ومن بائع يصيح…ومن آت وذاهب،وطالع ونازل…وكنت منزوياً في ركن من أركان القطار المسافر إلى حيفا،وإلى جانبي أختي الصغيرة..أنظر إلى بعيد،فأرى هناك،في أخريات الناس امرأة تمسك بيديها طفلين،ملفعة بملاءة لا تبدي منها شيئاً،ولكن وراء هذا القناع الأسود عينين تفيضان بالدمع عالقتين بمكاننا من القطار.وخلال تلك الضلوع قلباً يخفق شوقاً،ويسيل دمعاً،ووراء هذه الوقفة الساكنة الهادئة ناراً تضطرم في الجو،وزلزالاً شديداً يدكّ نفسها دكاً…

وصفّر القطار الذي يحملنا إلى مصر،فازداد قلبنا خفقاناً واضطراباً،ثم قذف إلى الجو بدخانه كأنما هو حي قد أخذ بموقف الوداع،فزفر زفرة الحزن الدفين،والألم الحبيس ثم هدر وسار وراحت المحطة تبتعد عنها وعني عالقة بيد تلك المرأة التي تلوح لي بمنديل أبيض،حتى غاب عني كل شىء .

هنالك تلفّت فرأيتني وحيداً،ورأيت القطار يجد لينأى بي عن أهلي وبلدي،فهممت بإلقاء نفسي من نافذة القطار لولا أن تعلقت بي أختي التي كانت على صغرها أكبر مني،وعلى أنوثتها أقوى وأجلد..

أردت أن ألقي بنفسي لأني لم أكن أتخيل أن في استطاعتي الحياة يوماً بعيداً عن أمي التي كان تعلقها بنا،وتعلقنا بها لأشبه ما نرى من الأمهات والأبناء،وكان…آه ماذا تفيد(كان)،وقد كان ما كان؟

تلك هي أمي،التي مرّ على(غيابها) عني سنوات طوال،ولكني أحسّ كأن الحادثة كانت أمس ـ فتحزّ في نفسي ولا أطيق أن أكتب عنها حرفاً.

تلك هي أمي التي كانت لي أماً وأباً،بعد أبي رحمهما الله،وكانت حبيبة وكانت أستاذة،وكانت دنياي وكانت آخرتي…وكانت أمي!

تلك هي أمي التي فوجئت كما تفاجأ الشجرة الغضّة الفينانة في ربيعها الزاهر،حين تعصف بها العاصفة فتدعها جذعاً مقطوعاً جافاً..

تلك هي أمي التي ما نسيتها ـ علم الله ـ أبداً،ولم أذكرها أبداً،كأنها تملأ نفسي ولكني لا أجري ذكرها على لساني.أراها في أحلامي حية فأشعر كأني عدتى حياً،وأهم بعناقها وأفتح عيني فأجد على وجهي حر لطمة الدهر الساخر،ولكني أحمل اللطمة., أغضى على القذى،ولا أخبر أخوتي بشىء،لئلا أذكرهم ما هم ناسون،أو أجدّد لهم بالمصيبة عهداً،فأهمل ذكرى أمي ويهملونه..ولعلّ كل واحد منهم يحس مثلما أحس ويكتم مثلما أكتم!

ذكرت ذلك ساعة الوداع،لأني كنت متألما،وليس لآلامي كلها إلا معنى واحد هو إني أذكر وفاة أمي ،ذلك هو الألم عندي لا ألم سواه.

فلما صحوت نظرت في وجوه المودعين فلمحت وجه أمي مرة ثانية،ولكني لمحته حياً ماثلاً في وجوه أخوتي الأحباء.فودعته بدمعة من العين،وابتسامة على الفم،وإشارة بالكف،ثم سارت بنا السيارة تطوي الأرض وتستقبل الصحراء”.

وقال في مقال آخر بعنوان”إلى لبنان ـ صور وخواطر ـ نشره في مجلة الرسالة العدد 223:

“لقيني الأستاذ عز الدين التنوخي،وكنت قادماً من سفر فقال لي:هلمّ!

قلت:إلى أين؟

قال: إلى الجبل نزور أمير البيان،ورجل الإسلام شكيب أرسلان.

قلت:ما أعدل والله بزيارته شيئاً،ولكني آت من سفر ولم أبلغ داري.

قال:اطمئن فإن الدار في محلها لم تطر،وما عليك أن تراها غداً؟

قلت: ما علي من شىء،وسرت معه.ولم أعد أرى السفر شيئاً، لأني أصبحت في هذه السنين الأواخر كذلك الذي كان(موكلاً بفضاء الله يذرعه)فلا أكاد ألقي عصا التسيار وأحطّ الرحال من سفر،حتى أتهيأ لآخر.أطوّف ما أطوّف،ثم آوي إلى هذه الغرفة الصغيرة أجلس بين ركام الكتب أحسب ما كسبت من هذا العناء الطويل،فلا أجدني كسبت إلا صوراً في الذاكرة أضمها إلى صور،وذكرى في النفس أجمعها بذكري،وصفحة في دفتري أضيفها إلى صفحة أسعد بتدوينها،وأسرّ ببقائها،وإن كنت لا أدوّن إلا الأقل مما أراه وأشعر به،ولا أذكر إلا التافه مما يمر بي.وإن كنت أعلم أن صور الذاكرة إلى امّحاء،وذكريات النفس إلى ضياع،وقصص الدفتر إلى السكين والنار لا يزهدني ذلك بها،ولا يصرفني عنها،لعلمي أن الحياة نفسها ستموت،والوجود سيعدم،ولا يبقى في الوجود إلا المُوجد.

وكنا خمسة في السيارة:الأستاذ التنوخي،وأنا،والأستاذ الشيخ بهجة البيطار،والأستاذ الشيخ بهجة الأثري ،والشيخ ياسين الرداف معتمد المملكة السعودية في دمشق سابقاً..

خرجنا من دمشق مع الغروب…وكان اليوم جمعة،وكانت ليلة قمراء،فسالت الطرق بالدمشقيين على عادتهم في مثل هذه الليالي فامتلأت جوانب بردى،والمرجة الخضراء،والربوة،ووادي الشاذروان أجمل أودية الدنيا وأحلاها،فلم يكن أمتع للعين،ولا أشهى للقلب،من ذلك المشهد.فسرنا في هذا العالم الساحر،مترفقين متمهلين،لأننا لا نمشي في طريق وإنما نمشي في بحر من العيون والقلوب والمفاتن جمع كل جميل بارع أخاذ،حتى بلغنا دمر:

والحورُ في دمّر أو حول هامتها      حور تكشف عن ساق وولدان

فوقفنا نمتع الأنظار بحورها وحورها،وشموسها وبدورها،,أنت مهما عرفت دمشق فلا تزال ترى فيها أبداً جمالاً تجهله ولا تعرفه،ففي كل يوم جمال جديد،وفي كل مكان فتنة جديدة،فلا تدري أين تقف،وماذا تنظر،وأيا تفضل؟أوادي الشاذروان أم جنائن الغوطة،أم جبال بلودان،أم العين الخضراء،أم سهول الزبداني،أم العيون التي لا يحصيها عدد؟

سقى الله ما تحوي دمشق وحيّاها      فما أطيبَ اللذاتِ فيها وأهناها

نزلنا بها واستوقفتنا محاسن           يحنّ إليها كلّ قلبٍ ويهواها

لبسنا بها عيشاً رقيقاً رداؤه            ونلنا بها من صفوة اللهو أعلاها

سلام على تلك المعاهد إنها            محط صبابات النفوس ومثواها

رعى الله أياماً تقّضت بقربها          فما كان أحلاها لديها وأمراها

خلينا الهامة وجمرايا والوادي كله عن أيماننا،وأسندنا إلى الجبل نستقبل الصحراء إلى ميسلون،بلاط شهدائنا،ومشهد أبطالنا،ومبدأ تاريخنا الحديث،ومثوى الأسد الرابض يوسف العظمة،الذي وقف هو وأشبال دمشق العزل الأقلاء في وجه ثاني دولة قوية ظافرة،فما ضعفوا ولا استكانوا ولا جبنوا،وما زالوا يقاتلون ويدافعون عن العرين ثابتين ما ثبتت الروح في أجسامهم،حتى أعجزهم أن يعيشوا أشرافاً فماتوا أشرافاً،فكان موتهم حياة لهذه الأمة التي حفظت العهد وحملت الأمانة،وكانت قبورهم منارأً أحمر في طريق هذا الشعب المجاهد المستميت لن يقف أو يتباطأ حتى يأخذ(الكل) الذي (أعطى) الآن(بعضاً)منه،ولن ينام حتى يرى هذه الصحراء قد آضت جنات ألفافاً،تحمل الزهر الذي لا يسقى إلا بالماء الأحمر الملتهب تحمل أزهار الحرية.

سيبقى هذا اللحد لتمر عليه الأجيال الآتية،الأجيال الحرّة العزيزة،فتذكر جهاد أسلافنا،وتعرف الثمن الذي دفعوه،ولتعلم أن القوة إن غلبت الحقّ حيناً،فإن الحقّ يصنع القوة التي يغلب بها دائماً

سأذكر ما حييتُ جدار قبر          بظاهر جِلّق ركب الرمالا

مقيم ما أقامت ميسلون             يُذكّر مصرع الأسد الشبالا

تغيب عظمة العظمات فيه           وأول سيد لقى النبالا

مشى ومشت فيالق من فرنسا     تجر مطارف الظفر اختيالا

أقام نهاره يلقى ويلقى            فلما زال قرص الشمس زالا

فكفن بالصوارم والعوالي         ووسد حيث جال وحيث صال

ثم أخذت السيارة تصعد بنا في مسالك ملتوية مستديرة تزيغ الأبصار من استدارتها وعلوها،حتى إذا ظننا أننا بلغنا قمة الجبل تكشفت لنا قمم فإذا نحن لانزال في الحضيض،وما فتئنا نعلو ونتسلق وندور حتى حاذينا(بلودان)درّة المصايف الشامية،وبدا لنا فندقها الفخم الضخم ،ثم عدنا نهبط،حتى انتهينا إلى سهل البقاع الخصب”.

وقال الشيخ العلامة علي الطنطاوي رحمه الله في مقال آخر بعنوان”من دمشق إلى دير الزورـ (مجلة الرسالة العدد 727:
“استعدوا يا سادة،فقد أزف الرحيل،وشدت الأهداج،فودعوا الأحبّة والصحاب إن كنتم تطيقون الوداع،وخذوا طريقكم إلى (المرجة) ففيها الموعد الفجر،وأسرعوا لا يشغلكم جمال الغداة،ولا سحر السحر،وإن ملأ السماء والأرض والنفس خشعة وفرحة وبهاء،فحرام على ذي الأعمال أن يفتنه الجمال…

ها نحن أولاء في (المرجة)،وها هو صوت المؤذن يمشي في الفضاء مشى البرء في الأجسام،والطرب في الأعصاب،فيكون لهذه الدنيا نوراً وطهراً وعطراً،وها نحن أولاء نصلي الصبح في (جامع يلبغا)،وها نحن أولاء نخرج فنرى السيارة وعليها الأحمال،ولكن مالها لا تمشي؟ألم يان الأوان؟ ألم يؤكدوا لنا إن الرحلة الفجر؟لقد مضت نص ساعة،ومضت ساعة،وملأت الشمس الدنيا، وأمتع الضحى،وهي واقفة،ترقب أحد البكوات حتى يصحو وتفرك الجارية رجليه ويغتسل ويأكل ويجىء متبختراً..

لقد دنا المسير،و(رغت) السيارات،فاستنجدوا بقرائحكم لتسعفكم بالقول المحلى واللفظ المعسول،واعتصروا العيون واستمطروها الدمع،فما يحلو بغير الدموع الوداع،وخذوا مقاعدكم قبل أن يشتد الزحام..

لقد جرت السيارة وباسم الله مجراها ومرساها،هاهي ذي تخترق شارع فؤاد الأول،وتقطع شارع بغداد أفخم شوارع دمشق وأطولها،الذي فتح من ربع قرن ولم يبن فيه إلا خمس بنايات ،لأن البلدية أرادت عمران دمشق فوضعت للبناء فيه شروطاً لا يمكن معها البناء…

لقد بلغنا(جسر تورا) فودعوا دمشق بنظرة أودعوها حبّة القلب،وقرارة اللبّ ،فما تلقون إذا فارقتم دمشق مثل دمشق،وأين؟أين مثل فتونها وسحرها؟وأين مثل تقاها وطهرها؟أين قبة تنطح النجم كقبتها؟أين في الأرض غوطة كغوطتها؟أين نهر يسيل شعراً وذهباً كبرداها؟أين مثل ربوتها وشاذرانها ومزتها وميزانها؟أين في الدنيا ربيع كربيعها،وزهر كزهرها،وثمر كثمرها،وكروم ككرومها؟

تزودوا منها بالنظرات تكن لكم في طريقكم زاداً وفي غربتكم أنساً…

هذه(دوما) قصبة الغوطة فيها خمسة وعشرون ألف ساكن قلّ فيهم من يتفرغ للعناية بدار لذلك ترون دورهم زرية منخفضة السقوف،ضيقة الأبواب،وقل فيهم من يعتني بثوب أو يحرص على علم،ما لهم إلا الزراعة فهم أقدر خلق الله عليها،أصبرهم على مكارمها،لأنهم يشتغلون لأنفسهم وذراريهم،لا ل(بك) من البكوات،ولا لخواجة من الخواجات،وقل فيهم من لا يملك قطعة من الأرض ولو صغرت،يعيش بها ولها ويموت عنها،ليس فيهم أسرة يستعبدها الملاك هذا الاستعباد(الحر)..إنها أرضهم هم،وهم أصحابها،ولذلك ازدهرت وأينعت حتى صارت أجمل أرض في الوجود.فانظروا إليها من حولكم،إلى هذا البحر يموج بالأشجار،تتمايل أغصانها،وتتعانق أفنانها،تتوجها إذا جاء الربيع ألوان الزهر،فتكون ابتسامة الزمان على فم الثرى،وتثقلها إذا حل الصيف أنواع الثمار،من المشمش عشرين نوعاً،حبة كالتفاح استدارة وبهاء لا كمشمش مصر الذي يشبه في صغره حب الخردل،ومن التفاح أربعين نوعاً،والكمثرى عشرين،والعنب خمسين نوعاً معدودة عداً،والدراق والخوخ والجانرك والسفرجل والجوز واللوز والتين والزيتون أنواع شتى وأشكال،وإلى السواقي تسعى فيها تحمل الحياة من بردى إلى هذه الأرض المباركة،يميد على حوافيها الحور ويرقص الصفصاف،وتنساب عروق البطيخ والشمام والقثاء والخيار،وتضحك من حولها حقول القمح،ومزارع الخضار…هذه هي الغوطة:بستان واحد،مساحته أكثر من ثلاثمائة مليون متر مربع،متصل الظلال،متلاقي الأغصان،كل شبر منه ثروة وجمال،وكنز لا ينفد على الإنفاق.

لقد جازت السيارة دوما،فانظروا إليها فقد كادت تختفي مناراتها،كما اختفت دمشق إلا جبليها الخالدين،قريعي الدهر حليفي الخلود:قبّة النسر من الأموي،وهامة الصخر من قاسيون.وهذي كروم دوما،يضل البصر في رجاها ويقصر عن مداها،فيها(العنب الدوماني)الذي سارت بذكره الركبان،فمن لم يأكل منه لم يأكل عنباً إلا على المجاز.

ولكنكم مررتم بالغوطة وكرومها في الشتاء،فدهشتم وما رأيتم إلا حطبها،فكيف لو جزتم بها الربيع فشاهدتم البهي من زهرها،أو سلكتموها في الصيف فجنيتم الشهي من ثمرها؟إذن لقلتم:لا ربّ إلا الله،ولا بستان إلا الغوطة!

لم يبق الآن أمامكم إلا الصحراء،ولكن هذه الصحراء كانت يوماً من الأيام سهولاً ممرعة،وكان أكثرها منازل عامرة وكانت تفيض بالخيرات وتزخر بالظلال،أيام الملوك الغرّ سادة الدنيا،بني أمية،الذين حملوا راية الإسلام إلى أقصى المشرق وإلى أقصى المغرب،من أطراف الصين إلى أواسط فرنسا،فنصبوها على قبة الفلك،ودعموها بالعدل والنبل والفضل،فما كانوا فاتحين كالفاتحين،يغلبون بالقوة،ويملكون بالسطوة،فإن زالوا زالت آثارهم،ولكن كانوا مجاهدين،وكانوا بانين،وكانوا عبقريين،فجعلوا هذه البلاد كلها إسلامية عربية إلى يوم القيامة.وكان لهم الفضل على كل مسلم،في هاتيك الأقطار حتى تقوم الساعة.رحمهم الله،فقد جعلوا هذه المدينة لما نزلوها سيدة المدائن،ورفعوا قدرها حتى دانت لهم نهاوند ودانت قرطبة وخضعت سمرقند وطأطأت لهم القسطنطينية،فأضعنا نحن من بعدهم عزّها.

فكروا في بطل الدنيا سيف الله خالد بن الوليد وصحبه،كيف قطعوا هذه البادية على الإبل لا يمشون على طريق ولا يجدون ماء ولا زاداً كافياً،والعدو محيط بهم،فلما وصلوا إلى الشام لم يغتسلوا ويمدوا أرجلهم…ولكنهم نازلوا جنود سيد الكتائب قيصر،وانتزعوا منه الظفر،وأخذوا منه البلاد،فبقيت خالصة لأمة محمد”

وفي مقال آخر بعنوان”حديث عن دمشق” (الرسالة العدد 717):

.دخلت مخزناً أشتري منه شيئاً،فسمع لهجتي الشامية شيخ كان هناك،أبيض الشعر كأنّ رأسه ولحيته الثغامة،فالتفت إلي وقال:

أنت من دمشق

قلت: نعم.

فسطع على وجهه نور،وبرق في عينيه بريق،وبدت على جبينه ظلال ذكريات حلوة،مرّت في رأسه،وأخذ بيدي هاشاً لي باشاً بوجهي،فأقعدني معه،وقال لي:

أهلاً بك،أهلاً وسهلاً،تشرّفنا يا ولدي،فتعال.حدثني عن دمشق،فقد طال عنها ابتعادي،وزاد إليها اشتياقي،حدّثني عن سهلها وجبلها،عن غوطتها وربوتها،عن(الميزان).

ألا يزال الميزان مثابة الطهر،ومعبد الجمال،وجنّة الدنيا؟

الا يزال السّراة والتّجار يُصّلون الصبح كل يوم ويخرجون إليه،ويقضون فيه حق النفس بالتأمل،كما قضوا في المساجد حقّ الله بالصلاة،فيجمع الله لهم الجنتين،ويعطيهم نعيم الدارين؟

ألا يزال زاخراً بِحلق الأحباب،وجماعات الصحاب،عاكفين على (سماورات) الشاي الأخضر(وسكى)المسلمين،يشرفون على(قنوات)و(باناس) وهما يخطران على العدوة الدنيا متعانقين متخاصرين فعل الحبيبين في غفلة الرقيب،يمشيان حالمين خلال الورود والفل والياسمين،كزوجين في شهر العسل،يظهران حيناً ثم تشوقهما الخلوة،فيلقيان عليهما حجاباً من زهر المشمش والدراقن والرمان،وعلى العدوة القصوى زوجان آخران حبيبان،يمضيان يتناجيان ويتخالسان القبل:(يزيد)و(تورا)؟

وبردى!ألا يزال يدبّ في قرارة الوادي على عصاه،ينظر باسماً إلى بنيه ثم يلوي عن مشهدهم بصره،وينطلق في طريقه لا يبالي.عاف الحبّ وملّ الغرام،وعلّمته تجارب العمر،إن كل مافي هذه الحياة باطل،إلا ذكر الله والعمل للآخرة،كله لعب ولهو متاع زائل؟

وقاسيون الجد العبقري الذي عاش عشرة ملايين سنة وما انفكّ شاباً،وشاخ ابن أخيه بردى ولم يشخ،ألا يزال قاسيون قاعداً قعدة ملك جبار،قد رفع رأسه ومدّ ذراعين له من الصخر،فأحاط بهما دمشقّ وغوطتها،من الربوة إلى برزة،ووطأ لها ركبته فنامت المدينة عليها،كما تنام الحبيبة إن أضناها النعاس على ركبة الحبيب،واحتمت الصالحية بصدره كما يحتمي الطفل الوليد بصدر الأم الرؤوم؟

ألا تزال الشمس تضحك لبردى وأبنائه،وتستحم أنوارها في مائه،وتسبح أشعتها في سمائه؟

و(صدر الباز)و(مصطبة الإمبراطور)و(الصوفانية)و(الشاذروان) حدثني عنها…

حدّث عن دمشق،ألا يزال الناس يعيشون في دمشق للخير والجمال؟

ألا يزال التجار يخرجون من صلاة العصر،فيغلقون دكاكينهم ويمضون إلى بيوتهم،إلى أولادهم وأهليهم،ثم يتعشون المغرب،ويؤمّون المساجد فإذا صليت العشاء خرجوا،فمنهم من عاد إلى داره ومنهم من ذهب إلى الدرس ومنهم من مشى إلى(الدور)..

قل لي:ألا يزال(الدور) يجمع الإخوان المتآلفين،والأحبّة المُتصافين،يسمرون كل ليلة في منزل واحد منهم ينشدون الأشعار ويسوقون النوادر،ويروون المضحكات،ويطالعون الكتب،ويتجاذبون الحديث ،ويأكلون ألوان الحلويات،ويشربون الشاي،ثم ينصرفون إلى دورهم،وقد استمعوا  أوفى ما يكون الإستماع،وسروا أكثر ما يكون السرور،وما غشوا قهوة،ولا أمسوا ملهى،ولا جالسوا غريباً،ولا أتوا محرماً،ولا أنفقوا في غير وجهه مالاً؟

ألا تزال منازل المشايخ في(زقاق النقيب)و(حمام أسامة) و(القيمرية) معاهد إرشاد،ومدارس علم،ودارات ملوك؟

قل لي:من بقى من تلك الأسر العلمية،آل حمزة وآل عابدين والطنطاوي والعطار والخاني والطيبي والشطي والأسطواني والكزبري والعمادي والمحاسني والمنيني والخطيب؟

ألا يزال فيها العلماء الأعلام أم تنكب الخلف طريق السلف،واستبدلوا الدنيا بالدين،والمال بالعلم ،والمنصب بالتقوى؟

والعلماء ألا يزالون أعزّة بالدين،يعرضون عن الملوك فيسعى إلى أبوابهم الملوك،ويزهدون الدنيا فتقبل عليهم الدنيا،ويهربون من الولايات والمناصب فتلحقهم المناصب والولايات؟

ألا يزال الناس يعكفون في دمشق على العلم لا يريدون به إلا الله والدار الآخرة،يثنون لذلك ركبهم ويحيون ليلهم،ويكدون نهارهم ،ويقنعون في أيام الطلب بما سد الرمق،وحمل الجنب،وستر العورة،لا يسألون عما غاب من ذلك أو حضر،قد فكروا في غيره،وأقبلوا على سواه،فكان العلم أملهم،وكانت المطالعة شغلهم ،وكان ثواب الله مُبتغاهم،قد صغرت الدنيا في أعينهم حتى إنهم لم يروها ليتكالبوا عليها،ويذلّوا من أجلها،و(يضربوا) عن التعلم إن لم يصلوا إليها؟

ألا تزال هذه المدارس عامرة،يجيئها الطالب،فينام في غرفها،ويستمع من مشايخها،ويأكل من أوقافها،ويجعلها دنياه لا دنيا له وراء جدرانها:العمرية والمرادية والنورية والبادرائية والقلبقجية ودار الحديث وجامع التوبة وباب المصلى والدقاق ومدرسة الخياطين وأمثالها.ألا تزال زاخرة بالطلاب عامرة بالعلم ،عاملة للإصلاح؟

ومنازل دمشق! ألا تزال تلك المنازل الواسعة الصحون،ذات الظلّ والماء،والبرك والنوافير،والأشجار والزهور،والدواوين والمجالس،والصيانة والستر،فهي من خارجها مخازن تبن،ومن داخلها جنات عدن،وهي مصيف ومشتى،وهي مسكن وملهى،وهي دار وبستان.

ألا تزال في دمشق الأسرة كلها تعيش في المنزل الواحد:الجدّ والأب والأعمام والأولاد،ونساؤهم وأولادهم،ثم لا تجد خلافاً ولا شقاقاً،ولا دساً ولا كيداً،الصغير يوّقر الكبير ويطيعه،والكبير يرحم الصغير ويحبه ،وكل يؤثر على نفسه،ولا يحب لغيره إلا ما يحب لها؟

ألا تزال المرأة لبيتها ولزوجها،لا تقيس الطرقات،ولا تقصد الأسواق،ولا تعتاد منازل الخياطات.إن احتاجت شيئاً اشتراه لها بعلها،وإن أرادت زيارة أهلها ذهب معها،وإن اشترت ثوباً خاطته بنفسها،والحجاب سابغ،والشهوات مقموعة،والزواج شامل.لا يبلغ الولد عشرين إلا وله ولد،ولا تصل البنت إلى الثامنة عشرة إلا ولها ولدان؟

والبوابات؟هل ما زالت البوابات،التي كانت تغلق كل ليلة بعد العشاء وتسد الطرقات في وجوه لصوص الأموال والأعراض فلا تفتح إلا لقاصد بيته،أو ذاهب في حاجة مشروعة؟

والأحياء! ألا يزال في كل حي عقلاؤه وسادته ،يسعون لخيره،ويعينون عاجزه،ويسعدون فقيره ،ويأخذون من فضل مال الغني ما يسدّ خلّة المحتاج ،وإذا رأى أحدهم غريباً في الحي سأله من هو وما يكون،فلا يدخل الحي إلا رجل شريف.وإن شاهد امرأة متبرجة نصحها وزجرها،وبحث عن وليّها ليحميها.وإن علم بأن داراً ترتكب فاحشة،عقد مجلساً فدعا المؤجر والمستأجر وكانت المحكمة التي لا تؤدي إلا إلى منع الفاحشة في غير ظلم ولا عدوان ،فكان الحيّ كله كالأسرة الواحدة،وكان البلد مجموعه أسر كلها خير فاضل نبيل.

ألا يزال الناس على وئام وسلام،فلا نزاع ولا خصام،يعرف كل منهم حقّه فلا يطلب إلا أقلّ منه،ويعرف ما عليه فلا يقصر في أدائه،وإن اختلفوا رجعوا إلى العالم ورضوا بحكمه لايعرفون المحكمة إلا إن استحكّم الخلاف،وقلّما كان يستحكم الخلاف؟

ألا يزال القاضي الشرعي مرجع كل خصومة،ومصدر كل حكم،يحكم في كل قضية بشرع الله،فلا تطويل ولا تأجيل،ولا مراوغين ولا محامين؟

ألا يزال كل ما يحتاج إليه الناس يصنع في دمشق،فلا يأكلون إلا حاصلات بلادهم،ولا يلبسون إلانسيج أيديهم،ولا يتداوون إلا بعشب أرضهم،لا يدفعون أموالهم إلى عدوهم،ولا يعينونه بها على أنفسهم؟

ألا يزالون سعداء راضين ،قد انصرف العالم لعلمه،والتاجر لتجارته،والطالب لدرسه،والمرأة لبيتها،لا يشتغل أحد بغير شغله،ولا يدخل فيما لا يعنيه،قد تركوا السياسة لنفر منهم أخلصوا لهم فوثقوا بهم،ورأوا أمانتهم فأعطوهم طاعتهم،ورأوهم لا يسرقون مالهم،ولا يمالئون عدوهم،ولا يضيعون مصالحهم،فلم ينفسوا عليه زعامتهم،ولا ضيّقوا عليه مكانتهم؟

فقلت للشيخ:منذ كم فارقت دمشق يا سيدي؟

فتنهد وقال: منذ سنة 1897،فارقتها شاباً،ولم أدخلها بعد ذلك أبداً.

فرحمت الشيخ أن أفجعه في أحلى ذكرياته،وأن أطمس في نفسه أجمل صور حياته فتلطفت فودعته،ولم أقل له شيئاً،وماذا أقول؟

أقول له:إن أهل الشام قد انصرفوا عن صدر الباز والميزان والصوفانية والشاذروان وأهملوها حتى صارت مزابل،لأنهم آثروا عليها العباسية والهافانا وشهرزاد ونادي الصفا؟

وإنهم هجروا منازلها التي كانت جنات،ليسكنوا كالإفرنج في طبقات كأنها سجون أو مغارات ،وإن أبناء العلماء الأتقياء،صاروا من الفساق الجهلاء،وإن مدارس العلم هدمت أو سرقت،وإن غرفها احتلت لتكون مساكن او قهوات أو مخادع للشهوات،وإن طلبة العلم الديني يطلبونه للمناصب والمراتب والموال والرواتب،وأن الأسر انصدع شملها،وتفرق جمعها،وإن النساء ملأن اليوم الطرقات ،وأممن المخازن والسنمات،وعاشرن الشبان في المدارس واللهيات ،وإن البنات كسدن في البيوت،لما آثر الشباب اللهو على الزواج ،والسفاح على النكاح،وأن الأحياء غلب عليها سفهاؤها،وضعف عن حكمها عقلاؤها.وإن الناس اختلفوا وتنازعوا،وفشا فيهم الغش والخداع،وإن المحاكم هجرت شرع الله وحكمت بقوانين فرنسا.وإن الناس تركوا أشغالهم واشتغلوا بالسياسة.وإن الزعماء طلبوا المال والجاه،وآثروا مصالحهم على مصالح الناس.وأن الموظفين غلبت عليهم الرشوات والبراطيل والسرقات،وإننا تركنا مصنوعات بلادنا وكرهنا أزياءها،وتعلقنا بأذناب الغربيين،وأعطيناهم أموالنا.وإنه قد ارتفع الوفاق وحل الشقاق ،وذهب الرخاء وجاء السخط،فالرجل يختلف أبداً مع زوجته،والأب ينازعه ابنه،والشريك يسرقه شريكه،وليس فينا راض ولا قانع ولا سعيد،ما فينا إلا شاكٍ باكٍ كاره الحياة،مُتمّن الموت.ثم إننا لم نحس إن هذا كله من لعنة هذه المدنية الغريبة،ومن ثمراتها المرّة التي لا يمكن أن تثمر غيرها..

ولكن لا،فإن في دمشق خيراً كثيراً،لا يعرف خيرها إلا من يعيش في غيرها،إن دمشق التي يصفها الشيخ لم تمت،ولا تزال تتردد ذماؤها،فإما أن تنعشها(رابطة العلماء) ويمدها الإخلاص بالقوة حتى تنقذها،وإما أن يغلب القضاء،فيموت المريض تحت يد الطبيب…

ولن تموت دمشق الإسلامية بحول الله أبدا”.

وفي مقال آخر للشيخ العلامة علي الطنطاوي بعنوان”دمشق“( نشره في مجلة الرسالة العدد 658 )يقول رحمه الله:

“كتب إليّ صديق كبير وأستاذ جليل ممن عرفت في مصر أن أصف له مدخل دمشق،وأن أعرفه بمتنزهاتها وآثارها،وإن ذلك لمطلب على مثلي عسير،وحمل على قلمي ثقيل،ولإني أحاوله اليوم محاولة ريثما ينهض به من هو أضخم مني في زحمة الأدب منسكباً،وأحدّ فكراً،وأمضى قلماً.

هذي دمشق يا أيها الأخ السائح،قد لاحت لك أرباضها،ودنت رياضها،أفما تراها وأنت قادم عليها من نحو فلسطين،مع الصباح الأغرّ كيف نامت من غوطتها على فراش من السندس صنعته يد الله،وقد توّسدت ركبتي حبيبها البطل الشامخ بأنفه الصخري:قاسيون،فكان رأسها في الصالحية،وقدمها في (القدم) وقلبها في (الأموي) بيت الله الأطهر،فانظر أما تراه أول ما يبدو من دمشق للقادم عليهاـيطل على بقيته التي ليس لها في الدنيا نظير:قبّة النسر التي راعت بجلالها الأولين والآخرين وما رأى الرائي أضخم منها ولا أعلى،ومآذنه الثلاث معجزات الصنعة في تاريخ العمران الإسلامي،يسبغ على المدينة جلال القرون  الأربعين التي رآها وعاشها،مذ كان معبداً وثنياً،إلى أن صار منسكاً مسيحياً،إلى أن استقر مسجداً إسلامياً،يخرج من مناراته خمس مرات في كل يوم النداء الأقدس:(الله أكبر لا إله إلا الله) فيردّده إخوان مسلمون في الشرق وإخوان في الغرب حتى يفيض طهره على الأرض كلها.

لقد دنونا،وهذا المطار إلى يمينك،وهذه القرية من ورائه(داريا)،والغوطة الغنّاء،جنّة الأرض،ما رآها أحد إلا أحسّ بأنه يرى مدينة مسحورة من مدن(ألف ليلة…)،وقد ترامت له من غمرة حلم ممتع…

لقد اقتربنا منها…هذه(المزة) ضاحية دمشق،أصحّ المنازل،وأبعدها عن العلل،مساكن العرب الغرّ من سالف الدهر،لقد جاوزنا سهلها المشرق،وجبلها المشرف،وساحتها الفيحاء،وعماراتها البارعات،وولجنا حمى الغوطة.هذه بساتينها التي تتصل حافلة بالثمار،مليئة بكل ما يفتن ويفيد،مسيرة تسع ساعات على الماشي وما ينفك يمشي في ظلال شجرة مثمرة،أو نبتة مزهرة،ولو اجتمع على مائدة واحدة ما تخرج من الثمار من أنواع المشمش والعنب والتفاح والكمثرى والخوخ….لأجتمع أكثر من ثلاثمائة صحن ما صحن منها مثل ما في الآخر،وحسبك أن في الشام من العنب أكثر من خمسين نوعاً..ومن التفاح فوق الثلاثين…

هذه هي الغوطة،أفما ترى نساءها يلحن من بعيد وهن ساريات خلال الاشجار،أو منثورات وسط الحقول،بثيابهن التي لا يحببنها،على سترها وشمولها،إلا زاهية تضحك فيها الألوان،فتحسبهن الزهر،وتظن الربيع قد جاء في كانون والأرض مفروشة ببسط نسجت بخيوط الذهب،من صفرة الأوراق التي بعثرها وتركها الخريف،فكانت كنثار الدنانير،على بساط من السندس في عرس أمير.

هذه هي الغوطة إن يفتنك جمالها وبهاؤها،فقد فتنت من قبلك ملوكاً وقواداً أ دباء وعلماء،وأنطقت بالشعر ناساً ما كانوا من قبل شعراء،وأشاعت في الناس فرحة لا تنقضي،وما فقدت على الأيام فتنتها ولا شاخت على طول المدى،بل ازدادت شباباً وفتوناً وحسناً..

هذا هو بردى أيها الاخ! وهذا؟….أترى هذه العظمة وهذا الجلال؟أتسأل ما هذا الوادي،وما هذه الأنهار تجري في سرة الجبل وعلى السفح،سبعة بعضها فوق بعض،كعقود اللؤلؤ في عنق كأنه العاج،والشلالات تهبط من أعاليها إلى أسافلها،هذا يا سيدي معبد الجمال،هذا دير الحب،هذا منسك القلوب، هذه الربوة…

وصلنا أيها الأخ،هذا ميدان دمشق(المرجة) وهذا النصب الفخم في وسطه المتوج بتمثال مسجد السراي في (اسطامبول)،هو نصب التذكار بمدّ الأسلاك البرقية إلى دمشق،وهذا القصر الصخري الهائل،سراي أحمد عزت باشا،وهذه دار البلدية،وهذا البناء الرفيع الذري،نُزل أمية،وهذه الشوارع الثمانية المفضية إلى الميدان،بسيارتها وتراماتها،وطرق أحياء دمشق…

وانظر تجد أمامك جامع الأمير (يلبغا) الذي سرقوا نصفه فجعلوه مدرسة للصبيان،وتركوا منارته قائمة في المدرسة،تعلن لكل ذي عينين شكواهاوتذيع خبر بلواها.

وخذ إلى يمينك إلى جادة الفنادق،(الجوزة الحدباء)،حتى تبلغ سوق صاروجا الذي كان حي الباشوات الأتراك والمجددين فصار الآن حي التجار المحافظين،فزر في طريقك جامع الورد ثم سر إلى العقيبة،منزل الإمام الأوزاعي وادخل جامعها الأنور المبارك الذي لا يخلو من قائم الله بحجة،جامع التوبة،ثم اسلك طريق العمارة،وجز بزقاق النقيب،وعرّج على منازل علماء الأمس،فقد كانت هذه المنازل مدارس،وكانت جامعات،وكانت منائر هدى للناس،وكانت هي دعائم نهضتنا،ثم ادخل الجامع الأموي،وامكث فيه وسائله عن الماضي واستنطقه،وطر بروحك في سمائه،واسم بها إلى عليائه.

ثم جل في القيمرية،ولِج تلك الدور،وشاهد تلك القاعات والأبهاء،وهذه الزخارف والنقوش والبرك والنوافير،فمنها سيدي أخذ الأندلسيون هندسة هاتيك القصور،ومر بهذا الزقاق الذي تباع فيه القباقيب،ولا لاتحقره لضيقه وفقره،ثم انزل إلى تلك الحارة المعتمة القذرة،فأقرع باب مصبغة هناك،فإذا فتحوا لك فاهبط درجها ولا تفزعك رطوبتها وظلمتها،ثم قف خاشعاً متذكراً معتبراً،فإن في مكان هذه المصبغة التي يسمونها(مصبغة الخضراء) كان قصر الخلفاء من بني أمية.

فإذا خرجت منها فاسأل عن زاوية هناك،فإن فيها قبر معاوية الصغير(ابن يزيد)،ثم اذهب إلى السميساطية تلك المدرسة المحدثة البناء،العامرة،فقف عليها فقد كانت منزل خامس الخلفاء الراشدين،عمر بن عبد العزيز،ثم أمّ المعاهد في جوارهما:الجقمقية ومدرسة بطل الدنيا صلاح الدين،فقم على قبره ساعة،وترحم عليه واحمد الله،على أن خزى ذلك الطاغية (غورو)وزر الظاهرية دار الكتب،والعادلية مثوى المجمع العلمي العربي ثم اسلك على باب البريد،ومر بخرائب(المرادية)التي كانت إلى العهد القريب مدرسة عامرة،حتى تزور العادلية ودار الحديث الأشرفية،التي كان فيها البدر الحسني بقية السلف ،وزر المارستان النوري،الذي كان مستشفى كأكبر ما يكون مستشفى في هذه الأيام وكان مدرسة للطب،ثم أمّ قبر الملك العظيم صاحب هذه المآثر نور الدين القائد الظافر والملك العادل والحاكم الكامل،ثم ادخل القلعة وشاهد السور والأبواب.

هذه دمشق يا سيدي،أفيوفي حديث دمشق في مقالة؟فأمهلني أعد إليك محدثاً..وأطل الحديث…

هذي دمشق أقدم مدن الأرض وأجملها،هواؤها أطيب هواء،وماؤها أعذب ماء،وطعامها أمرأ طعام،ومنظرها أبهى منظر،ومخبرها أحسن مخبر،ولسانها أفصح لسان،وسكانها من أكرم السكان،فيها العلم والادب،والتقى والصلاح،والحب فيها واللهو،وفيها الفتون والجمال…

هذي دمشق كانت لبّ العربية،وبقيت لبّ العربية،وستطلع على العصور القوادم وهي للعربية لبّ وقلب وفؤاد،لها لين الماء الذي لا يضحك به بردى وشدّة  الصخر الذي يشمخ به قاسيون،وصراحة السهل الذي تزدهي به المزة،وكرم الارض التي تعطى(في الغوطة) أكلها أربع مرات في العام.

لها لين بردى،ولكن بردى إذا ضيق بالسدود،علا وفاض واجتاح البلاد والعباد،ودمر كل شىء يقف في طريقه،ويقطعه عن مراده،فقل للغافلين:(لا يغرركم من بردى لينه وابتسامه) فإنه سرعان ما يعبس ويثور. فاتقوا غضب الحليم”.

وقال الشيخ العلامة علي الطنطاوي في مقال له نشره في مجلة الرسالة العدد 122:

“أخرج من دمشق،وخلّف وراءك الجسرَ وفيكتوريا،وهذه البنية ذات الطبقتين،التي كانت منذ خمسة عشر عاماً(النادي العربي) مثوى الوطنية،ومثابة الإخلاص،ودِع عن شمالك المرجة الخضراء،التي وقفها نور الدين الشهيد على سوائم المسلمين،فرعاها نفر من الأقوياء الحاكمين وعاثوا فيها آمنين مطمئنين،وجُزْ بالمزة وقلاعها،لا تلتفت إليها،ولا تأبه لها،واستقبل الربوة لا تحفل بقرارها ومعينها،ولا تعجب لأنهارها السبعة،وقد امتدتْ بين عَدوتي الوادي بعضها فوق بعض،كعقود اللؤلؤ في جيد الحسناء،وتناسَ ما قال فيها ياقوت وقد طوّف أنحاء الدنيا،وجاب أرجاء الأرض،ثم رجع فلم يجد في الدنيا أنزه منها،وعدِّ عن النيرب لا تذكر عهده،ولا تَبكِ أيامه،فقد ذهب النيرب،وغبرت أيامه،وفارقه ،وأنشد قول ابن حمدان:

سقى الله أرض الغوطتين وأهلها            فلي بجنوبِ الغوطتين شجونُ

وما ذقت طعم الماء إلا استخفني           إلى بردى والنيربين حنينُ

وقد كان شكي في الفراق يروعني          فكيف أكون اليوم وهو يقينُ

فوالله ما فارقتكم قالياً لكم                   ولكن ما يقضى فسوف يكونُ

واسلك على وادي الشاذروان،ولا يفك عن غايتك أنه وادٍ من أودية الجنة،هبط إلى الأرض لتذكر فيه النفس أيام الجنة الأولى،فتطير إلى سمائها بأجنحة من نشوة الذكرى،ولا يثنك عن وجهتك هذان الجبلان المتعانقان،كأنهما عاشقان قد لبسا من النجوم المزهرة،والأشجار المثمرة بِحلة أبهى من السندس،ولا (يزيد) الذي يجري في صلب الجبل يزخر بالمياه ،فيطفح بها،فتهبط الصخر من علو مائة ذراع متكسرة مزبدة،كأنما هي ذوب اللجين،حتى تعود إلى أبيها بردى،وهو يجري في بطن الوادي جياشاً ثائراً،واستقبل دُمّر لا تقف بجنانها ورياضها،ولا تفتنك قصورها ودورها،ولا يشبك هذا القصر العجيب،ذو المعارج الملتوية،والألوان والنقوش،والبرك والنوافير:قصر الأمير سعيد ولا قصر شمعايا تجري من تحته الأنهار!

وائتِ الهامة فدعها عن يمينك ولا تنزل إلى السهل،ولا تفتنك أنهاره وبهجته،ولا تجذبك فسحته وخضرته،وامش واضعاً(قادسية) عن شمالك،ثم دُرْ دورة فاخرج من الوادي،وامش صُعُداً حتى تدع الوادي من ورائك،وتستقبل الصحراء الخالية القاحلة،فإذا أصحرت فدع الديماس وحدائقه وامش قدماً حتى ترى هذه الهضاب المتسلسلة،والآكام المتتالية،فاعلُها…حتى إذا بلغت ذراها،ولمحت في عرض البادية،في حضن الجبل،بناءً غريباً كأنّ سقفه جناحا طيارة،ورأيت من أمامه سلسل ماء،فاهبط إليه،ثم قف خاشعاً منحنياً،فأنت في ميسلون،وأنت حيال قبر يوسف العظمة”.

وقال الشيخ العلامة علي الطنطاوي رحمه الله في مقال نشره في البواكير تحت عنوان”خواطر غريب”كتبه في مصر سنة 1929م:

“كانت لي آمال وكنت أسعد بها،فأصبحت وليس لي إلا أمل واحد:وقفة على قاسيون أو رشفة من بردى!

آه،لقد ضاقت بي مصر على رحبها وسعتها،وصغرت في عينيّ حتى لقد رأيت غرفتي الصغيرة في دمشق أوسع منها وأكبر،واسودّت في بصري حتى ما أرى فيها إلا الظلام،ولو كان في نور الشمس الذي يملؤها نوراً،بل لقد انصرفت نفسي عن العلم ورغبت عن ورود مناهله،ولم أعد أؤمل إلا أن أرى مرة ثانية هذه الصخور الخالدة من ربوة دمشق.

مالي ولآثار أيدي البشر؟ما لي وللحضارة والعمران؟إنني أبيع هذا كله بشَعفة من تلك الشُّعوف(أعلى الجبل)،أجلس عليها فأرى الجمال الذي خطته يد الله على صحائف الكون،وإنها لسعادة لا تُشترى بملء الأرض ذهباً ولا بملء الصحف علماً.

أما الآن فقد تغير عليَّ كل شىء.لقد انتقلت إلى عالم آخر أقيم فيه وحيداً،بعيداً عن ذلك البلد الذي نشأت به فعشقت أرضه وسماءه،وهِمتُ بجباله ورُباه،بعيداً عن تلك الغرفة الصغيرة الخالية من كل شىء إلا من رفوف الكتب ومقاعد الدرس،والتي كنت أغلق بابها عليّ وعلى إخوان لي يفهمون الحياة كما أفهمها،نقطع فيها هذه المراحل من عمرنا على مطيّة الكتب تارة والحديث أخرى ،نحيا في عالم أسمى من عالم الناس،ذلك هو عالم الخيال..في تلك البقاع خلّفت نفسي وسعادتي،وحييت هنا شقياً مسلوبَ الفؤاد.

هبطت مصر لأدرس وأعمل،والأفق واسع والمكان رحب،ولكني أضعت قلبي فأضعت كل شىء.كنت أجد في دمشق صدراً أودعهُ كل آلامي(يقصد أمه)،فأصبحت وآلامي تنوء بفؤادي الملتاع لا يجد من يبثّه إياه.

ولا بدّ من شكوى إلى ذي مروءة     يواسيك أو يُسليك أو يتوجّعُ

منظر واحد لا يفارقني في جيئتي وذُهوبي وقَومتي وقَعدتي،ذلك هو منظر وطني،يتمثل لي في كل طريق ويتراءى لي في كل مذهب ،أقضي نهاري مُطرقاً مفكراً،حتى إذا جَنَّ الليل وأويت إلى فراشي انصبّت عليّ الذكريات المؤلمة صبّاً،فما أزال بها أدفعها فتزداد إقداماً وأطردها فتزداد ثباتاً،حتى أُغلب على أمري،فألقي الوسادة وأثور من الفراش أفزع إلى النور،وأنتصب قائماً مدة لا أدري مداها،ولكني أرى النوم لا يغلب عليّ حتى يغلب الموت على اليل ويقوم الفجر لِنعيه،هنالك أنام بضع ساعات نوماً مضطرباً ممزوجاً بأفظع الأحلام.

أنا لا أشكو إلا هذه الذكرى،فلقد أقضّت مضجعي ونغّصت عليّ حياتي،وإنني وإياها كصاحب الحمّى تعاوده حُمّاه،فإذا جاءتني خفق لها قلبي وَونت أعصابي،ودارت بي الأرض حتى أجهل مكاني منها،وأستغرق في سبات عميق من التأمل المُمضّ والتفكير المؤلم.

ربّاه،أخلقتني رزمة من عواطف لسعادتي أم لشقائي؟

وهل بنيتني من شعور وإحساس لأعيش متألماً أو لأعيش جاهلاً؟

ماذا أصنع؟إن عاطفتي استأثرت بنفسي حتى ما يملك عقلي من أمرها شيئاً،وكأني أسمعها تتفلسف قائلة:أيها الرجل،لماذا تعيش؟إن كنت تعيش لنفسك فاطلب لها السعادة،وإن كنت تعيش للناس فهيهات أن تفيدهم ولك من شواغل نفسك وآلامها ما يصرفك عنهم،ومهما يكن فدعك من هذه الغربة وعد إلى بلدك!
أما أنا فلا أفهم مما تقول شيئاً،وكأن هذه الآلام التي تنتابني تستقطر ماء حياتي قطرة قطرة،وستأتي ساعةٌ يجف فيها فأغمض عيني إلى الأبد شاخصاً إلى السماء،أرى صورة وطني في مرآتها الخالدة فأودعه الوداع الاخير،ثم أرقد!

ليس لي هنا من عمل إلا الدأب على المطالعة،أطالع كتباً وروايات أروي صفحاتها بدمعي وأغذيها بسواد قلبي وثمرة فؤادي،حتى تجنح الشمس للمغيب،فأخرج فأقف على”كوبري الزمالك” أنظر إلى النيل تارة وإلى ذلك الأفق البعيد أخرى،فأبصر فيه خيال وطني يلقي النور والحياة على تلك الخمائل الخضراء التي لا حدّ لها،فأقف أمامه كأنني أمام محرابي،ولا أنتبه حتى تتوارى هذه الصورة في طيّات الظلمات فأعود إلى الدار آسيّاً حزيناً.ولا إخال الأمد يطول بي على هذه الحال،وماهي إلا واحدة من اثنتين:إما الشام وإما الحِمام!

اذكرونا مثلَ ذِكرانا لكم             رُبَّ ذكرى قرَّبتْ من نزحا

واذكروا صَبَّاً إذا غنّى بكم         شربَ الدّمعَ وعافَ القَدحا

وفي مقال له عن استقبال رمضان في الشام يقول الشيخ علي الطنطاوي:

هذا الحديث عن رمضان،وفي رمضان النور والعطر وفي رمضان الخير والطهر،وفي رمضان الذكريات الكثر،ففيه نزل الذكر وفيه ليلة القدر وكان فيه نصر بدر وفي آخره عيد الفطر،ورمضان نور على المآذن ونور في القلب ورمضان صوم عن الطعام وصوم عن الحرام.

إن كانت الحياة تنازعاً على الحياة فهذا الشهر إدراك لسر الحياة،وإن كان العمر كله للجسم فهذا الشهر للروحنوإن كانت الدنيا للتناحر والخصام فهذا الشهر للحب والوئام.

هذا هو رمضان الذي أبصرت وجهه من كوة الطفولية فأحببته ورأيا أثره الخيّر في كل مكان في دمشق فأكبرته ثم لم أعد أراه أبداًن فعلمت أني قد افتقدته وأضعته.

رمضان الذي عرفته لم يعد يتردد على دمشق،إن هذا رمضان جديد،يحمل اسم رمضان الأول الذي رأيته أول مرة منذ أكثر من أربعين سنة ولكنه ليس ذلك ال”رمضان”.

رمضان القديم كان يغمر أرجاء دمشق كلها،فكنت تحس به حيثما سرت،تراه في المساجد الممتلئة بالمصلين والقارئين والمتحلقين حول كراسي المدرسين،وتراه في الأسواق فلا تجد عورة بادية ولا منكراً ظاهراً ولا مطعماً مفتوحاً ولا مدخنّاً ولا شارباً،وتشتري البضاعة وأنت آمن من الغش والغبن،لأنأفسق البائعين لا يغش في رمضان،والمرأة تعمل مطمئنة أنها مهما أخطأت فلن تسمع من زوجها كلمة ملام،لأن المسلم الصائم لا يشتم،ولا يلوم في رمضان،والرجل يجىء إلى بيته وهو آمن من أن يجد من زوجته نكداً أو إساءة لأن المرأة الصائمة لا تؤذي زوجها في رمضان،ولو تركت بابك مفتوحاً لما دخل المنزل لص،لأن اللصوص يضربون عن العمل ويتوبون عن السرقة في رمضان.

أما رمضان الجديد فلا تعرفه هذه الشوارع الجديدة،والأحياء الحديثة ولم يعرف بعد الطريق إليها،ودمشق القديمة لم يعد يستطيع أن يسيطر عليها،فالمساجد مملوءة بالمفطرين والصائمون تسوء أخلاقهم في رمضان من الجوع وشهوة الدخان والشياطين تصفد في رمضان لكن الفساق ينطلقون عاملين فيه كما كانوا يعملون قبل رمضان.

ولقد كان أشد الناس بعداً عن الدين إذا سمع مدفع رمضان تاب وأناب إلى الله،ونزع نفسه الآثمة واستبدل بها نفساً زكية متعبدة،كما ينزع ثوبه الوسخ ويستبدل به ثوباً نظيفاًنوالبيوت التي كان يسودها الخصام تتحول في رمضان إلى دور أمن وسلام والكدينة تصير كلها أسرة واحدة أو مدرسة داخلية يأكل الناس فيها بوقت واحد ويقومون في وقت واحد.

إذا دنت ساعة الغروب رأيت الناس جميعاً مسرعين إلى بيوتهم،هذا يحمل صحن الفول المدمس،وهذا يحمل الجرادق والبرازق،وتكون المائدة منصوبة حتى إن أفقر الناس يجد في رمضان فطوراً شهياً،لأن كل صائم في رمضان يتفقد جيرانه ومن حوله،فلا يأكل هو الطعام الطيب والألوان الكثيرة وجاره لا يجد الخبز والجبن.

وتصطف الأسرة كلها حول المائدة يجمعها شعور واحد،شعور يجمع الغني والفقير،والأمير والأجير،هو الجوع،أغنى الناس يشتهي قبل المغرب ملعقة من حساء أو رشفة من شراب.

والأولاد يقفون على الشرفات أو على جوانب الطرق،فإذا رأوا مصباح المنارة أو سمعوا المدفع صاحوا بنغمة موزونة ولحن موقع:أذن أذن أذن…وطاروا إلى بيوتهم كما تطير العصافير إلى أعشاشها إذا {ات طلائع اليل،وتخلو الطرق وتخف الأصوات ثم ترتفع من كل مكان:من الكوخ ومن القصر على السواء،كلمة الحمد لله،كلهم شبع وكلهم رضى وكلهم شكر…الذي أكل السبعة ألوان والذي أكل الخبز والفول!

ثم يمضي الرجال إلى المساجد ليصلوا صلاة التراويح أو يصلوها مع أهليهم وأولادهم وتكون الأسواق مضاءة ويكون الأولاد مزدحمين على بائع المثلجات إن كان الوقت صيفاً أو بائع الفول النابت.ومن أراد لهواً لم يجد إلا الحكواتي يقص قصة عنترة وكلها بطولة ونبل لا كهذه القصص الآثمة الداعرة.

فإذا مضت ساعة بعد صلاة العشاء،انطفأت الأضواء وخلت الأسواق وانصرف الناس إلى دورهم ليناموا،والمسحر لا يجىء إلا في وقت السحور،لا يجىء نصف الليل ليوقظك من نومك ويقرع بطبلته رأسك،كما يفعل الآن،وأنت مجبر أن تقول له أشكرك،وتدفع له أجرته على أنه كسر دماغك وحطم أعصابك ولم تكن هذه الإذاعات التي لا تسكت لحظة في رمضان.

إن رمضان لا يستطيع أن يعيش إلا في الهدوء والسكون،فكيف يعيش في هذه الضجة الهائلة؟وكيف يتوجه إلى ربه؟وكيف ينام ليقوم إلى السحور؟إذا كان صاحب كل رادّ(راديو) لا يسمع وحده،بل يسمع أربعين جاراً،وكانت الأصوات لا تنقطع طول الليل،والمسحر يجىء من الساعة الواحدة  وهؤلاء الموسيقيون الفاشلون الذين عجزوا عن أن يكونوا رجال فن،فأسبغوا على غنائهم ثوب الدين،والدين يبرأ منهم وتغزلوا بالرسول صلى الله عليه وسلم بدلاً من التغزل بليلى وسلمى،والبياعون يأتون من طلوع الشمس،مصلح البوابير وبياع الحليب والذي عنده سجاد للبيع،والأولاد الذين يتخذون الحارات ملاعب للكرة.

وكيف يشعر بوجود رمضان من يركب الترام فيجد أمامه من يدخن وينفخ في وججه الدخان،ويرى المطاعم مفتحة والأكلة يأكلون،ويرى الناس إن صاموا عن الشراب والطعام،لا يصوم إلا القليل منهم عن الكذب والغش والغيبة والبذاءة والحلف بغير الله،أو الحلف كاذباً بالله،ولا يصوم إلا القليل عن الغضب والبطش والأذى،وليس الصيام ـ في الحقيقة ـ إلا تدريباً خلقياً ليس الصوم جوعاً وعطشاً فقط،خلق الله ملائكة وخلق شياطين،وخلق وحوشاً وسباعاً.

فالملك خير كله والشيطان شر كله،والسبع طبيعته البطش لولاه ما عاش،وخلق الإنسان من الثلاثة جميعاً،ففي الإنسان ملك وشيطان وسبع،الملك له الإيمان والرحمة والطاعة والخشوع والسمو النفسي،والشيطان له الشهوة المحرمة والكذب والاحتيال والإفساد،والسبع له الغضب والبطش والقهر.

والصيام في الحقيقة صيام عن السبعية والشيطانية لتخلص النفس في هذا الشهر للملكية فإذا لم تظهر على الصائم أخلاق الملائكة وإذا بقي يغضب ويبطش كالسبع ويشتهي ويفسد كالشيطان فإنه لم يعرف حقيقة الصيام.

لقد كان رمضان الذي يجىء دمشق من أربعين سنة رمضاناً حقيقياً وما أدرى أمات وجاء غيره أم قد شاخ وعجز عن أن يطوف دمشق كلها فصار يثبت وجوده في المفكرة والتقويم وفي أضواء المآذن ومدافع القلعة فقط لا غير،أم أنا الذي تغيرت وتبدلت؟كنت أنظر قبل أربعين سنة بعين صبي لم يقترف إثماً فكنت أرى رمضان  فلم أثقلت الآثام أجفاني لم أعد أراه.

وكان أهل دمشق في مثل طهارة الأطفال لم تشوه أصباغ الحضارة طبيعة الحسن في نفوسهم،ولم تفسد العصبيات جمال الأخوة بين أفرادهم ولم تكن قد هتكت أستار الصيانة ولا مزقت براقع الحياء .كانت المرأة لزوجها ولولدها وربها،والرجل لزوجته وولده وربه، فكانوا يرون رمضان كلهم.يرون هلاله في الأفق ونوره في القلب،وأثره في البيوت والأسواق والمدارس والمساجد،يشعرون ـ حقاً ـ أن قافلة العمر كانت تمشي بهم في صحراء مجدبة،فإذا كان رمضان مشت في الواحة،فيكون من ذلك أنس للنفس وراحة للروح.

فأين ذلك الرمضان؟أين هو؟دلوني عليه أجد فيه ماضيَّ الذي فقدته وأُنسي الذي أضعته،رمضان الذي يتوب فيه كل عاص،ويتصل فيه كل منقطع،ويشهد فيه كل محجوب،وتسطع فيه الأنوار في كل قلب،حتى لتمتلىء بالرضا والاطمئنان والحب،ويقوم الناس في الأسحار ساعة يتجلى الله على الوجود تجلى الرحمة والغفران،وينادي المنادي من السماء:ألا من سائل فأعطيه،ألا من مستغفر فأغفر له،فيهتفون من أعماق قلوبهم:يا أرحم الراحمين،ويسألون الله ويستغفرونه،فيحسون أنهم قد صعدوا بأرواحهم إلى حيث يرون الأرض كلها ومن عليها ذرة تجول في الفضاء،ويتذوقون أعظم اللذات،اللذة التي لا تقاربها لذة،لذة الاتصال بالله،ومناجاته في سكنات الليل،وهدآت الأسحار فتسطع أنوار الإيمان في كل قلب،ويمتلىء بالرضا والاطمئنان والحب،والقلب كالنسر الذي يضرب بجناحيه في طباق السماء ولكنا قيدناه بقيود المادة ثم أغرقناه في حمأة المطامع والشهوات،فكيف يطير نسر مقيد الجناح غارق في الطين؟

هذا هو رمضان! فحلوا القيود عن قلوبكم واغسلوها من أوضار الحمأة التي غمستموها فيها،ودعوها ترتفع لتطّلع على جمال الوجود وترى من هذا المرقب العالي جمال رمضان”(حديث إذاعي للشيخ العلامة أذيع في إذاعة دمشق عام 1975م).

وفي مقال له بعنوان”العيد في دمشق” نشره عام 1957م يقول الشيخ علي الطنطاوي:

لم أجد العيد حولي فرجعت أدراجي،أفتش عنه في طريق العمر،كما يرجع من يحسّ أن محفظته قد وقعت منه،فهو يمشي وعينه إلى الارض،وأذنه إلى الناس،علّه يبصرها بعينه،أو”يبصر” بأذنه خبراً عنها.

ووجدت العيد،ولكن بعد أن أوغلت راجعاً في طريق العمر أكثر من أربعين سنة،وجدته في حي قديم من أحياء دمشق.وكان لرمضان وللعيد ولهاتيك المواسم روعة وجلال،في الأحياء القديمة من دمشق في تلك الأيام.

ولم يكن يأتي العيد،منفرداً مستوحشاً،كمسافر من عرض المسافرين،أو كأمير متنكر،كما يأتي دمشق”الجديدة” في هذه الأيام،بل كانت تسبقه البشائر والوفود،وتدقّ له الطبول،ثم يقدم في الموكب الضخم الذي يملأ البلد بهجة وفرحاً ودوياً

تصل بشائره من ليلة(27) رمضان،التي يجتمع فيها أهل دمشق في الجامع الأموي،فيغني المغنون قصائد الوداع لرمضان،ويرقص الدراويش وثايبهم من أوساطهم منشورة مثل المخاريط الناقصة في علم الهندسة(يقول الشيخ الطنطاوي :وكل ذلك من البدع المنكرة التي لا أصل لها في الشرع)،وعلى رؤوسهم مثل علب اللبن الشامية العتيقة،يدورون على أنفسهم،مثلما تدور الأيام بالناس،فترفع من اتّضع،وتخفض من ارتفع،وتذل من عز،وتعز من ذل،فلا تدوم بالناس على حال.

والمآذن تقوم في سواد الليل،تضحك للدنيا بنور المصابيح،والمسحر بطبلته عقب النهار،يستحث ركب الأيام على المسير،كما يستحث الطبال الجند يوم الحرب،والبياعون يبتكرون لوداع رمضان أناشيد من أروع الشعر،لولا أنها عامية اللفظ وأنها مختلة الوزن.

إنها حافلة بكل مشوق مُشَهٍ،يبعث في النفس الغبة في الشراء وإن لم تكن راغبة فيه،ولكل بياع لحن خاص ورنة خاصة،فإذا دنا العيد،زادوا فيها عجائب من هذا النمط،فيها توديعٌ لرمضان توديع المحب حبيبه،واستقبال للعيد استقبال المشوق من يهوى.

وترى دمشق قائمة على قدم وساق،(القلابات) تنصب في كل مكان،في مقبرة الدحداح،وفي الجنائن وأطراف البساتين،و(الدويخات) في الساحات الكبرى،و(البسطات) ويالروعتها في نفوس الأطفال،هل تعرفون ما هي البسطات؟دكك من الخشب لها طبقات،وتغطى بالستائر الخضر والحمر،وتصف عليها السكاكر والألاعيب،تتصدرها الأعجوبة الكبرى،حلم الحالمين من الأولاد،(الأطمبيل) الذي يمشي (بالزمبرك).

وتعد عربات(يا مريكب يا عيار) وهي عربات بائعي الحلاوة،تزخرف وتعلق فيها الأجراس،ويجرها صاحبها إن كانت صغيرة،وإن كانت أكبر جاء بحمارة بيضاء جميلة،فزّينها وحسنّها حتى لكأنها في يوم زفافها إلى أعظم حمار في البلد.

والقهوات تستعد،بالحكواتي والكركوزاتي،والكراكوز هو سينما تلك الايام،وكان في دمشق من أهل هذه الصناعة من كانوا أعاجيب في تأليف القصص،وفي إخراجها وفي تمثيلها،والكراكوزاتي هو الذي يصنع ذلك كله،وهو يقلد بفمه أشخاص الرواية جميعاً،وأشخاصها(كراكوز)و(عيواظ)و(مدلل)و(كرّش)،وكان فيها نقد للحكومة سافر أو متحجب بحجاب لا يستر،كحجاب نساء الشام في هذه الأيام،ونقد للناس،ولولا بذاءة الألفاظ فيه أحياناً لكان فناً من أرفع الفنون.

وفي البيوت ينغمس النساء في صنع(المعمول)و(التويتات)و(الكرابيج)،حتى إذا وضعنه في الصواني وأرسلنه إلى الفرن سمعت المدافع،واحد،اثنان،خمسة،عشلرة،واحد وعشرون مدفعاً،لقد جاء العيد.

فيركض الصغار يقبلون أيدي الكبار،كل يقبل يد من هو أكبر منه،ويمد الأطفال أيديهم لتلقي العيديات.

وأنتم لا تقدرون الآن فرحة هذه العيديات،حين يعدّ كل ولد ما جمع،كقائد يحصي غنائمه بعد المعركة،أو تاجر يحسب أرباحه،وما للأطفال والمال؟أترونهم رضعوا حبه مع لبن الأمهات؟أهي فطرة فطروا عليها؟أم هو الاحتذاء والتقليد؟

وكانت العيديات كثيرةنلأن في كل بيت قبيلة،الأم والأب والإخوة،والعم وزوجته وأولاده،والعمات والجدةنوالحاكم العام هو الجد الكبير،يأكل هذا الجيش كله من قدر واحد على مائدة واحدة،والبيت يرفرف عليه السلام فلا نزاع ولا خصام.

ولا تضرب مدافع العيد إلا بعد أن يجلس القاضي في المحكمة مجلساً عاماً مشهوراًنويذهب موكب الرؤية،فيرصدوا الهلال من جنوبي البلد،أو من شرفات مئذنة العروس،ويشهد الشهود،ويدّون المحضر،ويقضي القاضي بدخول العيد.

وقلما ينام أحد ليلة العيد في دمشق.

كانوا يزدحمون على الكواء،يوم كان الناس يلبسون الطرابيش لا يمشون مثلنا حفاة من فوق،وعلى الخياط والحذّاء،وعلى الخباز واللحام.

وتذبح الخرفان في الطرق والساحات.

ويستبقون إلى البزورية لشراء الملبس وراحة الحلقوم.أما الشوكلاطة فما أذكر أننا كنا نعرفها في تلك الأيام.

وتعدّ ثياب العيد،لقد كانت حقاً ثياب العيد،لا كثيابنا التي تشبه كسوة المآتم،كانت من(الألاجة) الملّونة اللماعة،التي تجعل من كل مجلس روضة مزهرة،بألوانها التي تنعش النفس،وتحمل إلى الآناف شذى الربيع.

وكانوا يعدّون لنا نحن الأطفال مجموعة كاملة من الثياب من(البابوج) إلى الطربوش،نفيق فنراها إلى جنب الفراش،وكنا ننام على الأرض،لم تكن الأسرّة في بيوت أمثالنا من أهل الوسط،فكنا نحلم بها الليل كله،فنستمتع بها مرتين،مرة في اليقظة وكرة في الحلم.

ونفيق من قبل الفجر،كما كنا نفيق في رمضان فلا ننظر في الساعة،ولا نستمع إلى المئذنةنكي نتعرف موعد الإمساك،بل نأكل إن أكلنا آمنين مطمئنين ،نستشعر الحرية،وقد كانت لنا قبل رمضان فلم نكن نشعر بها،لأن الناس لا يعرفون قيم النعم إلا عند فقدها،يكون الطعام أمامنا فلا نحس الشوق إليه،فإذا رأيناه في رمضان قبيل الإفطار أحسسنا إليه بمثل شوق المجنون إلى ليلاه،بل إن أشواق مجانين الارض إلى ليالياتهم،لا تعدل كلها شوقنا إلى كأس الليمون في أيام الصيف من رمضان أو صحن الفول المدمس،ولو خيّرنا لقلنا،هاتوا رغيفاً وأوقية لحم وخذوا كل معشوقة في الدنيا وكذلك الناس.

ويمضي الرجال إلى المساجد،ولست أنسى قط،روعة هذا النشيد الخالد لما سمعته أول مرة،تهدر به أشداق عشرة آلاف رجل في الأموي،عشرة آلاف جندي من جنود الإسلام،يهتفون بالنشيد الذي لم تحمل أمواج الأثير من يوم خلق الكون،نشيداً أروع روعة،ولا أعظم في النفس أثراً،النشيد الذي حمله جنود الإسلام،إلى كل أرض في الأرض،وزلزلوا به كل حصن،وظفروا به في كل معركة:

الله أكبر،الله أكبر،الله أكبر،لا إله إلا الله

الله أكبر،الله أكبر،ولله الحمد

وكنا بعد الصلاة نمشي إلى المقابر،لقد أدينا بالصلاة حق الله،وجئنا نؤدي بهذه الزيارة حق الوفاء للأسلاف.وكنت ترى تربة(الدحداح) وقد لبست القبور فيها من الآس حلة خضراء،وانتشر فيها البنات والصبيان بثيابهم الملونة،كنت أراها كأنها بستان لمسته بسحرها أيدي الربيع.

ثم يعود الناس إلى دورهم ليفطروا مع الأهل ،ويأكلوا السكاكر.ثم يدورون يتزاورون،ويأكلون في كل دار(معمولة)أو(تويتة) فلا ينقضي العيد،حتى يصابوا جميعاً بسوء الهضم ،والتهاب الأمعاء،وتروج سوق(زيت الخروع)و(الهندي شعيري)ولم يكن(الأنتروفيو فورم) ولا (الستوفارسول) وهذه العشرات من العقاقير”.

وفي مقال له بعنوان “وقفة على طلل“(صور وخواطر ص273):
“يقولون إن امرأ القيس كان أول من وقف واستوقف وبكى واستبكى،وأنا صانع اليوم مثل ما صنع امرؤ القيس.

وقف امرؤ القيس ليبكي ذكر الغرام،ووقفت لأعرض صور الماضي،وأعتبر بأحداث الليالي.

صليت العصر أمس في جامع يلبغا وخرجت أنتظر سيارة القصاع،فسلم علي صديق لي،وأشار إلى بقايا الغرف في شمالي المسجد،وسألني:ما هي؟فحرك بهذا السؤال سواكن ذكرياتي،وردني إلى مواضي أيامي فرجعت أدراجي ثلاثاً وأربعين سنة،حتى عدت تلميذاً في هذه المدرسةنوجعلت أستعيد صور حياتي فيها,وأ تذكر أساتذتي ورفاقي…

وأين رفاقي؟أين؟لقد تشعبت بهم سبل الحياة،وضربهم موج لُجّتها فرفع ناساًنوخفض ناسا،وأغرق آخرين.

كانوا متجاورين في المدرسة على مقعد واحد،فاختلفت في الحياة مقاعدهم.فجلس هذا على سدة الحكم،وذلك على كرسي الحاجب على بابه،وصار هذا هو القاضي،ورفيقه هو المتهم الذي يقوم بين يديه،وغدا هذا من أرباب الأموال والأعمالنفلا يدري ما يصنع بماله،وذلك من أصحاب العيلة والعيال فلا يعرف لعيلته من أين ينفق على عياله.

كم ربت هذه المدرسة من أطفال،وكم خرجت من رجال.كانت الدروس للجميع،وكانت كلها هدى وخيرا،فاهتدى بها من اهتدى وضل من ضل،كالمطر يهطل على الأرض كلها فتتشربه قطعة فتنبت به الزهر والثمر،وتأباه أخرى،فتحيله بِركاً،لا تلبث أن يأسن ماؤها ويفسد الأرض والجو.

إني لأذكر الآن كيف دخلت هذه المدرسة.

لقد كنت في مطلع سنة 1918 تلميذاً في الصف الخامس،في مدرسة جمعية الاتحاد والترقي،التي كانت تعرف بين الناس ب”المدرسة التجارية”لأن التجار هم الذين أنشأوها بأموالهم وكانت أكبر ثانوية في البلد،وكان والدي مديرها،وكان يدرس بها فحول الرجال،وحسبكم أن تعرفوا أن منهم العالم الجليل هاشم بك مدير المعارف الذي كان له وحده من السلطان ما يقتسمه اليوم أربعة وزراء للمعارف في أربع دول،هي سورية ولبنان والأردن وفلسطين.

وكان يحكم الشام الأتراك،لا أعني محمداً الفاتح وسليمان وأولئك السلف الصالح الذين حملوا راية الهدى إلى أسوار فيينا،بل الخلف الفاجر:الاتحاديين الملحدين،وكان الأمر لجمال السفاك،فكنا نحن الصغار نرتجف هلعاًإذا ذكر فينا اسمه.

فأصبحنا يوماً،فإذا الأرض غير الأرض ،والناس غير الناس،لقد دالت دولة الترك،واختفت رايتهم الحمراء،ذات الهلال،وجاءت دولة جديدة،لها راية مربعة الألوان،وبطل هتافنا كل يوم(باديشاهم جوق يشا) ومعناها(أطال الله عمر السلطان) وجدّ هتاف جديد(ليحيى الاستقلال العربي) وغدونا على المدرسة وكانت في دار العابد في سوق صاروجا فإذا المدرسة قد أغلقت.وافتتحت مدرسة ثانوية جديدة(وكانت المدرسة الثانوية تسمى يومئذ السلطانية) باسم المدرسة السلطانية الثانية،وكان مقرها في هذه الغرف التي تَمثل أطلالها اليوم شواخص في صحن الجامع.

تركت الناس يزدحمون على سيارة القصاع،وهي تجري في هذا الشارع الجديد،الذي يمشي من المرجة أمام الفندق الكبير،إلى مدخل شارع بغداد،ورحت أعيش وحدي في دنيا تلك الأيام ،حين لم يكن هذا الشارع،ولا الفندق الكبير، ولا شارع بغداد.

حين كان إلى جنب الجامع،بناء قديم يطل على المرجة هو(العدلية)وإلى جانبه بناء أقدم منه هو(البريد) وكان في موضع الفندق بيوت صغار متصلة،كبيوت البحصة.

كانت (المرجة) آخر البلد،كما كان آخرها من هناك القصاع،وكانت دمشق كلها،بيوتاً عربية متلاصقة،لم يكن فيها إلا عمارة واحدة،هي عمارة العابد،ولم يكن فيها إلا شارع واحد،هو شارع جمال باشا الذي أفتتح سنة 1916،وأنا أتذكر فتحه وكان طريق الصالحية يمشي بين البساتين،ما فيه إلا مجموعات قليلة من البيوت،عند بوابة الصالحية،وعند الشهداء وعرنوس .أما شارع بغداد والروضة والحبوبي والمزرعة،والميدان الجديدة،فلم يكن لشىء من ذلك وجود،وكانت بوابة الصالحية جادة ضيقة،على يمينها(حيث يبدأ اليوم شارع بغداد)دك وراءه بستان يقال له(بستان الكركه)وعن شمالها(الخسته خانه) المستشفى العسكري،وكان موضع التجهيز الأولى،تلال تلقى عليها الأوساخ.

لم يكن في دمشق سنة 1918 شوارع ولا عمارات،ولا كان فيها هذا العدد من المدارس والمستشفيات وما كان فيها إلا خمس سيارات(فورد)صغيرات،وما كان فيها هذا الجمهور من المهندسين والمحامين والأطباء،ولم تكن تضاء بيوتها بالكهرباء،ولم يسمع أحد في دمشق بالراد(الراديو)بل لم يكن قد وجد يومئذ  ولا بالهاتف الىلي،ولا بمواقد الغاز،ولا بالغسالات والبرادات،ولم يركب أحد من أهل دمشق الطيارات.

ما كان في دمشق شىء من مظاهر هذه الحضارة النافعة،وما كان فيها كذلك شىء من أوضارها ولا أضرارهانلا ملاهي ولا فسوق ولا إلحاد ولا تكشف،وكان الناس ينامون من بعد العشاء،ويفيقون من قبل الشمس.

وكانت المساجد ممتائة،والدروس فيها حافلة،وكان العلماء عاملين بعلمهم،يريدون به وجه الله لا يطلبون به الدنيا،وكان الناس يرجعون إليهم في شؤون دينهم ودنياهم.

هذه دمشق سنة 1918 ذكرتني بها هذه الأنقاض،فهل كانت خيراً أم ما نحن فيه هو الخير؟هل خسرنا في هذه السنين الأربعين أم ربحنا؟

أما أنت يا مدرستي فعليك وعلى أساتذتي فيك وعلى رفاقي،سلام الله ورحمته وبركاته”.

وفي مقال آخر للشيخ العلامة علي الطنطاوي بعنوان”وقفة على الغار”يقول رحمه الله:

عصبة الغار سلاماً         وعلى الغار التحيّه

أول ما رأيته وأنا قادم على”بسيمة”(منتزه لطيف في قرية تبعد عن دمشق 20 كم)ذلك الباب الإلهي،وركناه جبلان شامخان قائمان عند مدخل القرية يحوطانها ويحدبان عليها،وقد تقاربا وضاق ما بينهما حتى ما يتسع لأكثر من مجرى الماء وسكة الحديد.

وكأن الطبيعة ضنّت بهذه الجنة الفينانة أن تناها كل يد،فأقامت عليها حارساً من صخور وجلاميد!

ألقيت رحلي في هذه البقعة الخاشعة،والشمس تلقي عليها نظرة الوداع فينسج هوله على وجهها صفرة الموت….وفي الصفرة والسكون،معنى من معاني اللانهاية لا تفهمه إلا القلوب،ولا يعبر عنه إلا بالقلوب…وصلتها تعِباً،فاستلقيت على مرجة خضراء في سفح الجبل مستنداً إليه وهو قائم من خلفي،يودّع شعاع الشمس ولم يبق منه إلا خيوط قليلة،لا تلبث أن تتبدّد،ومن أمامي بردى يتدفق ويسير في منحدر عظيم فيعلوه الزبد،ولخريره في هذا السكون المطلق عملُ الراح في النفوس.

ولقد جمدت في مكاني لا أبدي حراكاً شاخصاً بعينيّ ،حتى كأنني تمثال نحتته القدرة الإلهية في أصل الجبل،تتبين من ملامحه الحزن العميق والكآبة والغمّ.

حتى إذا غاضت الشمس في لجّها،ونشر الكون ثوبه الأسود ليلقيه عليه حداداً عليها،قذف الله الروح في هذا التمثال…فصحوت ونظرت إلى القرية وكأني أنظر إليها من نافذة قصر،لا من مدخل واد،فرأيت رؤوس الأشجار،وذرى البُنى،وهي متوّجة.لا تزال بإكليل من العسجد،مصنوع من أسلاك النور،فنهضت لأدخلها قبلأن يسدل الظلام حجابه عليها،فيسدّ طريقي إليها،وهممت بوداع هذه البقعة التي استحال ما فيها من سكون،وما لأمواهها من خرير،من جميل هادىء إلى مفزع رهيب منذ استحالت حلته الزاهية حلة من الظلام.

وإذا أنا بشيخ هرم يتقدم إليّ بخطى متقاربة،يتوكأ على غصن من أغصان الزيتون،وعلى رأسه جرة يريد ملأها،فلما رآني ارتاع وارتعت لأن واحداً منا لم يتوقع رؤية صاحبه،ثم حيّاني وحيّيته،فأنس بي وأنست به،وصعد قمة صخرة مجاورة فجلس عليها وجلست إلى جانبه،وقد عمّت الظلمة المكان إلا قليلاً منه ينيره نور قليل لاح من وراء الجبل،وما زال يزداد وينتشر،حتى أوشك أن يعيد الليل نهاراًنوظهر في قمة الجبل ما حسبته جمرة تتّقد لولا أنه أجمل ولولا أنه البدر،وفي لحظة واحدة عمّ النور الوادي.

تأملت القرية،فإذا هي قائمة في واد من أجمل ما أبدع الله،تحتاطه من جهاته الأربع أربعة جبال شمّاء قد تعانقت وتعاقدت على حفظه تنفرج قليلاً من جهتين مقابلتين،وتختلف في ألوانها وقطع صخورها،وشكل تربتها،وطبيعة نبتها اختلافاً يملأ النفس روعة،والنهر يتدّفق في وسطها يتلوّى كأنه راقص يخاصر بساتين وجنائن ما علمتها منسقة الوضع ولا محكمة الهندسة،ولكنها أجمل من كل ذاك،لأنها الغادة الهيفاء العُطُل وكأنها فلقة البدر،ولأن تلك العجوز الشمطاء تتجمل بالحلي والأصباغ.

وأما القرية فإن هي إلا بيوت صغيرة،أو أكواخ كبيرة،بنيت من الحجر والطين ذات طبقة أو طبقتين،قد انتثرت على السفوح الأربعة وسكن أهلها إليها في هذه الساعة،وسكن الوادي كله حتى ما يسمع فيه إلا خرير الأمواه.وكأن هذا السكون والخشوع أطلقا لفكري العنان،فاستغرقت في تأملاتي حتى كدت أحسبني فيما بعد الساعة في جنة الخلد لولا أني لم أعمل لها ما أستحقها به إلا إن رحم ربي،ولولا أن الشيخ سعل وليس في الجنة سعال،فعادت إليَّ نفسي وأخذت أدور ببصري هنا وهناك،حتى علق بنقطة سوداء في قمة عالية،ورأيت في الجبل طريقاً إليها ممهداً وقلت في نفسي:ما عساها تكون؟وماذا فيها؟والتفتُ إلى صاحبي وقد طالما غفلتُ عنه أسأله ما هي؟وكأن سؤالي هاج في نفسه ألماً دفيناً،فاضطرب وانفجر يبكي بكاء الثكالى حتى أشفقت عليه وندمت على سؤالي إياه.ولكنه تماسك وبدأ يقول:

آه يا بنيّ…لقد ذكرتني ساعة الهول،إن في هذه النقطة سراً من اسرار شقائي،إن فيها مصرع سيدي شهيد الغار…

أسفاه على شبابه الغض،على إخلاصه العجيب،ليتني ما ربيته ولا حملته على كتفي صغيراً،وليتني متُّ قبل أن أشهد مصرعه…

أسفاه على تلك الفتاة التي انهارت كل آمالها أمام عينيها،وفقدت رشدها،حتى أصبحت هائمة على وجهها في بطون الأودية ورؤوس الجبال تقضي نهارها في ذلك الغار تقبل جدرانه،وتسكب فيه من دموعها ما شاء الله أن تسكب،ثم تأوي إلى هذا الكوخ الذي تراه.وأشار إلى كوخ في الجبل فيه نور ضئيل يدل عليه.فتقضي فيه عامة ليلها،لا تذوق النوم إلا غراراً،ولا تغمض عينيها حتى تراه ساقطاً أمام الغار مصرّجاً بدمه فتفيق مذعورة،وتمضي نهارها باكية منتحبة،لا تنال من الطعام إلا ما يقيم أودها.

إنه كان مشغوفاً بها شغفها به،وكان لا يستطيع فراقها طرفة عين،ولكنه كان رجلاً كأولئك الرجال البواسل الذين أراقوا مهجهم فداءً لسورية لأنهم:

أنفوا حياة الشاء كلَّ عشية     وضُحى تعيث بها يدُ الجزار

رأى حبيبته سورية تستنجد به فهبّ لنصرتها…آه إنها ساعة أذكرها.وكأنها ماثلة أمامي…فأحس أن جوانب قلبي تصدعت علمت بعزمه،وصاحت به قائلة:أتاركي أنت؟أمفارقي؟وبكت.فاستعبر وهمّ بالرجوع.ولكنَّ الدم العربي الذي يجري في عروقه،شدَّ من عزمه.فأطرق طويلاً لا خشية من الموت،بل كان يتصور هذه العاقبة التي تؤل إليها حالها بعده.فتهمل عبرته ويودّ لو أجابها…ثم يتصور وطنه المعذب،فيعتمد على بندقيته وتنقلب عيناه في أم رأسه،ويزمجر كالأسد قائلاً:نعم نعم! إنني أتركك وأنا أعلم أنه آخر العهد بك!لأذهب إلى ساحة الشرف.أتركك وأنا أحبك،ولا أستطيع فراقك لأني أحب سورية أكثر من …

قال هذا وأدار عنان فرسه وألقى عليها النظرة الأخيرة،وعلم الله كم كان يختلج في قلبه من عواطف،ثم لكز فرسه فانطلقت تُطوى لها الأرض طيّاً.

أما هي فوقفت صامتة مذهولة،والصمت في مثل هذه المواقف أشد على النفس وأدلّ على الحزن من العويل والصراخ.وقفت تنظر إليه شاخصة بعينيها مادة يديها كأنها لا تصدق ما ترى.

حتى رأته وقد كاد يغيب عن بصرها،فعلمت أنه فراق الأبد،وأنه الشقاء ستتجرعه ما عاشت،فلطمت بيديها وجهها وصعقت صعقة خلتُ أن أحشاءها قد تقطعت منها،وسقطت على وجهها.

ثم أفاقت فغدت على آثاره تقبلها،وتبللها بدموعها غير مقبلة على طعام أو شراب،وغير مستأنسة بخلِّ أو صديق،حتى مرض جسمها وحالت محاسنها،وخفتُ عليها الهلاك فحملتها إليه.

آه …هنالك…هنالك أمام الغار وجدته،وليتني مت قبل أن أشهد هذا المشهد…وجدته…قائماً وحده على بابه يدافع عنه دفاع الأسد عن عرينه لا يطيش ولا يهلع.

أما هي فقد…أغمى عليها والتفت لأرى ما بها،فسمعت الصيحة وإذا هو…قد خرّ…مضرجاً بدمه!

ثم خنق الشيخَ البكاء وأسلم نفسه إليه ساعة من زمان،ثم قام من بعدها فسار صامتاً آخذاً طريق الغار،وتبعته حتى بلغناه،ووقفنا خاشعين،كأن أرواحنا تناجي روح صريع الغار وأرواح إخوانه الشهداء،وكأني أسمعها تقول:أيتها الأرواح الطاهرة!

أطلّي من جناتك العالية،وانظري إلينا…فإن الحزن قاضٍ علينا،إنك تتمتعين بلذة النعيم الخالد ملقية على عاتقنا ـ نحن الأشقياء، نحن الأحياء ـ تِبعةَ حفظ أطفالٍ يتامى لا تجفّ عبراتهم منذ فقدوا آباءهم،وأمهاتٍ ثكالى لا يعرفن في العالم ملجأ إلا ملجأ الموت،بعد أن فقدن فلذات أكبادهن..وأرامل قد طوّحت بهنّ الحاجة إلى الفقر المميت أو السقوط الفاضح…وأمة عزيزة حرّة امتهنت حريتها وسُلبت عزّتها…تطلبين منها مسح دموع الصعفاء،وإنقاذ الوطن.

إنه طلب جليل.ولكنا لا نجزع من هذه التبعة ولا يفر منها،ولا نكون شرّ خلف،وإن باب الشرف الذي فُتح لكِ لم يغلق في وجوهنا…

إن هذا الغار قائم يشهد علينا وفاءنا،ويحصي أعمالنا،وسيبقى رمزاً خالداً للتضحية.تمر عليه سورية الحرّة،فتذكر فيه سورية المظلومة.

إنك لتذهب اليوم إلى هذا الغار الموحش فلا تجد فيه إلا خطّاً على جداره الصخري،قد نُقش بذلك الدم العزيز:

وللحرية الحمراء بابٌ     بكلِّ يدٍ مضرّجةٍ يُدقُّ

وفي مقال للشيخ علي الطنطاوي رحمه الله بعنوان”ذكرى ساقية”(الرسالة العدد 141):”

“هي ساقية صغيرة عرفتها من يوم عرفت الدنيا،تجري في رحبة(الدحداح)،في ظاهر دمشق،فكنت أزورها دائماً،وأجلس إليها راضياً وساخطاً،مسروراً ومكتثباً،شجيّ النفس وخليَّ البال،فأحدثها حديث سروري ورضاي،وأبثها شجوي واكتئابي،فأجد فيها الصديق الوفيّ،حين عزّ في الناس الصديق،والأخ المخلص حين ارتفع من الأرض الإخلاص،وكنت أفرّ إليها كلّما نابتني من الأيام نائبة،أو نالني الدهر بمكروه،فأجد فيها عزائي وأنسي،وراحة نفسي…فررت إليها أمس كما كنت أفرّ،فإذا الأرض غير الارض،وإذا الساقية قد عدا عليها الزمن فمحاها،وأقام دار البستاني على رفاتها…فجلست على حافتها الجافة،أودّع هذه البقعة الحبيبة إليّ،قبل أن تبتلعها المدينة الضاجة الصاخبة التي ابتلعت  ما كان حولها من حقول واسعة،ورياض وجنات،وأعيش حياة لي في هذه الساقية كلها سعادة واطمئنان،عشتها كما تعيش الضفادع،غير أن الضفادع تسبح في ماء الساقية،وتنام على كتفها،وأنا أسبح في ذكرياتي التي أودعتها حافتيها،وآمالي التي رأيتها من خلال أمواهها.

وهل يعيش ابن آدم إلا في الساقية والطريق،والقمر والمئذنة؟أليس في كل ساقية يجلس إليها ،وكل طريق يسلكها،وفي القمر يتأمل صفحته في الليالي البيضاء،والمئذنة التي يرى هلالها من شباك غرفته،أليس في كل ذلك ـ أثر من نفسه ـ وقطعة من حياته؟

رحمة الله أيتها الساقية…منذ كم أنت تجرين وتسرعين،أفبلغت غايتك بعد جري القرون،أم قطعك عنها عدو جبار،أم أدركك عجز الشيخوخة وضعف الهرم،فجفّ ماء حياتك،كما تجف الحياة في عروق الشيخ القحم،وفروع الشجرة النخرة،وجدرالبيت  الخاوي؟

وهل كنت تجرين يوماً واحداً لو عرفت أن غايتك الفناء وأنك إنما تسعين إلى أجلك برجلك؟وهل كان يبني الباني،ويزرع الزارع،ويعمل العامل،لو عرف أن أجله أدنى إليه من أمله،فبينما هو ينتظر إشراق الفجر،إذ احتوته ظلمة القبر،وبينما هو يحلم بالسراب،إذ واروه التراب؟

وهل كان يطمع في الحياة طامع لو عرف أن كل يوم يزيد من حياته إنما ينقص من حياته ،فإذا بلغ كمال الحياة فقد صار إلى الموت؟

إن الإنسا يأمل أن يملك الدنيا ويعيش إلى الأبد،وأنت تأملين أن تصيري نهراً ثم تصبحي بحراً،والله يريد أن تتم حكمته في الحياة فيسعى كل ساع إلى الفناء،يدعوه الأجل،ويحدوه الأمل…ولا رادّ لما أراده الله.

وهل كنت تذكرين أيتها الساقية أصدقاءك وأحباءك وتحنين إلى ذكراهم،وتبكين عهدهم؟أم قد أمات حسّك تقلب الأيام وغدر الزمان،فأقبلت تجرين،لا تذكرين ماضياً ولا تحفلين حاضراً ولا تنتظرين آتياً؟

وهل تذكرين يوم فرننا إليك من شيخ الكتاب القاسي،وعصاه الطويلة التي كان ينال بها رؤوسنا وهو على سرير ملكه،في هذه الغرفة الضيقة،المثقبة الجدران المسدودة النوافذ،الفاسدة الهواء؟لقد مللنا البقاء في هذا السجن الرهيب فشكونا إلى أهلينا فما وجدنا مشكياً فتجاوزنا(البحرة الدفاقة)وتخطينا هذا السياج،ولجأنا إليك فما وجدنا إلا الكرم والعطف واإحسان؟آمنت خوفنا،وبدلتنا بمدرسة الشيخ وعصاه،هذه الدنيا الفسيحة وهذه الحقول التي لا تنتهي،فطابت أنفسنا بجمال الكون،وانجلت أبصارنا بمرأى البساتين،ونظرنا من هذا فإذا قبة النسر وملآذن الأموي تشرف علينا جليلة عظيمة،فاستشعرنا جلال الدين وعظمته،ونظرنا من هناك فإذا قاسيون يطل علينا مشمخراً عالياً،تقوم عليه الدور البيضاء،والقصور الحمراء،فأحسسنا جمال الدنيا،وسموّ المجد وعزّة الغنى…وأدركنا بعقولنا الصغيرة أن الشيخ كان على ضلال،وأن أهلنا كانوا على خطأ،وأن العلم قد يحصل في الدنيا الواسعة،والبقاع الجميلة،أكثر مما يحصل في السجون والكتاتيب،وأن جمال الحقل أبلغ في التهذيب من عصا الشيخ.

في تلك الساعة عرفتك أيتها الساقية،فمنحتك الودّ والإخلاص،وجعلتك صديقي إذ لم أجد بيتي ومدرستي صديقاً،وكنت أرى طيفك في أحلامي،فأهش لك وأنا غارق في منامي،وأتخيل صفاءك وعطفك،وأنا بين يدي الشيخ الجبار،يقرع رأسي بالعصا،ويصرخ في وجهي بصوته الأجش الخشن:

يا ولد يا خبيث…والله إن عدت إلى الهرب كسرت ساقيك ،فلا أرد عليه،وإنما أستر وجهي بكفي،وأضحك بصوت غريب،فيظنني أبكي فيدعني…وينصرف إلى غيري فأنظر من بين أصابعي،حتى إذا رأيته قد غفل عني قفزت إلى الشارع،فاختبأت في(جامع التوبة) أو أخذت طريقي إليك،فآكل من الثمار التي حولك،وأشرب من مائك،وأصافحك بيدي شاكراً،وأمسح بكفيك وجهي…هل تذكرين ذلك أيتها الساقية؟

هل تذكرين كيف جئناك بعد ذلك،وقد تخلصنا من الشيخ ودخلنا المدرسة،فوجدنا ساحة رحبة ومعلمين كثيريننوحصصاً قصيرة،ولكنا لم نجد عطفاً ولا ابتساماً،كان معلم الحساب يحبب إلينا شيخ الكتاب،حتى نراه إلى جنبه نعيماً،كنا نرى طيفه أمامنا حيثما سرنا بشاربيه الكبيرين وتقطيبه الدائم،ونظارته التي يحدرها أبداً إلى أرنبة أنفه،وصوته الذي يشبه صوت من يتكلم من وسط برميل،فكنا نرتجف من خياله،ونخشاه أبداًنإلا إذا أصبحنا في حماك،فإننا نأمننونطلق أنفسنا على سجيتها،فنسخر من المعلم،ونقلد الشيخ،ونمرح ونعدونثم نعود إلى الدار ونحن ممتلئون قوة ونشاطاً،فإذا سألنا الأهل:أين كنتم؟قلنا: كنا في المدرسة،وإذا سألنا المعلم قلنا:كنا في البيت! فيصدقوننا جميعاَ..أو ليسوا قد حملونا على الكذب حملاً حين كرّهوا إلينا العلمنودفعونا إلى الفرار،وعاقبونا على الصدق،ولم ينتبهوا إلى الكذب؟

وهل تذكرين يوم جاءت دمشق أولُ سيارة،وكنا جالسين حولك نتحدث حديث الحرب وما يمكن أن يصل إلينا من أخبارها،فما راعنا إلا عربة غريبة الشكل تسير من غير أنيجرّها حصان،فطار الفزع بألبابنا،وفررنا نحسب أن الجن تسيرها،ثم سمعناهم يدعوننا،ورأينا ضباطاً تلمع الأوسمة على صدورهم والسيوف على جنوبهم،فأمرونا أن نلقي الأحجار فيك أيتها الساقية ليمر عليها (الأطنبير) فأطعنا وفعلنا مكرهين؟ومن كان يستطيع أن يخالف أمر ضابط من ضباط جمال باشا؟…فلما مرت هرعنا إلى دورنا نخبر أهلنا أن عربة تمشي من غير أن يجرها حصان…فتنبري لي عمتي،وتكذبني وتسبني:

ـ أخرس يا كلب،يا كذاب….إن هذا مستحيل

ولكن عمتي التي أبت أن تصدق أن في الدنيا سيارة تمشي بنفسها،قد عاشت حتى رأت الكهرباء…والتلفون…والراديو…ورأت الدبابة والمصفحة والمتراليوز…ثم رأت أثر الحضارة في أنقاض دمشق…فصارت متهيئة لتصدق كل شىء.

وهل تذكرين كيف عدنا إليك أيتها الساقية فإذا أنت حردة غصبى,قد وقفت عن سيرك،وضللت طريقك،فتطلعت إلى اليمين والشمال،والأحجار قائمة تسد عليك سبيلك فعالجناك واعتذرنا إليك،وطيبنا قلبكنوفسحنا لك السبيل،فجريت مضطربة،متغيرة الوجه،تبكين أيامك الماضية،وتخافين ما يأتي به الزمان؟

وهل تذكرين يوم كنا حولك ونحن آمنون مطمئنون،فإذا الأرض قد ارتجت،وإذا الجيش التركي الذي كنا نخافه ونخشاه قد ذلّ بعد عزّ،وضعف بعد قوة،وفرّ متفرقاً حائراً لا يدري أين يقصد،ومن ورائه العرب والإنكليز،يدخلون الشام ظافرين،فسررنا وفرحنا،وصفقنا وهتفنا.ولكنك جريت واجمة حزينة،لأن حياتك الطويلة وما رايت من دولة الدول،وهلاك الملوك،علمتك أن من يؤمن لمن يتبع دينه،كمن يدخل النار ويرجو ألا تحرقه؟ثم حققت الأيام ظنك،وصدقت حدسك،فقلنا:يا ليت!(وهل تنفع شيئاً ليت؟!)

وهل تذكرين يوم كنا جالسين إليكنوحولنا هذه الحقول تمتد آمنة إلى ما لايدركه البصر،وإذا بعو جبار،يأتي من وراء الحقول الآمنة،فيشقها شقاً منكراً،ويثغر فيها ثغرة هائلة حتى إذا بلغك ألقى عليك نظرة ازدراء واحتقار،ثم سار في طريقه حتى إذا بلغ سفح الجبلنفتمطى ثم تمدد ثم نام نومة الأبدنوإن رأسه لفي الصالحية،وإن رجليه لفي حيّ النصارى…فلما رآه أحبابك وأصحابك آثروه عليك،فلم يعد أحد يستطيب الجلوس إلى ساقية صغيرة،بعد أن فُتح(شارع بغداد)ليجول فيه الشبان كل يوم(بين حي النصارى والصالحية)مرجلة شعوره،مصقولة وجوههم،يسيرون مائلين مميلين…فصبرت وتجلدت،ورجعت تجرين كما كنت منذ ثلاثة آلاف سنة…كأنك لا تحفلين شيئا؟

لقد عشت عزيزة مكرمة،منذ وطئت هذه الأرض أول مرة،فلم ينتهك حرماتك أحد،ولم يعث في حرمك الآمن عائث،رغم الحوادث والأرزاء،أفانتهى بك الأمر أن يقتلك بستاني؟

لقد سقيت هذا البستاني وأباه وجدّه،ومن قبلهم إلى أربعة آلاف جد،أفكانت عاقبة هذا الإحسان أنه لم يبن بيته إلا على رفاتك،ولم يكن أساس منزله إلا قبرك؟لا بأس أيتها الساقية،فإن الإنسان مذ كان منكر للمعروف جاحد للإحسان…

لا بأس،فإن ملكاً لن يدوم،ولقد رأيت الترك والروم واليونان،فها رأيت ملكاً يبقى،أرأيت الدنيا دامت على أحد؟أما كانت دولة الترك عظيمة؟أما جلت دولة الرومان؟أبقي من هذا كله شىء؟لا، يا أيتها الساقية،إنه لا يبقى إلا الإسلام،لأنه من ملك الله الباقي…

رحمة لك أيتها الساقية،وسلام على تلك الأيام الجميلة التي عشت فيها إلى جنبك،لا أعرف هم الدنيا ولا نكد الحياة،لقد كنت أفرّ إليك من عصا الشيخ،وعقاب المعلم،فتؤويني وتحميني،فلمن أفر اليوم من حياتي التي ضاقت علي،ونفسي التي برمت بها؟

لقد ضعتُ كما ضعتِ أيتها الساقية،وجفت آمالي كما جففت،وانتهى بي المطاف أن أكون شيخ كتاب! ولكن لا بأس أيتها الساقية…فإن الدنيا لا تدوم على حال.فرحمة لك،وعلى ذكراك السلام”.

وفي مقال له بعنوان”دمشق مهرجان الماء والياسمين” يقول الشاعرالكبير نزار قباني:

“لا أستطيع أن أكتب عن دمشق،دون أن يُعرّش الياسمين على أصابعي.ولا أستطيع أن أنطقَ اسمها،دون أن يكتظَّ فمي بعصير المشمش،والرمان،والتوت،والسَفرجلْ.

ولا أستطيع أن أتذكرها،دون أن تحطَّ على جدار ذاكرتي ألف حمامة،وتطيرَ ألفُ حمامة.

كل أطفال العالم،يقطعونَ لهم حبلَ مشيمتهم عندما يولدون….أما أنا فإنَّ حبل مشيمتي لم يزل مشدوداً إلى رحم دمشق،إنها معجزة طبيّة،أن يبقى طفلٌ من الأطفال يبحثُ عن ثدي أمه سبعين عاماً…

أنا مسكونٌ بدمشق،حتى حين لا أسكنها،أولياؤها مدفونون في داخلي…حاراتها

تتقاطع فوق جسدي،…. قططها …تعشقُ…وتتزوج…وتترك أطفالها عندي.

دمشق، ليست صورةٌ منقولةٌ عن الجنّة. إنها الجنّة….    وليست نسخةً ثانيةً للقصيدة. إنها القصيدة…وليست سيفاً أموياً على جدار العروبة…إنها العروبة.

لا تطلبوا منّي أوراقي الثبوتية.فأنا محصولٌ دمشقيُّ مئة بالمئه.

أنا الحنطةُ،والخوخُ،والرّمانُ،والجانرك،واللوزُ الأخضر في بساتين الغوطة.

وكما البروكار،والأغباني،والداماسكو،وأباريقُ النحاس،والخزائن المُطّعمة بالصَدف،التي هي جزءٌ من تاريخي…من جهاز عُرس أمّي…

اللغة التي أكتب بها أيضاً،هي محصولٌ دمشقيُّ.لو فتحتَ ثقباً صغيراً في أبجدَّيتي….لأنفجرت نوافير الماء.. وطلعت من مسامات حروفي…

رائحة النرجسِ،والريحان،والزعتر البلدي،والطرخونْ…

سافرت كثيراً…حتى وصلتُ إلى حائط الصينِ العظيم.لكنَّ حمائمَ الجامع الأمويّ لا تزالُ تطلعُ من جيوبي حيثما اتّجهت،ولا تزال القطط الشاميّة تموء تحت سريري في كل فندقٍ أنزل فيه.ولا تزال رائحة الخُبيّزة والقرنفل تطلع لي من كل حقيبةٍ أفتحها…

أنا خاتمٌ من صياغة دمشق.

نسيجٌ لغويُّ من حياكة أنوالها.

صوتٌ شعريُّ خرج من حنجرتها.

رسالةُ حُبٍّ مكتوبةٌ بخطِّ يدها.

سحابةٌ من القِرفة واليانسون،تتجوّلُ في أسواقها

شجرةُ فلٍّ تركتها أمّي على نافذتي،

ولا تزالُ تُطلِعُ أقمارها البيضاءَ…كلَّ عامْ

في أسفاري،تمرُّ بي أوهامٌ كثيرة.

فأتصوّرُ مرةً اننّي سَفَرْجلة.

أو سطلُ عِرقسوسٍ،أو كومُ صبّارة مُثلَّجةٍ في ليالي الصيف…

إنني أعرفُ أنَّ كلَّ هذه الهواجس هي هواجسُ طفوليّة،وأنَّ كلَّ هذه التهلوسات،هي هلوساتُ عاشق.

ولكن…لن أسمحَ لأحدٍ أن يُلغي مُخيّلتي

ولن أسمح لأحدٍ أن يمنعني أن أكون عُنقودَ عنبٍ…أو ركوةَ قهوةٍ…أو سِربَ سُنونو…أو قطّةٌ شاميةٌ قزحيّةَ العينين.. أو نافورةَ ماءٍ تقولُ الشعر،دون أن يعلّمها أحدٌ علمَ العروض…

وبعدُ…وبعدْ…

فبصدور هذا الكتاب الذي يحمل عنوان دمشق..نزار قباني

أشعر أنَّ حُلُماً قديماً من أحلامي قد تحقَّقْ

وهو أن أصبحَ ذاتَ يومٍ جزءاً من تاريخِ دمشق

قطعةُ فُسيفساءٍ على جدران الجامع الأمويّ

خاتماً مشغولاً بالفيروز في (سوق الصاغة)

صفصافةً تغسلُ ضفائرها بمياه(عين الفيجة)

فصيلاً من فصائل نَعناعِها،وطرخونها،ومُشمشها،وسَفرجلها.

باباً خشبياً واطئاً يوزّع  تذاكر الدخول إلى الجنة

تلميذاً من تلاميذ الشيخ محيى الدين بن عربي

بيتاً من الشعر لأبي الطيّب المتنبي محفوراً على سقوفِ قاعاتها

نافورة ماءٍ،ترشُّ دفاترنا المدرسية بمائها الأزرق كلّ صباح”.

يقول الأستاذ عبد الوهاب عزام رحمه الله في مقال له بعنوان”أيام العروبة تبدأ في سورية:

“سورية الكريمة العزيزة،سورية الجميلة الجليلة،سورية العربية الأبيّة،سورية الشجاعة الجريئة المجاهدة،تغسل عنها العار،وتستقبل الكرامة،وتبسم للحرية بعد أن طال عبوسها للعبودية،وتطوي صحيفة لعدوها سوداء،لتنشر صحيفة لنفسها بيضاء،وتختم جهاد المعتدين لتبدأ جهاداً في الحياة السعيدة المجيدة،وتستأنف سيرتها العظيمة لتصل حاضرها الكريم وماضيها الخالد بمستقبلها الوضاء.

دمشق!العتيقة الحديثة،دمشق الماضية الحاضرة،التي ثبتت للخطوب ثبات”قاسيون”وابتسمت للمحن ابتسام مروجها وجنانها:

دمشقّ! مجتمع الأحداث قد زخرت       فيها كما اندفقت في البحر أنهار

دمشق،قد استدار لها الزمان،وردّ عليها الدهر مجدها المنشود،فهي اليوم ظافرة،فرحة،تأسو جراحها،وتُعدّ للمستقبل عدّتها،قد انجلت عنها الغمرات،كما ينجلي النقع عن البطل المرزأ يعصب جراحه،ولواء النصر في يده:

مرزأ بتلقي الخطب منصلتاً    تنشقُّ عنه من الأهوال أجفان

ليت شعري كيف الغوطة والربوة ودمّر والهامة،اليوم؟

أترى أشجارها تتمايل طرباً،وأوراقها تصفق فرحاً؟وكيف قاسيون ذو القمة الجرداء والسفح الأخضر؟

نَسر يرى اللوح منه هامة عُطُلاً      لكنّه ذَنب الطاووس جرار

كيف هذا النسر اليوم؟أتراه شمخ برأسه عزّة بعد أن رمى عنه آثار المذلة،وحلّق على الرياض فرحاً في هذا النهار بعد أن وقع كئيباً في ذلك الليل!

وكيف”بردى”ذو الفروع السبعة؟أهو اليوم جذلان مطرد يصفق ماؤه بنسيم الحرية،وتمحو جِريته الظلال البغيضة التي تراءت على صفحته في سنى الإستعباد؟

وليتني أرى الآن جامع بني أميّة،هل نطقت جوانبه تسبيحاً وتهليلاً؟

وهل تهم قبّة النسر بالتحليق كما يحلق الطائر الوحشي قطع الشرك أو انفتح عنه المحبس؟

وكيف أبطال تاريخنا في المدينة وحولها؟كيف معاوية والوليد؟وكيف نور الدين وصلاح الدين ،وكيف الظاهر والعادل؟

وكيف أبطال الجلاء في عصرنا،الذين نازلوا الباطل المدجج عزَّلاً فزلزلوه حتى هدموه؟

وليت شعري هل انبعث الأذان من قبر بلال في مقبرة الباب الصغير إيذاناً بالفجر من هذا العهد المبارك؟

يا سوريتنا الجميلة الحبيبة،حيا الله فيك كل مدينة وقرية،ونضّر كل دارة وبقعة،وحباك السعد مطرداً مع الزمان،دائراً مع السنين.

ورحم الله كل مجاهد أمدّك بحياته،وسقى ترابك بدمه،وثوى في الأرض كلمة باقية في سطور تاريخك الخالد.

ونضّر الله وجوه المجاهدين الأحياء الذين صبروا وصابروا،وبسموا للخطوب السود في الظلام المكفهر،حتى تبلج الصباح:{فما وَهنوا لِما أصابَهُم في سبيلِ الله وما ضَعُفوا وما استكانوا}.

وحيا الله هذا الرئيس الأمين،الطاهر القلب،المبارك الناصية”شكري القوتلي”،شكر الله مساعيه،وحيّا أصحابه الكرام،وحيّا كل من شارك في تحرير سورية،بيده أو لسانه.

وبعد:فيا سوريتنا العزيزة،قد رفع الزمان الأعباء عن كواهل الأعداء،فوضعها على كواهل الأبناء،فليحملوا أعباء الواجب،وليؤدوا تكاليف المجد،وليبنوا مستقبلهم بأيديهم لأبنائهم،وليعلموا أن حاضر العرب يؤمل فيهم،وماضي العرب ينظر إليهم،ومستقبل العرب ينتظرهم،فليجمعوا القلوب والأيدي،وليحسنوا البناء.

ألا إنه قد فتحت لهم صحائف في التاريخ جديدة،فليجيدوا الكتابة في هذه الصحائف التي تخلد كل شىء.

إنهم يبنون أجيالاً،ويكتبون تاريخاً،فلينظروا كيف بناء الأجيال وكتابة التاريخ؟

يا سورية الجميلة،إن أبناءك اليوم قد رجعوا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر”.

وفي مقال له أخر كتب الدكتور عبد الوهاب عزام مقال بعنوان”سورية”بتاريخ 8 تشرين الثاني عام 1937م حين أغرق السيل بعض بلاد سورية:

“سورية الجميلة ذات الخمائل الوارفة،والجنات الناضرة،والمياه الثارة!سورية أنس الفؤاد وقرّة العين.

سورية الكادحة التي يجهد أهلها في السهل والجبل،يخرجون بالماء القليل شتّى الثمرات،وينبتون به يانع الجنات،سورية بردى والعاصي.

سورية الصابرة التي وفرت الأيام نصيبها من النكبات والأزمات،المجاهدة التي تجادل عن نفسها،وتجاهد عن شرفها،دفاع البطل الأصيد الأعزل،يمضي بجنانه ويده،يشقّ الأهوال إلى غايته،ويحطم الخطوب إلى طلبته،مجاهداً مثابراً،مرزأ صابراً.

سورية التي لم تجف فيها دماء الشهداء،ولم تنقطع سلسلة النوائب.

سورية التي تفيض بالذِّكَر المجيدة،والسِّير الخالدة،وتمت بالرحم الواشجةـوالقربى الواصلة،والجوار والذمام.

سورية الجميلة الحبيبة،الكادحة المجاهدة الصابرة،فجأها السيل كقطع الليل،ودهمها القضاء من السماء،فاستحالت جبالها أنهاراً،وسهولها بحاراً.طغى السيل بالناس والدواب،وجرف القرى والضياع،وذهب بالزروع والثمار.

فهذه جثث الغرقى منثورة في السهول،وأنقاض الدور تسيل بها الأودية،وتحت الماء والطين عتاد البائسين وذخير المساكين،وما أبقت الأزمات من ثياب وأقوات.فانظر إلى الشمل المبدد،والأمل المخيب،والهلع والفزع،والفاقة والجزع! انظر العيون الباكية، والدموع الجارية،والنظرات الجازعة،والخدود الضارعة،والعقول الذاهلة،والقلوب الحائرة،واستمع زفرات الأحياء على الأموات،وبكاء الأولاد أو نحيب الآباء والأمهات.

استمع فكم أنّة كليم،وآهة يتيم!

إن الشاعر المحزون الواله ليخيل إليه أن مجرى السيل خليق أن يكون مجرى الدمع،ويذكر قول أبي العلاء:

ليت دموعي بمنى سيلت       ليشرب الحجاج من زمزمين

لك الله يا سورية!تركتك منذ قليل تعانين ما تعانين،وارتقبت أن تتطاير الأخبار بما نؤمل من انتعاشك،وما نرجو من نهوضك،فما راعنا إلا نبأ السيول الجارفة المدمرة،ولكن في صبرك وجهادك عزاء،وكل غمرة إلى انجلاء،وإن وراء هذا الظلام فجرا،وإن مع العسر يسرا

هذه سورية في نكبتها،فمن ندعو لنجدتها؟إن ندع العرب فأهل النجدة وأولو الحميّة،وحفظة الجوار،ورعاة الذمار،في قلوبهم الراحمة لهؤلاء المنكوبين رجاء،وفي قرابتهم العاطفة عزاء،وفي أيديهم السخية ما يخفف البلاء،وهم للبائس خير وزر،وللاجىء أمنع عصر.

وإن ندع المسلمين والنصارى،فالدين يأمرهم بالتراحم،ويحفزهم إلى المؤاساة،وإن لإخوانهم فيهم لنصراء رحماء،يجيبون دعوة المضطر،ويمسحون دمعة المحزون،ويفرجون كربة المكروب.إن عليهم أن يمسحوا على هذه القلوب الدامية،ويرفقوا بهذه الأكباد الواهية.

بل أدعو البشر أجمعين،والإنسانية كلها،دعوة عامة شاملة،وأستنجد القلوب الرحيمة،لا أستثني أحداً،أن تمد الأيدي الآسية إلى هذه الألوف التي يعوزها القوت واللباس والمأوى.

يا معشر الكتاب والشعراء،كيف تقسو في هذه المحنة القلوب،وتجمد في هذه الكارثة الدموع،ويصمت في هذه الفاجعة البيان،ويخذل القلم واللسان؟

إن ما بين دمشق إلى المعرة للسيل غارات،وللدمار آيات،وللشعر مقالاُ،وللبيان مجالا.

دمشق العظيمة تستغيث،والمعرة الخالدة تستنجد،فيا أدباء العربية والإسلام،أحيوا الهمم،واشحذوا العزائم،ويا أحباء أبي العلاء،هذا شيخ المعرة في بيانه،يستنجدكم لجيرانه،يقول:

كيف لا يشرك المضيقين في النع         مة قوم عليهم النعماء؟

ويقول:

من حاول الحزم في إسداء عارفة        فليلقها عند أهل الحاجة الشكر

ومن بغى الأجر محضاً فليناد لها         برّاً فقيراً وإن لاقاه بالنكر

فالقوا بمعروفكم هؤلاء الأبرار الشاكرين تجمعوا الحزم والخير في مكرمة،ولا تحقروا ما تسعفون به وإن قل،واستمعوا إليه يقول:

إذا طرق المسكين بابك فاحبه            قليلاً ولو مقدار حبّة خردل

ولا تحتقر شيئاً تساعفه به              فرُبّ حصاة أيدت ظهر مجدل

وجاء في مقال في مجلة المقتبس العدد 94 بتاريخ الأول من تشرين الثاني عام 1914م:

عنيت بشرق الأرض قدماً وغربها     أجوب في آفاقها وأسيرها

فلم أر مثل الشام دار إقامة              لراح أغاديها وكأس أديرها

مصحة أبدان ونزهة أعين               ولهو نفوس دائم سرورها

مقدسة جاد الربيع بلادها                ففي كل أرض روضة وغديرها

هذا ما وصف به البحتري القطر الشامي منذ نحو ألف سنة وهو يصدق عليه اليوم وإلى ما بعد اليوم،فقد منح الفاطر تعالى هذا القطر من ضروب الجمال والإعتدال ما هو قرة العيون وبهجة النفوس فقضى أن تأخذ فيه الفصول الأربعة حكمها وأن تتم في قيعانه وجباله وأسباب النعيم في الحياة:أهويته معتدلة،وأمطاره وثلوجه متهاطلة،وتربته مخصبة،وغاباته ومعادنه ليست بقليلة،وأنهاره جارية،وبحيراته غريبة وأجواؤه بهجة،ورباعه منبسطة.

تعشق الشام لأنها رأت طلعة موسى وعيسى وأحمد صلوات الله عليهم من النبيين وأمثال الإسكندر وابن الخطاب وابن الوليد ونور الدين وصلاح الدين وسليم وإبراهيم ونابليون من الفاتحين وعمر بن عبد العزيز والمأمون من الخلفاء العادلين فقل في الممالك كما قال كورتيوس المؤرخ الألماني ما اندمج فيه الكثير من التواريخ في بقعة ضيقة كهذه.

وداعاً بلاد الشام فقد أخذت بمجامع القلوب بخصائصك الطبيعية،فكل تعب يهون في خدمتك وكل مفاداة يستهان بها في سبيل مرضاتك،فأرضك معشوقة الأنفس،وتربتك عليها درجنا وفيها ندرج ولن نتخذ عنك بديلاً مهما تحملنا من المشاق وما عناؤنا إلا ابتغاء المبالغة في العناية بأمرك.

سلام عليك بلاد الشام معدن الخيرات والبركات،مهوى الهوى ومغاني الخرد العين.

سلام على مناظر حرمون وصنين والصبر وقاسين ويوشع والأرز والهرمل .

سلام على أغوارك وأنجادك وعلى بحيراتك وأنهارك.

سلام على الأردن واليرموك والعاصي والفرات وبردى والساجور والليطاني والزرقاء والعوجاء والأعوج وقاديشا وغيرها من أنهارك وجداولك التي تفيض البركات على أبنائك.

إيه سورية مجموعة غرائب العالم تستودعك قلوبنا فإن بك حيث كنا قد شغلت عقولنا أننا نودعك على أمل اللقاء القريب” .

وقال الشيخ أبو الحسن الندوي رحمه الله تعالى في مقال له بعنوان”اسمعي يا سورية”:

أحيّيك يا سورية تحيّة من أحبّك صغيراً،وعاش في ذكرياتك وأخبارك دهراً طويلاً،لقد سمع في طفولته ملاحم الإسلام ،وفتوح الشّام فعرف مدنك وقراك كما عرف مدن بلاد وقراها،ودرس في شبابه تاريخ الإسلام فرآك تشغلين منه مكاناً واسعاً،وتضعين إليه صفحات مشرقة لا يزال المسلمون يستمدون منها الإيمان،ولا يزال العرب يذكرون بها العهد الذي كانوا يحكمون فيه نصف المعمورة.

أحيّيك يا سورية تحية من نفسي وعقيدتي وضميري،فكل منها ما يتنافس في تحيتك،وكل منها يدين لك بالفضل،فقد غمرت نفسي بالسرور والإيمان ببطولة من بذل نفسه وأراق دمه على أرضك،وقويت عقيدتي في انتصار الروح على المادة،والفضيلة على الرزيلة،وانتصار قوة الإيمان على قوة السيف والسنان،وقوة الأبدان،وكثرة الأعوان،وما اليرموك عنك ببعيد،وما يوم حليمة بسرّ،وأيقظت ضميري لفهم معاني أسمى من السماء،وأعذب من ماء بردى،هي معاني الثقة بالله،وعلوّ الهمة في سبيل الله،والعطف على عباد الله،والعدل بين الناس .معان تجلّت على أرضك وحواها تاريخك،فتحيّتي لك يا سورية تحيّة النفس والعقيدة والضمير.

أحييك يا سورية عن نفسي،وأبلغك تحيات ملايين من البشر يسكنون وراء البحار،ويحنون إليك على بعد الدار.

لا تستغربي يا سورية العزيزة هذا العدد الضخم،فإن على شواطىء البحر الهندي،ووراء جبال هملايا أمة كبيرة العدد،قوية العاطفة،صادقة الوداد،قد عرفتك قديماً.وأحبتك شديداً وذكرتك كثيراً.

ذكرتك كلّما أذن المؤذنون ،وكلّما دوى في الفضاء صوت”أشهد أن لا إله إلا الله،وأشهد أن محمداً رسول الله” كلما سمعوا الأذان ذكروا مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ذكروا بلالاً الحبشي،فذكروا به الشام الذي آثره بالإقامة،والاستراحة إلى يوم القيامة.

ذكروك كلما سمعوا ببطولة بطل،ومغامرة مقدام،ذكروا به بطل الأبطال”سيف الله خالد بن الوليد” رضي الله عنه،الذي تبسم في وجه الموت وسخر بالمخاوف،ورمى بنفسه في كل معركة ظن فيها الشهادة فخرج منها ظافراً منتصراً،ذلك البطل الذي استهان بحياته فعزّت،وهانت نفسه عليه فكرمت،هو الذي أذاقك يا سورية الإيمان والعدل والرحمة والمساواة،ولا يزال في حمص رمز قوة الإسلام،ومفخرة الشام.

ذكروك كلما سئموا الظلم والخيانة،وحنوا إلى العدل والأمانة،وكلما رأوا حيفاً من الحاكمين وقسوة في الفاتحين،ذكروا ذلك الفاتح الرحيم الذي كتب لأهل الشام الأمان ورفع الحصار ورد إلى أهل حمص ما أخذ منهم من الخراج بحجة أن المسلمين مشغولون عن نصرتهم والدفع عنهم بما يستقبلونه من حرب حاسمة في اليرموك.

إنهم ذكروك كلما ذكروا”أمين الأمة”وكلما اشتدّت الحاجة إلى قوي أمين وفاتح رحيم،وكلما اشتدّت الحاجة إلى قائد يجمع بين الشجاعة والرحمة،والبطولة والحكمة،والسياسة والدين،والشدة واللين.

ذكروك يا سورية كلما اشتغلوا بالحديث والفقه ـ وما أكثر من يشتغل في هذه البلاد بالحديث والفقه ـ وكلما مرّت بأسماعهم أسماء حبيبة من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم وقُرّاء القرآن،ورواة الحديث وفقهاء الأمة.كلما مرت بأسماعهم أسماء معاذ بن جبل،وأبي الدرداء،وسعد بن عبادة،وأبي بن كعب،وبحثوا عن مدافنهم فوجدوها في ربوعك وأحضانك.

ويذكروك كلما وجدوا طرازاً واحداً من الملوك والأمراء والحكام والوزراء مهما اختلفت الألقاب وتنوعت الأسماء،وجدوا الأنانية والأثرة والمحسوبية،والمحاباة،والعبث بأموال الشعوب والترف على حساب الفقراء.

ذكروا تلك الشخصية الفريدة الفذة التي فاجأت التاريخ وفاجأت الإنسانية في آخر القرن الأول الهجري،ولمع في أفقك يا دمشق نور أضاء له العالم،واستقبلته الإنسانية،فقد عمّ العدل واتجه المجتمع إلى الدين والأخلاق ،ووجد كل أحد ما يحتاج إليه،وعمّت الرفاهية وفقد الفقر المدقع،وبحث الناس عمن يقبل الزكاة فما وجدوه،وخاف العصاة والمجرمون،وارتدع القساة والظالمون،تلك الشخصية عمر بن عبد العزيز ـ سلام الله على عمر بن عبد العزيز ـ شخصية كانت كوميض البرق وفلتة الدهر،لم يزل التاريخ يحنّ إليها،ولا تزال الإنسانية تصبو إليها،وما من يوم والإنسانية إليها أفقر وأشد حنيناً،فلو لم تكن لك يا سورية حسنة سوى هذه الحسنة،ولو لم تنجب أرضك يا سورية غير هذا الوليد،لكفاك فخراً وكفاك فضلاً على الإنسانية،وشرفاً على البلاد.

وكم هنالك يا سورية من مناسبات كريمة تجدد ذكرك وتلفت الناس إليك،فكم من مقابرك من عظماء الإسلام والأئمة الأعلام،كم فيها من المحدثين وعلماء الرجال كإبن الصلاح والذهبي والمزّي،ومؤرخين كابن خلكان وابن عساكر،وابن كثير،وأبي الفداء،وأئمة كالنووي وابن تيمية وابن القيم،وصوفية كإبراهيم بن أدهم وأبي يزيد البسطامي ومحيى الدين بن عربي.

وفي حجرك يا دمشق ذلك الأسد الذي ملأ الفضاء بزئيره،وخلع قلب الغرب بشجاعته،كما ملكة برجمته وانسانيته الرفيعة،ذلك الذي زحف إليه الغرب بأفياله وأبطاله،وأسوده وأشباله ،وأجلب عليه بخيله ورجله،فناهضه وحده،وكسره في “حطين” كسرة شنيعة لم يقم بعدها،وحفظ على الإسلام حرمه وحرمته،وعلى الشرق شرفه وكرامته،ذلك صلاح الدين ـ سلام الله على صلاح الدين ـ فلولا هو لأنتهى العالم الإسلامي وتحطم الشرق،وعاث وحوش الغرب في ربوعه يستأثرون بخيراته ويستبدون بحكمه،ويتحكمون في أمواله وأعراضه،ويضطهدونه في دينه وعقيدته،ويرزأونه في أخلاقه وروحه،وكان العالم الإسلامي كله مستعمرة غربية،وكان فيه عشرات”فلسطين” وعشرات “الجزائر” فلك يا سورية الكريمة منّة على العالم الإسلامي،وفضل على الشرق العربي في شخص صلاح الدين الأيوبي،الذي ترعرع على أرضك،وتنبل في تربية ملكك الصالح نور الدين،ومنه تولى قيادة الجيوش،وفي أرضك دُفن.

لقد أتى عليك يا سورية ـ وكنت تسمين يومئذ الشام ـ حينٌ من الدهر،وأنت تحكمين أكبر قطعة من العالم المتمدن المعمور،وكانت مملكتك العظيمة لم تكن لتقطع مسافتها في أقل من خمسة أشهر على أسرع جمل،وكان الخراج يأتي إليك من الهند في الشرق،ومن الأندلس في الغرب،ولم يزل سلطانك يتقلص،ودائرة نفوذك تضيق،وحدود مملكتك تقصر وتنزوي حتى انطويت على نفسك،واقتنعت بهذا القطر الذي يسمى”سورية” وتخليت عن القيادة العالمية،فما السر في ذلك يا سورية العزيزة،وما سبيل الرجوع إلى ذلك المركز العظيم؟

ولعلك تقولين:إن العراق هو الذي انتزع مني هذه الزعامة في القرن الثاني الهجري،وحلّت بغداد محل دمشق فكانت مركز الخلافة،وكانت عاصمة الإمبراطورية الإسلامية العظيمة.

ولكني أوجه نفس هذا السؤال إلى العراق،فقد كان مصيره في منتصف القرن السابع كمصيرك يا سورية في القرن الثاني،إن سبب هذه النكسة العظيمة التي واجهتها أنت وواجهها العراق بدوره أعمق مما ظننته.

واسمحي لي أن أشرحه،إن سر عظمتك ياسورية وسيادتك على العالم كله،سيادة دامت قرناً كاملاً،هو أنك تزعمت هذه الأمة التي بعثت بعثاً جديداً وكلفت تبليغ رسالة إنسانية عالمية.

تقدمت أنت بشجاعتك وطموحك وهمّة خلفائك الذين كانوا يحكمون في دمشق،وتكفلت قيادة هذه الأمة فكان قادتك العظماء يفتحون البلاد،وينشرون الإسلام،وينشرون الدين والعلم،ويعلمون الأخلاق والفضيلة،والإنسانية والكرامة،كذلك فعل محمد بن القاسم في الهند،وطارق بن زياد في الأندلس،وموسى بن النصير في المغرب،فكان الفتح والرسالة مترافقين وكان قادتك رسل الخير والفضيلة،ومشاعل العلم والإصلاح،وكانت جيوشك جيوش الإنقاذ،وكان رجالك رجال الإسعاف،تخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده،ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام،ومن ضيق الدنيا إلى سعتها،وتضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ،وكان الناس في حاجة إلى هذه الرسالة حاجة الأرض الجدبة إلى الأمطار،وكانوا في حاجة إلى الحكم العادل حاجة المسجون إلى الحرية،فاستقبلوا رسله ورجاله وتفتحت لهم قلوبهم وبلادهم،وارتمى العالم السليب الحزين في أحضانك،كما يرتمي الطفل الصغير المذعور في أحضان أمه وأبيه،وتكونت دولة من أعظم دول العالم،وكانت لك وصاية على الشعوب والأم.

ولكنك بدأت ـ ولا مؤاخذة يا سورية الحبيبة ـ تعتمدين على قوتك وفتوحك أكثر مما تعتمدين على قوة هذه الرسالة،وتعنين بجمع الأموال أكثر مما تعنين بأخلاق الرجال،وصلاح الأحوال،وبدأ رجال الحكم وعمال البلاد وجباة الأموال يتخلفون في أخلاقهم وصفاتهم ،وأصبحوا كسائر الحكام والعمال في سائر الدول والحكومات حتى لم يمض قرن على مملكتك العظيمة حتى صار الناس يشعرون بذلك في نواحي المملكة،فقد حدث التاريخ أن رسل يزيد بن عبد الملك ذهبوا إلى رخّج وسجستان لتحصيل الخراج والإتاوة المفروضة عليها،فقال لهم ملك هذه البلاد واسمه”رتبيل” ما فعل قوم كانوا يأتون خماص البطون سود الوجوه من الصلاة؟قالوا:انقرضوا! قال: أولئك أوفى منكم عهداً وأشدّ بأساً،وإن كنتم أحسن منهم وجوهاً،ثم لم يعط أحداً من عمال بني أمية ولا عمال أبي مسلم على سجستان من تلك الإتاوة شيئاً.

فقد خضع لك العالم يا سورية في القرن الأول،وقامت عليه وصايتك،لأنك كنت تمثلين ديناً جديداً قضى الله بظهوره وانتصاره،وتحملين الرسالة الكريمة التي تنقذ البشرية من الجهالة والظلم واستعباد الإنسان للإنسان ولا تعيشين لنفسك ولمصالحك وشهواتك،بل تعيشين للعالم ولصالحه ولخير الإنسانية جمعاء،فمشى العالم كله في ركابك وأحبتك الأمم المفتوحة،ومتى أحبت الأمم المفتوحة فاتحها؟فاختارت لغتك وثقافتك ودينك وعقيدتك،أما وقد اشتغلت بنفسك وتخليت عن رسالتك،فقد انقطعت صلة العالم بك ،وأصبحت قطراً من الأقطار،ودولة من الدول.

ولكن شأنك غير هذا الشأن يا سورية العظيمة،إن موقعك الجغرافي وأهميتك الحربية،وتاريخك الماضي،وشعبك السليم المؤمن،كل يشير إلى أنك خلقت لغير هذا وأنك تسيئين إلى نفسك وتظلمينها لو اقتنعت بالدون،وزهدت في الزعامة العالمية.

ولكن كيف السبيل إلى ذلك،والزعامة ليست بالأمر الهيّن،وهنالك بلاد أوسع مساحة وأغنى في الوسائل والإمكانيات وأكثر عدداً وعدة؟

إن السبيل الوحيد إلى ذلك يا سورية أن تحملي الرسالة التي حملتها في عهدك الأول،عهدك الزاهر الذهبي،وأن تبني تلك الدعوة التي تبنيتها في القرن الأول فتتملكك كما تملكتك في العهد الاول،وتخلصين لها اليوم كما أخلصت لها بالأمس،وأن تجعلي العالم يشعر بحاجته إليك،وثيق بإخلاصك ونفعك،واحملي إليه رسالة الدين السماوي الذي أكرمك الله به منذ ثلاثة عشر قرناً يوم كنت تعانين من ظلم الرومان وحيفهم،ما يعاني كثير من الشعوب اليوم من الظلم والاستبداد،وشرور الاستعمار.

إن الامم يا سورية،لا تسود باللغات والثقافات،ولا تسود بالمدنيات والقوميات ،إنما تسود بالرسالات والدعوات والأهداف والغايات،إنما تسود بالرسالات والدعوات والأهداف والغايات أسمى وأعلى،وأبعد عن الأغراض الشخصية أو الحزبية أو الإقليمية وأعرق في الإنسانية،كانت سيادة هذه الأمم التي تحتضن هذه الرسالات،وتدين بهذه الغايات أعمق وأرسخ وأوسع وأقوى ولا تزالين تملكين هذه الرسالة،وهب الرسالة التي حملتها إليه غزاة العرب ودعاتهم في العقد الثاني من القرن الأول،ولا تزالين تعرفين هذه الغاية السامية التي خرجوا لتحقيقها من جزيرة العرب.

دعي التردد يا سورية،فلا أضرّ على الأمم من التردد وخُذي بالعزم،والأمر الجزم،واحملي راية الإيمان والدعوة في الخارج،وراية الإصلاح والتربية في الداخل،واذكري أن من أسباب انتصار العرب تقشفهم في الحياة واحتمالهم للمشاق،ومن أسباب انكسار الرومان تنعمهم في الحياة،ولا تنسي أنك دائماً على الحدود فلا تضعي السلاح ولا تميلي إلى الدعة والراحة،ولا تمكني الغواة والذين تجارتهم في الأخلاق والأعراض من إفساد شبابك وإضعاف العقيدة والقوة المعنوية.

لقد طار صقر قريش من أرضك،فأسس في الغرب دولة وحضارة بقيت مدرسة الغرب ثمانية قرون،ولا يزال الغرب يدين لها في معرفة مبادىء الحضارة ومبادىء العلم والحكمة،فأقبلي يا سورية مرة ثانية إلى الغرب برسالتك وأنت في مركز تستطيعين فيه أن توجهي الغرب في حضارته وحياته وتكملي بلإيمانك وروحك ما ينقصه من إيمان وروح”.

ويقول الأستاذ شفيق جبري رحمه الله(يوميات الأيام ص50):

“إن دولاً بحذافيرها دخلت البلاد وخرجت منها،وإن انقلابات برمتها وقعت فيها ثم ذهب أصحابها،وإن مذاهب شتى تتضارب فيها ولا يعلم إلا الله مصيرها،كل شىء على أرض الشام ذاهب أثره،مضمحل رسمه،ما خلا شيئاً واحداً نجده خالداً على وجه الدهر ما هو هذا الشىء؟ الشّام وحدها.

مرت بها أمم وعجّ غبارها            حلم على هدب العيون يزول

بلغت زحوف الفاتحين سهولها       وتظل تبتلع الزحوف سهول

جاء في “تراث الإنسانية” المجلد السادس ص 904:

“راقت المقري التلمساني دمشق فاستوطنها بضعة أسابيع،وأملى بها صحيح البخاري في الجامع الأموي،ولم يتفق لغيره من العلماء الواردين إلى دمشق ما اتفق له من الحظوة وإقبال الناس عليه.

وقد تركت في نفسه هذه الزيارة أجمل الأثر وأبقاه فكان يكثر الاهتمام بمدحها،ومن شعره في مدحها قوله:

محاسن الشام جلت         عن أن تقاس بحد

لولا حمى الشرع قلنا       ولم نقف عند حد

كأنها معجزات               مقرونة بالتحدي

ويقول في الثناء على أهل دمشق :”لو تعرضت لأسمائهم وحلاهم أدام الله تعالى سؤددهم وعلاهم لضاق عن ذلك النطاق وكان من شبه التكليف بما لا يطاق،فليت شعري بأي أسلوب أودى بعض حقهم المطلوب أم بأي لسان أثنى على مزاياهم الحسان،وما عسى أن أقول في قوم نسقوا الفضائل ولاء،وتعاطوا أكواب المحامد ملاء،وسحبوا من المجد مطارف وملاء،وحازوا المكارم،وذوا الموادد والمصارم،سؤدداً وعلاء،فهم الذين نوهوا بقدري الخامل،وظنوا مع نقصي أن بحر معرفتي وافر كامل حسبما اقتضاه طبعهم العالي”.

ومما زاده تعلقاً بالشام أنها ذكرته ببلاده التي ارتحل عنها مرغماً وهو يقول في ذلك:”وقد تذكرت بلادي النائية بذلك المرأى الشامي الذي يبهر رائيه،فما شئت من أنهار ذات انسجام،وأزهار متوجة للأدواح،مروحة للنفوس بعاطر الأرواح،وحدائق تغشى أنوارها الأحداق،وجنان أفنانها في الحسن ذوات أفنان…وعند رؤيتي لتلك الأقطار الجليلة الأوصاف العظيمة الأخطار تفاءلت بالعودة إلى أوطان لي بها أوطار،إذ التشابه بينهما قريب في الأنهار والأزهار ذات العرف المعطار،وكنت قبل حلولي بالبقاع الشامية مولعاً بالوطن لا سواه فصار القلب بعد ذلك مقسماً بهواه،ومحاسن الشام وأهله طويلة عريضة،وهو مقر الأولياء والأنبياء ولا يجهل فضله إلا الأغمار الأغبياء”.

أبو الدرداء رضي الله عنه ينصح أهل دمشق ويعظهم:

“يا أهل دمشق أنتم الإخوان في الدين،والجيران في الدار،والأنصار على الأعداء.

يا أهل دمشق،مالذي يمنعكم من مودّتي،والاستجابة لنصيحتي،وأنا لا أبتغي منكم شيئاً،فنصيحتي لكم،ومؤنتي على غيركم.

مالي أرى علماؤكم يذهبون،وجهالكم لا يتعلمون،وأراكم قد أقبلتم على ما تكفل لكم به الله عز وجل ،وتركتم ما أُمرتم به.

مالي أراكم تجمعون مالا تأكلون،وتبنون مالا تسكنون،وتؤملّون ما لا تبلغون.لقد جمعتِ الأقوامُ التي قبلكم وأملّت.فما هو إلا قليلٌ حتى أصبح جمعهم بورا،وأملهم غرورا،وبيوتهم قبورا.

هذه عاد ـ يا أهل دمشق ـ قد ملأتِ الأرض مالاً وولداً،فمن يشتري مني تركة عادٍ اليوم بدرهمين؟

فجعل الناس يبكون حتى سُمع نشيجهم من خارج المسجد”.

وقال ابن جبير الأندلسي في دمشق(حدائق الانعام في فضائل الشام لعبد الرحمن بن إبراهيم بن عبد الرزاق الدمشقي):

“جنة المشرق،ومطلع حسنه المُونق المشرق،وهي خاتمة بلاد الإسلام التي استقريناها،وعروس المدن التي اجتليناها. قد تحلّت بأزاهير الرياحين،وتجلّت في حُللٍ سُندسية،وحلّت من موضوع الحسن بالمكان المكين،وتزيّنت في منصتها أجمل تزيين،وتشرّفت بأن أوى الله تعالى المسيح وأمّه منها إلى ربوةٍ ذات قرارٍ ومَعين،ظلّ ظليل،وماء سلسبيل.تنساب مذانبه انسياب الأراقم بكل سبيل.ورياض يُحيى النفوس نسيمها العليل،تتبرّج لناظريها بمُجتلى صقيل،وتناديهم:هلموا إلى مُعَرّسٍ للحسن ومَقيل.قد سئمت أرضها كثرة الماء،حتى احتاجت إلى الظِّماء،فتكاد تناديك بها الصّم الصلاب:{اركض بِرجلكَ هذا مُغتسلٌ باردٌ وشرابٌ}[ص 42].قد أحدقت البساتين بها إجاق الهالة بالقمر،واكتنفتها اكتناف الكمامة للزهر،وامتدّت بشرقيها غوطتها الخضراء امتداد البصر،فكل موضع لحظته بجهاتها الأربع نضرته اليانعة قيد النظر.ولله صِدق القائلين عنها:إن كانت الجنة في الأرض فدمشق لا شكَّ فيها،وإن كانت في السماء فهي بحيث تُسامتُها وتُحاذيها”.

وجاء في موقع “دربنا .نت مقال بعنوان”دمعة دمشقية:للشيخ أحمد معاذ الخطيب الحسني نشره في عام 2007م:

“من علي الطنطاوي …وحتى نزار قباني…غريبان ماتا قبل أن يصلا ضفافك يا دمشق…

(دمشق) وهل توصف دمشق؟وهل تصور الجنّة لمن لم يرها؟من يصفها وهي دنيا من أحلام الحب وأمجاد البطولة وروائع الخلود؟من يكتب عنها(وهي من جنات الخلد الباقية) بقلم من أقلام الأرض فان؟

“وبعد فأيّ مزاياك يا دمشق أذكر،وفيك الدين،وأنت الدنيا،وعندك الجمال وعندك الجلال،وأنت ديار المجد وانت ديار الوجد،جمعت عظمة الماضي وروعة الحاضر”.

كلمات كتبها علّامة الشام علي الطنطاوي فما استطاعت أسوار الظالمين أسرها وتفلتت من أيديهم فسكنت قلب كل دمشقي فتبادلت معه ألحان الهوى.

نعم شامي متعصب أنا.. دمشقي حتى الجنون أنا…أبغض كل جرادة مرّت فيك يا دمشق فلم يأسرها ربيعك،بل بقيت جرادة شرهة تقضم سندسك الأخضر الفتان.

وأجِلُّ كل ضيف حلّ فيك فحنا عليك حنواً زاد فيه على حنو بنيكِ..

عاشق مفتون بك يا دمشق أنا…أكره كل بومة هاجرت إليك ،فلم تتعلم من رقيك شيئاً بل نشرت فيك الخراب والنعيق..وأحالت حضارتك السامقة خرائب،وبيوتك الفواحة ياسميناً وفلاً وقرنفلاً إلى حظائر للدجاج والصيصان…

وأحني رأسي احتراماً لمن جاءك غريباً فعلم من أنت فحرص عليك فنقش على صفحات مجدك أثراً صالحاً أعلى منارة الحضارة فيك.

متيم بحبّك يا أيها الجامع الأموي أنا..وقد سمعت علماءنا يروون عن الشيخ مصطفى الفرا..أنه كان عند كل سارية فيك عالمٌ وحلقة…قبل أن يصبح مكاناً لأمثال الغربان السود…من لطامات الخدود…بل خاناً وفندقاً وحديقة…بل مطعماً تفوح من سجاده رائحة(الزَفر)،ويعلو الغبار والأوساخ أغلب رحابه،ويكاد يضيع سحره في نتن(كلسات) الغرباء،ممن أتوا إليه لا لعبادة ولا اعتبار…بل دخلوه في رمضان قبل المغرب فأكلوا فيه الطعام قبل وقت الإفطار ثم انصرفوا منه بعد المغرب دون صلاة.. فهل يتخيل إنسان مسجداً يدخله الناس بلا صيام ولا صلاة!!

كم لا أطيق أن أرى منتسباً يا دمشق إليك،وقد تعافى من الغيرة عليك..

لك الله يا دمشق…كيف نُزع منك الياسمين واغتيل بردى ووئدت أزهار النارنج…بل اختطف فجرك…فصارت سناؤك كلها سحب دخان…تحمل السم وتزداد السرطانات وتنتشر بلا رقيب ولا حساب…

يا لله…سوق ساروجة الذي كان اسطنبول الصغرى فصار كأنه قرية بدائية مر فيها مغول الرشوة والخراب..

يا لحي القيمرية…وقد كان مثوى أهل العلم…فغزته المطاعم والحانات والأغراب…يشترون بيوته واحداً وراء آخر ولا أحد يدري من أين يأتون بالأموال التي تنفق بلا عدّ ولا انتهاء…

ويا لحي العمارة الباكي.. والمناخلية.. يراد لهما أن يُدكا لتمحى منائر آلاف السنين من العراقة والتاريخ والعبق الدمشقي الآخاذ،وترتفع أبنية الإسمنت اللقيطة على أشلاء التاريخ والحضارة وبيوت أهل الشام!

يا لفقراء الشام تصادر بيوتهم وأراضيهم وعقاراتهم…بأبخس الأثمان ثم تعطى للمترفين وتجار العمار،بل حَملة الخراب فيجنون من ورائها المليارات من عرق الناس ودموعهم وجهدهم وشقائهم.

يا لمياهك يا دمشق إذ كانت كل قطرة منها عنوان طهارة،ونعمة قدسية،فصار المبذرون يتبارون في استنزافها وهدرها وكان لهم مع كل تحضر ثأر ومع كل رقي ونعمة عداء…

يا لله من حلّ بالشام من اللئام فلم يعرفوها ولم يعرفوا أهلها رغم أن علي الطنطاوي وصفهم منذ أكثر من ستين سنة:”وأهل الشام كالماء لهم في الرضا رقته وسيلانه،وفي الغضب شدته وطغيانه،بل ربما كان لهم من البركان فورانه وثوراته”.

مر بدمشق عبر تاريخها كثيرون أداروا الراح بدماء أبنائها ونهبوها وكانوا حشرات زاحفة وعوالق طفيلية ما فيهم واحد له همّة أبناء الشام وجَلدهم وجهدهم،وقعدت بهم الدنيا واحتاروا ماذا يعملون فاتخذوا السرقة والنهب واللصوصية عملهم،وبه يشرفون وبه يعرفون.

مساكين من لم يفهموك يا دمشق…ولم يعلموا أن أبناءك نوعان:شجاع وخائف…فأما الشجاع فبصدره يتلقى سكاكين من حسدوا…وبقلمه يدفنهم في غياهب التاريخ…يصبر من أجلك ولا ينسى..ويعادي لأجلك ولا يحقد..وأما الخائف فمكره بالظالمين شديد…وسلوا من سبقوا يأتوكم بالخبر اليقين!

حبيبتي دمشق…

تنوع أبناؤك بين متدين وماجن وعالم وجاهل وغني وفقير ومستقيم وغافل…لكنهم اتفقوا عليك وفي حبك تاهوا…أرأيت كيف أضناهم الهوى فما استطاعت صدورهم أن تحبس معانيهم فباحوا بحبّهم ،فكتب شاعر الشام نزار قباني بوحَه بحراً متمرداً لمن ظلموا،وديعاً لمن عشقوا…بحراً ليست له شطآن…ولا حدود:

آه يا شام كيفَ أشرحُ مابي

وأنا فيكِ دائماً مسكونُ

سامحيني إن لم أكاشفكِ بالعشقِ

فأحلى مافي الهوى التضمينُ

نحنُ أسرى معاً…وفي قفص الحُبَِّ

يعاني السّجانُ والمسجونُ

يا إلهي جعلتَ عِشقي بحراً

أحرامٌ على البّحارِ السكونُ

رضي الله والرسول عن الشام

فنصرٌ آتٍ وفتحٌ مبينُ

حبيبتي دمشق..

أسمعت وصف علاّمة الشام علي الطنطاوي لك عندما لبثتِ في مطلع سنة 1936م خمسين يوماً مضربة في وجه الفرنسيين فقال عنك:”لا تجد فيها حانوتاً واحداً مفتوحاً،مقفرة أسواقها.. فتعطلّت تجارة التاجر،وصناعة الصانع،وعاش هذا الشعب على الخبز القفار،وطوى ليله من لم يجد الخبز،ثم لم يرتفع صوت واحد بشكوى،ولم يفكر رجل أو امرأة أو طفل بتذمر أو ضجر،بل كانوا جميعاً من العالم إلى الجاهل ومن الكبير إلى الصغير،راضين مبتهجين،يمشون ورؤوسهم مرفوعة وجباههم عالية،ولم نسمع أن (دكاناً) من هذه الدكاكين قد مُسّ أو تعدى عليه أحد،ولم يُسمع أن لصاً قد مدّ يده خلال هذه الأيام إلى مال،وقد كانت الأسواق كلها مطفأة الأنوار ليس عليها حارس ولا خفير،فهل قرأ أحد أو سمع أن بلداً في أوروبا أو أميركا أو المريخ يسير فيه اللصوص جياعاً ولا يمدون أيديهم إلى المال المعروض حرمة لأيام الجهاد الوطني؟ولقد بقي الأولاد في المعسكر العام في المسجد الأموي أياماً طوالاً يرقبون وينظرون،فإذا فتح تاجر محله ذهبوا فأغلقوه،ففتح(حلواني مشهور) فذهب بعض الأولاد فحملوا بضاعته،صدور(البقلاوة والنمورة والكنافة) إلى المسجد،وتشاوروا بينهم ماذا يفعلون بها؟فقال قائل منهم:نأكلها عقاباً له،فصاحوا به:اخرس ويلك،هل نحن لصوص؟ثم أرجعوها إليه بعد دقائق وما فيهم إلا جائع”.

ماذا أقول لمن جاءكِ يا دمشق لا يتقن في الحياة شيئاً،ورأى كل الكرم والبذل والجود والعطاء،فلم يتعلم من بنيكِ مهارتهم بل حسدَ هِمتهم حسد مكيود،وماذا أقول بمن مر فيك يا حبيبتي دمشق من بعض اللصوص على مدى القرون فستر بعضهم عواره ببناء مسجد أو تكية أو سبيل…وبمن مر بك من لصوص آخرين امتصوا كل ذرة خير فيك ثم لم يبنوا(ليس لك) بل لقومهم وأهلهم حتى ساحة دبكة ولا اصطبلاً مما سرقوه منك فقد كانوا بخلاء حتى على أهلهم وجيرتهم..

عشاقٌ هُمُ أهلوكِ ،وفي عشقهم رفرفات ولطف…صاحب الدين فيهم غيور للحق،رقيق الفؤاد،رحيم الطباع…واللاهي من بنيكِ عفيف القلب مهما اكتوى…في عشقه براءة وفيمن يحب طهر وعفاف…هكذا كان أهلوك قبل أن يأتيك صاحب عمامة صنعته قسراً عنك أيدي الساسة غليظ الطباع سمج الحديث مهما تكلم..ثقيل الظل أينما سار..أو أصحاب شهوات ملصوقة بطين الارض لا يفارقون عالم الحس الغليظ في صباح ولا مساء..الفجور صاحبهم بلا توبة ولا ارتقاء…

من شيخ الإسلام ابن تيمية إلى سلطان العارفين محيى الدين بن عربي،ومن الشيخ رسلان إلى الإمام ابن القيم..ومن علم الدعاة مصطفى السباعي،ومن علامة الشام علي الطنطاوي إلى شاعر الفل والياسمين نزار قباني…بين كل هؤلاء ألف مدرسة ومدرسة…أتعلمين ما الذي يجمع بينها كلها يا حبيبتي.. شىء واحد…هو حبّك الذي سكن مهجهم وعانق أرواحهم فلم يروا عنك في أرض الله بديلا…فبك ابتدأت الحضارة وإليك تعود وبك تنتهي…مهما حاول الجهلة أن يطفئوك أو يمحو أثر أبنائك الذين زرعوا الحضارة والرقي والمدنية في دروب الحياة…

وها هوذا نزار يخبرك عن عشق كل دمشقي وحبّه لك:

ولو فتحتم شراييني بِمدِيكم

سمعتم في دمي أصوات من راحوا

زراعة القلب،تشفي بعض من عشقوا

وما لقلبي إذا أحببتُ جرّاح

مآذنُ الشام تبكي إذ تعانقني

وللمآذن كالأشجار أرواح

كل من أحبك يا شام وكل من ذاق عشقك وصلاً فهو دمشقي أصيل وإن أتى من أقاصي الأرض…وكل من كان لئيماً مخرباً فهو لقيط فيك لا ينتسب إليك ولو تسلسلت وجمعت له الأنساب العظام.

منذ أيام خرجت من منطقة المكتبات في حي الحلبوني مذهولاً…بعدما يئست من أن أجد كتاب علامة الشام علي الطنطاوي الذي يبوح بحبك يا دمشق..وقد أخبرني الباعة أن كتب الشيخ قد سُحبت من السوق!!

غرغرت الدمعة في عيي وتخيلت الشيخ علي الطنطاوي عندما توفي أبوه وهو طفل صغير فمر بظروف من الفقر والضيق لا يعلمها إلا الله،وعاش في بيت مثل القبر لا يكاد يدخله نور ولا هواء وكان إذا استيقظ في الليل يرى قطرات الدمع تنسكب من عيني أمه الحنون،وقد هدّها المرض،وأحاط بها الفقر المدقع من كل جانب،وهي تدفع البق والحشرات عن الأطفال الايتام الذين مضى والدهم وتركهم بين أيديها…وتخيلت الشيخ علي مرة ثانية عندما زرته منذ سنوات كثيرة فبكى رقة لذكر ابنته(بنان وقد أطلق المجرمون النار عليها فأردوها قتيلة بخمس رصاصات،وما رحموا لها غربة ولا أمومة ولا إنسانية،فيا خجلة المؤرخين من أفعال الجبناء…

أفقت مما تخيلته ونظرت حولي فوجدت اللافتات التي تغزو الطرقات تدعو الناس إلى انتخاب أصحابها.. وقد مل الناس من معظم الأسماء التي صارت كالضيف الثقيل لا يصدق الإنسان رحيله…بعدما خبروا أكثر أصحابها فلم يرووا فيهم شيئاً من الوفاء..لا للشام ولا لدمشق…ولا لحقّ ضاع فيها…ففي عهدهم تآكلت المنابر في المساجد إلى الصحافة إلى الكتابة إلى السياسة…حتى كأنها من عهد عاد…

وفي زمنهم ضاعت غوطتها…بعدما عملت الوسائط والرشى في اقتلاع شجرة جوز وراء أخرى…حتى أصبحت مثل الصحراء التي عرّشت فيها جحافل الجراد.

حسنٌ.. فلتمنع كتب الشيخ علي الطنطاوي…وليحرم أهل الشام رمز من أعظم رموزهم..ولكن ليثق الكل أن الشيخ علي الطنطاوي وأمثاله أرسخ في قلوبنا من جبل قاسيون.

نزلت دمعتي أخيراً وأنا أغادر منطقة الحلبوني…وتذكرت دموع علي الطنطاوي وحبه للشام…ومرت بي أطياف نزار قباني عاشق الشام…وتتابعت أمامي ألف صورة وصورة،ثم اعتراها الغبش من دموعي الهاملة…ونظر إلي شخص يعبر الشارع مدهوشاً لرجل يبكي في الطريق…لم أخبره لم كنت أبكي فقد حبست أشجاني في صدري والآن أبوح لكم بها أيها الناس…كنت أبكي على المساكين الذين سحبوا الكتب من السوق…وهم لا يعرفون من هو علي الطنطاوي…”.

وفي مقال له بعنوان”أنا قمركم المشرد يا أهل الشام” يقول شمس الدين العجلاني:

“أطلق نزار قباني صرخته المدوية من عاصمة الضباب لندن وهو على فراش الموت:”أعيدوني لمن علمتني أبجدية الياسمين”.

وتنادى أهل الشام الصغير ينبىء الكبير،والرجل يُخبر المرأة،والصبي ينادي الصبية،إنه الدمشقي الذي ولد من رحم الياسمين وترعرع في حارات وزواريب دمشق،وتسلق مئذنة العروس،وكان طالباً مجداً في كتاتيب محيى الدين بن العربي،إنه نزار قباني يريد أن يعود لحبيبته وتحقيق حلمه الأبدي:”وددت لو زرعوني فيك مئذنة،أو علقوني على الأبواب قنديلا”.

ويعود نزار قباني إلى دمشق(وهكذا يعود الطائر إلى بيته والطفل إلى صدر أمه لأن دمشق هي الرحم الذي علمني الشعر وعلمني الإبداع وأهداني أبجدية الياسمين)

ويعود طائر النورس إلى صدر أمه بعد رحلة العذاب في أصقاع العالم.

أعود إلى دمشق

ممتطياً صهوة سحابة

ممتطياً أجمل حصانين في الدنيا

حصان العشق

وحصان الشعر

أعود بعد ستين عاماً

لأبحث عن حبل مشيمتي

وعن الحلاق الدمشقي الذي ختنني

يعود الشاعر إلى دمشق ملفوفاً بالعلم السوري بعد أن وافته المنية في منزله بلندن يوم الخميس 30 نيسان عام 1998م عن عمر يناهز 75 عاماً ورحل الشاعر عن عالمنا بدون عودة،وترجل عن صهوة جواده تاركاً لنا أسطورة وإلياذة خالدة في حب المرأة والوطن وحكايات طويلة عن دمشق وياسمينها .

أنا وردتكم الشامية يا أهل الشام

فمن وجدني منكم فليضعني في أول مزهرية

أنا شاعركم المجنون يا أهل الشام

فمن رآني منكم فليلتقط لي صورة تذكارية

أنا قمركم المشرد يا أهل الشام

فمن رآني منكم فليتبرع لي بفراش وبطانية صوف

لأنني لم أنم منذ قرون

ووصل جثمان الشاعر إلى دمشق مساء يوم الأحد الثالث من آيار من عام 1998 وكانت دمشق بكل ناسها في استقبال ابنها البار وجمع أهل دمشق كل أنواع الورود والياسمين ونثروها لإستقبال الراحل الكبير وقامت دمشق عن بكرة أبيها تبكي شاعرها،الرجال،والشيوخ،والنساء،والصبايا والأطفال،كلهم أتوا من كل حدب وصوب لوداع شاعر العرب،،لم تكن جنازة تلك التي عبرت شوارع دمشق بل قافلة أكف وأفئدة وعيون تحتضن جثمان الشاعر الكبير وتهتف(زينو المرجة والمرجة لنا).

لم تكن جنازة تلك التي عبرت الشوارع،بل قافلة عشق وإخلاص وتقدير من دمشق لشاعرها الذي نثر ياسمينها على مساحة الوجود وأدخل مفرداتها في قاموس العرب وجعل حمائم الأموي ترفرف فوق مآذن العالم”.

وفي مقال آخر لشمس الدين العجلاني بعنوان”ميراث دمشق وميراث نزار قباني”:

“بين دمشق ونزار حب خيالي،وأسطورة لها بدايتها وليس لها نهاية،بين نزار ودمشق سر وأسرار،بينهما علاقة الإبن البار مع الأم التقية النقية،بينهما لغة الياسمين،بينهما لغة الضاد،فدمشق عند نزار هي الشام،والشام هي سورية،وسورية هي بلاد العرب.

(لا أستطيع أن أكتب عن دمشق دون أن يعرش الياسمين على أصابعي ولا أستطيع أن أنطق باسمها دون أن يكتظ فمي بعصير المشمش والرمان والتوت والسفرجل،ولا أستطيع أن أتذكرها دون أن تحط على جدار ذاكرتي ألف حمامة…وتطير ألف حمامة).

هكذا كان حب دمشق يقبع في قلب الشاعر،لم يستطع برغم البعد والفراق والأسى أن ينسى عطف وحنان أمه دمشق.

(كل أطفال العالم يقطعون لهم حبل مشيمتهم عندما يولدون إلا أنا…فإن حبل مشيمتي لم يزل مشدوداً إلى رحم دمشق …إنها معجزة طبية أن يبقى طفل من الاطفال يبحث عن ثدي أمه سبعين عاما).

وهكذا التصق نزار بقلب دمشق،وكان سراً من أسرارها،وظلت دمشق مرسومة في خياله ووجدانه،وأنها أجمل المدن،وأعرق المدن،وأرقى المدن،وأكثرها روعة وحضارة.

(أنا مسكون بدمشق،حتى حين لا أسكنها،أولياؤها مدفونون في داخلي،حاراتها تتقاطع فوق جسدي،قططها تعشق…وتتزوج…وتترك أطفالها عندي)

(دمشق ليست صورة منقولة عن الجنة إنها الجنة وليست نسخة ثانية للقصيدة…إنها القصيدة،وليست سيفاً أموياً على جدار العروبة…إنها العروبة)

وحين بدأ الموت يتسلل لجسد الشاعر كانت كل العواصم العربية تتضرع لله أن يعافي قلب الشاعر،وكانت دمشق الأم تدري أن القدر شاء وأن الشاعر مودعنا إلى أعالي السماء .

وحين سمي أهم شوارع دمشق باسمه،وكان حينها يعيش سكرات الموت،ففتح عينيه على رسالة من شقيقه الدكتور صباح ينبئه فيها بهذا،,ارفق له مجموعة صور لهذا الشارع،فاستفاق الشاعر من سكرات الموت وكتب إلى صحيفة الحياة اللندنية بتاريخ 26 آذار عام 1998 :“دمشق تهديني شارعاً” قائلاً:

“وأخيراً شرفتني مدينة دمشق،بوضع اسمي على شارع من أكثر شوارعها جمالاً،ونضارةً وخضرة.

هذا الشارع الذي أهدته دمشق إليّ،هو هدية العمر،وهو أجمل بيت أمتلكه على تراب الجنة

السكنى في الجنة

والسكنى في دمشق

شىء واحد

الأولى تجري من تحتها الأنهار

والثانية تجري من تحتها القصائد والأشعار

الرسم الجميل يرسمه رسامون دمشقيون

والورد الدمشقي يزرعه مزارعون دمشقيون

والقومية العربية…تصنعها السيوف الدمشقية

دمشق هي الرحم الذي علمني الشعر وعلمني الإبداع وأهداني أبجدية الياسمين

وجاء في أحد أعداد مجلة المجمع العربي بدمشق:

“دمشق المدينة الفاضلة:

كانت دمشق وما زالت نقطة الاتصال بين الشرق والغرب وملتقى الأمم في القديم والحديث،وفي الجاهلية والإسلام،وفاضلة مدائن الشرق وأول منتزهات الدنيا الأربع:غوطة دمشق،ونهر الأبلة،وشِعب بوان،وصغد سمرقند كما قيل.وجنة الأرض بلا خلاف كما قال ياقوت.وجنة المشرق ومطلع نوره المشرق كما وصفها ابن جبير.

وكما خصّت يد الإبداع هذا البلد بمطرد الأنهار،وبواسق الاشجار،ونوافح الأزهار،وخصب الأديم،واعتلال النسيم.وبكل ما فضلت به المدائن والأمصار من خواص الإقليم  خصّت بنيها بفطر سليمة،وأذواق مستقيمة،وأخلاق فاضلة،وأيد عاملة،ووجوه صِباح،وأكف مطبوعة على السماحنفكانت وما برحت وطن الغريب،ومستروح نفس الأديب،على حد ما وصفها أبو الطيب المتنبي وبينه وبينها مهامه،منتقلاً من وصف شعب بوان إلى وصفها ووصف بنيها:

ولو كانتْ دِمشقَ ثَنى عِناني      لَبيقُ الثّردِ صِينيُّ الجِفانِ

يلنجوجي ما رُفعت لضيفٍ        بهِ النيران ندّيُّ الدخانِ

تحل به على قلبٍ شجاعٍ            وترحلُ منه عن قلبٍ جبانِ

منازل لم يزل منها خيالٌ           يشيعني إلى النوبندجان

وكما قال فيها حافظ الأندلس الشيخ أحمد المقري من بعض مقاطيعه فيها:

قل لمن رام النوى عن وطن       قولة ليس بها من حرج

فرج الهم بسكنى جِلّق               إن في جِلّق باب الفرج

استأثرت هذه المدينة بعظمة التاريخ في كل أدوار التاريخ في عصوره الاولى يوم كانت عاصمة الآراميين والسريانيين ومطمح أبصار الفاتحين من الأشوريين والبابليين والفراعنة والإسرائيليين واليونان والرومان وفي الجاهلية والإسلام.

وقال أبو عبد الله بن شداد في كتابه الأعلاق الخطيرة في ذكر دمشق:

“أما صفتها فإنها من أحسن بلاد الشام مكاناً،وأعدلها هواءً،وأطيبها نشراً،وأكثرها مياهاً،وأغزرها فواكه،وأوفرها مالاً،وأكثرها جنداً،ولها ناحية تعرف بالغوطة طولها مرحلتان في عرض مرحلة،وتشتمل هذه الغوطة على خمسة آلاف بستان وثلاثمائة وخمسة وأربعين بستاناً،وعلى خمسمائة وخمسين كرماً وهي من شرقي دمشق وشماليها بها ضياع كالمدن مثل المزة وداريا وحرستا ودمر وبلاس وبيت لاهيا وعقربا وبها كلها جوامع”

وجاء في وصية معاوية بن أبي سفيان لولده يزيد:”ثم انظر أهل الشام،فاجعلهم الشِّعار دون الدِّثار،فإن رابكَ من عدوِّك ريبٌ فارمهم بهم،فإن أظفركَ الله بهم،فاردد أهل الشام إلى بلادهم،ولا يُقيموا في غير بلادهم قيتأدبوا بغير أدبهم:.

وأخيراً أقول لمدينتي الغالية وجنة الله على الأرض:

اللهم احفظ دمشق،وأهل دمشق.وكل مدن الشام.

اللهم بارك لها في أرزاقها،واحفظها من عاديات الزمان ونوائب الدهر ،ومن ظلم الحكام.

اللهم واجعل الأمن والأمان،والتقوى والإيمان،رداءً لها على مرّ العصور والأزمان

اللهم من أراد بشامك خيراً فوفقه وأيده بجنود الرحمن.ومن أراد بها شراً فخذه أخذ عزيز مقتدر يا جبار يا قاهر الظُلّام.

اللهم اجعل ملائكتك تبسط أجنحتها على الشام،فليس لها حافظ إلّاك يا عزيز يا رحمن.

وصلى الله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إمامنا وقدوتنا وشفيعنا عند الدّيان.