سُنّةُ الابتلاء

سُنّةُ الابتلاء

الابتلاء هو أحد سنن الله عزّ وجلّ في عباده المؤمنين في الحياة الدنيا،وهو سنة الله في العقائد والدعوات، فطريق الدعوة إلى الله طريق شاق وطويل،محفوف بالمكاره، ملئ بالأشواك، حافل بالعقبات،مفروش بالدماء والأشلاء،محكوم عليه بالابتلاء والإيذاء.يقول الله تعالى: {ألم * أحَسِبَ النَّاسُ أن يُتركُوا أن يقُولوا آمنَّا وهم لايُفتنون* ولقد فتنَّا الذين من قَبلهم فَليَعلمَنَّ اللهُ الذين صَدقوا وليعلمَنَّ الكاذبين}[العنكبوت 1 ـ 3].

يقول الشهيد سيد قطب في ” الظلال”:

“إنّ الإيمان ليس كلمة تُقال،إنّما هو حقيقة ذات تكاليف،وأمانة ذات أعباء،وجهاد يحتاج إلى صبر، وجهد يحتاج إلى احتمال،فلا يكفي أن يقول الناس: آمنا،وهم لا يتركون لهذه الدعوة حتى يتعرّضوا للفتنة،فيثبتوا عليها، ويخرجوا منها صافية عناصرهم، خالصة قلوبهم،كما تفتن النار الذهب لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به،وهذا هو أصل الكلمة اللغوي، وله دلالته وظله وإيحاؤه،وكذلك تصنع الفتنة بالقلوب”.

هذه الفتنة على الإيمان أصل ثابت، وسُنّة جارية في ميزان الله سبحانه: {ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين}.

وأنواع الابتلاء متعدّدة، وطرق الإيذاء متنوعة، ولا بدّ من الصبر على تلك وهذه، فطريق الجنّة محفوفة بالمكاره وطريق النار قد حُفّت بالشهوات. يقول الله تعالى: {لَتُبلَوُنَّ في أموالِكُم وأنفُسِكُم ولَتَسمَعُنَّ من الذين أُوتُوا الكتابَ من قَبلِكُم ومن الذينَ أشرَكُوا أذىً كثيراً} [آل عمران 186]، ويقول تعالى: {وَلَنَبلُوَنَّكُم بشئٍ من الخوفِ والجُوعِ ونقصٍ من الأموالِ والأنفُسِ والثَّمراتِ وبَشِّرِ الصابرين} [البقرة 155].

إنّها سنة الله في العقائد والدعوات، لابدّ من البلاء والابتلاء،في المال والنفس والأحباب، ولكن لابد من الصبر والتحمّل والمقاومة، فهذا هو الطريق الحقيقي لتحمل الأعباء والتكاليف ومن أجل المعرفة الواقعية والحقيقية لمكنونات النفس، وقدرات الجسم، ومعرفة الواقع وحقيقة الحياة.

فالابتلاء هو سنة ربانيّة نابعة من طبيعة الدعوة من جهة، ومن طبيعة الجاهلية من جهة أخرى.

1ـ الابتلاء سنة ربانية:

لأن الداعية يحتاج إلى صياغة كافية وإعداد حقيقي وتدريب مستمر ليحمل ويتحمّل تكاليف الحقّ وأعباء الدعوة،وهي تكاليف مرهقة، وأعباء باهظة تحتاج إلى تدريب شاق، وإعداد مستمر، وتحتاج معها إلى الصبر والإيمان وصدق العزيمة،وذلك لما يتطلبه هذا الإعداد ولما يترتب عليه هذا التدريب من معاناة واضطراب وقلق،فالطريق إلى الله ليس بالطريق المُعبّد السهل اليسير، وليس هو بالرحلة أو النزهة القصيرة الجميلة،ولا عَرَضاً قريباً وسفراً قاصداً.

إن الدعوة إلى الله هي أشبه ما تكون بتشييد بناء متين مكين، يستظِلُّ فيه الناس بظلِّ الله في الأرض،يستروحون فيه العدل، وينشدون فيه الأمان والإطمئنان،تكتنفهم في جنباته الرحمة وتُظلّهم في أرجائه الأُلفة والأُخوّة، هو أشبه مايكون بالواحة الوارفة الظلال التي تقي من لهيب شمس الهاجرة، وتعطي السكينة والهدوء للنفس القلقة المضطربة.

إن الإيمان كما يقول الشهيد سيد قطب في ” الظلال”:

“إن الإيمان أمانة الله في الأرض لا يحملها إلا من هم لها أهل، وفيهم على حملها قدرة، وفي قلوبهم تجرد وإخلاص، وإلا الذين يؤثرونها على الراحة والدعة، وعلى الأمن والسلامة، وعلى المتاع والإغراء”، ويتابع رحمه الله” وما بالله ـ حاشا لله ـ أن يعذّب المؤمنين بالابتلاء، وأن يؤذيهم بالفتنة، ولكنه الإعداد الحقيقي لتحمّل الأمانة، فهي في حاجة إلى إعداد خاص لا يتمّ إلا بالمعاناة العملية للمشاق، وإلا بالإستعلاء الحقيقي على الشهوات، وإلا بالصبر الحقيقي على الآلام، وإلا بالثقة الحقيقية في نصر الله أو في ثوابه، على الرغم من طول الفتنة وشدّة الابتلاء” .

نعم، كما أن العجينة تحتاج إلى حرارة لإنضاجها، فإن العجينة البشرية تحتاج أيضاً إلى حرارة الابتلاء لتصلب وتنضج وتقسى وتصبح قادرة على الصمود وتحمل الصدمات، والنفس تصهرها الشدائد فتنفي عنها الخبث، وحتى تتمكن جذور العقيدة في نفس الداعية وتتغلغل في كيانه وأعماقه فلا تقتلعها العواصف ولا تذهب بها الرياح: {ما كانَ اللهُ لِيذَرَ المؤمنينَ على ما أنتم عليهِ حتى يَميزَ الخبيثَ من الطّيّب} [آل عمران 179].

والشدائد والأزمات تستجيش مكنونات النفس وطاقاتها وإمكاناتها وتطرقها بعنف وقوة ليشتدّ عودها ويصلب ساقها ويصقل قوامها.

إنّ النعيم لا يُنال إلا بعد الشقاء،ولذّة السرور تأتي عقب شديد الألم،وجمال الربيع يتلو زمهرير الشتاء، وهذا هو حال الدعوة فإنّها لا تُعطي وروداً ولا تجني منها ثماراً إلا بعد أن ينالك الوافر من التعب والمشقة وجروح الأشواك.

يقول الأستاذ أحمد أمين رحمه الله(فيض الخاطر ج1 ص118):

“حتى كان من غريب أمر الإنسان أنه لا يدرك اللذّة إلا بالألم،ولا الفائدة إلا بالمصيبة، كما لايدرك الحلو إلا بالمرّ،ولا المرّ إلا بالحلو، ولا يمكن أن نتصور سعادة إلا بشقاء،ولا شقاء إلا بسعادة، فكأنّ السعادة والشقاء وجها القطعة من النقود لا يمكن أن يُتصوّر وجود أحد الوجهين إلا بالأخر” ويتابع: ” على أن المصائب نفسها ليست تخلو من وجه جميل وناحية رائعة،فهي ليست قبحاً صرفاً ولا شقاءً خالصاً بل كثيراً ما تكون بلسماً كما تكون جروحاً، ودواءً كما تكون داءً.إنّ الرخاء يفسد الطبيعة البشرية فلا بد لها من شقاء يُصلحها،والحديد قد يفسد فلا بد له من نار تذيبه حتى تصلحه، وتذهب خبثه، فكذلك النفوس قد يطغيها النعيم ويُصدئها الترف، فلا بد لها من نار تُكوى بها لتنصهر ويذهب رجسها، ثم إذا أردت أن تعرف نفوس الناس حقاً فتعرّفها في أوقات المصائب لا في أوقات النعيم”.

وأشدّ الناس ابتلاءً هم الأنبياء والصالحون كما جاء في الحديث الشريف الصحيح: “أشدّ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون ثم الأمثل فلأمثل، يبُتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء“،لأن كل مصيبة تصيب الإنسان الصالح أو كل ابتلاءيقع به فيواجهه بالصبر والإيمان والإحتساب يغسل عنه ذنوبه وخطاياه، ويزيل عنه الرجس والآثام ليلاقي ربه في دار النعيم وقد فاز بجنات الله ورضوانه ورؤية وجهه الكريم.

كما أنه لابد من الابتلاء لتستطيع الجماعة أن تقوم بحمل هذه الدعوة والنهوض بتكاليفها ومعرفة عناصر الخير من عناصر السوء في أفرادها وقياداتها،ولمعرفة حقيقة النفس البشرية وخباياها،وحقيقة الجماعات والمجتمعات التي تعيش فيها، وهم يرون كيف تصطرع مبادئ الدعوة مع أهواء النفوس والشهوات، ومعرفة مداخل الشيطان إلى هذه النفوس ومزالق الطريق ومسارب الضلال.

يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله:

“لابد من تربية النفوس بالبلاء، ومن امتحان التصميم على معركة الحقّ بالمخاوف والشدائد،وبالجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات،لابد من هذا البلاء ليؤدي المؤمنون تكاليف العقيدة، كي تعزّ على نفوسهم بمقدار ما أدوا في سبيلها من تكاليف، والعقائد الرخيصة التي لا يؤدي أصحابها تكاليفها لا يعزّ عليهم التخلي عنها عند الصدمة الأولى، فالتكاليف هنا هي الثمن النفسي الذي تعزّ به العقيدة في نفوس أهلها قبل أن تعزّ في نفوس الأخرين. وكُلّما تألموا في سبيلها وكُلّما بذلوا من أجلها، كانت أعزَّ عليهم وكانوا أضّن بها، كذلك لا يدرك الآخرون قيمتها إلا حين يرون ابتلاء أهلها بها وصبرهم على بلائها، إنّهم عندئذ سيقولون في أنفسهم لو لم يكن ما عند هؤلاء من العقيدة خيراً مما يُبتلون به وأكبر ما قبلوا هذا البلاء ولا صبروا عليه، وعندئذ ينقلب المعارضون للعقيدة باحثين عنها، مقرين لها، مندفعين نحوها،وعندئذ يجئ نصر الله والفتح ويدخل الناس في دين الله أفواجا” .

2ـ الصدام مع الجاهلية وأعوانها:

ولابد من الابتلاء بسبب الصدام مع الجاهلية وأعوانها،لأنّ الحقّ واحد لايتعدّد في كلِّ زمان ومكان،ولأنّ الباطل مهما اختلفت أشكاله وتعددت صوره وتنوّعت مشاربه لا يمكن أن يقبل بوجود الحق، ولا أن يتحّمل وجوده في أي  زمان أو مكان، لانّ الدعوة الحقيقية التي تصدر عن نبع الإسلام، وتعبّر عن موقفه وتتبع منهجه وأحكامه، وتتحكّم في أمور الدنيا من أموال وأنفس وأنظمة، لاتروق لقوى الشّر التي لا تستريح لهذا المهج الخيّر العادل ولا ترتاح إليه، ومهما هادن الباطل الحقّ وسكت عنه، فإنه لابد أن يقع الصدام لأنه لايمكن أن يجتمعا معاً على صعيد واحد، ولابد أن يتنازل أحدهما للأخر، ولقد عبّر  عن هذا الموقف وبيّن ماهي قوى الشر التي تواجه دعوة الحق ولا ترضخ لحكمها ودعاتها الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه حيث يوضح في رسالته” بين الأمس واليوم”، وأنقل هذه الرسالة موجزة من كتاب” واقعنا المعاصر” للأستاذ محمد قطب رحمه الله(ص407ـ 408):

“أحب أن أصارحكم أن دعوتكم لا زالت مجهولة عند كثير من الناس، ويوم يعرفونها ويدركون مراميها،ستلقى منهم خصومة شديدة وعداوة قاسية، وستجدون أمامكم كثيراً من المشّقات، وسيعترضكم كثير من العقبات،وفي هذا الوقت وحده تكونون قد بدأتم تسلكون أصحاب الدعوات، أما الآن فلا زلتم مجهولين، ولازلتم تمهدون للدعوة،وتستعدّون لما تتطلبه من كفاح وجهاد”، ويتابع رحمه الله: “سيقف جهل الشعب بحقيقة الإسلام عقبة في طريقكم، وستجدون من أهل التدين ومن العلماء الرسميين من يستغرب فهمكم للإسلام وينكر عليكم جهادكم في سبيله، وسيحقد عليكم الرؤساء والزعماء، وذو الجاه والسلطان، وستقف في وجوهكم كل الحكومات على السواء،وستحاول كل حكومة أن تحدّ من نشاطكم وأن تضع العراقيل في طريقكم” ويتابع: “وسيتذرع الغاصبون بكل طريق لمناهضتكم وإطفاء نور دعوتكم، وسيستعينون بالحكومات الضعيفة والأخلاق الضعيفة والأيدي الممتدّة إليه بالسؤال،وإليكم بالإساءة والعدوان، وسيثير الجميع حول دعوتكم غبار الشهوات وظلم الاتهامات، وسيحاولون أن يلصقوا بها كل نقيصة، وأن يظهروها للناس في أبشع صورة، معتمدين على قوتهم وسلطانهم، معتدّين بأموالهم ونفوذهم: {يُريدُونَ أن يُطفِئوا نُورَ الله بأفواهِهِم ويأبى اللهُ إلاّ أن يُتِمَّ نُورَهُ ولو كَرِهَ الكافرون}[التوبة 32].

إنّ هذه الرسالة الموجزةبكامها، العظيمة بافكارها،تبين الطريق للدعاة، وتظهر لهم أن قوى الشّر مهما اختلفت فيما بينها فإنّها يد واحدة ترمي عن قوس واحدة أمام عدوهم الرئيسي وهم دعاة الحق.إن من أهم العقبات والصعوبات التي تواجه الدعاة هي:

1ـ جهل الشعب بحقيقة الإسلام:

إنّ اكبر المعارضين لدعوة الحق والمهاجمين له”العوام” وعامة الشعب الذين يتألبون عليه، لأنّهم تعودوا على نظام معين ألفوه وألف إليهم، ورضوا به ورضي بهم،ولايرضى لهم الكسل العقلي ولا”الروتين” اليومي أن يقبلوا بالجديد وإن كان مفيداً، فتراهم إذا ما استثيروا ضد دعاة الحق ثاروا، وإذا ما حُرضّوا تحرضّوا وحرّضوا،وكانوا رأس حربة في يد عبيد الهوى واصحاب المصالح والشهوات والمراكزالعليا

يقول الأستاذ أحمد أمين رحمه الله(فيض الخاطر ج3 ص142):

“والتاريخ يجري على نمط واحد منذ تكون الجمعية البشرية إلى اليوم، يلمع فيها أفراد قلائل في كل عصر، يخرجون على إلف الناس وما اعتادوه في أفكارهم وعقائدهم وعواطفهم،فيتألب عليهم الناس لكسلهم العقلي، ولأن الدعوة الجديدة تقلق راحتهم،وتدعوهم إلى قلب نظامهم العقلي والعاطفي كالذي يدعو كسلاناً أن يغير نظام بيئته أو نظام معيشته، وبدلاً من أن يوجه غضبه إلى نفسه لكسلها أو جمودها يحوِّل غضبه على من سبّب له هذا القلق، ثم لا يقتصر على محاربته بالأساليب الشريفة، بل يحاربه بكل سلاح، ولا يتورع عن أن يختلق عليه ويتهمه بما يستطيع من تهم، ويرى أن كل وسيلة تُفضي إلى قتل هذه الفكرة الجديدة جائزة ومشروعة، فإذا وصل إلى هذا الغرض بإعدام الفكرة أو إعدام قائلها اطمأن واستراح لأنها تتفق مع طبيعته في الكسل واستنامته إلى ما ألف”.

ويقول الأستاذ عصام العطار حفظه الله:

“ليس اسوأ من العبودية للحكام إلا العبودية للعوام، وكم من عالم تمرّد على الحكام وانقاد للعوام فيما يخالف الشرع والعقل، ويسخط الله عز وجل ويضر بسمعة الإسلام والمسلمين حرصاً على مكانة زائفة ووجاهة زائلة وهي في حقيقتها عبودية وصَغار”.

والأدهى من ذلك والأنكى أنه إذا كان  جزء ٌ لايستهان به من الشعب، وبدعم من السلطان وأصحاب الهوى يُحِقُّون الباطل ويُبطلون الحقّ، ويأتمرون بالمنكر ويتناهون عن المعروف،فإن دعاة الحق في هذا المجتمع غرباء عليه وسيواجهون أشد انواع العسف والظلم والاستبداد،ألم تر إلى جواب قوم لوط وهو ينهاهم عن الفساد والرذيلة، ويأمرهم باتباع الحق والفضيلة، ماذا أجابوه؟!: {ولوطاً إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون*أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون* فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أُناس يتطهرون} [النمل 54ـ56]. فهم على درجة كبيرة من انحراف الفطرة وشذوذ الغريزة بحيث لا يستشعرون أو يدركون ما في انحرافهم من قذارة وما يبعث عليه من اشمئزاز، والأنكى من هذا انهم يحاربون الطهارة والتطهر إذا كانت الطهارة تدعوهم وتأمرهم بالإقلاع عن ذلك الشذوذ والابتعاد عن هذا الإنحراف، وما نراه في هذه الأيام وللأسف وفي بعض المجتمعات ليس بعيداً عن هذا الواقع المزري وهذه الحقيقة المؤلمة!!

إن الباطل يحاول بشتى الوسائل ومختلف الاساليب استمالة الحق واحتواءه والسيطرة عليه،تارة بالترغيب، وتارة بالترهيب، فإن لم ينجح لجأ إلى كل الوسائل الدنيئة  والأساليب الباطلة من أجل التخلص منه والقضاء عليه، لأن الفضيلة والرذيلة لا يجتمعان، ولأن الضّعة والرفعة لا يلتقيان.

يقول الأستاذ أحمد أمين رحمه الله(فيض الخاطر ج1 ص198:

“الست ترى أن جمعية الشراب تكره كل الكراهية أن يكون بينهم وقت شرابهم من لا يشرب، ويستثقلونه مهما ظرف، ويستمسجونه مهما لطف، لأنه يذكرهم بالفضيلة حين ارتكابهم الرذيلة، ويشعرهم بأنهم الوضعاء وهو الرفيع، وأنه العين الناقدة، وانه الرقيب عليهم، وأنه العادّ لسقطاتهم، وأنه المحتفظ بقوته وإدراكه عند ضعف إرادتهم،كل هذا يشعرهم بالضّعة فيكرهونه ويبدؤون بالإلحاح عليه أن يشرب لا حباً فيه ولكن حباً لأنفسهم،وإبعاداً لشعورهم بضعتهم، ولا يزالون يستحلفونه حتى إذا نجحوا أمنوا الشعور بالضعة، وإذا فشلوا مقتوه، ومقتوا جلوسه بينهم، لأنه نغّص عليهم بهجتهم، ومن أجل هذا أحبوا أن يسمعوا ادب الخمر، وأحبوا أن يسمعوا من يفلسف لهم الحياة، وأنها ليست إلا متعة الساعة وشهوة الوقت، فإذا تجاوز المحدّث ذلك إلى انه لا يعبأ بحرام ولا حلال وأنه يقول كما قال ابو نواس:

فإن قالوا حرامٌ قل حرامٌ                      فإنّ لذاذة العيش الحرام

فذلك عندهم أظرف وافكه لأنه اجتث الشعور بالضعة من جذوره، هذا هو سبب العداء دائماً بين الفضيلة والرذيلة أو بين الفاضل والرذل، وهذا هو السبب في أن الرذل يكره الفاضل اكثر مما يكره الفاضل الرذل”.

ولا يقتصر الأمر على مجرد الأتهام وأذى اللسان ، بل السنان من خلال “العوام”والجهال، بل إن أقرب المقربين إلى الدعاة قد يكونون من أشدّ الحاقدين والمتآمرين عليه، والقرآن الكريم يوضح لنا أن زوجة لوط وزوجة نوح كانتا من أشدّ أعدائهما والساخرين من دعوتهما: {ضربَ اللهُ مثلاً للذين كَفروا امرأتَ نُوحٍ وامرأتَ لُوطٍ كانتا تحت عبدينِ من عِبادِنا صَالحينِ فخَانتَاهما فلم يُغنِيا عَنهُما من الله شيئاً وقِيلَ ادخُلا النَّارَ مع الداخلين}[التحريم10]،وأن والد إبراهيم آزر توعده بالطرد والعذاب، وأن عم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم أبا لهب كان من أشد أعدائه والناقمين عليه، وأن أبا بكر الصديق وابنه، وأبا عبيدة بن الجراح ووالده التقوا في ساحة القتال، فريق مع أصحاب الجنة وفريق مع أصحاب السعير،وتوضح لنا السيرة النبوية كيف أن والدة مصعب بن عمير سجنته ومنعت عنه الطعام، وأن والدة سعد بن أبي وقاص وكان باراً بها جداً كانت في صفوف أعدائه، روى الترمذي عند تفسير الآية الكريمة:{وَوَصّينا الإنسانَ بوالديهِ حُسناً وإن جَاهداكَ لِتُشرِكَ بي ماليسَ لكَ بهِ عِلمٌ فلا تُطِعهُما إليّ مَرجِعُكم فأُنَبِّئكُم بما كُنتُم تعملون} [العنكبوت 8]، قال: “إنها نزلت في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأمه حمنة بنت أبي سفيان وكان باراً بأمه، فقالت له:ماهذا الدين الذي أحدثت، والله لا آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه أو أموت، فتتعير بذلك أبد الدهر، يُقال: يا قاتل أمه! ثم إنها مكثت يوماً وليلة لم تأكل ولم تشرب، فجاء سعد إليها وقال: يا أماه، لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني، فكلي إن شئت، وإن شئت فلا تأكلي، فلما أيست منه أكلت وشربت، فأنزل الله هذه الآية آمراً بالبر بالوالدين والإحسان إليهما وعدم طاعتهما بالشرك”.

يقول الأستاذ الشيخ محمد الغزالي رحمه الله محذراً من إعطاء العوام السلطة والتحكم في أمور الحق والعدل وإن كانوا هم الأكثرية(جدد حياتك ص224):

“وكل مانوصي به ألا تُعطى العامة فوق مالها من حقوق عقلية أو خلقية، فإن مستويات الجماهير لاتتحكم في تقرير الحق أو تحديد الفضيلة، بل تؤخذ الحقائق والفضائل من ينابيعها الأصلية دون مبالاة بالجاهلين لها أو الخارجين عنها ولو كانوا ألوفاً مؤلفة، وعلى الرجال الكبار أن يبنوا سلوكهم فوق هذه الأسس فلا يتبرموا بالنقد المثار أو يقلقوا لكثرة الهجّامين والشّتامين، جاء في الحديث الشريف:”لايكن أحدكم إمعّة، يقول أنا مع الناس إن أحسن الناس أحسنت وإن أسأوا اسأت، ولكن وطّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تُحسنوا وإن اسأوا أن تجتنبوا إساءتهم” [أخرجه الترمذي]، ويقول تعالى: {وإن تُطِع أكثرَ من في الأرضِ يُضِلّوكَ عن سبيلِ الله إن يَتّبعونَ إلا الظَّنَّ وإن هُم إلا يَخرُصُون}[ الأنعام 116].

والأشدّ من هذا أن الداعية قد يواجه فتنة الأهل والأحباب الذين يخشى عليهم أن يصيبهم الأذى بسببه وهو لا يملك له دفعاً، وقد يهتفون به ليسالم أو يستسلم، وينادونه باسم الأسرة والقرابة، وباسم الأبوة والأمومة والأخوة، واتقاء الله في الأرحام أن لايعرضهم للأذى أو الهلاك… وليس الواقع المعاصر عنا ببعيد أو غريب! وعندها يقف الداعية وحيداً غريباً، يرى كل ما حوله وكل من حوله غارقاً في تيار الضلالة، ممعناً في العماية، وهو وحده غريب طريد، إنها والله فتنة ما أشدّها من فتنة، وابتلاء ما أصعبه من ابتلاء.

3ـ علماء السوء:

أو مايسمى علماء السلاطين، وهم من أشدّ أعداء دعاة الحق وطُلاب العدل، وأنصار النور.هم أناسٌ شايعوا أهواء النفوس، وصانعوا أهل النفوذ،وجَروا في تمكين أمورهم وتحقيق مطامعهم على الضراعة والملق والتزيف والرياء. هم أناسٌ استأنسوا بوحشة الباطل واستوحشوا أُنس الحق، هوىً وضلالاً وغروراً، رغبةً في مصلحة زائفة أومنفعة زائلة.

قوم تجدهم في كل عصر ومِصر وقصر.باعوا دينهم بدنيا غيرهم. فلبئس الشاري والمشتري، واشتروا متاع الدنيا الفاني بنعيم الآخرة الباقي، فلبئس القاني والمقتني.اتخذوا العلم مطية لتحقيق شهواتهم ومآربهم الشخصية، وكان الحقُّ منيعاً بالدين فابتذلوه بالدنيا،وعزيزاً بالعلم فأذلوه بالمال، ومستقلاً في حِمى الله فأخضعوه لهوى الحكام،وكان الدين جلالةً تغشى العيون وقداسةً تملأ الصدور فجرّوا عليه سخرية العوام وتسلط الحكام،

أصدروا الفتاوى عن هوى، أو حسد، أو غفلة، أو ضلال،بحقّ الفئة المؤمنة الداعية الواعية، واستغلوا الإسلام، والإسلام منهم براء.

لم يستخدموا علمهم ومعرفتهم في نصر دينهم، بل في تحقيق رغباتهم وتحصيل شهواتهم، ولم ينصروا دعاة الحق، بل تألبّوا عليهم لينصروا أصحاب السلطان الباطل، والملك الزائل،أحقّوا الباطل، وأبطلوا الحقّ طمعاً في رضا سلطان فان،أو منصب زائل، أو غرض زائف.

هم قدماء معاصرون، تجدهم في كل زمان ومكان،ولعلّ ابرز دعاتهم وأفضل قدواتهم بعض أحبار اليهود والنصارىالذين عرفوا الحق وتنّكبوا له،أو جهلوه، فضّلوا وأضّلوا، واشتروا برسالاتهم ثمناً بخساً، فحقّ عليهم العذاب في الدنيا والأخرة، يقول الإمام العظيم ابن القيّم رحمه الله: “انقسم الناس بحسب معرفة الحق والعمل به ثلاثة أقسام، لأن العبد إما أن يكون عالماً بالحق أو جاهلاً به. والعالم بالحق إما أن يكون عاملاً بموجبه أو مخالفاً له.فهذه اقسام المكلفين لا يخرجون عنها البتة.فالعالم بالحق العامل به هو المُنعَم عليه وهو الذي زكّى نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح وهو المفلح:”قد أفلح من زكّاها”، والعالم به المتبع هواه هو المغضوب عليه، والجاهل بالحق هو الضال. والمغضوب عليه ضال عن هداية العمل، والضال مغضوب عليه لضلاله عن العلم الموجب للعمل، فكل منهما ضال مغضوب عليه، ولكن تارك العمل بالحق بعد معرفته أولى بوصف الغضب واحقّ به، ومن ههنا كان اليهود أحق به: {بِئسَما اشتَروا بهِ أنفُسَهُم أن يكفُروا بما أنزلَ اللهُ بَغياً أن يُنَزِّلَ اللهُ من فضلهِ على من يشاءُ من عبادهِ فباؤوا بغضبٍ على غضب وللكافرينَ عذابٌ مهين} [البقرة 90]، والجاهل بالحق أحقّ باسم الضلال، ومن هنا وصفت النصارى به: {قُلْ يا أهلَ الكتابِ لاتَغلُوا في دينكُم غيرَ الحَقِّ ولا تَتبّعُوا أهواءَ قومٍ قد ضَلّوا من قَبلُ وأضَلُّوا كثيراً وضَلُّوا عن سواءِ السبيل}  [المائدة 77].

ويقول الدكتور حسن هويدي رحمه الله(الوجود الحق 117):

“من المعلوم البديهي أن المرء لايسلم بأمر، مالم يطّلع عليه ويثبت لديه، إذن فعلمه شرط للقناعة والتسليم، فالسبب الأول من أسباب الضلال هو الجهل، ولقد ضلّ كثير من الناس جهلاً، لم يصل إلى مسامعهم بلاغ، ولم يلجؤوا بأنفسهم إلى علمه وبرهانه. وشر أنواع الجهل إذا اقترن بالاعتزاز بالنفس أوظن العلم،فجال صاحبه وصال في ميادين العلم والفلسفة والفن والتربية فكان خطراً على نفسه وغيره:{ومِنَ النّاسِ من يُجادِلُ في الله بغيرِ علمٍ ولا هُدىً ولا كتابٍ مُنير* ثَانيَ عِطفِهِ لِيُضِلَّ عن سبيلِ الله لهُ في الدُّنيا خِزيٌ ونُذِيقُهُ يومَ القيامةِ عذابَ الحريق}[الحج8ـ 9].

والبون شاسع،والفرق واسع بين علماء الآخرة وعلماء الدنيا:

فعلماء الآخرة كانوا يتجنبون صحبة السلطان، ويمتنعون عن أخذ أُعطياته، ولا يستجيبون لرغباته وغير حريصين على كسب مرضاته.أرسل أبو جعفر السفاح إلى المحدث والفقيه العظيم سفيان الثوري رحمه الله، فلما دخل عليه قال: سلني حاجتك يا أبا عبد الله؟ قال: وتقضيها يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم. قال: فإن حاجتي إليك ألا ترسل لي حتى آتيك،ولا تعطني شيئاً حتى أسألك، ثم خرج. فقال أبو جعفر: القينا الحبّ إلى العلماء فلقطوا إلا ما كان من سفيان الثوري، فإنّه أعيانا فراراً… وفي هذا يقول الإمام سفيان الثوري:ما أخاف من إهانتهم لي، وإنما أخاف من إكرامهم فيميل قلبي إليهم.وبعث أبو جعفر السفاح إلى الإمام جعفر الصادق رسالة يقول فيها: لماذا لا تزورنا كما تزور الناس؟ فردّ عليه جعفر بقوله: ليس لنا في الدنيا ما نخافك عليه، ولا عندك من الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنئك بها، ولا في نقمة فنعزيك بها. فبعث إليه: تصحبنا لتنصحنا، فرد عليه جعفر الصادق: من يطلب الدنيا لا ينصحك، ومن يطلب الآخرة لا يصحبك!!

وسأل سليمان بن عبد الملك التابعي الجليل أبا حازم فقال له:هل لك أن تصحبنا فتصيب منا ونصيب منك؟ قال: كلا، قال: ولم؟! قال: إني أخاف أن أركن إليكم قليلاً، فيذيقني الله ضعف الحياة وضعف الممات، ثم لا يكون لي منه نصير. قال: يا أبا حازم، ارفع  إليّ حاجتك. قال: نعم! تُدخلني الجنة وتُخرجني من النار. قال: ليس ذلك إليّ. قال: فما حاجة لي سواها. قال: يا أباحازم أوصني. قال: نعم، سوف أُوصيك وأوجز: نزّه الله تعالى وعظّمه أن يراك حيث نهاك أو يفقدك حيث أمرك.قال سليمان: يا أبا حازم هذه مئة دينار، أنفقها ولك عندي أمثالها كثير. فرمى بها وقال: والله ما أرضاها لك فكيف أرضاها لنفسي؟ إني أعيذك بالله أن يكون سؤلك وإياي هزلاً وردي عليك بذلاً!إن كانت هذه المئة دينار عوضاً عما حدثتك فالميتة والدم ولحم الخنزير في حال الاضطرار أحلّ منها، وإن كانت من مال المسلمين فلا حاجة لي فيها. إن بني إسرائيل لم يزالوا على الهدى والتقى حتى كان أمراؤهم يأتون إلى علمائهم رغبة في علمهم، فلما نُكسوا وسقطوا عند الله تعالى وآمنوا بالجبت والطاغوت، كان علماؤهم يأتون أمرائهم ويشاركونهم في دنياهم..

ويقول حجة الإسلام أبو حامد الغزالي رحمه الله: “إن الظلمة في العصر الأول لقرب عهدهم بزمن الخلفاء الراشدين. وكانوا مستشعرين ظلمهم، ومتشوقين إلى استمالة قلوب الصحابة والتابعين، وحريصين على قبولهم عطاياهم وجوائزهم، وكانوا يبعثون إليهم من غير سؤال أو إذلال، بل كانوا يتقلدون المنّة بقبولهم ويفرحون به، وكانوا يأخذون منهم ويُفرقون،ولا يطيعون السلاطين في أغراضهم ولا يغشون مجالسهم،ولا يكثرون جمعهم، ولا يحبون بقاءهم، بل يدعون عليهم، ويطلقون اللسان، وينكرون المنكرات”.

أما علماء الدنيا فإنهم يسعون إلى صاحب السلطان وإن لم يسعَ إليهم،تراهم أفواجاً على بابه ينتظرون، ولمرضاته يسعون، ولرغباته يحققون، يستذلهم فلا يأنفون، ويمتهنهم فلا يكترثون أو يبالون.

مر الحسن البصري رحمه الله بباب الأمير ابن هبيرة، فإذا هو بالقُرّاء على الباب، فقال: ما يجلسكم ههنا؟ تريدون الدخول على هؤلاء الخبثاء، أما والله ما مجالسهم بمجالس الأبرار. تفرّقوا فرّق الله بين أرواحكم وأجسادكم! قد شمرتم ثيابكم، وجززتم شعوركم، فضحتم القراء فضحكم الله، أما والله لو زهدتم فيما عندهم لرغبوا فيما عندكم، لكنكم رغبتم فيما عندهم فزهدوا فيما عندكم..

ويقول الإمام الجليل سعيد بن المسيب رحمه الله: ” إذا رأيتم العالم يغشى الأمراء فاحذروا منه فإنه لص”، ويقول الإمام جعفر الصادق رحمه الله: “الفقهاء أمناء الرسل، فإذا رأيتم الفقهاء ركنوا إلى السلاطين فاتهموهم”.

وعلماء الآخرة تراهم زاهدين في الدنيا ومافيها، تسعى إليهم ولايسعون إليها، تُجبى إليهم اموالها فيوزعونها، ولا يهتمون بزخارفها وزينتها، رضوا بالقليل احتساباً وطمعاً بالعظيم الجزيل عند رب العالمين،يعيشون على النذر النذير، ويقدمون الخير الكثير، ولذا أحبهم الناس ووقرّهم السلاطين.

دخل محمد بن سليمان أمير البصرة على حماد بن سلمة وقعد بين يديه يسأله، فقال له: يا أبا سلمة مالي كلما نظرت إليك ارتعدت فرقاً؟! قال حماد: حدثني ثابت البناني قال: سمعت أنساً يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إنّ العالم إذا أراد بعلمه وجه الله هابه كل شئ، وإذا أراد أن يكنز الكنوز هابَ كل شئ”. ويقول الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله: “إن العلماء ورثة الأنبياء، فإذا كانوا على طمع فبمن يقتدى؟ ويقول أيضاً: من شرط العالم أن لاتخطر محبة الدنيا على باله،ويقول أيضاَ:كيف يدّعي رجل أنه أكثر علماً وهو أقلّ خوفاً وزهداً.وينسب إلى عمر الفاروق رضي الله عنه أنه قال: “يا أهل العلم والقرآن لا تأخذوا للعلم ثمناً فتسبقكم الدناءة إلى الجنة”.

أما علماء الدنيا فتراهم يسعون جاهدين لاهثين في جمع الأموال وامتلاك الضيع والعقارات، وأصبحوا أرباباً للمؤسسات والشركات، يتعاملون بالحلال والحرام، ويأكلون أموال الأيتام، استولوا على أموال الأوقاف ووزعوه بينهم وبين أنصارهم وأقاربهم والحكام، لم يردعهم علم ولا معرفة، ولم يوقف جشعهم خوف من الله أو خشية،اتخذوا الدين مطيّة لأغراض الدنيا وشهوات النفس وخدمةلشياطين الأنس.جاء في العقد الفريد(ج2 ص80): “قال عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم: “سيكون في آخر الزمان علماء يزهدون في الدنيا ولايزهدون ويرغبون في الآخرة، ينهون عن إتيان الولاة ولاينتهون،يقربون الأغنياء ويبعدون الفقراء، ويتبسطون للكبراء، وينقبضون عن الفقراء، أولئك إخوان الشياطين وأعداء الرحمن”.

ويقول الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله : “شرار الناس صنفان: عالم يبيع دينه لحاكم، وحاكم يبيع آخرته بدنياه”. يقول المعري:

صُمْ ثم صلِّ وطُفْ بمكة زائراً            سبعين لا سبعاً فلست بناسكِ

جهل الديانة من إذا عرضت له          أطماعه، لم يُلفَ بالمتماسكِ

وقال أخر:

ما أقبح التزهيد من واعظٍ                    يُزهّد الناس ولا يزهدُ

لو كان في تزهيده صادقاً                       امسى وأضحى بيته المسجدُ

ويرفض الدنيا ولم يقنها                         ولم يكن يسعى ويسترفدُ

وعلماء الآخرةتراهم قد عَزّوا بعلمهم،ووُقّروا لتقواهم، يسعى إليهم الصغير والكبير، ويحترمهم القريب والبعيد، هم مصابيح الدنيا، ومشاعل الحرية، وأنوار الدين، لايخافون في الله لومة لائم،ولايطيعون مخلوقاً ـ مهما علا شأنه ـ في معصية الخالق، أقوالهم قوانين يُعمل بها،وأعمالهم سُنن يُقتدى بها،هم كما قال أحد الصالحين: “إن العلماء الذين يخشون الله هم الذين إذا علموا حراماً اجتنبوه،وإذا علموا واجباً بادروا إليه،وإذا علموا مكروهاً تنّزهوا عنه، أولئك هم الناجون عند الله، وهم الذين يحتاج إليهم المجتمع، ويندى بهم وجه الحياة على الأرض، وبهم تخف مصائبها، وتضئ دياجيرها، وتذل صعابها،وتحلّ مشكلاتها،يستقيم معوجها،وينتصف مظلومها،فما أشبههم بواحة خضراء في صحراء قاحلة أو ينبوع عذب في أرض جرداء يأوي إليهم كل مضنى ساغب، وكل ضال حائر”,

أما علماء الدنيا فقد ذلوا وهانوا،صغروا عند الصغير والكبير،وحُقّروا من قبل الجليل والحقير،أعمالهم نافت أقوالهم،وجشعهم أوداهم حتفهم،فُضحوا في الدنيا،فكيف حالهم في الآخرة؟!

يقول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: |لو أن أهل العلم صانوه لسادوا به أهل زمانهم،ولكنهم بذلوه لأهل الدنيا لينالوا دنياهم فهانوا على أهلها”،ويقول الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: “أحمق الناس رجل باع آخرته بدنيا غيره”، ويقول التابعي الجليل سعيد بن المسيب رحمه الله: “إن العلماء لا يذلون إلا إذا احتاجوا إلى أموال الملوك”، ويقول الخليفة عمر الفاروق رضي الله عنه: “إنّ أخوف ما أخاف على هذه الأمة المنافق العليم! قالوا: وكيف يكون منافقاً عليماً؟ قال: عليم اللسان، جاهل القلب والعمل”، وقال أخر” آفة هذه الأمة فساد أمرائها وجبن علمائها”.

ويقول الأستاذ عصام العطار حفظه الله: “من استغنى بالله عن الملوك والرؤساء كان في نفسه أكبر من الملوك والرؤساء، ومن استغنى بالملوك والرؤساء عن الله كان في دنياه وأخرته أحقر الناس وأذل الناس واضيع الناس”.

وعلماء الآخرة كانوا للسلطان ناصحين، يقولون الحق ولو كان على حساب أرواحهم، ويحمون الرعية من ظلم الحاكم، أو بطش الوالي، أو خيانة القاضي،أو غدر أصحاب الجاه والسلطان، وكانوا يحمون العقيدة والشريعة من تحريف المبطلين، وتشويه المنحرفين،وعدوان الظالمين،تجردوا عن حظوظ النفس وشهواتها،واستهانوا بالأخطار في سبيل الله عز وجل،كانوا أولياء الناس في أرواحهم وأعراضهم وأملاكهم،وكانوا خلفاء الله على الأرض يسعون إلى الإصلاح ما أمكن،ويدرؤون الفساد ما أمكن.

انظر إلى سيد التابعين الإمام الحسن البصري رحمه الله عندما تسلم الخليفة الراشد عمر بن عبد العزير مفاتيح الخلافة وتقلد مقاليد الحكم واستنصح الإمام الحسن البصري فنصحه بكلمات من نور يجب أن تكون أمام عين كل حاكم أو ملك أو خليفة إذا أراد أن يحكم بما أنزل الله ويُرضي الله ورعيته في حكمه، يقول الإمام الحسن البصري: “اعلم  يا أمير المؤمنين أن الله جعل الإمام العادل قوام كل سائل، وقصد كل حائر، وصلاح كل فاسد، وقوة كل ضعيف، ونصفة كل مظلوم، ومفزع كل ملهوف.والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالراعي الشفيق على إبله الرفيق الذي يرتاد لها أطيب المراعي،ويذودها عن مراتع المهلكة، ويحميها من السباع، ويكنفها من أذى الحرّ والقرّ.والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالقلب بين الجوانح، تصلح الجوانح بصلاحه وتفسد بفساده.هو القائم بين الله وبين عباده، يسمع كلام الله ويُسمعهم، وينظر إلى الله ويُريهم، وينقاد إلى الله ويقودهم، فلا تكن يا أمير المؤمنين فيما ملكّكَ الله كعبد  ائتمنه سيده واستحفظه ماله وعياله فبدّد المال وشّرد العيال فأفقر أهله وفرّق ماله.واعلم ياأمير المؤمنين أن الله أنزل الحدود ليزجر بها عن الخبائث والفواحش، فكيف إذا أتاها من يليها، وأن الله أنزل القصاص حياة لعباده، فكيف إذا قتلهم من يقتص لهم! واذكر يا أمير المؤمنين الموت ومابعده، وقلة أشياعك عنده وأنصارك عليه،فتزّود له ولما بعده من الفزع الأكبر،واعلم أن لك منزلاً غير منزلك الذي أنت فيه، يطول فيه ثواؤك، ويفارقك أحبابك، يسلمونك في قعره فريداً وحيداً،فتزوّد له ما يصحبك يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه،فالآن يا أمير المؤمنين وأنت في مهل قبل حلول الأجل وانقطاع الأمل.لاتحكم يا امير المؤمنين في عباد الله بحكم الجاهل ولا تسلط المستكبرين على المستضعفين، فإنهم لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمّة، فتبور بأوزارك وأوزار من معك، وتحمل اثقالك وأثقالاً مع أثقالك” .

وكتب الإمام الأوزاعي إلى أبي جعفر المنصور(السفاح) الخليفة العباسي: “اما بعد،فعليك يا أمير المؤمنين بتقوى الله عز وجل، وتواضع يرفعك الله تعالى يوم يضع المتكبرين في الأرض بغير الحق، واعلم ان قرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لن تزيد حق الله إلا وجوباً”.

وجاء في العقد الفريد لإبن عبد ربه: عن مالك بن أنس قال: بعث أبو جعفر المصور إليَّ وإلى ابن طاووس فأتيناه فدخلنا عليه، فإذا هو جالس على فُرش قد نُضدت، وبين يديه أنطاع قد بُسطت، وجلاوزة بأيديهم السيوف يضربون الأعناق.فأومأ إلينا أن اجلسا فجلسنا، فأطرق عنا طويلاً، ثم رفع رأسه والتفت إلى ابن طاووس فقال له: حدّثني عن أبيك؟ قال: نعم، سمعت أبي يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”إنّ أشدَ الناس عذاباً يوم القيامة رجل أشركه الله في حكمه، فأدخل عليه الجور في عدله” فأمسك المنصور ساعة، قال مالك: فضممت ثيابي من ثيابه(أي ثياب ابن طاووس) مخافة ان يملأني من دمه.ثم التفت إليه أبو جعفر فقال: عظني ياابن طاووس، قال: نعم يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى يقول:{ألم ترَ كيفَ فعلَ رَبُّكَ بعادٍ* إرمَ ذاتِ العماد* التي لم يُخلق مِثلُهَا في البلاد*وثَمودَ الذين جابوا الصَّخرَ بالواد*وفرعونَ ذي الأوتاد* الذين طَغَوا في البلاد* فأكثرُوا فيها الفساد*فَصَبَّ عليهم رَبُّكَ سَوطَ عذابٍ*إنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد}قال مالك: فضممت ثيابي من ثيابه مخافة أن يملأني من دمه. فأمسك المنصور ساعة حتى اسوّدَ مابيننا وبينه، ثم قال: ياابن طاووس ناولني هذه الدواة، فأمسك ابن طاووس عنه، ثم قال المنصور: ناولني هذه الدواة.. فأمسك عنه، فقال أبو جعفر: مايمنعك أن تناولنيها؟ قال: أخشى أن تكتب بها معصية فأكون شريكك فيها. فلما سمع ذلك قال: قوما عني. قال ابن طاووس: ذلك ما كنا نبغي. قال مالك: فمازلت أعرف لإبن طاووس فضله.

وسلطان العلماء العزبن عبد السلام عندما سأله احد تلامذته بعد مواجهة السلطان ايوب: أما خفت السلطان؟! فأجابه: استحضرت في قلبي خشية الله فصار السلطان في عيني كالقط.وعندما توفي رحمه الله التفت السلطان إلى بعض خواصه وقال: اليوم فقط طاب ملكي!!

وانظر إلى ماقاله الإمام الحسن البصري رحمه الله لوالي البصرة عمر بن هبيرة، الذي استفتاه في أمر يطيع به السلطان ويعصي به الرحمن، فقال له: “ياابن هبيرة اتق الله،فإنه يوشك أن يأتيك رسول من رب العالمين يزيلك عن سريرك ويخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك، فتدع سلطانك ودينك خلف ظهرك وتقدم إلى ربك وتنزل على عملك.ياابن هبيرة: إن الله ليمنعك من يزيد، وإن يزيد لايمنعك من الله،وإن أمر الله فوق كل أمر وأنه لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق،وإني أحذرك بأسه الذي لا يُرد عن القوم المجرمين.ياابن هبيرة:الحساب من ورائك سوط بسوط وغضب بغضب والله بالمرصاد. ياابن هبيرة:إنك إن تلق من ينصح لك في دينك ويحملك على آخرتك خير من أن تلقى رجلاً يغريك ويمنيك”.

وجاء في كتاب قلائد الجواهر: لما ولّى المقتفي لأمر الله القضاء يحيى بن سعيد المظفر المشهور بابن المزاحم الظالم قال له الشيخ عبد القادر الجيلاني في خطبة الجمعة: “وليّتَ على المسلمين أظلم الظالمين، ماجوابك غداً عند ربِّ العالمين، أرحم الراحمين؟! فارتعد الخليفة وبكى وعزل القاضي المذكور.

وهل ننسى موقف إمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه عندما سئل عن طلاق المُكره وهو يعلم ما يقصد السائل،فإنه يعني يكره الولي الأمة فلا تجد مخرجاً إلا اليمين هرباً من العذاب الأليم،فقال قولته المشهورة: طلاق المكره لايقع..وعُذِّبَ بالسياط وضُرب حتى خلعت كتفه، وطيف به في الأسواق وهو يقول مع هذا: طلاق المكره لايقع.ومثله موقف الإمام احمد بن حنبل رضي الله عنه مع الخليفة المامون في موضوع خلق القرأن وكيف عُذّب وسجن وبقي على موقفه جزاه الله عن الإسلام والمسلمين كل خير.

وهل ننسى موقف التابعي الجليل سعيد بن جبير مع الحجاج الطاغية الظالم الذي قتله فسقط شهيداً بل سيداً من سادة الشهداء.

اما علماء الدنيا وما أكثرهم في هذا العصر، وما أبشع طرائقهم،وأفدح جرائمهم ،تجدهم في كل مكان يتملقون السلطان ويتزلفون الحكام،يُحسّنون القبيح ويُقبّحون الحسن،ويجعلون المنكر معروفاً، والمعروف منكراً،ويصدرون الأحكام التي تنافي الشرع، وتسخط الله وتلحق العذاب والهوان في حق الرعية والناس.

سئل أحدهم من أشعر الناس قال الذي يصوّر الباطل في صورة الحق، والحق في صورة الباطل، بلطف معناه ودقة فطنته، فيقبّحُ الحسن الذي لا أحسن منه، ويحسّن القبيح الذي لا أقبح منه.

يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله(فصول إسلامية ص257ـ 258):

“فأنا أستطيع (إن تركت ديني وأخذتها على أنها قضية بيان) أن أحسّن القبيح وأُقبّح الحسن، وأن أقيم الدليل على وجوب هدم المآذن لأنها لم تكن في أول الإسلام، ولأنها تكشف عورات الناس، ولأن مكبرات الصوت تغني عنها، وعلى ضرورة منع الآذان لأن الناس كلهم عندهم ساعات يعرفون بها الأوقات، والأذان يزعج المرضى والنائمين، ويُسوئ الإسلام في عيون السياح والأجانب،ومن مصلحة الإسلام تحسينه في عيونهم ليدخلوا فيه، وعلى لزوم منع طبع المصاحف عشر سنين لأن نسخها اليوم كثيرة وكثرتها تؤدي إلى تعطيلها وإهمال القراءة فيها واتخاذ هذا القرآن مهجورا، وعلى جواز تحويل المساجد إلى مدارس لأن الصلاة تجوز في كل مكان، والتعلم لا يكون إلا في بيوت مخصصة له ومقصورة عليه،ثم نجعلها بعد المدارس نوادي للمحاضرات ثم مسارح للتمثيل، أعني التمثيل الأخلاقي! وكذلك ننقض عرى الإسلام عروة عروة بمثل هذا المنطق الشيطاني ، وللشيطان مداخل عجيبة، وقد يحاول هدم الدين بحجة الدفاع عنه، وقد يسخر لذلك جماعة من المتسّمين بالعلم والصلاح كما سخّر شيخاً من الشام فأفتى بسقوط فريضة الحج بحجة أنه لابد فيه من الخضوع لقوانين الكفار، من لصق الصورة على الجواز، واتباع طرق المكوس..وسخر أخر فأفتى بأنه لازكاة في النقد الورقي ولاربا، فأسقط الزكاة وأحلّ الربا وهو يظن أنه يقرر أحكام مذهب الشافعي، وثالث في مصر كاد ينسخ وجوب الصيام، والرابع من بُلغّت انه يقول لاصلاة إلا عند التمكين في الأرض..”.

ومن علماء السوء من سيطر عليه لؤم مغرسه وخبث عنصره، وأقام على خساسته ينافح عن لؤمه ويدّعي الشرف للحاكم ليحظى بمنزلة الشرف عنده، ويظهر الحقد والبغضاء لدعاة الحق بتنقصهم والاستهزاء بهم وإلحاق أشد الضرر بهم وبأسرهم، ويستفرغ مجهوده في إظهار مثالب الدعاة ومناقب الحكام،يؤولون الآيات والأحاديث حسب هواهم وهوى السلطان، وإن احتمل التأويل عدة معان صرفه إلى مايرضيه ويرضي سلطانه،من أجل متاعٍ رخيص وعيشٍ بئيس. يقول تعالى: {وإنَّ مِنهُم لفريقاً يَلوُون ألسِنَتَهُم بالكتابِ لِتَحسبُوهُ من الكتابِ وماهُو منَ الكتابِ ويقولونَ هوَ من عندِ الله وماهوَ من عندِ الله ويقولونَ على الله الكَذِبَ وهم يعلمون} [آل عمران 78].

يقول الإمام الحسن البصري رحمه الله(عيون الأخبار لابن قتيبة كتاب العلم باب القرآن): “من العلماء قوم حفظوا حروفه، وضيّعوا حدوده، واستدروا به الولاة، واستطالوا به على أهل بلادهم. وقد كثر هذا الضرب في حملة القرآن لاكثّرهم الله”، ويقول الأستاذ عصام العطار حفظه الله: “وكم رأينا الفكر والعلم مطية للأغراض والمنافع الحقيرة، بل كم رأينا من العلماء بالإسلام نفسه من يضعون أنفسهم  في خدمة أعداء الإسلام، ويحاربون أوليائه، ويشترون بآيات الله ثمناً قليلاً، مكسباً أو منصباً، أو مالاً أو جاهاً أو عَرَضاً زائلاً ومتاعاً فانياً من متاع هذه الدنيا”

يقول الله تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولاتكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس مايشترون}[آل عمران 187]، يقول الأستاذ عصام العطار معقباً على هذه الآية، وكيف أن بعض العلماء يكتمون الحق وما استودعوا من العلم تجاه بعض الحكام الذين يُحرّفون الإسلام أو يشتمونه دون تهيب ولا وجل: “لقد كان في قلوبهم خشية المخلوق، ولم تكن في قلوبهم خشية الخالق، فسكتوا عن الباطل، وعجزوا عن إعلان كلمة الحق، ولو كان في قلوبهم خشية الخالق لا المخلوق، لكان لهم موقف آخر يشمخ فيه الحق ويخنس فيه الباطل وتهتز له أعطاف العالم الإسلامي، ويردد صداه التاريخ غلى مدى بعيد”.

نعوذ بالله من هؤلاء العلماء كما قال الإمام العظيم سفيان الثوري” تعوذوا بالله من فتنة العابد الجاهل والعالم الفاجر فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون”. نسأل الله أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ماينفعنا.

3ـ ذوو الجاه والسلطان:

إنّ فرعون والذي يمثل طغيان السلطة وجبروت الحاكم، والذي كان يرتكب أبشع الجرائم، لم يكن وحده في مواجهة موسى وهارون، وما جاءا به من الحق والبينات، بل كان معه زبانيته وأزلامه وأعوانه ومنهم هامان وزيره وقائد جنده، المدّبر لمكائده والمعين له على ظلمه وبطشه،وكان معه قارون والذي كان من قوم موسى والذي تحالف مع فرعون ضد قومه وأصحاب عقيدته، وكان يمثل الجشع المادي والمطمع الدنيوي فبغى على موسى وقومه بثروته وعلمه وسخرها لخدمة فرعون والباطل ولم يستمع لنصح الناصحين بعدم البغي والفساد.يقول تعالى: {وقَارُونَ وفِرعونَ وهامانَ ولقد جاءَهُم موسى بالبَيِّناتِ فاستكبروا في الأرضِ وما كانوا سابقين}[العنكبوت 39].

وقال تعالى:  {ولقد أرسلنا موسى بأياتنا وسلطانٍ مبين *إلى فِرعونَ وهامانَ وقارونَ فقالوا ساحرٌ كذَّاب}[غافر 23ـ  24]

أضف غلى ذلك الملأ من قوم فرعون الذين كان يستشيرهم ويُشيرون عليه، وكانوا اصحاب الجاه والمراكز والنفوذ من أسرته وأقاربه وأعوانه وزبانيته، والذين ارتبطت مصالحهم بمصلحة فرعون:{وقال الملأُ من قومهِ الذين كَفروا وكذَبوا بلقاءِ الآخرةِ وأترفنَاهُم في الحياة الدنيا} [المؤمنون 33].

وهؤلاء جميعاً اي الثالوث الجبروت المتمثل في سلطة الطاغية الحاكم،وسلطة الجشع المادي، وسلطة الملأ من أصحاب النفوذ تجدهم في كل زمان ومكان، وفي كل عصر ومصر وقصر، يحاربون دعاة الحق ويواجهونهم بكل الوسائل، ويقاتلوهم بكل الأساليب:

فمنها التكذيب:{قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين} [الأعراف 60]، ومنها التشهير: {قال الملأ الذين استكبروا من قومه إنا لنراك في سفاهة} [الأعراف 66]،{قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم} [الأعراف 109].

وقد يصل الأمر إلى حد القتل إن لم ينفع الإبعاد والنفي والسجن والتعذيب: { قال ياموسى إنّ الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين} [القصص 20].

إن هذا مايجب على دعاة الحق فهمه ووعيه، إن اصحاب السلطة والنفوذ والمال ليسوا وحدهم في مواجهتهم ومحاربتهم بل معهم ايضاً من يحاربهم في مصالحهم واهوائهم من كبار التجار وقادة الجيش المفسدين وأصحاب السلطة والهوى والمنفعة، وعندما يتصدى دعاة الباطل لدعاة الحق، ويتصدى أدعياء الشر لأنصار الحق والنور،يهب لحمايتهم ونصرتهم المستغلون والمستكبرون والطغاة الغاة العتاة، والمستهزئون والمنحلون أصحاب الشهوات وأنصار الإنحلال، وهذا الواقع قديم جديد، عهدناه ونعهده وسوف نشاهده في كل زمان ومكان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها فلقد تماثلت أساليب أصحاب الباطل قديماً وحديثاً في مهاجمة دعوة الحق والصد عنها حتى لكأنّ أولهم اوصى أخرهم: {كَذلِكَ ماأتَى الذينَ من قَبلِهم من رسُولٍ إلا قالوا ساحرٌ أو مجنونٌ* أتَواصَوا به بل هُم قومٌ طاغون}[الذاريات 52ـ 53]، وقال تعالى: {مايقال لك إلا ماقد قيل للرسل من قبلك}[فصلت 42].

فهي جبلة واحدة، وطبيعة واحدة للمُكذبين في التعامل مع دعاة الحق وكأنّهم تواصوا بذلك،وماتواصوا بشئ من هذا ، إنما هي طبيعة الطغيان وتجاوز الحق تجمع بين الغابرين واللاحقين.

إنّ الباطل قديمه وحديثه يتبّع نفس الأساليب في محاربة الحق وأعوانه، معتمداً على نفس الأعوان والأنصار، لايتغير ذلك بتغير الزمان ولابتبدل المكان.

يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله في “الظلال”:

“والمؤمن ذو نسب عريق ضارب في شعاب الزمان، إنه واحد في ذلك الموكب الكريم الذي يقود خطاه ذلك الرهط الكريم: نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وموسى وعيسى ومحمد عليهم صلوات الله وسلامه: {وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون} [الأنبياء 92]، هذا الموكب الكريم الممتد في شعاب الزمن من قديمه وحديثه، يواجه مواقف متشابهة وازمات وتجارب متشابهة على تطاول العصور وكر الدهور،وتغير المكان وتعدد الأقوام، يواجه الضلال والعمى والطغيان والهوى والاضطهاد والبغي والتهديد والتشريد”.

وقوى الباطل مهما اختلفت مذاهبها وتعددت مشاربها، وتنوعت أهوائها، تلتقي دوماً وتوحد جهودها في مواجهة دعاة الحق، ناسية مابينها من الخلاف والخصام،يقول الأستاذ عصام العطار حفظه الله:”إن الذي يخدم الإسلام ويلتزم خطه المتميز ويدعو الناس إليه،ويكشف لهم الحقائق ويبين لهم الأمور،ويأخذ بأيديهم بأمانة وصدق،يجتمع على محاربته والكيد له أعداء الإسلام ومستغلوه معاً، وإن افترقت بهم السبل في المجالات الأخرى، واشتدّ بينهم الصدام، لأن أعداء الإسلام يدركون أن الإسلام الحقيقي كما أنزله الله عز وجل هو وحده الذي يستطيع أن يسد عليهم الطريق ويوقع بهم الهزيمة لا إسلام الشعارات والعناوين، ولأن مستغلي الإسلام يدركون أن انكشاف الإسلام على حقيقته للناس واستبانة خطه المتميز المستقيم وإمساك رجاله الصادقين بزمام التوجيه سيقطع عليهم طريق استغلال الإسلام والمسلمين،واستخدامهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، كما سيكشف انحرافهم وزيف ما يرفعونه من شعارات وعناوين”.

نعم، إن الصدام لابد واقع بين الحق والباطل،فالباطل وضيع والحق سامٍ رفيع، والباطل ضئيل حقير، والحق أصيل قديرن وبما أن الظلام والضياء لا يجتمعان، كذلك فإن الحق والباطل لا يتفقان.

يقول الأستاذ أحمد أمين رحمه الله(فيض الخاطر ج1 ص201):

“ولعل كثيراً من صفحات التاريخ المملوءة باضطهاد العلماء وقتل النبغاء، واغتيال الأبطال تستر وراءها هذا السر الكامن الخطير وهو أن الاضطهاد والقتل والاغتيال كان سببه الخفي شعور المدبرين بضعفهم أمام هؤلاء العظماء”.

نعم، إن طريق الدعوة إلى الله هو طريق الابتلاء، وهو طريق طويل عصيب شاق، فيه الأذى والسجن والاعتقال والتشريد، وفيه التعذيب والنفي والتهديد، فيه مصادرة المصالح وتعطيل الأعمال ومصادرة الأموال،فيه تفتيش البيوت وأذى الأحبّة والأهل والأقارب وأعزّ الناس، وفيه القتل إن لم ينفع مع الدعاة كما ذكر.

يقول الأستاذ عصام العطار حفظه الله:

“رسم لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكل جيل معالم الطريق، دماً وألماً وصبراً وجهاداً متواصلاً ويقيناً راسخاً وثقةً لاحد لها بالله عز وجل وبنصره المؤكد، ولقد كان المسلمون الأولون أفراداً في العهد المكي وجماعة على أبواب العهد المدني على بينة من هذه الحقيقة أيضاً، سلكوا الطريق إلى الغاية التي يرخص في سبيلها كل بذل، ووطنوا النفس على مجابهة كل الدنيا والتضحية بكل مافي الدنيا، واحتمال أقصى مايمكن أن يُتصور في هذه الدنيا، لايستعجلون ولا يطلبون إلا الجنة ومرضاة الله عز وجل”.

ويقول الشهيد سيد قطب رحمه الله في “الظلال”:

“ولكن المؤمن يمضي في طريقه ثابت الخطو، مطمئن الضمير، واثقاً من نصر الله، متعلقاً بالرجاء فيه، متوقعاً كل لحظة وعد الله الصادق الأكيد:{وقال الذينَ كَفروا لِرُسُلِهِم لَنُخرِجَنَّكُم من أرضِنا أو لَتَعُودُنَّ في مِلِّتِنَا فأوحى إليه رَبُّهُم لَنُهلِكَنَّ الظالمين* ولَنُسكِنَنَّكُم الأرضَ من بعدِهِم ذلك لمن خافَ مقامي وخافَ وعيد} [إبراهيم 13 ـ14].

موقف واحد وتجربة واحدة، وتهديد واحد، ويقين واحد، ووعد واحد للموكب الكريم وعاقبة واحدة ينتظرها المؤمنون في نهاية المطاف.

{فأَيَّدنا الذين أمنوا على عَدُوّهِم فأصبحوا ظاهرين}[ الصف 14].