دُعاةُ الحَقِّ

بسم الله الرحمن الرحيم

دُعاةُ الحقِّ

يقول الله تعالى في كتابه العزيز: {ولينصرنَّ اللهُ من ينصره إن الله لقويٌّ عزيز}[الحج 40]،ودعاة الحق هم الذين ينصرون دين الله،فوجب أن ينصرهم الله،ولكن بشرط أن يحقّقوا شروط النصر،وهي أن يكونوا مسلمون ربانيون،عرفوا الحق يقيناً والتزموه إيماناً وعملاً،أمنوا به ودعوا إليه،تمثلوه فكراً وسلوكاً ومنهجاً،ودعوا إليه مهما كانت الظروف والأحوال، بإرادة قوية، وتضحية مستمرة،وعزم شديد،بدون فتور ولا كسل ولا ملل،مهما كانت العقبات ومهما استلزمت من التضحيات،ورغم كل العوائق والمثبطات.

يقول الأستاذ أحمد محمد شاكر رحمه الله في مقال بعنوان”كلمة الحق”:

“ما أقلَّ ما قلنا(كلمة الحق) في مواقف الرجال،وما أكثر ما قصّرنا في ذلك،إن لم يكن خوفاً فضعفاً،ونستغفر الله،وأرى أن قد آن الأوان لنقولها ما استطعنا،كفارةً عما سلف من تقصير،وعما أسلفتُ من الذنوب،ليس لها إلا عفو الله ورحمته،والعمر يجري بنا سريعاً، والحياة توشك أن تبلغ منتهاها.

وأرى أن قد آن الأوان لنقولها ما استطعنا،وبلادنا،بلاد الإسلام تنحدر في مجرى السّيل،إلى هُوَّة لا قرار لها،هُوّة الإلحاد والإباحية والانحلال،فإن لم نقف منهم موقف النذير،وإن لم نأخذ بحُجَزِهم عن النار انحدرنا معهم،وأصابنا من عقابيل ذلك ما يصيبهم،وكان علينا من الإثم أضعاف ما حُملّوا.ذلك بأن الله أخذ علينا الميثاق{لَتُبينُنَّهُ للناسِ ولا تكتمونهُ}[آل عمران 187]. وذلك بأن ضرب لنا المثل بأشقى الأمم{لُعِنَ الذين كفروا من بني إسرائيلَ على لسانِ داودَ وعيسى ابنِ مريمَ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون*كانوا لا يتناهونَ عن مُنكرٍ فعلوهُ لبئسَ ما كانوا يفعلون}[المائدة 78 ـ 79].

وذلك بأن الله وصفنا معشر المسلمين بأننا خيرُ الأمم:{كنتمْ خيرَ أُمّةٍ أُخرجتْ للناسِ تأمرونَ بالمعروفِ وتنهونَ عن المنكر}[آل عمران 110].فإن فقدنا ما جعلنا الله به خير الأمم ، كنا كمثل أشقاها،وليس من منزلة هناك بينهما.وذلك بأن الله يقول:{الذينَ يُبَلِّغونَ رِسالاتِ الله ويخشونهُ ولا يخشونَ أحداً إلا الله وكفى بالله حسيباً}[الأحزاب 39].

وذلك بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:”ألا لا يمنعنَّ أحدكم رهبةُ الناس أن يقول بحقٍِّ إذا رآه  أو شهده،فإنه لا يُقرِّب من أجلٍ ،ولا يُباعدُ من رزقٍ،أن يقولَ بحقٍّ، أو يُذَكِّرَ بعظيم”[رواه أبو سعيد الخدري وأخرجه الترمذي وابن ماجة وأحمد وحسنه شعيب الأرناؤوط). وذلك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:”لا يحقرنَّ أحدكم نفسه أن يرى أمراً لله  فيه مقال، فلا يقول فيه،فيقال له:مامنعك؟فيقول:مخافة الناس،فيقول: فإياي كنت أحقَّ أن تخاف[رواه الخدري وصححه الأرناؤوط)

ويتابع الأستاذ أحمد محمد شاكر رحمه الله:”نريد أن نقول (كلمة الحق) في شؤون المسلمين كلها،نريد أن ننافح عن الإسلام ما استطعنا،بالقول الفصل،والكلمة الصريحة،لا نخشى أحداً إلا الله،إذ نقول ما نقول في حدود ما أنزل الله لنا به،بل ما أوجب عليه أن نقوله،بهدي كتاب ربنا، وسنة رسوله.

نريد أن نحارب الوثنية الحديثة والشرك الحديث،اللذين شاعا في بلادنا وفي أكثر بلاد الإسلام.نريد أن ننافح عن القرآن،وقد اعتاد ناس أن يلعبوا بكتاب الله بين أظهرنا،فمن متأول لآياته غير مؤمن به،يريد أن يفسرها على غير ما يدل عليه صريح اللفظ في كلام العرب،حتى يوافق ما آمن به،أو ما أُشربته نفسه ،من عقائد الوثنية وإلحادها،أو يقربه إلى عاداتهاوآدابها،ليجعل الإسلام ديناً عصرياً في نظره ونظر ساداته الذين ارتضع لبانهم،أو رُبي في أحضانهم.

نريد أن نحفظ أعراض المسلمين،وأن نحارب ما أحدث(النسوان)وأنصار(النسوان) من المنكرات الإباحية والمجون والفجور والدعارة،هؤلاء(النسوان)اللائي ليس لهن رجال،إلا رجالٌ(يُشبِهنَ) الرجال!!

نريد أن نبصر المسلمين وزعماءَهم بموقعهم من هذه الدنيا بين الأمم ،وتكالب الأمم عليهم بغياً وعَدواً،وعصبية، وكراهية الإسلام أولاً وقبل كل شيء.

نريد أن نعمل على تحرير عقول المسلمين وقلوبهم من روح التهتك والإباحية،ومن روح التمرد والإلحاد.

نريد أن نحارب النفاق والمجاملات الكاذبة،التي اصطنعها كتاب هذا العصر وأكثرهم فيما يكتبون وينصحون!يظنون أن هذا من حسن السياسة،ومن الدعوة إلى الحق(بالحكمة والموعظة الحسنة)اللتين أمر الله بهما.وما كان هذا منهما قط،وإنما هو الضعف والاستخذاء والملق والحرص على عَرَض الحياة الدنيا.

وما نريد بهذا أن نكون سفهاء أو شتاميين أو منفِّرين،معاذ الله،و”ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان،ولا الفاحش ولا البذيء“كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.[رواه الترمذي والحاكم  وصححه الألباني]

ولكنا نريد أن نقول الحق واضحاً غير ملتوٍ،وأن نصف الأشياء بأوصافها الصحيحة بأحسن عبارة نستطيعها،ولكنا نربأ بأنفسنا وبإخواننا أن نصف رجلاً يعلن عداءه للإسلام،أو يرفض شريعة الله ورسوله مثلاً بأنه(صديقنا)،والله سبحانه نهانا عن ذلك نهياً حازماً في كتابه.

ونربأ بأنفسنا أن نضعف ونستخذي،فنصف أمة من الأمم تضرب المسلمين بالحديد والنار،وتهتك أعراضهم،وتنتهب أموالهم ،بأنها أمة(صديقة)أو بأنها أمة(الحرية والنور)إذا كان من فعلها مع إخواننا أنها أمة (الاستعباد والنار).

نريد أن نمهد للمسلمين سبيل العزة التي جعلها الله لهم ومن حقهم إذا اتصفوا بما وصفهم به:أن يكونوا(مؤمنين).

نريد أن نوقظهم وندعوهم إلى دينهم بهذا الصوت الضعيف..فإن عجزنا أو ذهبنا،فلن يعدم الإسلام رجلاً أو رجالاً يرفعون هذا اللواء،فلا يزال خفاقاً إلى السماء بإذن الله”.

يقول الأستاذ عصام العطار حفظه الله :

“ما أحوجنا في هذه الظروف التاريخية،والمنعطفات المصيرية إلى رادة وقادة تتمثل فيهم عظمة الإيمان وعظمة الفكر وعظمة الأخلاق وعظمة الإرادة وعظمة العمل والتضحيات، وأي تقصير في أي جانب من هذه الجوانب انحراف وإخفاق وضياع وهلاك” ، ويقول أيضاً: “ما أكثر ما أحلم في غربتي وشدّتي ومرضي بأولئك الشباب الذين يقفون مع الحق ولو أعرضت عنه الدنيا،يثبتون عليه ولو حاربتهم لذلك الدنيا، ويرفعون أنفسهم من خلال إيمانهم وإخلاصهم وعلمهم ووعيهم وعاطفتهم وإرادتهم وجهدهم المنهجي اليومي المستمر إلى مستوى تحقيق أهداف الإسلام والمسلمين في عالمهم وعصرهم على كل صعيد وعلى أفضل وجه، ويتابع حفظه الله:”إن الإسلام يحتاج إلى عناصر مؤمنة صادقة عالمية المستوى في كل اختصاص ومجال لتعود خطى المسلمين بإخلاص وبصيرة واقتدار في هذا العالم المعقد الصعب المزروع بالمخاطر والمهالك وأصناف المكر والغدر والاحتيال والاستغلال”.

نعم، لابد وقبل كل شئ من الإيمان بالحق الذي تتبناه،وتدعو إليه،مؤمناً كل الإيمان بأنه الوسيلة والغاية مهما كانت المثبطات والتحديات،ومهما كانت  العوائق والعقبات،ترفع رايته دون الإهتمام لأقوال المنحرفين،وافتراء الكاذبين،ومكر الماكرين، واستغلال الضالين المضلين.

إن دعاة الحق الذين يؤمنون به عن قناعة وتصديق ويقين،هم أناس يحيون للمبدأ والفكرة،يرنون إلى الكرامة وإن أرهقتهم سياط الظلم،داعين إلى الحرية وإن أجهدهم طغيان الطغاة،وعتو العتاة،يضيئون دياجير الظلمات بوميض أرواحهم ومشاعل دمائهم،ويحركون ساكن القوم وشلل من حولهم بوجيب قلوبهم ونبضات عزائمهم،ويذكون خمود العزائم بحرارة إيمانهم ولهيب دمائهم

حشدٌ على الحقِّ عن قول الخَنا خُرُس                 وإن ألمّت بهم مكروهةٌ صَبروا

يقول الأستاذ الشيخ محمد الغزالي رحمه الله(مقال بعنوان:نهج الأحرار من قديم):

“وبين جماهير الدهماء ينتشر التقليد الخاطئ،أو العرف السيء فما يرده ذكاء،أو تمتد رهبة السلطان،وسطوة الملك الطائش فما يقمعها تمرد.ولكن هناك رجالاً من معادن فريدة تشذُّ عن هذا العموم المهين.فهي الجبال التي تقف مد السيل،والأشجار التي لا تنثني مع هبوب العاصفة.وهم الصالحون بين السكارى،فإذا شاع خطأ تعرضوا هم له بالنقد،وإذا ألف الناس مسلكاً لم يهجبهم تصرفوا هم منفردين على طريقة المعري حين قال:

تثاءبَ عمرو إذ تثاءبَ خالدُ                 بعدوى فما أعدتني الثوباءُ

وإذا ركع الناس بين يدي ملك ظالم،أو استكانوا لأوضاع مزرية،لمحت في أبصارهم بريق الأنفة،وفي سيرتهم شرف الحرية، فما يستريحون حتى تنجو البلاد والعباد من آثار الفساد،وقيود العبودية.أولئك هم الثوار الذين يعتز بهم الإيمان وتستقيم بهم الحياة.فهم الدواء الخالد لكل ما يفشو في الدنيا من علل،وهم الأمل الباقي لبقاء الخير في الأرض،وإن ترادفت النوب واكفهرت الآفاق.ويتابع رحمه الله:”ربما كان عشق الحقّ خليقة فيهم فطرهم الله عليها،كما قال في كتابه:{وممّنْ خلقنا أُمّةٌ يهدونَ بالحقِّ وبه يعدلون}[الأعراف 181].

ولعشق الحق أعباء مرهقة،أولها الصبر على تثبيط الخاذلين،وكيد المعوقين،والمخالفين،بيد أن طبيعة الثورة على الباطل لا تكترث لشيء من هذا،وفي الحديث الصحيح:”لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس”[رواه مسلم عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه].

يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه(العقد الفريد ج4 ص132):

“معنا راية الحق،من تبعها لحق،ومن تأخر عنها غرق”، ويقول أيضاً رضي الله عنه” :”لا يكن افضل مانلت في نفسك من دنياك بلوغ لذة أو شفاء غيظ، ولكن إطفاء باطل أو إصابة حق”.

ويقول الأستاذ محمد أديب صالح رحمه الله(على الطريق ص214):

“ولن يفقد الحقيقة هويتها قولُ العمي أو الذين في قلوبهم مرض:ليست بحقيقة، فلو تمالأ أهل الضلال جميعاً ليقولوا عن الإسلام مقالة البهتان والزور،فلن ينالوا منه إلا كما تنال الذبابة من الجبال الرواسي،ولكن العبرة في أن تجد الحقيقة لساناً ينطق بها،وقلباً يخلص لمدلولاتها ومراميها،وساعداً يحميها ويدافع عنها”.

ويقول الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه:

“ليس عليك أن يقتنع الناس برأيك الحق،ولكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق”.

ويقول الأستاذ عصام العطار حفظه الله:

“الحق جدير بأن نطلبه ولو أجهدنا السعي،وأن نعلنه وإن أضرَّ بنا الجهر،وأن نموت من أجله إن كان لابد من الموت”. ويقول أيضاً:

نمشي إلى الغاية الكبرى على ثِقةٍ                  عَزمٌ حديدٌ ونَهجٌ غيرُ مُنبَهِمِ

وأنفسٌ قد شراها اللهُ صادقةٌ                        أقوى من الموتِ والتشريدِ والألمِ

ما طأطأت قطُّ للطاغوتِ صاغرةً                     خوفاً وعجزاً وما ألقتْ يدَ السَّلَمِ

ويقول أيضاً:

غَرامُنا الحقُّ لم نقبلْ بهِ بدلاً                        إن غَيّرتْ غِيَرُ الدُّنيا  المحبينا

نفوسُنا السَّلسلُ الصافي فإن غضبت               للحقِّ ثارت على الباغي براكينا

عِشنا أبيّينَ أحراراً فإن هلكت                       في الحقِّ انفسنا متنا أبيينا

والداعية إلى الحق يدعو إليه بدون كلل ولا ملل ولا كسل،مهما كان أمامه من الصعاب ما يعسر تذليله،ومن العقبات ما يصعب تمهيده. وقد يكون قول الحق واضحاً صارخاً يعمل كدوي المدفع،وكعصف العاصفة،يقتلع الأشجار ويزيح الرواسي، وقد يكون أحياناً كهدير الماء يعمل في بطء حتى يفتت الصخر،ويشقق الأحجار.

إن المثابرة و الاستمرارية في الدعوة إلى الحق هي من أهم العوامل التي تساعد على الوصول إلى الحق وتحقيقه،يقول الإمام علي رضي الله عنه(العقد الفريد ج4 ص132): ” لا يُدرك الحقُّ إلّا بالجدّ”، وقال عبد الملك لأبيه عمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين ما تقول لربك إذا أتيته،وقد تركت حقاً لم تُحيه،أو باطلاً لم تُمته؟فقال يابني:إن أجدادك قد دعوا الناس عن الحق فانتهت الأمور إليَّ، أقبل شرّها وأدبر خيرها،ولكن اليس حسناً وجميلاً ألا تطلع الشمس عليّ في يوم إلا أحييت فيه حقاً وأمتُ باطلاً حتى يأتيني الموت وأنا على ذلك”، وقال خالد بن صفوان بن الأهتم لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: “امض ولا تلتفت فإنه لا يذلّ مع الحق شئ ولا يعزّ مع الباطل شئ، وثق تماماً أن القلوب والعقول ستكون معك إذا ثابرت وسعيت وبقيت على الطريق رغم الآلام والشدائد والعقبات”.

وقال عمرو بن عبيد لأبي جعفر المنصور” ارفع علم الحق يتبعك أهله”.ويقول الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله: “الباطل يغري الناس حتى إنهم ليمجدّونه فإذا تفتحت عقولهم لمكائده أعرضوا عنه حتى إنهم ليلعنونه،والحق يتعب الناس حتى إنهم ليكرهونه فإذا صفت نفوسهم تعلّقوا به حتى إنهم ليقدسونه”.

والداعية إلى الحق يبقى مستمراً في دعوته رغم العقبات والأذى والمرض والمثبطات ..بجميع أشكالها وأصناف أفانينها،يقول الأستاذ عصام العطار حفظه الله:”

يُردّد أعداء الإسلام ومستغلوه فرحين شامتين،لقد انتهى فلان ولم يَبقَ منه على المرض ما يُعينه على متابعة السير،وقد يكون بعض ما يقولونه صحيحاً،ولكن كل زفرةٍ ضعيفةٍ في صدري،وكلّ خفقةٍ واهنة في قلبي ستكون دعوة إلى الحق ودفاعاً عن الحق وتحدياً للباطل في مختلف صوره وأشكاله”، ويقول :

ويُشرِقُ الحقُّ في قلبي فلا ظُلَمٌ                        ويَصدقُ العزمُ لا وَهنٌ ولا سأمُ

دَربٌ سلكناهُ والرحمنُ غايتُنا                          ما مسّنا قطُّ في لأوائهِ نَدَمُ

نمضي ونمضي وإن طالَ الطريقُ بنا                 وسالَ دمعٌ على أطرافهِ ودَمُ

يحلو العذابُ وعينُ اللهِ تَلحَظُنا                        ويعذبُ الموتُ والتشريدُ والألمُ   

ويتابع الداعية طريقه إلى الحق مستعذباً الصعاب والمشقات وكيف لا وهي طريق الحسنى والجنات،مستضغراً الآلام والشدائد والمشقات،وكيف لا وهي طريق النصر أو الشهادة وكلاهما أجمل مايمكن أن يناله من ربط حبله بحبال الرحمن،وكلاهما أفضل مايتمناه من كان همّه وغايته إرضاء الرحمن ولاشئ غير رضى الرحمن، يقول الأستاذ عصام العطار حفظه الله:”عندما يزداد انطباق الظلام على شعلة الحق التي نحملها يزداد شعورنا بالحاجة إلى النور وبضرورة الإستمرار في رفع هذه الشعلة إلى أن تُسِدلَ أيدينا قبضة الموت”.

والداعية إلى الحق لايخضع للمغريات ولايأبه للمُرهِبات ولا يكترث بالعقبات ولايتأثر بالمثبطات،والتي قد تاخذ اشكالاً وصوراً عديدة، فإن لم يستطيعوا شرائك إو إغرائك أو احتوائك،حاولوا إبعادك وتنحيّتك عن موكب الحق وطريق النور بشتى المبررات ومختلف الأعذار.

يقول الأستاذ محمد الغزالي رحمه الله(مقال: نهج الأحرار من قديم):

“وأكثر الناس يعرف الحق معرفة حسنة،غير أنه لا يأسى لهزيمته،ولا يأسف لضياعه!أو لعلّ إحساساً من الضيق يخامره خذلان الحق،إلا أن هذا الإحساس يصطدم بمصالح النفس،وضرورات العيش،ومطالب الأولاد،فيتراجع المرء رويداً رويداً عن هذا الشعور النبيل،ويؤثر الاستسلام على المقاومة،والاستكانة للواقع عن تغييره وإنكاره.وهذا السلوك لا يتفق مع طبيعة الإيمان،ويستحيل أن تتقبله نفس ثائرة لله مؤملة فيما عنده.فالغاضب لله ورسوله ـ يذهل في سورة يقينه ـ عما يحرص عليه الجبناء،من حياة ومتاع،ولا يرى أمامه إلا نصرة الحق ورفع لوائه وليكن ما يكون”.

يقول الأستاذ عصام العطار حفظه الله:

“عندما يُخفق اعداء الحق في شرائك أو إغرائك لتكون أداةً في أيديهم لطعن الحق يحاولون جهدهم بمختلف الوسائل السافرة أو المُقّنعة،المباشرة أو غير المباشرة أن يفصلوك أو يبعدوك عن موكب الحق بما يلتمسونه لك أو تلتمسه لنفسك من المبررات والأعذار،فإياك إياك أن تغترّ بهم وتقع في شباكهم وأسرهم،فتكون من حيث تريد او لاتريد عوناً لأعداء الإسلام أو مستغلي الإسلام على الإسلام وفي ذلك خسارة الدنيا والأخرة”.

وإن لم تكن سيفاً للحق،فحذار حذار أن تكون سيفاً للباطل ،من حيث شئت أم لم تشاء ،من حيث اردت أم اُريد لك،وإن لم تكن صوت الحق فحذار حذار أن تكون بوقاً للباطل،يقول الأستاذ عصام العطار حفظه الله:

“قلت لأخٍ لي: إن لم تستطع ان تكون سيف الحق فلا تكن سيف الباطل،وإن لم تكن في جند الله فلا تكن في جند الطاغوت. فقال لي أخي: وهل اكونُ في غير جند الطاغوت إن لم أكن في جند الله عز وجل”.

وسوف يحاول الباطل وجنده وأتباعه أن يزيحك عن الطريق مبتدئاً بالوعيد والتهديد،بالتشهير والتحقير،مروراً بالسجن والنفي والأذى والتشريد،ومنتهياً بالقتل والتعذيب،يقول الأستاذ عصام العطار:

“لئن استطاع أعداء الإسلام ومستغلوه أن يكبلوني في غربتي بالقيود والاغلال،وأن يمنعوني كل مكان استطيع أن أنشر فيه ما أعتقده من الحق فإن أعداء الإسلام ومستغليه لن يستطيعوا أن يقوّلوني الباطل مهما مارسوه من الضغوط ومهما كرروه من الوعيد ومهما حاولوه من القتل ومهما أمعنوا فيه من الحرب ومهما لوّحوا به من المغريات، فدنياهم هذه وألف دنيا مثلها ليست أكثر في عيني من التراب”.

وحذار كل الحذار وأنت تدعو إلى الحق من المداهنة على حساب الحق أو الوصول إلى مايسمى”الحلول الوسط”، فالحق والباطل لايجتمعان، كما أنه لايجتمع النور والظلام،والحق لايُراعى فيه كبيراً ،ولا يُمالئ به عظيماً أو أميراً. والحقُّ هو الوسيلة وهو الغاية،ولانصل إلى الحق بواسطة من وسائط الباطل،ولانحارب باطلاً من أجل باطل أخر،ولا نستعين بالباطل من أجل محاربة باطل أخ،ومن طلب عزّاً بباطل أورثه الله ذُلّاً بحق،يقول الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله:

“لا يلقى الشر سلاحه حتى يلفظ آخر أنفاسه،فهو لا يعرف الصلح والمهادنة أبداً” ،ويقول الأستاذ عصام العطار حفظه الله: “إننا لانقارع بسيف الباطل ولكن بسيف الحق،ولانحارب باطلاً من أجل باطل أخر ولكن من أجل الحق، فالحقّ عندنا هو الوسيلة وهو الغاية”.

وما هانَ لي في موقف العزّ موقفٌ                   ولا لان لي في جانب الحق جانبٌ

ولابدّ للمسلم الرباني الداعي إلى الحق أن يكون شجاعاً في الحق لايخاف في الله لومة لائم،مهما كانت الظروف والأوضاع، فصاحب الحق قويٌّ لا يعرف الضعف،أبيٌّ لا يقبل الضيم،حازمٌ لا يعرف التردد،مُقدِمٌ لايقبل الإحجام،لا يردعه رادع، أو يزعه وازع، يقتحم لجّة اليمّ العميق ويخوض غمرته خوض الجسور لا خوض الجبان الحذور،ويجهر بالحق الصريح من غير جمجمة ولا مواربة،كالجبل الشامخ لا تحركه العواصف ولاتزيله القواصف.

يقول أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: “لا تجعلوا علمكم جهلاً ويقينكم شكاً،إذا علمتم فاحملوا، وإذا تيّقنتم فأقدموا”.

ويقول الأستاذ عصام العطار: “قل الحق بشجاعة يستجب لك أهل الحق عندما يتبينون فيك الصدق والإخلاص، أما أهل الباطل فالأفضل لك أن يبتعدوا عنك”.

وإن قول كلمة الحق والتي تعرّض صاحبها للأذية وربما القتل هي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:“أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر“،[أخرجه أبو داود والترمذي عن أبي سعيد الخدري وصححه الألباني].

يقول الأستاذ عصام العطار: “إننا لا نفتقر إلى الذين لا يقولون كلمة الحق إلا إذا ملكوا معها أسباب الوقاية والنصر، إنما نفتقر إلى الذين يقولون كلمة الحق وهم لا يملكون معها ولا يملكون لها ولا يملكون بها إلا الموت”.

ويقول الشيخ العز بن عبد السلام:”ينبغي لكل عالم إذا اذل الحق وأهل الصواب أن يبذل جهده في نصرهما،ومن آثر الله على نفسه آثره الله،ومن طلب رضى الله بما يسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس،ومن طلب رضا الناس بما يسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس” لقد صرخ عالم الإسلام وصاحب الفضل الكبير في استنهاض الهمم في معركة عين جالوت ضد جحافل الصليبيين التي أحرقت الأخضر واليابس وأتت على الإنسان والبنيان والعمران والشجر والحيوان،لقد صرخ هذا الشيخ الجليل من أعماق قلبه مستنكراً الأحوال التي كانت سائدة في زمانه من الفساد والضلال، والتشتت والافتراق،مستغيثاً بالله من هذه المخازي والأهوال التي كانت تعصف بالاقاليم والسهول والتلال،حيث انقسم المسلمون على أنفسهم ،وانشغلوا بمحاربة بعضهم ومنهم من بايع الصليب والطاغوت،واتاه رسول الملك الأيوبي الصالح اسماعيل يخوّفه إياه ويطلب منه أن يعود إليه مستمسحاً مطأطا الرأس وأن يقبل يده ليعفو عنه ويعيده إلى مناصبه فما كان جواب هذا العالم الشجاع رحمه الله إلا أن قال لهذا الرسول:يا مسكين، والله ما أرضاه أن يقبل يدي فضلاً عن أن أقبل يده،يا قوم أنتم في واد وأنا في واد والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به”.

إن دماء هؤلاء الأحرار هي التي تحفظ بقايا العقيدة والعزيمة في القلوب والشعوب،وتوقد شعلة الأمل والنضال في ظلمات اليأس والإستسلام، وتزلزل الأسوار الشاهقة في سجن الحاضر الرهيب وتفتح المنافذ الواسعة وتشق الطريق الصعبة إلى المستقبل الكريم ورحم الله شوقي:

ولا يبني الممالك كالضحايا                               ولا يُدني الحقوقَ ولا يُحِقُّ

ولكنّه ـأي صاحب الحق ـ في شجاعته وصراحته، وإن كان لا يُبالي عذل عاذل، ولا صولة متطاول، إلا أنه متلّطفٌ في الأداء، عفّ اللسان،غير سبّاب ولا شتّام ولا بذّاء، وقد أرسل الله عزّ وجلّ موسى وهارون إلى فرعون ـ وما أدراك ما فرعون رمز الطغيان والجبروت في كل زمان ـ فقال لهما تعالى عز وجل:{فقولا له قولًا ليناً}[طه 44].

والشجاعة في قول الحق تتطّلب من الداعية جرأة القلب،وعزّة النفس،وأن يكون مؤمناً بعظمة الله وكرامة الإنسان،مستعلياً على الدنيا الفانية الحقيرة،مترفعاً عن متاعها، يقول الحق في الغضب والرضا، في السرّ والعلانية، يقول الأستاذ عصام العطار:

رُوحي شامخةٌ ابداً                                بالحقِّ وإن ساد الباطل

قدمي ماضيةٌ ابداً                                 للحقِّ على رغم الباطلِ

قلبي ولساني ويدي                             حربٌ ما عشِتُ على الباطلِ

إن الداعية إلى الحق ينظر وقد رأى الحقيقة لفظاً تغيّر مدلوله عند الناس،ورمزاً تنكّرت معالمه في الأجناس،وديناً تقوّل عليه الباطل،وحقاً تجّهم له البغي،فنهض لإصلاح ذلك كلّه نهوض المؤمن الواثق والمصلح العاشق،لا نهوض العاجز الكسيح،جرّد نفسه لاستقراء الدقائق واستجلاء الحقائق،بنشاط الصبا وعزم الشباب وصبر الرجولة وحكمة الشيخوخة، مُتبّعاً القول المأثور”لا يمنعنَّ رجلاً هيبة الناس من أن يقول بحق إذا علم”

يقول الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله:

سأمشي إلى الغايات مشي مُكافحٍ                     ألوذ بعزِّ الله من كل مقيدِ

وأحمي لواء الحق من أن يدوسه                     طغاة غَدوا حَرْباً على كل مرشدِ

فمن ساءه عزمي على السير إنني                   إلى الله ماضٍ فليطل هَمّ حسّدي

وإن يأس أحبابي عليَّ من الردى                    لطول السرى فالموت في الحقّ مسعدي

وقد تبقى وحيداً في طريق الدعوة إلى الحق بلا سند إنساني ولادعم دنيوي،قد يتخلّى عنك القريب والحبيب،ويتنكّب لك الصديق، ويحاربك العدو والغريب.نعم قد تكون وحيداً فرداً سائراً في طريق الحق والدنيا كلها حولك قد خشعت للباطل،وخضعت للظلم،وطاطات الرؤوس للطغيان،ولكن ثِق وأنت وحدك من دون الناس أن الله معك، وأنك بالله أقوى من الدنيا ومافيها من الظلم والجبروت والطغيان، فاثبت على طريق الحق ولا تستوحش لقلّة السالكين وإياك طريق الحق، ولا تغترّ بطريق الباطل وما فيه من كثرة الهالكين.

يقول عبد الله بن الزبير رضي الله عنه: “إلا وإنه لم يُذْلِل الله من كان الحقُّ معه وإن كان فرداً، ولم يُعزز من كان وليه الشيطان وحزبه وإن كان معه الأنام طرّاً”، ويقول الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله: “لا يُقاس الحق والباطل بقلة الأنصار أو كثرتهم ففي كل عصور التاريخ بلا استثناء كان الباطل اكثر أتباعاً:{وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله}[الأنعام 116]، ويقول الأستاذ عصام العطار: “ان يهتف إنسانٌ حُرٌ فرد بالحق وقد خشع الناس للباطل فَيُعزل او يُسجن أو يُقتل اكرم وأنبل وأجدى على الإنسانية من أن تعنو الوجوه كلها لغير الحي القيوم”.

واقرأ معي هذه الأبيات الجميلة الصادقة لأحد دعاة الحق في هذا الزمان الذي لاقى الأذى والتعذيب والسجن والتشريد والنفي، ولم يمنعه ذلك كله وما أصابه من المرض والضعف وفقد أعز الاحباب ـ استشهدت زوجته على يد الغدر والطغيان عام 1981 ـ وأخيراً الشيخوخة ، لم يمنعه ذلك كله من أن يواصل طريقه راسخ كالجبل الأصمّ،مؤمن بالله وبوعده،نسأل الله أن يُثبتّه ويقوّيه ويشفيه ويؤيدّه إنه على كل شئٍ قدير. يقول الأستاذ عصام العطار حفظه الله :

أمضي مع الحق والصحراء محرقةٌ                   لا ظل فيها ولا مأوى لإنسان

أمضي مع الحق والأمواج هادرةٌ                      وقد تقاصر خوفاً كل ربان

أمضي مع الحق والأجواء عاصفةٌ                    والأفق يشعل نيراناً بنيران

أمضي مع الحق والظلماء حالكةٌ                     وبارق الفجر لم تبصره عينان

أمضي مع الحق والأخطار محدقةٌ                  والموت يرنو بأشكال وألوان

أمضي مع الحق والأهواء حاكمةٌ                   فلا ترى غير أهواءٍ وعبدان

أمضي مع الحق والأسقام ضاريةٌ                  والجسم شلو مدمى بين عقبان

أمضي مع الحق ما دار الجديدان                   ولا سلاح سوى عزمي وإيماني

أمضي ولو سد دربي كل طغيان                  ولو تنكر لي أهلي وإخواني

أمضي وأمضي ولا أصغي لفتّان                من ماكر الانس ومن مارد الجان

الله حسبي.. له قلبي ووجداني                    ووحده القصد في سري وإعلاني