التداوي بين الطبِّ والإسلام

بسم الله الرحمن الرحيم

التداوي بين الطبِّ والإسلام

الحمد لله الذي أنزل لكل داء دواء،وجعل لكل بليّة شفاء،الحمد لله ناشرالأمم،ومنشر الرمم ،بارئ النسم،ومبرئ السقم،مُقدّر الأدواء ومنزّل الدواء،وأشهد أن لا إله إلا الله،شهادة خالصة مخلصة من موبقات الخطل والندم،وأشهد أن محمداً عبده ورسوله،المبعوث بجوامع الكلم،والمرسل إلى كافة العرب والعجم،صلى الله عليه وسلم صلاة دائمة باقية،وعلى آله وأصحابه وسلم ،أما بعد،

فإنّ الطبّ مهنة قديمة عرفها الإنسان وهي رسالة إنسانية شريفة تخُفّف من آلام الإنسانية وقد يتحقق بإذن الله تعالى فيها الشفاء ولأهمية  هذه الصفة  فإن الكتب الإلهية والأوامر الشرعية جعلت علم الأبدان قريبا لعلم الأديان،ولقد كان من تعاليم الإسلام  ومبادئه وشرائعه الحضّ على صحة البدن والإعتناء بالصحة،ومن لوازم ذلك التداوي واللجوء إلى الطبيب عند الحاجة والمرض،وإذا عدنا إلى الأحاديث النبوية الشريفة وجدنا فيها ينبوعا ومَعينا لا ينتهي حول هذا الموضوع،ولا نجد هنالك خلافاً أو اختلافاً حول الفهم الصحيح لهذه الأحاديث،ولكنه وللأسف ومن خلال عصور الجهالة التي أصابت العالم الإسلامي والتي تبدلت فيها كثير من المفاهيم،والتي شاعت وراجت فيها أراء حول مواضيع عديدة،ومنها موضوع التداوي،وبحيث أن اللجوء إلى الطبيب أصبح عند كثير من عامة المسلمين وللأسف أيضا بعض علمائهم أمراً يعارض الإسلام،وزاد الطين بلة فتاوى جُهال أرباع العلماء وعلماء الجهل والسوء،من أجل مصالح شخصية يحصلون عليها ولوعلى حساب عافية وصحة وحياة كثير من المسلمين .

إن هناك وللأسف عدد من المسلمين يجهل ضرورة المعالجة والتداوي،ويجهل أن الإسلام حضّ بل أمر بالتداوي،فتراه وبسبب جهله يُهمل نفسه فيهدّه المرض ويشتدّ به الألم،فلا يستنصح طبيبا ولا يُصغي لقول حكيم أوعالم ،ولأن سألته عن السبب أجابك إجابات متكررة مثل: الشفاء من الله،وإن الله مع الصابرين،وإن الطبيب هو الله إلى غير ذلك ….

نعم إن الإنسان لا يفهم أحيانا لماذا يحُجم بعض المسلمين عن التداوي فتراهم يتألمون ويتعبون وترتفع حرارتهم وتضوى أجسامهم ويشرفون على الهلاك ولا يزورون طبيبا ولا يستأنسون برأيه!!  لماذا ؟ البعض يعلل ذلك بالفقر وهذا قد يكون أحياناً صحيحاً ولكن ما بالك بالذي تيسّرت له المعاينة المجانية ولا يفعل ذلك؟!

لقد أصبح الناس في بلاد الغرب يزور منهم الصحيح المُعافى الطبيب كل سنة بل كل ستة شهور من أجل التأكد من سلامته ومراقبة حاله والكشف عن المرض في بدايته وقبل استفحاله،فما بالنا نحن المسلمين مقصرين!! إن الواحد منا لايزور الطبيب إلا بعد استفحال المرض وحدوث اختلاطاته ومضاعفاته،والوصول إلى حالة لا ينفع معها الدواء،ولربما أيضا الدعاء!! والأدهى من ذلك والأمَّر أن هذه المضاعفات والاختلاطات قد لاتكون ضارةً لحامل المرض فقط،بل قد تتعدّاه إلى من حوله وخاصة عند الإصابة ببعض الأمراض الوبائية المُعدية كالسل أوالحمى التيفية.

إن هذا النفر من الجهال يُشكل عنصراً خطيراً في المجتمع يُشوّه سمعة الإسلام وقد يستغل بعض الخبثاء هذا الجهل وينشروا الدعايات المغرضة والحاقدة عن الإسلام للطعن في مبادئه وتشويه حقائقه،ولكن نقول لهم خَسئتم فانَّ للدين رباً يحميه،ويُظهر نوره وسلطانه على لسان علماء صادقين مخلصين يدافعون عن هذا الدين ويتصدون للجاهلين من أهله والحاقدين من أعدائه.

الصحة الوقائية:

يقول الأستاذ الدكتور أحمد حمدي الخياط والد الدكتور محمد هيثم الخياط رحمهما الله في كتابه”فن الصحة”:

“إن الفرق كبير بين الوقاية من الأمراض وبين معالجتها بعد الإصابة بها،لأن المرض وإن زال من الجسم،إلا أنه قد يترك بعض الأثر.وإن آثار الأمراض التي يصاب بها الإنسان تظهر علائمها عاجلاً أو آجلاً.فما أهم الأمراض التي تتجلى في الشيخوخة من قلبية أو كلوية أو غيرها دون سبب مباشر إلا نتيجة تلك النوازل السابقة في البدن.هذا عدا ما ينال المريض من البؤس والضعف والخسارة المادية فوق آلامه وأوجاعه حال وجود المرض.

ويتابع:”وما يقال في الفرد الواحد يمكن قوله في الشعب والأمة،وذلك لأن قوة الأمة تتجلى بمجموع قوى أفرادها،وإن دخلها يقاس بدخل أفرادها.فالأمة التي تكصر في أفرادها عدم السلامة أو ينزل في ساحتها وباء، أو تستوطن فيها الأمراض تكون عرضة لخسران مادي واقتصادي عظيم،لا بنقص الدخل الحاصل من عدم الاستفادة من عمل أولئك فحسب،بل لما ينفق فوق ذلك لمداواتهم وتمريضهم وإعالتهم والعناية بهم.أضف إلى ذلك ما يحدث من ارتباك في النفوس بسبب تلك الامراض.

هذا وإن النتيجة من المداواة لا تكون واحدة بالنسبة لذات المرض،لاختلاف الأحوال التي يقع فيها والأسباب المهيئة له وبنية المريض ومقاومته وسنه.ولذلك يقال:”لا مرض هنالك بل مريض”.

أما الوقاية الصحية أو الصحة الوقائية فليس فيها هذا الاضطراب والإختلاط إذ أن مايحتاج إليه شفاء بعض الأمراض من التدابير والعقاقير يقوم بدله في الوقاية منه ما هو أقل منه بكثير”.

إن الإسلام هو دين النهضة ودين العلم وهو ضد الجهل وضد التخلف،بل إن دراسة العلوم في الإسلام عبادة،وترك العلم والتعلّم مخالفة ومعصية،ولقد كان لدعوة الإسلام للعلم وطلبه والسعي في الحصول عليه الدور الكبير في ظهور أعداد كبيره من علماء وأطباء المسلمين في عصوره الذهبية وكان كثير منهم يجمعون مابين علوم الدين والدنيا وخاصه علوم الطب والصيدلة ،وكانوا منارات أنارت سراديب الجهل ودياجير الظلام،وسوف أحاول إن شاء الله أن أتطرق لأحكام التداوي في الإسلام،واسأل الله أن يوفقني إلى سداد القول وصواب الرأي،فإن وُفقت فمن الله،وان أخطأت فاسأل الله المغفرة وحسن الجزاء في الدنيا والأخرة.

التداوي سنّة مؤكدة

التداوي لغة :

مصدر تداوى،أي تناول الدواء.وهو مأخوذ من داواه مداواة:أي عالجه.وجمع الدواء أدوية،وهو اسم لما استعمل بقصد إزالة المرض والألم.ويطلق على المرض الداء.والتداوي لايخرج في استعمال الفقهاء عن المعنى اللغوي فهو: ما يكون به شفاء المرض بإذن الله من عقار طبي أو رقية أو علاج طبيعي : كالتدليك ونحوه.

التداوي سنة نبوية مؤكدة،لا تناقض بينها وبين مبدأ التوكل على الله والإيمان بالقضاء والقدر يشهد لذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم  وفعله وهديه وإرشاده لأصحابه،ومعاذ الله أن يقول الرسول صلى الله عليه وسلم أو يفعل ما يتنافى مع التوكل والإيمان بالقدر.

إن الأحاديث الشريفة في التداوي والحضّ عليه كثيرة ومنها:

عن أسامة بن شريك الثعلبي قال كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءت الأعراب فقالوا:يا رسول الله أنتداوى؟ فقال: “نعم يا عباد الله تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء غير داء واحد،قالوا: ماهو؟ قال: الهرم” [رواه أحمد والترمذي والنسائي وأبو داوود وابن ماجه والحاكم، وقال الترمذي حسن صحيح]. وفي رواية للترمذي قال:” تداووا يا عباد الله  فإن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء إلا السأم” (أي الموت)،وفي لفظ “ما أنزل الله عز وجل داء إلا أنزل له دواء  علمه من علمه  وجهله من جهله” [رواه أحمد والطبراني،ورجال الطبراني ثقات كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد ].

وفي رواية ابن ماجة عن أسامة بن شريك قالوا: يا رسول الله هل علينا حرج ألا نتداوى؟  قال:”تداووا عباد الله فإن الله لم يضع داء إلا وضع معه شفاء إلا الهرم، قالوا :يا رسول الله ماخيرما أعطي العبد ؟ قال:خلق حسن” [قال الشهاب البوصيري إسناده صحيح ورجاله ثقات].

وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:” إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء فتداووا ” [أخرجه النسائي وصححه ابن حبان والحاكم كما في فتح الباري].

وعن ابن مسعود رضي الله عنه  عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال”ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء علمه من علمه وجهله من جهله“[ أخرجه النسائي وابن ماجة وصححه الحاكم  وابن حبان كما في الفتح] .

وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”  لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برئ بإذن الله عز وجل” [رواه مسلم وأحمد والحاكم].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء” [أخرجه البخاري والنَسائي وابن ماجة  والحاكم] .

وأما ما يتعلق بفعله وهديه صلى الله عليه وسلم فيدل عليه مايلي:ماورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم في رأسه من شقيقة كانت به. [رواه البخاري] .

وجاء في السنة النبوية أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد اكتوى،كما ورد عدم محبته للكي،وورد فيها الثناء على من تركه، وأيضا النهي عنه.

قال ابن القيم رحمه الله:

“ولا تعارض بينهما بحمد الله،فإن فعله يدل على جوازه،وعدم محبته له لايدل على المنع منه،وأما الثناء على تاركه فيدل على أن تركه أولى وأفضل،وأما النهي عنه فعلى سبيل الإختيار والكراهة،أوعن النوع الذي لا يحتاج إليه بل يفعله خوفا من حدوث الداء والله اعلم” ( كما جاء في زاد المعاد).

وعن علي رضي الله عنه قال لدغت النبي صلى الله عليه وسلم عقرب وهو يصلي فلما فرغ قال: لعن الله العقرب لا تدع مصليا ولا غيره،ثم دعا بماء وملح  فجعل يمسح عليها،ويقرا قل يا أيها الكافرون وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس” [رواه الطبراني في الجامع الصغير،وقال الهيثمي إسناده حسن].

وجاء في الصحيحين عن أبي حازم أنه سئل عن جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : والله إني لأعرف من كان يغسلُ جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان يسكب الماء وبما دُووي،كانت  فاطمة ابنته تغسله،وعلي ابن أبي طالب يسكب الماء بالمِجَّن،فلما رأت فاطمة أن الماءلا يزيد الدم إلا كثرة،أخذت قطعة من حصير فأحرقتها فألصقتها فاستمسك الدم ( نقلاً عن السيرة محمد أبو شهبة ج2 ص200) _والجرح حصل في غزوة أحد _

وعن عروة ابن الزبير عن خالته عائشة رضي الله عنها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثرت أسقامه،وكان يقدم عليه أطباء العرب والعجم”  [رواه الحاكم  في المستدرك وقال صحيح ،وقال الذهبي صحيح على شرط  الشيخين].

وفي رواية قال عروة لعائشة: يا أمتاه لا أعجب من علمك  بالشعر أنت ابنة أبي بكر وكان أعلم الناس،ولكن أعجب من علمك بالطب،فضربته على منكبه وقالت:إن رسول الله صلى الله عليه وسلم  كان يسقم  عند أخر عمره فكانت تقدم عليه وفود العرب من كل وجه فينعت له الإنعات فكنت أعالجه فمن ثم“[ذكره ابن الجوزي وروى شبيهه أبو بكر البزار في مسنده وأبو نعيم في الحلية] .

ويدل عليه إرشاده لأصحابه رضوان الله عليهم ،عن جابر رضي الله عنه قال:بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم  إلى أبي بن كعب طبيباً فقطع منه عرقاً ثم كواه عليه” [رواه مسلم].

وعن مجاهد قال سعد:مرضت فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم  يعودني فوضع  يده بين ثديي حتى وجدت بردها على فؤادي وقال: إنك رجل مفئود  فأتِ الحارث بن كلدة من ثقيف فإنه رجل يتطبّب “[ رواه أبو داوود ].

وعن أبي هريره رضي الله عنه قال: أجيف برجل من الأنصار يوم أحد فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم  طبيبين كانا بالمدينة فقال عالجاه” وفي رواية قالا: يا رسول الله وهل في الطب خير؟ فقال: نعم”.

وعن هلال بن يساف قال: مرض رجل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادعوا له الطبيب فقالوا يا رسول الله تعني الطبيب؟ قال: نعم،وعنه قال دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على مريض يعوده فقال: أرسلوا إلىي الطبيب، فقال له قائل: وأنت تقول ذلك يا رسول الله؟  قال: نعم”.

إذا يستنبط من هذا مايلي:

أولاً: إثبات الطب والمداواة

ثانياً: الحث على استعمال الأدوية وأن التداوي من أسباب الشفاء

ثالثاً: التشجيع على إيحاد مختصين بالعلاج والمداواة والحث على العلم والتجريب

وعلى هذا ظهر كثير من الأطباء المسلمين الذين كانوا في طليعة العلماء في عصرهم مثل الرازي وابن سينا وابن حيان وابن الهيثم وابن البيطار وغيرهم.

رابعاً: تقوية نفس المريض ورفع معنوياته،فإذا استشعرت نفسه أن لدائه دواء يعالجه،تعلقت نفسه بأمل الرجاء،وقويت معنوياته،وذهب توهمه الذي هو عدوه الثاني بل الرئيسي بعد المرض.

خامساً: في قوله صلى الله عليه وسلم  إذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله تعالى،فإن الرسول صلى الله عليه وسلم علق البرء بموافقه الدواء للداء،وهذا قدر زائل على مجرد وجود الدواء،فلا بد من أن يكون للدواء مقدارا معيناً ليؤثر،وأن زيادة الدواء كنقصه،قد يضر ولا يفي بمقاومة المرض.

يقول الإمام ابن القيم في الطب النبوي:

“ويجوز أن يكون قوله :”لكل داء دواء” على عمومه ،حتى يتناول الأدوية القاتلة،والأدواء التي لا يمكن طبيباً أن يبرئها،ويكون الله عز وجل قد جعل لها أدوية تبرئها ولكن طوى علمها عن البشر ولم يجعل لهم إليها سببا لأن لا علم للخلق إلا ما علمهم الله . ولهذا علق النبي صلى الله عليه وسلم الشفاء على مصادفة الدواء للداء .فإنه لاشيئ من المخلوقات إلا له ضد ،فكل داء له ضد من الدواء :يعالج بضده .فعلق النبي صلى الله عليه وسلم البرء بموافقة الداء للدواء .وهذا قدر زائد على مجرد وجوده فإن الدواء متى جاوز درجة الداء في الكيفية أو زاد في الكمية على ما ينبغي نقله إلى داءأخر ،ومتى قصر عنها لم يف بمقاومته وكان العلاج قاصراً ومتى لم يقع المداوى على الدواء لم يحصل الشفاء،ومتى لم يكن الزمان صالحاً لذلك الدواء لم ينفع،ومتى كان البدن غير قابل له ـ أي مايعرف بالطب الحديث الحساسية له  ـ أو القوة عاجزة عن حمله،أو ثمَّ مانع يمنع من تأثيره لم يحصل البرء لعدم المصادفة ومتى تمت المصادفة حصل البرء ولابد”.

سادساً:  إن هذه الأحاديث تبشر المسلمين والناس كافة بأنه لا يوجد في الدنيا داء إلا له دواء،ماعدا الهرم،والموت،وهذا يساعد في تنشيط الأبحاث العلمية والتجارب السريرية وعدم الإحباط واليأس،وكم من أمراض كان يُظن لا علاج لها وتم الشفاء منها حالياً  كمرض السل وذوات الرئة والتهابات الكبد والكثير من الحُميّات،وكذلك الحال في بعض أنواع الأورام والسرطانات.

يقول الدكتور إبراهيم الراوي :” إن كل الأمراض حتى الآفات المستعصية والإصابات السرطانية الخبيثة سوف يكتشف لها دواء،وسيظهر في يوم من الأيام،ولقد شاهدنا في السنوات الأخيرة تقدم الأبحاث العلمية،والإكتشافات الدوائية مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم.

ويقول الشيخ علي الطنطاوي:

”  إن الله وضع في هذا الكون دواء لكل داء،ولكن لم يضع الدواء في مكان بارز للعين،ولم يجعله جاهزا معداً للاستعمال،بل جعله تعالت حكمته مخبوءا في أوضاع عجيبة،وفي أماكن لا يظن أنه موجود فيها،فالبنسلين الشافي وضعه ربنا في العفن الأخضر الذي يبدو انه سُّم مميت،كما أنه وضع الشفاء في بعض الأمراض وخاصة الجلدية منها في ماده سوداء قبيحه اسمها” القطران” ومنه أيضا تستخرج العطور والألوان”.

سابعا: حرص الإسلام على الطب العلاجي،وأن هذا متروك لإجتهاد الناس،وليس هذا قصورا في الدين،ولكن لحكمة عظيمة مقصودة لذاتها،وذلك لان الطب العلاجي يعتمد على التشخيص  والمعالجة ،وأن هذا قد يتغير كل يوم  باكتشاف دواء جديد وأجهرة علمية تشخيصية جديدة،وأما الطب الوقائي فقد وضع له الإسلام أسس عريضة عامة تتناسب مع كل زمان وكل مكان،لأن قواعد الطب الوقائي حقائق علمية ثابتة، وأما الطب العلاجي فانه يتطور مع الزمان والمكان.

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله :

“كان هديه صلى الله عليه وسلم فعل التداوي في نفسه والأمر به لمن أصابه مرض من أهله وأصحابه،ولكن لم يكن من هديه ولا من هدي أصحابه استعمال هذه الأدوية المركبة التي تسمى أقراباذين،بل كان غالب أدويتهم المفردات وربما أضافوا إلى المفرد ما يعاونه أو يكسر سورته وهذا غالب طب الأمم على اختلاف أجناسها:من العرب والترك وأهل البادية قاطبة .وإنما عني بالمركبات الروم واليونانيون وأكثر طب الهند بالمفردات .وقد اتفق الأطباء على أنه متى أمكن التداوي بالغذاءلايعدل إلى الدواء،ومتى أمكن بالبسيط لايعدل إلى المركب .قالوا :وكل داء قُدر على دفعه بالأغذية والحمية لم يحاول دفعه بالأدوية .قالوا :ولا ينبغي للطبيب أن يولع بسقي الأدوية فإن الدواء إذا لم يجد في البدن داء يحلله أو وجد داء لا يوافقه،أو وجد ما يوافقه فزادت كميته تشبث بالصحة وعبث بها (نقلاً عن الطب النبوي لابن القيم) .

لا تضاد بين التداوي والتوكل على الله والإيمان بالقدر

إن التداوي من أعمال الجوارح،والتوكل من أعمال القلب،وبكليهما أمرنا،ولا تنافي في شرع الله تعالى مادام ضمن حدود هذا الشرع.

إن تعاطي الدواء واستعمال العلاج لا يتنافى مع التوكل  فالتداوي هو أخذ بالأسباب التي أوجدها الله تعالى وسننها،وربط بها مسبباتها من الشفاء والأمراض،وأما التوكل فهو عمل قلبي  في الإعتماد على مسبب الأسباب في نجاحها والثقة به والرضى بقضائه. إن الأخذ بالأسباب من جهة، أي التداوي،والتوكل على الله من جهة أخرى  يبعث على الطمأنينة في النفس،ويبعدها عن القنوط واليأس،ويفتح باب الأمل الواسع في الشفاء وهذا له أهميته الكبرى في تنشيط النفس المريضة  وتقوية معنوياتها  وزيادة مقاومتها للمرض،  وهذا يعتبر من دعائم العلاج  ونجاحه الرئيسية كما أثبت الطب الحديث، وأما عدم تنافي التداوي مع الإيمان بالقدر فيشهد له ماورد عن أبي خزامة قال :قلت يا رسول الله أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به وتقاه نتقيها هل ترد من قدر الله شيئا ؟فقال: هي من قدر الله” [رواه الترمذي وقال حسن صحيح.]  وفي هذا الحديث  إثبات للأسباب والمسببات،وإبطال قول من أنكر التداوي متعللاً بالقضاء والقدر،ومستشهداً بقوله تعالى في سوره الشعراء { وإذا مرضت فهو يشفين }وهذا فهم خطأ،ولايعني عدم التداوي،لأن سيدنا إبراهيم عليه السلام  ربط الشفاء بالله تعالى وهذا لاخلاف عليه، فالتداوي وسيلة من الوسائل ولكن  الشفاء دوما مقترناً بالله تعالى،وإن تناول الدواء أي الأخذ بالأسباب المادية يجب أن يقترن دوماً بأن الدواء والطبيب وسيلة وان الله هو الشافي على كل حال،ولذا يقترن الدواء دوماً مع الدعاء، وهذا مانراه في قصة مرض سيدنا أيوب عليه السلام حيث لم يفتر قلبه ولسانه وجوارحه عن الدعاء في مرضه ومحنته {وأيوب إذ نادى ربه أني مسّني الضرّ وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له فكشفنا مابه من ضر} [الأنبياء 83]، {واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب  اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب}.

نعم إن الدواء يشفي ولكن بمشيئه الله، وإذا وافق الدواء الداء وهذا هو الإعجاز في الحديث الشريف ” لكل داء دواء فإذا أصاب دواء الداء برئ بإذن الله عز وجل” [رواه مسلم].

ونعود إلى قصة سيدنا أيوب عليه السلام،حيث نجد أدب الأنبياء في مرضهم ،وتعاملهم مع  ربهم وهذا يجب أن يكون مثالاً لكل مسلم أصابه المرض وكيف يدعو ربه.

يقول د. بكر إسماعيل في قصص القرأن الكريم :”كان أيوب عليه السلام كثير المال والولد  فَسُلِب منه ذلك كله ، وابتلي في جسده بأنواع البلاء فصبر صبراً جميلاً حتى صار صبره مضرب الأمثال وقد حكيت حول قصته حكايات شعبية لاأساس لها من الصحة ولا تمت إلى الواقع بصلة .ذكر الله قصة هذا النبي الصبور في سورة الأنبياء وسورة ص فأجمل وفصَّل فقال :{وأيوب إذ نادى ربَّه أنّي مسَّنيَ الضُّرُّ وأنت أرحم الراحمين} [الأنبياء 83]، والضر هو أشد أنواع البلاء،وقد فسَّره الله تعالى بقوله في سورة ص :{واذكر عبدنا أيُّوبَ إذ نادى ربَّه أنّي مَسَّنيَ الشَّيطان ُبِنُصبٍ وعذاب}[ص 41]، والنصب : هو أشد التعب،والعذاب : هو شدة الألم .

ويفهم من هذا أن أيوب قد مرض مرضاً شديداً موجعاً لكنه غير مُنّفِر،لأن الأنبياء مُنزهون عن الإصابة بالأمراض المنفرة ، فكيف يقال أنه مرض مرضاً عضالاً حتى أكل الدود من جسمه ونفر منه قومه !! إن هذا لمنكر من القول وزور .ويقول الله عز وجل :{ فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضُرٍّ}[الأنبياء 84] . ويبين في سورة ص الكيفية التي كشف بها ضره فيقول : {اركُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغتَسَلٌ باردٌ وشراب} ٌّ[ص42] ،أي استجبنا له دعاءه،فأمرناه أن يضرب الأرض برجله فضربها فانبعثت منها عين ماء ، وأشرنا عليه أن يغتسل منها ويشرب ، فلما اغتسل منها وشرب برئ من أدوائه كلها ، وصار سليماً معافى كأن لم يكن به علة ، فكان دواؤه تحت قدميه وأقرب شئ إليه ولكن لكل أجل كتاب .

وهذه القصة وصفت في سورة الأنبياء بأنها ذكرى للعابدين ، ووصفت في سورة ص  بأنها ذكرى لأولي الألباب، لبيان أن العابدين هم أولو الألباب ، لأنهم عرفوا الله فعبدوه واستمروا في عبادته وطاعته مخلصين له الدين .لقد أعطي أيوب عليه السلام فشكر ،وابتلي فصبر، فكان مثلاً لخيار الشاكرين  والصابرين .انتهى الكلام

وانظر إلى أدب هذا النبي الصابر في دعائه وخطابه لرب العالمين فهو يقول لربه:{مسني الضر}ولم يقل أصابني أو ضَرني،وهو يدعو الله بأجلّ أسمائه الحسنى “أرحم الراحمين” ويترك الأمر لكاشف الضر فهو الرحيم ويترك له التفويض كاملا في دفع البلاء .

يقول الإمام ابن القيم:

” جمع في هذا الدعاء حقيقة التوحيد وإظهارالفقر والفاقة إلى ربه ،ووجود طعم المحبة والإقرار له بصفه الرحمة وأنه ارحم الراحمين،والتوسل إليه بصفاته سبحانه،وشدةحاجته إليه،وفقره إليه،ومتى وجد المُبتلى هذا كُشفت عنه بلواه “.

نعم إن الشفاء بيد الله لا بيد الطبيب ولا بنوع الدواء ، فكم من ميؤوس من شفائه ،حار به الأطباء ونالهم اليأس من شفائه شفاه الله من بلواه،وكم من مريض ظن أن حالته بسيطة وأن جرعة من الدواء كافية للشفاء وجاءه الموت من حيث لم يحتسب ولم يحتسب له الأطباء.

يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله(الرسالة العدد752):

“إذ رب مريض يستشير أكابر الأطباء،ويجلب أندر العقاقير،ويحظى بكامل العناية،ثم يموت،وآخر أصابه مثل مرضه فبرىء بأيسر العلاج،وأقل الجهد،فالطبيب دال،ولكن الله الموصل ،والرسول هاد مرشد،ولكن الله هو الهادي الموفق لاتباع الرشاد،وفي الوجود شيء يدخل في طاقة الإنسان،وأشياء لا تدخل في طاقته،فإذا فعل كل ما يقدر عليه ،ولم يبقى عليه إلا الالتجاء لقوة خفية قادرة على ما  لاتقدر عليه قوته،فعليه بالالتجاء إلى الله وحده،واعتقاد أنه هو الذي يضر وينفع،فإن التجأ إلى غيرها،إلى نبي أو ولي ،حي أو ميت،يؤمن به يستطيع أن يعينه هذه المعونة الغيبية،فهذا هو الشرك الذي جاء الإسلام لإبطاله”.

ولقد حاول البعض رفض الأخذ بالتداوي وقال إنها لاتفيد، ويستشهد على ذلك بأقوال البعض من أهل السلف، ونقول له إن التداوي مطلب شرعي،ولكن هنالك حالات لا ينفع فيها التداوي فلا يصبح فرضا وإنما مباح.

يقول الدكتور محمود ناظم النسيمي:

“إن اختلاف السلف حول أفضلية التداوي إنما هو لواقع الطب في زمانهم من ضعفه وكثرة الظنيات في التشخيص والمعالجة، وندرة الأدوية النوعية للأمراض،أما إذا نظرنا إلي ماتوصل إليه الطب الحديث والى مجموعة  الأحاديث النبوية الواردة في المداواة فإننا نستطيع أن نقول إن التداوي تعتريه الأحكام الخمسة والله أعلم:

أولا:أنه مباح بالمباحات،إذالم يغلب على الظن فائدته،كما في مداواة بعض أنواع السرطان وخاصة إذا انتشر ولم يكافح في بدايته وهذا ينطبق أيضا على الحالات إذا كان المريض قد تداوى ولم يفده الدواء أو اكتشف أنه لا دواء لعلته،أوكوشف بقرب أجله،وعلم أنه لا طب مع مرض الموت،ولعل هذا يفسر لنا قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه في مرض موته عندما سئل لو دعونا لك طبيباً  فقال: ” الطبيب نظر لي وقال إني فعّال لما أريد”.

جاء في تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر الهجري (ج1 ص57):”لما مرض مفتي الشام محمود حمزة (1821_1887) مرض الموت رأى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له :كيف دخلت يامحمود ؟وكيف خرجت ؟ فأجابه : دخلت على أنك رسول الله وخرجت على أنك رسول الله . ورفض بعد هذه الرؤيا التداوي وتناول الدواء ووقع في قلبه أن أجله قد دنا”،وجاء في نفس المرجع أيضاً (ج2 ص 838 )” لما أحس الشيخ  عبد الوهاب دبس وزيت رحمه الله  دنو أجله امتنع عن تناول الأدوية وقال : لم يعد دوائي عندكم بل عند ربي في الجنة”.

وقد يكون المريض مشغولا بذكر عاقبته عن حاله،وعليه يحمل جواب أبي الدرداء،وفي رواية أخري ابن مسعود فقد قيل له في مرضه ما تشتكي؟ قال: ذنوبي،قيل فما تشتهي؟قال:مغفرة ربي قالوا :ألا ندعو لك طبيبا؟ قال الطبيب أمرضني (عيون الأخبار ابن قتيبة ج3-4 ص48)،يقول الإمام الغزالي في الإحياء معلقاً حول هذه الحادثة ” كان تألم قلبه خوفاً من ذنوبه أكثر من تألم بدنه بالمرض،ويكون هذا كالمصاب بموت عزيز من أعزته،أو كالخائف الذي يُحمل إلى ملك من الملوك  ليقتله إذا قيل له :ألا تاكل وأنت جائع؟ فيقول: أنا مشغول عن ألم الجوع،فلا يكون ذلك إنكارا لكون الأكل نافعاً من الجوع،ولا طعناً فيمن يأكل”. وكذلك يُحمل جواب أبي ذر فقد قيل له وقد رمدت عيناه لو داويتهما؟قال: إني عنهما مشغول،فقيل له:لو سالت الله تعالى  أن يعافيك ؟ قال: أسأله فيما هو  أهم علي منهما”.

وجاء في عيون الأخبار لإبن قتيبة (كتاب الزهد ص 308):”قيل للربيع بن خيثم في مرضه: ألا ندعو لك طبيباً؟ قال أنظروني،ثم فكر فقال : {وعاداً وثمودَ وأصحابَ الرَّسِ وقروناً بين ذلك كثيراً }[الفرقان 38] قد كانت فيهم أطباء  فما أرى المداوي بقي ولا المُداوى ،هلك الناعت والمنعوت،لا تدعوا لي طبيبا (وقد مات بعد إصابته بالفالج) .

وقد يكون المريض من أهل الصلاح ولكنه وللأسف ليس عنده العلم الكافي حول موضوع التداوي ومن الذين فهموا التوكل خطأ،فأهملوا الأسباب،وهذا ليس نادرا. جاء في عيون الأخبار لإبن قتيبة (كتاب العلم والبيان باب الأهواء والكلام في الدين ص141):”كان مسلم بن أبي مريم،وكان مولى لبعض أهل المدينة،وقد حُمل عنه الحديث شديداً على القدرية عائباً لهم  ولكلامهم فانكسرت رِجله،فتركها ولم يجبرها،فَكُلِمَ في ذلك فقال : يكسرها هو وأجبرها أنا! لقد عاندته إذاً”!!

ثانياً: أنه مندوب تجاه استعمال الأدوية :التي يغلب الظن بنفعها سواء في الشفاء أوتلطيف أعراض المرض  كالمسكنات في حالات الآلام الشديدة .

ثالثا: أنه واجب تجاه استعمال الأدوية قطعيه الفائدة:بإخبار الأطباء إذا خاف المريض أو طبيبه أن يقعده المرضعن القيام بالواجبات المختلفة تجاه الله والناس،وكذلك إذا خاف على حياته أو تلف أحد أعضاء جسمه.

رابعاً : أنه مكروه بإستعمال الأدوية المكروه إعطائها: مع توفر أدوية اخرى بديلة مباحة.

خامساً: أنه محرم باستعمال المحرمات من الأدوية: دون اضطرار لاستعمالها .

وجاء في مجمع الفقه الإسلامي ص 147 :وتختلف أحكام التداوي باختلاف الاحوال والأشخاص:

1ـ فيكون واجباً :على الشخص إذا كان تركه يفضي إلى تلف نفسه أو أحد أعضائه أو عجزه ،أو كان المريض ينتقل ضرره إلى غيره،كالأمراض المعدية .

2 ـ ويكون مندوباً: إذا كان تركه يؤدي إلى ضعف البدن ولا يترتب عليه ماسبق من الحالة الأولى.

3ـ  ويكون مباحاً: إذا لم بندرج في الحالتين السابقتين

4 ـ ويكون مكروهاً: إذا  كان يخاف منه حدوث مضاعفات أشدّ من العلة المراد ازالتها .

وأما علاج الحالات الميؤوس منها :

_مما تقتضيه عقيدة المسلم أن المرض والشفاء بيد الله عز وجل،وأن التداوي والعلاج أخذ بالأسباب التي أودعها الله تعالى في الكون،وأنه لا يجوز اليأس من روح الله،أوالقنوط من رحمته بل ينبغي بقاء الأمل في الشفاء بإذن الله .وعلى الأطباء وذوي المرضى تقوية معنويات المريض ،والدأب في رعايته وتخفيف آلامه النفسية والبدنية بصرف النظر عن توقع الشفاء أو عدمه.

إن مايعتبر حالة ميؤوساً من علاجها هو بحسب تقدير الأطباء وامكانات الطب المتاحة في كل زمان ومكان وتبعاً لظروف المرضى.

إذن المريض :

يشترط إذن المريض للعلاج إذا كان تام الأهلية ،فإذا كان عديم الأهلية أو ناقصها أُعتبر إذن وليه حسب ترتيب الولاية الشرعية ووفقاً لأحكامها التي تحصر تصرف الولي فيما فيه منفعة المولي عليه ومصلحته ورفع الأذى عنه .على أن لا يُعتد بتصرف الولي في عدم الإذن إذا كان واضح الضرر بالمولى عليه،وينتقل الحق إلى غيره من الأولياء ثم إلى ولي الأمر.

ـ لولي الأمر الإلزام بالتداوي في بعض الأحوال،كالأمراض المعدية والتحصينات الوقائية

ـ في حالات الإسعاف التي تتعرض فيها حياة المصاب للخطرلا يتوقف العلاج على الأذن

-لا بد في اجراء الأبحاث الطبية من موافقة الشخص التام الأهلية بصورة خالية من شائبة الإكراه ـ كالمساجين ـ او الإغراء المادي ـ كالمساكين ـ ويجب أن لا يترتب على إجراء تلك الأبحاث ضرر .ولا يجوز إجراء الأبحاث الطبية على عديمي الأهلية أو ناقصيها ولو بموافقة الاولياء.

قواعد الاستعانة بالتداوي

 أولا:الإستعانة المشروعة والإستعانة الممنوعة :

يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله : إذا مرض ولدك  وكان الطبيب إلى جوارك يسمع كلامك فدعوته ففحص عن المرض ووصف له الدواء  كانت هذه استعانه مشروعة،لأنك استعنت على الشفاء بالقانون الطبيعي الذي وضعه خالق الكون وبالرجل العالم بهذا القانون،ولكن إن دعوت دجالا أو ساحرا ليعمل على شفائه بلا علم ولا قانون بل بقوى غيبية يزعم الإتصال بها لم يثبت وجودها بالعلم الحسي،ولا بالدليل السمعي كآية أو حديث ثابت مثلا،كانت استعانه ممنوعة.

ثانيا:وإن عجز العلم ولم ينفع الدواء فتوسلت إلى الشفاء بالدعاء أو بالصدقة،أو طلبت من رجل صالح أن يدعو لك،كانت هذه استعانة مشروعة،وإن وقفت على قبر رجل صالح فاستعنت به وهو لايملك تحريك لسانه بالدعاء لك ،ولا يقدر من عند نفسه على شفاء مريضك  كانت هذه استعانة ممنوعة.

ويقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله ىفي مقال آخر (نور وهداية بعنوان يا الله):

“وأنا لا أقول:اتركوا المريض بلا دواء واسألوا الله الشفاء.ولا أقول:دعوا النار تمشي في الدار،لا تصبوا عليها دلو ماء واسألوا الله الإطفاء. ولا أقول: اقعدوا لا تطلبوا الرزق وانتظروا أن يهبط عليكم الذهب من السماء.

لا،بل اتخذوا الأسباب كلها واعملوا ما استطعتم،ولكن اعلموا أن الأسباب لا تخلق النتيجة،فقد تُحضر لمريضك مَهرة الأطباء وتشتري غالي الدواء فلا يشفى،ويشفى مريضٌ مثله بلا عناية ولا علاج.

ذلك أن وراء الأسباب إرادة عليا تصرّف هذا الكون،هي إرادة الله،فأنت حين تدعو الله تقول: يا اللله،أنا عملت ما عليّ ولكن النفع والضرر بيدك وحدك،أنت إن شئت تجعل الدواء شافياً،وأنت تجعل إن شئت الطعام نافعاً،وأنت الرازق وأنت النافع،فاكتب لي النجاح وأجب السؤال.

فالأسباب لا تُنكر،ولكن الدعاء هو أقوى الأسباب.

فإذا وصل الداعي إلى منزلة الاضطرار ويئس من الأسباب،وقنط من الخلق وعلّق أمله بالله وحده،فإن الله يستجيب له.قال تعالى:{أمّن يُجيبُ المُضطر إذا دعاهُ ويكشفُ السّوءَ ويجعلكم خلفاء الأرض أإلهٌ مع الله قليلاً ما تذكّرون}.يجيب المضطرَّ ولو كان كافراً”.

ثالثا: وتوسلك إلى الشفاء بسقي المريض الدواء الذي وصفه لك الطبيب مشروع،ولكن إن أخذت الوصفة فجعلتها حجابا علقته بعنق المريض أو نقعتها وسقيته ماءها،واعتقدت أن ذلك يشفيه فذلك ممنوع.

رابعاً: وطلبك النفع بأشياءلم يجعلها الله سببا ظاهرا ممنوع ،فالمرأة العاقر التي تشتهي الولد إذا استعانت بطب الأطباء وبالأدوية التي انزلها الله المستخرجة من وفق قوانين العلم لم تأت أمرا ممنوعا ولم تخالف الدين،ولكن إذا اعتقدت قرع حلقة جامع الحنابلة في جبل قاسيون أول جمعة من رجب يسبب لها الحمل،أو توسلت إلى ذلك بوضع خرقة على شباك أحد القبور تكون قد ارتكبت ممنوعا وخالفت عقيدة التوحيد. انتهى كلام الشيخ الطنطاوي.

إننا كما تقول السيدة ريم الكيلاني (مجلة العربي العدد 345 أب 1987):

“لم تزل وصفات جداتنا وأمهاتنا هي أسلوب العلاج للكثير من الأمراض رغم العلم وتقدم الطب،ورغم ما تسببه من نتائج وخيمة،ولم يزل العلاج بالوصفات الشعبية قائما حتى اليوم،وما زلنا على الرغم من تقدم العلم  في كثير من مناطقنا ولا سيما القرى والأرياف والأحياء الفقيرة نعالج الجرح  بالبن المطحون،أو برماد السجائر،أو بالتراب،ونسقي أطفالنا الصغار الخشخاش المغلي لكي يناموا ليلا،وكثيراً من الأمهات مازلن يدلكن أجسام المواليد الجدد بالملح والزيت مدة أربعين يوما لمنع التهاب الجلد أو ظهور الحبوب،وللأسف فإن كثيراً من النساء وخاصة المتقدمات بالسن يعبن اللجوء للطبيب واستعمال العقاقير الجديدة باعتبار أن الأدوية الحديثة تزيد الوفيات ولا تقلل منه.

وهناك من يلجا في المعالجة لأمورنهى رسول الله صلى الله  عليه وسلم عنها،قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” من علق تميمة فلا أتمّ الله له،ومن علقّ ودعة فلا ودع الله له” [رواه أحمد والحاكم  والطبراني  عن عقبة بن عامر ]،وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”من أتى عرافاً أو كاهناً فصّدقه بما يقول  فقد كفر بما أنزل على محمد“،وجاء في الحديث الشريف” أن الرقى والتمائم والتوله شرك” [ رواه أحمد وأبو داود والبيهقي والحاكم وصححه الذهبي]. ( والتوله :لون من السحر تلجأ اليه المرأة تتحبّببه الى زوجها فيما تزعم،والرقى جمع رقية وهي أن يرقى الشخص ويعزم عليه بكلام لا يفهم ).

يقول الدكتور القرضاوي( في الحلال والحرام):

”  إنّ تعليق التمائم والودع ونحوها على اعتقاد أنها تشفي من المرض أو تقي منه حرام شرعاً،ومازال من يعلق على بابه حذاء فرس،وما زال بعض المضللين في بلادنا يستغلون جهل الدهماء ويكتبون لهم حجبا وتمائم يخطون فيها خطوطاً وطلاسم ويتلون عليها أقساما وعزائم ويزعمون أنها تحرس حاملها من اعتداء الجن،أو مسّ العفاريت،أوشر العين والحسد إلى أخر مايزعمون”.

وجاء في فيض الخاطر لأحمد أمين (ج3 ص71):

“وثم ضروب أخر من هذا الباب كالأحجية وأنواعها،والأحراز لدفع العين على اختلاف أشكالها،والتعاويذ لشفاء الأمراض وجلب الأزواج،وبث العداء ،واسترضاء النافر وتحنين القلوب، ثم طب البركة وأفانينه وأعاجيبه،والإعتقاد في ساعات النحس وساعات الوفق،ثم السحر والطوالع والتنجيم”.

ويقول الأستاذ أحمد أمين( في كتابه فجر الإسلام ص39) :

“في مثل هذا الطور الذي كانت تمر به العرب في الجاهلية يتجلى ضعف التعليل،أي عدم القدرة على فهم الإرتباط بين العلة والمعلول والسبب والمسبب فهماً تاماً،يمرض أحدهم ويألم من مرضه فيصفون له علاجاً،فيفهم نوعاً ما من الإرتباط بين الدواء والداء،ولكن لا يفهمه فهم العقل الدقيق الذي يتفلسف،يفهم أن عادة القبيلة أن تتناول هذا الدواء عند هذا الداء،وهذا كل شئ في نظره ،لهذا لا يرى عقله بأساً من أن يعتقد أن دم الرئيس يشفي الكَلَب،أوأن سبب المرض روح شريرة حلّ فيه فيداويه بما يطرد هذه الارواح أو أنه إذا خيف على الرجل الجنون نجسوه بتعليق الأقذار وعظام الموتى،إلى كثير من أمثال ذلك،ولا يستنكر شيئاً من ذلك مادامت القبيلة تفعله،لأن منشأ الاستنكار دقة النظر والقدرة على بحث المرض وأسبابه وعوارضه ،وما يزيل هذه العوارض،وهذه درجة لا يصل إليها العقل في طوره الأول” .

ويقول ابن خلدون في مقدمته :

“وللبادية من أهل العمران طب يبنونه في غالب الأمر على تجربة قاصرة على بعض الأشخاص،متوارثة عن مشايخ الحي وعجائزه،وربما يصح منه البعض،إلا أنه ليس على قانون طبيعي،ولا على موافقة المزاج .وكان عند العرب من هذا الطب كثير  وكان فيهم أطباء معروفون كالحارث بن كِلدة وغيره” .

ونحن كأطباء لانرفض كل الممارسات الشعبية،وكل الوصفات الشعبية، بل إننا أحيانانصفها ولكن لا بد من سؤال الطبيب حتى تكون الفائدة أكبر،إننا وللأسف كما يقول الدكتور محمد مروان النحاس (في مجله العربي العدد 376 اذار (1990:إن كثيرا من الناس يخافون أصلا من الطبيب وكم سمعنا عن مرضى انسحبوا خلسه من المشفى خشية اجراء عملية جراحية مقررة، أو تخلصوا من يدي طبيب الأسنان مخافة قلع ضرس أو الإحساس بآلة الحفر داخل الفم،وكثيرا من الأهل يخوفون  أطفالهم  بأخذهم إلى الطبيب كي يزرقهم حقن عضليه مؤلمة،وحين تقع الواقعة لا يكاد الطفل يرى وجه الطبيب حتى يملأ العيادة صراخا وعويلا من شدةالخوف المزروع في نفسه”.

الطبيب والمُتطبب

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم  “من تطبّبَ ولم يعلم منه الطبّ فهو ضامن“[ رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة  والحاكم عن ابن عمر رضي الله عنهما].

ان في هذا الحديث الشريف تحذير شديد من أنه لابد من اللجوء إلى أهل الخبرة والعلم عند التداوي،وحذر أدعياء الصحة والمُتطببين بغير علم  بأنهم ضامنون لما ينجم من أضرار نتيجة جهلهم،او تعديهم في الصنعة، وكما أنه لابد في الأحكام الفقهية من الرجوع إلى أهل الفقه والفقهاء، فإنه كذلك عند الرجوع إلى المعالجة والتداوي لابد من الرجوع إلى أهل الاختصاص والعلم من الاطباء،والا كانت العاقبة  وبيلة وخيمة على الُمداوي والمتداوي،وحينما أفتى بعضهم عن غير علم الرجل المشجوج الذي أصابته الجنابة بعدم جواز التيمم  وأمروه بالاغتسال، فاغتسل ومات،فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر غضب وقال :”قتلوه قتلهم الله هلا سألوا إذا لم يعلموا  إنما شفاء العي السؤال“،ونص الحديث كاملاعن عطاء بن رباح قال سمعت ابن عباس يخبر أن رجلا أصابه جرح في رأسه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم  ثم أصابه احتلام فاُمر بالاغتسال فاغتسل فكزّ فمات،فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال:” قتلوه  قتلهم الله أولم يكن شفاء العي السؤال”  رواه ابن ماجه وابو داود ،وفي رواية  عن جابر أنه قال: ألا سالوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العيّ السؤال” [رواه ابو داود، وأورده الماوردي بلفظ هلا].

جاء في كتاب الآداب الشرعية لابن مفلح:

“ينبغي(للمرء)أن يستعين في كل شيء بأعلم أهله كما عليه نظر عقلاء الناس،لأن الأعلم أقرب إلى الإصابة.ولمالك في الموطأ عن زيد بن أسلم أن رجلاً في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابه جرح،فاحتقن الجرحُ الدم،وأن الرجل دعا رجلين من بني أنمار فنظرا إليه،فزعما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما:أيكما أطبّ؟فقالا:أو في الطب خير يا رسول الله؟فزعم زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:أنزل الدواء الذي أنزل الأدواء.

فأما الجاهل فلا يستعين به.قال ابن عقيل في (الفنون):جهال الأطباء هم الوباء في العالم،وتسليم المرضى إلى الطبيعة أحب إليّ من تسليمهم إلى جهال الأطباء.

يقول الأستاذ عصام العطار :

” وكما يضرّ من يعالج المرضى دون دراية بالطب أو يقتل وهو يريد لمن يعالج المنفعة والحياة، كذلك يضر الجاهل الذي يعالج أدواء أمته وبلاده بجهله وقلة خبرته،وقد يكون سببا من أسباب الهلاك،ولم يعد هنالك الآن طبيب واحد يعالج معالجة حقيقية وافية كل مرض من الأمراض،وكل جارحة من جوارح الإنسان،فقد تعددت الاختصاصات،وتفرعت وتعمقت،وما زال تتفرع وتتعمق على الأيام،ولم يعد هناك بد من تكامل الاختصاصات  والخبرات  لمعالجة مختلف ما يطرأ على الانسان جسديا ونفسيا من الإصابات والأمراض،بل ربما احتاج  أصحاب الاختصاص الواحد في الجانب الواحد إلى التعاون والتداول للوصول إلى التشخيص الأفضل والعلاج الأكمل”.

ويقول الإمام ابن القيم تعليقاً على الحديث النبوي الشريف من تطبب،يقول:

” إن في قوله صلى الله عليه وسلم من تطبّب ولم يقل من طبّ  بتشديد الباء،لأن لفظ  التفعل يدل على تكلف الشئ والدخول فيه بعسر وكلفة،وأنه ليس من أهله  كتحلّم  وتشّجع  وتصّبر ونظائرها، ويتابع ” وأنه في حالة التطبب ممن ادعى الطب فإن الحديث يوجب إيجاب الضمان على الطبيب الجاهل  فاذا تعاطى علم الطب وعمله ولم يتقدم له به معرفة فقد هجم بجهله على إتلاف النفس،وأقدم بالتهور على ما لم يعلمه فيكون قد غرر بالعليل فيلزمه الضمان لذلك،وهذا إجماع من أهل العلم ( وهذا الموضوع يمكن الرجوع اليه بالتفصيل  في كتاب الطب النبوي لابن القيم ص109)

وعالج الإمام جلال الدين السيوطي في مؤلفه الطب النبوي هذا الموضوع ففرق مابين المتطبب والطبيب ومسؤوليه كل منهما،فقال “إن المتطبب هو متكلف الطب غير المأذون فيه وقال عن الطبيب أنه العالم بالطب  المجاز في تعاطيه”.

صفات الطبيب المعالج

اذا الطبيب هو المجاز وليس من كلف نفسه وحمل نفسه مالاتحتمل،ولابد ان يتحلّى ببعض الصفات:

يقول الإمام ابن القيم في كتاب الطب النبوي ومدلول الطب والطبيب: ” إن كلمة الطب لها ثلاثة مدلولات: لغوي وفقهي وطبي

فأما من الناحية اللغوية: فالطِب (بكسر الطاء ) في لغةالعرب على عده معان:

أولاً: الإصلاح:

يقال: طببته إذا  أصلحته،ويقال له :طبّ بالأمور أي له لطف وسياسة، قال الشاعر:

واذا تغير من تميم أمرها                   كنت الطبيب لها برأي ثاقب

ثانياً :الحذق:

قال الجوهري: كل حاذق طبيب عند العرب،قال أبو عبيد: أصل الطب  الحذق بالأشياءوالمهاره بها،يقال للرجل طب وطبيب إذا كان كذلك،وإن كان في غير علاج المريض،وقال غيره رجل طبيب أي حاذق،قال علقمة بن الطبيب:

فإن تسألوني بالنساء فإنني              خبير بأدواء النساء طبيب

إذا شاب رأس المرء اوقلّ ماله         فليس له في ودهن نصيب

وقال عنترة:

إن تغدفي دوني القناع فإنني             طبّ بأخذ الفارس المستلئم

(اي إن ترخي عني قناعك وتستري وجهك رغبة عني،فإني خبير حاذق بأخذ الفارس

الذي قد لبس لامة الحرب).

وقال عروة بن حزام:

أقول لعراف اليمامة داوني                 فإنكَّ إن أبرأتني لطبيب

(وعرَّاف اليمامة :اسمه رياح بن كحيلة أورباح بن كحلة،وهو أحد كهان العرب المعروفين).

ويسمى الطبيب أيضاً النطاسي والنطيس:وهو العالم بالطب،والنطيس:الفطن والمتفوق في الأمور وتنطس في الكلام أي تأنق فيه.

وقال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري:”الطبيب:هو الحاذق بالطب،والجمع في القلة أطبة ،وفي الكثرة أطباء .

والطب نوعان:طب جسد،وطب قلب،ومعالجة خاصة بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه سبحانه وتعالى .

أما طب الجسد  فمنه ما جاء في المنقول عنه صلى الله عليه وسلم ومنه ماجاء عن غيره وغالبه راجع إلى التجربة ثم هو نوعان :نوعٌ لا يحتاج إلى فكر ونظر،بل فطر الله على معرفته الحيوانات مثل مايدفع الجوع والعطش،ونوعُ يحتاج إلى الفكر والنظر كدفع ما يحدث في البدن مما يخرجه عن الإعتدال ”

ثالثاً: العادة:

يقال: ليس ذلك بطبي أي عادتي ،قال فروة بن مسيك:

فما إن طبنا جبن  ولكن                 منايانا ودولة أخرينا

وقال المتنبي:

وما التيه طبي فيهم غير أنني         بغيض إليّ الجاهل المتغافل

رابعاً: السحر:

يقال رجل مطبوب أي مسحور،وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها لما سحرت يهود رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس الملكان عند رأسه وعند رجليه،فقال أحدهما: ما بال الرجل؟ قال الأخر: مطبوب، قال من طبه ؟ قال: فلان اليهودي، قال أبو عبيد: إنما قالوا للمسحورمطبوب لأنهم كنّوا بالطب عن السحر،كما كنّوا عن اللديغ فقالوا سليم تفاؤلا بالسلامة،وكما كنّوا بالمفازة عن الفلاة المهلكة التي لا ماء فيها،فقالوا:مفازه تفاؤلاً بالفوز من الهلاك.

خامساً: الدواء:

فيقال لنفس الدواء الطب،قال ابن أبي الاسلت:

ألا من مبلغ حسان عني                            أسحر كان طبك أم جنون

واما الطَب  بفتح الطاء  فهو العالم بالامور وكذلك الطبيب،والطِب بكسر الطاء فهو فعل الطبيب،والطُب بضم الطاء اسم موضع.

إذاً من أهم الأمور التي يجب على الطبيب أن يتحلّى بها أن يكون حاذقا،والطبيب الحاذق عليه أن يتصف ببعض الصفات  أذكر أهمها:

أولا :النظر في نوع المرض من أي الامراض هو،جاء في الحديث عن زيد بن أسلم أن رجلاً أصابه جرح فاحتقن الدم،وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا برجلين من بني أنمار فقال: أيكما أطبّ،فقال رجل وفي الطب خير؟ قال: الذي أنزل الداء انزل الدواء”[ رواه أحمد في الموطا]، يقول الإمام الذهبي وينبغي  أن يخُتار الحاذق في الطب لقوله عليه الصلاه والسلام أيكما اطبّ.

ثانياً:النظر في  سبب المرض من أي شيئ حدث،والعلة الفاعلة التي كانت سبب حدوثه .

جاء في العقد الفريد (ج1 ص137):”والطبيب الرقيق بطبه,البصير بأمره،العالم بمقدَّم يده ،وموضع ميسمه لا يتعجل بالدواء حتى يقع على معرفة الداء”

وقال ابن المقفع في كليلة ودمنة:”فإنَّ الطبيب الرفيق العاقل،لايقدر على مداواة المريض إلا بعد النظر إليه،والجسِّ لعروقه ومعرفة طبيعته،وسبب علته، فإذا عرف ذلك كله حقَّ معرفته أقدم على مداواته”.

وقد يلعب العامل النفسي دوراً هاما لدى بعض المرضى من حيث تحسن حالة المريض أو استفحالها وتفاقمها وهنا يكون الدور الهام للطبيب في معرفة العامل النفسي للمريض وكيفية معالجته .

يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله  (كتاب صور وخواطر .مقال إنكم سعداء ولا تدرون):”ويمرض الرجلان المتعادلان في الجسم المرض الواحد،فيتشاءم هذ ويخاف،ويتصور الموت  فيكون مع المرض على نفسه،فلا ينجو منه .. ويصبر هذا ويتفاءل ويتخيل الصحة .. فتسرع إليه  ويسرع إليها . ويحكم على الرجلين بالموت،فيجزع هذا ويفزع ،فيموت ألف مرة من قبل الممات  ويملك ذلك أمره ويُحّكم فكره ،فإذا لم تنجه من الموت حيلته،لم يقتله قبل الموت وهمه” .

ثالثاً : النظر في قوه الدواء  ودرجته  والموازنه بينها وبين قوه المريض.

رابعاً: أن يعالج الأسهل فالأسهل،فلا ينتقل من العلاج بالغذاء إلى الدواء إلا عند تعذره ،ولا ينتقل من الدواء البسيط إلى المركب إلا عند تعذره.

خامساً : التلطف بالمريض والرفق به 

سادساً:أن يكون حكيماً:

فلقد لقبت العرب قديماً الطبيب بالحكيم لاستعماله الحكمة في علمه ومعاملته للمرضى بالحكمة،وعدم استعمال العنف بل اللطف معهم والصبرعليهم لاكتساب ثقتهم ومحبتهم.

يقول د . طه حسين  في مقدمة كتاب جمهورية فرحات ليوسف ادريس:

“وأي فنون العلم أجدر أن يفَّقه الناس بالحياة ومشكلاتها ،وما تُكَّلف الأحياء من ألوان العناء من الطب،فالطبيب يخالط الإنسان مخالطة لاتتاح لغيره من أصحاب العلم،يخالطه صحيحاً،ويخالطه عليلاً،ويبلوألم جسمه وآلام نفسه أصدق البلاء وأعمقه، ويفتح له ذلك أبواباَ من التفكير تنتهي به أحياناً الى الفلسفة العليا،وتنتهي به أحياناً إلى الأدب الرفيع الذي يحسن فيه الإنسجام بين الحس الدقيق والشعور الرقيق والذوق المرهف والعقل المفكر،ويتيح له ذلك كله قدرة على التصوير الفني لحياة الناس وما يزدحم فيها من الألم والأمل ،ومن السخط والرضى ،ومن الحزن والسرور،قلما يتاح لغيره من الناس،وربما منحه قدرة أخرى على فهم الملكات الإنسانية ورد أعماله وما يختلف عليه من الأحداث وما يكون لهذه الأحداث من تاثير فيه إلى أصولها ومصادرها التي أنشاتها وصورتها تصويراً لا يحسن فهمه إلا من يعرف دقائق النفس والجسم جميعاً ,وما يكون بينهما من توافق أحياناً ومن تخالف أحياناً أخرى”

سابعاً:أ ن يكون إنسانا تقياً :

يقول الامام ابن القيم:

”  وأن يكون له خبرة بإعتلال القلوب والأرواح،وذلك أصل عظيم في علاج الأبدان،والطبيب إذا كان عارفاً بأمراض القلب والروح وعلاجها كان هو الطبيب الكامل، والذي لا خبرة له بذلك وإن كان حاذقا في علاج الطبيعة وأحوال البدن نصف طبيب، وكل طبيب لا يداوي العليل  بتفقد قلبه وصلاحه وتقوية أرواحه وقواه بالصدقة وفعل الخير والإحسان والإقبال على الله والدار الاخرة فليس بطبيب،ومن أعظم علاجات المرض فعل الخيرات والاحسان والذكر والدعاءوالتضرع والابتهال إلى الله،ولهذه الأمور تاثير في دفع العلل وحصول الشفاء أعظم من الأدوية الطبيعية، ولكن بحسب استعداد النفس وقبولها وعقيدتها في ذلك ونفعه”

يقول الكندي :” ليتق الطبيب ربه فليس عن الأنفس عوض، فكما يجب أن يقال عنه أنه كان سبب عافي’ العليل وبرئه، فليحذر أن يقال أنه كان سبب تلفه وموته”

ثامناً: يجب أن يكون الطبيب رحيماً رقيقاً حازما

ولكن هذا لا يمنع أن يكون قوياً في مواضع تحتاج منه أن يكون حازماً في مواضع الحزم،وخاصة في حالات الإسعاف والأمور الطارئة،يقول عباس محمود العقاد( في كتاب عبقرية محمد ص55):

“فإنك لا ترمي بالقسوة طبيباً قد ألف النظر إلى الجثث وأشلائها،والأجسام الحية وجراحها،لأن الطب لن يكون في الدنيا رحمة من الرحمات إن لم يألف الأطباء هذه المناظر ويملكوا جأشهم وهم يفتحون أعينهم عليها”.

وهناك صفات أخرى كثيرة وقد وضع ابن رضوان عميد أطباء القاهرة شروطاً عديدة على الطبيب أن يتحلى بها،ومنها أيضا:أ ن تكون رغبته في ابراء المريض أكثر من رغبته فيما يلتمسه من الأجرة،ورغبته في علاج الفقراء أكثر من رغبته في علاج الأغنياء،وأن يكون سليم القلب عفيف النظر صادق اللهجة لا يخطر بباله شيئ من أمور النساء والأموال،وأن يكون مأموناً ثقة في الأرواح والأموال،ولا يصف دواء قتالا ولا يعمله،ولا دواء يسقط الأجنة،وأن يعالج عدوه بنية صادقة كما يعالج حبيبه،وأن يكون كتوماً لأسرار المريض لا يبوح بشئ منها،وأن يكون حريصا على التعلم،والمبالغة في منافع الناس،وأن يكون حسن الملبس طيب الرائحة نظيف البدن والثوب “انتهى كلام ابن رضوان.

ومن  الصفات الأخرى التي يجب أن يتحلى بها:اللباقة في تعريف المريض بمرضه،ومحاولة تطمينه ورفع معنوياته، وكتمه الإنذار بالخطر وإعلام أهله وذويه بذلك، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :”إذا دخلتم على المريض فنفسّوا له في الأجل فإن ذلك لا يرد شيئا وهو يُطَيب نفس المريض“[رواه الترمذي وابن ماجة عن أبي سعيد الخدري].

تاسعاً: ان لايكشف من العورة إلا بقدر ماتستدعيه المعاينة الطبية،لأن الضرورات تقدر بقدرها .

عاشراً:أن لا يصف دواء من المحرمات لغير الضرورة

ومن الصفات الأخرى أذكرها بإيجاز:

أن لايُنهي حياة مريض ميئوس من شفائه ومتعذب من آلامه بأي واسطة،بل يساعده في تخفيف الامه وتهدئة نفسه حتى يأتي أجله المحتوم.

أن يبدأ المعاينة والوصفة والمعالجة والمداخلة الجراحية ووسائل التشخيص بالبسملة،فيقول بسم الله أو بسم الله الرحمن الرحيم،جاء في الحديث الشريف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم أقطع“أورده السيوطي وقال الإمام النووي حديث حسن.

الدعاء للمريض  وهو نوع من المواساة بالكلمة الطيبة،كقوله للمريض مُعافى أو عافاك الله،أو أجر وعافية،والأفضل بأحد الأدعية المأثوره،عن عائشه رضي الله عنها ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أتى مريضاً،أو اُتي به إليه قال: “اذهب البأس رب الناس،اشفِ أنت الشافي،لاشفاء إلا شفاؤك شفاءلا يغادر سقما”. [رواه البخاري]،وعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أعرابي يعوده وهو محموم،فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كفارة وطهور“.[حديث حسن غريب أخرجه أحمد وأبو يعلى والطبراني]

أن يكون صبوراً واسع الصدر مع المريض، وقد يكون بعض المرضى من الصعوبة بمكان فلا بد من الحلم  والصبر وأن لجؤوا

إلى أساليب مُنّفرة،وخاصة أن بعض المرضى لا يُراعون الإرشادات والتعاليم الطبية،كأخذ الدواء بانتظام، يقول ابن المقفع: “لا يتم حسن الكلام الا بحسن العمل  كالمريض الذي قد علم دواء نفسه فإذا هو لم يتداوى به لم يُغنه علمه”.

وبعض المرضى يتهاون في إجراء بعض الفحوص والمراقبة المستمرة،وإتباع الحميه في بعض الأمراض كالسكري،وتعريض حالتهم للخطر بسبب إهمال تناول  الأدوية بشكل منتظم كما في أمراض القلب والربو وغيرها.

وهناك من يثُقل على الطبيب بمناسبة وغير مناسبة،كإزعاجه في أيام العطل والراحة لأسباب تافهة أو بسيطة يمكن تأجيلها لوقت لاحق،وعلى كل حال لابد للطبيب استيعاب كل ذلك وكل طارئ وأن لا يكون كالطبيب الذي عاده نحوياً فقال :مالذي تشكوه؟ قال :حُمّى حاسية، نارها حامية، منها الأعضاء واهية، والعظام بالية، فقال له: لاشفاك الله بعافية، يا ليتها كانت القاضية!!

أن يفهم المريض مرضه على حسب وضعه وحالته ومكانته وثقافته،وأن لا يلجأ إلى الإبهام بل الإفهام ،يقول الأستاذ أحمد أمين (في فيض الخاطر ج2 ص255):”وإن مثلنا مثل الطبيب الذي يرى المريض العزيز عليه فلا يمنعه حبه وإشفاقه من تشخيص المرض كما يدعو إليه العلم،ويدعو إليه الحق،ويذكر في صراحة خطر المرض،وإن كانت نفسه تذوب حسرات،ويصف العلاج وقلبه يبتهل الى الله بالنجاح”.

إن هذه الصفات وغيرها التي يجب ان يتحلّى بها الطبيب كانت من مضامين القسم الطبي الذي كان يقُسم به الطبيب عند تخرجه، وإن القسم الطبي المشهور هو:

أُقسم بالله العظيم،

أن اُراقب الله في مهنتي،

أن أصون حياة الانسان في كافة أدوارها،وفي كل الظروف والأحوال،باذلاً وسعي في استنقاذها من الهلاك والمرض والألم والقلق،

أن أحفظ للناس كرامتهم،وأستر عوراتهم،وأكتم سرهم،

أن أكون على الدوام من وسائل رحمة الله،باذلاً رعايتي الطبية للقريب والبعيد والصالح والخاطئ والصديق والعدو،

أن أُثابر على طلب العلم أسخره لنفع الإنسان لا لإ أذاه،

ان اُوقّر من علّمني،واُعُلِمّ من يصغرني،وأكون أخاً لكل زميل في المهنة الطبية،مُتعاونيين على البر والتقوى ،

أن تكون حياتي مصداق إيماني في سري وعلانيتي،نقية مما يشينها تجاه الله ورسوله والمؤمنين، والله على ما اقول شهيد.

ولكن من جانب أخر هناك أطباء لايرحمون،اتخذوا هذه المهنة الشريفة لجمع المال،وكان هدفهم من وراء علمهم وعملهم جمع المال على حساب كرامة المهنة وتعب المريض،بل وربما الإستهتار بحياته،ومنهم من أذلّ نفسه واتبعّ شيطان هواه من أجل مصلحة دنيئة وغرض سفيه،وهنا أضرب بعض الأمثلة لنماذج من الأطباء هم للإجرام أقرب منهم لصفة الطبيب الإنسان:

فمنهم من يستهتر بأرواح الناس ولا يبالي بها،ومنهم من يقوم بأعمال جراحية وهمية لأخذ المال،أو يجرون عمليات جراحية لا استطباب لها ولافائدة من أجل المال،ولا يبالون إذا تعرضّت صحة المريض وحياته من جرائها للخطر،ومنهم من لايقوم بإجراء الإسعافات الأولية في الحالات الحادة مالم ينل أجره سلفا،وهناك من يقوم بإجراء بعض الفحوص بأجهزه لايُتقن استعمالها، أويجري فحوصا لاضروره لها وتكليف المريض أعباء مالية تزاد إلى أعبائه الصحية،وهناك من يقوم ببيع العينات الطبية المجانية إلى المرضى،وهناك من يُعطي المرضى ابر المصل الملحي على انها أدوية غالية الثمن والتقاضي لثمنها،وهناك من يُكثرمن وصف الكثير من الأدوية وخاصة الغالية منها  متعاملاً  مع بعض الشركات الدوائية،أو متعاملا مع بعض الصيدليات المجاورة لعيادته وغير ذلك ..

إن هؤلاء التجار باسم الطب هم بعيدون كل البعد عن هذه المهنة الشريفة،وهؤلاءحسابهم في الدنيا والأخرة،ولايظنون أنهم من عقاب الله والقانون بعيدون!!

تطبيب الجنس للجنس الاخر

الأصل في تعاليم الاسلام عدم جواز معاينة ومداواة الرجل للمراة غير المحرم أو العكس لوجود النظر والفحص،ولكن يُستثنى من ذلك حالات الضرورة كعدم توفر الطبيبة الحاذقة الماهرة أو المختصة،والضرورات تبيح المحظورات.

يقول الإمام الذهبي في كتابه الطب النبوي:

” أنه يبُاح مداواة النساء للرجال والرجال للنساء من غير المحارم عند الضرورة،وهناك أحاديث نبوية تثُبت ذلك ومنها:عن أم عطية قالت: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات أخلفهم في رحالهم،وأصنع لهم الطعام،وأجيز على الجرحى،واُداوي المرضى“[رواه مسلم.]

وأخرج ابن اسحاق عن ليلى الغفارية قالت :أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوةٍ من بني غفار فقلنا يا رسول الله قد أردنا أن نخرج إلى وجهك هذا ـ وهو يسير إلى خيبر  ـ فنداوي الجريح ونعين المسلمين بما استطعنا،فقال: “على بركة الله “قالت : فخرجنا معه”  [رواه احمد وأبو داود].

عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغزو ومعه أم سُليم ومعها نسوة من الأنصار يستقين الماء، ويداوين الجرحى“. [رواه مسلم]

وأخرج البخاري عن الربيع بنت معوذ رضي الله عنها : كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم فنسقي القوم ،ونخدمهم ، ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة”.

إن هؤلاء السيدات المؤمنات كن يسمين بإسم الآسيات،وكن يخرجن مع الجيش ومعهن أدوات العلاج،وربما ضُربت لهن الخيام بالقرب من ساحة المعركة وهذا يشبه مانسميه اليوم المستشفيات الميدانية .

وكان هناك طبيبة اسمها رفيدة  واسمها كعيبة بنت سعد الأسلمية اختارها رسول الله صلى الله عليه وسلم لتقوم بالعمل في خيمة متنقلة وقد روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أصيب سعد بن معاذ يوم الخندق رماه رجل من قريش ـ رماه في الأكحل ـ  فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم ان يقوم خيمة في المسجد ليعوده من قريب . وقال ابن اسحق كان الرسول صلى الله  عليه وسلم قد جعل سعد بن معاذ في خيمة لإمرأة من أسلم يقال لها رفيدة في مسجده كانت تداوي المرضى،ومن الصحابيات المشهورات بالتمريض أيضاً نذكر نسيبة بنت كعب المازنية والتي اشتركت خاصة في غزوة أحد ،وأم سنان الأسلمية وشاركت في مداواة الجرحى في غزوة خيبر وكذلك أم مكاوع الأسلمية وأم ورقة بنت الحارث .

يقول الإمام ابن حجر العسقلاني في فتح الباري في حديث أم عطية “جواز معالجة المرأة الأجنبية للرجل الأجنبي عند الضرورة” وقال في باب هل يُداوي الرجل المرأة،والمرأة الرجل” أماحكم المسألة فتجوز مداواة الأجانب عند الضرورة،وتقدر بقدرها فيما يتعلق بالنظر والجس باليد وغير ذلك ” وقال ابن حجر أيضاً “الحديث يدل على مداواة النساء للرجال فيؤخذ منه حكم مداواة الرجل للمرأة بالقياس”.وذكر الإمام أحمد” أن الطبيب يجوز له أن ينظر إلى المرأة الأجنبية الى ماتدعو إليه الحاجة،وكذلك يجوز للمرأة أن تنظر إلى عورة الرجل عند الحاجه”.

ومن الواجب وجود ثالث عند فحص الطبيب للنساء والعكس تجنباً للخلوة،قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “لا يخلون أحدكم بإمرأة الا مع ذي محرم“[ أخرجه الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما.]

ويقول الإمام ابن قدامة في كتاب المغني الجزء السادس: “ويباح للطبيب النظر إلى ماتدعو إليه الحاجة من بدنها فانه موضع حاجة”.

وفي كتاب الأداب الشرعية لإبن مفلح الحنبلي الجزء الثاني وقال المروزي: قلت لأبي عبد الله : المرأة يكون بها الكسر فيضع المجبر يده عليها،قال هذه ضرورة،ولم ير بأساً،قلت لأبي عبد الله: مجبر يعمل بخشبة، فقال لي لا بد من أن أكشف صدر المرأة وأضع يدي عليها،قال ابن مضرس هذه ضرورة لابأس”. وفي حاشية ابن عابدين الجزء الخامس” وينظر الطبيب إلى موضع مرضها بقدر الضرورة”.

ويقول الشبخ محمد صالح المنجد :”الأصل أنه إذا توافرت طبيبة متخصصة يجب أن تقوم بالكشف على المريضة،وإذا لم يتوافر ذلك فتقوم بذلك طبيبة غير مسلمة ثقة،فإن لم يتوافر ذلك يقوم به طبيب مسلم،وإن لم يتوافر طبيب مسلم يمكن أن يقوم مقامه طبيب غير مسلم،على أن يطلع من جسم المرأة على قدر الحاجة في تشخيص المرض ومداواته وألا يزيد عن ذلك،وأن يغض الطرف قدر استطاعته ،وأن تتم معالجة الطبيب للمرأة هذه بحضور محرم أو زوج أو امرأة ثقة خشية الخلوة “.

الضوابط في مسألة النظر للعورة في العلاج :

بقول الشيخ محمد صالح المنجد :فيما يلي ذكر لبعض القواعد والضوابط في مسألة : “النظر للعورة في العلاج:

أولاً:عورة الرجل مابين السرة والركبة لقوله صلى الله عليه وسلم :” مابين السرة والركبة عورة “ [حديث حسن رواه أحمد  وأبو داود والدار قطني ]. وهذا قول جمهور أهل العلم.

ثانياً:المرأة كلها عورة أمام الأجنبي لقوله تعالى : {وإذا سألتموهن َّمتاعاً فاسألوهن َّ من وراء حجاب} [الأحزاب 53]ولقوله صلى الله عليه وسلم : ” المرأة عورة ” [رواه الترمذي بسند صحيح]  وهذا القول هو الصحيح من المذهب عند الحنابلة وإحدى الروايتين عند المالكية وأحد القولين عند الشافعية .

ثالثاً :تعمد النظر إلى العورات من المحرمات الشديدة ويجب غض البصر عنها لقوله تعالى : {قل للمؤمنينَ يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم  إن الله خبير بما يصنعون*وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ….} [النور 30 ـ 31] ” وقال النبي صلى الله عليه وسلم : “لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ،ولا المرأة إلى عورة المرأة … “[رواه مسلم]  وقال لعلي رضي الله عنه : “لا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت ” [رواه أبو داود وهو حديث صحيح].

رابعاً :كل ما لا يجوز النظر إليه من العورات لا يحل مسَّه ولو من وراء حائل،وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :” إني لا أصافح النساء ” [رواه مالك وأحمد وهو حديث صحيح ]، وقال : “لأن يُطعن في رأس أحدكم بمِخْيط من حديد خير له من أن يمسَّ امرأة لا تحل له ” [رواه الطبراني وهو حديث صحيح] . قال النووي رحمه الله : وحيث حَرُمَ النظر حرم المسَّ بطريق الأولى لأنه أبلغ لذة .

خامساً” :العورات أنواع ودرجات،فمنها العورة المغلّظة  ـ السوأتان :القُبل والدُبر  ـ  والعورة المُخفّفة كفخذي الرجل أمام الرجل ،والصغير دون سبع سنين لا حكم لعورته ،والصغير المميِّز ـ  من السابعة إلى العاشرة ـ عورته الفرجان ،والصغيرة المميزة عورتها من السرة إلى الركبة، ـ وكل ذلك عند أمن الفتنة  ـ وعورة الميت كعورة الحيّ ،والأحوط إلحاق الخنثى بالمرأة في العورة لاحتمال كونه امرأة .

سادساً:الضرورات تبيح المحظورات،ولا خلاف بين العلماء في جواز نظر الطبيب إلى موضع المرض من المرأة عند الحاجة ضمن الضوابط الشرعيه ،وكذلك القول في نظر الطبيب إلى عورة الرجل المريض،فيباح له النظر إلى موضع العلة بقدر الحاجة ،والمرأة الطبيبة في الحكم كالطبيب الرجل . وهذا الحكم مبني على ترجيح مصلحة حفظ النفس على مصلحة ستر العورة عند التعارض .

سابعاً :” الضرورة تُقَدر بقدرها “: فإذا جاز النظر والكشف واللمس وغيرها من دواعي العلاج لدفع الضرورة والحاجة القوية  فإنه لا يجوز بحال من الأحوال التعدّي وترك مراعاة  الضوابط الشرعية  ومن هذه الضوابط مايلي :

1 ـ يقدم في علاج الرجال الرجال وفي علاج النساء النساء،وعند الكشف على المريضة  تُقَدم الطبيبة المسلمة صاحبة الكفاية ثم  الطبيبة الكافرة ثم الطبيب المسلم ثم الطبيب الكافر،وكذلك إذا كانت تكفي  الطبيبة العامة فلا يكشف الطبيب ولو كان مختصاً، وإذا  احتيج إلى مختصة من النساء فلم توجد جاز الكشف عند الطبيب المختص ،وإذا كانت المختصة لا تكفي للعلاج وكانت الحالة تستدعي تدخل الطبيب الحاذق الماهر الخبير جاز ذلك ،وعند وجود طبيب مختص يتفوق على الطبيبة في المهارة والخبرة فلا يُلجأ إليه إلا إذا كانت الحالة تستلزم هذا القدر الزائد من الخبرة والمهارة .وكذلك يُشترط في معالجة المرأة للرجل أن لا يكون هنالك رجل يستطيع أن يقوم بالمعالجة .

2 ـ لا يجوز تجاوز الموضع اللازم للكشف فيقتصرعلى الموضع الذي تدعو الحاجة إلى النظر إليه فقط ،ويجتهد مع ذلك في غض بصره ما أمكن ،وعليه أن يشعر أنه يفعل شيئاً هو في الأصل محرَّم وأن يستغفر الله عما يمكن أن يكون حصل من التجاوز

3ـ  إذا كان وصف المريض كافياً فلا يجوز الكشف،وإذا أمكن معاينة موضع المرض بالنظر فقط فلا يجوز اللمس،وإذا كان يكفي اللمس بحائل فلا يجوز اللمس بغير حائل وهكذا .

4 ـ يُشترط لمعالجة الطبيب المرأة أن لايكون ذلك بخلوة، فلابد أن يكون مع المرأة زوجها أو محرمها أو امرأة أخرى من الثقات

5  ـ أن يكون الطبيب أميناً غير متهم في خلقه ودينه،ويكفي في ذلك حمل الناس على ظاهرهم

6  ـ كلما غلظت العورة كان التشديد أكثر،قال صاحب كفاية الأخيار : واعلم أن أصل الحاجة كان في النظر إلى الوجه واليدين، وفي النظر إلى بقية الأعضاء يُعتبر تأكد الحاجة،وفي النظر إلى السوأتين يُعتبر مزيد تأكد الحاجة . ولذلك لابد من التشديد البالغ في مثل حالات التوليد وختان الإناث اليافعات .

7  ـ أن تكون الحاجة إلى العلاج ماسة كمرض أو وجع لا يحتمل أو هزال يخشى منه ونحو ذلك ،أما إذا لم يكن مرض أو ضرورة فلا يجوز  الكشف عن العورات كما في حالات التوهم والأمور التحسينية .

8  ـ  كل ما تقدم مُقَّيد بأمن الفتنة وثوران الشهوة من كل من طرفي عملية المعالجة .

وختاماً فإنه لابد من تقوى الله في هذه المسألة العظيمة التي احتاطت لها الشريعة وجعلت لها أحكاماً واضحة وحازمة . وإن مما عمَّت به البلوى في هذا الزمان التساهل في مسائل الكشف عن العورات في العيادات والمستشفيات وكأن الطبيب يجوز له كل شيئ ويحل ُّ عنده كل محظور .  انتهى كلام الشيخ المنجد

الاستعانه بغير المسلم للتداوي

جاء في السيرة النبوية أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يأمر من كانت به علّة أن يأتي الحارث بن كلدة فيسأله عن علته، وكان الحارث نصرانيا.قال ابن حجر في الإصابة” وهذا يدل على جواز الإستعانة بأهل الذمة في الطب”،وجاء عن عروة ابن الزبير عن خالته عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثرت أسقامه وكان يقدم عليه أطباء العرب والعجم”  [رواه الحاكم باسناد صحيح].

يقول الإمام أحمد تعقيباً على هذا الحديث “يجوز الرجوع إلى قول الطبيب من أهل الذمه في الدواء المباح،ولا يسمع قوله إذا وصف دواء محرما كالخمر ونحوه،وكذلك لا يُسمع قوله في الفطر والصوم والصلاة جالساً ونحو ذلك،ولا يقبل مثل هذا إلامن مسلمين عدلين من أهل الطب”  وقال المروزي كان أحمد يأمرني أن لا أشتري له مايوصف له من النصراني،قال لأنه لا يؤمن ان يخلط بذلك شيئا محرما من السمومات والنجاسات وغيرها ويعتقده صلاحا ( نقلا عن الطب النبوي للذهبي).

التداوي بالمحرمات

هذا البحث نقلاً عن مقال من مجلة حضاره الإسلام للدكتور محمود ناظم النسيمي يقول فيه:

“لم يحرم الله تعالى شيئا على هذه الأمة إلا وفيه خبث مادي أو معنوي،خفياً كان أو واضحاً جلياً،اشتمل في منافعه على فوائد علاجية أم لم يشتمل،وإن الفوائد العلاجية الموجودة في محرم لا تبيح استعمال ذلك المحرم في التداوي في غير حالات الضرورة،وهذا مجمع عليه عند الأئمة المجتهدين والعلماء المحققين،ومن الجهل بالدين أن يقدم بعض المسلمين على الإستشفاء بالمحرمات أو على وصفها لمريض بحجة التداوي بها مع وجود دواء أخر مباح يقوم مقامها بل قد يكون أكثر نفعاً منها،ومن الغريب أن يقدم المسلم على تناول الخمرلأنه وُصِفَ له كمسمن يزيل نحافته،ويشرب النبيذ بحجة التقوي،ويتجرّع البيرة لأنه مصاب بالرمال البولية،وكثير من المسلمين  يستعملون المحرمات بعلة التداوي دون الاضطرار إليها ودون أن يكلفوا أنفسهم بالسؤال عن الحكم الشرعي فيها،ومنهم من لم يكلف نفسه بسؤال طبيب مسلم عدل عن دواء مباح لعلته،وجل برهان أحدهم أنه أقدم على استعمال ذلك المحرم تداوياً فقط لا رغبة في الملابسات الأخرى، ويزيد بعضهم أنه لم يستفد من الدواء المباح الذي وصف له، حتى أن البعض يتداول القول الذي يتنافى مع شرع الله ويقول  “إن العلة النجسة تحتاج لأنجس”!!

 إن التداوي بالمحرمات من غير ضرورة مقبوح عقلاً،ضار صحياً،محرم شرعاً،

فهو مقبوح عقلياً: لأن الله سبحانه وتعالى ماحرم شيئا إلا لخبثه،ولم يحرم على هذه الأمة طيباً عقوبة لها كما حرم على بني اسرائيل بعض الطيبات عقوبة لهم،يقول تعالى: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيباتٍ اُحلّت لهم}[النساء 160فالله تعالى ماحرّم المحرمات على هذه الأمة إلا صيانة لهم عن تناوله،والإصابة بأضراره،فلا يناسب أن يطلب به الشفاء من الأسقام والعلل.

وهو ضار صحياً ،لأن للمحرمات من المطعومات والمشروبات أثارا ضارة على صحة الإنسان الجسمية والعقلية والنفسية،وعلى ذلك فإن المحرم الذي يملك خاصية دوائية إنما يملكها إلى جانب أثار ضارة،أي أن له تأثيرات جانبية،ومن العجيب أن الإعلام الطبي في دول الغرب  أصبح الآن يحذر من استعمال الأدوية التي يدخل في تركيبها الغول،حتى أن بعض الشركات الدوائية أصبحت تفتخر  بأنها تصنع أدوية معينة، وتكتب بخط عريض على الدواء أنه بدون غول.

وهو محرم شرعا،  والأدلة كثيرة، ونذكر منها:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :” إن الله خلق الداء والدواء،فتداووا ولا تداووا بحرام “[رواه الطبراني  بإسناد رجاله ثقات  عن أم الدرداء كما في مجمع الزوائد].وفي حديث أخر:نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدواء الخبيث” [رواه أبو هريرة وأخرجه أحمد وابن ماجة والحاكم وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخان] ،قال وكيع يعني بالخبيث السم،وقال الخطابي قد يكون خبث الدواء من وجهين خبث نجاسة،وهو أن يدخله المحرم كالخمر وغيره،والثاني من جهة الطعم والمذاق لما فيه من المشقة على الطباع،وقال ابن الأعرابي الخبيث في كلام العرب المكروه، فإن كان الكلام فهو الشتم،وإن كان في الملل فهو الكفر،وإن كان في الطعام أو الشراب فهو الضار.

وعن عبد الرحمن بن عثمان التيمي أن طبيباً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ضفدع يجعلها في دواء فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها“،[رواه أحمد وأبو داود والنَسائي والحاكم وسنده قوي كما في الجامع الصغير]،قال الحيدر أبادي لأنها ليست بمؤذ ولا مأكول ولا يتوقف الدواء عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم :” إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها“[رواه أبو داود وأبو يعلى والبزار وصححه ابن حبان]،يقول الفخر الرازي: أي لم يشرع استشفاء أمتي فيما حرم عليها.

حكم التداوي بالمحرمات عند الضرورة

يقول الدكتور محمود ناظم النسيمي _مجلة حضارة الإسلام:

تعريف الضرورة : هي الحالة المحدقة بالإنسان في ظرف سيئ والتي تحمله على ارتكاب المحرم الممنوع شرعا للمحافظة على نفسه من الهلاك،أو ماله من الضياع،او لدفع أذى لا يحتمله،إما يقيناً أو ظنياً.

الأدلة على استعمال المحرمات عند الضرورة:قال الله عز وجل :  {وما لكم ألا تاكلوا مما ذُكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه} [الأنعام 119]،وقال الله تعالى: {حُرِّمتْ عليكُمُ المَيتَةُ والدَّمُ ولحمُ الِخنزيرِ وما أُهِلَّ لغيرِ الله بهِ والمُنخَنِقَةُ والمَوقُوذَةُ والمُترَدِّيةُ والنَّطِيحَةُ وما أكلَ السَّبُعُ إلا ماذَكَّيتُم وما ذُبِحَ على النُّصُبِ وأن تَستقسِمُوا بالأزلامِ  ذَلِكُم فِسقٌ  اليومَ يَئِسَ الذين كفروا من دينِكُم فلا تَخشَوهُم واخشَونِ اليومَ أكملتُ لكُم دِينَكُم وأتممتُ عليكُم نعمتي ورضِيتُ لكُمُ الإسلامَ دِيناً فمنِ اضطُرَّ في مَخمَصةٍ غيرَ متُجانفٍ لإثمٍ  فإنَّ اللهَ غفورٌ رحيم}[المائده 3]،وقال عز وجل: {إنمَّا حرَّمَ عليكُمُ  المَيتةَ والدَّمَ ولحمَ الخنزيرِ وما أُهِلَّ بهِ لغيرِ الله فمنِ اضطُرَّ غيرَ باغٍ ولا عادٍ  فلا إثمَ عليهِ إنَّ اللهَ غفورٌ رحيم} [البقره173].

لقد بينَّ الله تعالى في هذه الأيات المطعومات المحرم تناولها في الاسلام وهي :الميتة وما في معناها من الأنواع الخمسة المذكورة في الآية،والدم المسفوح،ولحم الخنزير،والمذبوح لغير الله،وأضافت إليها  السنة النبوية السباع والطير الجوارح والحمر الأهلية والبغال،وأباح الله تناول تلك المحرمات عند الضرورة كما هو الحال في المخمصة أي الجوع الشديد”.

يقول الدكتور يوسف القرضاوي في كتاب الحلال والحرام في الاسلام:

“المخمصة: أي الجوع الشديد،أي أن يمر عليه يوم وليلة ولا يجد مايأكله إلا هذه الأطعمة المحرمة،فله أن يتناول منها مايدفع به الضرر ويتقي الهلاك،وقد ذهب الأئمة أبو حنيفة والشافعي واحمد رضي الله عنهم أنه يأكل منها مايمسك رمقه،ولا يشرب المسكرإ بمقدار مايزيل الغصة”.

لقد اتفق العلماء والأئمة حسب الآيات السابقة أنه يمكن عند الضرورة اللجوء إلى المحرمات من المطعومات لوقاية الجسم من الهلاك عند الجوع الشديد،أما فيما يتعلق بتناول الدواء المحرم عند الضرورة فقد كانت هناك اختلافات ولكل منهما أدلته، اختلفوا فيما يتعلق بالخمر من المحرمات على وجوب التداوي به عند الضرورة، ولذا نقسم الموضوع الى قسمين:التداوي بالمحرمات غير الخمر عند الضرورة،والتداوي بالخمر عند الضرورة.

التداوي بالمحرمات غير الخمر عند الضرورة:

يقول بعض العلماء لقد أباح الله تعالى استعمال المحرمات في حالات الإضطرار لضرورة التغذية،وكذلك يباح استعمالها لضرورة التداوي،فاذا خاف مريض على نفسه الهلاك،أوتعطيل عضو من أعضائه، وخاف الطبيب عليه من حدوث ذلك،أوبلغ الألم بالمريض مبلغاً شديداً لا يحُتمل،أو تأذى من مرضه،أو خاف سرايته إلى غيره،ولم يجد دواءاً مباحاً يفيد في علته جاز له أن يستعمل الدواء المحرم إذا غلب على ظنه أو ظن طبيبه أنه مفيد .والأدلة على ذلك:

أولًا: لقد أجاز الله تعالى للمُحرم بالحج أن يحلق رأسه اذا اضطر الى ذلك لإصابة رأسه بالقمل مثلا مع أن الحلق من محرمات الإحرام، قال تعالى: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان مريضاً أوبه أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك}[البقرة196] . وجاء في صحيح البخاري بإسناده إلى كعب بن عجرة قال: حُملت إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي فقال ماكنت أرى الجهد بلغ بك هذا أما تجد شاة، قلت لا،قال صم ثلاثة أيام أوأطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك “.

لقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن عجرة وهو محرم زمن الحديبية أن يحلق رأسه بسبب القمل وأن يصوم ثلاثة أيام أو يطعم ستة مساكين أوينسك نسيكة كما ورد في صحيح البخاري كتاب الطب.

ثانياً: أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام رضي الله عنهما لبس الحرير لحكة كانت بهما” [رواه الشيخان من حديث قتاده عن أنس بن مالك رضي الله عنه.]

ثالثاً: أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم التداوي ببول الإبل كما جاء في صحيح البخاري ومسلم في قصة رهط عرينه وعكل،ونص الحديث بالكامل:حدثنا موسى بن اسماعيل ،حدثنا همام عن قتادة عن أنس رضي الله عنه أن ناساً اجتَووا في المدينة فامرهم النبي صلى الله عليه وسلم  أن يلحقوا براعيه ـ يعني الإبل ـ فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فلحقوا براعيه، فشربوا من البانها وأبوالها حتى صلحت أبدانهم،فقتلوا الراعي وساقوا الإبل، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فبعث في طلبهم فجئ بهم، فقطع ايديهم وأرجلهم وسَمرَ أعينهم” [رواه البخاري]. قال قتادة:” فحدثني محمد بن سيرين أن ذلك كان قبل أن تنزل الحدود،وأخرج مسلم عن طريق سليمان التميمي عن أنس قال: إنما سملهم النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم سملوا أعين الرعاة”.

رابعاً: قوله تعالى {وقد فصل لكم ماحرم عليكم إلا ما اضطرتم إليه}[الأنعام 119] ففي الآية الكريمة الإباحة بوجود الضرورة من غير شرط،فحالما وجدت الضرورة وجدت الإباحة،وهذا يتعلق بالغذاء والدواء.

خامساً :إن حالة المريض مثل حالة الجوع والعطش،فكما أن الجائع إذا خاف على نفسه الهلاك ولم يجد حلالا يقتات به جاز له أن يتناول المحرم،وكذلك المريض إذا خاف على نفسه الهلاك أو تعطيل عضو من أعضائه،أو بلغ به الألم مبلغاً شديداً لا يحتمل ولم يجد دواءً مباحاً  يفيد في علته جاز له أن يستعمل الدواء المحرم إذا غلب على ظنهأ ظن طبيبه انه مفيد،يقول العز بن عبد السلام : “جاز التداوي بالنجاسات إذا لم يجد طاهرا يقوم مقامها لأن مصلحة العافية والسلامة أكمل من مصلحة اجتناب النجاسة”.

سادساً: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم  رخص في استعمال الذهب في التداوي ولو لستر نقص وإزالة تشويه حتى لا تتأزم نفسية حامل التشويه،فعن عرفجة بن أسعد قال: اُصيب أنفي يوم الكلاب في الجاهلية فاتخذت أنفاً من ورق فأنتن عليّ فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتخذَّ أنفاً من ذهب” [رواه الترمذي وقال حسن]،وفي مجمع الزوائد روايات تدل على أن عثمان بن عفان وأنس بن مالك طببّوا أسنانهم  بالذهب.

ولقد ذهب إلى إباحة التداوي بالمحرمات عند الضرورة الحنفية والشافعية بالإستناد إلى الأدلة السابقة،وأما من نفى التداوي بالمحرمات عند الضرورة فإنهم يستندون إلى الادلة التالية:جاء في الحديث الشريف: “إنَّ الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها“[ رواه أبو داود وابو يعلى والبزار وصححه ابن حبان].

وممن يستندون إلى عدم جواز التداوي بالمحرمات عند الضرورة الإمام مالك والحنابلة،فقال الإمام مالك “يحظر التداوي بالمحرمات عند الضرورة وفقدان الدواء المباح لأنه لا شفاء في محرم،ولأن الآيات التي فصلت المحرمات من المطعومات استثنت حالة الاضطرار للتغذي بها ولم تذكر حالة التداوي”.ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله :”والمعالجة بالمحرمات قبيحة عقلا وشرعا،أماالشرع: فللحديث السابق”إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها“، وأما العقل:فهو أنه سبحانه وتعالى إنما حرمه لخبثه، فإنه لم يحرم على هذه الأمة طيباً عقوبة لها،كما حرمه على بني اسرائيل بقوله :{فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم }[النساء 160]، وإنما حرم على هذه الأمة ماحرم لخبثه،وتحريمه له حمية لهم ،وصيانة عن تناوله،فلا يناسب أن يطلب به الشفاء من الأسقام والعلل،فإنه وإن أثر في إزالتها،لكنه يعقب سماً أعظم منه في القلب بقوة الخبث الذي فيه ،فيكون المداوي به قد سعى في إزالة سقم البدن بسقم القلب”

ويمكن القول أن أدلة من يبيحون التداوي بالمحرمات من غير الخمر عند الضرورة هي أقوى، والدليل على ذلك:

أولاً: إن حديث ” إن الله لم يجعل شفاء أُمتي فيما حرم عليها” وهو حديث صحيح،إلا إنه يتعارض مع حديثين أكثر صحة،وأقوى سندا،وهما حديث ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم لبس الحرير لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام،وحديث العرينين حيث أوصاهم النبي صلى الله عليه وسلم  بالخروج إلى إبل الصدقة والشرب من ألبانها وأبوالها.

ثانيا: إن الحديث السابق وذكرت  أحاديث أخرى خصوص السبب في ورود هذا الحديث

وهو التداوي بالسكر،فعن أم سلمة قالت :نبذت نبيذاً في كوز فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يغلي، فقال ماهذا؟ قلت اشتكت ابنة لي فصنعت لها هذا،فقال إن الله لم يجعل شفاؤكم فيما حرم عليكم”، وعن أبي وائل قال اشتكى رجل داء في بطنه فنعت له المسكر فأتينا عبد الله بن مسعود فسألناه فقال “ان الله لم يجعل شفاؤكم فيما حرم عليكم“, وروى الأعمش عن مسلم بن صبيح عن مسروق قال :قال ابن مسعود :لا تسقوا أولادكم الخمر فإنهم ولدوا على الفطرة فإن الله لم يجعل شفاؤكم فيما حرم عليكم “،كما أن الخطيب الشربيني في شرحه على منهاج النووي قال عند ذكر الحديث السابق وهو محمول على الخمر.

ويقول الدكتور القرضاوي في الترجيح بين أدله الموافقين والمعارضين في كتاب الحلال والحرام: ”

إن التداوي بالمحرمات عند الضروره ربما كان أقرب إلى روح الإسلام الذي يحافظ على الحياة الإنسانية في كل تشريعاته ووصاياه“.

تحريم التداوي بالمسكرات مطلقا

من المعلوم أن الإسلام تدرج في تحريم الخمر والمسكرات على أتباعه لشدة اعتيادها قبل الإسلام وشغفهم بتناول الخمروالإدمان عليها من قبل البعض،ولأن فطام المدمن لا يكون الا بالتدريج، ثم حرم  ذلك تحريما قطعيا،يقول تعالى: {يا أيها الذين أمنوا إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون} [المائدة ،90]وفي الحديث الشريف “كل مسكر حرام،إنّ على الله عز وجل عهدا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال،قالوا يا رسول الله: وما طينة الخبال؟ قال :عرق أهل النار” [رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه]. وحديث أخر “كل مسكر خمر،وكل مسكر حرام”  [رواه مسلم].

كما أن الإسلام نهى عن تناول الخمر بقصد العلاج والتداوي،وهذا وللأسف أمرٌ يغفله الكثير من المسلمين،ولقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التداوي بالمسكرات،بل نهى عنها صفة الدواء ووصفها بالداء،وجاء في الحديث الشريف أن رجلاً جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال عندنا أنبذة أنتداوى بها ؟قال: أهي مسكرة؟قال :نعم،قال إنها داء وليست بدواء “[رواه مسلم والبيهقي]..وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : “إن الله أنزل الداء وجعل لكل داء دواء فتداووا ولاتتداووا بحرام”[أخرجه أبو داود وابن السني وأبو نعيم في الطب النبوي].

وعن وائل بن حُجر أن طارق بن سُويد  سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر يجعل في الدواء فقال صلى الله عليه وسلم :”إنها داء وليست دواء “[ رواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة وأبو نعيم] .

وجاء في حديث طارق بن سويد الحضرمي قال :قلت يارسول الله :إن بأرضنا أعنابا نعصرها فنشرب منها،قال: لا،فراجعته قلت: إنا نستشفي للمريض. قال: إن ذلك ليس بشفاء ولكنه داء“[ رواه مسلم وابن حبان] .

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (في الفتاوى الكبرى ج3 ص6) :

“التداوي بالخمر حرام بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى ذلك جماهير أهل العلم .ثبت عنه في الصحيح : أنه سئل عن الخمر تُصنع للدواء فقال : “إنها داء وليست بدواء” .وفي السنن عنه : أنه “نهى عن الدواء الخبيث “. وعن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :”إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرَّم عليكم “.[أخرجه البخاري].

يقول الدكتور القرضاوي في كتاب الحلال والحرام :

ولا عجب أن يحرم الإسلام التداوي بالخمر وغيرها من المحرمات فإن تحريم الشئ كما قال الإمام ابن القيم في زاد المعاد يقتضي تجنبه والبعد عنه بكل طريق،وفي اتخاذه دواء حض على الترغيب فيه وملابسته وهذا ضد مقصود الشارع،وأيضاً فإن في إباحته للتداوي به ولا سيما إذا كانت النفوس تميل إليه ذريعةإلى تناوله للشهوة واللذة،وبخاصة إذا عرفت النفوس أنه نافع لها ومزيل لأسقامها جالب لشفائها،وأيضا فإن هذا الدواء المحرم من الادواء مايزيد على مايظن فيه من الشفاء”،وقد تنبه ابن القيم رحمه الله إلى جانب نفسي هام فقال إن من شرط الشفاء بالدواء تلقيه بالقبول واعتقاد منفعته وما جعل الله فيه من بركة الشفاء، ومعلوم أن اعتقاد المسلم تحريم هذه مما يحول بينه وبين اعتقاد منفعتها وبركتها

وحسن ظنه بها وتلقيه لها بالقبول،بل كلما كان العبد أعظم إيمانا كان أكره لها وأسوأ اعتقادا فيها وكان طبعه أكره شيئ لها، فإذا تناولها في هذه الحال كانت داء لا دواء”.

قيل لعباس بن مرداس بعدما شاخ لو شربت النبيذ لزاد في قوتك ، فقال :لا أصبح رئيس قومي ثمَّ أُمسي وأنا سفيههم  وأنشأ يقول:

رأيت النبيذ يُذلُّ العزيز           ويزدادُ فيه الوضيعُ انفساخا

ويُوقعُ في سوأةٍ شاربيه            ويكسو التقيَّ النقيَّ اتساخا

فإذا كان ذا جائزاًفي الشباب     فما العذرُ فيه إذا المرءُ شاخا

وعلى تحريم التداوي بالمسكرات اتفقت ائمة المذاهب غير أن الحنفية استثنوا حاله الضرورة.

أما استعمال الخمر على ظاهر الجسم كمعقم ومطهر موضعي بقصد التضميد والمداواة فإن الشافعية أجازوا ذلك،وقد أجازه الإمام النووي في فتاويه المسماه بالمسائل المنثورة.

ويقول الشيخ علي الطنطاوي :

” إن كلمه كحول أصلها عربي قرآني وهي محرفة عن غول،وفي عصور النهضة في أوروبا ترجمت الكتب العربية فقالوا عن الغول الكول ثم جعلها الأتراك الكحول وفي  المعاجم الفرنسية نص على ان أصلها عربي ولكنهم ظنوه من الكحل،ويتابع الشيخ “: والغول هي المادة الفعّالة في الخمر فهو روح الخمر،وسبرتو بالإيطالية معناها روح” والخمر عند جمهور الفقهاء نجسة وقال صاحب سبل السلام والشوكاني وبعض الفقهاء إنها نجاسة حكمية لا نجاسه عينية،وأفتى بطهارة السبرتو من علماءالعصر الشيخ بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية والسيد رشيد رضا صاحب المنار،ولجنة الفتوى في الأزهر،واحتج بعض العلماء لطهارة العطور بأنه يدخل في تركيبها لاستصلاحها ثم يطير عنها أي يتبخر،ومن هذا تكون هذه العطور طاهرة والغول طاهرا”.

شروط تناول المحرمات عند الضروره للتداوي:

يقول الدكتور القرضاوي في كتاب الحلال والحرام والدكتور محمود شلتوت شيخ الازهر:

أولاً : أن يكون هناك خطرا حقيقيا على صحة الإنسان إذا لم يتناول هذا الدواء.

ثانياً:أن لايوجد دواء بديل غيره يقوم مقامه أو يغني عنه.

ثالثاً: أن يصف ذلك طبيب مسلم ثقة في خبرته وفي دينه معاً،ومعروف بالصدق والأمانة،غيور على دينه.

إن قواعد الشريعة كما يقول الشيخ  القرضاوي قائمة على اليسر ودفع الحرج لاتمنع من ذلك على أن يكون في أضيق الحدود الممكنة {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم} [الانعام 145].

وجاء في مقال نشر في مجلة الرائد الألمانية العدد 172 عن”المواد المحرّمة والنجسة في الغذاء والدواء”مايلي:

“بدعوة من المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بدولة الكويت عقدت الندوة الفقهية الطبية الثامنة اجتماعها تحت عنوان”رؤية إسلامية لبعض المشاكل الصحية”وذلك بمشاركة الأزهر الشريف ومجمع الفقه الإسلامي بجدة والمكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية بالإسكندرية ووزارة الصحة بدولة الكويت والمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية في الفترة مابين 22 ـ 24 من شهر ذي الحجة 1415هجري الموافق 22 ـ24 من شهر أيار عام 1995م.وممت جاء حول موضوع المواد المحرّمة والنجسة في الغذاء والدواء مايلي:

1 ـ يجب على كل مسلم الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية وبخاصة في مجال الغذاء والدواء،وذلك محققٌ لطيب مطعمه ومشربه وعلاجه،وإن من رحمة الله بعباده وتيسير سبيل الاتباع لشرعه مراعاة حال الضرورة والحاجات العامة إلى مبادىء شرعية مقررة منها:

ـ أن الضرورات تبيح المحظورات.

ـ وأن الحاجة تُنزّل منزلة الضرورة مادامت متعينة.

ـ وأن الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يقم دليلٌ معتبر على الحُرمة.

ـ كما أن الأصل في الأشياء كلها الطهارة ما لم يقم دليلٌ معتبر على النجاسة.

ـ ولا يعتبر تحريم أكل الشىء أو شربه حكماً بنجاسته شرعاً.

2 ـ مادة الكحول غير نجسة شرعاً،بناءً على ماسبق تقريره من أن الاصل في الأشياء الطهارة،سواء أكان الكحول صرفاً أم مخففاً بالماء،ترجيحاً للقول بأن نجاسة الخمر وسائر المسكرات معنوية غير حسية لاعتبارها رجساً من عمل الشيطان.

وعليه فلا حرج شرعاً من استخدام الكحول طبياً كمطهر للجلد والجروح والأدوات وقاتل للجراثيم،أو استعمال الروائح العطرية(ماء الكولونيا) التي يستخدم الكحول فيها كمذيب للمواد العطرية الطيارة،أو استخدام الكريمات التي يدخل الكحول فيها،ولا ينطبق ذلك على الخمر لحرمة الانتفاع به.

3 ـ لما كان الكحول مادة مسكرة فيحرّم تناولها،وريثما يتحقق مايتطلع إليه المسلمون من تصنيع أدوية لايدخل الكحول في تركيبها،ولاسيما أدوية الأطفال والحوامل،فإنه لامانع شرعاً من تناول الادوية التي تُصنع حالياً ويدخل في تركيبها نسبة ضئيلة من الكحول،لغرض الحفظ أو إذابة بعض المواد الدوائية التي لاتذوب في الماء،على ألا يستعمل الكحول فيها كمهدىء،وهذا حيث لايتوفر بديلٌ عن تلك الادوية.

4 ـ لايجوز تناول المواد الغذائية التي تحتوي على نسبة من الخمور مهما كانت ضئيلة،ولاسيما الشائعة في البلاد الغربية كبعض الشوكولاته وبعض أنواع المثلجات:(الآيس كريم،الجيلاتي،البوظه)وبعض المشروبات الغازية،اعتباراً لأصل الشرعي في أن ما أسكر كثيره فقليله حرام،ولعدم قيام موجب شرعي استثنائي للترخيص فيها.

5 ـ المواد الغذائية التي يستعمل في تصنيعها نسبة ضئيلة من الكحول،لإذابة بعض المواد التي لاتذوب في الماء من ملونات وحافظات وما إلى ذلك،يجوز تناولها لعموم البلوى ولتبخر معظم الكحول المضاف أثناء تصنيع الغذاء.

6 ـ المواد الغذائية التي يدخل شحم الخنزير في تركيبها دون استحالةعِينه،مثل بعض الأجبان وبعض أنواع الزيت والدُّهن والسمن والزُّبد وبعض أنواع البسكويت والشوكولاته والآيس كريم،هي محرمة ولا يحل أكلها مطلقاً،اعتباراً لإجماع أهل العلم على نجاسة شحم الخنزير وعدم حلّ أكله،ولانتفاء الاضطرار إلى تناول هذه المواد.

7 ـ الإنسولين الخنزيري المنشأ يباح لمرضى الداء السكري التداوي به للضرورة بضوابطها الشرعية.

8 ـ الاستحالة التي تعني انقلاب العين إلى عينٍ أخرى تغايرها في صفاتها،تحوّل المواد النجسة أو المتنجسة إلى مواد طاهرة،وتحوّل المواد المحرّمة إلى مواد مباحة شرعاً.

وبناءً على ذلك:

! ـ الجيلاتين المتكون من استحالة عظم الحيوان النجس وجلده وأوتاره طاهر وأكله حلال.

2 ـ الصابون الذي ينتج من استحالة شحم الخنزير أو الميتة يصير طاهراً بتلك الاستحالة ويجوز استعماله.

3 ـ الجبن المنعقد بفعل أنفحة ميتة الحيوان المأكول اللحم طاهر ويجوز تناوله.

4 ـ المراهم والكريمات ومواد التجميل التي يدخل في تركيبها شحم الخنزير لا يجوز استعمالها إلا إذا تحققت فيها استحالة الشحم وانقلاب عينه،أما إذا لم يتحقق ذلك فهي نجسةٌ ولايجوز استعمالها شرعاً.

9 ـ المواد المخدرة محرّمة ولا يحلّ اناولها إلا لغرض المعالجة الطبية المتعينة.وبالمقادير التي يحددها الاطباء وهي طاهرة العين.

ولا حرج في استعمال جوزة الطيب وأمثالها في إصلاح نكهة الطعام بمقادير قليلة لا تؤدي إلى التفتير أو التخدير.

التداوي بمشتقات الخنزير

نقلا عن كتاب الأسرار الطبية والأحكام الفقهية في تحريم الخنزير د محمد علي البار:

“يستخدم الخنزير ومشتقاته في بعض الأدوية الطبية،فمثلا يستعمل لمعالجه الداء السكري مادة الانسولين وهذا يوجد في الأسواق المستخلص من بنكرياس الخنزير ويسمى الانسولين الخنزيري،وهناك أيضا الانسولين البقري الذي يستخلص من بنكرياس البقر والعجول،وقد أمكن في السنوات الاخيرة تحضير وصنع الانسولين الإنساني وبكميات كبيرة ولذا لا يجوز الآن المعالجة بالانسولين الخنزيري إلا إذا كانت هناك أسباب طبية تمنع استخدام الانسولين البشري أو البقري للمعالجة.

كما أنه تستخدم بعض الأدوية وخاصة المساعدة على الهضم باستعمال خمائر مستخلصة من خمائر الخنزير،وهنا لابد من الإنتباه إلى هذه الأدوية إذ انه بالإضافة إلى كون فائدتها العلاجية مختلف عليه،كذلك هناك أدوية بديلة خالية من خمائر الخنزير متوفره وقد تكون أكثر فاعلية.

كما يستخدم في عمليات زرع دسامات (أي صمامات القلب) نوعان من الصمامات منها الصمام الآلي الصنعي،ومنها مايسمى البيولوجي الحيوي،وهذا يؤخذ من بعض الحيوانات كالبقر والخنزير،وهذا لابد من الإنتباه إليه لدى هؤلاء المرضى ومعرفه النوع الأفضل لهم.

إن على المسلم الانتباه لموضوع التداوي بمشتقات الخنزير،وسؤال الطبيب المسلم الثقة العدل حتى لا يقع في الحرام  وعليه الحذر من بعض مايورده غير المسلمين بل وأيضا ممن يحملون أسماء إسلامية حول هذا الموضوع.

أمثلة على الإضطرار إلى التداوي بالمحرمات:

أولا:استعمال المواد المخدرة في العمليات الجراحية بالتخدير العام.

ثانياً: استعمال بعض المخدرات كالمورفين ومشتقاته لتسكين الآلام الشديدةكالقولنج عندما لا تفيد المسكنات الأخرى ويكون الألم غير محتملا.

ثالثاً: نقل الدم في حالات النزوف الشديدة

رابعاً :استعمال المصول كالمصل المضاد للخناق الدفتريائي،أو المصل المضاد للكزاز،أو المصل المضاد لسم الافعى،وهي مصول تستخلص من دم الانسان،أو بعض الحيوانات كالحصان مثلا.

خامساً: الإستفادة من أعضاء الموتى في عمليات زرع الاعضاء.

سادساً:استعمال الذهب في طب الأسنان

وهنا لابد من التفصيل حول موضوع نقل الدم وزرع الأعضاء.

التبرع بالدم ونقل الدم

يقول الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي حول موضوع التبرع بالدم ونقل الدم:

من أفضل مايقدمه أهل المريض وأصحابه له التبرع بالدم له إذا احتاج إليه عند اجراء جراحة أو لإسعافه وتعويضه عما نزف منه،فهذا من أعظم القربات وأفضل الصدقات،لأن إعطاء الدم في هذه الأحوال بمثابة إنقاذ الحياة وقد قرر القرآن الكريم في معرض بيان قيمة النفس الإنسانية{أنَّهُ من قتلَ نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قتلَ الناسَ جميعاً ومن أحياها فكأنّما أحيا الناس جميعاً} [المائدة 32]،وإذا كان للصدقة بالمال منزلتها في الدين،وثوابها عند الله،حتى أن الله تعالى يتقبلها بيمينه،ويضاعفها أضعافاً كثيرة إلى سبعمائة ضعف إلى ماشاء الله فإن الصدقة بالدم أعلى منزلة وأعظم أجراً،لأنه سبب الحياة وهو جزء من الإنسان والإنسان أغلى من المال وكأن المتبرع بالدم يجود بجزء من كيانه المادي لأخيه حباً وإيثاراً،ويزيد من قيمة هذا العمل الصالح أن يغيث به ملهوفاً ويفرج به كربة مكروب وهذه مزية أخرى تجعل له مزيداً من الأجر عند الله تعالى ففي الحديث: ” إن الله يحب إغاثة اللهفان” [رواه أبو يعلى والديلمي وابن عساكر عن أنس كما في فيض القدير]،وفي الصحيح : “من فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة” [رواه الشيخان من حديث ابن عمر رضي الله عنهما].

والصدقة بالدم لها ثوابها الجزيل بصفة عامة ولكن صدقة القريب على قريبه مضاعفة بصفة خاصة لما فيها من توثيق روابط القربى وتأكيد الصلة بين الأرحام، وفي هذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم اثنتان:صدقة وصلة“،[رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم عن سلمان بن عامر وحسنه الترمذي وصححه الحاكم ووافقه الذهبي].(موقع الشيخ القرضاوي).

وقد يتساءل البعض هل هناك من خطورة على المتبرع للدم بعد إعطاء جزء من دمه للمحتاج إليه؟

والجواب : إن الإنسان الصحيح السليم الذي يتبرع بجزء من دمه لايحصل عليه أدنى خطر من فعل هذا العمل الشريف ،وذلك لأن الله تعالى جعل الدم في جسم الإنسان على شكلين: شكل دوار يسير في العروق الدموية أي الشرايين والأوردة وهو مايسمى “الدم الجوال”، وهناك شكل يكون مدخراً في بعض أعضاء الجسم وخاصة الكبد والطحال وبعض الأنسجة الأخرى في الجسم وهذا مايسمى” الدم الاحتياطي أو المدخر”،وهذا الأخير يقدر حجمه في الإنسان السليم بحوالي 850 مل،وهذا أقل بكثير من المسموح بإعطائه في حالات نقل الدم،والتي تعوض وبشكل سريع من الدم الاحتياطي بعد التبرع بالدم.وهذا الاحتياطي لايلبث أن يعوض وبسرعة من أماكن تشكيل عناصر الدم والموجودة بشكل خاص في نقي العظم، فتعود المخازن للامتلاء من جديد.ومن الناحية الطبية فإن الدم يتغير كلياً ويتجدد كل أربعة أشهر في الحالات الطبيعية .

أضف إلى ذلك فإن التبرع بالدم قد يفيد بعض الأشخاص المصابين بارتفاع التوتر الشرياني ،وبعض أمراض القلب،..ومن هنا كان الاحتجام أو الفصادة سبيل من سبل المعالجة الطبية المقررة قديماً وحديثاً،وهذا ماسنبحثه بعد قليل.

زرع ونقل الأعضاء

من الناحية الطبية والتاريخية:

في عام 1954 أجريت ولأول مرة وبنجاح عملية زرع الكلية في مدينة بوستون في أمريكا وذلك من قبل الجراح مورايو بالتعاون مع الطبيب الداخلي ميريل،وقد كانت العملية ناجحة ،ومع أنه لم تكن تتوفر في ذلك الوقت المعالجة بمثبطات المناعة، ولكن العملية نجحت لأن الكلية أخذت من توأم حقيقي،ومن ثم انتشرت العملية في كل أنحاء العالم.والآن يتم أيضاً زراعة القلب والرئة وفي بعض الحالات كليهما معاً،وأول عملية لزرع القلب البشري قام بها الجراح كريستيان برنارد عام 1967 في جنوب أفريقيا،ومن ثم تتالت العمليات،وكذلك زرع جزء من الكبد(نقل احد فصوص الكبد)،وزرع نقي العظم في بعض أنواع سرطان الدم..

قبل الدخول في الموضوع من الناحية الفقهية لابد من مقدمة بسيطة ،يقول الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله:

“إن الله سبحانه وتعالى قد كرم الإنسان على جميع المخلوقات..بأن لايكون سلعة تباع وتشترى وألا تكون أجزاؤه سلعت يتصرف فيها..لأن التصرف هبة أو بيع فرع الملكية.. والإنسان لايملك ذاته ولا يملك أبعاضه..وليس من المعقول أنه لايملك هو في حياته.. ثم يملك ذلك ورثته بعد مماته..فالإنسان ليس ملكاً لنفسه وإنما كل أعضائه هي ملك لله،والله سبحانه استخلفه فيها بالأمانة والحفظ.. يقول تعالى:{أمّن يملكُ السَّمعَ والأبصارَ ومن يُخرجُ الحيَّ من الميّتِ ويُخرجُ الميّتَ من الحيّ ومن يُدبّرُ الأمرَ فسيقولون لله فقل أفلا تتقون}[يونس 31] انتهى كلام الشيخ الشعراوي.

ماهو الحكم الشرعي في نقل وزرع الأعضاء؟

جاء في مقال للأستاذ الدكتور محمد الهواري رحمه الله في مجلة الرائد العدد 334:

“عقد المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث دورته العادية السادسة في مقره بالمركز الثقافي الإسلامي بمدينة دبلن في إيرلندة في الفترة الواقعة مابين 28 جمادى الأولى إلى 3 جمادى الآخرة 1421هجري الموافق 28 آب إلى 1 ايلول 2000م برئاسة فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي.وتدارس المجلس مجموعة من البحوث والدراسات العلمية حول عدد من القضايا التي تهم المسلمين عامة والتي تهم المسلمين في الغرب بصورة خاصة.ثم اتخذ بشأنها القرارات المناسبة.

نقل الأعضاء

1 ـ حكم نقل الأعضاء وحالاته:

ـ يؤكد المجلس قرار المجمه الفقهي الإسلامي بمكة(التابع لرابطة العالم الإسلامي ـ رقم الدورة الثامنة ـ وقرار مجمع الفقه الإسلامي بجدة المنبثق عن منظمة المؤتمر العالم الإسلامي رقم 26 بشأن انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً كان أو ميتاً ونصه:

ـ من حيث التعريف والتقسيم:

أولاً:يقصد هنا بالعضو أي جزء من الإنسان،من أنسجة وخلايا ودماء ونحوها،كقرنية العين،سواء أكان متصلاً به،أم انفصل عنه.

ثانياً:الانتفاع الذي هو محل البحث،هو استفادة دعت ضرورة المستفيد لاستبقاء أصل الحياة،أو المحافظة على وظيفة أساسية من وظائف الجسم كالبصر ونحوه.على أن يكون المستفيد يتمتع بحياة محترمة شرعاً.

ثالثاً:تنقسم صورة الانتفاع هذه إلى الأقسام التالية:

ـ نقل العضو من حي.

ـ نقل العضو من ميت.

ـ النقل من الأجنة.

الصورة الأولى:وهي نقل العضو من حي،وتشمل الحالات التالية:

1 ـ نقل العضو من مكان من الجسد إلى مكان آخر من الجسد نفسه،كنقل الجلد والغضاريف والعظام والأوردة والدم ونحوها.

2 ـ نقل العضو من جسم إنسان حي إلى جسم إنسان آخر.وينقسم العضو في هذه الحالة إلى ما تتوقف عليه الحياة ومالا تتوقف عليه.

ـ أما ما تتوقف عليه الحياة،فقد يكون فردياً،وقد يكون غير فردي،فالأول كالقلب والكبد،والثاني كالكلية والرئتين.

ـ وأما ما تتوقف عليه الحياة،فمنه مايقوم بوظيفة أساسية في الجسم ومنه مالايقوم بها.ومنه مايتجدد تلقائياً كالدم،ومنه مالايتجدد،ومنه ماله تأثير على الأنساب والمورثاتـ والشخصية العامة،كالخصية والمبيض وخلايا الجهاز العصبي،ومنه مالاتأثير له على شىء من ذلك.

الصورة الثانية:وهي نقل العضو من ميت.ويلاحظ أن الموت يشمل حالتين:

الحالة الأولى:موت الدماغ بتعطل جميع وظائفه تعطلاً نهائياً لا رجعة فيه طبياً.

الحالة الثانية:توقف القلب والتنفس توقفاً تاماً لا رجعة فيه طبياً.

وقد روعي في كلتا الحالتين قرار المجمع في دورته الثالثة.

الحالة الثالثة:وهي النقل من الأجنة،وتتم الاستفادة منها في ثلاث حالات:

ـ حالة الأجنة التي تسقط تلقائياً.

ـ حالة الأجنة التي تسقط لعامل طبي أو جنائي.

حالة”اللقائح المستنبتة خارج الرحم”.

من حيث الأحكام الشرعية:

أولاً:يجوز نقل العضو من جسم إنسان إلى مكان آخر من جسمه،مع مراعاة التأكد من أن النفع المتوقع من هذه العملية أرجح من الضرر المترتب عليها،وبشرط أن يكون ذلك لإيجاد عضو مفقود أو لإعادة شكله أو وظيفته المعهودة له،أو لإصلاح عيب أو ازالة دمامة تسبب للشخص أذى نفسياً أو عضوياً.

ثانياً:يجوز نقل العضو من جسم إنسان إلى جسم إنسان آخر،إن كان هذا العضو يتجدد تلقائياً،كالدم والجلد،ويراعى في ذلك كون الباذل كامل الأهلية،وتحقق الشرعية المعتبرة.

ثالثاً:تجوز الاستفادة من جزء من العضو الذي استؤصل من الجسم لعلة مرضية لشخص آخر،كأخذ قرنية العين لإنسان ما عند استئصال العين لعلة مرضية.

رابعاً:يحرم نقل عضو تتوقف عليه الحياة كالقلب من إنسان إلى انسان آخر.

خامساً:يحرم نقل عضو من إنسان حي يعطل زواله وظيفة أساسية في حياته وإن لم تتوقف سلامة أصل الحياة عليها،كنقل قرنية العينين كلتيعما،أما إن كان النقل يعطل جزءاً من وظيفة أساسية فهو محل بحث ونظر كما يأتي في الفقرة الثامنة.

سادساً:يجوز نقل عضو من ميت إلى حي تتوقف حياته على ذلك العضو،أو تتوقف سلامة وظيفة أساسية فيه على ذلك،بشرط أن يأذن الميت قبل موته أو ورثته بعد موته،أو بشرط موافقة”ولي أمر المسلمين” إن كان المتوفى مجهول الهوية أو لا ورثة له.

سابعاً:وينبغي ملاحظة:أن الاتفاق على جواز نقل العضو في الحالات التي تم بيانها،مشروط بأن لا يتم ذلك بوساطة بيع العضو،إذ لا يجوز إخضاع الإنسان للبيع بحال ما.

أما بذل المال من المستفيد،ابتغاء الحصول على العضو المطلوب عند الضرورة أو مكافأة وتكريماً،فمحل اجتهاد ونظر.

ثامناً:كل ماعدا الحالات والصور المذكورة،مما يدخل في أصل الموضوع،فهو محل بحث ونظر،ويجب طرحه للدراسة والبحث في دورة قادمة،على ضوء المعطيات الطبية والأحام الشرعية.

ويؤكد المجلس أيضاً قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة رقم 57 بشأن زراعة الأعضاء التناسلية ونصه:

أولاً:زرع الغدد التناسلية:بما أن الخصية والمبيض يستمران في حمل وإفراز الصفات الوراثية(الشفرة الوراثية)للمنقول منه حتى بعد زرعهما في متلقٍ جديد،فإن زرعهما محرم شرعاً.

ثانياً:زرع أعضاء الجهاز التناسلي:زرع بعض أعضاء الجهاز التناسلي التي لاتنقل الصفات الوراثية ـ ماعدا العورات المغلظة ـ جائز لضرورة مشروعة وفق الضوابط والمعايير الشرعية المبينة في القرار رقم 26 لهذا المجمع والله أعلم.

ويؤكد المجلس أيضاً قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة رقم 54 بشأن زراعة خلايا المخ والجهاز العصبي ونصه:

أولاً:إذا كان المصدر للحصول على الأنسجة هو الغدة الكظرية للمريض نفسه وفيه ميزة القبول المناعي،لأن الخلايا من الجسم نفسه فلا بأس من ذلك شرعاً.

ثانياً:إذا كان المصدر هو أخذها من جنين حيواني فلا مانع من هذه الطريقة إن أمكن نجاحها ولم يترتب على ذلك محاذير شرعية.وقد ذكر الأطباء أن هذه الطريقة نجحت بين فصائل مختلفة من الحيوات،ومن المأمول نجاحها باتخاذ الاحتياطات الطبية اللازمة لتفادي الرفض المناعي.

ثالثاً:إذا كان المصدر للحصول على الأنسجة هو خلايا حية من مخ جنين باكر(في الاسبوه العاشر أو الحادي عشر)فيختلف الحكم على النحو التالي:

1 ـ الطريقة الأولى:أخذها مباشرة من الجنين الإنساني في بطن أمه،بفتح الرحم جراحياً،وتستتبع هذه الطريقة إماتة الجنين بمجرد أخذ الخلايا من مخه،ويحرم ذلك شرعاً إذ كان بعد إجهاض طبيعي غير متعمد أو إجهاض مشروع لإنقاذ حياة الام وتحقق موت الجنين،مع مراعاة الشروط التي سترد في موضوع الاستفادة من الاجنة في القرار رقم 95 لهذه الدورة.

2 ـ الطريقة الثانية:وهي طريقة قد يحملها المستقبل القريب في طياته باستزراع خلايا المخ في مزارع للإفادة منها ولا بأس في ذلك شرعاً إذا كان المصدر للخلايا المستزرعة مشروعاً،وتم الحصول عليها على الوجه المشروع.

رابعاً:المولود اللادماغي:طالما ولد حياً،لا يجوز التعرض له بأخذ شىء من أعضائه إلى أن يتحقق موته بموت جذع دماغه،ولا فرق بينه وبين غيره من الأسوياء في هذا الموضوع.فإذا مات فإن الأخذ من أعضائه تراعى فيه الأحكام والشروط المعتبرة في نقل أعضاء الموتى من الإذن المعتبر،وعدم وجود البديل وتحقق الضرورة وغيرها،ومما تضمنه القرار رقم 26 من قرارات الدورة الرابعة لهذا المجمع.ولا مانع شرعاً من إبقاء هذا المولود اللادماغي على أجهزة الإنعاش إلى مابعد موت جذع المخ والذي يمكن تشخيصه للمحافظة على حيوية الأعضاء الصالحة للنقل،توطئة للاستفادة منها بنقلها إلى غيرهبالشروط المشار إليها.

تحديد المنتفع بالأعضاء ووسيلة ذلك:

هذا وقد استكمل المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث بعد المناقشة المسائل التالية التي تتعلق بنقل الاعضاء وهي:

1 ـ إذا حدد المتبرع أو ورثته شخصاً معيناً للانتفاع بالعضو المتبرع به أو فوض جهة معينة بتحديد الشخص المنتفع به فيجب الالتزام بذلك ما أمكن،فإن لم يمكن لسبب إرادي أو طبي فإنه يرجع في ذلك إلى ورثة المتبرع،فإن لم يتيسر فيرجع إلى الجهة المعنية بمصالح المسلمين في البلاد غير الإسلامية.

2 ـ إذا كتب الشخص وثيقة للتبرع بعضو من أعضائه بعد وفاته فتطبق على ذلك أحكام الوصية،ولا يجوز للورثة أو غيرهم تبديل الوصية.

3 ـ في حالة وجود قانون بأن من لم يصرح بعدم الرغبة في أن ينتفع بأعضائه بعد وفاته يعتبر موافقاً،فإن عدم التصريح بالرفض يعتبر موافقة ضمنية”.

الإستشفاء بالقرآن

هناك آيات عديدة في القرآن الكريم تدل على أن فيه الشفاء من الأمراض العضوية والنفسية أو مايسمى أمراض القلوب،قال الله تعالى :{يأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين } [يونس 57 ]،وقال تعالى : “{وننزل من القرآن ماهو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا} ” [الإسراء 82].

يقول الإمام ابن الجوزي في زاد المسير :إن “من”هاهنا لبيان الجنس فجميع القران شفاء ”

وقال تعالى : {ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت أياته أأعجمي وعربي قل هو للذين أمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في أذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد} [فصلت 44]،وقال تعالى :{قل هو للذين أمنوا هدىً وشفاء }[فصلت 44]،وقال تعالى :{وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم }”[فصلت .80].

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان:”

وأمراض القلوب لها نوعان : أمراض شبهات،وأمراض شهوات،وهذان النوعان من أمراض القلوب هي أصل شقاء العبد وحيرته وتخبطه في الدنيا والآخرة،في معاشه ومعاده .والقلوب ثلاثة :قلب سليم ،وقلب ميت،وقلب مريض

القلب السليم :هو الذي قد سلم من كل شهوة تُخالف أمر الله ونهيه ،ومن كل شبهة تُعارض خبره،فسلم من عبودية ما سواه،وسلم من تحكيم غيررسوله صلى الله عليه وسلم .الذي سلم من أن يكون لغير الله فيه شركٌ بوجهٍ ما،بل قد خلصت عبوديته لله :إرادةً، ومحبة ً،وتوكلاً،وإنابة ً،وإخباتاً،وخشية ً،ورجاءً،وخلص عمله لله،فإن أحبَّ أحبَ لله،وإن أبغض أبغض في الله ،وإن أعطى أعطى لله ،وإن منع منع لله ،فهمه كله لله ،وحبُّه كله لله ،وقصده له ،وبدنه له،وأعماله له ،ونومه له، ويقظته له،وحديثه والحديث عنه أشهى إليه من كل حديث ،وأفكاره تحوم على مراضيه،ومحابه .

القلب الميت : وهو ضد َّ الأول ،وهو الذي لا يعرف ربه ولا يعبده بأمره وما يحبه ويرضاه ،بل هو واقفٌ مع شهواته ولذاته،ولو كان فيها سخط ربه وغضبه،فهو متعبد لغير الله :حباً،وخوفاً،ورجاءً،ورضاًوسخطاً،وتعظيماً ،وذلاً،،إن أبغض أبغض على هواه ،وإن أحب أحب لهواه ،وإن أعطى أعطى لهواه ،وإن منع منع لهواه ،فالهوى إمامه ،والشهوة قائده ،والجهل سائقه،والغفلة مركبه

القلب المريض :هو قلب له حياة وبه علّة،فله مادتان تمده هذه مرة وهذه أخرى ،وهو لما غلب عليه منهما . ففيه من محبة الله تعالى والإيمان به،والاخلاص له ،والتوكل عليه :ماهو مادة حياته ،وفيه من محبة الشهوات والحرص على تحصيلها،والحسد والكبر والعجب، وحب العلو والفساد في الأرض بالرياسة،والنفاق ،والرياء والشح والبخل ماهو مادة هلاكه وعطبه “.

ويقول الإمام  ابن الجوزي في زاد المسير :

“إن الشفاء في القران فيه ثلاثة أقوال :أحدها شفاء من الضلال لما فيه من الهدى،والثاني شفاء من السقم  لما فيه من البركة ، والثالث شفاء من البيان للفرائض والأحكام “.

ويقول سيد قطب في الظلال :

“وفي القرآن شفاء ،وفي القرآن رحمة ،لمن خالطت قلوبهم بشاشة الإيمان فأشرقت وتفتحت لتلقي ما في القران من روح وطمأنينة وأمان . في القرآن شفاء من الوسوسة والقلق والحيرة ،فهو يصل القلب بالله فيسكن ويطمئن ويستشعر الحماية والأمن ، ويرضى فيستروح الرضى من الله والرضى عن الحياة ،والقلق مرض،والحيرة نصب ،والوسوسة داء ومن ثم هو القرآن رحمة للمؤمنين . وفي القرآن شفاء من الهوى والدنس والطمع والحسد ونزغات الشيطان وهي من آفات القلب تصيبه بالمرض والضعف والتعب وتدفع به إلى التحطم والبلى والانهيار، من ثم هو رحمة للمؤمنين،وفي القرآن شفاء من الاتجاهات المختلفة في الشعور والتفكير فهو يعصم العقل من الشطط ،ويطلق له الحرية في مجالاته المثمرة،ويكفه عن إنفاق طاقته فيما لا يجدي، وبأخذه بمنهج سليم مضبوط ،ويجعل نشاطه منتجاً ومأموناً،ويعصمه من الشطط والزلل،وكذلك هو في عالم الجسد ينفق طاقاته في اعتدال بلا كبت ولا شطط فيحفظه سليماً معافى ويدخر طاقاته للإنتاج المثمر،ومن ثم هو رحمة للمؤمنين،وفي القرآن شفاء من العلل الإجتماعية التي تخلخل بناء الجماعات وتذهب بسلامتها وأمنها وطمأنينتها  فتعيش الجماعة في ظل نظامه الإجتماعي وعدالته الشاملة في سلامة وأمن وطمأنينة،ومن ثم هو رحمة للمؤمنين” .

ويقول الشيخ متولي الشعراوي:

“قدَّم الله عز وجل الشفاء على الرحمة في قوله تعالى : {وننزل من القران ماهو شفاء ورحمة للمؤمنين} وذلك لأن الشفاء يكون من الداء،والرحمة تقتضي ألا يعود الداء .والذي حدث أن الإسلام جاء والداءات موجودة ،فجاء القران ليشفي من الداءات أولاً، فإذا شفى من الداءات واستقر منهجه في الأرض،وحكم حركة الحياة تأتي الرحمة، ذلك لأن الأصل في الأشياء أنك تمنع الشر الذي طرأ عليها أولاً ثم تأتي الرحمة”.

ويقول الشيخ الشعراوي أيضاً:هناك أيات في القران الكريم فيها الشفاء من أمور عديدة وهي:

قال تعالى :{وأيوبَ إذ نادى ربَّهُ أنّي مسَّني الضُّرُّ وأنتَ أرحمُ الراحمين* فاستجبنا لهُ فكَشَفنا مابه من ضُرٍّ وآتيناهُ أهلَهُ ومثلَهُم معهُم رحمةً من عِندنا وذكرى للعابدين}.[الأنبياء83 ـ  84].

وقوله تعالى : {وذا النُّونِ إذ ذهبَ مُغاضِباً فظنَّ أن لن نقدِرَ عليه فنادى في الظُّلُماتِ أن لا إلهَ إلا أنتَ سُبحانكَ إني كنتُ من الظالمين * فاستجبنا لهُ ونجّيناهُ من الغَمِّ وكذلك نُنجي المؤمنين}  [الأنبياء 87 ـ .88].

وقوله تعالى :  {وزكريَّا إذ نادى ربَّهُ رَبِّ لا تذَرني فرداً وأنتَ خيرُ الوارثين * فاستجبنا لهُ ووهبنا لهُ يَحيى وأصلحنا له زَوجه } [الأنبياء 90].

يقول الاستاذ مناع القطان (مباحث في علوم القرآن):

“فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية،وأدواء الدنيا والأخرة،وما كلُّ أحدٍ يؤَهل ولايُوفق للاستشفاء بالقرأن وإذا أحسن العليل التداوي به وعالج به مرضه بصدقٍ وإيمان وقبول ٍ تام، واعتقادٍ جازم ،واستيفاء شروطه ،لم يقاومه الداء أبداً. وكيف تُقاوم الأدواء كلام رب الارض والسماء الذي لو نزل على الجبال لصدعها،أو على الأرض لقطعها،فما من مرضٍ من أمراض القلوب والأبدان إلا وفي القران سبيل الدلالة على علاجه وسببه،والحمية منه لمن رزقه الله فهماً لكتابه” .

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى :

“لقد مرَّ بي وقت في مكة سقمت فيه ،ولا أجد طبيباً ولا دواءً فكنت أعالج نفسي بالفاتحة،فأرى لها تاثيراً عجيباً،آخذ شربة من ماء زمزم وأقرؤوها عليها مراراً ثم أشربه فوجدت بذلك البرء التام ،ثم صرت أعتمد ذلك عند كثيرٍ من الأوجاع  فأنتفع به غاية الانتفاع ،فكنت أصف ذلك لمن يشتكي ألماً فكان كثيرٌ منهم يبرأ سريعاً”.

وقال ابن القيم أيضاً:وقد جربنا نحن وغيرنا من هذا أموراً كثيرة ورأيناها تفعل ما لا تفعل الأدوية الحسية بل تصير الأدوية الحسية عندها بمنزلة  أدوية الطرقية عند الأطباء وهذا جار على قانون الحكمة الإلهية ليس خارجاً عنها،ولكن الأسباب متنوعة فإن القلب متى اتصل برب العالمين خالق الداء والدواء،ومدبر الطبيعة ومصرفها على مايشاء كانت له أدوية أخرى غير الأدوية  التي يعانيها القلب البعيد منه،المعرض عنه، وقد علم أن الأرواح متى قويت وقويت النفس والطبيعة تعاونا على دفع الداء وقهره فكيف ينكر لمن قويت طبيعته ونفسه وفرحت بقربها من بارئها وانسها به وحبها له وتنعمها بذكره وانصراف قواها كلها إليه وجمعها عليه واستعانتها به وتوكلها عليه أن يكون ذلك لها من أكبر الأدوية وان توجب لها هذه القوة دفع الألم بالكلية ولا ينكر هذا إلا أجهل الناس وأغلظهم حجاباًوأكثفهم نفساً وأبعدهم عن الله وعن حقيقة الانسانية “.

الرقية الشرعية

الرقى في اللغة :جمع رقية . وهي اسم من الرقي . يقال :رقى الراقي المريض يرقيه رَقياً ورُقياً. وأصل رقى يرجع إلى ثلاثة أمور هي : الصعود ،والبقعة من الأرض ،والتعويذ.وجاء في الأمر الثالث قوله تعالى :{كلا إذا بلغت التراقي وقيل من راق }[القيامة 26_27 ].أي من يرقيه تنبيهاً إلى أنه لا راق يرقيه برقية فيحميه .

يقول الدكتور مسعود البوبو في مقال له نشره في أحد أعداد مجلة المجمع العربي في دمشق تحت عنوان:”الرقى والتعاويذ بين اللغة والاعتقاد”:

“وقبل أن نتتبع مظاهر الرَّقْي والتعويذ في الممارسة والعلاج يستحسن أن نقف عند نشأة الدلالات اللغوية التي تدور في فلك هذا الموضوع.

ونبدأ بالرقى.قال ابن منظور:الرُّقى،من الرقوة وتعني دِعص الرمل،وأكثر ما يكون إلى جوانب الأودية،قال الشاعر:

من البيض مِبهاجٌ كأن ضجيعها             يبيتُ إلى رقوٍ من الرملِ مُصْعِب

والجمع رُقى…يقال:رقى الراقي رُقيةً ورُقيّاً :إذا عوّذَ ونفثَ في عُوذته.

يتضح من هذا أمران أساسيان:أولهما أن أصل المعنى يدل على الصعود والعلو،وعلى التعويذ.وثانيهما:أن هذا الأصل واويّ ويائي كما دلت الأمثلة،وكما قيّد ابن منظور في قوله:”رُقيا ورقوّا”.

وبتأمل معنى التعويذ نجد أنه يدل على الالتجاء.قال ابن فارس:”عوذ:الاتجاء إلى الشيء،ثم يحمل عليه كل شىء لصق به أو لازمه.وأعوذ بالله أي ألجا إليه،وفلان عياذ لك،أي ملجأ…والعُوذَة والمَعاذة:التي يُعوَّذ بها اللإنسان من فزع أو جنون.

ولا يخفى على المتأمل أن التعويذ من “العين والفزع والجنون”،والرقية التي “يُرقى بها صاحب الآفة كالحمى والصرع ،وغير ذلك من الآفات يتجهان إلى تخليص المَرقو أو المّرقي مما ألمَّ به من خوف أو أذى أو آفة أو سوء”.

جاء في الحديث النبوي الشريف :”يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب،وهم الذين لايسترقون ،ولا يكتوون،ولا يتطيرون،وعلى ربهم يتوكلون “.[رواه الشيخان ].

ففي هذا ذم الاسترقاء،وحديث جبريل عليه السلام أنه كان يرقي النبي صلى الله عليه وسلم يقتضي مدح الاسترقاء، فكيف يمكن الفصل بين الأمرين؟

والجواب على هذا أن الاسترقاء المنهي عنه والذي يجب تركه هو الاسترقاء بكلام الكفار،أوالألفاظ المجهولة التي لايُعرف معناها . والاسترقاء الحسن المباح ما كان بالقرآن الكريم،أو بالاحاديث النبوية الشريفة المتعلقة بهذا الموضوع .

جاء في شرح الإمام النووي لصحيح مسلم :لا يسترقون : يُحمل على الرقى الجاهلية التي تتضمن الكفر والسحر والكلام غير المعروف . وأما الرقى بآيات القران الكريم والأذكار المعروفة فلا نهي فيها ،بل هو سنة .

ويقول شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله :

وقد روي فيه “ولا يرقون”وهو غلط ،فإن رقياهم لغيرهم ولأنفسهم حسنة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرقي نفسه وغيره . وقال ابن القيم رحمه الله :وهذه اللفظة “ولا يرقون ” وقعت مقحمة في الحديث وهي غلط من بعض الرواة (حادي الأرواح )وقد روى البخاري الحديث ولم يذكر فيه هذا اللفظ وإنما جاء فقط في صحيح مسلم .

الرقية الجائزة شفاء سواء من مرض قلب أو نفس أو عضو  بشروط ثلاثة متفق عليها :

ـ  أن تكون بكلام الله تعالى أو أسمائه وصفاته،أو من سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ،أو من الأدعية المباحة المشتملة على التعلق بالله وحده لا شريك له في جلب الخير ودفع الشر وعلى الوحدانية في الشفاء من الله تعالى .

ـ أن تكون بلسان عربي،أوبما يعرف معناه من غيره،لا بالألفاظ المجهولة التي لا يعرف معناها،وأن لاتشتمل على صيغ مجهولة من طلاسم ورموز ونحو ذلك.

ـ أن يُعتقد أن الرقية لا تؤثر بنفسها بل بفعل الله تعالى،فالرقية هي سبب والشافي هو الله وحده حيث جعل الله الرقية سبباً للشفاء والشفاء خاص بالله تعالى وحده قال تعالى : {وإذا مرضت فهو يشفين}  [الشعراء 80].

يقول الدكتور القرضاوي (موقع القرضاوي):

روى مسلم عن عوف بن مالك قال :كنا نرقي في الجاهلية،فقلنا يا رسول الله كيف ترى في ذلك ؟ فقال :”اعرضوا عليّ رقاكم،لا بأس بالرقى، ما لم يكن فيه شرك” . وروى عن جابر : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقي ،فجاء آل عمرو بن حزم فقالوا : يا رسول الله إنه كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب،قال :فعرضوا عليه، فقال : ما أرى بأساً،من استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه” . [رواه مسلم ]. قال الحافظ :وقد تمسك قوم بهذا العموم ،فأجازوا كل رقية جربت منفعتها ولم يعقل معناها ،لكن دل حديث عوف : أنه ماكان من الرقى يؤدي إلى الشرك يمنع  وما لايعقل معناه لا يؤمن أن يؤدي إلى الشرك ،فيمنع احتياطاً ،والشرط الأخر لا بد منه (فتح الباري) .

وقد ثبتت شرعية الرقية بالسنة القولية والفعلية والتقريرية .

يقول الإمام ابن القيم (الطب النبوي):

استعمل النبي صلى الله عليه وسلم في علاج أمراض البدن ثلاثة أنواع من الأدوية وهي :أحدها : العلاج بالأدوية الطبيعية مثل العسل والحبة السوداء،والثاني: العلاج بالأدعية والأذكار: كالرقي بآيات القران الكريم،والثالث : العلاج المركب من الأمرين .

وقد جاءت التطبيقات العملية من خلال قول وفعل الرسول صلى الله عليه وسلم واقتداء الصحابة رضي الله عنهم به،روى أبو سعيد الخدري أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال :”يامحمد،اشتكيت . فقال : نعم ،فقال جبريل عليه السلام :باسم الله أرقيك من كل شئ يؤذيك،من شر كل نفس أو عين حاسد،الله يشفيك،باسم الله أرقيك“. [أخرجه مسلم  والترمذي وابن ماجة وأحمد والنسائي].

وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى شيئاً قرأ في كفيه عند النوم سورة : “قل هو الله احدو”المعوذتين “ثلاث مرات ثم يمسح في كل مرة على ما استطاع من جسده فيبدأ برأسه ووجهه وصدره في كل مرة عند النوم،كما صح الحديث بذلك عن عائشة رضي الله .

وقد ثبت في الصحيح جواز الرقية من اللدغة ومن الحُمة  ـ أي السم  ـ والقرحة والجرح والألم والمصيبة والحزن والعين وغيرها .

جاء في حديث بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :”لا رقية إلا من عين أو حمة” . [أخرجه مسلم] . وعن سهل بن حنيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:” لا رقية إلا في نفس أو حمة أو لدغة،والنفس العين “، أ[خرجه ابن ماجة] . وأجاب الجمهور أن تخصيص ماذكر لا يمنع الرقية من غيره من الأمراض،حيث ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رقى بعض أصحابه من غير ماذكر .

وفي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إذ سجد فلدغته عقرب في إصبعه،فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :لعن الله العقرب ما تدع نبياًولا غيره ” قال : ثم دعا بإناء فيه ماء وملح فجعل يضع موضع اللدغة في الماء والملح ويقرأ:قل هو الله أحد،والمعوذتين حتى سكنت“.[أخرجه ابن ماجة وصححه الألباني والهيثمي في مجمع الزوائد].

وفي الرقية من الحمة حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم “رخص في الرقى من كل ذي حمة ” [اخرجه البخاري ومسلم.]

وفي الرقية من القرحة والجرح حديث عائشة رضي الله عنها قالت :كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى الإنسان،أوكانت به قرحة أو جرح :قال بإصبعه :هكذا ووضع سفيان سبابته بالارض،ثم رفعها فقال : باسم الله،تربة أرضنا بريقة بعضنا،يشفي سقيمنا بإذن ربنا” ،[ أخرجه البخاري ومسلم  وأبو داود وابن ماجة وأحمد] .ومعنى الحديث : أنه يأخذ من ريق نفسه على إصبعه السبابة ،ثم يضعها على التراب ،فيعلق بها من شئ ،فيمسح به على الجرح.

وفي الرقية من ألم المصيبة والحزن ماورد من حديث أم سلمة قالت :قال صلى الله عليه وسلم :”ما من أحد تصيبه مصيبة فيقول :إنا لله وإنا إليه راجعون،اللهم أجرني في مصيبتي،وأخلف لي خيراً منها ،إلا أجره الله في مصيبته وأخلف له خيراً منها “. [أخرجه مسلم وأبو داود  والنَسائي.]

وفي الرقية من الألم العضوي حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه : أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعاً يجده في جسده منذ أسلم،فقال النبي صلى الله عليه وسلم :”ضع يدك على الذي تألم من جسدك،وقل : بسم الله ثلاثاً،وقل سبع مرات:أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر” . وفي الصحيحين : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعوذ بعض أهله يمسح بيده اليمنى ويقول :اللهم رب الناس أذهب البأس،واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك ،شفاء لا يغادر سقما “.

وفي الرقية من النملة ،عن الشفاء بنت عبد الله قالت :دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا عند حفصة : فقال لي :”ألا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتيها الكتابة”  . [أخرجهأ داود وأحمد  والحاكم ]

( والنملة: قروح تخرج في الجنبين،سميت بذلك لأن صاحبها يحس في مكانها كأن نملة تدب عليه وتعضه،وهي تدب وتنتقل من موضع إلى أخر في جنبيه،كما تدب النملة) . وكانت الشفاء ترقي من النملة وكانت تعلم حفصة الكتابة .

والرقية من العين، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم “كان يتعوذ من الجان ومن عين الإنسان“،[أخرجه الترمذي وقال حسن غريب والنسائي وابن ماجة  وصححه الألباني ].

والرقية من العين هي أصل الرقية ومحلها الأشهر،والرقية من أكثر ماتكون من العين،واكثر اصابة الناس منها . عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة أي صفرة ،فقال :”استرقوا لها،فإن بها النظرة .[أ خرجه البخاري ومسلم] . وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :”العين حق” . [أخرجه البخاري ومسلم وابو داود وابن ماجة] .وعن عائشة رضي الله عنها قالت : “أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أو أمر أن تسترقي من العين” . [أخرجه البخاري ومسلم  وابن ماجة] . وعن عبيد بن رفاعة الزرقي أن أسماء بنت عميس قالت :يا رسول الله ،إن بني جعفر تصيبهم العين أفأسترقي لهم ؟ فقال : “نعم ،فلو كان شئ يسبق القضاء لسبقته العين” [ أخرجه مالك في الموطأ ومسلم والترمذي وابن ماجة واحمد] .

والرقية في الكرب :”لا إله إلا الله العظيم الحليم،لا إله إلا الله ربُّ العرش العظيم ،لاإله إلا الله ربُّ السماوات وربُّ العرش الكريم ” [أخرجه الشيخان] .وقال صلى الله عليه وسلم :”اللهم رحمتك أرجو لا تكلني إلى نفسي طرفة عين،وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت “[أخرجه أبو داود واحمد] . وقال صلى الله عليه وسلم “لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين”  [أخرجه الترمذي والحاكم  وصححه] . وقال صلى الله عليه وسلم “الله الله ربي لاأشرك به شيئاً” [أخرجه ابو داود وابن ماجة والترمذي].

والرقية من الهم والحزن :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “ما أصاب عبداً هم ٌّ ولا حزنٌّ فقال : اللهم إني عبدك وإبن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ،ماضٍ في حكمك ،عدلٌّ فيَّ قضاؤك ،أسألك بكلِّ اسمٍ هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك ،أوعلمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ،ونور صدري،وجلاء حزني وذهاب همي،إلا أذهب الله حزنه وهمه وأبدله مكانه فرحاً “.[ أخرجه احمد].وقال صلى الله عليه وسلم :”اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ،والعجز والكسل ،والبخل والجبن،وضلع الدَين وغلبة الرجال” . [أخرجه البخاري].

وأما الأدعية المشروعة التي يقولها المسلم إذا أراد أن يرقي نفسه أو غيره فهي كثيرة ،وأعظم ذلك الفاتحة والمعوذات :عن أبي سعيد رضي الله عنه قال :انطلق نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة سافروها حتى نزلوا على حي من أحياء العرب فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم ،فلدغ سيد ذلك الحي،فسعوا له بكل شئ لا ينفعه شئ،فقال بعضهم :لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعله أن يكون عند بعضهم شئ فأتوهم فقالوا يا أيها الرهط إن سيدنا لدغ وسعينا له بكل شئ لا ينفعه فهل عند أحد منكم من شئ ؟فقال بعضهم :نعم والله إني لأرقي ،ولكن والله لقد استضفناكم فل تضيفونا ،فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلاً فصالحوهم على قطيع من الغنم فانطلق يتفل عليه ويقرأ الحمد لله رب العالمين فكأنما نشط من عقال فانطلق يمشي وما به قلبَة _ داء أو ألم يتقلب منه صاحبه  ـ  قال :فأوفوهم جعلهم  الذي صالحوهم عليه ،فقال بعضهم :اقسموا ،فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي النبي صلى الله عليه وسلم فنذكر له الذي كان فننظر ما يأمرنا ،فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له ،فقال :وما يدريك أنها رقية ؟ ثم قال : قد أصبتم،اقسموا واضربوا لي معكم سهماً فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم “. [أخرجه الشيخان ].وعن عائشة رضي الله عنها “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح بيده رجاء بركتها”  [أخرجه الشيخان] .

يقول الامام ابن القيم عن سورة الفاتحة :”ومن ساعده التوفيق، وأُعين بنور البصيرة حتى وقف على أسرارهذه السورة وما اشتملت عليه من التوحيد ومعرفة الذات والأسماء والصفات والأفعال وإثبات الشرع والقدر والمعاد وتجريد توحيد الربوبية والإلهية وكمال التوكل والتفويض إلى من له الأمر كله وله الحمد كله وبيده الخير كله وإليه يرجع الأمر كله والافتقار إليه في طلب الهداية التي هي سعادة الدارين وعلم ارتباط معانيها بجلب مصالحها ودفع مفاسدها وأن العاقبة المطلقة التامة والنعمة الكاملة منوطة بها موقوفة على التحقيق بها : أغنته عن كثير من الأدوية والرقى،واستفتح بها من الخير أبوابه ودفع بها من الشر اسبابه” (زاد المعاد ).

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال :”كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين ويقول : إن أباكما  ـ يعني ابراهيم عليه السلام  ـ كان يعوِّذ بها إسماعيل وإسحاق : أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة” . [رواه البخاري]

.(الهامّة :كل ما له سم يقتل ،اللامّة :من كل عين تصيب بسوء).

ومما يستحب في الرقية النفث :وهو نفخ نظيف بلا ريق، أو بريق بسيط، وهو أقل من التفل ،فنفث الراقي هو النفخ في اليدين بدون ريق او بريق قليل ومسح جسم المريض .وقد ثبت في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها قالت :”كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهله ،نفث عليه بالمعوذات . فلما مرض مرضه الذي مات فيه ،جعلت أنفث عليه وأمسحه بيد نَفسه،لأنها كانت أعظم بركة من يدي” . [أحرجه مالك في الموطأ والبخاري ومسلم وابو  داود وابن ماجة وأحمد والنسائي] . وكذلك حديث قتادة رضي الله عنه قال :سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :”الرؤيا من الله،والحلم من الشيطان فإذا رأى أحدكم شيئاً يكرهه فلينفث حين يستيقظ ثلاث مرات،ويتعوذ من شرها، فإنها لاتضره” . [أخرجه البخاري ومالك].

وروى البخاري بسنده عن عائشة رضي الله عنها  قالت:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بقل هو الله أحد وبالمعوذتين جميعاً، ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسده . قالت عائشة : فلما  اشتكى  كان يأمرني أن أفعل ذلك به” .

وجاء في الموسوعة الفقهية للشيخ محمد صالح المنجد :لاخلاف بين الفقهاء في جواز رقية المسلم للكافر،واستدلوا بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الذي سبق ذكره ووجه الاستدلال أن الحي الذي نزلوا عليهم فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم _كانوا كفارا_ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عليه .

وجاء في فتاوى ابن جبرين :يجوز استعمال الرقية من كل قارئ يحسن القرآن،ويفهم معناه ويكون حسن المعتقد،صحيح العمل ويكون مستقيماً في سلوكه،ولا يشترط إحاطته بالفروع ،ولا دراسته للفنون العلمية ، وذلك لقصة أبي سعيد في الذي رقى اللديغ قال : وما كنا نعرف منه الرقية ، وعلى الراقي أن يحسن النية،وأن يقصد نفع المسلم ، ولا يجعل همه المال والأجرة ،ليكون ذلك أقرب إلى الإنتفاع بقراءته.

والرقية لابد أن تكون على المريض مباشرة،ولا تكون بواسطة مكبر الصوت ولا بواسطة الهاتف ، لأن هذا يخالف ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه (اللجنة العلمية للبحوث العلمية والإفتاء) .

ولا يجوز للراقي مس شئ من بدن المرأة التي يرقيها لما في ذلك من الفتنة ،وإنما يقرأ عليها بدون مس .

وهناك فرق بين عمل الراقي والطبيب،لأن الطبيب قد لايمكنه العلاج إلا بمس الموضع الذي يريد أن يعالجه،بخلاف الراقي فإن عمله لايتوقف على اللمس (اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء) ،ويقول الشيخ ابن جبرين :لا يجوز للرجل الأجنبي أن يمس شيئاً من جسد المرأة عند الرقية،ولا يجوز لها إبداء شئ من بشرتها كالصدر والعنق ونحوهما،بل يقرأ عليها ولو كانت محتجبه ويسن أن تتعلم الأخوات القارئات الرقية رجاء أن يعالجن بها النساء المحتشمات .

وأما إلصاق الأوراق المكتوب فيها شئ من القرأن أو الأدعية على الجسم أو على موضع منه،أو وضعها تحت الفراش ونحو ذلك فإنه لا يجوز،لأنه من تعليق التمائم المنهي عنها بقوله صلى الله عليه وسلم : “من تعلق تميمة فقد أشرك”[رواه أحمد عن عقبة بن عامر رضي الله عنه وهو حديث صحيح] .وأما حديث “من تعلق تميمة فلا أتمَّ الله له قال الشيخ الألباني حديث ضعيف.

والتمائم في اللغة : جمع تميمة . وهي مأخوذة من تمَّ الشئ يتم تكملة أجزاؤه . وسميت بهذا الاسم لأنها تمام الدواء والشفاء المطلوب (معجم مقاييس اللغة لابن فارس) .

والتميمة في الاصطلاح تطلق على معنيين :

الأول :خرزات كان العرب يعلقونها على أولادهم يتقون بها العين في زعمهم (حاشية ابن عابدين).

الثاني :ورقة يكتب فيها شئ من القرأن أو غيره وتعلق على الرأس للتبرك مثلاً_حاشية الجمل _

وقد اختلطت الرقى والتمائم في الجاهلية بالكهانة والعرافة والتنجيم،فادعى محترفوها معرفتهم للغيب،واستعانوا بغير الله تعالى من الجن والشياطين والكواكب والنجوم .

فالكهانة:ادعاء علم الغيب وذلك عن طريق اتصال الأرواح البشرية بالأرواح المجردة من الجن والشياطين،واستعلامهم عن الأحوال الجزئية للإنسان،ومعرفة أسراره وما يتعرض له في يومه ومستقبله من مرض وشقاء،عافية وشفاء.ويسمى متعاطي الكهانة الكاهن (التعريفات للجرجاني)

والعرافة :الاستدلال ببعض الحوادث الخالية على الحوادث الأتية بالمناسبة أو المشابهة الخفية التي  تكون بينهما،أو الاختلاط أو الأرتباط . ويطلق على محترفها العراف:وهو المنجم أو الحازي الذي يدعي علم الغيب وسموا العراف بالطبيب كما قال الشاعر :

فقلت لعراف اليمامة داوني            فإنك إن داويتني لطبيب

والتنجيم :الاعتقاد بأن بين طلوع النجوم وغروبها أمراضاً وأوبئة،وعاهات في الناس والإبل . وكانوا ينسبون  إلى النجوم التأثيرات . ويسمى محترف التنجيم :المنجم،وهو كل من يدعي الغيب من مستقبل بعيد ومكنونات الصدور (معجم لغة الفقهاء قتيبي وقلعجي) .

وقد تأثرت الرقى والتمائم في الجاهلية بالسحر والسحرة،ويزاول السحرة صناعتهم بالتقرب الى الشياطين بأنواع القبائح التي فيها مدح الشياطين والشرك بالله تعالى . وقد عرف العرب عدة أنواع من السحر كالشعبذة والعزيمة،والطلاسم .

فالشعبذة : ويقال لها الشعوذة  معرب من شعباذة,وهو اسم رجل ينسب إليه علم الشعوذة . وهي الخداع والتخييلات التي لا حقيقة لها,مبنية على خفة اليد، وصرف البصر عما بفعله المشعوذ (المفردات لللراغب الأصفهاني).

والعزيمة : من الرقى التي كانوا يعزمون بها على الجن وجمعها عزائم، فيقال عزم الراقي  ـ كأنه أقسم على الداء (لسان العرب ابن منظور) .

والطلاسم:  أو الطلسمات : جمع طلسم وهي أسماء خاصة كانوا يزعمون أن لها تعلقاً بالكواكب ، تجعل في أجسام من المعادن أو غيرها تحدث أثاراً خاصة  (الفروق للقرافي) .

والرقية لا تكون الا من مسلم عرف صلاحه وتقواه ولاتجوز من الكهنة والمشعوذين،قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :”من أتى كاهناً أو عرافاً فسأله عن شئ لم تقبل له صلاة أربعين ليلة “وهذه عقوبة للسائل على مجرد السؤال ولو بدون تصديق أما إذا صدقهم فيما يقولون بأي وجه كان فإن العقوبة أشد وأنكر لما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم :”من أتى كاهناً أو عرافاً، فصدقه فيما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم “.[ اخرجه الامام أحمد في مسنده والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه].

بعد عرض موضوع التداوي بالرقى والتمائم يمكن ان ننبه إلى مايلي :

1 ـ القرآن الكريم دواء من عند ربنا،شفاء لأمراض العقول والنفوس والأبدان.

2 ـ يغلب على الرقى والتمائم في الجاهلية التأثر بالسحر والشرك والخرافة،فيمنع استعمالها،وتجب محاربتها.

3 ـ الرقى في الإسلام منزهة عن الشرك والسحر والخرافة،وموافقة لما في القرآن والسنة من سور وأيات وأدعية مأثورة،فيجوز استعمالها،ولا يتنافى ذلك مع التوكل على الله تعالى،ولا مع الإيمان بالقضاء والقدر .

4 ـ النفث والمسح المصاحبان لقرآءة الرقية جائزان شرعاً لفعل النبي صلى الله عليه وسلم.

5 ـ يشترط في الراقي ان يكون مسلماً عدلاً في دينه،معتقداً اعتقاداً جازماً أن الله هو الشافي،ويشترط في الانسان المُرقى أن يكون معتقدا أن الله هو الشافي،وأن الرقية وسيلة للشفاء،وأن العلاج بالرقى الشرعية لا يلغي وجود الطب الجسماني والطبيعي،وينبغي الاستفادة منهما دون إفراط ولا تفريط .

السنة النبوية وبعض أشكال التداوي

جاء في الحديث النبوي الشريف عن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :”الشفاء في ثلاث:شَربةِ عسل،وشَرطةِمحجم،وكيَّة نار،وأنهى أمتي عن الكي “. [رواه البخاري].

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال :سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :”إن كان في شئ من أدويتكم أو يكون في شئ من أدويتكم خير ففي شرطة محجم أوشربة عسل،أو لذعة بنار توافق الداء ،وما أحب أن أكتوي “.[رواه الشيخان].

فالرسول صلى الله عليه وسلم تطرق إلى ثلاثة أنواع من المعالجات :شربة عسل وهذا يتم الحديث عنه في الصحة الغذائية في الاسلام إن شاء الله،ونتكلم هنا عن الحجامة والكي،وهناك ملاحظة :يقول الإمام ابن حجر :” ولم يرُد النبي صلى الله عليه وسلم الحصر في الثلاثة، فإن الشفاء قد يكون في غيرها،أي لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم الحصر الحقيقي، وإنما قصد حصراً نسبياً أواضافياً يقصده المتكلم ويستعمله في بيانه كأسلوب من أساليب البلاغة لجذب الانتباه الى ما يقصد ويتكلم عنه ويتعلق به غرضه من ذلك البيان” .

الحجامة:

هي إخراج الدم الفاسد الذي يتكون تحت الجلد بامتصاصه بألة مناسبة،وهي مأخوذة من الحَجم أي المص.يقال :حجم الصبي ثدي أمه إذا مصه .والحجامة معروفة منذ القدم،عرفها الصينيون والبابليون والفراعنة،ويستعمل حالياً الكؤوس الزجاجية والتي يفرغونها من الهواء عن طريق حرق قطعة من القطن أو الصوف داخل الكأس .

وكما جاء في الحديثين السابقين فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نصح بالإحتجام وأنه صلى الله عليه وسلم قد احتجم .

فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم،واحتجم وهو صائم .وقد بين بعض أصحابه أنه احتجم لوجع في رأسه وهي “الشقيقة”. عن ابن عباس رضي الله عنهما “احتجم النبي صلى الله عليه وسلم في رأسه وهو محرم من وجع كان به بماء يقال له لحي جَمَل“، وعنه ” أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم في رأسه من شقيقة كانت به” . [رواه البخاري] .

(ولحي جمل : موضع بطريق مكة) .

واحتجم أصحابه وأوصوا بها : عن عاصم بن عمر بن قتادة قال :جاءنا جابر بن عبد الله  في أهلنا ورجل يشتكي خُراجاً به أو جراحاً، فقال : ما تشتكي ؟قال :خُراجٌ بي قد شَقَّ عليَّ. فقال : ياغلام ،ائتني بحَجَّام . فقال له :ما تصنعُ بالحجام يا أبا عبد الله ؟قال : أريد أن أعلق َ فيه محجماً.قال : والله إن الذباب َ ليصيبني أو يصيب الثوب فيؤذيني ويَشُقَّ علي ,فلما رأى تبرمه من ذلك قال :إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :إن كان في شئ من أدويتكم خير ففي شرطة محجم،أوشربة من عسل،أو لذعة بنار،قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وما أحب أن أكتوي .قال : فجاء بحجام فشرطه فذهب عنه ما يجد .

قال الإمام ابن القيم في زاد المعاد :”والحجامة على الكاهل تنفع من وجع المنكب والحلق ،والحجامة على الأخدعين تنفع من أمراض الرأس وأجزائه كالوجه والأسنان والأذنين والعينين  حدوث ذلك عن كثرة الدم أو فساده أو عنهما جميعاً”.

وقد روى الترمذي عن أنس قال : “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتجم في الأخدعين والكاهل” .

(والأخدعان : عرقان في جانبي العنق ، والكاهل : مابين الكتفين).

وبين العلم الحديث فوائد الحجامة في كثير من الأمراض وخاصة ارتفاع الضغط الشرياني وأمراض الدورة الدموية،وبعض أمراض الصدر ،والصداع وألام الرقبة والعضلات،وبعض أمراض المفاصل.

المعالجة بالكي :

يقول الدكتور محمود ناظم النسيمي (مجلة حضارة الإسلام عدد أذار 1979م):

قال في القاموس المحيط : كواه يكويه كياً: أحرق جلده بحديدة ونحوها،وهي المكواة ،والكية موضع الكي .ولقد أكثر العرب قبل الإسلام من استعمال الكي كواسطة علاجية،وخاصة من قبل الأعراب سكان البادية حيث تندر الأطباء والأدوية.وبما أن الكي فيه شدة وألم على مطبقه فقد قيل في أمثالهم “آخر الدواء الكي “أي عندما يبت في أمر ما ويحسم بالشدة بعد أن جرب فيه الرفق واللين فيقال لدى تطبيق الأمر الأشد ” آخر الدواء الكي “. ونسب أهل الأخبار المثل المذكور إلى “لقمان بن عاد” وفي نسبتهم هذه دلالة على قدم هذه المعالجة عند العرب.ويتابع الدكتور النسيمي:”جاء الإسلام والمغالاة في استعمال الكي شائعة،يعرضون به أجسامهم لآلام النار وتشويهها فيما لاجدوى منه ،فأبى رسول الرحمة والإنسانية أن يعذبوا أنفسهم بأوهام لا تنفع ،فنهاهم عن الكي ووضح لهم أن استعماله مشروط بموافقته للداء أي بوجود استطباب له.وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : “نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكي وكان يكره شرب الحميم ” أي الماء الحار[رواه أحمد والطبراني هو حديث حسن كما في مجمع الزوائد] . وعن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ” نهى عن الكي،قال :فابتلينا  فاكتوينا فما أفلحنا ولا أنجحنا” [ رواه الترمذي ،وقال حسن صحيح ].

إن النهي عن الكي في الاحاديث السابقة ليس على عمومه واطلاقه فقد وردت أحاديث نبوية تفيد استعمال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه للكي،فالنهي منصب على الاستعمال الشعبي المغالي في تطبيقاته دون وجود استطباب،ولذا قال ابن حجر في فتح الباري :”ويؤخذ من الجمع بين كراهته صلى الله عليه وسلم للكي وبين استعماله أنه لا يترك مطلقاً ولا يستعمل مطلقاً.،بل يستعمل عند تعينه طريقاً للشفاء مع مصاحبة اعتقاد ان الشفاء باذن الله تعالى” ويتابع ابن حجر في التعقيب على عنوان عقده البخاري بقوله : باب من اكتوى أو كوى غيره وفضل من لم يكتو،قال ابن حجر :”كأنه أراد أن الكي جائز للحاجة،وإن الأولى تركه اذا لم يتعين “.

ويتابع الدكتور النسيمي :هذا وإن الاكتواء بدون استطباب علمي يعد تعلقاً بالأوهام ،والتعلق بالأوهام مناف للتوكل على الله تعالى،قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “من اكتوى أو استرقى فقد برئ من التوكل ” [رواه الترمذي عن عفان بن المغيرة  وقال حديث حسن صحيح وأخرجه ابن ماجة]، وفي حديث أخر روى مسلم عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال :قال نبي الله صلى الله عليه وسلم : “يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب . قالوا : ومن هم يا رسول الله ؟ قال :هم الدين لا يكتوون،ولا يسترقون ،وعلى ربهم يتوكلون ..”وفي رواية نحوه . وزاد فيها ” ولا يتطيرون “. يقول الامام الغزالي في الإحياء : اعلم أن الأسباب المزيلة للمرض تنقسم الى مقطوع به، ومظنون،وموهوم . والموهوم كالكي والرقية . أما المقطوع فليس من التوكل تركه بل تركه حرام عند خوف الموت . وأما الموهوم فشرط التوكل تركه إذ به وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم المتوكلين ، وأقواها ـ أي الاسباب الموهومة  ـ  الكي ويليه الرقية،والطيرة آخر درجاتها ،واما الدرجة المتوسطة وهي المظنونة كالمداواة بالأسباب الظاهرة عند الاطباء ففعله ليس مناقضاً للتوكل بخلاف الموهوم ،وتركه ليس محظوراً بخلاف المقطوع ويتابع الدكتور النسيمي :وكما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكي الذي يجري بدون استطباب صحيح فإنه أشار إلى بديل عنه،والبديل واسطة علاجية فيزيائية مسكنة للألم تفيد في كثير من المجالات التي يستعمل فيها الكي،ولكن دون أن تضيف إلى المريض ألماً جديداً،كما يمكن استعمالها قبل الكي فلعلها تغني عنه . تلك الواسطة هي التكميد . وتكميد العضو كما في مختار الصحاح : تسخينه بخرق ونحوها وكذا الكِماد . عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :”مكان الكي التكميد ” [رواه أحمدو قال الهيثمي رجاله رجال الصحيح]، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ان ناسا ًأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا “إن صاحبا ً لنا اشتكى أفنكويه ؟فسكت ساعة ثم قال :إ ن شئتم فاكووه،وإن شئتم فأرضفوه” قال ابن الأثير في النهاية: أي كمدوه بالرضاف .( والرضف الحجارة المحماة على النار )،ويتابع الدكتور النسيمي ” ولايزال الطب الشعبي حتى زماننا يعالج مغص البطن وبعض الآلام وخاصة البردية بالتكميد بخرقة مسخنة أوبحجرة أو فخارة مسخنة بعد لفها بخرقة تحاشيا من حدوث حرق”.

رأي الشرع في عمليات التجميل:

يقول الشيخ العلامة علي الطنطاوي رحمه الله:

“الله خلق الإنسان في أحسن تقويم،وجعل جسده سالماً من العلل،بعيداً عن الخلل،فإن اعتراه شىء من ذلك أي من إصابة مرض كان عليه اتخاذ الأسباب لمداواته.فما كان من عمليات التجميل من قبيل المداواة أي إزالة تشويه أو دفع مرض،أي ما كان من قبيل إعادة الجسد إلى التقويم الأحسن بما علم الله الاطباء من طرق الإصلاح والمداواة فهو جائز.وما كان فيه تشويه أو تبديل لخلق الله،من غير ضرورة علاجية فهو لايجوز ،لذلك حرّم الوشم وإفساد وضع الاسنان وتفليجها لمجرد الحسن،كما يحرم اتخاذ وسيلة دائمة لمنع الحمل لا يمكن الرجوع عنها”.

ويقول الشيخ العلامة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله:”

“روى البخاري عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها:”أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الواصلة والمستوصلة”

(والواصلة هي التي تقوم بوصل الشعر بنفسها أو بغيرها،والمستوصلة التي تطلب ذلك).

ودخول الرجل في هذا التحريم من باب أولى،سواء أكان واصلاً كالذي يسمونه “كوافير” أو مستوصلاً كالمخنثين من الشباب.

ولقد شدد النبي صلى الله عليه وسلم في محاربة هذا النوع من التدليس،حتى إنه لم يجز لمن تساقط شعرها نتيجة المرض أن يوصل به شعر آخر،ولو كانت عروساً ستزف إلى زوجها.

روى البخاري عن عائشة أن جارية من الأنصار تزوجت،وأنها مرضت فتمعط شعرها،فأرادوا أن يصلوها فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال:”لعن الله الواصلة والمستوصلة”.

وعن سعيد بن المسيب قال:قدم معاوية المدينة آخر قدمة قدمها،فخطبنا،فأخرج كبة من شعر،قال: ماكنت أرى أحداً يفعل هذا غير اليهود،إن النبي صلى الله عليه وسلم سماه الزور،يعني الواصلة في الشعر.وفي رواية أنه قال لأهل المدينة:”أين علماؤكم؟سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذه ويقول:إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم”.

وتسمية الرسول صلى الله عليه وسلم هذا العمل”زوراً”يومىء إلى حكمة تحريمه،فهو ضرب من الغش والتزييف والتمويه،والإسلالم يكره الغش ويبرأ من الغاش في كل معاملة،مادية كانت أو معنوية،”ومن غشنا فليس منا”.

قال الخطابي:إنما ورد الوعيد الشديد في هذه الاشياء،لما فيها من الغش والخداع،ولو رخص في شىء منها لكان وسيلة إلى استجازة غيرها من أنواع الغش،ولما فيها من تغيير الخلقة،وإلى ذلك الإشارة في حديث ابن مسعود بقوله”المغيرات خلق الله”.

والذي دلت عليه الأحاديث إنما هو وصل الشعر بالشعر،طبيعياً كان أو صناعياً،فهو الذي يحمل معنى التزوير والتدليس،فأما إذا وصلت شعرها بغير الشعر من خرقة أو خيوط ونحوها فلا يدخل في النهي.

وجاء في الحديث النبوي الشريف الذي أخرجه الإمام البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:”لعن الله الواشمات والمستوشمات والمُتنمصات والمتفلجات للحسن،المغيرات خلق الله”.

المتنمصة:هي التي تطلب النماص،والنامصة التي تفعله،والنماص:إزالة شعر الوجه بالمنقاش.ويقال:إن النماص يختص بإزالة شعر الحاجبين لترفيعهما أو تسوستهما.

قال أبو داود في السنن:النامصة:التي تنقش الحاجب حتى ترقه.

جاء في مقال للدكتورة منال جلال عبد الوهاب نشر في مجلة الإعجاز العلمي العدد 33 بتاريخ جمادى الآخرة عام 1430 هجري:

“العرض العلمي:

ـ التركيب التشريحي والوظيفي لمنطقة الحاحب:

يمتاز شعر الحاجب عن غيره من الشعر في المناطق الأخرى أنه أول ماينمو من شعر في الجنين.ولايسقط كما يسقط الشعر الآخر،ولايستبدل.وأنه لايتأثر بالنضج الهرموني ،كما ثبت أن هناك تركيبة خاصة للميلانين في شعر الحاجب.وأنه أكثر تركيزاً من الشعر في المناطق الأخرى.وأن التركيب التشريحي بالمجهر الالكتروني لمنطقة الحاجب ذات تركيب مميز،إذ وجد أنها على شكل فتحات وأن الخلايا الجذعية موجودة في منطقة البروزBulgeg Area،وأن خلايا الصباغية المولدة للميلانين تختلف في الشعر عن تلك التي في الجلد.حيث تبين أن منشأ هذه الخلايا في هذه المنطقة منشأها العرف العصبيNeural Crest بخلاف بقية الجلد.

كما اكتشف العلماء أن الشعرة في منطقة الحاجب تعمل كجهاز مفرز للهرمونات مثل مايحدث تماماً في منطقة تحت المهاد والغدو النخامية وغدة الكظر،وتفرز نفس الهرمونات مثل الكورتيزون،كما ثبت وجود مستقبلات في الشعرة للهرمونات الأنثوية مثل الاستروجين والبرولاكتين والهرمونات الذكرية مثل الاندروجين .

بعض الأضرار الطبية للنمص:(إزالة شعر الحاجب):

1 ـ ارتخاء عضلات الجفن العلوي نتيجة التهيج المستمر للعضلات الرافعة للحاجب.ويكون الارتخاء للجفن في الجزء الوحشي لقلة الدهن المساند تحت الجفن وعدم قوة التصاق العضلة الرافعة للحاجب مع الطرف الوحشي ،وهذا الارتخاء إن لم يعالج جراحياً يؤدي إلى ضعف الإبصار والصداع.

2 ـ صداع متكرر والتهاب في الجيوب الأنفية.حيث يوجد ارتباط الأنف بالحاجب من خلال منعكس العطاس حيث يلاحظ العطس مع النمص نتيجة تهيج أعصاب الأنف التي تتغذى عصبياً من العصب الخامس وهو نفس المصدر المغذي للحاجب.

3 ـ يقل شعر الحاجب وذلك لموت حويصلات الشعر والتأثير على المظهر الجمالي للمرأة ،مما دعى الغرب لاستعمال الوشم وزرع ولصق الحاجب.

4 ـ حدوث أمراض جلدية مثل البهاق والثآليل عند من يعانون من ضعف المناعة.

5 ـ حدوث تغيرات جلدية مثل التهاب الوجه الاحمراري أو مايسمى الورديةRosacea عند النساء .

6 ـ حدوث التهابات بجلد الوجه الناتج عن وجود كائنات طفيلية متعايشة طبيعياً حيث يوجد في أكثر من 89%  من الناس على الجلد نوع من الكائنات يسمى الحلم Mites تتغذى على زيت الغدد الشحمية الدهنية للشعرة وتسبب التهاب في الجلد وخاصة في الوجه وفي منطقة الجبهة والخدين والذقن،ولكن عند ضعف المناعة وبمصاحبة النمص يتضاعف عدد الحلم ويسبب مشكلات جلدية مثل الاندفاعات الجلدية وخاصة في منطقة الجبهة.

7 ـ ثبت أن الشعر الذي ينتج بعد النمص يكون أكثر سمكاً وخشونة وأكثر كثافة من الشعر الاصلي،ولا يرجع لطبيعته مرة أخرى.

كما يؤدي النمص المتكرر في النهاية إلى فقدان الشعر وعدم نموه مرة أخرى مما يشوه جمال المرأة.

خاتمة:

نعم يجب علينا أن نعود إلى مناهل العلم والمعرفة، وأن ننهل منها ونبدع فيها ونكون من السباقين في ميادينها ليعود الاسلام كما كان دين ودنيا،علم ومعرفة،خبرة واختصاص. وإن المسلم يتعبد بالعلوم النافعة كالطب والصيدلة كما يتعبد بالعلوم الشرعية، فالإقبال على هذه العلوم النافعة هو كسب ديني ودنيوي له أجر الدنيا وثواب الاخرة،يقول اإمام الشافعي رحمه الله “لا أعلم علما بعد الحلال والحرام أفضل من الطب” وكان يتلهف على ماضيعه المسلمون من الطب ويقول “ضيعوا ثلث العلم ووكلوه الى اليهود والنصارى”، وكان يقول “إن أهل الكتاب قد غلبونا على الطب” وكان الشافعي رحمه الله مع عظمته في علوم الشريعة والفقه وكذلك ضلوعه في العربية كان بصيرا بعلم الطب.وكان الامام الذهبي يقول في الحديث الشريف” إن الله لم ينزل داء إلا وله دواء“إن ذلك يقتضي تحريك الهمم وحث العزائم ممن تعلم الطب”.

هذا ماكان عندي فإن أحسنت فالفضل والتوفيق من الله،وإن أخطأت فمن عجز نفسي وتقصيري،أسأل الله أن ينفعني وإياكم، وان يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. والحمد لله رب العالمين .

المراجع:

الطب النبوي والعلم الحديث د .محمود ناظم النسيمي

الطب النبوي الإمام ابن القيم

الطب النبوي الإمام الذهبي

الطب النبوي الإمام السيوطي

كتاب فتاوى  الشيخ علي الطنطاوي

كتاب فتاوى الشيخ محمود شلتوت

الحلال والحرام د. يوسف القرضاوي

مقالات في حضاره الاسلام  د. ابراهيم الراوي ود .محمود ناظم النسيمي

ومراجع أخرى ذكرت في سياق الموضوع.