وتحسبونه بعيداً ونراهُ قريباً

بسم الله الرحمن الرحيم

“وتحسبونه بعيداً ونراهُ قريباً”

إن المُتأمل لأوضاع العالم الإسلامي في السنوات الأخيرة ليشعر بالأسى يعصر قلبه،وبالألم يعصف بجوارحه،وبالمرارة تهدّ كيانه،لما وصل إليه حال المسلمين من التمزق،والتشتت،والتناحر،والضعف، والتخلف…

وإلى ما وصل إليه حال حكام المسلمين من الذل والهوان والتبعية والإرتماء على أقدام عبيد الدنيا من طواغيت الغرب.

وبحيث يبدو للوهلة الأولى أن هذا الداء الذي أبتلي به المسلمون داء عضال،لا ينفع معه طب أو دواء أو دعاء…ولكن من يسبر الأغوار ويجوب في الأعماق،يكتشف أن الوضع رغم مآسيه ومصائبه،فإنه والحمد لله أفضل بكثير مما قد يظنه الكثيرون،فهناك بوارق أمل عديدة الجوانب،متعددة الجهات:

ـ إن حرب الخليج،وما أسفرت عنه من كوارث وخيمة ونتائج وبيلة على المدى القريب والبعيد،من تدمير العراق عسكرياً واقتصادياً،وذهاب مئات الألوف من الضحايا،وزرع نار التفرقة والتباغض بين شعوب المسلمين،وسيطرة طاغوت الشر الأكبر أمريكا على المنطقة بما فيها من خيرات وثروات،وارتماء حكام الخليج في أحضان الغرب وعلى أقدامه يطلبون العون والملاذ،ويقيمون المعاهدات والصداقات…كل هذا يبدو للوهلة الأولى أننا جُعلنا تحت رحمة هؤلاء الحكام وساداتهم الحقيقين،ولكن من يتأمل في نتائج هذه الحرب،فإنه يشعر أن من وراء هذا الظلام الدامس شعلة نور وقبس ضياء،نراها في العلماء والدعاة الذين شعروا بالخطر الحقيقي الداهم،وبالعدو الرابض،فأطلقوا صيحاتهم من خلال الخطب والكتابات والندوات والمذكرات يناصحون الحكام،وينتقدون الأحكام،ويرفعون صوت الحق،ويطالبون بتطبيق الإسلام كما أنزله الله عز وجل ،لا كما فهمه هؤلاء الحكام.

إن هذه الظاهرة المباركة والخيرة تستحق منا الاهتمام والمتابعة والتأييد وخاصة أنها تحدث في مجتمع تُسخر فيه الأقلام،وتُكمم فيه الأفواه،وكان لا يجرؤ إنسان فيه على الاستفسار،فكيف إذا وصل الأمر إلى حد الاستنكار!!

ـ وفي فلسطين،حيث الظلم والاضطهاد يُخيم على المسلمين من قبل بني صهيون المجرمين،وذلك منذ عشرات السنين،في هذه الأرض المباركة حيث امتلأت السجون بالمعتقلين،والمقابر بالشهداء،والمشافي بالجرحى والمعوقين،حيث الكرامة تهدر،والأراضي تصادر،والعدو صلف مستكبر،يستهزىء بحكام المسلمين ويذلهم فيسارعون إليه يقدمون التنازلات تلو التنازلات،ويوقعون معه المعاهدات بعد المعاهدات،يسمونها “معاهدات السلام” ،وهي في حقيقتها معاهدات الخزي والاستسلام…

في وسط هذا الضباب،ومن وراء السحاب،ظهرت قبل أكثر من خمس سنوات الانتفاضة المباركة،ترفع الشعار الأصيل،وتقدم الحل البديل وهو الإسلام،يقودها إنسان مناضل مشلول هو أحمد ياسين،هذا الإنسان الذي شُلّت أطرافه ولكنه حرّك العالم بانتفاضته،ونطق بلسانه آيات الجهاد،فتحولت إلى حجارة تُصب على الأعداء،وتجعل”إسرائيل”بصلفها وغرورها واستكبارها عاجزة أمام هؤلاء الفتية الصغار.

نعم،إن ماعجز عنه الحكام الكبار،استطاع أن يحققه هؤلاء الفتية الصغار،وما عجزت عنه جيوش العرب ذات العقائد المزيفة والشعارات المُضلّلة،استطاع أن يحققه الإسلام من خلال هذه الانتفاضة المباركة.

ـ وفي أفغانستان،وبعد سنوات من الحكم الشيوعي الدموي،وبعد سنوات عجاف من الغزو الأحمر الغاشم،وما تبع ذلك من تدمير المدن والأرياف،واتّباع سياسة الأرض المحروقة،وبعد أن استشهد أكثر من مليون ونصف شهيد،من خلال هذا الوضع المأساوي الأليم،استطاعت قوى الجهاد الإسلامي أن تحقق النصر،وتطرد إحدى أقوى امبراطوريتي الشرّ في العصر الحديث،وتمّ فتح كابول،واستلمت قوى المجاهدين الحكم،أناس عرفنا في الكثير منهم الإخلاص والتفاني وحب الجهاد،وحركة مباركة رفعت رأس كل مسلم عالياً في كل أنحاء البلاد…نعم قد تكون هناك خلافات وعراقيل ومثبطات،ولكننا على ثقة تامة بإذن الله بأنها سحابة صيف وتنقشع،وأنها أزمة عابرة وتمر…

وفي السودان،وبعد عقود من التخلف والأزمات ،وبعد سنوات من حكم ديكتاتوري مستبد،أذل العباد،وأفسد البلاد،وبعد أن عملت كل معاول الشرّ في العالم من تنصير وتبشير،وقوى استعمارية عالمية،بعد أن عملت على تهديم كيان السودان،وزرع التفرقة والتخلف في أرجائه،وحيث الحروب والمجاعات،والمآسي تلو المآسي…في هذا الجو المفعم بالمثبطات ،والذي يدعو إلى اليأس والإحباط،قامت ثورة إسلامية تنشد حكم الله في هذا البلد الحبيب،وتعيد للبلاد وحدتها،وتعمل على إخراجها من متاعبها،نسأل الله لهذه الحكومة والثورة السداد والرشاد،وأن يُبعد عنها أخطار العدو المحدق بها سواء القريب منه والبعيد.

ـ وفي الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفييتي المنهار،وبعد أكثر من سبعين سنة،من حكم ديكتاتوري دموي،وحيث الاضطهاد الشيوعي ،والتطهير العرقي،وحيث التهجير والتقتيل،ومعسكرات الاعتقال في سيبيريا،وحيث حكم ستاين ـ وما أدراك ما ستالين ـوحيث هدّمت المساجد،ومُنعت الصلوات،ولم يبق من المساجد إلا القليل القليل،تُركوا كمعالم أثرية أو سياحية،أو لتضليل المغفلين القادمين من خارج البلاد….في هذا الجو الكئيب ومن خلال هذا الحكم الكريه،إذا بالمارد الإسلامي ينهض من غفوته،وإذا بالمآذن ترتفع من جديد بالنداء الخالد الله أكبر…لم يكن أحد وحتى سنوات قليلة يجرؤ على أن يحلم بهذا الوضع،فإذا به حقيقة وواقعاً يفرض نفسه على القريب والبعيد…ولا ننكر أن الامور لازالت في حالة من الغبش والضبابية،ولكننا نسأل الله أن يُوفق ويسدّد وينصر عباده المخلصين.

ـ وصحيح أن الحركات الإسلامية قد وجُهت إليها اقوى الضربات من أعتى الحكام والسلطات وفي كل مكان،ولكن البون شاسع والفرق واسع مابين الأمس واليوم.فحتى الماضي القريب كان الطاغوت يفخر بأنه قد ألقى بعشرات الألوف في غياهب السجون وفي أقبية السراديق،وأرسل خيرة الناس والدعاة إلى أعواد المشانق،من غير أن يستنكر هذا أحد،أو أن يرفُّ له جفن،أو يشعر بوخز ضمير،والأنكى من هذا والأشد إيلاماً أنه حين مات أحد هؤلاء الطواغيت فإن الملايين ذرفت عليه الدموع،وخرج في تشييع موكبه عند موته ملايين البشر المُضللين…والآن وفي كل أنحاء العالم الإسلامي،وبفضل الصحوة الإسلامية،أدرك الناس أن هؤلاء الحكام لايريدون لهم الخير والصلاح،وأنه لو ترك للشعب حق الخيار لاختار الإسلام كما حدث في الجزائر في انتخابات النقابات والبرلمان في مصر والأردن…وإننا على يقين كامل أنه لو مات أحد من هؤلاء الطواغيت من الحكام فلن تذرف عليه الدموع،فإن اعترض معترض فنقول له نعم،قد تذرف الدموع،ولكنها دموع….الابتهاج والسرور!!

ـ وكانت تُرسل البعثات قديماً إلى أوروبا وأمريكا،من أجل أن يعود المثقفون والجامعيون وهم يحملون أفكار الغرب وحضارة الغرب،ومن أجل أن يكونوا رأس الحربة في معاداة الإسلام وشريعة القرآن…والآن وبفضل من الله ومن ثم بسبب انتشار المراكز الإسلامية في كل أنحاء أوروبا وأمريكا،وأصبح الكثيرون من هؤلاء الأفراد يعودون إلى بلادهم يحملون الإسلام نقياً خالصاً،كدين وشريعة وحكم،وعاد الابتعاث ـ في جانب مهم منه ـ سلاحاً موجهاً ضد أعداء الإسلام بعد أن كان سلاحاً موجهاً ضد المسلمين.

إننا  على يقين بنصر الله،وبأن الإسلام سوف يعود،ويعمُّ نوره وضياءه كل أرجاء المعمورة المُتعطشة إليه،والمحرومة من عدله وإحسانه.

وإننا على يقين أن الدنيا كلّ الدنيا بمن فيها من عبيد العجل والصليب والبقر والأوثان،وعبيد النفط والدولار والذهب،سوف تقف ضدنا وتحاول استئصالنا.

ولكننا وبفضل الله تعالى وضعنا القدم في أول الطريق،وتجاوزنا مرحلة الوليد الملفوف بالأغطية الذي لايستطيع حراكاً أو تحريكاً،وتلعب به الأيادي،ويوضع في أي موضع يُراد له.

نعم إننا نمشي ونتعثر كالطفل الصغير،ولكننا سنتابع الطريق حتى يستقيم العود وتنتظم الخطى،وسوف نصل بعون الله إلى مانريد،عندما ترتفع الهمم وتصل إلى المستوى المطلوب وتصل إلى الجهد المطلوب،لأن ما نبذله لا يتناسب مع حجم المستويات وحجم التحديات…وعندها ستشرق الأرض بنور ربها،وتحسبونه بعيداً ونراه قريباً.

(نشر في الرائد العدد 148 بتاريخ كانون الثاني عام 1993)