إنَّ قومي اتَّخذوا هذا القرآنَ مَهجوراً

بسم الله الرحمن الرحيم

إنَّ قومي اتخذوا هذا القرآنَ مهجوراً

القرآن الكريم هو كلام الله تعالى المعجز،المُنزّل على خاتم الأنبياء والرسل محمد صلى الله عليه وسلم ،بواسطة الأمين جبريل عليه السلام،المنقول بالتواتر،والمُتعبّد بتلاوته المكتوب في المصاحف،والمحفوظ في الصدور.

أنزله الله تعالى دستوراً للأمّة،وهدايةً للخلق،وآيةَ صدقٍ على نُبوّة محمد صلى الله عليه وسلم،وحُجّةً قائمةً إلى يوم الدين،ومعجزةً خالدة تتحدى الأجيال على مرِّ الزمان وكَرِّ الدهور .

ولقد اهتمَّ السلف الصالح بالقرآن الكريم ،فانكَبّوا عليه إنصاتاً واستماعاً ،قراءةً وتدبراً،علماً وعملاً وتعليماً،واتخذوه دستوراً ومنهجاً وشريعة، ففازوا بسعادة الدارين،ورضوان الله عليهم يوم الدين،وسادوا العالم يوم أن حَكّموه،واستأسروا القلوب والنفوس يوم أن تدَّبروه،وارتقوا سُلّمَ الحضارة يوم أن رفعوه.

أما الخلف وللأسف،فقد هجروا الإنصات إليه،وهجروا قراءته وتدبره،وهجروا علمه وتعليمه،وهجروا اتخاذه دستوراً ومنهجاً وشريعة ،فآلت أحوالهم إلى ما نراه اليوم، حيث أعرضت عنهم العزّة والسيادة يوم أعرضوا عنه،وتَجهّمت لهم الكرامة والسعادة يوم تَجهّموا لأحكامه .

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله:(كتاب الفوائد ـ أنواع هجر القرآن):

“هجر القرآن أنواع،أحدها:هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه.

والثاني:هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه وإن قرأه وآمن به.

والثالث:هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه واعتقاد أنه لا يفيد اليقين وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم.

والرابع:هجر تدبره وتفهمه ومعرفى ما أراد المتكلم به منه.

والخامس:هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها،فيطلب شفاء دائه من غيره ويهجر التداوي به،وكل هذا داخل في قوله:{وقالَ الرَّسولُ ياربِّ إنَّ قومي اتخذوا هذا القرآنَ مهجوراً}[الفرقان 30].وإن كان بعض الهجر أهون من بعض.

ويقول الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله(مجلة البيان ):

“في شكوى النبي صلى الله عليه وسلم من هجر القرىن دليل على أن ذاك من أصعب الأمور عليه وأبغضها لديه ،وفي حكاية القرآن لهذه الشكوى وعيد كبير للهاجرين بإنزال العقاب بهم إجابة لشكوى نبيه،ولما كان الهجر طبقات،أعلاها عدم الإيمان به فلكل هادر حظه من هذه الشكوى وهذا الوعيد.ونحن ـ معشر المسلمين ـ قد كان منا للقرآن هجر كثير في الزمان الطويل وإن كنا به مؤمنين،بسط القرآن عقائد الإيمان كلها بأدلته العقلية القريبة القاطعة،فهجرناها،وقلنا تلك أدلة سمعية لا تحصل اليقين،وأخذنا في الطرائق الكلامية المعقدة وإشكالاتها المتعددة واصطلاحاتها المحدثة مما يصعب أمره على الطلبة فضلاً عن العامة،وبيّن القرآن أصول الأحكام وأمهات مسائل الحلال والحرام ووجوه النظر والاعتبار،مع بيان حِكم الأحكام وفوائدها في الصالح الخاص والعام ،فهجرناها واقتصرنا على قراءة الفروع الفقهية مجردة بلا نظر،جافة بلا حكمة،محجبة وراء أسوار من الألفاظ المختصرة،تفنى الأعمار قبل الوصول إليها،وبيّن القرآن مكارم الاخلاق ومنافعها ومساوىء الأخلاق ومضارها،وبين السبيل للتخلي عن هذه والتحلي بتلك مما يحصل به الفلاح بتزكية النفس ،والسلامة من الخيبة بتدسيتها،فهجرنا ذلك كله،ووضعنا أوضاعاً من عند أنفسنا،واصطلاحات من اختراعاتنا،خرجنا في أكثرها عن الحنيفية السمحاء إلى الغلو والتنطع،وعن السنّة البيضاء إلى الإحداث والتبدع،وأدخلنا فيها من النسك الأعجمي،والتخيل الفلسفي ما أبعدها غاية البعد عن روح الإسلام،والقى بين أهلها بذور الشقاق والخصام،وآل الحال بهم إلى الخروج من أثقال أغلالها،والاقتصار على بقية رسومها للانتفاع منها ومعارضة هداية القرآن بها.وعرض القرآن علينا هذا الكون وعجائبه،ونبهنا على ما فيه من عجائب الحكمة ومصادر النعمة لننظر ونبحثونستفيد ونعمل،فهجرنا ذلك كله إلى خريدة العجائب وبدائع الزهور والحوت والصخرة وقرون الثور!،ودعانا القرآن إلى تدبره وتفهمه والتفكر في آياته ،ولا يتم ذلك إلا بتفسيره وتبيينه،فأعرضنا عن ذلك وهجرنا تفسيره وتبيينه،فترى الطالب يفنى حصة كبيرة من عمره في العلوم الآلية دون أن يكون قد طالع ختمة واحدة في أصغر تفسير بل ويصير مدرساً متصدراً ولم يفعل ذلك.

وعلّمنا القرآن أن النبي صلى اله عليه وسلم هو المبين للناس ما نزل إليهم من ربهم،وأن عليهم أن يأخذوا ما آتاهم وينهوا عما نهاهم عنه،فكانت سنته العملية والقولية تالية للقرآن،فهجرناها كما هجرناه وعاملناها بما عاملناه ،حتى إنه ليقلّ في المتصدرين للتدريس من كبار العلماء في أكبر المعاهد من يكون قد ختم كتب الحديث المشهورة كالموطأ والبخاري ومسلم ونحوها مطالعة فضلاً عن غيرهم من اهل العلم وفضلاً عن غيرها من كتب السنة.وكم وكم وكم بيّن القرآن،وكم وكم وكم قابلناه بالصد والهجران!

شر الهاجرين للقرآن هم الذين يضعون من عند أنفسهم ما يعارضونه به ويصرفون وجوه الناس إليهم وإلى ما وضعوه عنه،لأنهم جمعوا بين صدهم وهجرهم في أنفسهم وصد غيرهم،فكان شرهم متعدياً وبلاؤهم متجاوزاً وشرُّ الشرِّ وأعظم البلاء ما كان كذلك.

لا نجاة لنا من هذا التيه الذي نحن فيه والعذاب المنوع الذي نذوقه ونقاسيه إلا بالرجوع إلى القرآن،إلى علمه وهديه،وبناء العقائد والأحكام والآداب عليه،والتفقه فيه وفي السنة النبوية شرحه وبيانه،والإستعانة على ذلك بإخلاص القصد وصحة الفهم والإعتضاد بأنظار العلماء الراسخين والإهتداء بهديهم في الفهم عن رب العالمين،وهذا أمر قريب على من قرّبه الله عليه،يسير على من توكل على الله فيه ،وقد بدت طلائعه ـ والحمد لله ـ وهي آخذة في الزيادة ـ إن شاء الله ـ وسبحان من يحيى العظام وهي رميم”.

ويقول سيد قطب رحمه الله في الظلال في تفسير الآية 30 من سورة الفرقان:

“لقد هجروا القرآن الذي نزله الله على عبده،لينذرهم ويبصرهم.هجروه فلم يفتحوا له أسماعهم إذ كانوا يتقون أن يجتذبهم فلا يملكون لقلوبهم رداً عنه.وهجروه فلم يتدبروه ليدركوا الحقّ من خلاله،ويجدوا الهدي على نوره.وهجروه فلم يجعلوه دستور حياتهم،وقد جاء ليكون منهاج حياة يقودها إلى أقوم طريق”.

 1 ـ هجروا الإنصات إليه!

الإستماع في اللغة: الإصغاء، وهو مصدر الفعل استمع ، يُقال: استمع فلان إلى القرآن: قصد إلى سماعه . فالسماع يكون بقصد وبغير قصد،ولا يكون الاستماع إلا بالقصد.

وقد وردت بعض مشتقات الإستماع في القرآن وذلك في قوله تعالى مخاطباً موسى عليه السلام {وأنا اخترتك فاستمع لما يُوحى} (مجموعة السفير ج15ـ16 ص 1194-1195)

ولقد فهم السلف الصالح قوله تعالى{وإذا قُرئَ القُرآنُ فاستَمِعُوا لهُ وأنصِتُوا لعلَّكُم تُرحَمُون}(الأعراف 204)

فكانوا يُنصتون لقراءة القرآن،ويستمعون إليه وقلوبهم مليئة بالخشية،وعقولهم تتدبر معانيه،وتعيش ألفاظه،وجوارحهم تسكن في مواضع السكون،وتتفاعل رهبةً أو رغبةً في مواضع الترهيب والترغيب.

ولأنهم أدركوا أن الإنصات والإستماع إليه سبيل إلى نيل رحمة الله . يقول الفقيه العظيم الإمام الليث بن سعد: “ما الرحمة إلى أحد بأسرع منها إلى مستمع القرآن الكريم لقوله تعالى {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون}، يقول الإمام الليث :ولعلّ من الله واجبة.

ومما يُساعد على الإنصات من جهة القارئ تحسين الصوت أثناء التلاوة،عن البراء ابن عازب رضي الله عنه قال: “سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في العشاء بالتين والزيتون، فما سمعت أحداً احسن صوتاً منه” [متفق عليه[.

وجاء ايضاً في الحديث الشريف: “إن من أحسن الناس صوتاً  بالقرآن، الذي إذا سمعته يقرأ ،رأيت أنه يخشى الله “[رواه جابر بن عبد الله وصححه الألبانيٍ

[وروى البراء بن عازب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “زَينوا القرآن بأصواتكم،فإن الصوتَ الحسن يزيدُ القرآن حُسناً” [رواه أبو داود وصححه الألباني ]، وعن أبي لبابة بشير بن عبد المنذر رضي الله عنه أن الرسول صلى اله عليه وسلم قال: “من لم يَتغن بالقرآن فليس منا “[ رواه أبو داود بإسناد جيد].والمقصود هنا تحسين الصوت بدون تلاعب بالحروف أو خروج عن أحكام التجويد،أو محاكاة لأصوات المغنين،وإلا ضاع الخشوع المطلوب في التلاوة.

إنَّ التَغنّي في التلاوة وتحسين الصوت هو الذي يجعل المسلم عندما يُنصت إلى القرآن يتأثر به ويتفاعل معه،حيث يجتمع هنا حسن الصوت وجودّة الترتيل مع معاني القرآن العظيم، فتتأثر النفوس والمشاعر،ويخشع القلب والجوارح،أما عندما يصبح الغرض ـ كما يفعل وللأسف بعض المقرئين في هذه الأيام ـ إثارة الطرب وإحداث النشوة، كما يفعل بعض المغنين والمطربين، وليس توصيل معاني القرآن والتأثر بمعانيه،وعندما تصبح قراءة القرآن لحناً وليس ترتيلاً،وطرباً وليس خشوعاً،وعندما يصبح هَمُّ السامع الإنشغال فقط بصوت القارئ وعدم تدبر المعنى،فهذا هو الغناء وهذا لايجوز.

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله(كتاب الفوائد ـ شروط الانتفاع بالقرآن ـ ص7):

“إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه،والقِ سمعك،واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه منه إليه،فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله،قال تعالى:{إنَّ في ذلكَ لَذكرى لِمن كانَ لهُ قلبٌ أو ألقى السّمعَ وهوَ شهيدٌ}[ق 37].

وذلك أن تمام التأثير لما كان موقوفاً على مؤثر مقتض ومحل قابل وشرط لحصول الأثر وانتفاء المانع الذي يمنع منه،تضمنت الآية بيان ذلك كله بأوجز لفظ وأبينه وأدله على المراد..فقوله:{إن في ذلك لذكرى} إشارة إلى ماتقدم من أول السورة إلى ههنا،وهذا هو المؤثر،وقوله:{لمن كان له قلب}فهذا هو المحل القابل،والمراد به القلب الحي الذي يعقل عن الله كما قال تعالى:{إن هوَ إلا ذكرٌ وقُرآنٌ مُبينٌ*لِيُنذرَ من كانَ حَيَّاً}[يس 69 ـ 70].أي حي القلب.وقوله:{أو ألقى السمع}أي وجه سمعه وأصغى حاسة سمعه إلى ما يقال له،وهذا شرط التأثر بالكلام.

وقوله{وهو شهيد}أي شاهد القلب حاضر غير غائب.قال ابن قتيبة الدينوري:استمع كتاب الله وهو شاهد القلب والفهم،ليس بغافل ولا ساه،وهو إشارة إلى المانع من حصول التأثير،وهو سهو القلب وغيبته عن تعقل ما يقال له والنظر فيه وتأمله.فإذا حصل المؤثر وهو القرآن،والمحل القابل وهو القلب الحي،ووجد الشرط وهو الإصغاء،وانتفى المانع وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب وانصرافه عنه إلى شىء آخر،حصل الأثر وهو الانتفاع والتذكر”.

يقول الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله تعالى في كتابه القيّم “هكذا علمتني الحياة”:

“تأثير القرآن في نفوس  المؤمنين بمعانيه لا بأنغامه،وبمن يتلوه من العاملين به لا بمن يجوّده من المحترفين به،ولقد زلزل المؤمنون بالقرآن الأرض يوم زلزلت معانيه نفوسهم،وفتحوا به الدنيا يوم فتحت حقائقه عقولهم،وسيطروا به على العالم يوم سيطرت مبادئه على أخلاقهم ورغباتهم” .

وأما في هذا الزمان فكيف يمكن أن نفسّر ارتكاس وتفاعل بعض السامعين لبعض القراء وهم يتلون عليهم آيات العذاب وصور الجحيم مثل قوله تعالى: {خذوه فغلوه* ثم الجحيم صلوه* ثم في سِلسلةٍ ذَرعُها سبعونَ ذراعاً فاسلكوه}[الحاقة 30 ـ 32]،كيف نفسر ارتكاسهم بإطلاق الصرخات تلو الصرخات والصيحات بعد الصيحات:  الله … الله ، أعد ..أعد ؟! بدلاً من أن تخشع قلوبهم،وتذرف دموعهم،وترتجف أوصالهم!! إن بعض السلف الصالح كان يغشى عليه ،بل يصاب بالإغماء لعدة دقائق وربُّما ساعات عندما كانت تُقرأ عليه آيات الوعيد والعقاب والترهيب… بل كيف نفسر صراخ وصيحات أمثال هؤلاء المستمعين عندما تًتلى عليهم آيات المحيض مثلاً!!!

يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله(كتاب فصول إسلامية ـ مقال بعنوان قرآنكم يامسلمون ـ ص233):

“الذي دفع إلى كتابة هذا البحث أني سمعت الجمعة الماضية القارئ المصري المعروف(فلاناً)…ولست أسميّه، يقرأ في جامع بني أمية،ويذيع قراءته(مذياع دمشق)، فإذا أنا أسمع بدَلَ القرآن غناءٍ رخواً طرياً،من هذا الغناء الذي يتخلّع فيه الصوت ويتخنّث، وتكون كل رجفة فيه وكل هزة كفراً بالرجولة،وجحوداً لها،وكلما وقف وقفة هَدرَ الناس ب(أه)و(الله)و(ياسلام)و(أعد) إي والله، (أعد) التي تسمعونها في المسارح والملاهي،ولم يبق مما هنالك إلا التصفيق،وقرع الكؤوس…

وأعجب مافي الأمر،وكله عجب،أن السورة التي يقرؤها، ويغنّي بها…هي، هي يا أيها الناس، سورة الحاقة، السورة التي تصف أهوال يوم القيامة،السورة التي فيها:{وأمّا من أُوتيَ كتابَهُ بشِمالهِ فيقولُ ياليتني لم أوتَ كتابيه* ولم أدرِ ما حسابيه*ياليتها كانتِ القاضيه* ما أغنى عنّي ماليه* هلكَ عنّي سلطانيه*خذوهُ فَغُلُّوهُ*ثمَّ الجحيمَ صَلّوه*ثمَّ في سِلسلةٍ ذَرعها سَبعونَ ذِراعاً فاسلكوه*إنّهُ كانَ لايؤمنُ بالله العظيم*ولايَحُضُّ على طعامِ المسكين*فليسَ لهُ اليومَ ها هنا حميم* ولاطعامٌ إلا من غِسلين* لا يأكلهُ إلا الخاطئون}.

هذا الكلام الذي تنخلع له قلوب من لهم قلوب من القراء،كيف يستطيع مسلم أن يتغنّى به كما يتغنى بقطعة من الشعر الغزِل المرقص؟

من يستطيع أن يقرأ المرثية الباكية وهو يضحك؟ومن يصف الفاجعة القاصمة وهو يبتسم؟إلا أن يكون جاهلاً لا يدري بِمَ يتحرك لسانه، ولا يفهم معناه..أو أن يكون مجنوناً أفلت من المارستان؟

أفيس معنى هذا أن هذا القارئ لايفهم معاني الكلمات التي يقرؤها ولايدري ما موضوعها،أو هو لايحاول أن يفهم،وأن السامعين الذين لا يهزّهم إلا الطرب،ولا تحرّكهم إلا الأنغام،هم مثله لا يفهمون المعنى،ولا يدرون ما الموضوع؟

وهذه هي المصيبة التي ليس فيما أصاب المسلمين أكبر منها،لأن فيها تعطيل القرآن،وتحويله من دستور شامل، ومنهج كامل، يتدبر ويفهم ويحفظ ويعمل به،إلى مجرد كلمات، تردد ترديد الببغاوات…

يقرأ المسلمون القرآن،فيحرّكون ألسنتهم بلفظ كلماته،وتجويد تلاوته،ولكن لايفكرون في وجوب تحريك عقولهم لفهم معانيه،ويرون أن هذا هو الأصل في القراءة،كأن القرآن ليس إلا كلاماً معدّاً للتلحين،ولا يطلب منهم إلا التسابق إلى حسن تلحينه،وإدارته على البيات والرصد والعجم وهاتيك الأنغام..

وصار البرُّ بالقرآن كل البرّ،والعناية به كل العناية،أن نتقن مخارج حروفه،ونفخّم مفخمه،ونرقق مرققه،ونحافظ على حدود مدوده،ونعرف مواضع إخفاء النون وإظهارها،ودغمها وقلبها والغنّة بها،ثم نفتتح به الإذاعة كل يوم،نختار لذلك أحلى القراء صوتاً،وأبصرهم بالألحان،وأقدرهم على التصرف فيها،ويختم القارئ تلاوته، فننتقل مباشرة إلى الأغنية الفاسقة نذيعها،والكلام الفارغ نعلنه،وتسمع هذه التلاوة في القهوة وأهلها معرضون عنها،مشغولون بالنرد المحرّم والدخان واغتياب الناس،وأن نبدأ بعشر آيات من القرآن كل حفلة وكل اجتماع،وأن نقيم من يقرأ في المآتم،والناس منصرفون عن القرآن إلى الإستقبال والوداع وإدارة القهوة والدخائن،وأن يقرأه(الشحّادون) على أبواب المساجد،وأن نضع اللوحات الثمينة فيها الآيات منه في صدور أبهائنا ومجالسنا،وأن تتخذه النساء المسلمات حلية تعلّق في صدورهن المكشوفة،التي يحرم هذا القرآن كشفها،هذا هو كل برّنا بالقرآن، وعنايتنا به!!

ويقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله(الرسالة العدد 379):

“نزل القرآن آمراً وناهياً،ومذكراً وواعظاً،وكان للمسلمين دستوراً وقانوناً،فلم نفهم منه إلا أنه كتاب تبرّك،نتخذه تمائم ورقي،أو نتلوه تلاوة تطريب وتلحين،وتطرية وتليين،نؤخذ بحلاوة صوت القاريء،وبراعة إلقائه،وحسن تصرفه في ألحانه،ولا نتنبه الانتباه المطلوب إلى المعاني،ولا نخشع الخشوع اللائق بمن يسمع كلام الخالق.

أما إنه لا جدال في وجوب ترتيل القرآن وتجويده،وضبط مخارجه وأحكامه وأدائه،أما أن يكون القصد من الإصغاء إليه الطرب،والغاية من تلاوته الإطراب، فلا،ثم لا…

ويتابع رحمه الله:”ذلك أن منهم من أولع بالقراءة على السبع،في المساجد والمجامع،يكرر الآية الواحدة على الأوجه المختلفة،فلا يأتي من ذلك إلا فتنة العامة،وتشكيك الجهلاء،وما يخالط القاريء من العجب والزهو،وذلك ما لا يستحبه الشرع.ولقد ثبت في الحديث أن القرآن أنزل على سبعة أحرف،تسهيلاً على العرب المختلفة لغاتهم،وكانوا يقرؤون عليها جميعاً،حتى إذا كان زمان عثمان رضي الله عنه،وسيطرت لغة قريش أو كادت،وتوحدت اللغات ولم يبق للسبعة ألاحرف من فائدة إلا اختلاف الناس،أمر عثمان بالاقتصار على واحد منها ومنع ما عداه،وكتب المصحف الإمام وبعث به إلى الأمصار،واقتصر الناس على الحرف الواحد حتى نشأ النحاة وأهل اللغة والقراء،فوقع بينهم اختلاف يسير في حركة أو إمالة أو مد أو همز فكان من ذلك القراءات السبع ،وهي على حرف واحد وليست على الأحرف السبعة كما يظن بعض من لا علم له”.انتهى كلام الطنطاوي رحمه الله.

نعم، لقد أصبح  سماع القرآن الكريم عند بعض الناس كسماعهم للأغاني والألحان،يطربهم  الصوت،ويُنشيهم اللحن،وتسحرهم الحناجر،ولا يبقى هناك دور لفهم المعاني أو تدبر الألفاظ،والأدهى من ذلك بل والأمرّ أن هناك من يُنادي بين فترة وأخرى أن يُلحن القرآن الكريم!!! ولا بأس أن يرافق ذلك كما يقولون بعض المعازف!!.

يقول الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله(مجلة المنار العدد 512 تشرين الثاني عام 1933م):

يقول تعالى:{ومنهُم من يستمعونَ إليكًَ أفأنتَ تُسمع الصُّمَّ ولو كانوا لايعقلون}[يونس 42] أي يصيخون بأسماعهم مصغين إليك إذا قرأت القرآن،أو بينت مافيه من أصول الإيمان والأحكام،ولكنهم لايسمعون إذ يستمعون،إذ لايتدربون القول ولايعقلون مايراد به،ولايفقهون مايرمى إليه،لأن الاستماع إليك مقصود عندهم لذاته لا لما يراد به،وهي بلاغته في غرابة نظمه،وجرس الصوت بترتيله،كمن يستمع إلى طائر يغرد على فننه،ليستمع بصوته لا ليفهم منه كما قال تعالى{ما يأتيهم من ذكرٍ من رَّبّهم مُحدَثٍ إلا استمعوهُ وهم يلعبونَ}[الأنبياء2] أو كالبهائم ثم يصيح بها الراعي فترفع رؤوسها لإستماع صوته الذي راعها فصرفها عن رعيها{ومثل ُالَّذينَ كفروا كَمثلِ الذي ينعِقُ بما لايسمعُ إلا دُعاءً ونداءً صُمٌّ بُكمٌ عُميٌ فهم لايعقلونَ}[البقرة 171] أو كما قال {ومنهُم من يستمعُ إليكَ وجعلنا على قلوبهم أكنةً أن يفقهوهُ وفي آذانهم وقراً}[الأنعام25] والقاعدة الطبعية الشرعية أن الأمور بمقاصدها. ونحن نرى كثيراً من الناس يقصدون قراء القرآن في ليالي رمضان أو في المآتم ليستمعوا إلى فلان القارئ الحسن الصوت لغرض التلذذ بترتيله وتوقيع صوته،ولا أحد منهم ينتفع بشئ من مواعظ القرآن ونذره،وحكمه وعبره،ولاعقائده وأحكامه”.

إنه يجب على السامع أن يستمع وينصت ويخشع بقلبه وجوارحه،وأن يحاول ما أمكن أن يتجنّب التعليق على التلاوة  بعبارات من عنده،وأن يمتنع في مجالس القرآن عن الشراب والطعام،والكلام والضحك،وألاّ يستخّفه حسن الصوت فيخرجه عن وقاره وآدابه، وأما ما نراه اليوم وللأسف الشديد فهو الاستماع إلى القرآن الكريم في المقاهي والملاهي والناس يلهون ويشربون ويأكلون،بل ويقتلون الوقت ـ كما يقولون ـ بلعب النرد والورق والشطرنج ويرسلون بين الحين والآخر الصيحات والصرخات،وبين الفينة والأخرى القهقهة  والضحكات… ويظنون حقاً أنهم يستمعون إلى القرآن الكريم!!

يقول الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله في “هكذا علمتني الحياة”:

“خير من ألف إذاعة تتلو القرآن على المسلمين بأعذب الأصوات صباح مساء إذاعة واحدة يُتلى فيها القرآن الكريم  بآدابه من قلب خاشع يستمع إليه المسلمون بقلوبهم وعقولهم ساعة واحدة في كل أسبوع” .

نعم، لقد كان الإنصات والإستماع إلى القرآن الكريم يَعملُ عمله،ويفعلُ فعله في النفوس التي تفهمه والعقول التي تتدّبره،والقلوب التي تلين وتخشع له،لقد كان الإنصات إليه  يؤثر في نفوس المؤمنين بل والكافرين أيضاً،كما أثَرّ في الملائكة والجن ،فلماذا لا يفعل فعله في نفوس المسلمين،ولماذا لا يؤثر فيهم كما أثرّ في السابقين؟ !

لقد كان القرآن الكريم مُعجزاً للعرب،وهم أهل الفصاحة والبيان وأُولي البلاغة والتبيان،وقررّ القرآن الكريم أن مجرد سماع العرب لآياته حجة كبرى عليهم، يقول تعالى : {وقالوا لولا أُنزلَ عليهِ آياتٌ من ربه قُلْ إنما الآيات عند الله وإنّما انا نذيرٌ مبين*أولم يكفِهم أنّا أنزلنا عليك الكتاب يُتلى عليهم} [العنكبوت 50 ـ 51]، فأخبر الله عز وجلّ أن القرآن الكريم الذي أنزله، والذي يتلى عليهم هو آيةٌ من آيات الله، ودليلٌ بإعجازه وبيانه وفصاحته وحكمته للدلالة على صدق هذا النبي الكريم والذي عاش معهم أربعين سنة قبل نزول الوحي وشهدوا بأنه الصادق الأمين، يقول تعالى: {قل لو شاء الله ماتلوته عليكم ولا أدراكُم به فقد لبثتُ فيكم عُمراً من قبله أفلا تعقلون* فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذّب بآياته إنه لايُفلحُ المجرمون}[يونس 16 ـ 17]

لقد تحوّل سيدنا عمر الفاروق رضي الله عنه من أعدى أعداء المسلمين إلى أقربّ المقربين من الله ورسوله بعدما تأثرّ بآيات الله تتُلى عليه من سورة طه ،لقد دخل على أخته وزوجها والشرر يتطاير من عينيه، ينوي قتلهما،وما لبث حين سمع كلمات الله تُتلى عليه ـ وهو المعروف عنه في الجاهلية بأنّه كان أفضل من يتذوّق لغة العرب وأشعارهم ـ مالبث حينئذ أن هدأت ثورته،وذهب غضبه ،وسكن غليانه،وذهب إلى الرسول محمد صلى الله عليه  وسلم لا ليقتله ، بل ليبايعه.

وأما عتبة بن ربيعة ،أحد صناديد قريش، فكان معروفاً عنه أنه حلو الحديث،بليغ المنطق قويّ الحجّة،أرسلته قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحاجّه، وكانت تظنّ أنه سوف يلحق بالقرآن بعض الشنآن،أو يحيط به بعض الريب، فلما استمع إلى سورة حم السجدة،ووصل إلى مسامعه قوله تعالى{فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود}[فصلت 13]دارت به الأرض وتهدّم كيانه وغاب وعيه وإدراكه،وأيقن أن قيامته قامت فقال له عثمان  ابن مظعون : لتعلموا أنه من عند الله.

وقصة الوليد بن المغيرة معروفة،عندما استمع إلى القرآن الكريم فقال لقريش: “ماذا أقول فيه، فوالله ما منكم رجل أعلم مني بالشعرولا برجزه ولابقصيده،ولا بأشعار الجن،والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا،والله إن لقوله لحلاوة،وإنّ عليه لطلاوة وإنّهُ ليحطم ما تحته،وإنه ليعلو وما يُعلى عليه ” . قال أبو جهل: والله لايرضى قومك حتى تقول فيه. قال: فدعني أفكر فيه،فلما فكّر قال: إن هذا إلا سحرٌ يؤثر،أما رأيتموه يفرّق بين الرجل وأهله ومواليه. وفي ذلك نزل قرآناً يتلى :{إنه فكَّر وقدّر* فَقُتِل كيفَ قدّر*ثُمَّ قُتِلَ كيف قدّر*ثُمَّ نظر* ثُمَّ عبسَ وبَسَر*ثُمَّ أدبرَ واستكبر*فقال إن هذا إلا سحرٌ يُوثر} [المدثر 18 ـ 24].

يقول أبو عثمان الجاحظ تعقيباً على هذا الموضوع: “بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم أكثرَ ماكانت العربُ شاعراً وخطيباً، وأحكمَ ماكانت لغةً،وأشدَّ ماكانت عدّةً،فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد الله،وتصديق رسالته، فدعاهم بالحجّة،فلما قطع العذر، وأزال الشبهة،وصار الذي يمنعهم من الإقرار الهوى والحميّة دون الجهل والحيرة، حملهم على حظهم بالسيف،فنصبَ لهم الحرب، ونصبوا له،وقتل من عليتهم وأعلامهم، وأعمامهم وبني أعمامهم،وهو في ذلك يحتجُّ عليهم بالقرآن،ويدعوهم صباحاً ومساءً إلى أن يعارضوه إن كان كاذباً بسورة واحدة،أو بآياتٍ يسيرة،فكلّما ازداد تحدياً لهم بها،وتقريعاً لعجزهم عنها،تكشّفَ عن نقصهم ما كان مستوراً، وظهر منه ماكان خفياً،فحين لم يجدوا حيلة ولا حجة قالوا:أنت تعرف من أخبار الأمم مالانعرف،فلذلك يمكنك مالا يمكننا،قال: فهاتوها مفتريات، فلم يَرُم ذلك خطيبٌ،ولا طمع فيه شاعر..فدلَّ ذلك العاقلَ على عجز القوم مع كثرة كلامهم،وسهولة ذلك عليهم،وكثرة شعرائهم، وكثرة من هجاه منهم،وعارض شعراء اصحابه وخطباء أمته،لأن سورة واحدة وآيات يسيرة كانت انقض لقوله،وأفسد لأمره،وأبلغ في تكذيبه ،وأسرع في تفريق أتباعه من بذل النفوس،والخروج من الأوطان، ولإنفاق الأموال. وهذا من جليل التدبير الذي لا يخفى على من هو دون قريش والعرب في الرأي والعقل بطبقات.فمحال ـ أكرمك الله ـ أن يجتمع هؤلاء كلهم على الغلط في الأمر الظاهر،والخطأ المكشوف البين.. وهم أشدُّ الخلق أنفة،وأكثرهم مفاخرة، والكلام سيَِّد عملهم،وقد احتاجوا إليه،والحاجة تبعث على الحيلة في الأمر الغامض فكيف بالظاهر الجليل المنفعة”. انتهى كلا الجاحظ

وقصة المشرك الذي سمع قوله تعالى:{إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون}[النحل 90]فما لبث ذلك الأعرابي حين سماع هذه الآية الكريمة أن خرَّ ساجداً ،فقيل له: لم فعلت ذلك قال: سجدت لبلاغة هذا الكلام .

لقد عرف عرب الجاهلية وكفار قريش مدى تأثير وقع كلام الله في النفوس،ولذلك كانوا  يتعاهدون على أن لا يحضروا مجلسه ولا يملؤون منه أسماعهم،ومع هذا كانوا يحنثون من قرب،ويتسللون في جنح الظلام للإستماع إليه. وبعد ذلك تعاهدوا فيما بينهم على أن  يحاولوا بكل الطرق والوسائل سدَّ المنافذ التي تؤدي لسماع العرب وأهل القبائل لكلام الله المعجز ،فأخذوا يلجؤون إلى وسائل التشويه لكل ما تفتقّ عنه مكرهم وخبثهم ، قال تعالى: “{وقالَ الذين كَفروا لا تَسمعُوا لهذا القرآنِ وألغَوا فيه لعلَّكُم تَغلبون}[ فصلت 26] .

نعم لقد كانوا يسعون بكل جهدهم للحيلولة مابين سماع القرآن الكريم ووصوله إلى العرب وخاصة القادمين إلى مكة من أجل التجارة أو الطواف بالكعبة،وجاء في سيرة ابن هشام فيما يتعلق بإسلام الطفيل بن عمرو الدوسي مايلي: “قدم الطفيل مكة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بها،فمشى إليه رجلٌ من قريش،وكان الطفيل شريفاً شاعراً لبيباً، فقالوا له: يا طفيل،إنك قدمت بلادنا،وهذا الرجل بين أظهرنا قد أعضل بنا،وقد فرّق جماعتنا وشتّت أمرنا،وإنما قوله كالسحر،يفرّق بين الرجل وأبيه،وبين الرجل وبين زوجته،وإنما نخشى عليك وعلى قومك ماقد دخل علينا،فلا تكلمنَّه ولاتسمعنّ منه شيئاً.قال الطفيل: فوالله مازالوا بي حتى أجمعت ألا اسمع منه شيئاً،ولا أكلمه،وحشوتُ في اُذني حين غدوت إلى المسجد كُرْسُفاً(أي قطناً) فَرَقاً من أن يبلغني شئ من قوله،وأنا لا أريد ان أسمعه.فغدوت إلى المسجد فإذا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قائم يصلي عند الكعبة،فقمت منه قريباً، فأبى الله إلا أن يُسمعني بعض قوله،فسمعت كلاماً حسناً، فقلت في نفسي: واثكلَ أمي!والله إني لرجل لبيب شاعر،ما يخفى عليَّ الحسنُ من القبيح،فما يمنعني أن اسمع من هذا الرجل مايقول؟فإن كان الذي يأتي به حسناً قبلته،وإن كان قبيحاً تركته.فمكثت حتى انصرف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى بيته، فاتبعته،حتى إذا دخل بيته دخلت عليه، فقلت: يامحمد،إنَّ قومك قد قالوا لي كذا وكذا… فوالله مابرحوا يخوفونني أمرك حتى سددتُ أُذني،بكُرسُفٍ لئلا أسمع قولك، ثم ابى الله إلا أن يُسمعني قولك،فسمعت قولاً حسناً،فأعرض عليَّ أمرك.فعرض عليَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتلا عليّ القرآن، فلا والله ماسمعت قولاً قطُّ أحسن منه،ولا امراً أعدل منه ،فأسلمتُ وشهدتُ شهادة الحق”.

يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله في “الظلال”:

“كلمة كان يوحي بها الكبراء من قريش  أنفسهم،ويغرون بها الجماهير،وقد عجزوا عن مغالبة  أثرالقرآن في أنفسهم وفي نفوس الجماهير،فهو كما كانوا يدّعون يسحرهم ويغلب عقولهم ويفسد حياتهم ويفرّق بين الوالد وولده والزوج وزوجه.. ولقد كان القرآن يفرّق نعم ،ولكن بفرقان الله بين الإيمان والكفر،والهدى والضلال.. كان يستخلص القلوب له فلا تحفل بوشيجة غير وشيجته، فكان هو الفرقان” ، ويتابع رحمه الله :” وألغوا فيه لعلكم تغلبون..وهي مهاترة لا تليق،ولكنّهُ العجز عن المواجهة بالحجّة والمقارعة بالبرهان،ينتهي إلى المهاترة عند من يستكبر على الإيمان،ولقد كانوا يلغون بقصص اسفنديار ورستم كما فعل مالك بن النضر ليصرف الناس عن القرآن، ويلغون بالصياح والهرج،ويلغون بالسجع والرجز،ولكن هذا كله ذهب أدراج الرياح،وغلب القرآن لأنه يحمل سر الغلب،إنه الحقّ، والحقّ غالب مهما جبهه المبطلون”.

ويقول الشهيد سيد قطب رحمه الله في الظلال في قوله تعالى:{وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً}[الإسراء 45].يقول رحمه الله:

“كان القوم تتأثر بالقرآن فطرتهم فيصدونها،وتجاذبهم إليه قلوبهم فيمانعونها،فجعل الله بينهم وبين الرسول حجاباً خفياً لا يظهر للعيون ولكن تحسه القلوب،فإذا هم لا ينتفعون به ولا يهتدون بالقرآن الذي يتلوه.وهكذا كانوا يتناجون بما أصاب قلوبهم من القرآن،ثم يتآمرون على عدم الاستماع إليه،ثم يغلبهم التأثر به فيعودون،ثم يتناجون من جديد،حتى ليتعاهدوا على عدم العودة ليحجزوا أنفسهم عن هذا القرآن المؤثر الجذاب الذي يخلب القلوب والألباب،ذلك أن عقيدة التوحيد التي يدور عليها هذا القرآن كانت تهددهم في مكانتهم وفي امتيازاتهم وفي كبريائهم فينفرون منها”.

وما نراه في يومنا الحاضر ليس بعيداً كل البعد عما فعله كبراء قريش وكفارها،فبعد ما أدرك اعداء الإسلام ممن يحاربونه علناً وجهرةً،أو ممن ينتمون إليه إسماً ، ويحاربونه سراً بعد ما أدركوا أنه لا وسيلة لتغيير القرآن أو تبديله او تحريفه فهو محفوظ من عند الله {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}[الحجر 9] لجؤوا إلى الوسائل الماكرة والأساليب الخادعة ليحجبوه عن الأسماع والعقول والقلوب فهم من جهة يحاربون اللغة العربية لغة القرآن الكريم،وينادون بإحياء اللغات العاميّة وتدريس العلوم والمعارف باللغات الأجنبية بحجة أن اللغة العربية عاجزة ـ كما يزعمون ويفترون ـ عن اللحاق بركب الحضارة الحديثة والتقدم العلمي،وهم يدركون كل الإدراك ان مفتاح فهم القرآن الكريم وتدّبر معانيه،يكمن في فهم اللغة العربية والإطّلاع على مافيها من جمال وإعجاز وبلاغة،يلجؤون في ذلك أيضاً لمحاربة دروس اللغة العربية والديانة الإسلامية وتقليص ساعات تدريسها ،لجؤوا في ذلك إلى الفن الرخيص حيث لم يعد هَمّ لبعض الأفلام أو المسلسلات أو المسرحيات إلا في السخرية والاستهزاء من مدرسي اللغة العربية والإسلامية ،كما لجؤوا إلى إغلاق المدارس الشرعية والكتاتيب التي كانت تساعد الأطفال الصغارعلى حفظ القرآن الكريم. ومن جانب آخر اقتصروا في الإذاعة المرئية والسمعية على دقائق معدودة لتلاوة القرآن الكريم ـ وفي حالات نادرة لعدّة ساعات وذلك عند وفاة أحد الزعماء أو الملوك!!

والأنكى من هذا والأدهى أن بعض الإذاعات امتنعت عن السماح بتلاوة بعض الآيات أوالسورالقرآنية التي تتعرّض لناس أو أعداء وتكشف زيفهم وحقدهم وعدائهم للإسلام . وبعض الإذاعات المرئية تنقل بعض الشعائر الدينية أو أذان الصلوات مع قراءة قليلة للقرآن الكريم وذلك في أثناء عرض بعض المسلسلات التافهة أوالأفلام الرخيصة،وليس من النادر أن يسبق أو يعقب قراءة القرآن أغنية ماجنة أو رقصة فاجرة !!

ومن جانب ثالث يحاولون التشويش والتشويه بتسخير بعض الأقلام الرخيصة والمأجورة في نشر بعض الكتب أو المقالات في تفسير وتأويل بعض الآيات أو الأحداث بما يعارض نصوص القرآن القطعية والسّنة الصريحة وذلك لترضي أصحاب السلطان .

إنها محاولات عديدة ومتنوعة يحاول بها المُفسدون حجب القرآن الكريم عن الناس لكي لا يُبصّرهم وينذرهم،ويحاولون صَمَّ الآذان عن سماعه حتى لا يمتلك القلوب ويجتذب النفوس،ويحاولون إقصاءه عن المسلمين حتى لا يتدبروه ويدركوا الحقّ من خلاله ويجدوا النور والهدى فيه،إنهم يحاولون أن يسدّوا السبل في وجه المسلمين ليصرفوهم عن القرآن العظيم حتى لا يجعلوه دستور حياتهم ومنهاج طريقهم وإمامهم في الدنيا، ولكنهم {ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين}[الأنفال 30]

ومن جانب أخر فإنه يجب على المسلمين الواعين والملتزمين والحريصين على نُصرة إسلامهم وقرآنهم أن لا يكتفوا بردود الفعل،ولا بالإرتكاسات الحماسية والإندفاعات غير الملتزمة،بل يجب عليهم أن يسعوا إلى مواجهة الباطل ومجابهة قوى الضلال بكل ما أُوتوا من إخلاص ووعي ومعرفة وعلم وإدراك وثبات على الحقّ، إننا بحاجة كما يقول  الأستاذ العلاّمة محمد لطفي الصباغ حفظه الله في كتابه “تذكرة الدعاة” :

“إلى طليعة تحيا للقرآن ووفق أحكامه،لا يكون القرآن في حياتها نغماً يطرب له السامعون ولا تراتيل تُفتتح بها الحفلات،ولا تعاويذ تقرأ في المآتم،واحذروا يا عباد الله من أن تكونوا ممن يقرأ القرآن، والقرآن يلعنه”.

ولم يقتصر الاستماع للقرآن والإصغاء إليه والتأثر بآياته ولغته وكلماته على جماهير الأنس من البشر،بل إنه تعدى ذلك إلى الجانب الآخر من الثقلين وأعني بهم مؤمنين الجن.يقول الشهيد سيد قطب في الظلال في قوله تعالى:{وإذ صَرفنا إليكَ نَفراً من الجنِّ يَستمعونَ القرآنَ فلمَّا حضروهُ قالوا أنصِتوا فلمّا قُضيَ ولّوا إلى قومهم منذرين}[الأحقاف 29]،يقول رحمه الله:

“وهذا يصور الأثر الذي انطبع في قلوبهم من الإنصات للقرآن،فقد استمعوا صامتين منتبهين حتى النهاية.فلما انتهت التلاوة لم يلبثوا أن سارعوا إلى قومهم،وقد حملت نفوسهم ومشاعرهم منه ما لا تطيق السكوت عليه،أو التلكؤ في إبلاغه والإنذار به،وهي حالة من امتلأ حسه بشيءٍ جديد،وحفلت مشاعره بمؤثر قاهر غلاب،يدفعه دفعاً إلى الحركة والاحتفال بشأنه ،وإبلاغه للآخرين في جد واهتمام.

ثم عبروا عما خالج مشاعرهم منه وما أحست ضمائرهم فيه فقالوا:{يهدي إلى الحقِّ وإلى طريقٍ مستقيم}[الأحقاف 30].

ووقع الحق والهدى في هذا القرآن هائل وضخم،لا يقف له قلب غير مطموس ولا تصمد له روح غير معاندة ولا مستكبرة ولا مشدودة بالهوى الجامح اللئيم.ومن ثم لمس هذه القلوب لأول وهلة،فإذا هي تنطق بهذه الشهادة وتعبر عما مسّها منه هذا التعبير.

ثم مضوا في  نداءهم لقومهم في حماسة المقتنع المندفع،الذي يحس أنه عليه واجباً في النذارة لا بد أن يؤديه:{يا قومنا أجيبوا داعيَ الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويُجركم من عذابٍ أليمٍ}[الأحقاف 31].

فقد اعتبروا نزول هذا الكتاب إلى الأرض دعوة من الله لكل من بلغته من إنس وجن،واعتبروا محمداً صلى الله عليه وسلم داعياً  لهم إلى الله بمجرد تلاوته لهذا القرآن واستماع الثقلين له:فنادوا قومهم:{يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به}[الأحقاف 31].

ويقول سيد قطب رحمه الله في قوله تعالى:{قُلْ أُوحيَ إليَّ أنَّهُ استمعَ نفرٌ من الجنِّ فقالوا إنّا سمعنا قرآناً عَجباً}[الجن 1]

يقول رحمه الله:”إن هذه الآيات كالسورة تنبىء عن وهلة المفاجأة بهذا القرآن للجن،مفاجأة أطارت تماسكهم،وزلزلت قلوبهم،وهزّت مشاعرهم ،وأطلقت في كيانهم دفعة عنيفة من التأثر امتلأ بها كيانهم كله وفاض،فانطلقوا إلى قومهم بنفوس محتشدة مملوءة فائضة بما لا تملك له دفعاً،ولا تملك عليه صبراً،قبل أن تفيضه على الآخرين في هذا الأسلوب المتدفق،النابض بالحرارة والانفعال،وبالجد والاحتفال في نفس الأوان،وهي حالة من يفاجأ أول مرة بدفعة قوية ترج كيانه،وتخلخل تماسكه،وتدفعه دفعاً إلى نقل ما يحسه إلى نفوس الآخرين في حماسة واندفاع،وفي جد كذلك واحتفال.

“إنا سمعنا قرآناً عجباً”

فأول ما بدههم منه أنه”عجيب”غير مألوف،وأنه يثير الدهش في القلوب،وهذه صفة القرآن عند من يتلقاه بحس واع وقلب مفتوح،ومشاعر مرهفة،وذوق ذواق…عجب! ذو سلطان متسلط،وذو جاذبية غلابة،وذو إيقاع يلمس المشاعر ويهز أوتار القلوب…عجب!فعلا…يدل على أن أولئك النفر من الجن كانوا حقيقة يتذوقون.

“يهدي إلى الرشد”

وهذه هي الصفة الثانية البارزة كذلك في هذا القرآن،والتي أحسها النفر من الجن،حين وجدوا حقيقتها في قلوبهم…وكلمة الرشد في ذاتها ذات دلالة واسعة المدى.فهو يهدي إلى الهدى والحق والصواب.ولكن كلمة الرشد تلقي ظلاً آخر وراء هذا كله.ظل النضوج والاستواء والمعرفة الرشيدة للهدى والحق والصواب.ظل الإدراك الذاتي البصير لهذه الحقائق والمقومات،فهو ينشىء حالة ذاتية في النفس تهتدي بها إلى الخير والصواب.

والقرآن يهدي إلى الرشد بما ينشئه في القلب من تفتح وحساسية،وإدراك ومعرفة،واتصال بمصدر النور والهدى،واتساق مع النواميس الإلهية الكبرى.

كما يهدي إلى الرشد بمنهجه التنظيمي للحياة وتصريفها.هذا المنهج الذي لم تبلغ البشرية في تاريخها كله في ظل حضارة من الحضارات أو نظام من الأنظمة،ما بلغته في ظله أفراداً وجماعات،قلوباً ومجتمعات،أخلاقاً فردية ومعاملات اجتماعية…على السواء..”.

2 ـ هجروه قراءةً وترتيلاً

يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله في مقدمة الظلال:

“إنّ الحياة في ظلال القرآن نعمة،نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها ،نعمة ترفع العمر وتباركه وتُزّكيه”.

ولقد أدرك السلف الصالح قيمة هذه النعمة التي يعيشها قارئ القرآن،فأقبلوا عليه تلاوةً وترتيلاً،وعاشوا آياته يتدبرون معانيها، ويتفكّرون فيها،فأنارت قلوبهم،وزَكّت عقولهم وشَفت نفوسهم ،وسَمت مشاعرهم،وزادت إلى ذلك فرحتهم وسعادتهم بوعد الله تعالى لهم وما أعدّ لهم من عظيم الأجر وجزيل الثواب في الدنيا والآخرة،قال تعالى: {إنّ الذين يَتلُونَ كتابَ الله وأقاموا الصلاةَ وأنفقوا ممَّا رزقناهُم سراً وعَلانيةً يَرجُونَ تجارةً لن تبور* لِيوفّيَهُم أجُورَهُم ويزِيدَهُم من فضلهِ أنَّهُ غفورٌ شكور}[ فاطر 29ـ30]

فالقرآن يأتي شفيعاً لأصحابه يوم القيامة،وما أعظمها من شفاعة وما أحوج المرء لها  في ذلك اليوم العصيب.

عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه” [رواه مسلم].

وقارئ القرآن مع السّفرة الكرام البرّرة،أي الملائكة الأطهار،فما أعظمه من مقام عَظُمَ منزلاً وعَظُمَ صحبة. عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم “الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة،والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران”[ رواه الشيخان] .  (يتتعتع: يجد صعوبة في قراءته)

وقارئ القرآن موضع الغبطة لعظيم النعمة التي يعيش فيها،عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار “[ رواه الشيخان ].

(والحسد هنا كما يقول الإمام الحافظ ابن حجر في فتح الباري أُطلق مجازاً ويقصد به الغبطة).

وقراء القرآن هم أهل الله وأحباؤه وخاصته،فما أعظمها من نسبة وما أعظمها من صلة .جاء في الحديث الشريف : “إن لله أهلين من الناس قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال : أهل القرآن هم أهل الله وخاصته” [رواه ابن ماجة وأحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه وصححه الالباني ].

والقرأن حافظ لصاحبه ـ بإذن الله ومشيئته ـ اثناء نومه واضطجاعه لا يصيبه مكروه ولا يقربه شر،عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:“ما من مسلم يأخذ مضجعه فيقرأ سورة من كتاب الله تعالى إلا وكل به الله ملكاً يحفظه فلا يقربه شئ يؤذيه حتى يهب متى هب”[ رواه أحمد والترمذي].

وتعظم منزلة القارئ وتزداد مكانته ويزداد أجره بمقدار ما يتلو من القرآن الكريم ويتدبره ويحفظه،عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله  عليه وسلم: “يقال لصاحب القرآن اقرأ وارقَ ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها”[ رواه أبو داود والترمذي والنسائي ،وقال الترمذي حسن صحيح ].

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف” [رواه الترمذي وقال حسن صحيح ]،وعن أبي سعيد الخُدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يقول الله تعالى: من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين وفضل كلام الله سبحانه وتعالى على سائر الكلام كفضل الله تعالى على خلقه” [رواه الترمذي وقال حديث حسن] .

وقارئ القرآن العامل به المُتأدِّب بآدابه محبوب من الناس لسلوكه وخلقه وطيب عشرته عن أبي موسى الاشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة،ريحها طيب وطعمها طيب،ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة،لا ريح لها وطعمها حلو،ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر” [رواه الشيخان.]

ولابد عند قراءة القرآن من قراءته على مهل،بعيداً عن العجلة والإسراع ـ وهو ما يسمى  ـ الهذرمة ـ مع التدبر ،فالأمر ليس في عدد الصفحات التي يقرؤها القارئ،بل فيما فهم منها ووعاها وتدبرها، يقول الصحابي الجليل ابن عباس رضي الله عنهما: “لأن أقرأ البقرة وآل عمران أرتلهما وأتدبرهما أحبّ إلي من أقرأ القرآن كله هذرمة”.

يقول الشيخ العلاّمة علي الطنطاوي رحمه الله في كتاب “فصول إسلامية” تحت عنوان  قرآنكم يا مسلمون:

“القرآن الذي أنزله الله أمراً ونهياً ومنهجاً كاملاً للمسلم في حياته  الخاصة وحياته الأجتماعية، يكتفى منه بالتغني بألفاظه وتجويد تلاوته، فهل ينفع القاضي أن يقرأ القانون مجوداً ثم لا يفهمه ولا يحكم به،وإذا تلقى الضابط برقية القيادة هل يُنجيه من المحكمة العسكرية أن يضعها على رأسه ويقبلّها ويترنم بها ولا يحاول أن يدرك مضمونها،بل لو رأيتم رجلاً قعد يقرأ جريدة حتى أتمّها كلّها من عنوانها إلى آخر إعلان فيها فسألتموه ماهي أخبارها؟ فقال: والله ما أدري،لم أحاول ان أفهم معناها فماذا تقولون؟ أما تنكرونه وتنكرون عليه؟ فكيف لا تنكرون على من يعكف على المصحف حتى يختم الختمة وقد خرج منها بمثل ما دخل فيها،ما فهم من معانيها شيئاً، فمن أين جاءت هذه المصيبة؟ وأي عدو من أعداء الله استطاع أن يلعب هذه اللعبة فيخرج المسلمين من قرآنهم،وهو بين أيديهم وفي كل بيت نسخ منه،وهو يتلى دائماً في كل مكان، يحرمهم منه وهو في أيديهم،وهو ملء انظارهم واسماعهم ،مسألة عجيبة جداً والله “.

ويُستحب لقارئ القرآن أن يصحب معه تفسيراً صغيراً يُوضح بعض المعاني أوالألفاظ أوأسباب النزول،يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله في كتاب”فصول إسلامية”:

“ولندع بعد ذلك إلى الرجوع إلى حقيقة القرآن وقراءته قراءة تدّبر وفهم كما تقرأ الكتب العلمية والأدبية،نتفهم مقاصدها ونلخص قواعدها،لا أريد أن يفهم كل قارئ بعقله وحده من غير رجوع إلى معجم ولا نظر في تفسير ولا استقراء لأثر،لا،بل يكشف أولاً عن معاني الكلمات من التفسيرات المختصرة أو المعاجم ،ولا سيما مفردات الراغب الأصبهاني ،ثم يفهم معاني  الآيات مستعيناً بمعرفة أسباب نزولها والمأثور من تفسيرها”.

كما يُستحب لقارئ القرآن أن يُرتلّه ترتيلاً قال تعالى : {ورتل القرآن ترتيلاً}[المزمل 4 ].

جاء في كتاب “التبيان في آداب حملة القرآن” للإمام النووي رحمه الله تعالى:

“وقد اتفق العلماء على استحباب الترتيل لقوله تعالى :{ورتل القرآن ترتيلاً} ، وثبت عن أم سلمة رضي الله عنها أنها نعتت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها قراءة مفسرة حرفاً حرفاً“[ رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال حسن صحيح]، ويستحب إذا مرّ بآية رحمة أن يسأل الله تعالى من فضله،وإذا مرّ بآية عذاب أن يستعيذ بالله من الشرور والعذاب،أويقول اللّهُمَّ إنّي أسألك العافية أو أسألك المعافاة من كُلِّ مكروه أو نحو ذلك،وإذا مرّ بآية تنزيه لله تعالى نزّه الله تعالى فيقول: سبحانه وتعالى أو تبارك وتعالى أو جلّت عظمة ربنا،فقد صحَّ عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه قال: “صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت يركع عند المائة،ثم مضى، فقلت يصلي بها في ركعة، فمضى،ثم افتتح آل عمران فقرأها، فقلت: يركع، فصلى بها ،ثم افتتح النساء فقرأها يقرأ ترتيلاً،إذا مر بآية فيها تسبيح سَبّح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ”[ رواه مسلم].

ويقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله في “فصول إسلامية”

:لقد ورد الأمر بالترتيل، ولكن الترتيل كما قال الراغب الأصبهاني في المفردات: هو إرسال الكلمة من الفم بسهولة واستقامة، والتمهل في النطق والإبانة عن الحروف،والذي أفهمه أن المطلوب في التلاوة التريث والتمهل،وإبانة الحروف والكلمات، وتحسين الصوت فيه،وإظهار الخشوع مع بعض التنغيم الذي يأتي عفواً ولا يكون هو المقصود،والذي ينشأ عن فهم المعنى ويؤدي إلى إظهاره،وإن للكلام آثاراً مختلفة في النفس، منها : الحماسة والحزن والخوف والرغبة والاعتبار والتفكير،ولابد من اللهجات المناسبة للتعبير عنها تعبيراً يوصل إليها ويدل عليها،مع ما يكون فيه من رنّة الاستفهام والتعجب والدهشة وغيرها، وهذا هو التلحين التعبيري،أما الغناء فلا يثير إلا الطرب،والقراء اليوم لا يفرقون في الأنغام التي يقرؤون بها بين آيات الترغيب في الجنة وآيات الترهيب من النار،وآيات القصص وآيات التشريع ،مع أن الإلقاء العادي لا يكون إلقاءً حيّاً مُعبراً إذا جاء هذا كله بلهجة واحدة لا تتبدل ولا تتغير بتبدل المعاني وتغير الأساليب”.

ويقول الأستاذ ناجي الطنطاوي رحمه الله(كلمات نافعة ص127):

“يستحب لمن يريد تلاوة القرآن أن يرتله ترتيلاً،أي أن يقرآه على مهل من غير عجلةٍ، ويبينه حرفاً حرفاً،والترتيل هو التنسيق وحسن النظام،وعليه أن يوضح الحروف وإخراج كل حرفٍ من مخرجه من الحلق قدر الاستطاعة،لأنه قد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له حزبٌ يقرؤه ولا يخل به،وكانت قراءته ترتيلاً لا هذاً ولا عجلةً،والهذ هو السرعة في القراءة،بل كانت قراءةً مفسرةً حرفاً حرفاً،وكان يقطع قراءته آيةً آيةً، وكان يمد عند حروف المد،وكان يتغنى بالقرآن ويرجع صوته به أحياناً.

والتغني بالقرآن مطلوب،وليس معناه اتباع أساليب الغناء ولكن معناه تحسين القراءة وترتيبها وتحسين الصوت اثناء التلاوة وهذا هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم:”زينوا القرآن بأصواتكم“، وقوله أيضاً:”ليس منا من لم يتغن بالقرآن” أي يترنم به بصوت جميل.أما التمطيط في القراءة والتكلف فيها وتأديتها بألحان الغناء فهو ممنوع وقد أنكره العلماء ولم يأذنوا به.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله في زاد الميعاد:”إن تحسين الصوت بالقرآن وتزيينه والتطريب بقراءته أوقع في النفوس وأدعى إلى الاستماع والإصغاء إليه وهو بمنزلة الحلاوة التي تجعل في الدواء لتنفذه إلى موضع الداء”.انتهى كلام الشيخ ناجي الطنطاوي.

وأما فيما يتعلق بختم القرآن فيُستحب ختمه كل ثلاث،وأوسط الأمور ـ وهذا ما ورد عن الصحابة والسلف الصالح ـ ختمه في سبعة ايام وليال،عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : “اقرأ القرآن في كل شهر،قلت : إني أجد قوة، قال: فاقرأه في عشرين ليلة، قلت: إني أجد قوة، قال: فاقرأه في سبع ولا تزد على ذلك”[رواه مسلم والبخاري]

وذكرت بعض الروايات أنه رخّص له أن يقرأه في ثلاث بعد ذلك .

هذا هو المشهور والمألوف من الصحابة والسلف الصالح،وأما ما يذكر في بعض الكتب ـ ومنها “الإحياء” للإمام العظيم أبي حامد الغزالي، و”الأذكار” لللإمام العظيم النووي رحمهما الله تعالى ورضي عنهما وأرضاهما، من أن بعضهم ختم القرآن في اليوم والليلة ثمان مرات أوأنه ختمه في ركعة واحدة، فإن هذا لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو كما جاء في السيرة النبوية لم يقرأ القرآن في أقل من ثلاث،وجاء في الحديث الشريف: “لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث”[رواه الترمذي وأبو داود وصححه الألباني]

فالقضية ليست قضية تسابق أو استعجال أو تمرير صفحات،بل الأصل هو الخشوع والتدبر والتفكر في المعاني، جاء عن مسلم بن مخراق قال: قلت لعائشة رضي اله عنها: “إن رجالاً يقرؤون القرآن في ليلة مرتين أو ثلاث، فقالت: قرؤوا ولم يقرؤوا.  كنت أقوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة التمام فيقرأ بالبقرة وآل عمران والنساء فلا يمر بآية فيها استبشار إلا دعا ورغب، ولا بآية فيها تخويف إلا دعا واستعاذ”

وقال رجل لإبراهيم  النخعي : إني أختم القرآن كل ثلاث، قال ليتك تختمه كل ثلاثين وتدري أي شيء تقرأ،ورُوي عن الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان أنه قال : من قرأ القرآن في سنة مرتين فقد أدّى حقه لأن الرسول صلى الله عليه وسلم عرض على جبريل في السنة التي قُبض فيها مرتين.

وعلى قارئ القرآن أن يُداوم على قراءته وأن يتعهدّه بالحفظ والمراجعة وإلا تعرّض للنسيان،عن أبي موسى الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : “تعاهدوا هذا القرآن فوالذي نفس محمد بيده لهو أشدّ تفلتاً من الإبل في عُقلها” [ متفق عليه ]. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : “إنما مثل صاحب القرآن كمثل الإبل المُعقّلة،إن عاهد عليها أمسكها،وإن أطلقها ذهبت”  [متفق عليه]. وعن انس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “عُرضت علي أجور أمتي حتى القَذاة يخرجها الرجل من المسجد،وعرضت علي ذنوب أمتي فلم أرَ ذنباً اعظم من سورة من القرآن أو آية أُوتيها رجل ثم نسيها “[رواه أبو داود والترمذي].

وعن سعد بن عبادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من قرأ القرآن ثم نسيه لقي الله عز وجل يوم القيامة وهو أجذم” [ رواه أبو  داود والترمذي] .

هذا هو حال من قرأ القرآن ولم يتعهده بالمداومة على الحفظ والقراءة فنسيه، فما بالك بحال من لم يقرأ القرآن ولم يحفظ منه شيئاً، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله  صلى الله عليه وسلم: “إن الذي ليس في جوفه شئ من القرآن كالبيت الخرب” [أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح ]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ” لا تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان ينفر من البيت الذي تُقرأ  فيه سورة البقرة” [ رواه مسلم].

وقال سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه” من أضيّع الأشياء: عالم لا يُسأل عنه،وعلم لا  يُعمل به،ورأي صواب لا يُقبل، وسلاح لا يستعمل،ومسجد لا يُصلى فيه، ومصحف لا يُقرأ فيه،ومال لا ينفق منه، وخيل لا يُركب،وعمر طويل لا يتزود فيه صاحبه لسفره ” ،وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه “إن هذا القرآن مأدبة الله فمن استطاع أن يتعلم منه شيئاً فليفعل،فإن أنأى البيوت عن الخير الذي ليس فيه من كتاب الله شيء،وإن البيت الذي ليس فيه من كتاب الله شيء كخراب البيت الذي لا عامر له “.

نعم، لقد كان القرآن محفوظاً في الصدور،فاصبح الآن حلية تُحلّي الصدور،صدورالمنازل،والمكتبات،وصدور النساء المكشوفة التي نزل القرآن بتحريم كشفها !! وكان القرآن نوراً وهدىً،يُحيى القلوب ويُبدّد الظلمات،فأصبحنا نكتفي اليوم بقراءته على الأموات القابعين في تجاويف الظلمات،وفي المآتم بين أفواج المستقبلين والمودعين حيث تدار فناجين القهوة ولفافات السجائر !!

وكان منهجاً وشرعةً وآداباً يتحلّى بها المسلمون الأوائل،وأصبحنا نكتفي بسماعه الآن في  المقاهي وأماكن اللهو،ومن الإذاعات المرئية والسمعية جنباً إلى جنب يتردّد مع  المسلسلات التافهة والأغاني السفيهة والأفلام الرخيصة،لا نتأثر به،ولا ترهبنا آياته، ولا تُحرّكنا كلماته !!

وكان حملة القرآن وحفاظه هم سادة العلماء وأشراف الناس،فلماذا لم نعد نسمعه الآن إلا من الشحاذين والمنتفعين في المقابر وعلى أبواب المساجد؟ !!هذا هو بِرّنا وعنايتنا بالقرآن في هذا الزمان!!

الّلهُمَّ اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا وذهاب همومنا. الّلهُمَّ اجعله لنا إماماً في الدّنيا وشفيعاً في الآخرة،الّلهُمَّ ذَكرّنا منه ما نُسّينا،وعلّمنا منه ماجهلنا،وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار،واجعلنا ممن يعملون بحدوده ولا يكتفون بحروفه . إنك على كل شئٍ قدير .

3 ـ هجروه تعلماً وتعليماً

منذ ابتداء الوحي ونزول الآيات الاولى من سورة العلق {اقرأ باسم ربك الذي خلق }أقبل الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام،رجالاً ونساءً،شيبةً وشباناً واطفالاً،على قراءة القرآن الكريم وتعلمه وتعليمه للآخرين،وكانوا يترقبون نزول آياته وسوره الكريمة ترقب الأرض العطشى لنزول قطرات المطر،ما إن تلامسها حتى اهتزت وربت،وكذلك كانت آيات القرآن الكريم تفعل فعلها في النفوس: تُحيى القلوب وتنير العقول، وتُزّكي النفوس..

وكان الرسول محمد صلى الله عليه وسلم حريصاً على حفظ القرآن وتعلمه،وانظر إلى  الخطاب الرّباني الجميل الرائع الذي يبين حرص الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم {لا تُحَرِّك بهِ لسانكَ لِتَعجلَ به *إنَّ علينا جَمعَهُ وقرآنَهُ* فإذا قرأناهُ فاتّبع قُرآنه}[القيامة 16ـ 18]. وانظر إلى حال الرسول  صلى الله عليه وسلم والمعاناة النفسية الشديدة التي عاشها فترة تأخر الوحي وانقطاعه عنه، توضح ذلك الآيات الكريمة في سورة الضحى {والضحى *والليل إذا سجى* ما ودعك ربك وما قلى} وكذلك كان حال الصحابة رضوان الله عليهم،أقبلوا على تعلّم القرآن وحفظه وتعليمه لأهلهم وأطفالهم،كانوا يتدارسونه مع النبي صلى الله عليه وسلم وفيما بينهم،حتى ظهر خلال سنوات قليلة عشرات الحفّاظ منهم الذين حفظوه في صدورهم،واتسمت به أخلاقهم وظهرت آثاره على معاملاتهم،ويكفي أن نذكر أنه قد استشهد منهم مالا يقل عن السبعين من الحفاظ في حروب الرّدة،مما دعا الخليفة أبو بكر الصديق والخلفاء الراشدين من بعده إلى جمع القرآن ونسخه خوفاً عليه من الضياع بعد استشهاد الكثير من الحفّاظ . وأمهات المؤمنين رضوان الله عليهن كانوا ينهلون من مَعين القرآن ويتدارسونه مع الرسول صلى الله عليه وسلم،ثم يُعلّمونه لنساء المؤمنين من المهاجرين والأنصار،اللاتي كنّ حريصات على تعلّمه وتعليمه لأطفالهن،حرصهنّ على الإسلام نفسه

وحتى الأطفال واليافعين أقبلوا عليه حفظاً ودراية ومن أبرزهم علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس والذي سُميّ حَبر الأمة وترجمان القرآن، وأسامة بن زيد رضوان الله عليهم .

لقد تعهد الله عزّ وجلّ بحفظ القرآن الكريم حتى يرث الله الأرض ومن عليها قال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}[الحجر9].

ومن وسائل وآلات هذا الحفظ أن قدّر الله في كل زمان ومكان من يحفظ القرآن ويَعيه ويعلمه لمن حوله. يقول تعالى في سورة القيامة: {إنّ علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه}[القيامة 17] .

يقول الأستاذ محمد عبد الله دراز رحمه الله في كتابه “النبأ العظيم” :

“والقرآن هنا “فاتبع قرآنه” هو المصدر على وزن فُعلان كالغُفران،تقول قرأته قرءاً وقراءةً وقرآناً بمعنى واحد،أي تلوته تلاوة، ويتابع رحمه الله “روعي في تسميته قرآناً كونه متلواً بالألسن،كما روعي في تسميته كتاباً كونه مدوناً بالأقلام،فكلتا التسميتين من تسمية شيء بالمعنى الواقع عليه، وفي تسميته بهذين الإسمين إشارة إلى أن من حقه العناية بحفظه في موضعين لا في موضع واحد،أعني أنه يجب حفظه في الصدور والسطور جميعاً {أن تضل إحداهما  فتذكر إحداهما الأخرى}[ سورة البقرة282]

ويتابع رحمه الله :”وبهذه العناية المزدوجة التي بعثها الله في نفوس الأمة المحمدية اقتداءً بنبيها بقي القرآن محفوظاً في حِرز حريز إنجازاً لوعد الله الذي تكفّل بحفظ القرآن الكريم ولم يصبه ما أصاب الكتب الماضية من التحريف والتبديل وانقطاع السند حيث لم يتكفل الله بحفظها،بل وكلها إلى حفظ الناس قال تعالى: {والرَّبانيّونَ والأحبارُ بما استُحفظُوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء} [المائدة 45] أي طلب إليهم حفظه .

ويتابع رحمه الله:” والسر في هذه التفرقة أن سائر الكتب السماوية جيء بها على التوقيت لا التأبيد،وأن هذا القرآن جئ به مصدّقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه،فكان جامعاً لما فيها من الحقائق الثابتة زائداً عليها بما شاء الله زيادته،وكان ساداً مسدّها، ولم يكن شيء منها ليسد مسدّه،فقضى الله أن يبقى حجّة إلى قيام الساعة ،وإذا قضى الله أمراً يسّر أسبابه وهو الحكيم العليم “. انتهى كلام الشيخ دراز.

ويقول الشيخ محمد محمد المدني رحمه الله(الرسالة العدد 1043 بتاريخ 9 كانون الثاني عام 1964:

“إن عناية الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالقرآن الكريم تبدو في مراحل تاريخية متميزة:

ـ المرحلة الأولى:في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم:

1 ـ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على أن يتلقى نص القرآن كما أنزله الله،ويحفظه دون أن يعتريه أي تحريف أو تبديل.

والقرآن الكريم يدلنا على ذلك حيق يقول الله عز وجل مخاطباً رسوله صلوات الله عليه وسلم:{لا تحرك به لسانك لِتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه}

ففي هذه الآية إشارة إلى ما كان يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم من ملاحقة جبريل ومتابعته بالقرآن حين يتلوه عليه،ومن تحريك لسانه بما يسمع منه،كما يفعل المرء منا إذا سمع سيئاً وكان حريصاً على أن يحفظه،فهو يعجل به ويخشى أن يتفلت منه والله سبحانه وتعالى صور هذه الصورة التي تنبىء عن شدة الرغبة في المحافظة على النص،ثم نهي رسوله عنها نهي المطمئن له،واعداً إياه بأنه هو سبحانه قد تكفل بجمع هذا الوحي الكريم وقرآنه،أي بأن يلقنه الرسول ويحفظه مجموعاً في قلبه لا يضيع منه حرف،وأن يقرأه كذلك محرراً مضبوطاً لا يعتريه أي تبديل أو تحريف.

فالرغبة الشديدة من الرسول صلى الله عليه وسلم متجلية في هذا الصنيع،والوعد الكريم قاطع في تكفل الله بتحقيق هذه الرغبة،والعبارة فيه قوية لأنها تجعل هذا أمراً،ولن يخلف الله عهده.

2 ـ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه شىء من القرآن دعا إليه كتّابه فأمرهم بكتابة مانزل أولاً بأول.

وكان له كتّاب منهم زيد بن ثابت،وعلي بن أبي طالب،وعثمان بن عفان،وعبد الله بن مسعود،وأنس بن مالك،وأبي بن كعب،وغيرهم.

غير أن هؤلاء الكتّاب لم يكونوا دائماً مجتمعين كلهم،ولكن ربما غاب منهم أحد وحضرغيره،فيختار ممن حضر من يكتب له ما أنزله الله عليه،ويقول:”ضعوا هؤلاء”الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا”.فيكتبه أحياناً على عسيب أي على قطعة عريضة من جريد النخل وأحياناً على رقعة من جلد،وأحياناً على لَخفة وهي القطعة المسواة المرققة من الحجارة،وأحياناً على خشبة مما يوضع على ظهر البعير ليركب عليه،وهي المعروفة بالقتب،وهكذا كان القرآن يكتب أولاً بأول بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم وإشرافه على العسب،والرقاع واللخاف،والأقتاب،وتلك هي الأشياء التي كانت يومئذ تستعمل كصفحات يكتب فيها قبل أن ينتشر استعمال الورق.

3 ـ وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إلى جانب هذا كله،يبلغ الناس ما أنزله الله من الكتاب أولاً بأول،شفاهاً يسمعونه منه،ويحفظونه عنه،ومنهم من كان يكتفي بهذا السماع والحفظ الشفوي،ومنهم من كان يحرص هو أيضاً على أن يكتب لنفسه،ويحتفظ بما كتب.

ولذلك كان بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من حفظ عشرات الآيات،ومنهم من حفظ عشرات السور ومئات الآيات،يتفاوتون في ذلك،على قد أحوالهم وحظوظهم من الحفظ،حتى كان منهم من حفظ القرآن كله،ويذكرون من هؤلاء:أبا بكر،وعمر وعثمان،وعلياً ،وطلحة،وأبي بن كعب،وزيد بن ثابت،ومعاذ بن جبل،وغيرهم.

وكان منهم من جمع إلى الحفظ جودة الترتيل،وحسن الأداء،وقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نوه ببعض هؤلاء فقال:”استقرئوا القرآن من أربعة:من  ابن مسعود،وسالم ،مولى أبي حذيفة،وأبي بن كعب،ومعاذ بن جبل”[أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما].

وقال:”من سرّه أن يقرأ القرآن غضّاً كما أُنزل،فليقرأهُ على قراءة ابن أم عبد”(يريد عبد الله بن مسعود).[مسند الإمام أحمد عن أبي بكر الصديق وعمران بن الحصين رضي الله عنهما وإسناده صحيح]

ولذلك أيضاً لم تكن الصحف التي يكتبها كتّاب وحي النبي صلى الله عليه وسلم،هي الصحف الوحيدة التي جمع فيها القرآن،ولكن كان هناك غيرها مما كتبه الأصحاب رضي الله عنهم لأنفسهم .ومن الواضح أن صحف الرسول صلى الله عليه وسلم التي كتبت بأمره،وبإشرافه،كانت هي الصحف التي عليها المعول،وإليها المرجع حين جاء الدور الأخير لكتابة المصحف،كما سنبين.

4 ـ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث من الحّفاظ من يعلم المسلمين القرآن في خارج مكة أو المدينة،فقد بعث مصعب بن عمير،وعبد الله بن أم مكتوم إلى المدينة قبل الهجرة ليعلما الناس القرآن،ولما فتح مكة وخرج منها إلى حنين أبقى فيها معاذ بن جبل ليعلم أهلها القرآن وشرائعه.

5 ـ كان جبريل عليه السلام يجتمع برسول الله صلى الله عليه وسلم ويدارسه القرآن.وقد صح في ذلك أنهما كانا يجتمعان لهذا الغرض في رمضان من كل عام،فيتدارسان القرآن مرة في كل سنة،وأنهما تدارساه مرتين في آخر سنة من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم.

6 ـ كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى الناس عن كتابة شىء عنه سوى القرآن،وذلك كيلا يختلط القرآن بغيره،وكان يقول:”من كتب عني غير القرآن فليمحه”[صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه]

نعم قد ورد في بعض الروايات أنه أجاز ذلك،بل إنه أمر بكتابة كلام تكلم به صلى الله عليه وسلم لرجل اسمه أبو شاه حين رغب إليه في ذلك،فقال صلى الله عليه وسلم :”اكتبوا لأبي شاه”،ولكن هذا لا ينافي ان الاتجاه والميل في غالب الأحوال أنما كان إلى عدم كتابة ما سوى القرآن،بدليل أن السنة حين دونت إنما دونت من أفواه الرواة والحفاظ في أكثر الأحوال،لا من صحف كانت قد كتبت من قبل.

ـ المرحلة الثانية:الجمع البكري العمري:

1 ـ ظهر مما سبق أن القرآن الكريم كان مكتوباً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في العسب واللخاف والرقاع والقتب،وأن هناك أصحاباً كتبوا لأنفسهم على تفاوت فيما بينهم كثرة وقلة،وأصحاباً آخرين حفظوا على تفاوت أيضاً،تلقياً بالمشافهة عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

2 ـ وقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم والحال على ماوصفنا،القرآن مكتوب محفوظ،والناس يقرؤونه ويُقرئونه،لا يكادون يختلفون بعد أن توحدوا على حرف واحد من الأحرف السبعة التي كانت مباحة من قبل،تيسيراً على الناس.

ولكن كبار القراء والحفاظ لهم أعمارهم المحدودة ولا بد أن تأتيهم آجالهم قريباً أو بعيداً،فيفقد بفقدهم مصدر هام،أو مرجع هام من مراجع تحقيق النص القرآني،ولا سيما وهم يشتركون في الحروب والغزوات لنصرة الإسلام، ورد الخارجين عليه إلى الطاعة،فلم يكن من الحكمة أن يُترك هذا الاحتمال قائماً مهدداً بضياع القرآن أو بعض القرآن.

حاشا لله وهو الذي وعد بحفظه.

لذلك وقر في نفس أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنه لابد من قرار حاسم سريع في هذا الشأن،فقرروا بعد التشاور كتابة القرآن الكريم وجمعه في مصحف واحد بين دفتين،حتى يكون معروفاً لجميع الناس أن هذا هو كتاب الله تعالى.

يدل على ذلك مارواه البخاري وغيره:أن زيد ابن ثابت قال:”أرسل إلي أبو بكر،فإذا عمر بن الخطاب عنده،فقال أبو بكر:إن عمر بن الخطاب أتاني،فقال:إن القتل قد استحرّ بقراء القرآن،وإني أخشى أن يستحرّ القتل بالقراء في المواطن ـ أي الغزوات ـ فيذهب كثير من القرآن.وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن،فقلت لعمر:كيف نفعل شيئاً لم يفعله رسول الله ؟قال عمر:هذا والله خير،فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك،ورأيت في ذلك الذي رأى عمر.قال زيد:قال أبو بكر:إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك،وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم،فتتبع القرآن فاجمعه،فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان علي أثقل مما أمرني به من جمع القرآن.قلت:كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟قال هو والله خير،فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما،فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال ـ أي أنه كان يجمع في سبيل التحقيق والوصول إلى النص القرآني بدقة تامة،بين قراءة ما هو مكتوب في العسب واللخاف،وبين استقراء الرجال ما يحفظونه،فلا يكتفي بواحد منهما حتى يؤازره بالطريق الآخر زيادة في الحيطة ووصولاً إلى اليقين.قال زيد:ووجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع غيره:”لقد جاءكم رسول من أنفسكم”حتى خاتمة براءة،فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله،ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنها.

ويؤخذ من هذا النص الصحيح المعتمد ما يأتي:

1 ـ أن هذا الجمع كان بمشورة عمر،على رأي واجتهاد له،وأن أبا بكر وافقه بعد المراجعة،وعهد بجمع القرآن إلى زيد بن ثابت.

2 ـ أن الفرق بينه وبين ما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم،أن المكتوب في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كان مفرقاً بين العسب واللخاف وغيرهما،وليس صحفاً مجموعة بين دفتين،أما الجمع البكري العمري فكان خطوة أخرى،حيث جمع القرآن من هذه الأشياء ومن صدور الرجال الحافظين،وكتب في صحف متلائمة يمكن ضمها بين دفتين.

3 ـ أن الغاية من هذا الجمع كانت المبادرة بعمل حاسم يُحفظ به القرآن من الضياع بعد أن أخذت الحوادث تنبه إلى الخطر بموت فريق من كبار القراء في بعض المعارك،وتوقع أن يموت آخرون في معارك أخرى.

ـ المرحلة الثالثة:مصاحف عثمان بن عفان رضي الله عنه:

1 ـ إن كتابة القرآن في المصاحف على عهد عثمان كان هدفها جمع الناس على مصحف إمام حتى لا يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى الذين تعددت لديهم نسخ الإنجيل والتوراة.

2 ـ إن اعتماد عثمان ولجنته التي وكل إليها هذا العمل كان على صحف الجمع البكري العمري التي كانت محفوظة عند حفصة بنت عمر زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

3 ـ أن عثمان رضي الله عنه أمر بما سوى ذلك من المصحف والمصاحف أن يحرق،وهو عمل حسن وافقه عليه جمهور الصحابة.

ويقول الاستاذ محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله في قوله تعالى من سورة القمر{ولقد يَسّرنا القرآنَ للذكرِ فهل من مُدَّكر}[القمر 22]:

“بين تعالى بأن القرآن من عند الله وأن الله يسّره وسهله لتذكر الخلق بما يحتاجونه من التذكير مما هو هدى وإرشاد.وهذا التيسير ينبئ بعناية الله به مثل قوله{إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} تبصرة للمسلمين ليزدادوا إقبالاً على مدارسته وتعريضاً بالمشركين عسى أن يَرعَوُوا عن صدودهم عنه كما أنبأ عنه قوله{فهل من مدكر}.

والتيسير: إيجاد اليسر في شئ، من فعل كقوله{يريد الله بكم اليسر}[البقرة 185]أو قولٍ كقوله تعالى{فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون}[الدخان 58].

واليسر: السهولة،وعدم الكلفة في تحصيل المطلوب من شئ.وإذا كان القرآن كلاماً فمعنى تيسيره يرجع إلى تيسير مايُراد من الكلام وهو فهم السامع المعاني التي عناها المتكلم بدون كلفة على السامع ولا إغلاق كما يقولون:يدخل للاذن بلا إذن.وهذا اليسر يحصل من جانب الألفاظ وجانب المعاني،فأما من جانب الألفاظ فذلك بكونها في أعلى درجات فصاحة الكلمات وفصاحة التراكيب،أي فصاحة الكلام ،وانتظام مجموعها،بحيث يخف حفظها على الألسنة.

وأما من جانب المعاني فبوضوح انتزاعها من التراكيب ووفرة ماتحتوي عليه التراكيب منها من مغازي الغرض المسوقة هي له.ويتولد معان من معان أُخر كلّما كرّر المتدبر تدبره في فهمها.

ويتأتى ذلك بتأليف نظم القرآن بلغة هي أفصح لغات البشر وأسمحُ الفاظاً وتراكيب بوفرة المعاني،ويكون تراكيبه اقصى ماتسمح به تلك اللغة،فهو خيار من خيار. قال تعالى:{بلسان عربي مبين}[الشعراء 195].

ثم يكون المتلقين له أمة هي أذكى الأمم عقولاً وأسرعها افهاماً وأشدها وعياً لما تسمعه،وأطولها تذكراً له.دون نسيان،وهي على تفاوتهم في هذه الخلال تفاوتاً اقتضته سنة الكون لا يناكد حالهم في هذا التفاوت ما أراده الله من تيسيره للذكر،لأن الذكر جنس من الأجناس المقول عليها بالتشكيك إلا أنه إذا اجتمع أصحاب الأفهام على مدارسته وتدبره بدت لجموعهم معان لا يحصيها الواحد منهم وحده.

وقد فرض الله على علماء القرآن تبينه تصريحاً كقوله{لتبين للناس مانزّل إليهم}[النحل 44]، وتعريضاً كقوله{وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننّه للناس}[آل عمران 187]فإن هذه الأمة أجدر بهذا الميثاق.

وفي الحديث”ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده“.[رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه]

والذكر:مصدر ذكر الذي هو التذكر العقلي لا اللساني،والذي يرادفه الذُكر بضم الذال اسماً للمصدر،فالذكر هو تذكر مافي تذكره نفع ودفع ضر، وهو الاتعاظ والاعتبار.

فصار معنى{يسرنا القرآن للذكر} أن القرآن سُهلت دلالته لأجل انتفاع الذكر بذلك التيسير،فجهلت سرعة ترتب التذكر على سماع القرآن بمنزلة منفعة للذكر لأنه يشيع ويروج كما ينتفع طالب شئ إذا يُسرت له وسائل تحصيله،وقربت له أباعدها”.انتهى كلام الشيخ ابن عاشور.

يقول الشيخ العلامة علي الطنطاوي رحمه اله(نور وهداية ـ مقال موسم العبادة):

“أفلا تحبون أن تنزل السكينة على قلوبكم وأن تستشعروا الطمأنينة وأن تتخلصوا من الهمّ والقلق والاضطراب؟إذن فاتلوا القرآن وتدارسوه.

أولا تحبّون أن تغشاكم الرحمة من الله؟ومن غشيته رحمة الله فقد نال كل خير ونأى عنه كل ضرر وكل ألم.إذن فاتلوا القرآن وتدارسوه.

أولا تحبّون أن يكون جلساؤكم الملائكة،هل أشرفُ من هؤلاء الجلساء؟وأن يطرد من حولكم الشياطين:شياطين الإنس وشياطين الجن؟إذن فاتلوا القرآن وتدارسوه.

أو لا ترون الناس يحرصون على الشهرة وعلى ذيوع الإسم؟إن غاية ما يتمنونه أن يعرفهم أهل الأرض.وما هذه الأرض بالنسبة إلى هذا الكون الواسع؟والذين يتلون القرآن ويتدارسونه يعرفهم أهل الملأ الأعلى وتصل أخبارهم إلى من في السماوات ويذكرهم الله فيمن عنده.أفلا تريدون أن تنالوا هذا الشرف الذي لا شرف بعده؟إذن فاتلوا القرآن وتدارسوه”.

والإسلام العظيم والعلم ـ اقصد العلم الشرعي والعلوم الدنيوية النافعة للمجتمع والإنسانية ـ صنوان لا يفترقان،إذا ذُكرَ احدهما ذَكَرَّ بالآخر،ولقد حضّ الإسلام على الإقبال على العلم والنهل من ينابيعه والارتواء من معَينه،وجعل طلب العلم والتماسه موصلاً إلى طريق الجنة.عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة”[ رواه مسلم].

وإنّ تعلم القرآن الكريم وتعليمه من أجَلّ العلوم وأفضلها وأكثرها عند الله أجراً وثواباً .عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه”[ رواه البخاري]. وجعل مُدارسة القرآن الكريم وتعلّمه ومجالسه من أعظم مجالس البرّ والذكر وخصّها بأفضل الأجر وعظيم الثواب،قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “وما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفّتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يُسرع به نسبه” [أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه] .

فانظر إلى هذا الأجر العظيم الذي جمعه الله لأهل مجالس الذكر ومُدارسة القرآن: تتَنزل عليهم السكينة، وتغشاهم الرحمة،وتحفّ بهم الملائكة،ويذكرهم الله .وجاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يقول الله انا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني، فإذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم”.

وسئل الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أي العمل أفضل؟ قال: ذكر الله،وما جلس قوم في بيت من بيوت الله يتعاطون فيه كتاب الله فيما بينهم ويتدارسونه إلا أظلّتهم الملائكة بأجنحتها وكانوا أضياف الله ما داموا على ذلك حتى يخوضوا في حديث غيره .

وروى يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “كانوا إذا صلوا الغداة قعدوا حلقاً حلقاً يقرؤون القرآن ويتعلمون الفرائض والسنة ويذكرون الله تعالى “. وقال عمر الفاروق رضي الله عنه:” ايها الناس تعلّموا كتاب الله تُعرفوا به،واعملوا به تكونوا من أهله”.

ولقد عمل السلف الصالح رضوان الله عليهم بأقوال رسولهم العظيم وأئمتهم وأقبلوا على  الاهتمام بالقرآن الكريم قراءة وحفظاً وتلاوة وتجويداً وترتيلاً، وأقبلوا عليه علماً وتعليماً وعملاً وتدبراً. فظهر منهم على مرِّ الدهور وكرِّ العصور أعظم الأئمة وأجَلّ العلماء،ظهر منهم الحفّاظ: كابن حجر العسقلاني صاحب فتح الباري،والإمام الذهبي، والحافظ المفسر ابن كثير،والحافظ العراقي … وظهر منهم المفسرون :مثل الإمام الطبري وابن كثير وابن الجوزي والحافظ الرازي… وظهر منهم من اهتم بعلم أسباب النزول وآيات الأحكام،ودلائل الإعجاز ،وغير ذلك من علوم القرآن جزاهم الله عن المسلمين كل خير،ولا زال والحمد لله وحتى عصرنا الحاضر من سار على طريقهم،واهتدي بهديهم، رغبة في ثواب الله عزّ وجلّ،وطمعاً في جنته وشفاعته يوم العرض عليه. عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران تُحاجّان عن صاحبهما” [رواه مسلم ].

يقول الإمام العظيم ابن رجب الحنبلي رحمه الله في كتابه”جامع العلوم والحكم” في تفسير الحديث الشريف “من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله له به طريقاً إلى الجنة” يقول :

“وسلوك الطريق لالتماس العلم يدخل فيه سلوك الطريق الحقيقي وهو المشي بالأقدام إلى مجالس العلماء،ويدخل فيه سلوك الطرق المعنوية المؤدية إلى حصول العلم مثل حفظه ومدارسته ومذاكرته وكتابته والتفهم له ونحوذلك من الطرق المعنوية التي يتوصل بها إلى العلم”.

ولقد ظهر على مرِّ العصور وفي سالف الدهور الكثير الكثير من العلماء الأتقياء الأجلّاء الذين وهبوا أنفسهم وحياتهم وأوقاتهم لخدمة هذا القرآن العظيم ، ولعلّ من أجمل الصور التي ما أزال أحتفظ بها في ذاكرتي ذلك الوصف الرائع للشيخ العلاّمة علي الطنطاوي رحمه الله للعالم والشيخ الذي تتلمذ عليه والذي يذكّرني بعدد غير قليل من علماء الشام ومصر الذين كان لهم الفضل الكبير في تعليم القرآن للعديد من الأجيال، يقول الشيخ الطنطاوي في كتابه “في سبيل الإصلاح” وتحت عنوان “إنّ هذا العلم دين” يقول رحمه  الله:

“فلما توفي والدي لزمت عالماً أزهرياً متفنناً ، فكنت أنصرف من المدرسة فأراجع دروسها على عجل ثم أتعشى  ـ وكان العشاء في تلك الأيام بعد العصر ـ وأصلي المغرب وأمضي إليه في مسجده، فاقعد مع الطلبة ننتظره حتى يفرغ من صلاته ، فإذا قضى الشيخ صلاته أقبل علينا فسّلم فرددنا عليه السلام، لا نقوم له لأنه أدّبنا بآداب الإسلام، وليس منه هذا القيام، ولكن تثبت لمقدمه قلوبنا، وتخشع لمحضره جوارحنا، وتنبض بحبّهِ وإجلاله كلّ ذرة فينا، فيقعد ونحن حوله، فَيُسّمي الله ويحمده، ويشرع في درس النحو، فيقرأ المعيد ويشرح هو، ويُقيم أحدنا إلى لوح أسود كالذي يكون في المدرسة، فيملي عليه الشاهد ليوضح عليه القاعدة الجديدة، ويذكرنا بالقواعد القديمة، وكان أحبّ شيء إليه أن نستعيده ونستوضحه ونناقشه، فيعيد ويوضّح ويجيب، باسم الثغر، طلق المحيّا، مشرق الشيبة محبوباً مهيباً ، فيملك بخلقه قلوبنا، وبعلمه عقولنا، ثم يختم الدرس بحمد الله كما بدأه بحمد الله، ويؤذن المؤذن فنقوم إلى الصلاة فنرى السكينة قد حَفّت المجلس، والرحمة قد نزلت به، ونحسّ بالملائكة قد حضرته، ويؤمنّا الشيخ فيقرأ قراءة أخال من روعتها كأنّ القرآن قد هبط به الوحي آنفاً، فإذا قُضيت الصلاة قعدنا نذكر الله بقلوب حاضرة، وألسنة رطبة، وجوارح خاشعة، ثم ينظر الشيخ فيقول: إنّ فلاناً لم يحضر وقد بلغني أنه مريض، فَعودوه وساعدوه، فنسرع إليه نَعوده ونؤنسه ونأتيه بالطبيب والدواء، وإنّ فلاناً في ضيق فأعينوه فنسدّ خلته ونفرّج ضيقته، ورُبّما استبقى الواحد منا فانفرد به ووعظه أو نبّه على زيّ ـ لا يليق بطالب العلم ـ اتخذه، أو محل ـ لا يحسن به ـ حلّه، أو صاحبٍ ـ لا يدلّه على الله ـ  صاحبه، فيبلغ تأنيبه مالا يبلغه السيف، وندع ما كرهه ولا نعود إليه، ثم ننصرف جميعاً  إلى بيوتنا. أما الدنيا فلم يكن يسأل عنها أقبلت أو أدبرت، ولم يكن يفكّر فيها ضاقت أو اتسعت، فإن حضره الطعام حلالاً أكل، وإن دعاه محبّ أو فقير أجاب، وإن أُهدي إليه قبل فإن كانت الدعوة أو الهدية من فاسق أو متكبر أبى ” انتهى كلام الطنطاوي رحمه الله .

ويقول الأستاذ محب الدين الخطيب في مقال له بعنوان”مع تلاميذ المدرسة الإسلامية الأولى نشره في مجلة الفتح:

“وأنا أفهم من ذلك أن الصحابي الذي ظهرت منه العجائب عندما قذف به الإسلام إلى أقطار المشرق والمغرب،كان يتلقى من القرآن عشر آيات بعد عشر آيات،فكان لا ينتقل من العشر إلى العشر إلا بعد حفظ هذه الآيات القليلة بإتقان،ثم يتدبر ما فيهن من آداب وأحكام وتوجيهات وأهداف.ثم يمرّن نفسه وجوارحه على “العمل” بذلك،حتى يصبح خُلقاً له وعادة وسجية. فإذا قرأ في سورة “العصر” آية “التواصي بالحق”وطّن نفسه على أن يكون من أهل الحق،سواء كان الحق في جانب المصلحة والمنفعة له ولمن يحبهم أم على خلاف ذلك.وأخذ يوصي بذلك ذويه وأحبابه والذين يستنصحونه،ويتقبل الوصية به منهم ومن غيرهم بالبشاشة والابتهاج والسرور،ويمضي في مسالك الأرض مقيماً للحق ناصراً له داعياً إليه بقلبه ولسانه وعمله.وكان لهذا الضرب من العلم الذي يعملون به قيمة عالية عندهم،ويرون أنه هو العلم النافع المطلوب،ويدعون بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم:”اللهم إني أعوذ بك من علمٍ لا ينفع”فكل معرفة لها أثر نافع في تهذيب النفس،وفي الحياة الصالحة،وفي تقوى الله،والبعد عن الشر وأهله،والدعوة إلى تعميم الخير زمناصرة أوليائه،وفي إقامة الحق وبسط سلطانه في الأرض،يقبلون عليها ويمرنون أنفسهم وجوارحهم على العمل بها.ولا يشغلون مداركهم وعقولهم بلغو القول،ولا بالفلسفة التي لا طائل تحتها فيما وراء الطبيعة،وما استأثر الله بعلمه من غيبه،مكتفين من ذلك بما ورد به النص لا يزيدون عليه ولا ينقصون منه.ويتعلمون العبادات بالقدوة،ويزينوها بالخشوع،ويجودون بالمال والنفس والولد في سبيل الحق والخير:يقيمونها في الأرض بالاعتدال والرفق إذا تواصلوا إليهما بهما،ويقمعون الباطل والشر بالقوة والقسوة إذا لم يقمعا إلا بهما”.

نعم، إننا بحاجة إلى أمثال هؤلاء العلماء ، فبهداهم نقتدي، وأخشى ما نخشاه علماء تعلّموا القرآن وعلّموه ولكن لم يعلّموه إخلاصاً لله وابتغاء مرضاته، ولكنه النفاق والرياء، جاء في  الحديث الشريف: “ورجل تعلّم العلم وعلّمه، وقرأ القرآن، فأتي به  فعرّفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها ؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن،قال كذبت ولكنك تعلّمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال :هو قارئ فقد قيل، ثم أُمر به فسُحب على وجهه حتى ألقي في النار”.[صحيح الجامع عن أبي هريرة رضي الله عنه].

وهناك من تعلّم القرآن وعرف ما فيه ولكنه لم يعمل به، ولم يتخلّق بأخلاقه، وقد جاء في الحديث الشريف الذي أخرجه الشيخان والنَسائي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وصفاً لثلاثة من العلماء ذكرهم الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أُعطي جوامع الكلم يحدثنا عنهم “مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكانت منها بقعة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها بقعة أمسكت الماء فنفع الله به الناس فشربوا وأسقوا وزرعوا، وكانت منها طائفة لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعمل وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك راساً لم يقبل هدي الله الذي أرسلت به”.

نقل الحافظ ابن حجر في كتابه “فتح الباري” عن القرطبي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب لما جاء من الدين مثلاً بالغيث العام الذي يأتي إلى الناس في حال حاجتهم إليه وكذا كان حال الناس قبل مبعثه، فكما أن الغيث يُحيى البلد الميت فكذا علوم الدين تُحيى القلب الميت، ثمّ شَبّه السامعين له بالأرض المختلفة التي ينزل بها الغيث، فمنهم العالم العامل المعلم فهو بمنزلة الأرض الطيبة شربت فانتفعت في نفسها وأنبتت فنفعت غيرها، ومنهم الجامع للعلم المستغرق لزمانه فيه غير أنه لم يعمل بنوافله ولم يتفقّه فيما جمع لكنه أدّاه لغيره، فهو بمنزلة الأرض التي يستقّر  فيها الماء فينتفع الناس به وهو المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم” “نّضرّ الله امرأً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها فَرُبّ حامل فقه إلى من هو  أفقه منه “[صحيح الترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وصححه الألباني]   ومنهم من يسمع العلم فلا يحفظه ولا يعمل به ولا ينقله لغيره، فهو بمنزلة الأرض السبخة أو الملساء التي لا تقبل الماء”.

وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه “إنّ أقواماً يقرؤون القرآن لا يجاور تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع”. وقال الإمام الحسن البصري أحد سادة التابعين “العلم علمان: علم في اللسان فذاك حجّة الله على ابن آدم كما جاء في الحديث الشريف” القرآن  حجة لك أو عليك” [رواه مسلم]، وعلم في القلب فذاك العلم النافع”.

إنّ ما نراه اليوم من قلّة الاهتمام على المستوى الرسمي والشعبي بتعليم القرآن الكريم مدعاة للحزن ومجلبة للأسف الشديد، لقد أصبحنا نعيش في زمان قد ألغيت فيه وفي كثير من الدول الإسلامية المدارس الشرعية، ومدارس تحفيظ القرآن، وحُدّدت ساعات التربية الدينية، وألغيت الكتاتيب التي كانت تهتم بتعليم وتحفيظ القرآن الكريم للأطفال في السنوات الأولى من حياتهم  ـ حيث تكون قابلية الطفل على الحفظ والاستيعاب ممتازةـ، وسقى الله زماناً كان المعلم يقول فيه للتلميذ: عليك أن تحفظ النص أو المقطوعة أو النشيد كما تحفظ الفاتحة، فأصبحنا اليوم نعيش في زمان قلّ فيه من يحفظ الفاتحة !!

وأصبحنا نعيش في زمان صارت فيه المساجد كالمؤسسات الحكومية تفتح بأوقات، وتُغلق بُعيد أداء الصلوات ففقدت دورها الرئيسي والعظيم كدور للعبادة والتعليم والإشراف على شؤون الحياة.

وسقى الله زماناً كان الأهل حريصين أشدّ الحرص على تعليم أطفالهم القرآن، وكانوا يرسلونهم في أوقات الصيف للمدارس الخاصة أو الكتاتيب، وكانوا يقيمون لهم الاحتفالات عندما يحفظون القرآن أو بعض أجزائه.

وسقى الله زماناً كان العلماء يتسابقون فيه على تعليم الأطفال والناشئين كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ابتغاء مرضاة الله، وطمعاً في ثوابه، فأصبحنا نعيش اليوم في زمان قد انتزع العلم منه بانتزاع أهله العلماء ـ إلا من رحم ربي ـ فساد الجُهال وأفتى المُضّلون فَضّلوا وأضَّلوا  !!

وقديماً ـ وليس بالقديم البعيد ـ كان الناس عندما يقرؤون هذا الكلام في فيض الخاطر لأحمد أمين “كانوا في الكتاتيب فما يشعر الطفل إلا والعصا الطويلة نزلت عليه وصحبها من  الشيخ “اهتز يا ولد” فقد كان عليهم أن يهتزوا عند قراءة القرآن، وقد كان لهذه العصي، ما طال منها وما قصر، أثر في النفوس” ، كانوا عندما يقرؤون هذا الكلام يضحكون فيما بين أنفسهم، ونحن في هذا الزمان والله أحقّ بأن نبكي على أنفسنا وحالنا !!

4 ـ هجروه أخلاقاً وسلوكاً

عندما سُئلت أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها عن خُلُقِ رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: ” كان خلقُهُ القرآن”.[أخرجه أحمد واللفظ له وصححه الأرناؤوط].

نعم،لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين يقرؤون القرآن،ويعملون بما أُنزل فيه،يُحلّون حلاله،ويُحرّمون حرامه،ويتهّذبون بأخلاقه،يرغبون فيما يُرّغبهم،ويرهبون مما يُرّهبهم،وهذا هو التفسير العملي والتطبيقي لقوله عزّ وجلّ {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حقّ تلاوته أولئك يؤمنون به} ا[لبقرة 121]

يقول الدكتور عبد الوهاب عزام رحمه الله(مجلة الرسالة العدد375 مقال تحت عنوان :أخلاق القرآن):

“فأخلاق القرآن هي التي تجلّت في محمد خاتم النبيين وأصحابه ومن تبعهم وسارعلى نهجهم من بعد.وإنما يظهر صلاح القانون حين إنفاذه،ويتبين سداد الرأي حين يختبره العمل،ويُعرف رشاد الطريقة حينما تهدي السائرين عليها إلى الغاية المثلى.فإذا أردنا أن نقدر أخلاق القرآن فإنما نتبينها في سيرة من عملوا بالقرآن.

كل ما يزدان به تاريخ الإسلام من سير الملوك والولاة والقواد والقضاة والعلماء والصالحين وغيرهم،فهو أخلاق القرآن تتجلى في صور مختلفة.فإن رأيت ملكاً من المسلمين ملك الدنيا ولم تملكه،وسيطر على الأرض ولم تسيطر عليه،فساس عباد الله بعدل الله،وأتعب نفسه لراحة رعيته،وراقب فيهم ربّه ليله ونهاره،فهذا من أخلاق القرآن.وإن رأيت والياً دخلت الدنيا يده ولم تدخل قلبه وكفّ يده عن المحارم ولم يأل جهداً في العمل لخير الناس،فهذا من خلق القرآن كذلك.وإن رأيت قائداً يحتقر المهالك،ويقذف بنفسه في المعارك،يفتح البلاد ولا يُعنت العباد،قد ملكت القناعة قلبه ويده،وكفّه العدل عن العدوان،فهذا من خلق القرآن في أحد مظاهره.وإن رأيت قاضياً كدّ عقله في معرفة الحق والتثبيت،وآثر العدل وجانب الجور وأخلص لله فكره وحكمه،وأقضّ مضجعه عظم التبعة،فذلك من قضاة القرآن.وإن رأيت عالماً توجّه لاإلى الله بفكره،وأدام النظر في ملكوت السماوات والأرض،ودأب في البحث ابتغاء الحق لا يميل مع الهوى ولا يرجو إلا وجه الله فهو من علماء القرآن.

عدل أصحاب السلطان،وجهاد المجاهدين بالحق،وإحسان المحسنين في كل عمل،وطلب الحق والصبر عليه،ودفع الظلم والنفور منه،والاضطلاع بأعباء الحياة،والصبر على المكاره والثبات على الشدائد،كل ذلك من أخلاق القرآن”.انتهى كلام د . عزام.

كان السلف الصالح يقرؤون القرآن،حافظين لآياته،عاملين بما فيها،مُطبقين لأحكامها مُتبعين لأوامرها،مُجتنبين لنواهيها،وكانوا كما قال الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي  الله عنه :”كان يَجلّ في أعيننا من يحفظ الزهراوين” (أي سورتي البقرة وآل عمران)

وقد أقام الصحابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ثمان سنوات في تعلّم سورة البقرة،لما فيها من أحكام وقضايا،ولعظم فقهها .

نعم ،لم يكونوا ينتقلون من حفظ سورة إلى أخرى حتى يتدّبروا مافيها،ويعملوا بأحكامها ويتدارسوا آياتها،وهكذا قرؤوا القرآن وتعلّموا مافيه وعملوا بما فيه،تقول أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها :”كانت تتنزل الآية في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحفظ حلالها وحرامها وأمرها وزجرها قبل أن نحفظها ”

ويعجبني هنا وصف الشيخ محمد عبد الله دراز رحمه الله يصف معنى “خلقه القرآن” في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكرناه في حديث أمّ المؤمنين عائشة  يقول :

“الطُهر ملء ثيابه،والجدّ حشو إهابه،يأبى لسانه أن يخوض فيما لايعلمه،وتأبى عيناه أن تخفيا خلاف ما يعلنه،ويأبى سمعه أن يُصغي إلى غلو المادحين له،تواضعٌ هو حِليّة العظماء،وصراحة نادرة في الزعماء، وتَثّبت قلّما تجده عند العلماء” (النبأ العظيم ص32).

وانظر إلى هذا الوصف الرائع للإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه في وصف حملّة القرآن يقول :”ألا،إنّ لله عباداً مخلصين، كمن رأى أهل الجنة في الجنة فاكهين،وأهل النار في النار معذّبين،شرورهم مأمونة،وقلوبهم محزونة،وأنفسهم عفيفة،وحوائجهم خفيفة ،صبروا أياماً قليلة لعقبى راحة طويلة،أما بالليل فصفّوا أقدامهم في صلاتهم،تجري دموعهم على خدودهم، يجأرون إلى ربهم،ربّنا، ربّنا ! يطلبون فِكاك قلوبهم،وأما بالنهار فعلماء حلماء بررة اتقياء،كأنّهم القداح ـ يريد السهام في ضمرتها ـ حيث ينظر الناظر إليهم فيقول : مرضى، وما بالقوم من مرض،ويقول: خولطوا،ولقد خالط القوم أمر عظيم” (العقد الفريد ج3 ص112).

ويقول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه :” ينبغي لحامل القرآن أن يُعرف بليله إذا الناس نائمون،وبنهاره إذا الناس مفطرون،وبحزنه إذا الناس يفرحون،وببكائه  إذا الناس يضحكون،وبصمته إذا الناس يخوضون،وبخشوعه إذا الناس يختالون”.

نعم،هؤلاء هم حملة القرآن : أتقياء،أنقياء،صُوّام، قُوّام،أمرون بالمعروف،ناهون عن المنكر،ليس لهم لدى السلطان حاجة، قلوبهم متصلّة بالله عزّ وجلّ،وجوارحهم خاشعة له،وألسنتهم لا تفتّرعن ذكره،أذِلّةٍ على المؤمنين،أعزّةٍ على الكافرين،لا يَرهبون جباراً،ولا يخافون طاغيةً،مجاهدين في الله حقّ جهاده،بأنفسهم وأموالهم،لا يخافون في الله لومة لائم.

يقول التابعي الجليل الفضيل بن عياض رحمه الله :” ينبغي لحامل القرآن أن لا تكون له حاجة إلى أحد من الخلفاء فمن دونهم ” وقال أيضاً: “حامل القرآن،حامل راية الإسلام ينبغي أن لا يلهو مع من يلهو،ولا يسهو مع من يسهو،ولا يلغو مع من يلغوا، تعظيماً لحقّ القرآن”.

ويقول التابعي الجليل مالك بن دينار رحمه الله :”ماذا زرع القرآن في قلوبكم يا أهل القرآن؟ إنّ القرآن ربيع القلوب كما أنّ الغيث ربيع الأرض”.

نعم، إنّ القرآن يُحيى القلوب الميتة،ويزّكي النفوس الخامدة،ويُلهب المشاعر المُتبّلدة،إنّه كالغيث ما إن يُلامس الأرض العطشى حتى تُنبتُ زرعاً،وتُزهرُ زهراً،وتتحول من صحراء موحشة قاحلة إلى واحةٍ وارفة الظلال والأفياء .

ويقول الإمام النووي رحمه الله في كتاب ” البيان في آداب حملّة القرآن” يقول :

“ومن آدابه أن يكون على أكمل الأحوال،وأكرم الشمائل،وأن يرفع نفسه عن كل ما نهى القرآن عنه إجلالاً للقرآن،وأن يكون مصوناًعن دنئ الاكتساب،شريف النفسن مرتفعاً على الجبابرة والجفاة من أهل الدنيا،متواضعاً للصالحين،وأهل الخير والمساكين، وأن يكون مُتخّشعاً،ذا سكينة ووقار،فقد جاء عن عمر الفاروق رضي الله عنه: يا معشر القراء : ارفعوا رؤوسكم فقد وضح الطريق، فاستبقوا الخيرات ولا تكونوا عيالاً على الناس”.

وحملّة القرآن هم رهبانٌ بالليل،فرسانٌ بالنهار،إذا دعاهم الداعي لبّوا النداء،واستبشروا عند اللقاء،بلقاء ٍ لايوازيه لقاء،فإن هي إلا احدى الحسنيين،الشهادة أو النصر.

يقول الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله: “جاء في أوصاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم،وهم صفوة الله من خلقه والسلف الصالح من عباده “رهبان بالليل وفرسان بالنهار” ترى احدهم في ليله ماثلاً في محرابه،قابضاً على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين،ويقول : يا دُنّيا غُرّي غيري،فإذا انفلق  الصباح ودوى النفير يدعو المجاهدين رأيته رئبالاً على صهوة جواده،يزأر الزأرة فتدّوي لها جنبات الميدان”(رسائل حسن البنا).

هذه هي صفات حملّة القرآن وقرائه،وهؤلاء هم الذين أكرمهم الله في الدارين،وأعدّ لهم رزقاً حسناً وأجراًعظيماً ومنزلاً مباركاً.

جاء في الحديث الشريف الذي رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم وحامل القرآن غيرالغالي فيه والجافي عنه،وإكرام ذي السلطان المقسط” [رواه أبو داود وقال حديث حسن ]وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد ثم يقول: “أيهما أكثر أخذاً للقرآن؟ فإن أُشير إلى أحدهما قدّمه في اللحد” [رواه البخاري.]

وقال الحسن البصري رحمه الله في هؤلاء القراء :”ورجل قرأ القرآن فبدأ بما يعلم من دواء القرآن، فوضعه على داء قلبه، فسهر ليله،وهملت عيناه، تسربلوا الخشوع ،وارتدوا بالحزن،وركعوا في محاريبهم،وجثوا في برانسهم ،فبهم يسقي الله الغيث، وينزل النصر ويرفع البلاء”.

وهناك وللأسف في كل عصر وزمان، وفي كل عصر ومِصر، طائفة من الناس يُسمون أنفسهم القراء أوحفظة القرآن،لم يبتغوا بعلمه وجه الله، ولم يعملوا بما علّمهم إياه، أرادوا إرضاء السلطان،واستغنوا عن ثواب الرحمن،ماروا به السفهاء،وفاخروا به العلماء، وباهوا أقرانهم من القراء،اتخذوا القرآن سُلّماً ووسيلة، لينالوا غرضاً من أغراض الدنيا الزائلة،فاستحقوا الخزي والعذاب والمذّلة، وأولئك من أعدّ الله لهم أقسى العذاب،وتوعدّهم  بأعظم العقاب .

يقول الإمام علي رضي الله عنه: “يا حملة القرآن اعملوا به،فإنما العالم من علم ثم عمل بما علم،ووافق علمه عمله،وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم،وتخالف سريرتهم علانيتهم،ويخالف عملهم علمهم،يجلسون حلقاً يباهي بعضهم بعضاً،حتى إن الرجل ليغضب من جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه،أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله تعالى”.

وقال الإمام النووي رحمه الله في “البيان في آداب حملة القرآن”:

” ينبغي للقارئ أن لايقصد به توصلاً إلى غرض من أغراض الدنيا من مال أو رياسة أو وجاهة،أو ارتفاع على أقرانه،أو ثناء عند الناس،أو صرف وجوه الناس إليه،أو نحو ذلك،ولا يشوب المقرئ إقراءه بطمع في رفق يحصل له من بعض من يقرأ عليه، سواء كان الرفق مالاً أو خدمة وإن قلّ،ولو كان على صورة الهدية التي لولا قراءته عليه لما اهداها إليه”.

وقال الحسن البصري رحمه الله :

“أنزل القرآن ليعمل به فاتخذ الناس تلاوته عملاً “.وقال أيضاً:”حملّة القرآن ثلاثة نفر: رجل اتخذه بضاعة ينقله من مصر إلى مصر يطلب به ما عند الناس،ورجل حفظ حروفه وضيّع حدوده،واستدّر به الولاة، واستطال به على  أهل بلده،وقد كثر هذا الضرب من حملّة القرآن لا كَثرّهم الله عزّ وجلّ،ورجل قرأ القرآن فوضع دواءه على داء قلبه فسهر ليله وهملت عيناه …”

وهناك فئة من “القراء” قد شغلوا انفسهم بالقراءات الشاذة فشغلتهم عن الفرائض المكتوبة،وتركوا المتواتر المشهور،وأخذوا بالمنسي والمهجور،يتفنّن أحدهم في إبراز الألفاظ،والتصرف بالنغمات،وكأنّه أحد الفنانين أو المطربين،هَمّهُ جلب انتباه الجمهور، وجلب الثناء والإطراء والمديح،هؤلاء لا يزيد إيمانهم بتلاوة القرآن، وهؤلاء أبعد الناس عن فهم القرآن.

يقول الإمام العظيم وصاحب التفسير المشهور ابن الجوزي في كتابه “تلبيس ابليس:

“فمن ذلك أن أحدهم يشتغل بالقراءات الشاذة وتحصيلها،فيفني أكثر عمره في جمعها وتصنيفها والإقراء بها،ويشغله عن معرفة الفرائض والواجبات،فربما رأيت إمام مسجد يتصدّى للإقراء ولا يعرف ما يفسد الصلاة،ورُبّما حمله حبّ التصدّر حتى لا يرى بعين الجهل على أن يجلس بين يدي العلماء ليأخذ عنهم العلم،ولو تفكروا لعلموا أن المراد حفظ القرآن وتقويم ألفاظه ثم فهمه ثم العمل به، ثم الإقبال على ما يصّح النفس ويطّهر أخلاقها ثم التشاغل بالمُهم من علوم الشرع ” ويتابع رحمه الله تعالى:”ومن ذلك أن أحدهم يقرأ في محرابه بالشاذ ويترك المتواتر المشهور،والصحيح عند العلماء أن الصلاة لا تصح بهذا الشاذ،وإنّما مقصود هذا إظهار الغريب لاستجلاب مدح الناس وإقبالهم عليه،وعنده أنه متشاغل بالقرآن”ويتابع رحمه الله :”ومن ذلك أن قوماً من القراء يتسامحون بشيء من الخطايا كالغيبة للنظراء وربما أتوا اكبر من ذلك الذنب واعتقدوا أن حفظ القرآن يرفع عنهم العذاب، وذلك من تلبيس إبليس عليهم لأن عذاب من يعلم أكثر من عذاب من لم يعلم، إذ زيادة العلم تُقّوي الحجة”.

ويقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله في مقدمة الطبعة الثانية لكتابه “في سبيل الإصلاح”:

“وكان معنى كلمة القراء حين نقرؤها في حروب الردّة وذكر من استشهد منهم في معركة اليمامة،كان معناها: الذي يقرأ القرآن متدّبراً واعياً،عاملاً بما قرأ،مُعلّماً إياه من لا يعلم فصار معناها: البصير بالألحان والمقامات،الخبير بالمحطات،والمتصرّف بالنغمات،وصار السامعون يتصايحون من الطرب،كأنّهم يسمعون مغنياً في ملهى،لا يزيد إيمانهم بتلاوة القرآن كما أخبر الله تعالى عن أهل الإيمان”.

وقد أعدّ الله أشدَّ العذاب وعظيم العقاب لأمثال هؤلاء القراء،عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من تعلّم علماً مما يبتغي به وجه الله تعالى لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة” [رواه أبو داود بإسناد صحيح] . وجاء في جزء من حديث لمسلم في صحيحه : “ورجل تعلّم العلم وعلّمه،وقرأ القرآن، فأتي به،فعرفه نعمه فعرفها،فقال: ما عملت فيها ؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت،ولكنك تعلّمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فَسُحب على وجهه حتى ألقي في النار”. وجاء عن أنس وحذيفة وكعب بن مالك رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:”من طلب العلم ليماري به السفهاء،أو يكاثر به العلماء،أو يصرف به وجوه الناس، فليتبوأ مقعده من النار “ [رواه الترمذي من رواية كعب بن مالك ].

نعم، ما أحوجنا إلى رجعة صادقة إلى القرآن العظيم، إلى هذا المنهل والمَعين العظيم نرشف من ينبوعه الصافي ما يفيدنا ويصلح امورنا في دار معاشنا ومعادنا،وما أحوجنا إلى آدابه وأخلاقه: أخلاق الصالحين العابدين المجاهدين العالمين،وما أحوجنا إلى تعاليمه التي رفعنا الله بها عندما التزمنا بها فوق كل الأمم،وكنا في طليعة الركب نقود الدنيا لما فيه سعادتها وسلامتها،ونزلنا بعد أن أنزلناه من نفوسنا إلى الحضيض والدرك الأسفل،وهجرتنا عندما هجرناه العزّة والسيادة والرفعة. وما أحوجنا إلى قراءة وتدبر وفهم هذه  الكلمات النبيلة الرائعة لأحد رواد الدعوة الإسلامية في العصر الحديث الشيخ الداعية المجاهد العالم العامل مصطفى السباعي رحمه الله من كتابه “هكذا علمتني الحياة” يقول:

“أدب القرآن هو أدب الحياة المناضلة بشرف،البناءة بسمو،المكافحة بتفاؤل،المدافعة ببأس،المهاجمة بحقّ،المتعاملة بحبّ، المتعاونة بوفاء،المرحة بوقار،المتنعمة باعتدال،العزيزة بتواضع،القوية برحمة،العاملة بقناعة،المترأسة بشورى،المرؤوسة بيقظة، الحاكمة بحزم،المسالمة بحذر،المتحضرّة بخلق،المتعبدّة بعلم،الماشية على الأرض ونظرها في السماء،السائرة في الدنيا نحو العلاء،وفي الآخرة نحو البقاء،فأي أدب في آداب الأمم يهدف هذه الأهداف؟ وأي جيل في العالم أكرم من جيل يتخلّق بهذا الأدب؟”.

 5 ـ هجروه تدّبراً وفهماً

أنزل الله تعالى القرآن الكريم مُنّجماً على مدار ثلاث وعشرين سنة،وحَثّ المؤمنين وحضّهم على الإنصات إليه وقراءته وترتيله،والعمل بما فيه بعد العلم به،وتدبر آياته وفهمها حقّ الفهم .

قال تعالى: {كتابٌ أنزلناه إليك ليدبّروا آياته}[ص 29]. وقال تعالى: {أفلا يتدبّرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } [النساء 82] .وقال تعالى:{أفلا يتدبرون القرآنَ أم على قلوبٍ اقفالُها}[محمد 24] وقال تعالى:{كتابٌ أنزلناهُ إليكَ مباركٌ ليدبَّروا آياتهِ وليتذكَّرَ أولو الألباب}[ص 29].

والآيات كثيرة والتي تتناول الحكمة من تنزيل القرآن الكريم:

{آلم* ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين}[البقرة 1 ـ 2].{إنا أنزلناهُ قرآناً عربياً لعلكم تعقلون}[يوسف2]

{الر كتابٌ أنزلناهُ إليكَ لتخرجَ الناسَ من الظلماتِ إلى النور بإذنِ ربهم إلى صراطِ العزيزِ الحميد}[إبراهيم 1]،{الحمدُ لله الذي أنزلَ على عبدهِ الكتابَ ولم يجعل له عوجاً*قيّماً لينذرَ بأساً شديداً من لدنهُ ويُبشرَ المؤمنينَ الذين يعملون الصالحاتِ أنَّ لهم أجراً حسناً *ماكثينَ فيه أبداً}[الكهف1 ـ3].

{طه* ما أنزلنا عليك القرآنَ لتشقى* إلا تذكرةً لمن يخشى}[طه1 ـ3]،{تباركَ الذي نزّلَ الفرقانَ على عبده ليكون للعالمينَ نذيرا}[الفرقان1].

{طس  تلكَ آياتُ القرآنِ وكتابٍ مُبين*هُدى وبُشرى للمؤمنين}[النمل1 ـ2]،{الم*تلك آياتُ الكتابِ الحكيم*هدى ورحمةً للمحسنين}[لقمان1 ـ2]

{حم*تنزيلٌ من الرحمن الرحيم*كتابٌ فُصِّلت آياتهُ قرآناً عربياً لقوم يعلمون* بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرُهُم فهم لايسمعون}[فصلت1 ـ 4]

{هذا بصائرُ من ربكم وهدى ورحمةٌ لقوم يؤمنون}[الأعراف203]،{يا أيُّها الناس قد جاءتكم موعظةٌ من ربكم وشفاءٌ لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين}[يونس57]

{وكلاً نقصُّ عليكَ من أنباءِ الرسلِ مانُثبتُ به فؤادكَ وجاءكَ في هذهِ الحقُّ وموعظةٌ وذكرى للمؤمنين}[هود 120]

{قل نزَّلهُ روحُ القُدُسِ من ربكَ بالحقِّ ليُثبتَ الذين أمنوا وهدى وبشرى للمسلمين}[النحل102]

{إنَّ هذا القرآنَ يهدي للتي هي أقومُ ويُبشرُ المؤمنينَ الذين يعملونَ الصالحاتِ أنَّ لهم أجراً كبيراً}[الإسراء9]

وغيرها من الآيات…

ولقد كان من آداب الرسول صلى الله عليه وسلم وآداب صحابته الكرام رضوان الله عليهم أجمعين الإقبال على قراءة القرآن وتدبر آياته والوعي والفهم حقّ الفهم لما يقرؤون،لأن تدبر القرآن والفهم لآياته نعمة كبيرة وغذاء للروح والجسم لا يدركه ولا يعرف كُنهه إلا القارئ الواعي لآيات الله عزّ وجلّ .

لقد كان عمر الفاروق رضي الله عنه يدعو الله أن يُرزقه قراءة القرآن والعمل بما فيه فكان يدعو قائلاً: “اللهم ارزقني التفكر والتدبر لما يتلوه لساني من كتابك،والفهم له والمعرفة بمعانيه،والنظرفي عجائبه والعمل بذلك ما بقيت،إنك على كل شئ قدير” (العقد الفريد ج1 ص 182).

وكان الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: “لا خير في قراءة إلا بتدبر ولا عبادة إلا بتفكر،ولا في حلم إلا بعلم”.

نعم، لقد فهم الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم آيات الله على أنها رسائل تتنزل عليهم،لا يُكتفى فقط بقراءتها،بل لابد من تدبر معانيها والعمل بمضامينها .

جاء في كتاب “التبيان في آداب حملة القرآن ” للإمام النووي رحمه الله  :

“أن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: “إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل ويتفقدونها في النهار”.

ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله عن محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم:

“هي المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون،وإليها شخص العاملون،وإلى علمها شمر السابقون،وعليها تفانى المحبون،وبروح نسيمها تروح العابدون،وهي قوت القلوب،وغذاء الأرواح،وقرّة العيون،وهي الحياة التي من حرمها فهو في جملة الأموات،والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات،والشفاء الذي من عدمه حلّت بقلبه جميع الأسقام،واللذة التي من لم يزفر بها،فعيشه كله هموم وآلام، تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة،إذ لهم من معيّة محبوبهم أوفر نصيب.فإلى من أراد أن يرقى من منزلة المحب لله،إلى منزلة المحبوب من الله،أقدم لك الأسباب :

ـ قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه،نعم فمن أحب أن يكلمه الله تعالى فليقرأ كتاب الله،قال الحسن بن علي:”إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل،ويتفقدونها في النهار.وقال ابن الجوزي رحمه الله:”ينبغي لتالي القرآن العظيم أن ينظر كيف لطف الله تعالى بخلقه في إيصال معاني كلامه إلى أفهامهم وأن يعلم أن ما يقرأه ليس من كلام البش،وأن يستحضر عظمة المتكلم سبحانه،ويتدبر كلامه”.وقال الإمام النووي رحمه الله:”أول ما يجب على القارىء،فينبغي أن يستحضر في نفسه أنه يناجي الله تعالى.ولهذا فإن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم استجلب محبة الله  الإخلاص التي فيها صفة الرحمن جل وعلا فظل يرددها في صلاته،فلما سئل عن ذلك قال: لأنها صفة الرحمن،وأنا أحب أن أقرأها” فقال النبي صلى الله عليه وسلم:”أخبروه أن الله يحبه”.

وينبغي أن نعلم أن المقصود من القراءة هو التدب،وإن لم يحصل التدبر إلا بترديد الآية فليرددها كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

فقد روى أبو ذر الغفاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام ليلة لآية يرددها{إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم}.[المائدة 118]

وقام تميم الداري رضي الله عنه بآية وهي قوله تعالى{أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون}[الجاثية 21]

وجاء في كتاب “روائع إقبال” حديث للمفكر الإسلامي والشاعر العظيم محمد إقبال رحمه الله قال:

” كنت تعوّدت ان أقرأ القرآن بعد صلاة الصبح كل يوم،وكان أبي يراني فيسألني: ماذا تصنع؟ فأجيبه أني أقرأ القرآن. وظل على ذلك ثلاث سنوات متتاليات يسألني سؤاله فأجيبه جوابي،وذات يوم قلت له: ما بالك تسألني نفس السؤال،وأجيبك جواباً واحداً،ثم لا يمنعك ذلك من إعادة السؤال من غد؟ فقال: إنما أردت أن أقول لك يا ولدي اقرأ القرآن كأنّما أنزل عليك … ومنذ ذلك اليوم بدأت أتفهم القرآن وأقبل عليه وكان من أنواره ما قَبَست،ومن دُرره ما نظمت”.

إنّ الحواس وأدوات الإدراك عندما تتفاعل مع المقروءات والمسموعات فإن ذلك ينعكس على الشعور والجوارح،وقارئ القرآن عندما يقرؤه بقهم وتدبر وتفكّر ينعكس هذا على مشاعره وجوارحه: رغبة ورهبة، ورضاً واطمئناناً، وعلماً وعملاً، ويقيناً والتزاماً .

ويقول الأستاذ محمد أديب صالح رحمه الله(مقال :مع داود الطائي رحمه الله):

“وإذا كانت الخشية على قدر المعرفة،فقد كان الواحد من هؤلاء الرجال يرى حين يتلو كتاب الله كأن كل وعيد في آيات القرآن ينصب على رأسه هو ويتهدده وحده،وكأن كل قارعة ينذر بها العصاة إنما تعنيه هو دون غيره من الناس،وإنما كان ذلك من فرط حسّهم رحمهم الله ورقة أفئدتهم،وصفاء تلك الخشية،ومن هنا كان تأثرهم بالقرآن خصوصاً آيات العذاب التي تحمل التهديد والتخويف،تتفطر لها قلوبهم وتهتز لها نفوسهم،فيناجون ربهم باكين خاشعين ويتلون كتابه ضارعين خائفين.ولقد روي عن عمر الجعفي أنه قال:اشتكى داود الطائي أياماً..وكان سبب علته أنه مر بآية فيها ذكر النار،فكررها مراراًفي ليلته فاصبح مريضاً،وبعد أيام دخل عليه أناس من إخوانه وجيرانه فوجدوه قد مات ورأسه على لبنة”.

يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله في “الظلال” :

“إنّ الناس يخسرون الخسارة التي لا يُعوّضها شيء بالإنصراف عن هذا القرآن،وإن الآية الواحدة لتصنع أحياناً في النفس حين تستمع لها وتنصت أعاجيب من الانفعال والتأثر والاستجابة والتكيّف، والرؤية والإدراك،والطمأنينة والراحة،والنقلة البعيدة في المعرفة الواعية المستنيرة،مما لايدركه إلا من ذاقه وعرفه،وإن العكوف على هذا القرآن في وعي وتدبر،لا مجرد التلاوة والترنم، ليُنشئ في القلب والعقل من الرؤية الواضحة البعيدة المدى،ومن المعرفة المطمئنة المتيقنة،ومن الحرارة والحيوية والانطلاق والإيجابية والعزم والتصميم مالا تدانيه رياضة أخرى أو معرفة أو تجريب “،ويقول رحمه الله أيضاً: “وتدّبر القرآن يزيل الغشاوة،ويفتح النوافذ،ويكسب النور،ويحرّك المشاعر،ويستحث القلوب،ويُنشئ حياة للروح تنبض بها وتشرق وتستنير”.

ويقول الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله في “هكذا علّمتني الحياة” (ج1 ص60) يقول:

“ما رأيت شيئاً يُغذّي العقل والروح ويحفظ الجسم ويضمن السعادة أكثر من إدامة النظر في كتاب الله “.

ويُروى عن حَبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قوله: “إني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل في حكمه فأحبّه ولعلي لا أقاضي إليه أبداً وإني لأسمع بالغيث يصيب البلاد من بلدان المسلمين فأفرح به ومالي بها سائمة ولا راعية وإني لآتي على آية من كتاب الله تعالى فوددت أن المسلمين كلهم يعلمون منها مثل ما أعلم”.

ولقد بيّن الله تعالى في كتابه العزيز مدى تأثير قراءة القرآن وتدبره على مشاعر المؤمنين وجوارحهم ومداركهم ،يقول عزّ وجلّ: {إذا تُتلى عليهم آيات الرحمن خرّوا سُجداً وبُكيا} [مريم 58 ] ويقول عزّ وجلّ: {ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً} [الإسراء 109] .

يقول سيد قطب في الظلال في تفسير الآية 58 من سورة مريم :

“أولئك النبيون ومعهم ممن هدى الله واجتبى من الصالحين من ذريتهم ، صفتهم البارزة {إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً}فهم أتقياء شديدو الحساسية،ترتعش وجداناتهم حين تتلى عليهم آياته،فلا تسعفهم الكلمات للتعبير عما يخالج مشاعرهم من تأثر،فتفيض عيونهم بالدموع ويخرون سجداً وبكياً “.

جاء في سنن أبي داود ـ كتاب الصلاة ـ عن مطرّف عن أبيه قال: “رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وفي صدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء “[أخرجه أبو داود واللفظ له وزالنسائي وأحمد،وهو حديث صحيح].

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي أحياناً عند سماع القرآن،فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ علي،قلت: أقرأ عليك،وعليك أنزل ! قال: فإني أحبّ أن أسمعه من غيري،فقرأت عليه سورة النساء، حتى بلغت “فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً” قال : أمسك، فإذا عيناه تذرفان “ [ صحيح البخاري ].

كما كان الصحابة رضوان الله عليهم أصحاب قلوب رقيقة،ومشاعر حسّاسة،ومدارك واعية فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه كان يتأثر ويغلب عليه الحزن والخوف حتى كان يُشم من فمه رائحة الكبد المشوي،وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إذا سمع القرآن تذّكر واعتبر،وإذا تُليت هذه الآية {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحقّ}[الحديد 16] بكى حتى يغلبه البكاء .

ويبين الله تعالى تفاعل الجوارح والمدارك عند تدبر القرآن وقراءته فيقول تعالى : {الذين آمنوا وتطمئنُّ قُلوبُهُم بذكرِ الله ألا بذكرِ الله تطمئنُّ القلوب }[الرعد 28] .

وقوله تعالى: {ولِيعلمَ الذين أُوتُوا العلمَ أنَّهُ الحقُّ من ربِّكَ فيؤمِنوا به فَتُخبِتَ لهُ قُلوبُهُم وإنَّ اللهَ لهادِ الذين آمنوا إلى صراطٍ مستقيم}  [الحج 54].

يقول سيد قطب رحمه الله في الظلال:

“تطمئن(أي القلوب) بإحساسها بالصلة بالله،والأنس بجواره،والأمن في جانبه وفي حِماه، تطمئن من قلق الوحدة وحيرة الطريق، بإدراك الحكمة من الخلق والمبدأ والمصير،وتطمئن بالشعوربالحماية من كل اعتداء ومن كل ضرّ ومن كل شرّ إلا بما يشاء الله مع الرضا بالإبتلاء والصبر على البلاء،وتطمئن برحمته في الهداية والرزق والستر في الدنيا والآخرة،ذلك الاطمئنان بذكر الله في قلوب المؤمنين حقيقة عميقة يعرفها الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم، فاتصلت بالله،يعرفونها ولا يملكون بالكلمات التي ينقلوها إلى الآخرين الذين لم يعرفوها،لأنها لا تُنقل بالكلمات،وإنما تسري في القلب فيستروحها،ويَهشّ لها ويندى لها ويستريح إليها،ويستشعر بالطمأنينة والسلام،ويحسّ أنه في هذا الوجود ليس مفرداً بلا أنيس،فكل ما حوله صديق،إذ كل ماحوله من صنع الله الذي هو في حِماه”.

ويقول تعالى : {اللهُ نَزَّلَ أحسنَ الحديثِ كتاباً مُتشابهاً مَثانيَ تقشعرُّ منهُ جُلودُ الذينَ يخشونَ ربَّهُم ثُمَّ تلينُ جُلودُهُم وقُلوبُهُم إلى ذكر الله}  [الزمر 23].

يقول سيد قطب رحمه الله في الظلال:

“هذه الآية تصوّر حقيقة القلوب التي تتلقى الإسلام فتنشرح له وتندى به،وتصوّر حالها مع الله،حال الإنشراح والتفتح والنداوة والبشاشة والإشراق والاستنارة،كما تصوّر حقيقة القلوب الأخرى في قساوتها وغلظتها وموتها وجفافها،وعتمتها وظلامها،ومن يشرح الله صدره للإسلام ويمد له من نوره،ليس قطعاً كالقاسية قلوبهم من ذكر الله،وشتان بين هؤلاء وهؤلاء ” ويتابع رحمه الله: ” والذين يخشون ربهم ويتقونه ويعيشون في حذر وخشية،وفي تطّلع ورجاء،ويتلّقون هذا الذكر في وَجَل وارتعاش وفي تأثر شديد تقشعّر منه الجلود،ثم تهدأ نفوسهم وتأنس قلوبهم بهذا الذكر،وتلين جلودهم وقلوبهم وتطمئن إلى ذكر الله “.

نعم، إنّ الإنصات إلى القرآن الكريم وتدّبر معانيه وآياته لا يؤثر فقط في النفوس المؤمنة المسلمة،بل إنه يؤثر أيضاً في النفوس الأخرى التي تسعى إلى الحقّ،وتطلبه حثيثاً،فما أن تستمع إلى آيات الحقّ والصدق حتى يؤثر بها هذا ويدفعها إلى اعتناق الحقّ والتزام طريقه والسعي إلى تحقيقه في نفوسها وتطبيقه في حياتها والدعوة إليه . يقول تعالى: {لتجدنّ أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدنّ أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون * وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينَهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين}   [المائدة 82 ـ 83] .

يقول سيد قطب رحمه الله :

“إنهم إذا سمعوا ما أنزل الله على الرسول من هذا القرآن اهتزّت مشاعرهم ولانت قلوبهم،وفاضت أعينهم بالدمع تعبيرأعن التأثرالعميق العنيف بالحقّ الذي سمعوه،والذي لا يجدون له في أول الامر كفاء من التعبير إلا الدمع الغزير،وهي حالة معروفة في النفس البشرية حين يبلغ بها التأثردرجة أعلى من أن يفي بهذا المقول، فيفيض الدمع ليؤدي ما لا يؤديه المقول،وليطلق الشحنة الحبيسة من التأثر العميق العنيف،ثم هم لا يكتفون بهذا الفيض من الدمع ولا يقفون موقفاً سلبياً من الحقّ الذي تأثروا به هذا التأثر عند سماع القرآن،والشعور بالحقّ الذي يحمله والإحساس بما له من سلطان،إنهم لا يقفون موقف المتأثر الذي تفيض عيناه بالدمع ثم ينتهي أمره مع هذا الحقّ،إنما هم  يتقدّمون ليتخذوا من هذا الحقّ موقفاً إيجابياً صريحاً،موقف القبول لهذا الحقّ والإيمان به، والإذعان لسلطانه،وإعلان هذا الإيمان وهذا الإذعان في لهجة قوية عميقة صريحة : {يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين * ومالنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين}، فهو موقف صريح قاطع تجاه ما أنزل الله إلى رسوله من الحق، موقف الاستماع والمعرفة ثم التأثر الغامر والإيمان الجاهر،ثم الإسلام والانضمام إلى الأمة المسلمة، مع دعاء الله سبحانه أن يجعلهم مع الشاهدين لهذا الحقّ، الذي يؤدون شهادتهم سلوكاً وعملاً وجهاداً لإقراره في الأرض والتمكين له في حياة الناس”.

ويبين لنا الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله في كتابه “فصول إسلامية” (ص154ـ 155) بعض النماذج البشرية لمن سمع هذا القرآن وتأثر به فكان بعد ذلك من أشدّ المدافعين والمكافحين من أجله، يقول رحمه الله :

“لقد سمع سورة طه ولا يزال يسمعها كثيرون لا يحصيهم العدّ،ولكن لما أدركت لحظة العناية عمر،جعلته آيات من هذه السورة يتحول من ذلك الرجل الجاهل الكافر الغليظ الذي جاء ليقتل سيد الخلق صلى الله عليه وسلم ويقترف أكبر الجرائم البشرية إلى عمر العبقري العظيم الذي كان يديروحده إحدى عشرة دولة من دول اليوم،وكان القاضي فيها والإمام ووزير الخارجية والمحتسب،وكان قائد ثلاث جبهات،وكان يحمل مع ذلك الدقيق على ظهره ويطبخ للمرأة الفقيرة ويطعم أولادها،وكان يعيش على الخبز والزيت،وكان يبكي خشية أن يكون قَصرّ في أمر المسلمين” .

ويقول أيضاً(الرسالة العدد 709):

“أقبل عمر الغليظ الجافي عدو الإسلام الألد،ليأتي الجريمة الكبرى،فسمع آيات معدودات،فإذا هو ينقلب إلى عمر المؤمن الرقيق العبقري الذي أدار وحده إحدى عشرة حكومة من حكومات هذه الأيام بسلمها وحربها،وقضائها وماليتها،وداخليتها وخارجيتها،وجليل أمرها وحقيره،ما قصر في شىء منه ولا أساء فكان نادرة الزمان،وأعجوبة الفلك ونحن نسمع المرتلين يتلون القرآن في كل لحظة وفي كل مكان،في الأفراح والأتراح والحفلات والإذاعات،بحلوق لعلها أندى من حلق قارىء عمر،ونغمات أحلى،وأصوات أشجى،ومعرفة بالتجويد وضبط للمخارج والأداء،وبصر بالألحان،ولكنها لا تصنع بنا ما صنعت بعمر،ما نجد لها إلا الاهتزاز والطرب كما نهتز لكل أغنية حلوة تسمعها آذاننا،ونطرب لكل صوت شجي تعيه أسماعنا،ثم نقوم عنها فنمضي في الحياة حيث توجههنا عقولنا وأهوائنا،فهل نحن مسلمون؟”.

ولقد سمع آية {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله}  ولا يزال يسمعها كثيرون لا يحصيهم العدّ،ولكن لما أدركت لحظة العناية مالك بن دينار جعلته هذه الآية  يتحول مما كان عليه إلى ما صار إليه.

ولقد قرأ سورة التكاثر ولا يزال يقرؤها كثيرون لا يحصيهم العدّ،ولكن لما أدركت لحظة العناية “ليوبولد فايس” جعلته هذه السورة محمد أسد المسلم الذي أحسن للمكتبة الإسلامية بكتابة ” الإسلام على مفترق الطرق “. انتهى كلام الطنطاوي رحمه الله .

هذه بعض انعكاسات وارتكاسات تدبر القرآن وقراءته على الشعور والجوارح والمدارك وتأثيرها في القلوب والعقول،وهذه بعض الصفات التي ذكرت عن تأثر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه خير القرون،أما ما يذكر في بعض الكتب عن تأثر بعض القارئين وإصابتهم بالإغماء عدّة أيام،أو خروج بعض الأصوات أو الصيحات منهم أو بعض الحركات،فهذا إن دلّ على شئ فإنما يدل على فرط الإحساس وهذا مرض أكثر منه تقوى أو شدّة خشية ،فإنّ أشدّ الناس تُقىً وخشية ورهبة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يُذكر عنه في السنة ولا السيرة النبوية ولا في الآثار الشرعية،أن شدّة التأثر لقراءة القرآن وتدبر آياته قد خرجت به عما ذكرنا سابقاً،وإن كان في داخله وأعماقه من أشدّ المتأثرين وخاصة بآيات العقاب والترهيب،لا خوفاًعلى نفسه فهو الذي غفر الله ما تقدّم من ذنبه وما تأخر،ولكن خوفاً وخشية على أمته وقومه .

إنّ العظمة والروعة في تدبر القرآن أنك تجد فيه التناسق الشامل الكامل على مختلف المستويات،وأن الإنسان القارئ يتدبر ومهما كان اختصاصه وثقافته ومستواه العلمي يجد فيه اللذّة الروحية التي لا يمكن وصفها .

يقول سيد قطب رحمه الله في تفسير قوله تعالى {أفلا يَتدَبّرونَ القرآنَ ولو كانَ من عندِ غيرِ الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} [النساء 82]

يقول رحمه الله :”والتناسق المطلق الشامل الكامل هو الظاهرة التي لا يخطئها من تدبر هذا القرآن أبداً .. ومستوياتها ومجالاتها، مما تختلف العقول والأجيال في إدراك مداها،ولكن  كل عقل وكل جيل يجد منها بحسب قدرته وثقافته وتجربته وتقواه ما يملك إدراكه في محيط يتكيف بمدى القدرة والثقافة والتجربة والتقوى،ومن ثم فإن كل أحد،وكل جيل،مخاطب بهذه الآية،ومستطيع عند التدبر وفق منهج مستقيم أن يدرك من هذه الظاهرة،ظاهرة عدم الاختلاف أو ظاهرة التناسق،ما تهيئه له قدرته وثقافته وتجربته وتقواه “ويتابع رحمه الله :”تتجلّى هذه الظاهرة،ظاهرة عدم الاختلاف،أو ظاهرة التناسق،ابتداءً في التعبير القرآني من ناحية الأداء وطرائقه الفنية، ففي كلام البشر تبدو القمم والسفوح،التوفيق والتعثر،القوة والضعف،التحليق والهبوط،الرفرفة والثقلة من الإشراق والإنطفاء إلى آخر الظواهر التي تتجلّى معها سمات البشر وأخصها سمة التغير والإختلاف المستمر الدائم من حال إلى حال “ويتابع رحمه الله: “هذه الظاهرة واضح كل الوضوح أن عكسها وهو الثبات والتناسق هو الظاهرة الملحوظة في القرآن،ونحن نتحدث فقط في التعبير اللفظي والأداء الاسلوبي وتتجلّى ظاهرة عدم الاختلاف والتناسق المطلق الشامل والكامل بعد ذلك في ذات المنهج الذي تحمله العبارات ويؤديه الأداء،منهج التربية للنفس البشرية والمجتمعات البشرية،ومحتويات هذا المنهج وجوانبه الكثيرة”ويتابع رحمه الله :”وتدبر هذه الظاهرة في آفاقها هذه قد لا يتسنى لكل إدراك،ولا يتسنى لكل جيل،بل المؤكد أن كل مدرك سيتعاون مع الآخر في إدراكها،وكل جيل سيأخذ بنصيبه في إدراكها ويدع أفاقاً منها للأجيال المترقية في جانب من جوانب المعرفة أو التجربة”. انتهى كلام سيد قطب رحمه الله .

إنّ الإعراض عن قراءة القرآن وعن تدبره وفهم معانيه يدل على أن هناك خللاً في النفس البشرية على مستوى القلب أو العقل أو الإدراك،وكما وصف الله المؤمنين بأن قلوبهم تطمئن إلى ذكر الله تعالى{والذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله}،وصف الآخرين المعرضين فقال: {فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله} [الزمر 22].

يقول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه “اطلب قلبك في ثلاثة مواطن: عند سماع القرآن،وفي مجالس الذكر،وفي أوقات الخلوة،فإن لم تجده في هذه المواطن فسل الله أن يَمنّ عليك بقلب،فإنه لا قلب لك “.

إنّ الإعراض عن تدبرالقرآن وقراءته آية الشقاء ودليل الحرمان،حرمان لنعمة عظيمة أنعمها الله على الإنسان،تغذي العقل والروح وتساعد على مواجهة متاعب ومصاعب الحياة بروح آمنة ونفس مطمئنة وعزيمة صارمة.

يقول الأستاذ محمد أديب صالح رحمه الله في كتاب ” على الطريق (ص405 ـ 406)  :

“ومن أجل هذا كان الأمر بتدبره ـ أي القرآن ـ وفقه معانيه،للعمل بمدلولاته،وما يتضمنه من أحكام: {كتابٌ أنزلناهُ إليكَ مباركٌ ليدبّروا آياته}[ص29] والقلوب المقفلة التي يغشاها الران ـ والعياذ بالله ـ هي التي تحرم هذا التدبر،وتعرض عن التذكرة التي أرادها الله  {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها } [سورة محمد 24]،{فما لهم عن التذكرة معرضين * كأنهم حُمر مستنفرة* فرت من قسورة}[المدثر 50 ـ 52] ويتابع رحمه الله: ” وكيف لا يكون ذلك والإعراض عن التدبر إعراض عن كل معاني الخير،ولقد منّ الله على الأمة يوم كان ينزل القرآن فقال:{لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم}[الأنبياء 10]أي شرّفكم وما به تُذكرون وتعتزون في الناس، وفي آية أخرى” {وإنّه لذكرٌ لكَ ولقومكَ وسوفَ تُسألون}[الزخرف 44] انتهى كلام الدكتور أديب صالح .

نعم، إن مواعظ القرآن تزجركم فلا تزدجرون،وتُعبّركم فلا تعتبرون،فواعجباً لكم تَسمعون ولا تُنصتون،وتقرؤون ولا تتدبرون،وتعلمون ولا تعملون،فواعجباً لكم هل أصبح الجبل ألين من قلوبكم والحجر أطوع من نفوسكم،والصخر أشدّ خشية من نفوسكم!! {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله }[ الحشر 21].

6ـ هجروه دعوةً وتبليغاً

أنزل الله تعالى القرآن الكريم نوراً وهدى،وشفاءً ورحمةً للمؤمنين والعالمين،وأنزله الله دستوراً للأمة،وهدايةً للخلق،وآية صدق،وبرهاناً ساطعاًعلى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم،وحجةً قائمةً إلى يوم الدين،ومعجزةً خالدة تتحدى الأجيال وضرب فيه الأمثال،وبيّنَ فيه الحلال والحرام،وشرّع فيه الحلال والحرام،وشرّع فيه التشريعات إنذاراً وإعذاراً لئلا يكون للناس على الله حجّة.

والقرآن الكريم كتابٌ أنزله الله هدى وهداية للعالمين،وهذه هي رسالته الأولى والعظيمة،ولكنه في نفس الوقت كتابٌ قد جمع من الإعجازاللغوي والعلمي والأخلاقي والتشريعي..وهذا يتطلب من الدعاة والمُبلّغين ان يغوصوا في بحوره ويستخرجوا دُرره،ويكتشفوا كنوزه،ويبينوا للناس هذا بعد أن بينتّه الرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

يقول الكاتب الكبير عباس محمود العقاد رحمه الله:

“ما هي المعجزة؟هي حادث خارق لنواميس الكون التي يعرفها الإنسان مقصود به إقناع المنكرين بأن صاحبها مرسل من قبل الله،إذ كان يأتي للناس بعمل لا يقدر عليه غير الله.وإنما الأساس فيها والحكمة الأولى أنها تخرق النواميس المعروفة وتشذ عن السنن المطردة في حوادث الكون،وعلى هذا الوجه يجب أن يفهمها المؤمنون بها والمنكرون لها على السواء.فيخطىء المؤمن الذي يحاول أن يفسر المعجزة تفسيراً يطابق المعهود من السنن الطبيعية لأنه بهذا التفسير يبطل حكمتها ويلحقها بالحوادث الشائعة التي لا دلالة لها في هذا المعنى أو بأعمال الشعوذة والتمويه التي تظهر للناس على خلاف حقيقتها،ويخطىء المنكر الذي يفهم المعجزة على غير هذا الوجه ثم ينكر إمكان وقوعها لأنها إذا دخلت في نظام النواميس المعهودة لم يجز له إنكارها ولم تخرج عن كونها شيئاً من هذه الأشياء التي يتوالى ورودها على الحس في أوقاتها.

والمعجزة في لفظها العربي قوامها الإعجاز أي الإقناع بأن فاعلها هو الله لا سواه ومن ثم يكون الرجل الذي ساقها مساق الدليل رسولاً من عند الله”.

ويتابع العقاد رحمه الله:”فينبغي للمعجزة أولاً أن تخرق النظام الذي يعهده الناس،وينبغي لها ثانياً أن تمنع كل ريب في حدوث ذلك الخرق بقدرة غير قدرة الله.

وأمر الله رسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم بالدعوة إليه وتبليغ مافيه قال تعالى:{ياأيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك}[ المائدة 67 ]وقال تعالى:{هذا بلاغٌ للناس وليُنذروا به} [ابراهيم 52].

وقد أدى رسول الله صلى الله عليه وسلم حقّ التبليغ والدعوة ونصح الأمة،ووجّهها إلى طريق الخير قال تعالى:{أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم} [الأعراف 62] وقال تعالى:{أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين} [الأعراف 68.]

كما أدّى رُسُلِ الله من قبل حق الدعوة والتبليغ قال تعالى:{وليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم}[الجن 28].

وقد توّعد الله الرسل التي لا تؤدي حقّ التبليغ والدعوة بأشدِّ العقاب قال تعالى:{يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته} [المائدة 67]، وقال تعالى:{قل إنّي لن يُجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحداً إلا بلاغاً من الله ورسالاته}[ الجن 23].

يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله في “الظلال” :

“وهذه هي القولة الرهيبة التي تملأ القلب بجدّية هذا الأم،أمر الرسالة والدعوة،والرسول صلى الله عليه وسلم يؤمر بإعلان هذه الحقيقة الكبرى،إني لن يجيرني من الله أحد،ولن أجد من دونه ملجأ أو حماية إلّا أن أبلّغ هذا الأمر،وأودّي هذه الأمانة،فهذا هو الملجأ الوحيد وهذه هي الإجازة المأمونة،إن الأمر ليس أمري،وليس لي فيه شئ إلّا التبليغ،ولا مفرّ لي من هذا التبليغ،فأنا مطلوب به من الله ولن يجيرني منه أحد،ولن أجد من دونه ملجأ يعصمني إلّا أن أبلّغ وأودّي… ويتابع رحمه الله : “يا للرّهبة! ويا للرّوعة! ويا للجدّ،إنها ليست تطوعاً يتقدّم به صاحب الدعوة،إنما هو التكليف الصارم الجازم الذي لا مفرّ من أدائه،فالله من ورائه،وإنها ليست اللذّة الذاتية في حمل الهدى والخير للناس،إنّما هو الامر العلوي الذي لا يمكن التلفت عنه ولا التردد فيه،وهكذا يتبيّن أمر الدعوة ويتحدّد،إنها تكليف وواجب،وراءه الهول،ووراءه الجدّ، ووراءه الكبير المتعال”.

فالرسول مُبَلّغ،فإذا بلّغ الرسالة والدعوة فقد أدّى الأمانة،ونهض بالواجب وأقام الحجّة،قال تعالى:{وما على الرسول إلا البلاغ المبين}[ النور 54]، فإن اتّبعه الناس فقد فازوا وحازوا بسعادة الدارين : الدنيا والآخرة،وإن أعرضوا وتولّوا فقد كتب عليهم الشقاء في الدارين،وما على الرسول إلا البلاغ وعلى الله الحساب والعقاب، يقول تعالى: {وإن تولّوا فإنّما عليك البلاغ} [آل عمران 20]، وقال تعالى: “{فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ} وقال تعالى: {وإن ما نُرِينَّكَ بعضَ الذي نعدهُم أو نتوفينَّك فإنَّما عليك البلاغ وعلينا الحساب}.[الرعد 40].

وقد فرض الله على أمة الإسلام واجب التبليغ والدعوة لكتابه الكريم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم،فكل مؤمن مسلم عليه واجب نشر أمر الدعوة بين الناس كُلٌّ حسب إمكاناته وقدراته قال تعالى:{وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ} [الأنعام 19]، وقال تعالى:{الذين يبُلّغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون احدأً إلا الله وكفى بالله حسيباً}[ الأحزاب 39].

يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله في تفسيرالآية 19  من سورة الأنعام :

“فكلّ من بلغه هذا القرآن من الناس،بلغة يفهمها ويحصل منها محتواه،فقد قامت عليه الحجّة به،وبلغه الإنذار،وحقّ عليه العذاب،إن كذّب بعد البلاغ”.

إن العلم بالقرآن الكريم والإحاطة بعلومه ونفائسه وذخائره وتشريعاته واخلاقياته وأحكامه هو من أهم الأمور التي يجب على الداعية أن يسعى إليها،ويحيط بها،ولعلّ من أفضل وسائل العون على تفجير مكنونات القرآن الكريم وفهم مدلولاته والإحاطة بشئ من إعجازه وعجائبه أن نرجع اولاً إلى القرآن الكريم فأفضل مفسرٍ للقرآن هو القرآن ذاته،والفهم الصحيح للقرآن من خلال القرآن هو أفضل ما يساعد المسلم الداعية والمُبلّغ على الأستفادة من هذا المَعين،والاقتباس من مشكاة القرآن الكريم.

ويقول سيد قطب رحمه الله أيضاً(الظلال ـ سورة الطور):

“إن في هذا القرآن سراً خاصاً،يشعر به كل من يواجه نصوصه ابتداء،قبل أن يبحث عن مواضع الإعجاز فيها.إنه يشعر بسلطان خاص في عبارات هذا القرآن.يشعر أن هنالك شيئاً ما وراء المعاني التي يدركها العقل من التعبير.وأن هنالك عنصراً ما ينسكب في الحس بمجرد الاستماع لهذا القرآن.يدركه بعض الناس واضحاً ويدركه بعض الناس غامضاً،ولكنه على كل حال موجود.هذا العنصر الذي ينسكب في الحس،يصعب تحديد مصدره:أهو العبارة ذاتها؟أهو المعنى الكامن فيها؟أهو الصور والظلال التي تشعها؟أهو الإيقاع القرآني الخاص المتميز من إيقاع سائر القول المصوغ من اللغة؟أهي هذه العناصر كلها مجتمعة؟أم إنها هي وشيء آخر وراءها غير محدود؟!

وذلك سر مودع في كل نص قرآني،يشعر به كل من يواجه نصوص هذا القرآن ابتداء…ثم تأتي وراءه الأسرار المدركة بالتدبر والنظر والتفكير في بناء القرآن كله:

في التصور الكامل الصحيح الذي ينشئه في الحس والقلب والعقل.التصور لحقيقة الوجود الإنساني،وحقيقة الوجود كله،وللحقيقة الأولى التي تنبع منها كل حقيقة.حقيقة الله سبحانه.

وفي الطريقة التي يتبعها القرآن لبناء هذا التصور الكامل الصحيح في الإدراك البشري.وهو يخاطب الفطرة،خطاباً خاصاً،غير معهود مثله في كلام البشر أجمعيننوهو يقلب القلب من جميع جوانبه ومن جميع مداخله،ويعالجه علاج الخبير بكل زاوية وكل سر فيه.

وفي الشمول والتوازن والتناسق بين توجيهاته كلها،والاستواء على أفق واحد فيها كلها.مما لايعهد إطلاقاً،في أعمال البشر،التي لاتستقر على حال واحدة،ولا تستقيم على مستوى واحد،ولا تحيط هكذا بجميع الجوانب،ولا تملك التوازن المطلق الذي لا زيادة فيه ولا نقص،ولا تفريط فيه ولا إفراط،والتناسق المطلق الذي لاتعارض فيه ولا تصادم سواء في ذلك الأصول والفروع.

فهذه الظواهر المدركة…وأمثالها..مع ذلك السر الخافي الذي لا سبيل إلى إنكاره…مما يسبغ على هذا الكتاب سمة الإعجاز المطلق في جميع العصور.وهي مسألة لا يماري فيها إنسان يحترم حسه،ويحترم نفسه،ويحترم الحقيقة التي تطالعه بقوة وعمق ووضوح،حيثما واجه هذا القرآن بقلب سليم..{فليأتُوا بحديثٍ مثلهِ إن كانوا صادقين}[الطور 34].

ولقد وصف الله تعالى القرآن الكريم بعدة أوصاف وجعل له عدة مسميات تساعدنا في الرجوع إلى المنبع الأصلي والأرتواء من هذا المنهل الصافي الزلال العذب، فمن أسماء القرآن الكريم التي ذكرت في القرآن:

القرآن :{إنَّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} [الإسراء 9].

والفرقان :{تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا}[لفرقان 1]

والكتاب :{آلم* ذلك الكتاب لاريب فيه} [البقرة 1 ـ 2]

والذكر :{إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر 9]

ومن أوصافه التي ذكرت ايضاً في القرآن الكريم ذاته:

نور: {وأنزلنا إليكم نوراً مبينا} [النساء 174]

وهدى ورحمة :{هدىً ورحمة للمحسنين}“[لقمان 3 ]

و شفاء: {وننزل من القرآن ماهو شفاء}[ الإسراء 82،]

وكريم ومبين وموعظة : {قد جاءتكم موعظة من ربكم}[ يونس 57]

حكمة: {حكمة بالغة} ا[لقمر 5 ]

وحي :{إنما أنذركم بالوحي}” [الأنبياء 45]،ح.. وهناك خمس وخمسون اسماً للقرآن يمكن الرجوع إليها في كتاب”البرهان في علوم القرآن ” للزركشي.

يقول الدكتور صبحي الصالح رحمه الله(مباحث في علوم القرآن الكريم ـ أسماء القرآن واشتقاقها):

“لقد اختار الله لوحيه أسماء جديدة مخالفة لما سمى العرب به كلامهم جملة وتفصيلاً.وروعيت في تلك الألقاب أسرار التسمية وموارد الاشتقاق.واشتهر منها لقبان:الكتاب والقرآن.

وفي تسميته بالكتاب إشارة إلى جمعه في السطور،لأن الكتابة جمع للحروف ورسم للألفاظ،كما أن في تسميته بالقرآن إيماءة إلى حفظه في الصدور،لأن القرآن مصدر القراءة،وفي القراءة استذكار.فهذا الوحي العربي المبين قد كُتب له من العناية به ما كفل صيانته في حرز حريز،وما جعله بنجوة من خوض العابثين وتلاعب المحرفين:إذ لم ينقل كجميع الكتب بالكتابة وحدها ولا بالحفظ وحده،بل وافقت كتابته تواتر إسناده،ووافق إسناده المتواتر نقله الأمين الدقيق.

لقد ذهب العلماء في لفظ “القرآن” مذاهب، فهو عند بعضهم مهموز وعند بعضهم الآخر غير مهموز،فممن رأى أنه بغير همز الشافعي والفراء والأشعري.وممن رأى أن لفظ القرآن مهموز :الزجاج واللحياني وجماعة.

ولنتكلم بعض التفصيل في بعض الأسماء والصفات:

يقول تعالى: {وكذلِكَ أوحينا إليكَ رُوحاً من أمرِنا ما كُنتَ تدري ما الكتابُ ولا الإيمانُ ولكن جَعلناهُ نُوراً نهدي به من نشاءُ من عبادِنا وإنَّكَ لتهدي إلى صراطٍ مستقيم} [الشورى 52].

يقول الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله(منبر الجمعةـ فصل القلوب الحية ـ):

“وهذا القرآن الكريم بما يحمل من طابع الربانية وخصائص الكلام الإلهي،وبما ينطوي عليه من معاني التأثير الكامل في القلوب الواعية،والنفوس الصافية،وبما تميّز به من سحر الفصاحة،وإعجاز البلاغة،وحلاوة الأسلوب،وعذوبة المنطق،وعلوُّ الذوق،وغرابة التركيب،وصادق التوجيه،وصحيح المعرفة… هذا القرآن بخصائصه هذه روح من الله تعالى يُنفخ في القلوب الهامدة،أو يُسكب في تجاويف الأفئدة الميتة،فيُحييّها ويبعثها ويحركها،ويعيد إليها كل معاني الحياة القوية الدافقة المنتجة المثمرة،وهو بهذه الخصائص كلها نورقوي وهاج يضئ لها سبيل السَير والسلوك بعد أن وهب لها حُسن الحياة وقوة الإحياء.. ومن هنا وهب القرآن للرعيل الأول من رجال هذه الأمة من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان حياة جديدة في كل شئ ونوراً جديداً أضاء لهم السبيل لكل شئ،فأحياهم بعد خمود،وجمعّهم بعد فرقة،واغناهم بعد فاقة،وجعلهم أئمة الدنيا يهدون الناس بإذن ربهم إلى طرائق العدل وسبل الخير ووسائل السعادة والسلام،وكانوا المثل الحية للقلوب الحية {قد جاءكم من الله نورٌ وكتابٌ مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سُبُلَ السلام ِويُخرِجُهُم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم}“[ المائدة 15 ـ 16].

يقول الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله في آيات سورة المائدة(مجلة المنار العدد 344 الموافق 29 نوفمبر عام 1913):

“قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين” في المراد بالنور هنا ثلاثة أقوال: أحدها أنه النبي صلى الله عليه وسلم،وثانيها أنه الإسلام،وثالثها أنه القرآن. ووجه تسمية كل من هذه الثلاثة نور هو أنها للبصيرة كالنور للبصر،فلولا النور لما أدرك البصر شئ من المبصرات،ولولا ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن والإسلام لما أدرك ذو البصيرة من أهل الكتاب ولا من غيرهم حقيقة دين الله،وحقيقة ما طرأ على التوراة والإنجيل من ضياع بعضها ونسيانه،وعبث رؤساء الدين بالبعض الىخر بإخفاء بعضه وتحريف البعض الآخر،ولظلوا في ظلمات الجهل والكفر لايبصرون.

وقد ذكر الله تعالى لهذا النور ثلاث فوائد:

الأولى:أنه يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام،أي أن من اتبع منهم مايرضيه تعالى بالإيمان بهذا النور يهديه هداية دلالة تصحبها العناية والإعانة ـ الطرق التي يسلم بها في الدنيا والآخرة من كل مايرديه ويشقيه،فيقوم في الدنيا بحقوق الله تعالى وحقوق نفسه الروحية والجسدية وحقوق الناس.فيكون متمتعاً بالطيبات مجتنباً للخبائث،تقياً مخلصاً،صالحاً مصلحاً،ويكون في الآخرة سعيداً منعماً،جامعاً بين النعيم الحسي الجسدي ،والنعيم الروحي والعقلي.وخلاصة هذه الفائدة أنه يتبع ديناً يجد فيه جميع الطرق الموصلة إلى ما تسلم به النفس من شقاء الدنيا والآخرة،لأنه دين السلام والإخلاص لله ولعباده،دين المساواة والعدل،والإحسان والفضل.

الثانية:الإخراج من ظلمات الوثنية والخرافات والاوهام التي أفسد بها الرؤساء جميع الأديان واستعبدوا أهلها ـ إلى نور التوحيد الخالص الذي يحرر صاحبه من رق رؤساء الدين والدنيا،فيكون بين الخلق حراً كريماً،وبين يدي الخالق وحده عبداً خاضعاً.

الثالثة:الهداية إلى الصراط المستقيم.وهو الطريق الموصول إلى القصد والغاية من الدين في أقرب وقت،لأنه طريق لاعوج فيه ولا انحراف فيبطئ سالكه أو يضل في سيره،وهو أن يكون الاعتصام بالقرآن على الوجه الصحيح الذي أنزله الله تعالى لأجله،كما كان عليه أهل الصدر قبل ظهور الخلاف والتأويل،بأن تكون عقائده وآدابه وأحكامه مؤثرة في تزكية النفس وإصلاح القلوب وإحسان الأعمال،وثمرة ذلك سعادة الدنيا والآخرة بحسب سنن الله في خلق الإنسان”.

ويقول الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله(موقع القرضاوي ـ مقال:الدين النصيحة):

“روى مسلم في صحيحه،عن تميم بن أوس الداري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:”الدين النصيحة،الدين النصيحة،الدين النصيحة.قال تميم: قلنا: لمن يارسول الله؟قال:لله،ولكتابه،ولرسوله،ولأئمة المسلمين وعامتهم”.

يقول الشيخ القرضاوي:”والنصيحة لكتاب الله عز وجل أي الإخلاص لهذا القرآن العظيم،الذي أنزله الله شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين،والذي أنزله الله ليصحح ما اعوجَّ من الحياة،ويصلح به مافسد،ونوّر به ما أظلم،ويهدي به للتي هي أقوم،فهو قانون السماء لهداية الأرض،ودستور الخالق لإصلاح الخلق،لا يضلّ من اهتدى به،ولا يعوجّ فيقوّم،من علم علمه سبق،ومن قال به صدق،ومن حكم به عدل،ومن عمل به أجر،ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم.

كتاب الله،وحبل الله المتين،ممدود بينكم وبين ربكم،فمن أمسك بهذا الحبل القوي،وتعلّق بهذه العروة الوثقى،لا انفصام لها،فإنه واصل بهذا الحبل إلى الجنة…لأن منهاه الجنة…

النصيحة لكتاب الله،أن نعمل به…وأن نتبع هداه،وأن نقتبس من سناه،وأن نصدّق شرائعه،وأن نتأدب بآدابه،ونتخلّق بأخلاقه.

ومن معاني النصيحة لكتاب الله،أن نتدبره،ونتفهم ما أنزل الله فيه من معان وأسرار تصلح الحياة،وتصلح الأفراد والمجتمعات.

هذا الكتاب هو نور الحياة،للناس جميعاً،في كل عصر وفي كل مصر،{كتابٌ أنزلناهُ إليكَ لتُخرجَ الناس من الظلماتِ إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد}[إبراهيم 1]”.

يقول الإمام العظيم ابن القيم رحمه الله(كتاب الفوائد ـ محتوى خطاب القرآن):

“تأمل خطاب القرآن تجد ملكاً له الملك كله وله الحمد كله.أزمة الأمور كلها بيده ومصدرها منه ومردها إليه،مستوياً على سرير ملكه لا تخفى عليه خافية في أقطار مملكته،عالماً بما في نفوس عبيده،مطّلعاً على أسرارهم وعلانيتهم،منفرداً بتدبير المملكة،يسمع ويرى ويعطي ويمنع ويثب ويعاقب ويكرم ويهين ويخلق ويرزق ويميت ويحيى ويقدر ويقضى ويدبر.الأمور نازلة من عنده دقيقها وجليلها،وصاعدة إليه لا تتحرك من ذرة إلا بإذنه ولا تسقط ورقة إلا بعلمه.فتأمل كيف تجده يثنى على نفسه ويمجد نفسه ويحمد نفسه وينصح عباده ويدلهم على ما فيه سعادتهم وفلاحهم ويرغبهم فيه،ويحذرهم مما فيه هلاكهم،ويتعرف إليهم باسمائه وصفاته ويتحبب إليهم بنعمه وآلائه.فيذكرهم بنعمه عليهم ويأمرهم بما يستوجبون به تمامها،ويحذرهم من نقمه ويذكرهم بما  أعدّ لهم من الكرامة إن أطاعوه وما أعلن لهم من العقوبة إن عصوه.ويخبرهم بصنعه في أوليائه وأعدائه وكيف كانت عاقبة هؤلاء وهؤلاء.

ويثني على أوليائه بصالح أعمالهم وأحسن أوصافهم ،ويذم أعداءه بسىء أعمالهم وقبيح صفاتهم.ويضرب الأمثال وينوع الأدلة والبراهيننويجيب عن شُبه أعدائه أحسن الأجوبة،ويصدق الصادق ويكذب الكاذب،ويقول الحق ويهدي السبيل.ويدعو إلى دار السلام،ويذكر أوصافها وحسنها ونعيمها،ويحذر من دار البوار ويذكر عذابها وقبحها وآلامها،ويذكر عباده فقرهم إليه وشدة حاجتهم إليه من كل وجه وأنهم لا غنى لهم عنه طرفة عين،ويذكر غناهُ عنهم وعن جميع الوجودات،وأنه الغني بنفسه عن كل ما سواه،وكل ما سواه فقير إليه بنفسه وأنه لا ينال أحد ذرة من الخير فما فوقها إلا بفضله ورحمته،ولا ذرة من الشر فما فوقها إلا بعدله وحكمته.ويشهد من خطابه عتابه لأحبابه ألطف عتاب،وأنه مع ذلك مقيل عثراتهم وغافر زلاتهم ومقيم أعذارهم ومصلح فسادهم والدافع عنهم،والمحامي عنهم،والناصر لهم،والكفيل بمصالحهم،والمنجي لهم من كل كرب،والموفي لهم بوعده،وأنه وليهم الذي لا ولي لهم سواه فهو مولاهم الحق ونصيرهم على عدوهم،فنعم المولى ونعم النصير.فإذا شهدت القلوب من القرآن ملكاً عظيماً رحيماً جواداً جميلاً هذا شأنه فكيف لاتحبه وتنافس في القرب منه وتنفق أنفاسها في التودد إليه ويكون أحبّ إليها من كل ما سواه ورضاه آثر عندها من رضا كل ما سواه؟وكيف لا تلهج بذكره ويصير حبه والشوق إليه والأنس به هو غذاؤها وقوتها دواؤها بحيث إن فقدت ذلك فسدت وهلكت ولم تنتفع بحياتها؟”.

ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى(كتاب الفوائد ـ تجليات الرب):

“القرآن كلام الله وقد تجلى الله فيه لعباده بصفاته،فتارة يتجلى في جلباب الهيبة والعظمة والجلال،فتخضع الأعناق،وتنكسر النفوس،وتخشع الأصوات ويذوب الكبر كما يذوب الملح في الماء،وتارة يتجلى في صفات الجمال والكمال،وهو كمال الأسماء وجمال الصفات وجمال الأفعال الدال على كمال الذات فيستنفد حبه من قلب العبد قوة الحب كلها،بحسب ما عرفه من صفات جماله ونعوت كماله،فيصبح فؤاد عبده فارغاً إلا من محبته،فإذا أراد منه الغير أن يعلق تلك المحبة أبى قلبه وأحشاؤه ذلك كل الإباء،كما قيل:

يُرادُ من القلب نسيانكم                  وتأبى الطباع على الناقل

فتبقى المحبة له طبعاً لا تكلفاً.وإذا تجلى بصفات الرحمة والبر واللطف والإحسان انبعثت قوة الرجاء من العبد وانبسط أمله وقوي طمعه وسار إلى ربه وحادى الرجاء يحدو ركاب سيره.وكلما قوي الرجاء جدّ في العمل كما أن الباذر كلما قوي طمعه في المغل غلق أرضه بالبذر،وإذا ضعف رجاؤه قصر في البذر.

وإذا تجلى بصفات العدل والانتقام والغضب والسخط والعقوبة،انقمعت النفس الأمارة وبطلت أو ضعفت قواها من الشهوة والغضب واللهو واللعب والحرص على المحرمات،وانقبضت أعنة رعوناتها،فأحضرت المطية حظها من الخوف والخشية والحذر.

وإذا تجلى بصفات الأمر والنهي والعهد والوصية وإرسال الرسل وإنزال الكتب وشرع الشرائع،انبعثت منها قوة الامتثال والتنفيذ لاوامره والتبليغ لها والتواصي بها وتذكرها والتصديق بالخبر والالمتثال للطلب والاجتناب للنهي.

وإذا تجلى بصفات السمع والبصر والعلم،انبعثت من العبد قوة الحياء فيستحيى من ربه أن يراه على ما يكره،أو يسمع منه ما يكره،أو يخفى في سريرته ما يمقته عليه،فتبقى حركاته وأقواله وخواطره موزونة بميزان الشرع غير مهملة ولا مرسلة تحت حكم الطبيعة والهوى.

وإذا تجلى بصفات الكفاية والحسب والقيام بمصالح العباد وسوق أرزاقهم إليهم،ودفع المصائب عنهم ونصرة لأوليائه وحمايته لهم ومعيته الخاصة لهم،انبعثت من العبد قوة التوكل عليه والتفويض إليه والرضا به وبكل ما يجريه على عبده ويقيمه فيه مما يرضى به هو سبحانه.والتوكل معنى يلتئم من علم العبد بكفاية الله وحسن اختياره لعبده وثقته به ورضاه بما يفعله به ويختاره له.

وإذا تجلى بصفات العز والكبرياء أعطت نفسه المطمئنة ما وصلت إليه من الذل لعظمته والانكسار لعزته والخضوع لكبريائه وخشوع القلب والجوارح له فتعلوه السكينة والوقار في قلبه ولسانه وجوارؤحه وسمته،ويذهب طيشه وقوته وحدته.

وجماع ذلك:أنه سبحانه يتعرف إلى العبد بصفات آلهيته تارة،وبصفات ربوبيته تارة،فيوجب له شهود صفات الالهية المحبة الخاصة،والشوق إلى لقائهنوالأنس والفرح به،والسرور بخدمته ،والمنافسة في قربه ،والتودد إليه بطاعته ،واللهج بذكره ،والفرار من الخلق إليه ،ويصير هو وحده همّه دون ما سواه.ويوجب له شهود صفات الربوبية التوكل عليه والافتقار إليه والاستعانة به،والذل والخضوع والانكسار له.وكمال ذلك أن يشهد ربوبيته في أهيته،وألهيته في ربوبيته ،وحمده في ملكه،وعزه في عفوه،وحكمته في قضائه وقدره،ونعمته في بلائه،وعطاءه في منعه،وبره ولطفه وإحسانه ورحمته في قيوميته،وعدله في انتقامه،وجوده وكرمه في مغفرته وستره وتجاوزه.ويشهد حكمته ونعمته في أمره ونهيه،وعزّه في رضاه وغضبه،وحلمه في إمهاله،وكرمه في إقباله،وغناه في إعراضه”.

ويقول الأستاذ وهبي سليمان الألباني(رسائل مسجد الجامعة ـ تحت لواء القرآن الكريم ـ ):

“وكما تكون حياة الجسد بالروح كذلك تكون حياة الإيمان بالقرآن،وقد كان القرآن الكريم كذلك وما يزال،فهو الذي نفخ في روح حياة المؤمنين،فجعلهم عباد الله سبحانه وحده بعد عبادة الاحجار والأصنام،وغرس فيهم فضيلة العزّة بالإسلام وللإسلام بعد أن كانت بالمظاهر وللنفوس والأهواء،وأهاب بالقلوب أن تَعمر بحب الخير للناس،وجعل مصلحة المؤمن الحقيقية هي مرضاة الله تعالى وما والاه،وحضَّ على إخلاص العمل كله لله تعالى وجعل حرفة الكسب على طاعته سبحانه كعبادة من العبادات في تكفير الذنوب والسيئات،وهو الذي شرّع الأخوّة لاصحاب المبدأ الواحد،وشرّع الجهاد لإعلاء كلمة الله تعالى،وإيصال شرعته إلى أرجاء الأرض،وفرض على العباد طهارة القلب واللسان واليد ،وعفّة الروح والجسد،وهو الذي سما بأهله إلى أعلى مراتب المجد،وجعلهم شهداء على من سبقهم من أمم هذه الأرض،وما أجلَّ وصف القرآن الكريم لما صنعه القرآن الكريم بالعرب من تحويلهم إلى حياة عزيزة مثمرة بعد حياة مظلمة تافهة{وكنتم أمواتاً فأحياكم}[البقرة 28] ويقول تعالى{يا أيها الذين أمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يُحييكم} [الأنفال 24].وقال الله تعالى {يا أيُّها الناسُ قدجاءتكُم موعظةٌ من ربكم وشفاءٌ لما في الصدورِ وهدىً ورحمةٌ للمؤمنين}[ يونس 57]،وقال تعالى:{قل هو للذين أمنوا هدى وشفاء}[ فصلت 44]،وقال تعالى:{ونُنزِّلُ من القرآن ما هو شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين}” [الإسراء 82].

يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله في الظلال:

“وفي القرآن شفاء،وفي القران رحمة،لمن خالطت قلوبهم بشاشة الإيمان،فاشرقت وتَفتّحت لتلقي ما في القرآن من روح وطمأنينة وأمان.

في القرآن شفاء من الوسوسة والقلق والحيرة،فهو يصل القلب بالله فيسكن ويطمئن ويستشعر الحماية والأمن ويرضى فيستروح الرضى من الله والرضى عن الحياة،والقلق مرض،والحيرة نَصَب،والوسوسة داء،ومن ثم هو رحمة للمؤمنين.

وفي القرآن شفاء من الهوى والدَنس والطمع والحسد ونزغات الشيطان… وهي من أفات القلب تصيبه بالمرض والضعف والتعب، وتدفع به إلى التحطّم والبِلى والانهيار،ومن ثم هو رحمة للمؤمنين.

وفي القرآن شفاء من الإتجاهات المختلفة في الشعوروالتفكيرفهو يعصم العقل من الشطط،ويطلق له الحرية في مجالاته المثمرة،ويكفه عن إنفاق طاقته فيما لا يجدي،ويأخذه بمنهج سليم مضبوط،يجعل نشاطه منتجاً ومأموناً،ويعصمه من الشطط والزلل،وكذلك هو في عالم الجسد ينفق طاقاته في اعتدال بلا كبت ولا شطط فيحفظه سليماً معافى ويدخر طاقاته للإنتاج المثمر،ومن ثم هو رحمة للمؤمنين.

وفي القرآن شفاء من العلل الإجتماعية،وعدالته الشاملة في سلامة وأمن وطمأنينة،ومن ثم هو رحمة للمؤمنين” .

ويقول الإمام ابن الجوزي رحمه الله في”زاد المسير في علم التفسير:

“وفي هذا الشفاء ثلاثة اقوال: أحدها:شفاء من الضلال،لما فيه من الهدى،والثاني:شفاء من السقم،لما فيه من البركة،والثالث: شفاء من البيان للفرائض والأحكام”.

ويقول الأستاذ وهبى سليمان الألباني(رسائل مسجد الجامعة):

“وقد كان القرآن الكريم كذلك ـ وما يزال ـ فلقد شفى الإنسان من مرض عبادة غير الله تعالى،عالجه من مرض إطلاق الأهواء والغرائز من عُقُلها تحيا دون هدف وتسعى إلى غير غاية ليس لها وازع ولا رادع،داواه من أمراض القلب الفتاكة كالحقد والحسد والبغضاء فحفظ المجتمع من حقد الفقراء على الأغنياء وحسدهم لهم وتمني زوال نعمهم ولحاق الضرّ بهم،وهذه الأمراض الثلاثة هي اليوم أشد الأمراض فتكاً بالبشر بعد ضعف الثقة بالله تعالى،داواه من أمراض اللسان القتّالة كالغيبة والنميمة والفحش والبذاءة،داواه في نفسه فجعلها تحيا لغاية كريمة لاتجعل الدنيا أكبر همها ولا مبلغ علمها بل تحيا طلباً لمرضاة الله تعالى واتقاء سخطه، شفاه من أمراض الفرقة واحتقار الذات،فقلب العرب المزعين أشتاتاً مابين خاضع للفرس في دولة الحيرة وخاضع للرومان في إمارة الغساسنة وخاضع لظلم الأمراء في غير ذلك،قلبهم إلى أمة واحدة تضرب الفرس والروم معاً في حصونهما وتخرج من المعركة ـ بعد قليل ـ مظفرة منتصرة ثم تسيح في الأرض تنشر الضياء وتقيم صروح العدالة على حكم القرآن وتردّ إلى الإنسان كرامة الإنسان.

داواه من الكبر والغرور والإستهانة بالضعفاء وترك القيام بمصالحهم كما أمر الله تعالى وهذه الأمراض الثلاثة هي بعض أسباب طغيان الأغنياء وظلمهم الفقراء والضعفاء،وإنها لعمري معاول الهدم في بناء الأخوة وسيوف الفتك في جسم المجتمع”.

وقال تعالى {قد جاءكم من الله نورٌ وكتابٌ مبين *يهدي به الله من اتبع رضوانه سُبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور} [المائدة 15 ـ 16]، وقال تعالى {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم}[الشورى 52]، وقال تعالى{ وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً}[ النساء 174]،وقال تعالى”{ فآمنوا باللهِ ورسولِهِ والنُّورِ الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير}[التغابن 8].

يقول سيد قطب رحمه الله :

“نور تتجلّى تحت أشعته الكاشفة حقائق الاشياء واضحة،ويبدو مفرق الطريق بين الحق والباطل محدوداً مرسوماً في داخل النفس وفي واقع الحياة سواء،حيث تجد النفس من هذا النورما يُنير جوانبها أولاً، فترى كل شئ فيها ومن حولها واضحاً،حيث يتلاشى الغبش وينكشف،وحيث تبدو الحقيقة بسيطة كالبديهية، وحيث يعجب الإنسان من نفسه كيف لا يرى هذا الحق وهو بهذا الوضوح وبهذه البساطة؟! وحين يعيش الإنسان بروحه في الجو القرآني فترة،ويتلقى تصوراته وقيمه وموازينه، يحسُّ يسراً وبساطةً ووضوحاً في رؤية الأمور ويشعر أن مقررات كثيرة كانت قلقة في حسّه قد راحت تأخذ اماكنها في هدوء،وتلزم حقائقها في يسر،وتنفي ماعلق بها من الزيادات المتطفلة،لتبدو في براءتها الفطرية ونصاعتها كما خرجت من عند الله”.

ويقول الأستاذ وهبي سليمان الألباني(رسائل مسجد الجامعة تحت عنوان”تحت لواء القرآن الكريم”):

“ووصفه بانه ضياء ونور،وقد كان القرآن الكريم كذلك ـ ومايزال ـ فهو الذي أضاء على المؤمنين به سبيل العقيدة والدين الصحيح،أشرق على النفوس فنشّأها على الخير وربّاها على الاستقامة، نظّم صلة العبد بربه سبحانه وصلته بنفسه وبالناس ونظّم علاقته بماله ووقته وعمله،أضاء على المؤمنين طريق السيادة فجعل لهم الخلافة في الارض ونصرهم على الأعداء ومكّن لهم في الحكم وسخّر لهم ـ ولغيرهم ـ من أجل مصلحتهم ما في السموات والأرض.فالمؤمنون به يعيشون في قلوبهم وأعمالهم وأخلاقهم على هدى ونور”.

ويقول تعالى:{وإنهُ لَهدى ورحمةٌ للمؤمنينَ}[النمل 77].

يقول سيد قطب رحمه الله:

هدى :يقيهم من الإختلاف والضلالة،ويوحد المنهج ويعين الطريق،ويصلهم بالسنن الكونية الكبرى التي لاتختلف ولا تحيد.

ورحمة: يرحمهم من الشك والقلق والحيرة،والتخبط في المناهج والنظريات التي لاتثبت على حال،ويصلهم بالله يطمئنون إلى جواره ويسكنون إلى كنفه،ويعيشون في سلام مع أنفسهم ومع الناس من حولهم،وينهلون من رضوان الله وثوابه الجزيل.

والمنهج القرآني منهج فريد في إعادة إنشاء النفوس،وتركيبها وفق نسق الفطرة الخالصة،حيث تجدها متسقة مع الكون الذي تعيش فيه،متمشية مع السنن التي تحكم هذا الكون ـ في يسر وبساطة ـ بلا تكلف ولا تعمل.

ومن ثم تستشعر في أعماقها السلام والطمأنينة الكبرى،لأنها تعيش في كون لا تصطدم مع قوانينه وسننه ولا تعاديه ولا يعاديها متى اهتدت إلى مواضع اتصالها به،وعرفت أن ناموسها هو ناموسه.وهذا التناسق بين النفس والكون،وذلك السلام الأكبر بين القلب البشري والوجود ينبع منه السللم بين الجماعة،والسلام بين البشر،وتفيض منه الطمأنينة والاستقرار… وهذه هي الرحمة في أشمل  صورها ومعانيها”.

ويقول تعالى:{طس تلكَ آياتُ القرآنِ وكتابٍ مُبينٍ*هدىً وبُشرى للمؤمنينَ}[النمل 1ـ 2].

يقول سيد قطب رحمه الله:”

ثم يصف القرآن أو يصف الكتاب بانه”هدى وبشرى” وهذه أبلغ مما لو قيل:فيه هدى وبشرى للمؤمنين،فالتعبير القرآني على هذا النحو يجعل مادة القرآن وما هيته هدى وبشرى للمؤمنين.والقرآن يمنح المؤمنين هدى في كل فج،وهدى في كل طريق.كما يطلع عليهم بالبشرى في الحياتين الأولى والآخرة.

وفي تخصيص المؤمنين بالهدى والبشرى تكمن حقيقة ضخمة عميقة.إن القرآن ليس كتاب علم نظري أو تطبيقي ينتفع به كل من يقرأه ويستوعب مافيه.إنما القرآن كتاب يخاطب القلب،أول ما يخاطب،ويسكب نوره وعطره في القلب المفتوح،الذي يتلقاه بالإيمان واليقين.وكلما كان القلب ندياً بالإيمان زاد تذوقه لحلاوة القرآن،وأدرك من معانيه وتوجيهاته ما لايدركه منه القلب الصلد الجاف،واهتدى بنوره إلى ما لايهتدي إليه الجاحد الصادف”.

ويقول تعالى:{إنّا نحنُ نزَّلنا الذِّكرَ وإنّا لهُ لَحافظونَ}،وقال تعالى:{وأنزلنا إليكَ الذكرَ لتُبيِّنَ للناسِ ما نزلَ إليهم}[النحل 44].

يقول الشيخ العلامة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله(موقع القرضاوي):

“الذكر هو القرآن،وللأسف وجدنا بعض المغرورين من الدخلاء على القرآن وعلى علوم القرآن،ممّن يدعون أنهم يقرأون القرآن قراءة معاصرة،قراءة جديدة،ويحسبون أن الطبري والزمخشري والرازي وابن كثير والقرطبي وكل مفسري المسلمين ـ تفسير بالرواية وتفسير بالدراية ـ لم يفهموا القرآن،وهم الذين يفهمونه وحدهم، ويقولون :أنا أبدأ من الصفر،لا تقل لي:حديث مرفوع ولا حديث موقوف،ولا تقل لي تفسير ابن عباس،ولا تقل لي تفسير ابن مسعود ولا غيره.أنا أبدأ من جديد،ويأتوننا بالعجب،ومن العجب الذي جاءوا به أنهم قالوا:الذكر شىء والقرآن شىء، والفرقان شىء…وهكذا.

الذكر هو القرآن:{وقالوا يا أيُّها الذي نُزِّلَ عليه الذكرُ إنّكَ لمجنون}،وهل نزل عليه شىء غير القرأن؟حتى المشركين قالوا هذا:{أأنزلَ عليه الذكرُ من بيننا}[ص8].

الذكر هو القرآن:سُمي ذكراً لأنه يُذكّر بالله وبعبادته،ويُذكر بالأخلاق وأصول الفضائل،ويُذكر بالآخرة،ويُذكر بكل ما هو خير،إنه هو التذكير:[فذكر بالقرآن من يخاف وعيد}[ق 45]،{فذكر إن نفعت الذكرى}[الأعلى 9]،{ولقد يسَّرنا القرآن للذكرِ فهل من مُدَّكرٍ}[القمر 17[،هو مُذكر،ولذلك سمي ذكراً.

وهؤلاء يزعمون أن الذكر شىء،وأن القرآن شىء،وأن الكتاب شىء،{تلكَ آياتُ الكتابِ وقُرآنٍ مبينٍ}[الحجر1]،الكتاب شىء والقرآن شىء:{تلكَ آياتُ القرآن وكتابٍ مبينٍ}[النمل1].

ونقرأ في سورة الشورى قوله تعالى:{إنَّ الذينَ كفروا بالذِّكرِ لما جاءهم وإنّهُ لكتابٌ عزيزٌ}[فصلت 41]،الذكر هو الكتاب العزيز ليس شيئاً آخر:{ولو جعلناهُ قُرآناً أعجمياً لقالوا فصّلت آياتُهُ أأعجميٌّ وعربيٌّ}[فصلت 44]،فهو القرآن،وهو الذكر،وهو الكتاب في سياق واحد،ولكن هؤلاء جعلوا القرآن عضين ـ مفرقاً ـ يقرأون القرآن منفصلاً بعضه عن بعض،لا يستحضرون ما ورد في الموضوع من آيات،ولذلك يقعون في هذه الهاوية من سوء الفهم ومن ضلال الفكر،والعياذ بالله.

لم يتأهلوا لتفسير القرآن،لم يعرفوا القرآن حقّ المعرفة،لم يعرفوا السنة النبوية،وهي بيان القرآن،لم يعرفوا كيف يُفهم القرآن،لم يفهموا أصول الفقه،وما وضعه العلماء من قواعد لحسن الفهم،كيف يُحمل المطلق على المقيّد،والعام على الخاص،وكيف يفسر الواضح غير الواضح،والمفصل المُمجمل،…إلخ،لم يتأهلوا للقراآن،ولكن هذه دعواهم.

ويقول تعالى:{يس*والقرآن الحكيم}[يس 1 ـ 2].

يقول سيد قطب رحمه الله:

“يصف القرآن ـ وهو يقسم به ـ بأنه القرآن الحكيم.والحكمة صفة العاقل.والتعبير على هذا النحو يخلع على القرآن صفة الحياة والمقصد والإرادة.وهي من مقتضيات أن يكون حكيماً.ومع أن هذا مجاز إلا أنه يصور حقيقة ويقربها.فإن لهذا القرآن لروحاً وإن له لصفات الحي الذي يعاطفك وتعاطفه حين تصغي له قلبك وتصغي له روحك.وإنك لتطلع منه على دخائل وأسرار كلما فتحت له قلبك وخلصت له بروحك.وإنك لتشتاق منه إلى ملامح وسمات،كما تشتاق إلى ملامح الصديق وسماته ،حين تصاحبه فترة وتأنس به وتستروح خلاله.ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يسمع تلاوة القرآن من غيره،ويقف على الأبواب ينصت إذا سمع من داخلها من يرتل هذا القرآن.كما يقف الحبيب وينصت لسيرة الحبيب.

والقرآن حكيم.يخاطب كل أحد بما يدخل في طوقه.ويضرب على الوتر الحساس في قلبه.ويخاطبه بقدر.ويخاطبه بالحكمة التي تصلحه وتوجهه.

والقرآن حكيم.يربي بحكمة.وفق منهج عقلي ونفسي مستقيم.منهج يطلق طاقات البشر كلها مع توجيهها الوجه الصالح القويم.ويقرر للحياة نظاماً كذلك يسمح بكل نشاط بشري في حدود ذلك المنهج الحكيم”.

ويقول الشهيد سيد قطب رحمه الله في قوله تعالى:{ألم* تلك آياتُ الكتابِ الحكيم}[لقمان 1 ـ 2[:

“واختيار وصف الكتاب هنا بالحكمة لأن موضوع الحكمة مكرر في هذه السورة،فناسب أن يختار هذا الوصف من أوصاف الكتاب في جوه المناسب على طريقة القرآن الكريم.

ووصف الكتاب بالحكمة يلقي عليه ظلال الحياة والإرادة،فكأنما هو كائن حي متصف بالحكمة في قوله وتوجيهه،قاصد لما يقول،مريد لما يهدف إليه.وإنه لكذلك في صميمه.فيه روح وفيه حياة.وفيه حركة.وله شخصية ذاتية مميزة،وفيه إيناس،وله صحبة يحس بها من يعيشون معه ويحيون في ظلاله،ويشعرون له بحنين وتجاوب كالتجاوب بين الحي والحي،وبين الصديق والصديق”.

ويقول تعالى:{الم* تنزيلُ الكتابِ لا ريبَ فيهِ من ربِّ العالمينَ* أم يقولونَ افتراهُ بل هوَ الحقُّ من ربِّكَ}[السجدة 1 ـ 3].

يقول سيد قطب رحمه الله:”

الحق.…بما في طبيعته من صدق ومطابقة لما في الفطرة من الحقّ الأزلي،وما في طبيعة الكون كله من هذا الحق الثابت،المستقر في كيانه،الملحوظ في تناسقه،واطراد نظامه،وثبات هذا النظام،وشموله وعدم تصادم أجزائه،أو تناثرها،وتعارف هذه الأجزاء وتلاقيها.

الحق..بترجمته لنواميس هذا الوجود الكبير ترجمة مستقيمة،وكأنما هو الصورة اللفظية المعنوية لتلك النواميس الطبيعية الواقعية العاملة في هذا الوجود.

الحق...بما يحققه من اتصال بين البشر الذين يرتضون منهجه وهذا الكون الذي يعيشون فيه ونواميسه الكلية،وما يعقده بينهم وبين قوى الكون كله من سلام وتعاون وتفاهم وتلاق.حيث يجدون أنفسهم في صداقة مع كل من حولهم في هذا الكون الكبير.

الحق...الذي تستجيش له الفطرة حين يلمسها إيقاعه،في يسر وسهولة،وفي غير مشقة ولا عنت.لأنه يلتقي بما فيها من حق أزلي قديم.

الحق…الذي لا يتفرق ولا يتعارض وهو يرسم منهاج البشرية كاملاً،ويلحظ في هذا المنهاج كل قواها وكل طاقاتها،وكل نزعاتها وكل حاجاتها،وكل ما يعتورها من مرض أو ضعف أو نقص أو آفة،تدرك النفوس وتفسد القلوب.

الحق...الذي لا يظلم أحداً في دنيا أو آخرة.ولا يظلم قوة في نفس ولا طاقة.ولا يظلم فكرة في القلب أو حركة في الحياة،فيكفها من الوجود والنشاط،مادامت متفقة مع الحق الكبير الأصيل في صلب الوجود”.

وقال تعالى:{وبالحقِّ أنزلناه وبالحقِّ نزل}[الإسراء 105].

يقول سيد قطب رحمه الله:

“لقد جاء هذا القرآن ليربي أمة،ويقيم لها نظاماً،فتحمله هذه الأمة إلى مشارق الأرض ومغاربها،وتعلم به البشرية هذا النظام وفق المنهج الكامل المتكامل.

ولقد أنزل الله هذا القرآن قائماً على الحق”وبالحق أنزلناه“فنزل ليُقرّ الحق في الأرض ويثبته،”وبالحق نزل” فالحق مادته والحق غايته،ومن الحق قوامه،وبالحق اهتمامه.

الحق الأصيل الثابت في ناموس الوجود،والذي خلق الله السماوات والأرض قائمين به،متلبساً بهما،والقرآن مرتبط بناموس الوجود كله،يشير إليه ويدل عليه،وهو طرف منه.فالحق سداه ولحمته،والحق مادته  وغايته،والرسول مبشر منذر بهذا الحق الذي جاء به”.

ويقول تعالى:{تباركَ الذي نزَّلَ الفُرقانَ على عبدهِ ليكونَ للعالمينَ نذيراً}[الفرقان 1].

يقول سيد قطب رحمه الله:

“وسماه“الفرقان”،بما فيه من فارق بين الحق والباطل والهدي والضلال،بل بما فيه من تفرقة بين نهج في الحياة ونهج،وبين عهد للبشرية وعهد.

فالقرآن يرسم منهجاً واضحاً للحياة كلها في صورتها المستقرة في الضمير،وصورتها الممثلة في الواقع.منهجاً لا يختلط بأي منهج آخر مما عرفته البشرية قبله،ويمثل عهداً جديداً للبشرية في مشاعرها وفي واقعها لا يختلط كذلك بكل ما كان قبله.فه فرقان بهذا المعنى الواسع الكبير.فرقان ينتهي به عهد الطفولة ويبدأ به عهد الرشد.وينتهي به عهد الرسالات المحلية الموقوتة،ويبدأ به عهد الرسالة العامة الشاملة”ليكون للعالمين نذيراً”.

وقال تعالى:{هذا بيانٌ للناس وهدىً وموعظةٌ للمتقين}[آل عمران138]، وقال تعالى:{فإذا قرآناهُ فاتبع قرآنه* ثم إنّ علينا بيانه}[القيامة 18 ـ 19].

يقول الدكتور عبد الحليم بن عيسى في مجلة التراث العربي العدد102:

“فالقرآن الكريم كله”بيان“لما يجب أن يكون عليه الإنسان في علاقاته مع خالقه والمحيط الذي يعيش فيه.وكانت اللغة السبيل إلى هذا البيان لذلك قال تعالى:{بلسانٍ عربي مبين}[الشعراء195]، فمن سمات لغة القرآن الكريم والعقيدة الإسلامية ككل ” البيان والإيضاح”،ولذلك قال الرماني: القرآن كله في نهاية حسن البيان”.

ويقول تعالى:{إنَّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}[الإسراء 9].

يقول سيد قطب رحمه الله في الظلال:

“هكذا على وجه الإطلاق فيمن يهديهم وفيما يهديهم،فيشمل الهدى أقواماً وأجيالاً بلا حدود من زمان أو مكان،ويشمل ما يهديهم إلى كل منهج وكل طريق،وكل خير يهتدي إليه البشر في كل زمان ومكان.

يهدي للتي هي أقوم في عالم الضمير والشعور،بالعقيدة الواضحة البسيطة التي لا تعقيد ىفيها ولا غموض والتي تطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة،وتطلق الطاقات البشرية الصالحة للعمل والبناء،وتربط بين نواميس الكون الطبيعية ونواميس الفطرة البشرية في تناسق واتساق.

ويهدي للتي هي أقوم في التنسيق بين ظاهر الإنسان وباطنه،وبين مشاعره وسلوكه،وبين عقيدته وعمله،فإذا هي كلها مشدودة إلى العروة الوثقى التي لا تنفصم،متطلعة إلى أعلى وهي مستقرة على الأرض،وإذا العمل عبادة متى توجه به الإنسان إلى الله،ولو كان هذا العمل متاعاً واستمتاعاً بالحياة.

ويهدي للتي هي أقوم في عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة،فلا تشق التكاليف على النفس حتى تملّ وتيأس من الوفاء.ولا تسهّل وتترّخص حتى تشيع في النفس الرخاوة والاستهتار،ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال.

ويهدي للتي هي أقوم في علاقات الناس بعضهم ببعض:أفراداً وأزواجا”،وحكومات وشعوبا،ودولاً وأجناسا،وتقيم هذه العلاقات على الأسس الوطيدة الثابتة التي لا تتأثر بالرأي والهوى،ولا تميل مع المودة والشنآن،ولا تصرفها المصالح والأغراض.الأسس التي أقامها العليم الخبير لخلقهنوهو أعلم بمن خلق،وأعرف بما يصلح لهم في كل أرض وفي كل جيل،فيهديهم للتي هي أقوم في نظام الحكم ونظام المال ونظام الاجتماع ونظام التعامل الدولي اللائق بعالم الإنسان.

ويهدي للتي هي أقوم في تبني الديانات السماوية جميعها والربط بينها كلها وتعظيم مقدساتها وصيانة حرماتها فإذا البشرية كلها بجميع عقائدها السماوية في سلام ووئام”.

وكما أن القرآن الكريم يُفسّر بالقرآن،ولكن هناك كثيرمن ألاحاديث النبوية الشريفة،وأقوال الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين توضّح لنا وتبيّن مكنونات وذخائر ماتحتويه دفتي هذا الكتاب العظيم.

في حديث أخرجه الترمذي والدارمي عن الحارث الأعور عن الإمام علي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ستكون فتن،قلت: فما المخرج منها يارسول الله؟قال: كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم وخبر مابعدكم،وحكم ما بينكم،وهو الفصل ليس بالهزل،من تركه من جبار قصمه الله،ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله،وهو حبل الله المتين،والذكر الحكيم،وهو الصراط المستقيم،وهو الذي لا تزيغ به الأهواء،ولا تلتبس به الألسنة،ولا تشبع منه العلماء،ولا يخلق على كثرة الرّد،ولا تنقضي عجائبه،وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا:{ إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فأمنا به}،من قال به صدق،ومن حكم به عدل،ومن عمل به أجر،ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم”.وهو حديث ضعيف أخرجه الترمذي والدارمي عن الإمام علي مرفوعاً وسبب ضعفه وجود الحارث بن عبد الله الأعور في سنده وهو ضعيف، وقد جرّحه الإمام مسلم تجريحاً كبيراً في مقدمة صحيحه ولكن الأستاذ العلّامة محمد لطفي الصباغ وكما ذكر في كتاب نداء إلى الدعاة(ص16ـ17 ) يقول: “يعجبني هذا الحديث الذي فيه وصف رائع للقرآن مع أنه حديث ضعيف.

وينسب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه(العقد الفريد ج4 ص129):

“هذا كتاب الله فيكم لا تفنى عجائبه،ولا يُطفأ نوره،فثقوا بقوله،وانتصحوا كتابه، واستبصروا فيه ليوم الظلمة”

ويُنسب لسيدنا علي رضي الله عنه قوله في القرآن:

“ثم أنزل عليه الكتاب نوراً لا تُطفأ مصابيحه،وسراجاً لا يخبو توقدّه،وبحراً لا يدرك قعره،ومنهاجاً لا يضل نهجه،وشعاعاً لا يظلم ضؤوه،وفرقاناً لا يخمد برهانه،وتبياناً لا تهدم أركانه وشفاءً لا تخشى اسقامه،وعزّاً لا تهزم أنصاره،وحقاً لا تخذل أعوانه،فهو معدن الإيمان وبحبوحته، وينابيع العلم وبحوره، ورياض العدل وغدرانه،وأثافي الإسلام وبنيانه،وأودية الحق وغيطانه، وبحر لا ينزفه المستنزفون،وعيون لا ينضبها الماتحون،ومناهل لا يغيضها الواردون،ومنازل لا يضل نهجها المسافرون،وأعلام لا يعمى عنها السائرون،وآكام لا يجوز عنها القاصدون،جعله الله رياً لعطش العلماء،وربيعاً لقلوب الفقهاء،ومحاج لطرق الصلحاء،ودواء ليس بعده داء، ونوراً ليس معه ظلمة،وحبلاً وثيقاً عروته،ومعقلاً منيعاً ذروته،وعزاً لمن تولاه، وسلماً لمن دخله،وهدى لمن ائتمّ به، وعذراً لمن انتحله، وبرهاناً لمن تكلم به،وشاهداً لمن خاصم به، وفلجاً لمن حاجّ به،وحاملاً لمن حمله، ومطية لمن اعمله،وعلماً لمن وعى،وحديثاً لمن روى، وحكماً لمن قضى”.

وقال فيه الإمام العظيم ابن القيّم رحمه الله:

“الكتاب المبين،الفارق بين الهدى والضلال،والغي والرشاد،والشك واليقين،أنزله الله لنقرأه تدبراً، ونتأمله تبصراً،ونسعد به تذكراً،ونحمله على احسن وجوهه ومعانيه، ونُصدّق به،ونجتهد على إقامة أوامره ونواهيه،ونجتني ثمارعلومه النافعة الموصولة إلى الله سبحانه من اشجاره،ورياحين الحكم ما بين رياضه وأزهاره،فهو كتابه الدّال عليه لمن أراد معرفته،وطريقه الموصلة لسالكها إليه،ونوره المبين الذي أشرقت له الظلمات،ورحمته المهداة التي بها صلاح المخلوقات،والسبب الواصل بينه وبين عباده إذا انقطعت الأسباب،وبابه الأعظم الذي منه الدخول فلا يُغلق إذا غلقت الأبواب،وهو الصراط المستقيم الذي لا تميل به الأراء،والذكر الحكيم الذي لا تزيغ به الأهواء،والنُزُل الكريم الذي لا يشبع منه العلماء،لا تفنى عجائبه،ولا تقلع سحائبه،ولا تنقضي آياته،ولا تختلف دلالاته،كلما ازدادت البصائر فيه تأملاً وتفكيراً،زادها هداية وتبصيراً،وكلما تَجَسّت مَعينه، فجّر لها ينابيع الحكمة تفجيراً،فهو نور البصائر من عماها،وشفاء الصدور من أدوائها وجواها،وحياة القلوب ولذة النفوس”.

وقال فيه الأمام موفق الدين بن قدامة المقدسي رحمه الله :

“ومن كلام الله تعالى القرآن العظيم،وهو كتاب الله المبين،وحبله المتين،وتنزيل رب العالمين،نزل به الروح الأمين،على قلب سيد المرسلين، بلسان عربي مبين، مُنزّل غير مخلوق،منه بدأ وإليه يعود،وهو سور محكمات، وآيات بيّنات،وحروف وكلمات،من قرأه فله بكل حرف عشر حسنات،له أول وآخر،واجزاء وابعاض،متلو بالألسنة،محفوظ في الصدور،مسموع بالأذان،مكتوب في المصاحف،فيه محكم ومتشابه،وناسخ ومنسوخ، وخاص وعام ،وأمر ونهي،{لا يأتيهِ الباطلُ من بين يديهِ ولا من خلفهِ تنزيلٌ من حكيمٍ حميدٍ}[فصلت 42]، {قل لئنِ اجتمعتِ الإنسُ والجنُّ على أن يأتوا بمثلِ هذا القرآنِ لا يأتونَ بمثلهِ ولو كانَ بعضهم لبعضٍ ظهيرا}.[الإسراء 88].

وهذا هو الكتاب العربي الذي قال فيه الذين كفروا”لانؤمن بهذا القرآن”، وقال بعضهم:{إن هذا إلا قولُ البشر}[المدثر 25]فقال سبحانه:{ سأصليه سقر}[المدثر 26]، وقال بعضهم:هو شعرفقال الله{وما علّمناهُ الشعرَ وما ينبغي له إن هو إلا ذكرٌ وقرآنٌ مبين}[يس 69]، فلما نفى الله عنه أنه شعر واثبته قرآناً لم يبق شبهة لذي لبس في أن القرآن وهو هذا الكتاب العربي الذي هو حروف وكلمات وآيات وهو ليس بشعر،وقال تعالى: {وإن كنتم في ريبٍ ممّا نزّلنا على عبدنا فأتوا بسورة  من مثله}[البقرة 23 ولا يجوز أن يتحداهم بالإتيان بمثل مالايُدرى ماهو ولا يُعقل، وقال تعالى:{وإذا تتلى عليهم آياتُنا بيناتٍ قال الذين لا يرجون لقاءنا ائتِ بقرآنٍ غيرِ هذا أو بدّلهُ قل ما يكون لي أن أبدّلهُ من تلقاءِ نفسي}[يونس 15] فاثبت أن القرآن هو الآيات التي تتلى عليهم.

ويقول الدكتور محمد عبد الله دراز رحمه الله(النبأ العظيم ص44):

“ومثال آخر ما جاء في التحدي بهذا القرآن وتعجيز العالم كله عن الإتيان بمثله{قل لَئنِ اجتمعتِ الإنسُ والجنُ على أن يأتوا بمثلِ هذا القرآن لا يأتونَ بمثلهِ ولو كانَ بعضهم لبعضٍ ظهيرا}[الإسراء88].

فانظر هذا النفي المؤكد،بل الحكم المؤبّد!هل يستطيع عربي يدري ما يقول أن يصدر هذا الحكم وهو يعلم أن مجال المساجلات بين العرب مفتوح على مصراعيه،وأن الناقد المتأخر متى أعمل الروية في تعقب قول القائل المتقدم لا يُعييه أن يجد فيه فائتاً ليستدرك،أو ناقصاً ليكمل،أو كاملاً ليزداد كمالاً؟ألم يكن يخشى بهذا التحدي أن يثير حميتهم الأدبية فيهبّوا لمنافسته وهم جميعٌ حذرون؟وماذا عساه يصنع لو أن جماعة من بلغائهم تعاقدوا على أن يضع أحدهم صيغة المعارضة،ثم يتناولها سائرهم بالإصلاح والتهذيب كما كانوا يصنعون في نقد الشعر،فيكمل ثانيهم مانقصه أولهم،وهكذا، حتى يخرجوا كلاماً إن لم يبزه فلا أقل من أن يساميه ولو في بعض نواحيه؟ثم لو طوعت له نفسه أن يصدر هذا الحكم على أهل عصره فكيف يصدره على الأجيال القادمة إلى يوم القيامة، بل على الإنس والجن؟إن هذه مغامرة لايتقدم إليها رجل يعرف قدر نفسه إلا وهو مالئ يديه من تصاريف القضاء، وخبر السماء.وهكذا رماها بين أظهر العالم،فكانت هي القضاء المبرم سُلّط على العقول والأفواه، فلم يهمَّ بمعارضته إلا باء بالعجز الواضح، والفشل الفاضح.على مرِّ العصور والدهور”.

وقال فيه ابن قتيبة رحمه الله:

“وإنما يعرف فضل القرآن من كثر نظره،واتسع علمه،وفهم مذاهب العرب وافتنانها في الأساليب،وما خص الله به لغتها دون جميع اللغات، فإنه ليس في جميع الأمم أمة قد أوتيت العارضة والبيان واتساع المجال ما أوتيته العرب،وأراد الله تعالى إقامة الدليل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالكتاب، فجعل علمه كما جعل علم كل نبي من المرسلين من أشبه الأمور في زمانه المبعوث فيه،وللعرب مجازات في الكلام ومعناها طرق القول ومآخذه، ففيها الاستعارة والتمثيل والقلب والتقديم والتأخير والحذف والتكرار،والإخفاء والإظهار والتعريض والإفصاح والكناية والإيضاح، ومخاطبة الواحد مخاطبة الجميع،والجميع خطاب الواحد،والواحد والجمع خطاب الإثنين،والقصد بلفظ الخصوص لمعنى العموم، وبلفظ العموم لمعنى الخصوص،مع أشياء كثيرة، وبكل هذه المذاهب نزل القرآن”.

وقال فيه الجاحظ(أمراء البيان ص315):

“القرآن حجة على الملحد،وتبيان للموحد،قائم بالحلال المنزل،والحرام المُفصّل،وفاصل بين الحق والباطل،وحاكم يرجع إليه العالم والجاهل،وإمام تُقام  به الفرائض والنوافل،وسراج لا يخبو ضياؤه،ومصباح لا يخزن ذكاؤه،وشهاب لا يُطفأ نوره وبحر لا يدرك غوره،ومعدن لا تتقطع كنوزه،ومعقل يمنع الهلكة والبوار،ومرشد يدل على طريق الجنة والنار،وزاجر يصد عن المحارم ويجير يوم التحاكم”.

وقال فيه الإمام  الباقلاني رحمه الله :

“إنك تجد في كتاب الله الحكمة وفصل الخطاب،مجلوة عليك في منظر بهيج ومعرض رشيق،ونظم انيق،غير متعاص على الأسماع،ولا ملتو على الأفهام،ولا مستكره على اللفظ،يمر كما يمر السهم، ويضئ كما يضئ الفجر، ويزخر كما يزخر البحر،طموح العباب، جموح على الطارق المُنتاب كالروح في البدن، والنور المسيطر في الأفق،والغيث الشامل،والضياء الباهر،لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد”.

وقال فيه الإمام الفخر الرازي رحمه الله :

“لقد تأملت الكتب الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تروي غليلاً ولا تشفي عليلاً ورأيت أقرب الطرق،طريق القرآن ومن جرّب تجربتي عرف مثل معرفتي”.

وقال فيه الراغب الأصفهاني(مقدمة كتابه “المفردات في غريب القرآن):

“إن الله تعالى كما جعل النبوة بنبينا مختتمة،وجعل شرائعهم بشريعته من وجهٍ مُنتسخة ومن وجهٍ مُكّملة مُتمّمة كما قال تعالى:{اليومَ أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلامَ ديناً}[المائدة 3].جعل كتابه المُنزل عليه متضمناً ثمرة كتبه التي أولاها أوائل الأمم كما نبّه عليه بقوله تعالى:{يتلو صُحفاً مُطهَّرةً*فيها كتُبٌ قيّمةٌ}[البينة 2 ـ 3]،وجعل من معجزة هذا الكتاب أنه مع قلة الحجم مُتضمنٌ للمعنى الجمّ،وبحيث تقصر الألباب البشرية عن إحصائه،والآلات الدنيوية عن استيفائه كما نبّه عليه بقوله تعالى:{ولو أنَّ ما في الأرض من شجرةٍ أقلامٌ والبحرُ يَمُدُّهُ من بعدهِ سبعةُ أبحُرٍ ما نفِدَت كلماتُ الله إنَّ الله عزيزٌ حكيمٌ}[لقمان 27].

والقرآن وإن كان لا يخلو لناظر فيه من نورٍ ما يُريه،ونفعٍ ما يُوليه،فإنه:كالبدر من حيثُ التفتَّ رأيته يُهدي إلى عينيك نوراً ثاقباً كالشمس في كبد السماء وضوءها يغشى البلاد مشارقاً ومغارباً،لكن محاسن أنواره لا يُثقفها إلا البصائر الجليّة،وأطايب ثمره لا يقطعها إلا الأيدي الزكية،ومنافعُ شفائه لا ينالها إلا النفوس النقية،كما صرح تعالى به فقال في وصف مُتناوليه:{إنّهُ لَقرآنٌ كريمٌ*في كتابِ مكنونٍ* لا يَمسُّهُ إلا المُطهَّرون}[الواقعة 77 ـ 79]،وقال في وصف سامعيه:{قلْ هوَ للذينَ آمنوا هُدىً وشِفاءٌ والذينَ لا يؤمنونَ في آذانهم وقرٌ وهوَ عليهم عمى}[فصلت 44]”.

وقال فيه القاضي عياض في الشفاء من وجوه الإعجاز(نقلاً عن مجلة المنار للشيخ محمد رشيد رضا العدد 182):

“اعلم وفقنا الله وإياك أن كتاب الله العزيز منطو على وجوه من الإعجاز كثيرة وتحصيلها من جهة ضبط أنواعها في أربعة وجوه:

أولها:حسن تأليفه والتئام كلمه وفصاحته ووجوه إعجازه وبلاغته الخارقة عادة للعرب وذلك أنهم كانوا أرباب هذا الشأن وفرسان الكلام قد خصوا من البلاغة والحكم،بما لم يخص به غيره من الأمم،وأوتوا من ذرابة اللسان،مالم يؤت إنسان،ومن فصل الخطاب، مايقيد الألباب،جعل الله لهم ذلك طبعاً وخلقة،وفيهم عزيزة وقوة،يأتون منه على البديهة بالعجب،ويدلون به إلى كل سبب،فيخطبون بديهاً في المقامات وشديد الخطب،ويرتجزون به بين الطعن والضرب،ويمدحون ويقدحون،ويتوسلون ويتوصلون،ويرفعون ويضعون،فيأتون من ذلك بالسحر الحلال،ويطوقون من أوصافهم أجمل من سمط اللآل، فيخدعون الألباب، ويذللون الصعاب،ويذهبون الإحن،ويهيجون الدمن،ويجرّئون الجبان،ويبسطون يد الجعد البنان،ويصيرون الناقص كاملاً،ويتركون النبيه خاملاً،منهم البدوي ذو اللفظ الجزل،والقول الفصل،والكلام الفخم،والطبع الجوهري،والمنزع القوي،ومنهم الحاضري ذو البلاغة البارعة،والألفاظ الناصعة،والكلمات الجامعة،والطبع السهل،والتصرف في القول،القليل الكلفة،الكثير الرونق،الرقيق الحاشية،وكلا البابين فلهما في البلاغة الحجة البالغة،والقوة الدامغة،والقدح الفالج،والمهيع الناهج،لايشكون أن الكلام طوع مرادهم،والبلاغة ملك قيادهم،قد حووا فنونها،واستنبطوا عيونها،ودخلوا من كل باب من أبوابها،وعلوا صرحاً لبلوغ أسبابها،فقالوا في الخطير والمهين،وتفننوا في الغث والسمين،وتقاولوا في القل والكثر،وتساجلوا في النظم والنثر.فما راعهم إلا رسول كريم بكتاب عزيز{لايأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه تنزيلٌ من حكيمٍ حميد}[فصلت 42]، أحكمت آياته،وفصلت كلماته،وبهرت بلاغته العقول،وظهرت فصاحته على كل مقول،وتضافر إيجازه وإعجازه.وتظاهرت حقيقته ومجازه،وتبارت في الحسن مطالعه ومقاطعه،وحوت كل البيان جوامعه وبدائعه،واعتدل مع إيجازه حسن نظمه، وانطبق على كثرة فوائده مختار لفظه،وهم أفسح ماكانوا في هذا الباب مجالاً.وأشهر في الخطابة رجالاً، وأكثر في السجع والشعر سجالاً،وأوسع في الغريب واللغة مقالاً،بلغتهم التي بها يتحاورون،ومنازعهم التي عنها يتناضلون،صارخاً بهم في كل حين،ومقرعاً لهم بضعاً وعشرين عاماً على رؤوس الملأ أجمعين:{أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين}[يونس 38]، {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله}[البقرة 23]،إلى قوله{ولن تفعلوا} و{قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن} ا[الإسراء 88] و{قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات}[هود 13] وذلك أن المفترى أسهل،ووضع الباطل والمختلق على الاختيار أقرب،والفظ إذا تبع المعنى الصحيح كان أصعب، ولهذا قيل: فلان يكتب كما يقال له وفلان يكتب كما يريدن وللأول على الثاني فضل وبينهما شأو بعيد.فلم يزل يقرّعهم صلى الله عليه وسلم أشد التقريع،ويوبخهم غاية التوبيخ،ويسفه أحلامهم،ويحط أعلامهم،ويشتت نظامهم،ويذم آلهتهم وآباءهم،ويستبيح أرضهم وديارهم وأموالهم وهم في كل هذا ناكصون عن معارضته،محجمون عن مماثلته،ويخادعون أنفسهم بالتشغيب بالتكذيب،والإغراء بالإفتراء وقولهم:إن هذا إلا سحر يؤثر وسحر مستمر وأفك افتراه وأساطير الأولين،والمباهتة والرضى بالدنيئة كقولهم: قلوبنا غلف،وفي أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب،ولاتسمعوا لهذا القرآن وألغوا فيه لعلكم تغلبون،والإدعاء  بقولهم:لو نشاء لقلنا مثل هذا، وقد قال لهم الله{ولن تفعلوا} فما فعلوا ولاقدروا.ومن تعاطى ذلك من سخفائهم كمسيلمة كشف عواره لجميعهم،وسلبهم الله الفوه من فصيح كلامهم، وإلا فلم يخف عن أهل الميز منهم أنه ليس من نمط فصاحتهم،ولاجنس بلاغتهم،بل ولوا عنه مدبرين وأتوا مذعنين من بين مهتد وبين مفتون.ولهذا لما سمع الوليد بن المغيرة من النبي صلى الله عليه وسلم{إن الله يأمر بالعدل والإحسان} [النحل 90] قال: والله إن له لحلاوة،وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق،وإن أعلاه لمثمر،مايقول هذا بشر.وذكر أبو عبيد أن أعرابياً سمع رجلاً يقرأ{فاصدع بما تؤمر} فسجد، وقال: سجدت لفصاحته.وسمع آخر رجلاً يقرأ{فلما استيئسوا منه خلصوا نجياً}[يوسف80] فقال : أشهد أن مخلوقاً لايقدر على مثل هذا الكلام.وحكي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يوماً نائماً في المسجد فإذا هو بقائم على راسه يتشهد شهادة الحق فاستخبره فأعلمه أنه من بطارقة الروم ممن يحسن كلام العرب وغيرها وإنه سمع رجلا من أسرى المسلمين يقرأ آية من كتابكم فتأملتها فإذا قد جمع فيها ما انزل على عيسى ابن مريم من أحوال الدنيا والآخرة وهي قوله تعالى{ومن يطع الله ورسوله ويخشَ الله ويتقه} [النور52]ا، وحكى الأصمعي أنه سمع كلام جارية فقال لها:قاتلك الله ما أفصحك! فقالت:أو يعدّ هذا فصاحة بعد قول الله تعالى{وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه} ا[القصص7]، فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين.

فهذا نوع من إعجازه منفرد بذاته غير مضاف إلى غيره على التحقيق والصحيح من القولين.وكون القرآن من قبل النبي صلى الله عليه وسلم وأنه أتى به بمعلوم ضرورة.وكونه صلى الله عليه وسلم متحدياً به علوم ضرورة.وعجز العرب عن الإتيان به معلوم ضرورة.وكونه في فصاحته خارقاً للعادة معلوم ضرورة للعالمين بالفصاحة ووجوه البلاغة.وسبيل من ليس في أهلها علم ذلك بعجز المنكرين من أهلها عند معارضته واعتراف المفترين بإعجاز بلاغته ، وأنت إذا تأملت قوله تعالى{ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب}[البقرة179] وقوله{ولو ترى إذ فزِعوا فلا فوتَ وأُخذوا من مكانٍ قريب}[سبأ 51]وقوله{ وقيل يا أرض ابلعي ماءك وياسماء أقلعي}[هود 44] وقوله{ فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً}[العنكبوت 40] وأشباهها من الآي بل أكثر القرآن حققت مابينه في إيجاز ألفاظها وكثرة معانيها وديباجة عبارتها وحسن تأليف حروفها وتلاؤم كلمها ،وإن تحت كل لفظة منها جملاً كثيرة وفصولاً جمة وعلوماً زواخر ملئت الدواوين من بعض ما استفيد منها،وكثرت المقالات في المستنبطات عنها.

الوجه الثاني من إعجازه:صورة نظمه العجيب والأسلوب الغريب المخالف لأساليب كلام العرب ومناهج نظمها ونثرها الذي جاء عليها ووقفت مقاطع آية وانتهت فواصل كلماته إليه.ولم يوجد قبله ولابعده نظير إليه،ولا استطاع أحد مماثلة شئ منه،بل حارت فيه عقولهم،وتدلهت دونه أحلامهم،ولم يهتدوا إلى مثله في جنس كلامهم،من نثر أو نظم أو سجع أو رجز أو شعر.ولما سمع كلامه صلى الله عليه وسلم الوليد بن المغيرة وقرأ عليه القرآن رقّ فجاءه أبو جهل منكراً عليه قال:والله مامنكم أحد أعلم بالأشعار مني والله مايشبه الذي يقول شيئاً من هذا. وفي خبره الآخر حين جمع قريشاً عند حضور الموسم وقال: إن وفود العرب ترد فأجمعوا فيه رأياً لايكذب بعضكم بعضاً، فقالوا:نقول كاهن،قال: والله ماهو بكاهن، ماهو بزمزمته ولاسجعه، قالوا: مجنون،قال: وماهو بمجنون ولابخنقه ولاوسوسته،قالوا فنقول: شاعر،قال: ماهو بشاعر قد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومبسوطه ومقبوضه، وماهو بشاعر،قالوا: فنقول ساحر،قال: وماهو بساحر ولانفثه ولاعقده، قالوا: فما نقول؟قال: وما أنتم بقائلين في هذا شيئاً إلا وأنا أعرف أنه باطل وإن أقرب القول إنه ساحر،فإنه سحر يفرق به بين المرء وابنه والمرء وأخيه والمرء وزوجه والمرء وعشيرته. فتفرقوا وجلسوا على السبل يحذرون الناس فأنزل الله تعالى في الوليد{ذرني ومن خلقت وحيداً}الآيات من المدثر.

وقال عتبة بن ربيعة حين سمع القرآن: ياقومي قد علمتم أني لم أترك شيئاً إلا وقد علمته وقرأته والله لقد سمعت قولاً والله ماسمعت مثله قط، ماهو بالشعر ولابالسحرولا بالكهانة.وقال النضر بن الحارث نحوه.وفي حديث إسلام أبي ذرّ ووصف أخاه أنيساً فقال:والله ماسمعت بأشعر من أخي أنيس لقد ناقض إثني عشر شاعراً في الجاهلية أنا أحدهم،وإنه انطلق إلى مكة وجاء إلى أبي ذر بخبر النبي صلى الله عليه وسلم ، قلت: فما يقول الناس؟قال: يقولون شاعر،كاهن، ساحر، لقد سمعت قول الكهنة فماهو بقولهم،ولقد وضعته على أقراء الشعر فلم يلتئم على لسان أحد بعد، وإنه لصادق وإنهم لكاذبون.

وقد اختلف أئمة أهل السنة في وجه عجزهم عنه فأكثرهم يقول:أنه ماجمع في قوة جزالته ونصاعة ألفاظه وحسن نظمه وإيجازه وبديع تأليفه وأسلوبه لايصح أن يكون في مقدور البشر،وإنه من باب الخوارق الممتنعة عن أقدار الخلق عليها كإحياء الموتى وقلب العصا وتسبيح الحصا.

وعلى الطريقين فعجز العرب عنه ثابت،وإقامة الحجة عليهم بما يصح أن يكون في مقدور البشر وتحديهم بأن يأتوا بمثله قاطع،وهو أبلغ في التعجيز،وأحرى بالتقريع،والاحتجاج بمجئ بشر مثلهم بشئ ليس من قدرة البشرلازم،وهو أبهر آية،وأقمع دلالة،وعلى كل حال فما أتوا في ذلك بمقال،بل صبروا على الجلاء والقتل،وتجرعوا كاسات الصَغار والذل،وكانوا من شموخ الأنف وإبائة الضيم بحيث لايؤثرون ذلك اختياراً،ولايرضونه إلا اضطراراً.وإلا فالمعارضة لو كانت من قدرهم،والشغل بها أهون عليهم،وأسرع بالنجح وقطع العذر وإفحام الخصم لديهم،وهم ممن لهم القدرة على الكلام،وقدوة في المعرفة به لجميع الأنام،ومامنهم إلا من جهد جهده،واستنفد ماعنده،في إخفاء ظهوره،وإطفاء نوره. فما جلوا في ذلك خبيئة من بنات شفاههم،ولا أتوا بنطفة من معين مياهم.مع طول الأمد وكثرة العدد.وتظاهر الوالد وما ولدن بل أبلسوا فما نبسوا.ومنعوا فانقطعوا.

الوجه الثالث:ما انطوى عليه من الأخبار المغيبات ومالم يكن،ولم يقع ،كقوله تعالى:{لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين}[الفتح27]، وقوله تعالى:{وهم من بعد غلبهم سيغلبون}[الروم3]، وقوله:{ليظهره على الدين كله}[الصف9]وقوله{وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنَّهم في الأرض}[النور55]وقوله{إذا جاء نصر الله والفتح}.. فكان جميع هذا كما قال فغلبت الروم فارس في بضع سنين ودخل الناس الإسلام واستخلف المؤمنين في الأرض ومكن فيها دينهم وملكهم إياها من أقصى المشارق إلى أقصى المغارب كما قال صلى الله عليه وسلم:“إن الله زوى لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها  فإن أمتي سيبلغ ملكها  مازوي لي منها“[صحيح ابن حبان عن ثوبان].وقوله:{إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}فكان ذلك.ومنه قوله{سيهزم الجمع ويولون الدبر}[القمر 45]وقوله{ قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم}[التوبة 14]وقوله{هو الذي أرسل رسوله بالهدى}[التوبة 33]وقوله{لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم} [آل عمران 111]فكان كل ذلك.ومافيه من كشف أسرار المنافقين واليهود ومقالهم وكذبهم في حلفهم وتقريعهم بذلك كقوله{ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول}[المجادلة8]، وقوله{يخفون في أنفسهم مالا يبدون لك}[آل عمران154]وقوله{من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه}[النساء 46]. وقال مبدياً ماقدره الله واعتقده المؤمنون يوم بدر{وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم}[الأنفال 7]ومنه قوله تعالى{إنا كفيناك المستهزئين}[الحجر 95] ولما نزلت بشرّ النبي صلى الله عليه وسلم بذلك أصحابه بأن الله كفاه إياهم وكان المستهزئون نفراً بمكة ينفرون الناس عنه ويؤذونه فهلكوا.وقوله{ والله يعصمك من الناس}[المائدة 67] فكان كذلك على كثرة من رام ضره وقصد قتله .

الوجه الرابع:ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة،والامم البائدة،والشرائع الداثرة،مما كان لايعلم منه القصة الواحدة إلا الفذ من أحبار أهل الكتاب الذي قطع عمره في تعلم ذلك فيورده النبي صلى الله عليه وسلم على وجهه،ويأتي به على نصه،فيعترف العالم بذلك بصحته وصدقه،وإن مثله لم ينله بتعليم،وقد علموا أنه صلى الله عليه وسلم أميّ لايقرأ ولايكتب،ولا اشتغل بمدارسة ولامثافنة،ولم يغب عنهم، ولاجهل حاله أحد منهم،وقد كان أهل الكتاب كثيراً مايسألونه صلى الله عليه وسلم عن هذا فينزل عليه من القرآن مايتلو عليهم منه ذكراً،كقصص الأنبياء مع قومهم وخبر موسى والخضر ويوسف وأخوته وأصحاب الكهف وذي القرنين ولقمان وابنه وأشباه ذلك من الأنباء وبدء الخلق وما في التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وموسى مما صدقه فيه العلماء بها،ولم يقدروا على تكذيب ماذكر منها،بل أذعنوا لذلك فمن موفق آمن بما سبق له من خير،ومن شقي معاند حاسد.ومع هذا لم يحك عن واحد من النصارى واليهود على شدة عداوتهم له وحرصهم على تكذيبه وطول احتجاجه عليهم بما في كتبهم، وتقريعهم بما انطوت عليه مصاحفهم، وكثرة سؤالهم له صلى الله عليه وسلم وتعنيهم إياه عن أخبار أنبيائهم وأسرار علومهم،ومستودعات سيرهم، وإعلامه لهم بمكتوم شرائعهم،ومضمنات كتبهم، مثل سؤالهم عن الروح وذي القرنين وأصحاب الكهف وعيسى وحكم الرجم وماحرّم إسرائيل على نفسه وما حرّم عليهم من الأنعام ومن طيبات كانت أحلت لهم فحرمت عليهم ببغيهم،وعرفهم بما أوحي إليه من ذلك أنه أنكر ذلك أو كذبه بل أكثرهم صرّح بصحة نبوته،وصدق مقالته،واعترف بعناده وحسده إياه،كأهل نجران وابن صوريا  وغيرهم.ومن باهت في ذلك بعض المباهتة،وادعى أن فيما عندهم من ذلك لما حكاه مخالفة،دعي إلى إقامة حجته، وكشف دعوته،فقيل له {قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين}[آل عمران 93] فقرّع ووبخّ، ودعا إلى إحضار ممكن غير ممتنع،فمن معترف بما جحده،ومتواقح يلقي على فضيحته من كتابه يده،ولم يؤثر أنه واحداً منهم أظهر بخلاف قوله من كتبه،ولاأبدى صحيحاً ولاسقيماً من صحفه، قال الله تعالى:{يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير}.[المائدة 15].

ويتابع القاضي عياض رحمه الله(المنار العدد 183):

“هذه الوجوه الأربعة من إعجازه بينة لا نزاع فيها ولامرية.ومن الوجوه البينة في إعجازه من غير هذه الوجوه آي وردت بتعجيز قوم في قضايا وإعلامهم أنهم لايفعلونها فما فعلوا ولاقدروا على ذلك كقوله لليهود{قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة} [البقرة 94]. قال أبو إسحاق الزجاج:في هذه الآية أعظم حجة وأظهر دلالة على صحة الرسالة لأنه قال{فتمنوا الموت}وأعلمهم إنهم لن يتمنوه أبداً فلم يتمنه واحد منهم.وعن النبي صلى الله عليه وسلم:”والذي نفسي بيده لايقوله رجل منهم إلا غصّ بريقه“.يعني يموت مكانه.فصرفهم الله عن تمنيه وجزّعهم ليظهر صدق رسوله وصحة ما أوحي إليه إذ لم يتمنه أحد منهم وكانوا على تكذيبه أحرص لو قدروا ولكن الله يفعل مايريد.فظهرت بذلك معجزته،وبانت حجته.

وكذلك آية المباهلة من هذا المعنى حيث وفد أساقفة نجران وأبوا الإسلام فأنزل الله تعالى آية المباهلة بقوله{ فمن حاجك فيه} الآية، فامتنعوا منها ورضوا بأداء الجزية وذلك أن (العاقب) عظمهم قال لهم: قد علمتم أنه نبي وأنه ما لاعن قوماً نبي قط فبقي كبيرهم ولاصغيرهم.ومثله قوله{وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا} إلى قوله{ فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا} فأخبرهم أنهم لايفعلون كما كان وهذه الآية أدخل في باب الإخبار عن الغيب ولكن فيها من التعجيز مافي التي قبلها.

ومنها الروعة التي تلحق قلوب سامعيه وأسماعهم عند سماعه،والهيبة التي تعتريهم عند تلاوته لقوة حاله وإنافة خطره، وهي على المكذبين به أعظم حتى كانوا يستثقلون سماعه ويزيدهم نفوراً كما قال تعالى ويودون انقطاعه لكراهتم له . .وأما المؤمن فلاتزال روعته به وهيبته إياه مع تلاوته توليه إنجذاباً وتكسبه هشاشة لميل قلبه إليه وتصديقه به. قال تعالى:{تقشعرّ منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} وقال:{ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل} الآية.ويدل على أن هذا شئ خاص به أنه يعتري من لايفهم  معانيه ولايعلم تفاسيره كما روى عن نصراني أنه مرّ بقارئ فوقف يبكي فقيل له: ممّ بكيت؟ قال: للشجا والنظم.وهذه الروعة قد اعترت جماعة قبل الإسلام وبعده فمنهم من أسلم لها لأول وهلة وآمن به ومنهم من كفر.فحكي في الصحيح عن جبير بن مطعم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ هذه الآية{أم خلقوا من غير شئ أم هم الخالقون}[الطور35] إلى قوله{المصيطرون} كاد قلبي أنه يطير للإسلام.وفي رواية وذلك أول ما وقر الإسلام في قلبي.وعن عتبة بن ربيعة أنه كلم النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من خلاف قومه فتلا عليهم حم فصلت إلى قوله{صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود}[فصلت 13] فأمسك عتبة بيده على في النبي صلى الله عليه وسلم وناشده الرحم أن يكف ،وفي رواية فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ وعتبة مصغ ملق يديه خلف ظهره معتمد عليهما حتى انتهى إلى السجدة فسجد النبي صلى الله عليه وسلم وقام عتبة لا يدري بما يراجعه ويرجع إلى أهله ولم يخرج إلى قومه حتى أتوه فاعتذر لهم وقال: والله لقد كلمني بكلام والله ماسمعت أذناي بمثله قط فما دريت ما أقول له.

ومن وجوه إعجازه المعدودة كونه آية باقية لاتعدم مابقيت الدنيا مع تكفل الله بحفظه فقال:{إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} وقال{لا يأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه} الآية.وسائر معجزات الأنبياء قد انقضت بإنقضاء أوقاتها فلم يبق إلا خبرها.والقرآن العزيز الباهرة آياته،الظاهرة معجزاته،على ماكان عليه اليوم مدة خمسة مائة عام وخمس وثلاثين سنة لأول نزوله إلى وقتنا هذا حجته قاهرة،ومعارضته ممتنعة،والأعصار كلها طافحة بأهل البيان، حملة علم اللسان،وأئمة البلاغة، وفرسان الكلام وجهابذة البراعة،والملحد فيهم كثير،والمعادي للشرع عتيد، فمامنهم من أتى بشئ يؤثر في معارضته،ولا ألف كلمتين في مناقضته،ولاقدر فيه على مطعن صحيح، ولاقدح المتكلف من ذهنه في ذلك إلا بزند شحيح، بل المأثور عن كل من رام ذلك إلقاؤه في العجز بيديه،والنكوص على عقبيه”.

ويقول سيد قطب رحمه الله(الظلال ـ سورة الشعراء):

“ولكنه سبحانه لم يشأ أن يجعل مع هذه الرسالة الأخيرة آية قاهرة.لقد جعل آيتها القرآن.منهاج حياة كاملة.معجزاً في كل ناحية:

ـ معجزاً في بنائه التعبيري وتنيسقه الفني،باستقامته على خصائص واحدة،في مستوى واحد،لا يختلف ولا يتفاوت،ولا تتخلف خصائصه كما هو الحال في أعمال البشر.إذ يبدو الارتفاع والانخفاض والقوة والضعف في عمل الفرد الواحد،المتغير الحالات.بينما تستقيم خصائص هذا القرآن التعبيرية على نسق واحد،ومستوى واحد،ثابت لا يتخلف،يدل على مصدره الذي لا تختلف عليه الأحوال.

ـ معجزاً في بنائه الفكري،وتناسق أجزائه وتكاملها،فلا فلتة فيه ولا مصادفة.كل توجيهاته وتشريعاته تلتقي وتتناسق وتتكامل،وتحيط بالحياة البشرية وتستوعبها،وتلبيها وتدفعها،دون أن تتعارض جزئية واحدة من ذلك المنهج الشامل الضخم مع جزئية أخرى،ودون أن تصطدم واحدة منها بالفطرة الإنسانية أو تقصر عن تلبيتها…وكلها مشدودة إلى محور واحد،وإلى عروة واحدة،في اتساق لا يمكن أن تفطن إليه خبرة الإنسان المحدودة.ولابد أن تكون هناك خبرة مطلقة،غير مقيدة بقيود الزمان والمكان.هي التي أحاطت به هذه الإحاطة،ونظمته هذا التنظيم.

ـ معجزاً في يسر مداخله إلى القلوب والنفوس،ولمس مفاتيحها،وفتح مغاليقها،واستجاشة مواضع التأثر والاستجابة فيها،وعلاجه لعقدها ومشكلاتها في بساطة ويسر عجيبين،وفي تربيتها وتصريفها وفق منهجه بأيسر اللمسات،دون تعقيد ولا التواء ولا مغالطة”.

وقال سيد قطب رحمه الله في قوله تعالى:{قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا}[الإسراء 88] يقول رحمه الله:

“فهذا القرآن ليس ألفاظاً وعبارات يحاول الإنس والجن أن يحاكوها،إنما هو كسائر ما يبدعه الله يعجز المخلوقون أن يصنعوه.هو كالروح من أمر الله لا يدرك الخلق سره الشامل الكامل،وإن أدركوا بعض أوصافه وخصائصه وآثاره.

والقرآن بعد ذلك منهج حياة كامل.منهج ملحوظ فيه نواميس الفطرة التي تصرف النفس البشرية في كل أطوارها وأحوالها،والتي تصرف الجماعات الإنسانية في كل ظروفها وأطوارها.

إن إعجاز القرآن أبعد مدى من إعجاز نظمه ومعانيه،وعجز الإنس والجن عن الإتيان بمثله هو عجز كذلك عن إبداع منهج كمنهجه يحيط بما يحيط به”.

وقال فيه الإمام محمد رشيد رضا رحمه الله :

“آية الله الكبرى القرآن العظيم،وهو كتاب لا كالكتب،وهو آية لا كالآيات،هو معجزة المعجزات،هو نورلا كالأنوار،هو سر لا كالأسرار،هو كلام لا كالكلام،هو كلام الله الحي القيوم،فهو معجز للخلق بلفظه ونظمه واسلوبه وهدايته وتأثيره وعلومه”.

وقال فيه الإمام محمد رشيد رضا رحمه الله(مجلة المنار العدد455):

“القرآن كلام الله المعجز للخلق في أسلوبه ونظمه، وفي علومه وحكمه،وفي تأثير هدايته، وفي كشفه الحجب عن الغيوب الماضية والمستقبلة،وفي كل باب من هذه الأبواب للإعجاز فصول،وفي كل فصل منها فروع ترجع إلى أصول،وقد تحدّى محمد رسول الله النبي العربي الأمي العرب بإعجازه، وحكى لهم عن ربه القطع بعجزهم عن الإتيان بسورة من مثله،فظهر عجزهم على شدة حرص بلغائهم على إبطال دعوته،واجتثاث نبتته،ونقل جميع المسلمين هذا التحدي إلى جميع الأمم فظهرعجزها أيضاً.

ويتابع رحمه الله:”لقد حار العلماء في كشف حجب البيان عن وجوه إعجاز القرآن،بعد أن ثبتت عندهم بالوجدان والبرهان،حتى قال بعضهم إن الله تعالى قد صرف عنه قدَر القادرين على المعارضة بخلق العجز في أنفسهم وألسنتهم،وذلك أن إدراك كنه العجز والإحاطة بأسبابه وأسراره ضرب من ضروب القدرة، والمقام مقام عجز مطلق،فالقرآن في البيان والهداية كالروح في الجسد،والأثير في المادة،والكهرباء في الكون،تعرف هذه الأشياء بمظاهرها وآثارها، ويعجز العارفون عن بيان كنهها وحقيقتها،وفي وصف ماعرف منها أو عنها لذة عقلية لايستغني عنها،كذلك ماعرف من أسباب عجز العلماء والبلغاء عن الإتيان بسورة مثل سور القرآن في الهداية أو الأسلوب أو حسن البيان،فيه لذات عقلية وروحية، وطمأنينة ذوقية وجدانية،تتضاءل دونها شبهات الملحدين،وتهزم من طريقها تشكيكات الزنادقة والمرتابين”.

وقال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله(مجلة المنار العدد69 بتاريخ 29 تموز عام 1899م):

“بماذا نحيا؟ لا حياة لنا إلا بما حيي به أسلافنا من قبل وما كانت حياتهم إلا بروح القرآن.أترون من البعيد أن تعود إلينا حياتنا بهذا الروح الشريف؟كيف وقد عاش آباؤنا الأولون بالستقاء من ينبوعه المتفجر من عين الحياة الأزلية الأبدية وإنما متنا بترك الاستقاء منه اكتفاءً بالوشل الآجن الذي ينضح من آنية أمثالنا المخلوقين.إن القرآن قد صارع الهمجية العربية فصرعها وغالب جيوش الوثنية فغلبها وزرع فسيل المدنية الفضلى في تلك الأرض التي كانت معشوشبة بجميع الأعشاب الخبيثة فاجتث هذه الأعشاب وأنمى ذلك الفسيل فكان أدواحاً عظيمة من كل زوج بهيج.

اشتهر عند مشركي العرب أن القرآن ما خالط قلباً إلا وجذبه إلى الحنيفية وقاده إلى جنة الإسلام بسلاسل الإقناع والبرهان فحملهم الحرص على عقائدهم وحب البقاء على تقاليدهم على مقاواته بما يمكنهم فكان أمثل رأي ارتأوه في ذلك ما قصه الله علينا بقوله{وقالوا لا تسمعوا لهذا القرآن وألغوا فيه لعلكم تغلبون}[فصلت 26] رأوا عدم السماع له بالمرة وهو رأي الجبناء في الهزيمة ورأوا مقابلته باللغو واللغط لئلا يسبق منه إلى الأذهان شيء فيقتادها إلى ما لم يكن من مرادها وإن كان فيه هدايتها ورشادها ولم يكونوا مع هذا على ثقة من الغلب وإنما هو الأمل والرجاء. وبلغ من عدائهم للقرآن ما قصه الله تعالى {وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم}.[الأنفال 32].

إن الحياة التي تفيض علينا أمواها من أنابيب القرآن تكفل لنا سعادة الدارين وتمنحنا الفوز بالحسنيين ولا نعلم ديناً جمع بين مصالح الروح والجسد ومنافع الدنيا والآخرة على وجه الكمال إلا دين القرآن الذي علمنا أن ندعو الله تعالى بقوله{ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار}[البقرة 201].ويقول نبي هذا الدين محمد صلى الله عليه وسلم:”اليد العليا خير من اليد السفلى”[أخرجه الشيخان والنسائي عن حكيم بن حزام].ويقول:“إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس”.[متفق عليه عن سعد بن أبي وقاص]

وقال فيه الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله(مجلة المنار العدد458 و459):

“إعجاز القرآن قد ثبت بالفعل،وتواتر فيه النقل،وحسبك منه وجود مالايحصى من المصاحف في جميع الأقطار التي يسكنها المسلمون وكذا في غيرها ووجود الألوف من حفاظه في مشارق الأرض ومغاربها وهي تحكي لنا هذه الآيات في التحدي بإعجاز،ولو وجد له معارض أتى بسورة مثله لتوفرت الدواعي على نقلها بالتواتر أيضاً، بل لكانت فتنة ارتد بها المسلمون على أدبارهم.ووجوه الإعجاز في القرآن الكريم:

! ـ إعجاز القرآن بأسلوبه ونظمه:

وهو اشتماله على النظم الغريب،والوزن العجيب،والأسلوب المخالف لما استنبطه البلغاء من كلام العرب في مطالعه وفواصله ومقاطعه.

ولعمري ان مسألة النظم والأسلوب لإحدى الكبر،وأعجب العجائب لمن فكر وابصر،ولم يوفها أحد حقها،على كثرة ما أبدوا وأعادوا فيها،وما هو بنظم واحد ولا بأسلوب واحد،وإنما هو مائة أو أكثر:القرآن مائة وأربع عشرة سورة متفاوتة في الطول والقصر: من السبع الطوال التي تزيد السورة فيه على المائة وعلى المائتين من الآيات ـ إلى السور المئين ـ إلى الوسطى من المفصل إلى مادونها من العشرات فالآحاد كالثلاث الآيات فما فوقها، وكل سورة منها تقرأ بالترتيل المشبه للتلحين، المعين على الفهم المفيد للتأثير،على اختلافها في الفواصل وتفاوت آياتها في الطول والقصر،فمنها المؤلف من كلمة واحدة ومن كلمتين ومن ثلاث،ومنها المؤلف من سطر أو سطرين أو بضعة أسطر، ومنها المتفق في أكثر الفواصل أو كلها،ومنها المختلف في السورة الواحدة منها،وهي على مافيها متشابه وغير متشابه في النظم، متشابه كلها في مزج المعاني العالية بعضها ببعض،من صفات الله تعالى واسمائه الحسنى، وآياته في الأنفس والآفاق،والحكم والمواعظ والأمثال، وبيان البعث والمآل، ودار الأبرار ودار الفجار،والاعتبار بقصص الرسل والأقوام، وأحكام العبادات والمعاملات والحلال والحرام.

2 ـ إعجاز القرآن ببلاغته:

بلاغته التي تقاصرت عنها بلاغة سائر البلغاء قبله وفي عصر تنزيله وفيما بعده،ولم يختلف أحد من أهل البيان في هذا،وإنما أورد بعض المخالفين بعض الشبه على كون بلاغة كل سورة من قصار سوره بلغت حد الإعجاز فيه، والقائلون به لايحصرون إعجاز كل سورة فيه،ويتحقق التحدي عندهم بإعجاز بعض السور القصيرة بغيره.كأخبار الغيب في سورة الكوثر التي هي اقصر سوره، على أن مسيلمة تصدى لمعارضتها بمحاكاة فواصلها، فجاء بخزي كان حجة على عجزه وصحة إعجازها.

فمعرفة مكانة القرآن من البلاغة لايحكمها من الجهة الفنية والذوقية إلا من أوتي حظاً عظيماً من مختار كلام البلغاء المنظوم والمنثور،من مرسل ومسجوع،حتى صار ملكة له وذوقا،واستعان على فهم فلسفته بمثل كتابي عبد القاهر الجرجاني والصناعتين لأبي هلال العسكري والخصائص لإبن جني،وأساس البلاغة للزمخشري، ومغني اللبيب لإبن هشام هذه مقدمات البلاغة ونتيجتها الملكة ولها غاية يمكن العلم بها من التاريخ، وهي ماكان للقرآن من التأثير في الأمة العربية، ثم فيمن حذقها من الأعاجم أيضا.

3 ـ إعجاز القرآن بما فيه من علم الغيب:

وهو اشتماله على الأخبار بالغيب من ماض كقصص الرسل مع أقوامهم، ومن حاضر في عصر تنزيله، كقوله تعالى:{آلم* غُلبت الرُّوم* في أدنى الأرضِ وهُم من بعدِ غَلَبِهم سَيغلبون*في بضعِ سِنينَ لله الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ ويومئذٍ يفرح المؤمنون* بنصرِ الله ينصر من يشاء وهو العزيزُ الرّحيم}[الروم 1 ـ 5]وفيها خبران عن الغيب ظهر صدقهما بعد بضع سنين من نزول الآية. ومنها قوله تعالى:{لقد صَدقَ اللهُ رَسولَهُ الرؤيا بالحقِّ لَتَدخُلُنّ المسجدَ الحرامَ إن شاء اللهُ آمنينَ مُحَلّقين رؤوسَكُم ومُقَصِّرينَ لاتخافون}[الفتح 27].

ومن أظهر هذه الأخبار وعده تعالى بحفظ القرآن من النسيان والتغيير والتبديل في قوله:{إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}[الحجر9].ووعده بحفظ الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله:{والله يعصمك من الناس} وغيرها كثير.

يقول سيد قطب رحمه الله في الآية 9 من سورة الحجر:

“وننظر نحن اليوم من وراء القرون إلى وعد الله الحقّ بحفظ هذا الذكر،فنرى فيه المعجزة الشاهدة بربانية هذا الكتاب،ونرى أن الأحوال والظروف والملابسات والعوامل التي تقلبت على هذا الكتاب في خلال هذه القرون ما كان يمكن أن تتركه مصوناً محفوظاً لا تتبدل فيه كلمة،ولا تحرف فيه جملة،لولا أن هناك قدرة خارجة عن إرادة البشر،أكبر من الأحوال والظروف والملابسات والعوامل،تحفظ هذا الكتاب من التغيير والتبديل،وتصونه من العبث والتحريف.

لقد كان هذا الوعد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجرد وعد.أما هذا اليوم من وراء تلك الأحداث الضخام،ومن وراء كل تلك القرون الطوال فهو المعجزة الشاهدة بربانيّة هذا الكتاب والتي لا يُماري فيها إلا عنيد جهول”.

فهذه الأخبار الكثيرة بالغيب دليل واضح على نبوة نبينا وكون القرآن من عند الله تعالى إذ لايعلم الغيب غيره سبحانه.

4 ـ إعجاز القرآن بسلامته من الاختلاف:

سلامته على طوله من التعارض والتناقض والاختلاف خلافاً لجميع كلام البشر وهو المراد بقوله تعالى:{ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} وإننا نجد كبار العلماء في كل عصر يصنفون الكتاب فيسودون،ثم يصححون ويبيضون،ثم يطبعون وينشرون، ثم يضهر لهم ولغيرهم كثير من التعارض والاختلاف والأغلاط اللفظية والمعنوية لاسيما إذا طال الزمان، وهذا أمر مشهور في جميع الأمم.

5 ـ إعجاز القرآن بالعلوم الدينية والتشريع:

وهو اشتماله على العلوم الإلهية، وأصول العقائد الدينية،وأحكام العبادات، وقوانين الفضائل والآداب،وقواعد التشريع السياسي والمدني والاجتماعي، الموافقة لكل زمان ومكان،وبذلك يفضل كل ماسبقه من الكتب السماوية،ومن الشرائع الوضعية،ومن الآداب الفلسفية،كما يشهد بذلك أهل العلم المنصفون من جميع الأمم الشرقية والغربية.

6 ـ إعجاز القرآن بعجز الزمان عن إبطال شئ منه:

إن القرآن يشتمل على بيان كثير من آيات الله تعالى في جميع أنواع المخلوقات من الجماد والنبات والحيوان والإنسان ويصف خلق السموات وشمسها وقمرها ودراريها ونجومها والأرض والهواء والسحاب والماء من بحار وأنهار وعيون وينابيع،وفيه تفصيل لكثير من أخبار الأمم، وبيان لطريق التشريع السوي،وقد حفظ ذلك كله فيه بكلمه وحروفه منذ ثلاثة عشر قرنا ونيف،ثم عجزت هذه القرون، التي ارتفعت فيها جميع العلوم والفنون، أن تنقض بناء آية من آياته،أو تبطل حكماً من أحكامه،أو تكذب خبراً من أخباره، وهي التي جعلت فلاسفة اليونان دكاً،ونسخت شرائع الأمم نسخاً،وتركت سائر علوم الأوائل قاعاً صفصفا.

7 ـ إعجاز القرآن بتحقيق مسائل كانت مجهولة للبشر:

وهو اشتمال القرآن على تحقيق كثير من المسائل العلمية والتاريخية التي لم تكن معروفة في عصر نزوله ثم عرفت بعد ذلك بما انكسف للباحثين والمحققين من طبيعة الكون وتاريخ البشر وسنن الله في الخلق”.

ويتابع الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله واسكنه فسيح جنانه(مجلة المنار العدد 461 بتاريخ 29 حزيران عام 1927م):

“إن ما أيد الله تعالى به رسله من الآيات الكونية كان مناسباً لحال زمان كل منهم وأهله،وقامت الحجة على من شاهد تلك الآيات في عهده،ثم على من صدق المخبرين من بعده،وقد علم الله تعالى أن سلسلة النقل ستنقطع، وأن ثقة بعض المتأخرين به ولاسيما بعد انقطاع سلسلته ستضعف،وأن دلالتها على الرسالة ستنكر، فجعل الآية الكبرى على إثبات رسالة خاتم النبيين علمية دائمة لاتنقطع، وهي هذا الكتاب المعجز للخلق بما فيه من أنواع الإعجاز السبعة التي ذكرناها، وبيّنا أن كل واحد منها آية لمن ألقى السمع وهو شهيد، وكان مستقلاً مطلقاً من أسر النظريات المادية وقيود التقليد.إذ لايتصور عاقل يؤمن برب العالمين أن يصدر هذا الكتاب المشتمل على هذا القدر العظيم من المعاني، في هذا الأسلوب البديع والنظم المنيع من المباني،من رجل أمي ولامتعلم أيضاً، إلا أن يكون وحياً اختصه به الرب عزّ وجلّ،ناهيك به وقد جزم بعجز الإنس والجن عن أن يأتوا بمثله،ثم تحداهم بأن يأتوا بسورة من مثله، فهذا التحدي حجة مستقلة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بصرف النظر عن المتحدي به ماهو،وكل نوع من تلك الأنواع السبعة الثابتة للقرآن حجة مستقلة في نفسها،وحجة أنهض وأقوى باعتبار أمية من جاء بها”.

ويقول الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله(مجلة المنار العدد 503 بتاريخ الأول من تموز عام 1932م):

“هو كتاب لا كالكتب،هو آية لا كالآيات،هو معجزة لا كالمعجزات،هو نور لا كالأنوار،هو سر لا كالأسرار،هو كلام لا كالكلام،هو كلام الله الحي القيوم الذي ليس لروح القدس جبريل الأمين عليه السلام منه إلا نقله بلفظه العربي من الأفق الأعلى إلى هذه الأرض،ولا لمحمد رسول الله وخاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله منه إلا تبليغه للناس ليهتدوا به،فهو معجز للخلق بلفظه ونظمه واسلوبه وعلومه وهدايته.

فمن كان يؤمن بان للعالم رباً عليماً حكيماً مريداً فاعلاً مختاراً فلا مندوحة له ولا مناص من الإيمان بأن هذا القرآن وحي من لدنه عز وجل أنزله على خاتم أنبيائه المرسلين رحمة بهم ليهتدوا به إلى تكميل فطرتهم،وتزكية أنفسهم،وإصلاح مجتمعهم من المفاسد التي كانت عامة لجميع أممهم، فيكون أتباع محمد صلى الله عليه وسلم فرضاً غلهياً لازباً عاماً كما قال تعالى:{قل يا أيُّها النَّاس ُإنّي رسولُ الله إليكم جميعاً الذي له ملكُ السّمواتِ والأرضِ لا إله إلا هو يُحيي ويُميت فآمنوا بالله ورسولهِ النّبي الأمّي الذي يؤمنُ بالله وكلماتهِ واتبعوه لعلكم تهتدون}[الأعراف 158].

ويتابع رحمه الله:” فالقرآن كتاب أنزل على قلب رجل امي نشأ على الفطرة البشرية سليم العقل صقيل النفس طاهر الاخلاق لم تملكه تقاليد دينية ولا أهواء دنيوية لأجل إحداث ثورة وانقلاب كبير في العرب فسائر الامم يكتسح من العالم الإنساني ما يدنس فطرته من رجس الشرك والوثنية الذي هبط بهذا الإنسان من أفقه الاعلى في عالم الارض إلى عبادة مثله وما هو دونه من هذه المخلوقات،وما أفسد عقله وذهب باستقلال فكره من البدع الكنسية، والتقاليد المذهبية،التي أحالت توحيد الأنبياء الأولين شركاً وحقهم باطلاً،وما أفسد بأسه، وأذل نفسه، وسلبه إرادته، من استبداد الملوك الظالمين،والرؤساء القاهرين،ثورة تحرر العقل البشري والإرادة الإنسانية من رق المنتحلين لأنفسهم صفة الربوبية أو النيابة عنها في التحكم في الناس واستذلالهم،فيكون كل امرئ حراً كريماً في نفسه،عبداً خالصاً لربه وإلهه،ويوجه قواه العقلية والبدنية إلى تكميل نفسه وجنسه”.

ويقول فيه الجاحظ(نقلاً عن مجلة المنار للشيخ محمد رشيد رضا العدد 282):

“سلك أئمة البلاغة في الكلام عن إعجاز القرآن الحكيم سبلاً عديدة وذهبوا مذاهب مختلفة في تبيين وجوه الإعجاز وبيان أساليب التحدي وكان الباقلاني أكثرهم إيفاء للكلام في كتابه(إعجاز القرآن) الذي جعله خاصاً بهذا الموضوع. بيد أن الجاحظ وهو إمام الكتاب ورئيس المنشئين سلك سبيلاً أخرى في كلامه عن إعجاز القرآن فإنه لم يتعرض إلى دقائق الفصاحة وفلسفة البلاغة وبيان مناحي الكلام ومسالك النظم والنثر بل تكلم عن الإعجاز باعتبار كونه ثابتاً واقعاً وإليك كلامه:

“بعث الله محمداً عليه الصلاة والسلام في زمن أكثر ما كانت العرب فيه شاعراً وخطيباً،وأحكم ما كانت لغة،وأشد ما كانت عدة،فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد الله وتصديق رسالته،فدعاهم بالحجة فلما قطع العذر وأزال الشبهة،وصار الذي يمنعهم من الإقرار الهوى والحمية دون الجهل والحيرة،نصب لهم الحرب ونصبوا له،قتل من عِليتهم وأعمامهم وبني أعمامهم،وهو في ذلك يحتج عليهم بالقرآن،ويدعوهم صباح مساء إلى معارضته ـ إن كان كاذباً ـ بسورة واحدة أو بآيات يسيرة، فكلما أراد تحدّيا بها وتقريعاً لهم بعجزهم عنها قالوا له أنت تعرف من أخبار الأمم مالا نعرف فلذلك يمكنك مالا يمكننا.

قال فهاتوا ولو مفتريات،فلم يرم ذلك خطيب ولا طمع فيه شاعر،ولو طمع فيه لتكلفه ولو تكلفه لظهر ذلك ولو ظهر لوجد من يستجيده ويحامي عليه ويكابر فيه ويزعم أنه قد عارض وناقض،فدل ذلك العاقل على عجز القوم من كثرة كلامهم وسهولة ذلك عليهم وكثرة شعرائهم وكثرة من هجاه منهم،وعارض الشعراء من أصحابه والخطباء من أمته،لأن سورة واحدة وآية يسيرة كانت أنقص لقوله، وأبلغ في تكذيبه،وأسرع في تفريغ أتباعه عن بذل النفوس والخروج عن الأوطان وإنفاق الأموال.

وهذا من جليل التدبير الذي لايخفى على من هو دون قريش والعرب في الرأي والنبل بطبقات،ولهم القصيد العجيب والرجز الفاخر،والخطب الطوال البليغة والقصار الموجزة ولهم الأسجاع واللفظ المنثور،ثم يتحدى به أقصاهم،بعد أن ظهر به عجز أدناهم،فمحال ـ أرشدك الله ـ أن يجتمع هؤلاء كلهم في الأمر الظاهر،والخطاب المكشوف البين،مع التقريع بالتقصير،والتوقيف على العجز،وهم أشد الخلق أنفة وأكثرهم مفاخرة،والكلام سيد أعمالهم،وقد احتاجوا إليه والحاجة تبعث على الحيلة في الأمر الغامض،فكيف بالظاهر الجليل المنفعة،كما أنه محال أن يطيقوه ثلاثاً وعشرين سنة على الغلط في الأمر الجليل المنفعة، فكذلك محال أن يتركوه وهم يعرفونه،ويجدون السبيل وهم يبذلون أكثر منه”.

وقال فيه الأستاذ مصطفى صادق الرافعي رحمه الله (إعجاز القرآن ص29):

“آياتٌ منزلة من حول العرش،فالأرض بها سماء هي منها كواكب،بل الجند الإلهي قد نشر له من الفضيلة علم وانضوت إليه من الأرواح مواكب،أغلقت دونه القلوب فاقتحم أقفالها،وامتنعت عليه”أعراف” الضمائر فابتزّ”أنفالها”. وكم صدوا عن سبيله صداً، ومن ذا يدافع السيل إذا هدر؟واعترضوه بالألسنة رداً،ولعمري من يرد على الله القدر؟وتخاطروا له بسفهائهم كما تخاطرت الفحول بأذناب،وفتحوا عليه من الحوادث كلَّ شدق فيه من كل داهية ناب.فما كان إلا نور الشمس:لايزال الجاهل يطمع في سرابه ثم لايضع منه قطرة في سقائه،ويلقى الصبيّ غطاءه ليخفيه بحجابه ثم لايزال النور ينبسط على غطائه.

ويتابع رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه:

“ألفاظ إذا اشتدّت فأمواج البحر الزاخرة،وإذا هي لانت فأنفاس الحياة الآخرة،تذكر الدنيا فمنها عمادها ونظامها،وتصف الآخرة فمنها جنتها وضرامها،ومتى وعدت من كرم الله جعلت الثغور تضحك في وجوه الغيوب،وإن أوعدت بعذاب الله جعلت الألسنة تُرعد من حمّى القلوب.

“ومعان بينا هي عذوبة تُرويك من ماء البيان،ورقة تستروح منها نسيم الجنان، ونور تبصر به في مرآة الإيمان وجه الأمان…وبينا هي ترف بندى الحياة على زهرة الضمير،وتخلق في أوراقها من معاني العبرة معنى العبير،وتهب عليها بأنفاس الرحمة فتَنم بسر هذا العالم الصغير.

“وبينا هي تتساقط من الأفواه تساقط الدموع من الأجفان،وتدع الفلب من الخشوع كأنه جنازة ينوح عليها اللسان،وتمثل للمذنب حقيقة الإنسانية حتى يظن أنه صنف آخر من الإنسان إذ هي بعد ذلك إطباق السحاب وقد انهارت قواعده والتمعت ناره وقصفت في الجو رواعده، وإذا هي السماء وقد أخذت على الأرض ذنْبَها،واستأذنت في صدمة الفزع ربها، فكادت ترجف الراجفة تتبعها الرادفة: وإنما هي عند ذلك زجرةٌ واحدة:،فإذا الخلق طعام الفناء، وإذا الأرض “مائدة”.

ويقول الأستاذ مصطفى صادق الرافعي رحمه الله(إعجاز القرآن ص13):

“ولكنه مع ذلك كتابٌ،أي كلام ومعانٍ تتسع لكل الأزمنة وتحتمل اختلافها الذي تختلف به ثم هي تحدّدُ هذا الاختلاف فتردّهُ إلى القانون الإنساني الأعلى الذي يسري فيه اليقين العامُّ ليحفظ الإنسانية على أهلها،ومن ثم تراه يجمع في نفسه الثبات الزمني، فلايتغير ولايتبدل على مايمتد الزمن ويتغير،ثم يجمع إلى ذلك لكل جيل قوة التأويل في معانيه الحادثة الصحيحة،وقوة التكوين في آدابه الصالحة القوية كأنه ليس من زمن مضى،ولا كان لأمة سلفت،ولاهو لتاريخ وقع وانقطع،فإذا أنت تدبرت هذا واستدللت عليه بما أظهره هذا الجيل العلمي في القرآن مما وافق الحقائق الطبيعية والكونية والاجتماعية فلن يأتي لك من ذلك إلا معنى واحد تستخرجه وتقع به،وهو أن هذا الكتاب الكريم أثر غيبي كان في علم الله قبل كل الأزمنة، فهو يحويها كلها وكأنه يوجد معها كلها،وبذلك يتعين أنه هداية إلهية في أسلوب إنساني يحمل في نفسه دليلَ إعجازه،ويكون القرآن منفرداً في التاريخ بأنه منذ أنزِلَ لايبرحُ في كل عصر يظهر من ناحيتين صادقتين: ناحية الماضي، وناحية الحاضر”.

ويقول الأستاذ مصطفى صادق الرافعي رحمه الله(إعجاز القرآن ص33):

“أنزل هذا القرآن مُنَجمّاً في بضع وعشرين سنة،فربما نزلت الآية المفردة،وربما نزلت آيات عدّة إلى عشر،كما صح عن أهل الحديث فيما انتهى إليهم من طرق الرواية،وذلك بحسب الحاجة التي تكون سبباً في النزول، وليثبت به فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم، فإن آياته كالزلازل الروحية،ثم ليكون ذلك أشدّ على العرب وأبلغ الحجة عليهم وأظهر لوجه إعجازه وأدعى لأن يجري أمره في مناقلاتهم ويثبت في ألسنتهم ويتسلسل به القول.

ولولا نزوله متفرقاً:آية واحدة إلى آيات قليلة،ما أفحهم الدليل في تحدّيهم بأقصر سورة منه.إذ لو أنزل جملة واحدة كما سألوا لكان لهم في ذلك وجه من العذر يُلبس الحق بالباطل،وينفِّس عليهم أمر الإعجاز.ويهون في أنفسهم من الجملة بعضَ مالايهون من التفصيل، لأنهم قوم لايقرءون ولايتدارسون،ولكن الآية أو الآيات القصيرة تنزل في زمن يعرفون مقداره بما ينزل في عقبها ثم هم يعجزون عن مثلها في مثل هذا الزمن بعينه،وفيما يربو عليه ويُضعف،وعلى انفساح المدة وتراخي الأيام بعد ذلك إلى نفس من الدهر طويل ـ أمر هو يشبه في مذهب الإعجاز أن يكون دليل التاريخ عليه وأنه ليس في طبعهم البتةَ لاقوةً ولاحيلةً، فإن العجز عن صنع المادة لايثبت في التاريخ إلا إذا ثبتت مدة صنعها على وجه التعيين بأي قرينة من القرائن التاريخية”.

وقال الأستاذ عباس محمود العقاد رحمه الله(المجموعة الكاملة المجلد السادس ص197):

“فعندي أن وجه الإعجاز في كتاب رب العالمين يرجع إلى خلود الرسالة التي جاء بها هذا الكتاب،وما فيه من هدى ونور وصلاح وإصلاح للبشرية جمعاء في إسعاد الفرد والجماعة.

ووجه الإعجاز في هذا الكتاب الكريم يرجع أيضاً إلى ما أحدثه في حياة العرب من رقي ورفعة وإلى ما أحدثه أيضاً في حياة المسلمين من ثورة،وأنه لم يقف في سبيل العقل الإنساني بل حثّه على النظر والفكر والتدبير واستجلاء الأسرار والعمل لما فيه الخير في الدنيا والآخرة.وهذا الإعجاز أيضاً يرجع إلى ما أوجده من ترق للأمة العربية على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والأمة الإسلامية في ابان نشأتها وظهورها، وعلى مدار العصور والأزمان”.

ويقول رحمه الله (نفس المرجع السابق ص547):

“وكل ما يجب على المسلم ان يؤمن به،أن كتابه الإلهي يأمر بالبحث والتفكير ولاينهاه عنه ولا يصده عن النظر والتأمل في مباحث الوجود وأسرار الطبيعة وخفايا المجهول كيفما كان،ولكنه لا يأمره بالتماس التوفيق بين نصوصه وبين نظريات العلوم كلما ظهرت منها نظرية بعد نظرية يحسبها العلماء ثابتة مقررة وهي عرضة بعد قليل للنقض أو التعديل، بل لا يأمره الكتاب بالتوفيق بين الكيفيات التي يفهمها العلم والكيفيات التي يقدرها العقل لفهم المسائل الكونية في بداءتها الأولى ونهايتها الأخيرة بين طوايا الغيب المجهول..لأنه لاينبغي أن يعلم ـ عقلاً وعلماً وإيماناً ـ بأن اليوم إذا نسب إلى الإله أو نسب إلى عمر الكون لن يفهم منه أنه يوم من أيام عمر الإنسان، قبل أن يوجد،وقبل أن توجد الأرض التي خلق عليها الإنسان”.

ويقول فيه إمام الدعاة الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله:

“معجزة القرآن الكريم هي معجزة خالدة باقية إلى يوم القيامة…والقرآن خاتم الكتب السماوية…ليس له عصر معين في إعجازه ولازمن محدد في تحديد للبشرية كلها…وهو لم يأت ككتاب علم…هذه حقيقة يجب أن نضعها في أذهاننا..ولكنه في نفس الوقت جاء كمعجزة خالدة باقية…ومن هنا فإن فيه إعجازاً لكل العصور…إعجازاً لمن عاشوا قبلنا وإعجازاً لعصرنا هذا وإعجازاً لمن سيأتون بعدنا..حتى تنتهي الدنيا وما فيها..والقرآن جاء لينذر من كان حيّاً..ومن هنا فإنه موجه إلى الأحياء..وتحديه هو بالنسبة لمن يقيمون على هذه الأرض…وليس لمن انتقلوا منهالا إلى العالم الآخر…فأولئك يرون عين اليقين..ويعرفون الحق بعد مغادرتهم الدنيا..ويتابع رحمه الله:”ومعجزة النبي صلى الله عليه وسلم وهي القرآن وهو صفة من صفات الله وهي كلامه…والفعل باق بإبقاء الفاعل له…والصفة باقية ببقاء الفاعل نفسه.

ومن هنا كانت هناك معجزات للقرآن..وقت نزوله وفي خلال فترة نزوله وبعد نزوله…وهي مستمرة حتى يومنا هذا وستستمر إلى قيام الساعة لتظهر لنا آيات الله في الأرض.

ويتابع رحمه الله:

“القرآن مزق حواجز الغيب ،حينما جاء القرآن تحدى في أشياء كثيرة،أولها أنهى مزق حواجز الغيب…مزق حواجز الزمان والمكان،كيف ذلك؟حواجز الغيب ثلاثة:أولها حاجز المكان،أي أن أشياء تحدث في نفس اللحظة،ولكن لا أعرف عنها شيئاً،لأنها تحدث في مكان وأنا موجود في مكان آخر،ثم هناك حاجز الزمان الماضي وهو شىء حجبه عني زمن مضى،فأنا لم أشهدع،وحاجز المستقبل وهو ما سيحدث غداً…لأن حاجز الزمان المستقبل قد حجب عني فلم أشهده.إذن فحواجز الغيب ثلاثة:حاجز المكان،وحاجز الزمان الماضي،وحاجز الزمن المستقبل…إذا قرأنا القرآن وجدنا أنهى يمزق حاجز الزمان الماضي فيخبرنا بما حدث للأمم السابقة ويروي لنا قصص الرسل السابقين،ويحكي لنا أشياء لم يكن أحد يعرفها.وعلى لسان من؟على لسان نبي أمي لا يقرأ ولا يكتب،يحكي إذاً أسرار الماضي ويتحدى الذين يكذبون.مزق له الله حجاب وحاجز الزمن الماضي.

ثم جاء الأمر الثاني فمزق الله حجاب المكان لمحمد عليه الصلاة والسلام وجاء في أمر من أدق الأمور وهو حديث النفس..فالقرأن يقول لهم لقد هتكت حاجز الماضي وأخبرتكم بأنباء الأولين ويقول لهم سأهتك حاجز النفس وأخبركم بما في أنفسكم،بما في داخل صدوركم،بما لم تهمس به شفاهكم،وكان يكفي لكي يكذبوا محمداً أن يقولوا لم تحدثنا أنفسنا بهذا،لو لم يقولوها بالفعل داخل أنفسهم لكان ذلك أكبر دليل لكي يكذبوا محمداً ويعلنوا أنه يقول كلاماً غير صحيح،إذاً فالقرآن في هتكه لحجاب المكان،دخل إلى داخل النفس البشرية،وإلى داخل نفوس من …إلى داخل نفوس غير المؤمنين الذين يهمهم هدم الإسلام،وقال في كلام متعبد بتلاوته لن يتغير ولايتبدل:{ألم ترَ إلى الذين نُهوا عن النَّجوى ثمَّ يعودونَ لما نُهوا عنهُ ويتناجونَ بالإثمِ والعدوانِ ومعصيةِ الرسولِ  وإذا جاءوكَ حيَّوكَ بما لم يُحيَّكَ به اللهُ ويقولونَ في أنفسهِم لولا يُعذبُنا الله بما نقولُ حَسبهُم جهنمُ يصلونَها فبئسَ المصيرُ}المجادلة 8].

النفس البشرية وهي من أدقّ أسرار الدنيا التي لم يستطع على أن يصل إليها حتى الآن فإذا بالقرآن يأتي متحدياً بكلام متعبد به إلى يوم القيامة نلايستطيع أحد تبديل حرف فيه ليكشف ما في داخل النفس،ويعري ماتكتمه عن الناس جميعاً،وما هي حريصة على كتمانه.

ثم بعد ذلك كله مزق القرآن حجاب المستقبل،انظر إلى قوله تعالى:{سيُهزمُ الجمعُ ويُولُّونَ الدُّبُرَ}[القمر 45]،لقد نزلت سورة القمر هذه في مكة والمسلمين قلة،حتى أن عمر بن الخطاب قال: أي جمع هذا الذي سيهزم ونحن لا نستطيع أن نحمي أنفسنا وهكذا يتنبأ القرآن بان الإسلام سينتصر في مكة.والأمثلة متعددة.”.

وقال فيه الشهيد سيد قطب رحمه الله :

“القرآن كتاب دعوة،ودستورنظام،ومنهج حياة،لا كتاب رواية ولا تسلية ولا تاريخ،وفي سياق الدعوة تجئ القصص المختارة بالقدر او بالطريقة التي تناسب الجو والسياق،وتحقق الجمال الفني الصادق،الذي لا يعتمد على الخلق والتزويق،ولكن يعتمد على إبداع العرض وقوة الحق وجمال الأداء”.

وقال فيه أيضاً(الرسالة العدد 987 ـ بتاريخ الثاني من حزيران عام 1952):

“عجيب هذا القرآن!يقرؤه القارىء ويعيده،ويحفظه ويرتله،ويفسره ويفهمه،ويخيل إليه أنه قد استوعب معانيه،وأدرك مراميه،ويمر بالنصوص بعد هذا مراً عابراً،غير متوقع أن يجد فيها جديداً غير ما فهمه منها ووعاه.

وفجأة يتلو أو يستمع فإذا انبثاقات جديدة عجيبة للكلمة وللآية تلتمع في الذهن والحس والقلب،لم تخطر من قبل أبداً،وإذا آفاق من التأملات والمشاعر والتأثيرات تتفتح،لا يدري أين كانت مخبوءة في النص الواضح البسيط!

وهكذا يبدو أن رصيد هذا الكتاب العجيب الخالد لا يغني ولا ينتهي،وأن معين الإلهام فيه لا يضمحل ولا يغيض،وأن الدنيا ستظل تكتشف فيه آفاق،كلما استعدت طاقاتها لتلقي ما فيه من إيحاءات:{سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} .[فصلت 53].

ويقول أيضاً رحمه الله في موضع آخر:”إن القرآن ليس كتاباً للتلاوة ولا للثقافة…وكفى..إنما هو رصيد من الحيوية الدافعة،وإيحاء متجدد في المواقف والحوادث!ونصوصه مهيأة للعمل في كل لحظة،متى وجد القلب الذي يتعاطف معه ويتجاوب،ووجد الظرف الذي يطلق الطاقة المكنونة في تلك النصوص ذات السر العجيب”

ويقول أيضاً:”مات القرآن في حسنا..أو نام..ولم تعد له تلك الصورة الحقيقية التي كانت له عند نزوله في حس المسلمين.ودرجنا على أن نتلقاه إما ترتيلاً منغماً نطرب به،أو نتأثر التأثر الوجداني الغامض السارب!وإما أن نقرأهأوراداً اقصى ما تصنع في حس المؤمنين الصادقين منا أن تنشىء في القلب حالة من الوجد أو الراحة أو الطمأنينة المبهمة المجملة.

والقرآن ينشىء هذا كله.ولكن المطلوب ـ إلى جانب هذا كله ـ أن ينشىء في المسلم وعياً وحياة.المطلوب أن ينشىء حالة وعي يتحرك معها القرآن حركة الحياة التي جاء لينشئها”.

ويقول أيضاً:”والحياة في جو القرآن لا تعني مدارسة القرآن وقراءته والإطلاع على علومه..إن هذا ليس”جو القرآن” الذي نعنيه…إن الذي نعنيه بالحياة في جو القرآن:هو أن يعيش الإنسان في جو،وفي ظروف،وفي حركة،وفي معاناة،وفي صراع،وفي اهتمامات…كالتي كان يتنزل فيها هذا القرآن..أن يعيش الإنسان في مواجهة هذه الجاهلية التي تعم وجه الأرض اليوم ،وفي قلبه وفي همه، وفي حركته،أن “ينشىء” الإسلام في نفسه وفي نفوس الناس،وفي حياته وفي حياة الناس ،مرة أخرى في مواجهة هذه الجاهلية.بكل تصوراتها،وكل اهتماماتها،وكل تقاليدها،وكل واقعها العملي،وكل ضغطها كذلك عليه،وحربها له،ومناهضتها لعقيدتها الربانية،ومنهجه الرباني،وكل استجاباتها كذلك لهذا المنهج ولهذه العقيدة،بعد الكفاح والجهاد والإصرار.

هذا هو الجو القرآني الذي يمكن أن يعيش فيه الإنسان،فيتذوق هذا القرآن..فهو في مثل هذا الجو نزل،وفي مثل هذا الخضم عمل..والذين لا يعيشون في مثل هذا الجو معزولون عن القرآن مهما استغرقوا في مدارسته وقراءته والإطلاع على علومه”.

ويقول  الشهيد  سيد قطب  رحمه الله (الظلال ـ سورة الطور):

“إن في هذا القرآن سمواً خاصاً،يشعر به كل من يواجه نصوصه ابتداء،قبل أن يبحث عن مواضع الإعجاز فيها.إنه يشعر بسلطان خاص في عبارات هذا القرآن.يشعر أن هنالك شيئاً ما وراء المعاني التي يدركها العقل من التعبير.وأن هنالك عنصراً ما ينسكب في الحس بمجرد الاستماع لهذا القرآن.يدركه بعض الناس واضحاً ويدركه بعض الناس غامضاً،ولكنه على كل حال موجود.هذا العنصر الذي ينسكب في الحس،يصعب تحديد مصدره،أهو العبارة ذاتها؟أهو المعنى الكامن فيها؟أهو الصور والظلال التي تشعها؟أهو الإيقاع القرآني الخاص المتميز من إيقاع سائر القول المصوغ من اللغة؟أهي هذه العناصر كلها مجتمعة؟أم أنها هي وشىء آخر وراءها غير محدود؟

ذلك سر مودع في كل نص قرآني،يشعر به كل من يواجه نصوص هذا القرآن ابتداء…ثم تأتي وراءه الأسرار المدركة بالتدبر والنظر والتفكير في بناء القرآن كله…

في التصور الكامل الصحيح الذي ينشئه في الحس والقلب والعقل.التصور لحقيقة الوجود الإنساني،وحقيقة الوجود كله،وللحقيقة الأولى التي تنبع منها كل حقيقة.حقيقة الله سبحانه…وفي الطريقة التي يتبعها القرآن لبناء هذا التصور الكامل الصحيح في الإدراك البشري،وهو يخاطب الفطرة،خطاباً خاصاً،غير معهود مثله في كلام البشر أجمعين،وهو يقلب القلب من جميع جوانبه ومن جميع مداخله،ويعالجه علاج الخبير بكل زاوية وكل سر فيه.وفي الشمول والتوازن والتناسق بين توجيهاته كلها،والاستواء على أفق واحد فيها كلها،مما لايعهد إطلاقاً،في أعمال البشر،التي لا تستقر على حالة واحدة،ولا تستقيم على مستوى واحد،ولا تحيط هكذا بجميع الجوانب،ولا تملك التوازن المطلق الذي لا زيادة فيه ولا نقص ،ولا تفريط فيه ولا إفراط،والتناسق المطلق الذي لا تعارض فيه ولا تصادم سواء في ذلك الأصول والفروع.فهذه الظواهر المدركة من أمثالها…مع ذلك السر الخافي الذي لا سبيل إلى انكاره…مما يسيغ على هذا الكتاب سمة الإعجاز المطلق في جميع العصور.وهي مسألة لا يماري فيها إنسان يحترم حسه، ويحترم نفسه،ويحترم الحقيقة التي تطالعه بقوة وعمق ووضوح،حيثما واجه هذا القرآن بقلب سليم{فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين}[الطور 34].

وقال تعالى:{وقال الَّذينَ كفروا لولا نُزِّلَ عليهِ القُرآنُ جُملةً واحدةً كذلكَ لِنُثَبِتَ بهِ فؤادَكَ ورتلناهُ ترتيلاً}[الفرقان 32].

يقول سيد قطب رحمه الله:

“ولقد جاء هذا القرآن ليربي أمة،وينشىء مجت،ويقيم نظاماً.والتربية تحتاج إلى زمن وإلى تأثر وانفعال بالكلمة،وإلى حركة تترجم التأثر والانفعال إلى واقع.والنفس البشرية لا تتحول تحولاً شاملاً بين يوم وليلة بقراءة كتاب كامل شامل للمنهج الجديد،إنما تتأثر يوماً بعد يوم بطرف من هذا المنهج،وتتدرج في مراقيه رويداً رويداً،وتعتاد على حمل تكاليفه شيئاً فشيئاً،فلا تجفل منه كما تجفل لو قدم لها ضخماً ثقيلاً عسيراً.وهي تنمو في كل يوم بالوجبة المغذية فتصبح في اليوم التالي أكثر استعداداً للانتفاع بالوجبة التالية،وأشدّ قابلية لها والتذاذاً بها.

ولقد جاء القرآن بمنهاج كامل.وجاء في الوقت ذاته بمنهاج للتربية يوافق الفطرة البشرية عن علم بها من خالقها.فجاء لذلك مُنجماً وفق الحاجات الحية للجماعات المسلمة وهي في طريق نشأتها ونموها،ووفق استعدادها الذي ينمو يوماً بعد يوم في ظل المنهج التربوي الإلهي الدقيق.

من أجل هذا كله نزل القرآن مفصلاً .يبين أول ما يبين عن منهجه لقلب الرسول صلى الله عليه وسلم ويثبته على طريقه،ويتتابع على مراحل الطريق رتلاً بعد رتل،وجزءاً بعد جزء.

“{كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً}[الفرقان 32]

والترتيل هنا هو التتابع والتوالي وفق حكمة الله وعلمه بحاجات تلك القلوب واستعدادها للتلقي…ولقد حقق القرآن بمنهجه ذاك خوارق في تكييف تلك النفوس التي تلقته مرتلاً متتابعاً،وتأثرت به يوماً بعد يوم،وانطبعت به أثراً أثراً.فلما غفل المسلمون عن هذا المنهج،واتخذوا القرآن كتاب متاع للثقافة،وكتاب تعبد للتلاوةفحسب،لا منهج تربية للانطباع والتكيف،ومنهج حياة للعمل والتنفيذ.لم ينتفعوا من القرآن بشىء،لأنهم خرجوا عن منهجه الذي رسمه العليم الخبير”.

قال تعالى:{ولو أنَّ قرآناً سُيّرتْ بهِ الجبالُ أو قُطّعتْ بهِ الأرضُ أو كُلِمَ به الموتى}[الرعد 31].

يقول سيد قطب رحمه الله:”ولقد صنع هذا القرآن في النفوس التي تلقته،وتكيفت به أكثر من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وإحياء الموتى.لقد صنع في هذه النفوس وبهذه النفوس خوارق أضخم وأبعد آثاراً في أقدار الحياة،بل أبعد أثراً في شكل الارض ذاته.فكم غيّر الإسلام والمسلمون من وجه اارض إلى جانب ما غيّروا من وجه التاريخ؟!

وإن طبيعة هذا القرآن ذاتها.طبيعته في دعوته وفي تعبيره .طبيعته في موضوعه وفي أدائه.طبيعته في حقيقته وفي ؤتأثيره.

إن طبيعة هذا القرآن لتحتوي على قوة خارقة نافذة،يحسها كل من له ذوق وبصر وإدراك للكلام،واستعداد لإدراك ما يوجه إليه ويوحي به.والذين تلقوه وتكيّفوا به سيّروا ما هو أضخم من الجبال،وهو تاريخ الأمم والأجيال،وقطعوا ما هو أصلب من الأرض،وهو جمود الأفكار وجمود التقاليد،وأحيوا ما هو أخمد من الموتى،وهو الشعوب التي قتل روحها الطغيان والأوهام.”.

ويقول فيه أيضاً في الظلال {طسم*تلك آيات الكتاب المبين}[الشعراء 1 ـ 2]:

“ولكنه سبحانه لم يشأ أن يجعل مع هذه الرسالة الأخيرة آية قاهرة.لقد جعل آيتها القرآن.منهاج حياة كاملة معجزاً في كل ناحية:

ـ معجزاً في بنائه التعبيري وتنسيقه الفني،باستقامته على خصائص واحدة،في مستوى واحد لا يختلف ولا يتفاوت،ولا تتخلف خصائصه كما هي الحال في أعمال البشر.إذ يبدو الارتفاع والانخفاض والقوة والضعف في عمل الفرد الواحد،المتغير الحالات.بينما تستقيم خصائص هذا القرآن التعبيرية على نسق واحد،ومستوى واحد،ثابت لا يتخلف،يدل على مصدره الذي لا تختلف عليه الأحوال.

ـ معجزاً في بنائه الفكري،وتناسق أجزائه وتكاملها،فلا فلتة فيه ولا مصادفة…كل توجيهاته وتشريعاته تلتقي وتتناسق وتتكامل،وتحيط الحياة البشرية،وتستوعبها،وتلبيها وتدفعها،دون أن تتعارض جزئية واحدة من ذلك المنهاج الشامل الضخم مع جزئية أخرىنودون أن تصطدم واحدة منها بالفطرة الإنسانية أو تقصر عن تلبيتها…وكلها مشدودة إلى محور واحد وإلى عروة واحدة،في اتساق لا يمكن أن تفطن إليه خبرة الإنسان المحدودة،ولا يمكن أن تكون هناك خبرة مطلقةنغير مقيدة بقيود الزمان والمكان.هي التي أحاطت له هذه الإحاطة ونظمته هذا التنظيم.

ـ معجزاً في يُسر مداخله إلى القلوب والنفوس،ولمس مفاتيحها وفتح مغاليقها،واستجاشة مواضع التأثر والاستجابة فيها،وعلاجه لعقدها ومشكلاتها في بساطة ويسر عجيبين،وفي تربيتها وتصريفها وفق منهجه بأيسر اللمسات،دون تعقيد ولا التواء ولا مغالطة.

لقد شاء الله أن يجعل هذا القرآن هو معجزة هذه الرسالة ولم يشأ أن ينزل آية قاهرة مادية تلوي الأعناق وتخضعها وتضطرها إلى التسليم،ذلك أن هذه الرسالة الأخيرة رسالة مفقتوحة  للأمم كلها،وللأجيال كلها.وليست رسالة مغلقة على أهل زمان أو أهل مكان .فناسب أن تكون معجزتها مفتوحة كذلك للبعيد والقريب.لكل أمة ولكل جيل.والخوارق القاهرة لا تلوي إلا أعناق من يشاهدونها،ثم تبقى بعد ذلك قصة تروى،لا واقعاً يشهد…فأما القرآن فها هو ذا بعد أكثر من ثلاثة عشر قرناً كتاب مفتوح ومنهج مرسوم،يستمد منه أهل هذا الزمان ما يقوم حياتهم ـ لو هدوا إلى اتخاذه إمامهم ـ ويلبي حاجاتهم كاملة،ويقودهم بعدها إلى عالم أفضل وأفق أعلى،ومصير أمثل،وسيجد فيه من بعدنا كثيراً مما لم نجد نحن،ذلك إنه يعطي كل طالب بقدر حاجته،ويبقى رصيده لا ينفد،بل يتجدد ولكن لم يكونوا يفطنون إلى هذه الحكمة الكبرى”.

يقول تعالى:{فلا تُطعِ الكافرينَ وجاهدهم بهِ جهاداً كبيراً}[الفرقان 52].

يقول سيد قطب رحمه الله:

“وإن في هذا القرآن من القوة والسلطان،والتأثير العميق،والجاذبية التي لا تقاوم ما كان يهزُّ قلوبهم هزّاً،ويزلزلُ أرواحهم زلزالاً شديداً، فيُغالبون أثره بكلِّ وسيلةٍ،فلا يستطيعون إلى ذلك سبيلاً”.

ويقول الأستاذ محمد بن لطفي الصباغ رحمه الله:

“وإنّ في القرآن من الحقِّ الفطري لما يصل القلبَ مباشرةً بالنبع الأصيل،فيصعب أن يقف لهذا النبع الفوّار،وأن يصدَّ عنه تدفقُ التيار،وأنّ فيه من مشاهد القيامة،ومن القصص،ومن مشاهد الكون الناطقة،ومن مصارع الغابرين،ومن قوة التشخيص والتمثيل،لما يهزُّ القلوب هزاً لا تملك معه قرارا،وإن السورة الواحدة لتهزّ الكيان الإنساني في بعض الأحيان،وتأخذ على النفس أقطارها ما لا يأخذه جيشٌ ذو عدّة وعتاد.فلا عجب مع ذلك أن يأمر الله نبيّه ألا يطيع الكافرين،وألا يتزحزح عن دعوته،وأن يُجاهد بهذا القرآننفإنما يُجاهدهم بقوة لا يقف لها كيان البشر،ولا يثبت لها جدال أو محال”.

وقال فيه الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله(مجلة الأخوة الإسلامية العدد الأول بتاريخ 21 نوفمبر 1952م):

“فالذي صلح به أول هذه الأمة، حتى أصبح سلفاً صالحاً،هو هذا القرآن الذي وصفه مُنزله بأنه إمام وأنه موعظة،وأنه نور وأنه بيّنات،وأنه برهان وأنه بيان،وأنه هدىً،وأنه فرقان،وأنه رحمة،وأنه شفاء لما في الصدور،وانه يهدي للتي هي أقوم،وأنه لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وأنه قول فصل،وماهو بالهزل.ووصفه من أُنزل على قلبه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، بأنه لايخلق جديده ولايبلى على الترداد ولاتنقضي عجائبه،وبأن فيه نبأ من قبلنا وحكم مابعدنا،ثم هو حجة لنا أو علينا.ويتابع رحمه الله:

“القرآن هو الذي أصلح النفوس التي انحرفت عن صراط الفطرة وحرّر العقول من ربقة التقاليد السخيفة وفتح أمامها ميادين التأمل والتعقّل ثم زكّى النفوس بالعلم والأعمال الصالحة وزيّنها بالفضائل والآداب،والقرآن هو الذي اصلح بالتوحيد ما أفسدته الوثنية،وداوى بالوحدة ماجرحته الفرقة واجترحته العصبية،وسوّى بين الناس في العدل والإحسان فلا فضل لعربي ـ إلا بالتقوى ـ على أعجمي،ولاملك على سوقة إلا في المعروف،ولا لطبقة من الناس فضل مقرّر على طبقة أخرى.والقرآن هو الذي حلّ المشكلة الكبرى التي يتخبّط فيها العالم اليوم ولايجد لها حلاً،وهي مشكلة الغنى والفقر،فحدّد الفقر كما تحدد الحقائق العلمية،وحث على العمل كما يحث على الفضائل العملية،وجعل بعد ذلك التحديد للفقير حقاً معلوماً في مال الغني يدفعه الغني عن طيب نفس لأنه يعتقد أنه قربة إلى الله، ويأخذه الفقير بشرف لأنه عطاء الله وحكمه،فإذا استغنى عنه عافه كما يعاف المحرم. فلا تستشرف إليه نفسه ولاتمتد إليه يده.وكذلك وضع القرآن الحدود بين الحاكمين والمحكومين،وجعل القاعدة في الجميع هذه الآية: :{ومن يتعدّ حدود الله فقد ظلم نفسه}[الطلاق1]،وإن في نسبة الحدود إلى الله لحكمة بالغة في كبح أنانية النفوس.ويتابع:”القرآن إصلاح شامل لنقائص البشرية الموروثة،بل اجتثاث لتلك النقائص من أصولها. وبناء للحياة السعيدة التي لايظلم فيها البشرولايهضم له حق على أساس من الحب والعدل والإحسان.والقرآن هو الدستور السماوي الذي لانقص فيه ولا خلل: فالعقائد فيه صافيةن والعبادات خالصة، والأحكام عادلة،والآداب قويمة،والأخلاق مستقيمة،والروح لايهضم لها فيه حقن والجسم لا يضيع له مطلب. هذا  القرآن هو الذي صلح عليه أول هذه الأمة وهو الذي لايصلح آخرها إلا عليه”

وقال الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله في مقال أخر بعنوان”دولة القرآن” :

“القرآن كتاب الكون،لاتُفسِّره حقَّ التفسير إلا حوادث الكون.والقرآن كتاب الدعوة،لاتكشف عن حقائقه العليا إلا تصاريف الدهر.والقرآن كتاب الهداية الإلهية العامة،فلايفهمه إلا المستعدون لها.والقرآن(لايبلى جديده، ولاتنقضي عجائبه).جاء القرآن لهداية البشر وإسعادهم،والاهتداء به متوقِّف على فهمه فهماً صحيحاً،وفهمه الصحيح متوقف على أمور:منها فقه أسرار اللسان العربي فقهاً ينتهي إلى مايُسمى ملكة وذوقاً،ومنها الإطلاع الواسع على السنة القولية والعملية،التي هي شرح وبيان للقرآن،ومنها استعراض القرآن كله عند التوجه إلى فهم آية منه أو إلى درسها،لأن القرآن كلٌّ لايختلف أجزاؤه،ولايزيغ نظمه،ولا تتعاند حُجَجه،ولا تتناقض بيّناته،ومن ثمَّ قيل: إن القرآن يُفسِّرُ بعضه بعضاً،بمعنى أنَّ مبيِّنه يشرح مجمله،ومُقيَّده يبين المراد من مطلقه،إلى آخر الأنحاء التي جاء عليها القرآن في نظمه البديع،وترتيبه المعجز،ومنها الرجوع في مناحيه لبعضها،وكلُّ هذه الأمور لاتتهيأ إلا لصاحب الفطرة السليمة،والتدبُّر العميق،والقريحة اليقظة،والذهن الصافي،والذكاء الوهاج.ويتابع رحمه الله : “والقرآن حُجَّة على غيره،وليس غيره حجة عليه،فبئس ماتفعله بعض الطوائف الخاضعة للتمذهب من تحكيم الاصطلاحات المذهبية، والآراء الفقهية،أو العقلية فيهنوإرجاعه بالتأويل إليها إذا خالفته.ومن الخطل،بل من الخذلان المفضي بصاحبه إلى مايُستعاذ منه أن يجعل الرأي الاجتهادي غير المعصوم أصلاً،ويجعل القرآن المعصوم فرعاً،وأن يعقد التوازن بين كلام المخلوق وكلام الخالق، إنَّ هذا لهو الضلال البعيد”.

وقال الشيخ محمد البشير الإبراهيمي أيضاً:

“كيف يشقى المسلمون وعندهم القرآن الذي أسعد سلفهم؟أم كيف يتفرقون ويضلون وعندهم الكتاب الذي جمع أولهم على التقوى؟فلو أنهم اتبعوا القرآن وأقاموا القرآن لما سخر منهم الزمان وأنزلهم منزلة الضعة والهوان.

أما أن المسلمين الأولين سعدوا بالقرآن واتباع الرسول فهذا لا مراء فيه.وبهذه الروح القرآنية اندفعت تلك النفوس باصحابها تفتح الآذان قبل البلدان،وتمتلك بالعدل والإحسان الأرواح قبل الأشباح،وتعلن في صراحة القرآن وبيانه حقوق الله على الإنسان،وحقوق الإنسان في ملك الله،وحقوق الإنسان على أخيه الإنسان.إن الذي صنع هذا كله ـ وأبيك ـ للقرآن.

إن القرآن الكريم هو هذه الأحزاب الستون التي نقرأها اليوم بألفاظها وحروفها ونقوشها،منقولاً بالتواتر القطعي،محفوظاً بحفظ الله من كل ما أصاب الكتب السماوية من قبله من النسيان والتبديل وتحريف الكلم عن مواضعه.كبر بتواتره عن الإسناد والمسندين،وشهادة المعدلين والمجرحين ،قد نيّف على ثلاثة عشر قرناً ولم يشك المسلمون في حرف منه فضلاً عن كلمة،وفي الأرض عدد حصاها أعداء له يتمنون بقاصمة الظهر أن لو ينطفىء نوره،ويستسر ظهوره،ويرضخون في سبيل محوه من الأرض بما كسبت الأيدي واحتقبت الخزائن من الأموال ،وبما أخرجت بطون النساء من الرجال،وبما أنتجت القرائح من مكر واحتيال وكيد ومحال.فلم ينالوا منه نيلاً إلا مضضا تنطوي عليه جوانحهم،ووغراً تنكسر عليه صدورهم،وشجى تنثني عليه لهواتهمنوحقداً تغلي مراجله في نفوسهم، وقد أبقاهم الله وأبقى لهم منه المقيم المقعد وهم بهذا الحال وهو بهذا الحال إلى يومنا هذا،فلينم المسلمون ملء جفونهم،ولينعموا بالاً من هذه الناحية،وليعلموا أن القرآن أثتيَ من قبلهم…

إن السر كل السر في القرآن الكريم في تدبره وفهمه،وفي اتباعه والتخلق باخلاقه.هذه هي الطريقة الواحدة التي اتبعها المسلمون الأولون فسعدوا باتباعها والاستقامة عليها.وهذا هو الإسلام متجلياً في آيات القرآن ،دين واحد جاء به نبي واحد عن إله واحد،وما ظنك بدين تحفه الوحدة من جميع جهاته؟أليس حقيقاً أن يسوق العالم إلى عمل واحد وغاية واحدة واتجاه واحد على السبيل الجامعة من عقائده وآدابه؟أليس حقيقاً أن يجمع القلوب التي فرقت بينها الأهواء،والنفوس التي باعدت بينها النزعات،والعقول التي فرق بينها تفاوت الاستعداد؟

بلى والله إنه لحقيق بكل ذلك”.

وقال الأستاذ محمد لطفي الصباغ رحمه الله:

“نعم،إن القرآن الكريم هو أعظم دلائل نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم،الذي كان قومه يصفونه قبل النبوة بالصادق الأمين،وقد لبث فيهم أربعين سنة لم يسمعوا منه شيئاً مثل القرآن،ثم أوحى الله إليه هذا الكتاب فبلّغهم رسالة الله، يقول تعالى: {قل لو شاء الله ما تلوتهُ عليكم ولا أدراكُم به فقد لبثتُ فيكم عُمراً من قبله أفلا تعقلون* فمن أظلمُ ممن افترى على الله كذباً أو كذبَ بآياته إنه لا يُفلحُ المجرمون} [يونس 16 ـ 17]، ويتابع:” وكان القرآن معجزاً للعرب ذوي الفصاحة وأولي البلاغة،تحداهم فلم يقدر احد منهم على معارضته،وقد قرر القرآن أن مجرد سماع العرب لآياته حُجّة كبرى عليهم، وكفى بهذا دليلاً على إعجازه،{وقالوا لولا أُنزل عليه آياتٌ من ربه قل إنّما الآيات عند الله وإنّما أنا نذيرٌ مبين* أو لم يكفِهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يُتلى عليهم} [العنكبوت 50 ـ 51].

وقال الأستاذ أحمد أمين رحمه الله(الرسالة العدد 147):

“فالقرآن رفع مستوى العقل إلى درجة يستطيع فيها التفكير الصحيح بما حارب من خرافات وأوهام،وعبادة أصنام،وبما حث على النظر في الكون ومراقبة تغيراته،واختلاف مظاهره،ودوام حركاته،وبتوجيه العقل إلى أن وراء كل المظاهر المختلفة وحدة،فالناس على اختلاف ألسنتهم ، وألوانهم يرجعون إلى أصل واحد هو آدم وحواء،والبحار والأنهار المختلفة كلها ترجع إلى ما أنزل من السماء من ماء،والعالم كله يرجع إلى وحدة الخالق{ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت}[الملك3].فهذه الوحدة في العالم تحمل على التفكير الصحيح والثقافة العميقة والنظر الفلسفي الروحي.فالقرآن من ناحية فكّ قيود العقل،وهذا هو العامل السلبي،ومن ناحية أخرى أخذ بيده ليشرف على العالم من مرقب عال،وهذا هو العامل الإيجابي”.

وجاء في دائرة المعارف الإسلامية(سفير):

“الإعجاز” في اللغة:مصدر للفعل”أعجز”،ومعناه:نسبةُ العجزِ إلى الغير،وإثباته له.يقال: أعجز الرجل أخاه،إذا أثبت عجزه عن الشىء.وأعجز القرآن الناس:أثبت عجزهم عن أن يأتوا بمثله.

والعجز في اللغة هو:القصورُ عن فعل الشىء،وعدم القدرة على ذلك.

وقد وردت بعض مشتقات كلمة”إعجاز” في القرآن الكريم في قوله تعالى:{وإن توليتم فاعلموا أنّكم غيرُ مُعجزي الله}[التوبة 2].

كما وردت في السنّة النبوية في قوله صلى الله عليه وسلم:“أيَعجزُ أحدُكم أن يقرأ في ليله ثُلثُ القرآن؟قالوا:وكيف يقرأ ثلُثَ القرآن؟قال:”قل هو الله أحد”تعدل ثلثَ القرآن}[صحيح مسلم].

والقرآن الكريم معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم الباقية الخالدة،بمعنى أن العجز عن محاكاتها،والإتيان بمثلها دائم مستمر في كل زمان ومكان،ذلك بالإضافة إلى المعجزات الحسية الأخرى،التي أُيّد بها خاتم الأنبياء،وغيره من إخوانه عليهم الصلاة والسلام،كنبع الماء من بين أصابعه،وتسليم الحجر والشجر عليه،وكعصا موسى عليه السلام،وإحياء عيسى للموتى،ونزول المائدة من السماء.

ولا يتحقق”الإعجاز” أي إثبات العجز للغير إلا إذا توافرت أمور ثلاثة هي:

1 ـ التحدي:وهو طلب المباراة،والمنازلة،والمعارضة.

2 ـ أن يوجد المقتضى،الذي يدفع المتحدّي إلى المباراة،والمنازلة،والمعارضة.

3 ـ أن ينتفى المانع،الذي يمنعه من هذه المباراة.

أما التحدّي فرسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس:”إني رسول الله إليكم،وبرهاني على ذلك:هذا القرآن،الذي أتلوه عليكم،لأنه أُوحى إليّ به من عند الله.فلما أنكروا عليه دعواه،قال لهم:إن كنتم في ريب من أنه من عند الله،وتبادر إلى عقولكم أنه من صنع البشر،فأتوا بمثله،أو بعشر سور مثله،أو بسورةٍ من مثله،وتحدّاهم وطلب منهم هذه المعارضة بعبارات تستفز العزيمة،وتدعو إلى المباراة،وأقسم أنه ما كان لهم أن يأتوا بمثله،ولو كان بعضهم عوناً لبعض.

يقول الله عزّ وجلّ:{قُلْ لئنِ اجتمعتِ الإنسُ والجنُّ على أن يأتوا بمثلِ هذا القرآنِ لا يأتونَ بمثلهِ ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيرا}[الإسراء 88].

وأما وجود المقتضى والمسوّغ للمباراة والمعارضة عند من تحداهم،فهذا أظهر من أن يحتاج إلى بيان،لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرهم أنه رسول الله،وجاءهم بدين يبطل دينهم،وما وجدوا عليه آباءهم،وسفّه عقولهم،وسخر من أوثانهم،واحتج على دعواه بأن القرآن من عند الله،وتحداهم أن يأتوا بمثله ـ كله أو بعضه ـ ليبطلوا أنه من عند الله،ولُيدحضوا حجّة محمد صلى الله عليه وسلم على أنه رسول الله،وبهذا ينصرون آلهتهم،ويدافعون عن دينهم.

وأما انتفاء ما يمنعهم من معارضته،فلأن القرآن بلسان عربيّ،وألفاظه من أحرف العرب الهجائية،وعباراته على أسلوب العرب،وهم أهل البيان،وفيهم ملوك الفصاحة وقادة البلاغة،وميدان سباقهم مملوء بالشعراء والخطباء والفصحاء،في مختلف فنون القول.

هذا من الناحية اللفظية،أما من الناحية المعنوية،فقد نطقت أشعارهم وخطبهم ومناظراتهم بأنهم ناضجو العقول،وذوو بصر بالأمور وخبرة بالتجارب.وقد دعاهم القرآن في تحدّيه أن يستعينوا بمن شاءوا ويستكملوا ما ينقصهم،ويتموا عدّتهم.

قال تعالى:{أم يقولونَ افتراهُ قل فأتوا بسورةٍ مثلهِ وادعوا من استطعتم من دونِ الله إن كنتم صادقين}[يونس 38].

ويقول سبحانه وتعالى:{أم يقولونَ افتراهُ قلْ فأتوا بعشرِ سُورٍ مثلهِ مُفترياتٍ وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين*فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أُنزلَ بعلمِ الله وأن لا إله إلا هوَ فهل أنتم مسلمون}[هود 13 ـ 14].

ففي الآيات السابقة:تحدٍّ لكل معارض للقرآن،وقد طلب منهم أن يأتوا بمثله،أو بعشر سور مثله،أو بسورة مثله.أما هذا التحدي فقد تنازل عن طلب المثل،واكتفى بطلب ماهو قريب منه،قال تعالى:{فأتوا بسورةٍ من مثله}[البقرة 23]أي مما هو قريب منه.

ولقد كان من المتوقع أن يستثير هذا التحدي حميّة العرب،ويحفز همتهم إلى معارضته،ولكنهم عجزوا ـ على الرغم من أن ما طُلب منهم هو من جنس ما نبغوا فيه ـ فاتهموا الرسول صلى الله عليه وسلم بالكهانة،والجنون،والسحر،وتأليف القرآن.

يقول الله سبحانه وتعالى:{فَذَكر فما أنتَ بنعمةِ ربّكَ بكاهنٍ ولا مجنونٍ*أم يقولونَ شاعرٌ نتربّص بهِ رَيبَ المنونِ*قل تربَّصوا فإنّي معكم من المُتربصين*أم تامرُهم أحلامهم بهذا أم هم قومٌ طاغونَ*أم يقولونَ تقوَّلهُ بل لايؤمنون*فليأتوا بحديثٍ مثلهِ إن كانوا صادقينَ}[الطور 29 ـ 34].

لقد تخبّطوا في مواجهة تحدي القرآن لهم،ولكنهم فيما بينهم وبين أنفسهم كانوا يحسون روعته،ويوقنون أنه ليس من صنع البشر،وأنهم عاجزون عن معارضته.

وقد رُوى أن الوليد بن  المغيرة قد سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ من سورة”غافر” قوله تعالى:{حم*تنزيلُ الكتابِ من اللهِ العزيزِ العليم}[غافر 1 ـ 2].إلى قوله تعالى:{إليه المصير}.

قال الوليد بن المغيرة:”والله لقد سمعت منه كلاماً،ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن،وإنّ له لحلاوة،وإنّ عليه لطلاوة،وإنّ أعلاه لمثمر،وإن أسفله لمغدِق،وإنه ليعلو ولا يُعلى عليه،وما يقول هذا بشر”.

وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى القول بأن العجز عن معارضة القرآن،والاستجابة لتحدّيه يرجع إلى:فصاحة ألفاظه،وبلاغة أساليبه،وخفّته على اللسان،وحسن وقعه في السمع،وأخذه بمجامع القلوب،وإخباره بأمور مغيبة ـ ماضية أو مستقبله ـ واشتماله على أخلاق سامية فاضلة،وشريعة عادلة كاملة،صالحة لكل الناس في جميع البقاه والأجيال،ثم سلامته ـ مع ذلك ـ من التعارض والتناقض.

قال تعالى:{أفلا يتدبرونَ القرآن ولو كان من عند غيرِ الله لوجدوا فيهِ اختلافاً كثيراً}[النساء 82].

وقد اجتمعت في القرآن الكريم كل هذه الصفات،مع أن الذي جاء به أُميّ فقير،وتربّى بين قوم مشركين،ولم يجلس إلى مُعلّم،ولم يخطَّ بيمينه حرفاً.

قال تعالى:{وما كُنتَ تتلو من قبلهِ من كتابٍ ولا تخطُّهُ بيمينك إذاً لارتابَ المُبطلون*بل هوَ آياتٌ بيناتٌ في صدورِ الذينَ أُوتوا العلمَ وما يجحدُ بآياتنا إلا الظالمون}[العنكبوت 48 ـ 49].

هذا إلى ماثبت بالتجربة من رُقي الأفراد والجماعات التي تهتدي بهديه،وتقوم على قواعده،وتأليفها أمة مثالية،لم يشهد التاريخ لها نظيرا”.

وقال الأستاذ نجيب محفوظ تعليقاً على كتاب”التصوير الفني في القرآن لسيد قطب(مجلة الرسالة العدد 616)*:

“ذلك أن كتاباً خالداً كالقرآن لا يعطي كل أسراره الجمالية لجيل من الأجيال مهما كان حظه من الذوق وقدرة في البيان،فللجيل الحاضر عمله في هذا الشأن،كما سيكون للأجيال القادمة عملها.ألم نقرأ القرآن؟بلى.وحفظنا ـ في زمن سعيد مضى ـ ما تيسر من سوره وآياته،وكان ـ وما يزال ـ له في قلوبنا عقيدة وفي وجداننا سحر،بيد أنه كان ذاك السحر الغامض المغلق،تحسه الحواس،ويهتز له الضمير،دون أن يدركه العقل أو يبلغه التذوق،فجاء كتابك كالمرشد للقارىء والمستمع العربي من أبناء جيلنا،يدله على مواطن الحسن ومطاوي الجمال،ويجلى له أسرار السحر ومفاتن الإبداع.كان القرآن في القلب فصار ملء القلب والعين والأذن والعقل جميعاً”.

وقال العالم والمؤرخ العظيم ابن خلدون رحمه الله(مقدمة ابن خلدون):

“ولدت علوم العربية حول القرآن الكريم،فقد كان نزوله ـ معجزة عقلية خالدة على محمد صلى الله عليه وسلم ـ مبعث نهضة فكرية لم يعرف العرب مثيلاً لها.وكأنما كان هذا الكتاب العظيم الجذوة التي أوقدت في النفوس روح البحث والتأمل،وحفزتها إلى النظر والتأليف.فبدأت توضع العلوم،وتقعّد القواعد،خدمة للقرآن الكريم،وإمعاناً في تفهمه ومعرفة أحكامه،ورغبة في استكناه أسراره ودقائقه.ثم راحت شُعب البحث تضرب في كل اتجاه،وتنسرب إلى كل غاية.

يقول الدكتور وليد قصاب (أحد مقالات نشرت في مجلة المجمع العربي بدمشق تحت عنوان “قضية إعجاز القرآن”:

“ترك لنا الجاحظ عدداً من الأراء والنظرات التي تتصل بقضية إعجاز القرآن،ومنها:

القرأن حجّة للرسول:

أعلن الجاحظ أن القرآن الكريم حجة من حجج النبوة،وهو إحدى معجزات محمد عليه الصلاة والسلام،وهو معجزة بلاغية عقلية،وهو المعجزة الرئيسية الكبرى التي وقع بها التحدي،وإنما كان على هذه الصفة بالذات لأن سنة الله في الكون قد جرت أن تكون معجزات أنبيائه ـ وهي في العادة أمور تخالف السنن الكونية وتشذ عن النواميس الطبيعية ـ أموراً من جنس ما استحكم في زمانهم،وغلب على خاصتهم،حتى يكون ذلك أعمق في الحجة،وابلغ في الدليل،وأبعد عن أن يتخذ المبطلون منه سبيلاً إلى اختداع الضعفاء.كانت معجزة موسى عليه السلام إبطال السحر،لأنه”كان أعجب الأمور عند قوم فرعون السحر،ولم يكن أصحابه قطّ في زمان أشدّ استحكاماً فيه منهم في زمانه….وكذلك زمن عيسى عليه السلام كان الأغلب على أهله وعلى خاصة علمائه الطبّ،وكانت عوامهم تعظّم على ذلك خواصهم،فأرسله الله عز وجل بإحياء الموتى إذ كانت غايتهم علاج المرضى وأبرأ لهم الأكمه إذ كانت غايتهم علاج الرمد..”وكانت معجزة محمد عليه الصلاة والسلام في ميدان البلاغة والبيان،وذلك في دهر”كان أغلب الأمور عليهم،وأحسنها عندهم،وأجلّها في صدورهم،حسن البيان،ونظم ضروب الكلام،مع علمهم له،وانفرادهم به،فحين استحكمت لفهمهم،وشاعت البلاغة فيهم،وكثر شهراؤهم،وفاق الناس خطباؤهم،بعثه الله عز وجل فتحداهم بما كانوا لا يشكون أنهم يقدرون على أكثر منه”.

وقد راح محمد عليه السلام يتحداهم به منذ أول لحظة،ثم أن يأتوا بسورة واحدة من مثله،وراح يقول لقريش خاصة،وللعرب عامة”مع ما فيهما من الشعراء والخطباء والبلاغاء والدهاة والحكماء،وأصحاب الرأي والمكيدة،والتجارب والنظر في العاقبة:إن عارضتموني بسورة واحدة فقد كذبت في دعواي،وصدقتم في تكذيبي”ولم يكن القوم الذين ينازلهم محمد عليه الصلاة والسلام قوماً عاديين،إنهم شكسون خصمون،لا يسكتون على ضيم،ولا ينامون على موجدة،وقد هبّوا ينازعونه من كل سبيل”هجوه من كل جانب،وهاجى أصحابه شعراءهم،ونازعوا خطباءهم،وحاجوه في المواقف،وخاصموه في المواسم،وبادَوه العداوة،وناصبوه الحرب،فقتل منهم وقتلوا منه”ولكنهم ـ على ذلك كلّه ـ لم يعارضوا القرآن،ولم يتكلّف ذلك خطيب ولا شاعر،مع أن ذلك أهون من الحرب والقتال والإخراج من الديار.لجؤوا إلى الأشقِّ العسير،وسكتوا عما هو من بضاعتهم،سكتوا عن المعارضة،والكلام صنعتهم”وهو سيد عملهم،فقد فاض بيانهم،وجاشت به صدورهم،وغلبتهم قوّتهم عليه عند أنفسهم،حتى قالوا في الحيات والعقارب،والذباب والكلاب..وكلِّ ما دبَّ ودرج،ولاح لعين،وخطر على قلب،ولهم بعد أصناف النظم،وضروب الأليف،كالقصيد،والرجز،والمزدوج،والمجانس،والأسجاع،والمنثور…”.يقول الجاحظ إن القوم قد أدركوا ميزة القرآن البلاغيةنوعظمة نظمهوتأليفهنوأنه لا قبل لهم به وإن جهدوانفأدركوا عجزهم”وأن مثل ذلك لا يتهيا لهم،فرأوا أن الإضراب عن ذكره،والتغافل عنه في هذا الباب،وإن قرّعهم به أمثلُ في التدبير،وأجدر ألا يتكشّف أمرهم للجاهل والضعيف،وأجدر أن يجدوا إلى الدعوى سبيلاً”.فيزعموا أنهم كانوا قادرين ـ لو شاؤوا ـ على أن يأتوا بمثله،وهو ما حكاه تعالى عنهم بقوله:{وإذا تُتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا}[الأنفال 31].

ولكن القوم قد أدركوا علوّ كعب القرآن العظيم في البلاغة والنظم،وأحسوا بعجزهم التام عن الإتيان بمثله،أو بسورة واحدة من مثله،فسكتوا إيثاراً للسلامة،وحتى لا ينكشف أمرهم أمام الناس.

القرآن معجزة بيانية:

أكد الجاحظ أكثر من مرة،وفي غير ما موضع،أن القرآن الكريم قمة سامقة في البيان،وبهذا الجانب دون غيره وقع التحدي،فالقرآن معجزة عقلية بلاغية وفي هذا إشعارٌ بفضل البيان،وخطر الفصاحة،يقول الجاحظ:”ولفضل الفصاحة،وحسن البيان،بعث الله تعالى أفضل أنبيائه وأكرم رسله من العرب،وجعل لسانه عربياً،وأنزل عليه قرآناً عربياً،كما قال الله تعالى:{بلسان عربي مبين}[الشعراء 195]فلم يُخَصَّ اللسانُ بالبيان،ولم يُحمد بالبرهان إلا عند وجود الفضل في الكلام،وحسن العبارة عند المنطق،ولاوة اللفظ عند السمع”.

والجاحظ بعد ذلك يرى أن أقلّ ما يُعجز عنه من القرآن الكريم السورة الواحدةـ قصيرةً كانت أم طويلة ـ مصداقاً لقوله تعالى في التحدي:{وإن كنتم في ريبٍ ممّا نزّلنا على عبدنا فأتوا بسورةٍ من مثله}[البقرة 23]وقوله:قل فأتوا بسورةٍ مثلهِ وادعوا من استطعتم من دون الله}[يونس 38]ولم يقع التحدي في الحرف والحرفين،والكلمة والكلمتين،لأن هذا في طوق البشر،وهو جارٍ في طبائعهم،وإنما العبرة بتشكيل الكلام لتأليف سورة واحدة تضاهي سور القرآن،وهو ما يعجز عنه البشر،مهما أوتوا من ضروب الفصاحة والبيان.

إعجاز القرآن في نظمه:

فالقرآن يستعمل لغة العرب وألفاظهم،وقد يستعمل عبارات يتداولونها،ولكنه يصوغها صياغة معجزة متميزة،وينظمها في سياق من التأليف نظماً لا يقدر على سورة من مثله أحد.والجاحظ ـ فيما نظن ـ أول من أشار إلى أن إعجاز القرآن في نظمه،وأول من استعمل هذا المصطلح الذي سيشيع بعد ذلك،وسيقلده فيه كثيرون.يقول الجاحظ:”وأنه تحدّى البلغاء والخطباء والشعراء بنظمه وتأليفه في المواضع الكثيرة،والمحافل العظيمة،فلم يَرُمْ ذلك أحد ولا تكلّفه،ولا أتى ببعضه،ولا شبيهٍ منه،ولا ادّعى أنه قد فعل”.

فأما الحديث المباشر عن نظم القرآن،وروعة تأليفه وبلاغته فما تبقى لدينا من آراء الجاحظ المبعثرة في كتبه المتعددة نرى أنها تعالج المسائل التالية:

! ـ اللفظ القرآني:

لاحظ الجاحظ وهو يتحدث عن بعض أوجه النظم القرآني ما يتمتع به اللفظ في كتاب الله من خصائص بلاغية ممتازة.وعلى رأس هذه الخصائص جميعاً دقة اختيار الألفاظ،وحسن انتقائها،وإيراد ما هو أحقّ بالمعنى،وأجدر بالاستعمال،فقد يشترك لفظان أو أكثر في التعبير عن معنى واحد،ولكن أحدهما أدق من الآخر في الدلالة،وأدخل في المعنى،وأقدر على التعبير،وكأن الجاحظ يشير إلى أن الكلمة المرادفة لأخرى لا يمكن أن تقوم مقامها،يقول في البيان والتبيين:”قد يستخفُ الناس ألفاظاً ويستعملونها وغيرها أحقُّ بذلك منها.الا ترى أن الله تبارك وتعالى لم يذكر في القرآن الجوع إلا في موضع العقاب،أو في موضع الفقر المدقع والعجز الظاهر.والناس لا يذكرون السّغب ويذكرون الجوع في حال القدرة والسلامة.وكذلك ذكر المطر،لأنك لا تجد القرآن يلفظ به إلا في موضع الانتقام.والعامة وأكثر الخاصة لا يفصلون بين ذكر المطر وبين ذكر الغيث.ولفظ القرآن الذي عليه نزل أنه إذا ذكر الأبصار لم يقل الأسماع،وإذا ذكر سبع سماوات لم يقل الأرضين.ألا تراه لا يجمع الأرض أرضين،ولا السمع أسماعا.

2 ـ القرآن نظم متفرد:

والقرآن أسلوب فريد في النظم،ونمط متميز من التأليف،لم تعرفه العرب من قبل،ولم يكن لها عهد بهذا الضرب من الكلام،وهم أهل الفصاحة والبيان،وفرسان البلاغة والقول،فهو خارج على جنس ما عرفت من ضروب الشعر والنثر،والخطب والأمثال.يقول الجاحظ:”ولا بدَّ من أن نذكر فيه أقسام تأليف جميع الكلام،وكيف خالف القرآن جميع الكلام الموزون والمنثور،وهو منثور غير مقفّى على مخارج الأشعار والأسجاع،وكيف صار نظمه من أعظم البرهان،وتأليفه من أكبر الحجج”.

وهكذا يعلن الجاحظ تفرّد القرآن بنظم معين لم تعرفه العرب،وهو في هذا يذكرنا بقول الوليد بن المغيرة عندما استمع إلى القرآن،وسألته قريش عنه فقال:”والله ما فيكم رجلٌ أعلمُ بالشعر مني،ولا برجزه،ولا بقصيده،ولا بأشعار الجن،والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا،ووالله إن لقوله الذي يقول حلاوة،وإن عليه لطلاوة،وإنه لمثمر أعلاه ،مغدق أسفله،وإنه ليعلو ولا يُعلى عليه”.

3 ـ الصور البلاغية في القرآن:

عرض الجاحظ لكثير من الآيات القرآنية،فبين ما اشتملت عليه من ألوان البلاغة،وشرح وجه الجمال فيها،وكان متنبهاً إلى الفروق الدقيقة الموجودة بينها،وكان على إدراك تام بمدلول كل منها”.

وقال الإمام البوصيري رحمه الله:

دعني ووصفي آيات له ظهرت              ظهور نار القرى ليلا على علم

فالدَّرُّ يزداد حسنا وهو منتظمٌ               وليس ينقص قدراً غير منتظم

فما تطاول آمال المديح إلى                 مافيه من كرم الأخلاق والشِّيم

آيات حق من الرحمن محدثةٌ               قديمةٌ صفة الموصوف بالقدم

لم تقترن بزمانٍ وهي تخبرنا              عن المعادِ وعن عادٍ وعن إرم

دامت لدينا ففاقت كلَّ معجزة              من النبيين إذ جاءت ولم تدم

محكماتٌ فما تبقين من شبهٍ                لذي شقاقٍ وماتبغين من حكم

ما حوربت قط إلا عاد من حَرَبٍ         أعدى الأعادي إليها ملقى السلم

ردت بلاغتها دعوى معارضها          رد الغيور يد الجاني عن الحرم

لها معانٍ كموج البحر في مددٍ           وفوق جوهره في الحسن والقيم

فما تعدّ ولاتحصى عجائبها                ولاتُسام على الإكثار بالسأم

قرَّتْ بها عين قارئها فقلت له             لقد ظفرت بحبل الله فاعتصم

إن تتلها خيفة من حرّ لظى                 أطفأت حرّ لظى من وردها الشبم

كأنها الحوض تبيض الوجوه به           من العصاة وقد جاؤوه كالحمم

وكالصراط وكالميزان معدلة              فالقسط من غيرها في الناس لم يقم

لاتعجبن لحسود راح ينكرها              تجاهلاً وهو عين الحاذق الفهم

قد تنكر العين ضوء الشمس من رمدٍ      وينكر الفم طعم الماء من سقم

وقال الإمام البوصيري أيضاً:

الله أكبر أن دين محمد                    وكتابه أقوى وأقوم قيلا

طلعت به شمس الهداية للورى            وأبى لها وصف الكمال أفولا

والحقُّ أبلج في شريعته التي              جمعت فروعاً للهدى وأصولا

لا تذكروا الكتب السوالف عنده           طلع الصباح فأطفئوا القنديلا

وقال أمير الشعراء أحمد شوقي رحمه الله:

آياتُ حقٍّ من الرحمن محدثة               قديمة صفة الموصوف بالقدم

لم تقترن بزمان وهي تخبرنا               عن المعادي وعن عادٍ وعن إرمِ

دامت لدينا ففاقت كلّ معجزة                من النبيين إذ جاءت ولم تدمِ  

جاءَ النبيون بالآيات، فانصرمت          وجئتنا بحكيمٍ غيرِ مُنصَرمِ

آياتُهُ كلّما طالَ المدَى جُدُدٌ               يَزِينُهنّ جلالُ العِتقِ والقِدمِ

يكادُ في لفظةٍ منه مشرَّفةٍ               يُوصيكَ بالحق، والتقوى، وبالرحمِ

يا أفصحَ الناطقين الضادَ قاطبةً         حديثُكَ الشّهدُ عند الذائقِ الفهِمِ

حَلّيتَ من عَطَلٍ جِيدَ البيانِ بهِ          في كلِّ مُنتَثِر في حسن مُنتظِمِ

وقال أحمد شوقي في قصيدة ولد الهدى:

الذكرُ آية ربِّك َالكبرى التي             فيها لباغي المُعجزات غَناءُ

صدرُ البيان لهُ إذا التقتِ اللُّغى         وتقدّمَ البُلغاءُ والفُصحاءُ

نُسِختْ به التوراةُ وهي وضيئة         وتخلّف الإنجيلُ وهو ذكاءُ

لما تمشّى في (الحجاز) حَكيمُه           فُضّت (عكاظ ) به وقام حِراءُ

أزرى بمنطقِ أهلهِ وبيانِهم            وحيٌّ يُقصِّرُ دونه البلغاءُ

حسدوا فقالوا :شاعرٌ أو ساحر ٌ        ومن الحَسودِ يكونُ الاستهزاءُ

قد نال بالهادي الكريم وبالهُدى       مالم تنل من سُؤددٍ سيناءُ

أمسى كأنَّكَ من جلالكَ أمّة            وكأنَّهُ من أنسِه بَيداء

يُوحى إليك الفوزُ في ظلماتهِ         مُتتابعاً تُجلى به الظلماءُ

دينٌ يُشيّدُ آية في آية                   لبناتُهُ السُّوراتُ والأضواء

الحقُّ فيه هو الأساسُ وكيف لا      والله جلَّ جلاله البنّاءُ

أما حديثكَ في العقول فمَشرَعٌ         والعلم والحِكمُ الغوالي الماءُ

هو صِبغة الفرقان نفحة قدسِه          والسين من سوراته والراءُ

جرتِ الفصاحة من ينابيع النُّهى       من دَوحه وتفجَّر الإنشاءُ

في بحرهِ للسابحين به على            أدبِ الحياة وعلمِها إرساءُ

أتت الدُّهور على سُلافته ولم            تفنَ السَّلاف ولا سلا الندماءُ

وقال الشاعر أحمد محرم وهو حزين لانصراف المسلمين عن القرآن:

يا قومنا هل تعرفون كتابكم              أم ليس فيكم مؤمنٌ يتذكّرُ

عذراً فقد عظم البلاء فهاجني           حتى لأحسب مهجتي تتفجّرُ

إن يجهلونه فإنّهُ السرّ الذي              يُحيي النفوس إذا تموتُ وتقبرُ

وهو الحِمى المأمولُ يعصمنا إذا      جرت الأمور بما نخافُ ونحذرُ

وقال أيضاً:

كفى بكتابكم يا قوم طِبّاً                لمن يشكو من الأمم السقاما

كتاب يملأ الدنيا حياة                 وينشر في جوانبها السلاما   

وقال الشاعر وليد الأعظمي:

يامن وضعتم قوانينا لأنفسكم          نحن اتخذنا كتاب الله قانونا

الله أنزله بالحق يرشدنا               إلى السعادة في شتى مرامينا

آياته بالهدى والعدل قد نطقت       تُضفي على الحق إيضاحا وتبيينا

ضلّ الذي يهجر القرآن مجتديا     منهاجه بغرور من أعادينا

لسنا نريد دساتيراً مرقعة           فشرعة الله تكفينا وترضينا

وقال الشاعر عبد الرحيم محمود:

كتابٌ أضاءَ دياجي الظّلم           ودلّ الأنام لأهدى الأمم

وألقى السلام على العالمين          فذاقوا حلاوة طعم السلم

وصحّى النيام،نيام القلوب          فقام الأذان وخرَّ الصنم

أقام السيوف بوجه البغاة           فلما أنابوا أقامَ القلم

وقادَ الرعاة،رعاة الشياه         فصار الرعاة،رعاة الأمم

كتاب تركناه يا حسرتا           فصرنا نعضُّ بنان الندم

وكانت لنا عزّة المؤمنين         فصرنا العبيد وصرنا الخدم

فلما عصينا كلام الإله           جنينا الفساد وشوك الندم

فيا قوم عودوا إليه يعد          إلينا الفخار ومجد القدم

محمد بهجة الأثري(الرسالة العدد 364):

دُستورُكَ الفرقان:أما وعظهُ        فهدى،وأمّا حُكمهُ فَمُسدّدُ

عالٍ على الأهواء لا مُتَملّقٍ         أحداً ولا مُتَعَسّفٌ يتمرّدُ

كالسّرجةِ الغيناء غُصنٌ مثمرٌ       وخميلةٌ تندى وظِلٌّ أبردُ

تأسو جراحَ الخَلق بالخُلق الذي      تروى القلوبُ به وتشفى الأكبدُ

ولكَ السّماحةُ والسّجاحةُ والندى       وهدى النبّوة والفعالُ الأرشدُ

وقال ابن شرف:

فكن تالياً آيَ الكتابِ مُداوياً         بها كلّ داءٍ فهي أرجى دوائهِ

فمنهُ ينابيعُ العلوم تفجرّت            وما فاضَ من علم فمن عذبِ مائهِ

هُدىً وشفاءً للقلوبِ ورحمةً         من الله يُشفى ذو العمى بشفائهِ 

وقال الشاعر محمد البزم:

يؤتيك وحي لا يُرام ومنطِقٌ            بوادرهث محمودةٌ وعواقبه

فجئت بقرآن حوى كلّ حكمةٍ            أنارت دياجي الكائناتِ كواكبه

ينصّث فتصمي الظالمينَ حدودُه          ويُتلى فتردي المارقين ثواقبه 

وقال الشاعر أحمد محرم:

لنا في كتاب الله مجد مؤثلٌ                وملكٌ على الحدثان والدهر دائم

إذا نحنُ شئنا زلزل الأرض بأسنا         ودانت لنا اقطارها والعواصم

نصول فنجتاح الشعوب وننثني             بإيماننا أسلابها والغنائم

وقال عبد الله الطيب:

أرجو الحياة مهاجماً ومدافعاً            ومثلُ حالي عند مثلكَ رائعا

يا أيها القرآنُ زدني تعلُّماً                يا أيها القرآنُ زدني تضرُّعاً

هذا غيض من فيض مما قيل في القرآن الكريم قديماً وحديثاً تُسّهل للداعية والمُبلّغ بعد إلمامه بما فيها،وبعد أن تساعده على فهم القرآن الكريم ومعرفة كنوزه العلمية والأدبية والأخلاقية والتشريعية والحكمية واشكال الإعجاز المختلفة..

تاتي المرحلة الثانية التي يجب أن يتصّف بها الداعية وهي التأدّب بأداب القرآن والتحلّي باخلاقه،وهذا ذو أهمية كبيرة بعد الفهم والعلم بالقرآن أن يتحلّى المرء الداعية باخلاقه. يقول عمر الفاروق رضي الله عنه: “أيها الناس تعلّموا القرآن تُعرفوا به،واعملوا به تكونوا من أهله”.

ويقول الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله :

“لو عمل المسلمون بآداب قرآنهم للفتوا الأنظار إلى روعته اكثر من ألف جمعية وألف خطاب وألف كتاب(هكذا علمتني الحياة ص 192).

ويقول الأستاذ أحمد أمين رحمه الله(فيض الخاطر ج2 ص12):

“يكدّ الباحثون أذهانهم،ويُجهد المؤرخون أنفسهم في تقليب صحفهم ووثائقهم عن تعرّف السبب في أن المسلمين أول أمرهم أتوا بالعجائب،فغزوا وفتحوا وسادوا،والمسلمين في آخر أمرهم أتوا بالعجائب أيضاً فضعفوا وذلّوا واستكانوا،والقرآن هو القرآن،وتعاليم الإسلام هي تعاليم الإسلام،ولاإله إلا الله، هي لاإله إلا الله،وكل شئ هو كل شئ،ويذهبون في تعليل ذلك مذاهب شتئ، ويسلكون مسالك متعددة،ولا أرى لذلك  إلاسبباً واحدا هو الفرق بين الدين الحق والدين الصناعي.الدين الصناعي دين حركات وسكنات وألفاظ ولاشئ غير ذلك،والدين الحق دين روح وقلب وحرارة. الصلاة في الدين الصناعي ألعاب رياضية،والحج حركة آلية ورحلة بدنية والمظاهر البدنية أعمال مسرحية واشكال بهلوانية،ولاإله إلا الله في الدين الصناعي قول جميل لا مدلول له.أما في الدين الحق فهي كل شئ، هي ثورة على عبادة المال،وثورة على عبادة السلطان، وثورة على عبادة الجاه، وثورة على عبادة الشهوات، وثورة على كل معبود غير الله.لاإله إلا الله في الدين الصناعي تتفق مع إحناء الرأس والخضوع لشهوة البدن وتتفق مع المذلّة والمسكنة.ولاإله إلا الله في الدين الحق لا تتفق إلا مع الحق.لاإله إلا الله في الدين الصناعي تذهب مع الريح، وفي الدين الحق تزلزل الجبال.ويتابع رحمه الله”الدين الحق يحمل صاحبه على أن يحيا له ويحارب له، والدين الصناعي يحمل صاحبه على أن يحيا به ويتاجر به ويحتال به.الدين الحق يجعل صاحبه فوق كل سلطة وفوق كل سياسة،والدين الصناعي يحمل صاحبه على أن يلوي الدين ليخدم السلطة ويخدم السياسة.الدين الحق امتزاج بالروح والدم،وغضب للحق ونفور من الظلم،وموت في تحقيق العدل.والدين الصناعي عمامة كبيرة، وقباء يلمع وفرجية واسعة الأكمام”.

ويقول الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله(هكذا علمتني الحياة ج1):

“لم يكن عدد المصاحف عند المسلمين في القرن الأول للهجرة يبلغ عشر معشارعددها عندهم اليوم،وهي الآن لا يتلى منهاعشر معشارما كان يُتلى حينذاك،وما يتلى بتفهم وتدبرلا يبلغ عشرمعشار مايتلى بغير تفهم وتدبر،فلا تعجبن إذا لم يفعل القرآن في نفوس المسلمين في الحاضرعشر معشارما كان يفعله في نفوسهم في الماضي”.

نعم، لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خلقه القرآن، كان قرآناً يمشي على الأرض،وكان صحابته رضوان الله عليهم كما قال الشهيد حسن البنا رحمه الله(الرسائل) : “رهبان بالليل فرسان بالنهار،ترى أحدهم في ليله ماثلاً في محرابه قابضاً على لحيته يتملل تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، ويقول: يا دنيا غُرّي غيري، فإذا انفلق الصبح ودوى النفير يدعو المجاهدين رأيته رئبالاً على صهوة جواده، يزأر الزأرة فتدوي لها جنبات الميدان”

والذين اتبعوا القرآن وتخلّقوا باخلاقه،وتجّملوا بصفاته، كما وصفهم أبو حمزة الخارجي(والذي نوافقه مقولته وصفاته ونخالفه مخالفة تامة في عقيدته) وكما جاء في عيون الأخبار لإبن قتيبة(ج2 ص199):

“تعيّروني أصحابي،تزعمون أنهم شباب،وهل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا شباباً؟نِعم الشباب مكتهلين،عَميّةٌ عن الشرِّ أعينهم،بطيئةٌ عن الباطل أرجلهم،قد نظر الله إليهم في أناء الليل مُنثنيّة أصلابهم بمثاني القرآن،إذا مرّ أحدهم بآية فيها ذكر الجنة بكى شوقاً إليها،وإذا مرّ بآية فيها ذكر النار شهق شهقة كأنّ زفير جهنم في أذنيه،قد وصلوا كلال ليلهم بكلال نهارهم،أنضاء عبادة،قد أكلت الأرض جباههم وأيديهم ورُكبهم، مُصفرةٌ ألوانهم،ناحلة أجسامهم من كثرة الصيام وطول القيام،مستقلون لذلك في جنب الله،موفون بعهد الله، منجزون لوعد الله،حتى إذا رأوا السهام قد فُوّقت،والرماح قد أُشرعت،والسيوف قد اُنتضيت،وأرعدت الكتيبة بصواعق الموت،مضى الشاب منهم قُدُماً، حتى اختلفت رجلاه على عُنُق فرسه، وتخضّبت محاسِنُ وجهه بالدماء، فأسرعت إليه سباعُ الأرض وانحطّت إليه طير السماء،فكم من عينٍ في منقار طائرٍ طالما بكى صاحبها في جوف الليل من خوف الله، وكم من كفٍ زايلت مِعصمها طالما اعتمد عليها صاحبها في جوف الليل بالسجود عليه”.

والمرحلة الثالثة بعد الفهم والتدبرللقرآن الكريم، وبعد التخلّق باخلاقه والعمل بمكنوناته،هي مرحلة العمل الجاد الدؤوب المستمر لإظهار الإعجاز بمختلف أشكاله في القرآن الكريم وبذل النفس والنفيس، والغالي والرخيص،المال والوقت..من أجل التعريف به وعرضه على الناس.ولكن الذي نشاهده الآن وللأسف هو محاربة القرآن والتعريض به وبذل الأموال والجهود لمحاربته!!

يقول الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله:

“إن الله تعالى ألقى على عاتق المسلمين واجباً هو هداية البشر إلى الحق،وإرشاد الناس جميعاً إلى الخير،وإنارة العالم كله بشمس الإسلام فذلك قوله تعالى:{يا أيُّها الذين أمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربَّكم وافعلوا الخيرَ لعلكم تُفلحون  *وجاهدوا في الله حقَّ جِهادهِ هو اجتباكُم وما جعل عليكم في الدين من حَرج مِلَّةَ أبيكُم إبراهيم هو سَمَّاكُمُ المسلمين من قَبلُ وفي هذا ليكُونَ الرسولُ شهيداً عليكم وتكونوا شُهداءَ على الناس فأقيموا الصَّلاةَ وآتوا الزكاةَ واعتصموا باللهِ هُوَ مَولاكُم فنِعْمَ المولى ونِعْمَ النَّصير} [الحج 77 ـ 78]

ومعنى هذا أن القرآن الكريم يقيم المسلمين أوصياء على البشرية القاصرة، لخدمة هذه الوصاية النبيلة وإذن فذلك من شأننا لا من شأن الغرب ولمدنية الإسلام لا لمدنية المادة”، ويقول رحمه الله في موضع آخر من كتاب هكذا علمتني الحياة ص190:

“لو كنا نحن ارباب هذه الحضارة للفتنا الدنيا إلى أدب القرآن ولشُدنا له الجامعات،وعقدنا له المؤتمرات، وألفّنا فيه الحوليات،وأنشأنا له المختبرات،ولجعلناه شاغل الدنيا ومالئ تفكير الناس،ولشّوقنا إليه النفوس فافتتنت به،ولجلونا جماله للعقول فتدلّهت به،ولكن أرباب هذه الحضارة ما برحوا يناصبونه العداء ويحملون لهدمه المعاول، ويكيدون له في السر والعلن،وينفقون من أموالهم وأوقاتهم في طمس نوره وتشويه حقيقته،ما لو أنفقوا جزءاً منه في تخفيف ويلات الإنسانية لكانوا متحضرين حقاً،{والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون}،”{إنَّ الذين كَفروا يُنفقونَ أموالَهُم ليَصُدُّوا عن سبيل الله فَسَيُنفقُونها ثُمَّ تكونُ عليهم حَسرةً ثُمَّ يُغلبون والذين كَفروا إلى جَهنَّمَ يُحشرون}” [الأنفال 36]، ويقول رحمه الله: “يوم كان المسلمون أقوياء بالقرآن اقبل الناس عليه من كل حدب يتدارسونه ويتعلمون لغته فلما ضعفوا بضعفه في نفوسهم،كانوا هم اول من أعرض عن دراسته وتعلم لغته،وهكذا يجني الضعيف على نفسه وعلى الحق الذي يحمله”.

وما نشاهده اليوم وفي هذا العصر هو تسخير الأموال والطاقات والجهود والسلطات والإمكانيات لخدمة كل ما يحارب القرآن في أمة تتخبّط في دياجير الظلمات،ودعاة حق قد أودعوا في السجون وغُيّبوا في المتاهات،يقول الشيخ السباعي رحمه الله:

“لبعض الكتب المقدسة عند بعض الديانات جمعيات منتشرة في جميع أنحاء الارض،جُندّ فيها عشرات الألوف والأشخاص،ويُنفق عليها عشرات الملايين من ألاموال،وهي بلا شك تحتوي ثروة أخلاقية إنسانية تفيد البشرية،ولكن أي ثروة فكرية وتشريعية وأخلاقية إنسانية تحتويها إذا قِيست بثروة القرآن الكريم؟ وإذا كانت تلك قد رُزقت عناية هذه الآلاف من الناس،ووضعت تحت أيديهم كل الإمكانات لنشرها والدعاية لها أفلا يستحق كتاب الله الخالد عشر هذه الجهود؟وعشر هذه الأموال؟وهل تُقاس الثمرة التي جنتها الإنسانية من تلك الكتب بالثمرات التي تجتنيها من نشر القرآن الكريم؟أم أن ميزة هاتيك أنها كتب قوم يحملون الحضارة،وكتابنا كتاب قوم مغلوبين لتلك الحضارة؟ أميزة تلك انها كتب قوم لم ينهضوا إلا حين تركوها،وذنب هذا أنه كتاب قوم لم يسقطوا إلا يوم تركوه؟أميزة تلك أنها حضارة الذين ينشرونها اليوم قامت على أسس تخالف مبادئها؟وذنب هذا أن حضارة الذين هجروه وبها غيّروا وجه الدنيا لم يضع حجر أساسها غيره؟ اميزة تلك أن المكتشفات العلمية تسير في خط معاكس لاتجاهه،وذنب هذا أنها تسير في خط مواز لاتجاهه؟ اميزة تلك أنها كتب الأقوياء ولم تكن لها يد في قوتهم،وذنب هذا أنه كتاب الضعفاء وهو برئ من عهدة ضعفهم؟إذا لم يكن شئ من هذا كله فما هو السر إذاً؟ ألا يكون هو الوفاء من جانب أولئك والجحود من جانب هؤلاء؟ أهو العلم هناك؟ والجهل هنا؟سبحانك ربي! إنه علم يحمل على كتفه قاتله، وجهل يشيح بوجهه عن وليه! سبحانك هذا تفريط عظيم”.

ويقول الدكتور زكي مبارك في محاضرة ألقيت في محطة الإذاعة العراقية ونشرها في كتاب “وحي بغداد” تحت عنوان”في ضيافة القرآن”:

“أرجو أن تلقوني بقلوبكم قبل أسماعكم،إن كان فيكم من يندم على ذنوبه كما أندم على ذنوبي،أرجو أن نقضي لحظات في ضيافة القرآن فهذه الأيام هي أصلح الأوقات للتشرف بضيافة القرآن،وإنما كانت كذلك لأن الخطايا أثقلت كواهلنا،والمريض هو أعرف الناس بفضل الطبيب،وقد آن أن نرجع إلى القرآن كلما دهمتنا ظلمات الذنوب،فهو يهدينا برفق وعطف،ويوجههنا إلى الخير بلطف وحنان.

وأنا أرجع إلى القرآن من حين إلى حين،أرجع إليه حين تعجز المذاهب الفلسفية عن هداية قلبي،أرجع إليه حين لا ينجيني الغرور السخيف الذي يوهمني بأني وصلت إلى أصول الحقائق حين طوفت بالمذاهب الفلسفية عند القدماء والمحدثين،أرجع إليه حين أكون كالمريض العاقل الذي لايخفي علته على الطبيب.

نحن في ضيافة القرآن،فما الذي نجده على مائدة القرآن؟

نجد الأعاجيب من أطايب العقل والوجدان.

وإلا فكيف اتفق أن يثني القرآن على جميع الأنبياء والمرسلين،ولكن أي ثناء؟

إن النصارى لم يمجدوا المسيح بمثل ما مجدّه القرآن.

واليهود لم يثنوا على موسى بمثل الذي أثنى عليه القرآن.

والشرائع القديمة لم تحفظ ذكرياتها الطيبات إلا بفضل القرآن.

فكيف صحّ للرجل الذي اسمه محمد أن يزكي منافسيه من الأنبياء والرسلين؟

كيف صحّ لهذا الرجل أن ينسى أول حقيقة في حياة المجتمع،وهي السخرية من جميع المبادىء ليتم له التفرد بالعظمة النبوية؟

هنا تظهر بارقة من النور تشهد بأن هذا الرجل لم يكن طالب صيد،وإنما كان نبياً.

ارجعوا إلى القرآن تجدوه لايفرق بين أحد من الأنبياء،وعندئذ تؤمنون بأن محمداً لم يبن مجده على أنقاض الشرائع،ولو كان كاذباً لادعى لنفسه كل شىء،وزيف ما جاء به الأنبياء والمرسلون.

ارجعوا إلى التاريخ وانظروا كيف صنع من سموا أنفسهم مصلحين.

اقرأوا تواريخ المسيطرين وانظروا كيف كانوا يمحون آثار من سبقوهم بلا ترفق.

استنطقوا الآثار في الشرق والغرب،وانظروا كيف كان الملوك ينكرون فضل آبائهم.

نحن على مائدة القرآن الكريم،فماذا نجد؟

نجده يقول:{من عملَ صالحاً فلنفسهِ ومن أساءَ فَعليها ثمّ إلى ربكم تُرجعون}[الجاثية 45].

فنفهم قيمة اليقظة في السريرة الإنسانية.

ونجده يقول:{إنّ الله يُدخلُ الذينَ آمنوا وعملوا الصالحاتِ جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهارُ والذينَ كفروا يتمتعونَ ويأكلونَ كما تأكلُ الأنعامُ والنارُ مثوىً لهم}[محمد12].فنفهم أن نعيم الحواس متاع خسيس،وأن النعيم الأعظم هو النعيم في عالم المعاني.

ونجده يقول:{ها أنتم هؤلاءِ تُدعونَ لتنفقوا في سبيلِ الله فمنكم من يبخلْ ومن يبخل فإنّما يبخلُ عن نفسه والله الغنيُّ وأنتم الفقراء}[محمد 38].فندرك أن الإنفاق في سبيل الخير من أشرف وسائل الجهاد.

ونجده يقول:{يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسقٌ بنبأٍ فتبينوا أن تُصيبوا قوماً بجهالةٍ فتُصبحوا على ما فعلتم نادمين}[الحجرات 6].فنتذكر المآسي الموجعات التي نعاني مكارهها في كل صباح وفي كل مساء،فحياتنا مكدرة مرنقة بسبب الاستماع للوشايات والنمائم،لاننا نسمع في أصحابنا ومعارفنا ولأصدقائنا كل قيل،ونرتب المقدمات والنتائج على مانسمع،وقلما نتذكر أن من واجبنا ألا نصدق ما نسمع إلا بعد درس وتثبت وتبين وتحقيق،قلمانتذكر أن الحكم على الغائب لا يخلو من اعتساف،وسكوتنا عن مراجعة الواشين والنمامين،وتفريطنا في تقديمهم إلى ساحة الجزاء،كل ذلك غرس فيهم الطمأنينة إلى السلامة من عواقب ما يصنعون،فالنمام يضع بذور الفتنة بين الناس وهو مطمئن لأنه يعرف أننا في الأغلب نصدق كل مانسمع،ولانفكر في معاقبة المفترين.

هل فيكم من تشرف بالنظر في سورة الحجرات فرأى فيها هذه الآية:{يا أيها الذين آمنوا لايسخرْ قومٌ من قومٍ عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساءٌ من نساءٍ عسى أن يكُنَّ خيراً منهنّ ولا تَلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقابِ بئسَ الاسمُ الفسوقُ بعدَ الإيمان ومن لم يتبْ فأولئك همُ الظالمون}[الحجرات 11].

هل فيكم من فطن إلى أن هذه الآية تنطبق على أحوال هذا العصر كل الانطباق؟

فنحن اليوم في الأقطار الإسلامية منقسمون إلى أحزاب،وكل حزب بما لديهم فرحون،وكل جماعة تظن أن الخير وقف عليها،وأن من خرج على حدودها فهو من الضالين.

وهذا الظن السىء هو الذي عاد على قلوبنا بالخراب،فقلوبنا أصبحت كأوكار الحيات والثعابين،أصبحت قلوبنا موبوءة وكأنها البقعة الخربة التي تعيش فيها الهوام والجراثيم،ولو كنا نعقل لتأدبنا بآداب القرآن وعرفنا أن قلوبنا في حاجة إلى مصابيح من حسن الظن بالله وحسن الظن بالناس.

أيها السادة!

تذكروا ،ثم تذكروا،تذكروا دائماً أنكم لستم أغير من الله،تذكروا أنكم لم تروا من أنهار الحقائق غير أوشال،تذكروا أن القرآن لم يكن أبطولة من الأباطيل،وإنما كانت آياته من غرائب الحقائق،وتذكروا أن القرآن هو الذي أعز العرب فجعل لهم إخواناً في المشرقين والمغربين،ولولا القرآن لظل العرب في عبودية كما كانوا في أكثر عهود التاريخ”.

هذه بعض القَبسات والمعالم والسمات لعلّها تُعين الدعاة على إيضاح الطريق وإنارة السبيل من خلال الهدي القرآني العظيم على أن تفجّر مكنونات هذه المعاني والصفات وتجعل منها روحاً  تُحيّ القلوب الخامدة، ونوراً يضيئ الدياجير المظلمة،وبلسماً يشفي النفوس الكَلِمة،وهدىً يهدي العقول السادرة، ورحمة تحطّمُ الصخور القاسية في القلوب والعقول الجافية،وموعظةً للنفوس الراغبة وللأحاسيس غير المتلبدّة والمتطلّعة إلى سماء الحق والنور والمعرفة،ونذيراً للنفوس اللاهية والمتنكبّة للصراط وتحذيراً لها من الهاوية،وسوء العقاب يوم الحساب،{يوم لا ينفع مال ولا بنون *إلا من أتى الله بقلب سليم}[الشعراء 88 ـ 89] .

7ـ هجروه شرعةً ومنهاجاً

إنّ القرآن الكريم كما ذكرنا هو كتاب هداية ورشد،وهو رحمة وشفاء،وهو أيضاً دستور حياة ومنهاج دعوة،وهو شريعة وإصلاح،تحكم لما فيه سعادة الدارين،ولما فيه خير المؤمنين والعالمين، يقول الله تعالى: :{إنّ هذا القُرآنَ يهدي للَّتي هيَ أقوَمُ ويُبَشِّرُ المؤمنينَ الذين يعملونَ الصالحاتِ أنّ لهم أجراً كبيراً} [الإسراء9]، ويقول تعالى: {فلا ورَبِّكَ لا يُؤمنونَ حتى يُحَكِّموكَ فيما شجرَ بينهم ثُمَّ لا يجدوا في أنفسِهِم حَرجاً مما قَضيتَ ويُسَلِّموا تَسليما} [النساء 65].ويقول تعالى:{وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولاتتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك} [المائدة 49]، وقال تعالى:{وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولاتتبع أهواءهم عما جاءك من الحق} [المائدة 48].

ولقد أدرك السلف الصالح هذه التعليمات الربانيّة،والتعاليم القرآنية،فنهلوا من مَعين القرآن،واستقوا من نبعه الصافي،واتبعوا تعاليمه،وحكّموا القرآن في حياتهم،فكان لهم دستوراً وشريعةً ومنهاج حياة،فكانوا طلائع حضارة عظيمة رائدة استمرت على مدى القرون،وكانوا سادة العالم لما سَوّدوه،وحكموا العالم لمّا حكّموه.

يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله(معالم في الطريق ص13):

“هناك ظاهرة تاريخية ينبغي أن يقف امامها أصحاب الدعوة الإسلامية في كل أرض وفي كل زمان،وأن يقفوا أمامها طويلاً،ذلك أنها كانت ذات أثر حاسم في منهج الدعوة واتجاهها،لقد خرّجت هذه الدعوة جيلاً من الصحابة رضوان الله عليهم،جيلاً مُميزاً في تاريخ الإسلام كله وفي تاريخ البشرية جميعه،ويتابع رحمه الله:”كان النبع الذي استقى منه ذلك الجيل هو نبع القرآن،نبع القرآن وحده،فما كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه إلا أثراً من ذلك النبع، ويتابع رحمه الله :”إنهم لم يكونوا ـ في الجيل الأول ـ يقربون القرآن بقصد الثقافة والإطلاع،ولا بقصد التذوق والمتاع،ولم يكن احدهم يتلّقى القرآن ليستكثر به من زاد الثقافة لمجرد الثقافة،ولا ليضيف إلى حصيلته من القضايا العلمية والفقهية محصولاً يملأ به جعبته،إنّما كان يتلّقى القرآن ليتلّقى أمر الله في خاصة شأنه وشأن الجماعة التي يعيش فيها،وشأن الحياة التي يحياها هو وجماعته،يتلّقى ذلك الأمر ليعمل به فور سماعه،كما يتلّقى الجندي في الميدان الأمر اليومي ليعمل به فور تلّقيه،ومن ثم لم يكن أحدهم ليستكثر منه في الجلسة الواحدة،لأنه كان يحسّ انه إنما يستكثر من واجبات وتكاليف يجعلها على عاتقه،فكان يكتفي بعشر آيات حتى يحفظها ويعمل بها كما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه، هذا الشعور..شعور التلقي للتنفيذ.. ويتابع رحمه الله :”إن هذا القرآن لا يمنح كنوزه إلا لمن يقبل عليه بهذه الروح،روح المعرفة المنشئة للعمل،إنه لم يجئ ليكون كتاب متاع عقلي،ولا كتاب أدب وفن،ولا كتاب قصة وتاريخ ـ وإن كان هذا كله من محتوياته ـ إنما جاء ليكون منهاج حياة، منهاجاً إلهياً خالصاً”.

ويقول الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله(الرسائل:رسالة إلى أي شئ ندعو الناس):

“إن القرآن الكريم كتاب جمع الله فيه أصول العقائد وأسس المصالح الإجتماعية،وكليات الشرائع الدنيوية،فيه أوامر وفيه نواه.فهل عمل المسلمون بما في القرآن فاعتقدوا وأيقنوا بما ذكر الله من المعتقدات،وفهموا ما أوضح لهم من الغايات؟وهل طبقوا شرائعه الإجتماعية والحيوية على تصرفاتهم في شؤون حياتهم؟إن انتهينا من بحثنا أنهم كذلك فقد وصلنا معاً إلى الغاية،وإن تكشّف البحث عن بعدهم عن طريق القرآن وإهمالهم لتعاليمه وأوامره فاعلم أن مهمتنا أن نعود بأنفسنا وبمن تبعنا إلى هذا السبيل”.ويتابع رحمه الله:

“إن القرآن حدد غايات الحياة ومقاصد الناس فيها،فبينَ أن قوماً همهم من الحياة الأكل والمتعة، فقال تبارك وتعالى:{والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكلُ الأنعامُ والنارُ مثوىً لهم}[محمد12].

وبيّن أن قوماً آخرين مهمتهم الزينة والعرض الزائل فقال تبارك وتعالى:{زُيّنَ للناسِ حُبُّ الشهواتِ من النساءِ والبنينَ والقناطيرِ المقنطرةِ من الذهبِ والفضة والخيلِ المُسوَّمة والأنعامِ والحرث ذلكَ متاعُ الحياةِ الدنيا واللهُ عندهُ حُسنُ المآب}[آل عمران 14].

وبين أن قوماً آخرين شأنهم في الحياة إيقاد الفتن وإحياء الشرور والمفاسد أولئك الذين قال الله فيهم:{ومن الناسِ من يُعجبكَ قولهُ في الحياة الدنيا ويُشهدُ الله على مافي قلبهِ وهو ألدُّ الخصام* وإذا تولّى سعى في الأرضِ ليفُسِدَ فيها ويُهلكَ الحرثَ والنَّسلَ والله لايحبُ الفساد}[البقرة204 ـ 205].

تلك مقاصد من مقاصد الناس في الحياة نزّه الله المؤمنين عنها وبرأهم منها وكلفهم مهمة أرقى،وألقى على عاتقهم واجباً أسمى ذلك الواجب هو: هداية البشر إلى الحق،وإرشاد الناس جميعاً إلى الخير،وإنارة العالم كله بشمس الإسلام، فذلك قوله تبارك وتعالى:{يا أيها الذين أمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربّكم وافعلوا الخيرَ لعلكم تفلحون*وجاهدوا في الله حقَّ جهاده هوَ اجتباكم وماجعلَ عليكم في الدين من حرج مِلّةَ أبيكم إبراهيم هوَ سماكم المسلمين من قبلُ وفي هذا ليكونَ الرسولُ شهيداً عليكم وتكونوا شهداءَ على الناسِ فأقيموا الصلاةَ وآتوا الزكاةَ واعتصموا بالله هوَ مولاكم فنعمَ المولى ونِعمَ النّصير}[الحج 77 ـ 78].

ومعنى هذا أن القرآن الكريم يقيم المسلمين أوصياء على البشرية القاصرة،ويعطيهم حق الهيمنة والسيادة على الدنيا لخدمة هذه الوصاية النبيلة وإذت فذلك من شاننا لا من شأن الغرب ولمدنية الإسلام لالمدنية المادة”.

ويقول الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله(موقع القرضاوي ـ مقال بعنوان: لماذا أنزل الله القرآن):

“إن الله تعالى لم ينزل القرآن العظيم لمجرد التبرك بتلاوته،ولا لتزيين الجدران بآياته،ولالقراءته على الأموات ابتغاء أن يرحمهم ربهم.إنما أنزل الله القرآن ليضبط بهدايته مسيرة الحياة،ويحكمها بما أنزل الله من الهدى ودين الحق،ويهدي بنوره البشرية للتي هي أقوم،ويخرج الناس من الظلمات إلى النور.وبركة القرآن إنما هي في إتباعه والعمل به،كما قال تعالى:{وهذا كتابٌ أنزلناهُ مُباركٌ فاتبِعُوهُ واتَّقوا لعلَّكُم تُرحمون} [الأنعام 155].

ويتابع:”وهناك ممن يدّعون الإسلام أناس يقولون: نحن نؤمن بالقرآن الكريم،ونخضع لأحكامه،ولكن في بعض المجالات دون بعض،فهم يقبلون أحكامه في مجال العقائد والعبادات والأخلاق،ولكن لايقبلونها في شئون التشريع والاقتصاد والسياسة وغيرها.وبعضهم يقبل الأخذ بها في التشريع،ولكن في محيط الأسرة والأحوال الشخصية لا في محيط المجتمع،وأمور الحكم والسياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية.والعجيب ان يصدر هذا ممن يدعي الإسلام،ويزعم انه رضي بالله رباً ،وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولا،وبالقرآن إماما!.ويتابع:

” وهذا ما أنكره القرآن على بني إسرائيل أ شد الإنكار،وقرعهم عليه أبلغ التقريع،وتوعدهم عليه باقسى الوعيد،فقال سبحانه{أفتؤمنونَ ببعض الكتابِ وتكفرونَ ببعض فما جزاءُ من يفعلُ ذلكَ منكم إلا خزيٌ في الحياةِ الدنيا ويومَ القيامةِ يُرَدُّونَ إلى أشدِّ العذابِ وما الله بغافلٍ عمَّا تعملون* أولئكَ الذينَ اشتروا الحياةَ الدُّنيا بالأخرة فلا يُخَفَّفُ عنهمُ العذابُ ولاهُم يُنصرون} [البقرة 85 ـ 86]،كما حذر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم،وهو تحذير لكل أمته من بعدهن أن يفتنه أهل الكتاب عن بعض ما أنزل الله إليه من الكتاب،فلا يحكم بهن ولايعمل بموجبه،يقول تعالى: {وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ولاتتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك}[المائدة 49] وذمّ القرآن أبلغ الذم طائفة من المنافقين يرفضون حكم الله ورسوله إذا دعوا إليه ولايذعنون له إلا فيما يوافق أهواءهم ومصالحهم الخاصة،ونفى عنهم الإيمان نفياً صريحاً،يقول سبحانه:{ويقولونَ آمنَّا بالله وبالرَّسُولِ وأطعنا ثمَّ يتولى فريقٌ منهم من بعدِ ذلكَ وما أولئكَ بالمؤمنين*وإذا دُعُوا إلى الله ورسولهِ ليحكُمَ بينهم إذا فريقٌ منهم معرضون* وإن يَكُن لهمُ الحقُّ يأتوا إليه مُذعنين* أفي قلوبهم مرضٌ أم ارتابوا أم يخافونَ أن يحيفَ الله عليهم ورسولُهُ بل أولئكَ همُ الظالمون}[النور47 ـ 50]، وأما موقف المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله فهو الإذعان بلا تردد،والطاعة بلا تلكؤ{إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون}” [النور 51].

ويتابع:” والقرآن كل لايتجزأ،وتعاليمه وأحكامه مترابطة متكاملة،بين بعضها وبعض مايشبه الوحدة العضوية بين أعضاء الجسم الواحد، فبعضها يؤثر في بعض. ولايجوز ان يفصل جزء أو أكثر منها عن سائر الأجزاء.فالعقيدة تغذي العبادة،والعبادة تغذي الأخلاق،وكلها تغذي الجانب العملي والتشريعي في الحياة.ويتابع:”إن الشئ المؤكد الذي لاخلاف عليه،وهو من المعلوم من الدين بالضرورة ـ بمعنى أنه لم يعد في حاجة إلى إقامة أدلة عليه لأنه مما يشترك في معرفته الخاص والعام ـ أن تعاليم القرآن كلها واجبة التنفيذ،ولافرق فيها بين مايسمى”روحياً” ومايسمى ” مادياً”،ما يعتبر من ” شئون الدنيا” وما يعتبر من “شئون الدين” ما يتعلق بحياة ” الفرد” وما يتعلق بحياة ” الجماعة”.إن هذه التسميات والعناوين لاوجود لها في كتاب الله تعالى،ولاتوجد فوارق معتبرة بين بعضها وبعض،مادامت كلها في دائرة أمر الله سبحانه أو نهيه. انتهى كلام الشيخ القرضاوي.

وقد صنع القرآن العظيم حضارةً عظيمة،كان المسلمون هم رادتها وقادتها،جاء في صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم“إن الله تعالى يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين”.

نعم،عندما عملوا به واتخذوه شرعة ومنهاجاً كانوا رأس الأمم،وقادة العالم،وزعماء الدنيا،وعندما تخلّوا عنه أصبحوا في ذيل الركب،وتبعاً للأخرين،وركبهم الذلّ والهوان،لقد عرفوا طريق الحياة الكريمة ولم يسلكوه،وأبصروا طوق النجاة ولم يتمسكوا به

كالعيسِ في البيداءِ يقتلها الظمأ                      والماءُ فوقَ ظهورها محمولُ

يقول الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله(رسالة :هل نحن قوم عمليون، تحت عنوان حق القرآن ص84):

“ما رأيت ضائعاً اشبه بمحتفظ به،ولا مهملاً اشبه بمعنيّ بشأنه من القرآن الكريم في أمتنا هذه!أنزل الله القرآن الكريم كتاباً محكماً ونظاماً شاملاً وقواماً لأمر الدين والدنيا  {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد}[فصلت 42]

ويتابع رحمه الله:” واعتقد ان أهم الأغراض التي يجب على الأمة الإسلامية حيال القرآن الكريم ثلاثة مقاصد:

أولاًـ  الإكثار من تلاوته، والتعبد بقراءته، والتقرُّب إلى الله تبارك وتعالى به

ثانياً ـ جعله مصدراً لأحكام الدين وشرائعه،منه تؤخذ وتُستنبط وتُستقى وتُتعَلم

ثالثاً ـ جعله اساساً لأحكام الدنيا،ومنه تستمد وعلى مراده الحكيمة تطبق

ويتابع رحمه الله:”وأما تطبيق أحكامه الدنيوية فقد استبدلها القوم بغيرها وأحلّوا سواها محلها،وجعلوا تشريع الأجانب وما صنعه الفرنسيون والرومان أساساً لتشريعهم ومصدراً لأحكامهم،وبذلك تعطّلت احكام كتاب الله وأصبحت بين المسلمين نسياً منسياً، وفيها ـ علم الله ـ لهم كل خير لو كانوا يسمعون.ويتابع رحمه الله: “افلست محقاً حين قلت: ما رأيت ضائعاً أشبه بِمُحتفظٍ به من كتاب الله،تناقضٌ عجيب في هذا الموقف منا امام القرآن:إننا نُعظّمه،ما في ذلك من شك،ونذود عنه،ما في ذلك من شك،ونتقرّب إلى الله به،ما في ذلك من شك،ولكن ياقوم:أخطأتم طريق التعظيم وتنكّبتم سبيل الذود عنه،وضَللتُم عن جادة التقرُّب إلى الله به{وما كانَ لمؤمنٍ ولا مُؤمنةِ إذا قضى اللهُ ورسولُهُ أمراً أن يَكونَ لهُمُ الخِيرَةُ من أمرهم ومن يَعصِ اللهَ ورسُولَهُ فقد ضَلَّ ضَلالاً مُبيناً}[الاحزاب 36]،وقال تعالى:{فلا ورَبِّكَ لا يؤمنونَ حتى يُحكِّموكَ فيما شَجرَ بينهم ثُم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيتَ ويُسلِّموا تسليما}[ النساء 65]، وقال تعالى:{ويقولونَ أمنَّا بالله وبالرَّسولِ وأطعنَا ثُمَّ يتولّى فريقٌ منهم من بعدِ ذلك وما أولئكَ بالمؤمنين *وإذا دُعُوا إلى الله ورسُولهِ ليحكُمَ بينهم إذا فريقٌ منهم مُعرضون} [النور 47ـ 48].

والأنكى من كل هذا أن هناك من يُعرض عنه كسلاً أو غفلةً أو هوىً،والأدهى من ذلك أن هناك من يعرض عنه ويحاربه ويكيد له كيداً{وإذا تُتلى عليهم أياتُنَا بيّناتٍ تعرِفُ في وُجوهِ الذين كفروا المُنكرَ يكادُونَ يَسطُونَ بالذين يَتلونَ عليهم اياتِنا قُلْ أفأُنبِّئُكُم بِشَرٍّ من ذلكُمُ النارُ وعدَها اللهُ الذين كفروا وبئسَ المصير}[الحج 72].

إنّ الإعراض عن القرآن الكريم هو شقاء الدنيا،وعذاب الآخرة،إنه نكد لازم مقيم،وعذاب مستديم{ومن أعرضَ عن ذكري فإنّ له معيشةً ضَنكاً ونحشُرُهُ يومَ القيامةِ أعمى* قالَ رَبِّ لم حَشرتني أعمى وقد كنتُ بصيرا*قال كذلكَ اتَتكَ اياتُنا فنسيتها وكذلكَ اليومَ تُنسى}[طه124ـ126].

يقول الشهيد سيد قطب في الظلال:

“وليس أشقى على وجه هذه الأرض ممن يحرمون طمأنينة الأنس إلى الله، وليس أشقى ممن ينطلق في هذه الأرض مبتوت الصلة بما حوله في الكون، لأنه انفصم من العروة الوثقى التي تربطه بما حوله في الله خالق الكون، ليس اشقى ممن يعيش لا يدري لم جاء؟ ولم يذهب؟ ولم يعاني في الحياة؟ ليس أشقى ممن يسير في الأرض يوجس من كل شئ خيفة لأنه لا يستشعر الصلة الخفية بينه وبين كل شئ في هذا الوجود، ليس أشقى في الحياة ممن يشق طريقه فريداً وحيداً شارداً في فلاة، عليه أن يكافح وحده بلا ناصر ولا هادٍ ولا مُعين”

ويقول رحمه الله في تفسيره لسورة الأنعام:

“لقد كنت في أثناء وجودي في الولايات المتحدة الأمريكية أرى رأي العين مصداق قول الله سبحانه{فلمّا نَسُوا ما ذُكِّروا بهِ فَتحنا عليهم أبوابَ كُلِّ شئ}[الأنعام 44فإن المشهد الذي ترسمه هذه الآية مشهد تدفق كل شئ من الخيرات والأرزاق بلا حساب،لا يكاد يتمثل في الأرض كما يتمثل هناك،وكنت أرى القوم بهذا الرخاء الذي هم فيه وشعورهم بأنه وقف على “الرجل الأبيض” وطريقة تعاملهم مع الملونين في عجرفة مرذولة،وفي وحشية كذلك بشعة،وفي صلف على أهل الأرض كلهم لا يقاس،كنت أرى هذا كله فأذكر هذه الآية وأتوقع سنة الله،وأكاد أرى خطواتها وهي تدبُّ إلى الغافلين {حتى إذا فَرِحوا بما أُوتُوا أخذناهم بغتةً فإذا هم مُبلِسون *فَقُطِعَ دابرُ القومِ الذين ظلموا والحمدُ لله ربِّ العالمين} [الأنعام44 ـ 45].

نعم، إنّ الإعراض عن القرآن الكريم وتشريعاته واحكامه ومنهاجه هو ذُلٌّ مقيم، وضعفٌ مستكين، وهوانُ الدارين.

يقول الأستاذ محمد لطفي الصباغ رحمه الله(تذكرة للدعاة ص33):

“القرآن كتاب الله العظيم هو سبب عزّتنا،ومصدر فضائلنا،عليه قامت حضارتنا،ومن روحه السامية فاضت بطولاتنا،وعلى هداه الأمين كانت تنطلق قوافلنا مُبدّدة ظلام الدنيا،مُسدّدة خُطا ابنائها على طريق الحق،قائدة جموعها إلى الخير،ومن بحره الزاخر استمدّت علّونا،هذا الكتاب المبين والدستور القويم أعرض عنه كثير من المسلمين،فأعرضت عنهم العزّة والسيادة،وتجّهموا لأحكامه فتجّهمت لهم الكرامة والسعادة”.

والإعراض عن القرآن الكريم هو الإندحار والثبور والهلاك،قال هارون الرشيد لإبن السّماك: عِظني! قال: كفى بالقرآن واعظاً ،يقول الله تبارك وتعالى: :{ألَمْ تَرَ كيفَ فعل رَبُّكَ بعادٍ *إرَمَ ذاتِ العِمادِ* التي لم يُخلَقْ مثلُها في البلاد* وثمُودَ الذين جَابوا الصخرَ بالوادِ* وفِرعونَ ذي الأوتاد* الذينَ طَغوا في البلادِ* فأكثروا فيها الفسادَ* فَصبَّ عليهم رَبُّكَ سَوطَ عذاب* إنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} [الفجر 6ـ 14]

وها نحن نعيش اليوم وللأسف عصر الذلِّ والتبعية والإنحطاط،عصر التقهقر والتراجع والركوع على كل الصعد وعلى كل المستويات،وأصبحنا طبقاً من الطعام قد تنافست على نهشه الأيادي،وأصبحنا زَبداً يحمله السيل ويقذف به في كل وادي،فإن أردنا الرجوع إلى الرفعة والعزة والسيادة من جديد علينا الرجوع إلى القرآن الكريم من جديد.

يقول الأستاذ محمد أديب صالح رحمه الله(على الطريق ص 407):

“أن تستسلم الأمة للسبات،ولا تفيق على صوت القرآن ونُذُره التي تقرع الأسماع والقلوب.. أن تنسى مابه قوامها وحياتها،مابه أخرجها الله من الظلمات إلى النور،أمر لا يتسقّ مع طبائع الأشياء ولا يتفقّ مع الحقائق التي يعترف بها الفكر المؤمن منطلقات لنهضة الأمة من عثار،فكما أخرج الله الأمة بهذا القرآن من الظلمات إلى النور،حتى كانت رائدة البشرية عدّة قرون،إن هذا القرآن هو القادر دائماً أن يُقدّم لها العلاج الذي ينقذ من الوهده،ويبعث في سواعدها الحياة حتى تقوى على حمل الراية من جديد،ولا والله لن تكون العاقبة بعون الله إلا لهذه الأمة إن وصلت حبلها بهذا الكتاب،مهما أجلب عليها العدو بخيله ورَجِلِه وأعوانه من الذين يقذفون في طريق الإنسانية بالغثاء الذي يدّعونه ـ زوراً وبهتاناً ـ كرامة الإنسان وحرية الإنسان”.

ويقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله(هتاف المجد ص20):

” إن الله نزل القرآن وتولى حفظه،فالعاقبة للإسلام، ما في ذلك من شك لأن وعد الله هو الحق،والله لا يخلف وعده في سِلمه،فإن عدنا إلى ديننا وجعلناه دستور حياتنا في سلمنا وفي حربنا،جعل الله هذا النصر على أيدينا،فربحنا عزّ الدنيا والأخرة،وإن كانت الأخرى استبدل بنا قوماً غيرنا فكان الفتح على أيديهم والنصر لهم وعدنا نحن كفقراء اليهود لا دنيا ولا دين لا قدر الله ذلك علينا”.

ويقول الأستاذ محمد الغزالي رحمه الله(هموم داعية ص24):

“ولست أقرر جديداً في هذا الميدان،والذي أراني مضطراً إلى التنبيه إليه وهو ضرورة العناية القصوى بالقرآن نفسه،فإن ناساً أدمنوا النظر  في كتب الحديث واتخذوا القرآن مهجوراً،فنمت أفكارهم معوجة،وطالت حيث يجب أن تقصر،وقصرت حيث يجب أن تطول،وتحمسوا حيث لامكان للحماس،وبردوا حيث تجب الثورة!

إن الغفلة عن القرآن الكريم والقصور في إدراك معانيه القريبة أو الدقيقة عاهة نفسية وعقلية لايداويها إدمان القراءة في كتب السنة،فإن السنة تجيئ بعد القرآن،وحسن فقهها يجيئ من حسن الفقه في الكتاب نفسه.وقد ذكر ابن كثير أن الإمام الشافعي قال:”كل ماحكم به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن”فكيف يفقه الفرع من جهل الأصل؟

إن الوعي بمعاني القرآن وأهدافه يعطي الإطار العام للرسالة الإسلامية، ويبين الأهم فالمهم من التعاليم الواردة ويعين على تثبيت السنن في مواضعها الصحيحة.

والإنسان الموصول بالقرآن دقيق النظر إلى الكون،خبير بازدهار الحضارات وانهيارها،نير الذهن بالأسماء الحسنى والصفات العلى،حاضر الحس بمشاهد القيامة وماوراءها،مشدود إلى أركان الأخلاق والسلوك ومعاقد الإيمان، وذلك كله وفق نسب لايطغى بعضها على بعض وعندما يضم إلى ذلك السنن الصحاح مفسرة للقرآن ومتممة لهداياته فقد أوتى رشده”.

ويقول الأستاذ محمد لطفي الصباغ رحمه الله (تذكرة للدعاة ص35):

” كتاب الله هو الحبل المتين الذي لابُدّ للمسلمين من الإستمساك به في الأزمات والإحتكام إليه في الحياة،فما استمسك به امرؤ إلا نجا، ولا حكم به إمام إلا عدل، ولا قامت على قواعده دولة إلا عزّت وسادت، ولا تجاهلته جماعة أو أمة إلا انحدرت وانهارت، لقد كان هذا الكتاب الكريم دعامة حياتنا فإذا بنا نضحي سادة الدنيا وقادة العالم،ولما اتخذناه وراءنا ظهريا نردده دون فهمه وننحيه في كثير من ديارنا عن الحياة آل أمرنا إلى ما نعرف”.

ويقول الأستاذ العلامة محمود شلتوت رحمه الله(مجلة الرسالة العدد407):

“آمن الأوائل من المسلمين بالقرآن،فوضعوه بالمحل الأول من مكانة التقديس والعناية،وسلموا إليه نفوسهم،وتركوه يتصرف فيها بالتزكية والتطهير والتعليم والحكم والسياسة وسائر شئونهم،العامة والخاصة، الداخلية والخارجية،حتى اتسعت أمامهم مسالك الحياة وانفسحت رقعة المملكة الإسلامية طولاً وعرضاً، فما احتاجوا وهم يقبلون القرآن بين أيديهم،ويفهمون آياته الواضحة،وإشاراته الواردة على سنن اللغة العربية القويم،إلى قانون سياسي أو مدني،ولا إلى نظريات الأخلاق والأداب،بل كانوا كلما تقدمت بهم الحياة ونظروا في القرآن، رأوا فيه حاجتهم،واستفادوا منه أكبر ما تطمح إليه النفوس الوثابة المتطلعة إلى عز الدنيا ومجد الحياة.

حصروا نظرهم إلى القرآن في الفهم والاتعاظ وتنفيذ الأوامر واجتناب النواهي،وأخذوا ينشرون ما يفيضه عليهم من أصول التشريع وقوانين الأخلاق والاجتماع على سائر المسلمين في جميع بقاع الارض شرقاً وغرباً،فوحد القرآن بينهم حول الغاية التي لأجلها نزل.وما كانوا ليتجهوا أو ليحاولوا أن يخرجوا بشيء من آي القرآن كلا أو بعضا عن هذا النهج:نهج العمل، وتهذيب الخلق، وإصلاح العقيدة.ما فكروا يوماً في أن القرآن يبرئ لهم مريضاً، أو يرد عنهم غائلة عدو،أو يكشف لهم عن معضلة كونية إلا عن طريق ما أمر به من اتخاذ الأسباب،وقدح زناد العقل،والسلوك في الحياة على ما تقتضيه سنة الحياة.

بهذا سار المسلمون الأولونن وعظم سلطانهم،وتربت مهابتهم في قلوب الأممنودخل الناس في دين الله أفواجاً.وبهذا حافظوا على وحدتهم فلم يتفرقوا في العقائد،ولم تشتتهم الأهواء والمذاهب، وسلم لهم دين الله وكتابه خالصين متينين لم تلعب بهما الشهوات، ولم يتطرق إليهما عوامل الأحداث والابتداع.

مضى ذلك العهد،وقد اتسعت بفضل القرآن وتأثيره في النفوس رقعة الإسلام،وامتد سلطانه،ودخلته حضارات وثقافات وعناصر مختلفة وأمم متباينة،فبدأت عوامل التفكك تتسرب إلى الوحدة الإسلامية.

حدثت بدعة الفِرق،والتطاحن المذهبي، والتشاحن الطائفي،وأخذ أرباب المذاهب وحاملو رايات الفرق المختلفة يتنافسون في العصبيات المذهبية والسياسية، وامتدت أيديهم إلى القرآننفأخذوا يوجهون العقول في فهمه إلى وجهات تتفق وما يريدون وبذلك تعددت وجهات النظر في القرآن،واختلفت مسالك الناس في فهمه وتفسيره،وظهرت في أثناء ذلك ظاهرة خطيرة هي تفسير القرآن بالروايات الغريبة والإسرائيليات الموضوعة التي تلقفها الرواة من أهل الكتاب وجعلوها بياناً لمجمل القرآن وتفصيلاً لآياته،ولم يروا بأساً من أن يضيفوا إليه خصائص موهومة في شفاء الأمراض وقضاء الحاجات وتفريج الكربات.ومنهم من عني بتنزيل القرآن على مذهبه أو عقيدته الخاصة،وبذلك وجدت تحكمات الفقهاء والمتكلمين وغلاة المتصوفة وغيرهم ممن يروجون لمذاهبهم ويستبيحون في سبيل تأييدها والدعاية لها أن يقتحموا حِمى القرآن،فأصبحنا نرى من يؤول الآيات لتوافق مذهب فلان،ومن يخرجها عن بيانها الواضح وغرضها المسوقة له لكي لا تصلح دليلاً لمذهب فلان،وبهذا أصبح القرآن تابعاً بعد أن كان متبوعاً، ومحوماً عليه بعد أن كان حاكماً.

ويتابع رحمه الله(الرسالة العدد 408):

“وصلت إلينا هذه الأمور فأقعدت الناس عن النظر في القرآن،وملأت أذهان الناس بألوان من الأوهام الفاسدة عن التشريع والعقيدة، وما يحل ومايحرم،وصار كثير من المسلمين يعتقدون أن الحلال ما أحلّه فلان في كتاب كذا، وأن الحرام ما حرّمه في كتاب كذا،وأن فلاناً ذكر في معنى الآية الفلانية كذا وكذا.بل وصل الأمر ببعض أهل العلم أن يقول:إن هذا الشيء ثابت في القرآن،لأن فلاناً وفلاناً حملوا عليه بعض آيات الكتاب الحكيم!

ويتابع رحمه الله:”يومئذ تصور الناس القرآن كتابا عزيز المنال، بعيداً عن الأفهام، فهابوه ويئسوا من الوصول إلى معانيه،وتقبلوا فيه وساطة هؤلاء المحتكرين، وتلقفوا من أفواهم ما جادوا به عليهم، واقتنعوا به من القرآن كوسيلة من الوسائل يداوون بها ضعفهم النفسي والاجتماعي، فصاروا لا يعرفون القرآن إلا على نحو من الأنحاء الآتية:

1 ـ التعبد بتلاوته :مجردة عن التدبر والاعتبار لاتعدو أن تكون حركات لفظية تضطرب بها الشفاه، وتغمغم بها الخياشيم ومن وراء ذلك قلوب عليها أقفالها.

2 ـ التبرك به، فاتخذوا منه التمائم والأحجبة والرقي والتعاويذ!

3 ـ استنزال الرحمة به على موتاهم: فجعلوا يستأجرون لذلك القراء المحترفين ليقرأوه في البيوت أحياناً وعلى القبر أحياناً لقاء أجر معلوم،ومال مقسوم.

4 ـ التماسه دواء للأمراض والعلل الجسمية: عن طريق تلاوته أو كتابته أو التبخير به أو محوه بالماء ثم شربه.

5 ـ اتخاذه وسيلة لاستدرار عطف الغادين والرائحين: فتسولوا به في الطرقات وأمام المساجد وعلى أبواب البيوت في صور تنافي الكرامة ولا تتفق مع التقديس.

وهكذا أخذوا ينتفعون بالقرآن، أو بعبارة أدق يستغلون القرآن على هذه الأوضاع المزرية التي لا تليق بكتاب أنزله الحكيم العليم ليخرج الناس من الظلمات إلى النور.

ويتابع رحمه الله:”وهكذا هانت على المسلمين أحكام القرآن،بل هانت على المشتغلين بها أنفسهم،ولم يقدروا قيمتها العلمية والعملية حق قدرها،فضعفت هممهم على دراستها وموالاة النظر فيها والانتفاع بهانوصاروا يكتفون منها بالقليل،واستساغوا لكرامتهم أن يفروا من التحصيل والعكوف على العلم بكل ما يستطيعون،وأصبحوا يؤدون ما يؤدون من ذلك في الحدود التي تروقهم وفي الأزمان التي يحددونها،ذلك بأنهم مسوقون إلى العلم بعوامل شخصية لا تمت إلى إرادة العلم والتثقف وخدمة الدين والقرآن بأدهى الأسباب”.

وفي خاتمة البحث أنقل ماذكره العلامة الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله(مجلة البيان13/33) يقول معقباً على الآية الكريمة {وقال الرسولُ يارَبِّ إنَّ قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً}[الفرقان 30 ]، يقول رحمه الله :

“في شكوى النبي صلى الله عليه وسلم من هجر القرآن دليل على أن ذلك من أصعب الأمور عليه وأبغضها لديه،وفي “حكاية القرآن لهذه الشكوى وعيد كبير للهاجرين بإنزال العقاب بهم إجابة لشكوى نبيه،ولما كان الهجر طبقات،أعلاها عدم الإيمان به فلكل هاجر حظه من هذه الشكوى وهذا الوعيد.ونحن ـ معشر المسلمين ـ قد كان منا للقرآن هجر كثير في الزمان الطويل وإن كنا به مؤمنين،بسط القرآن عقائد الإيمان كلها بأدلتها العقلية القريبة القاطعة فهجرناها،وقلنا تلك أدلة سمعية لاتحصل اليقين،وأخذنا في الطرائق الكلامية المعقدة واشكالاتها المتعددة واصطلاحاتها المحدثة مما يصعب أمره على الطلبة فضلاً عن العامة،وبيّن القرآن أصول الأحكام وأمهات مسائل الحلال والحرام ووجوه النظر والاعتبار،مع بيان حكم الأحكام وفوائدها في الصالح الخاص والعام،فهجرناها واقتصرنا على قراءة الفروع الفقهية مجردة بلا نظر،جافة بلا حكمة،محجبة وراء أسوار من الألفاظ المختصرة،تفنى الأعمار قبل الوصول إليها،وبيّن القرآن مكارم الأخلاق ومنافعها ومساوئ الأخلاق ومضارها،وبين السبيل للتخلي عن هذه والتحلي بتلك مما يحصل به الفلاح بتزكية النفس،والسلامة من الخيبة بتدسيتها،فهجرنا ذلك كله،ووضعنا أوضاعاً من عند أنفسنا،واصطلاحات من اختراعاتنا، خرجنا في أكثرها عن الحنيفية السمحة إلى الغلو والتنطع،وعن السنة البيضاء إلى الإحداث والتبدع،وأدخلنا فيها من النسك الأعجمي، والتخيل الفلسفي ما أبعدها غاية البعد عن روح الإسلام،وألقى بين اهلها بذور الشقاق والخصام،وآل الحال بهم إلى الخروج من أثقال اغلالها،والاقتصار على بقية رسومها للانتفاع منها ومعارضة هداية القرآن بها

:ويتابع رحمه الله

وعرض القرآن علينا هذا الكون وعجائبه،ونبهنا على مافيه من عجائب الحكمة ومصادر النعمة لننظر ونبحث ونستفيد ونعمل، فهجرنا ذلك كله إلى خريدة العجائب وبدائع الزهور والحوت والصخرة وقرون الثور!ودعانا القرآن غلى تدبره وتفهمه والتفكر في أياته،ولا يتم ذلك إلا بتفسيره وتبيينه،فأعرضنا عن ذلك وهجرنا تفسيره وتبيينه،فترى الطالب يفني حصة كبيرة من عمره في العلوم الآلية دون أن يكون قد طالع ختمة واحدة في أصغر تفسير ـ كتفسير الجلالين مثلا ـ بل ويصير مدرساً متصدراً ولم يفعل ذلك.وعلمنا القرآن أن النبي صلى الله عليه وسلم هو المبين للناس مانزل إليهم من ربهم،وأن عليهم أن يأخذوا ما آتاهم وينهوا عما نهاهم عنه، فكانت سنته العملية والقولية تالية للقرآن، فهجرناها كما هجرناه وعاملناها بما عاملناه،حتى إنه ليقلّ في المتصدرين للتدريس من كبار العلماء في أكبر المعاهد ـ من يكون قد ختم كتب الحديث المشهورة كالموطأ والبخاري ومسلم ونحوها مطالعة فضلاً عن غيرهم من أهل العلم وفضلاً عن غيرها من كتب السنة، وكم وكم وكم بيّن القرآن، وكم وكم وكم ، قابلناه بالصد والهجران

:ويتابع رحمه الله

شر الهاجرين للقرآن الذين يضعون من عند أنفسهم ما يعارضونه به ويصرفون وجوه الناس إليهم وإلى ماوضعوه عنه،لأنهم جمعوا بين صدهم وهجرهم في أنفسهم وصد غيرهم،فكان شرهم متعدياً وبلاؤهم متجاوزاً وشر الشر وأعظم البلاء ماكان كذلك،ويتابع رحمه الله: لانجاة لنا من هذا التيه الذي نحن فيه والعذاب المنوع الذي نذوقه ونقاسيه إلا بالرجوع إلى القرآن،إلى علمه وهديه،وبناء العقائد والأحكام والآداب عليه، والتفقه فيه وفي السنة النبوية وشرحه وبيانه،والاستعانة على ذلك بإخلاص القصد وصحة الفهم والاعتضاد بأنظار العلماء الراسخين والاهتداء بهديهم في الفهم عن رب العالمين، وهذا أمر قريب على من قرّبه الله عليه،يسير على من توكل على الله فيه، وقد بدت طلائعه ـ والحمد لله ـ وهي أخذة في الزيادة ـ إن شاء الله ـ وسبحان من يحيي العظام وهي رميم ” انتهى كلام الشيخ ابن باديس .

ويقول الشيخ محمد البشير الإبراهيمي في مقال بعنوان “دولة القرآن”نشر عام 1953م يقول رحمه الله:

“ما أضاع المسلمين، ومزّق جامعتهم، ونزل بهم إلى هذا الدرك من الهوان إلا بعدهم عن هداية القرآن، وجعلهم إياه عِضِين، وعدم تحكيمهم له في أهواء النفوس ليكفكف منها،وفي مزالق الآراء ليأخذ بيدهم إلى صوابها،وفي نواجم الفتن ليُجلي غماءها،وفي معترك الشهوات ليكسر شِرَّتها،وفي مفارق سُبل الحياة ليهدي إلى أقومها،وفي أسواق المصالح والمفاسد ليميِّز هذه من تلك،وفي مجامع العقائد ليميِّز حقَّها من باطلها،وفي شعب الأحكام ليقطع فيها بفصل الخطاب،وإنَّ ذلك كلَّه لوجود في القرآن بالنصِّ أو بالظاهر أو بالإشارة والاقتضاء،مع مزيد تَعجِز عنه عقول البشر مهما ارتقت،وهو تعقيب كلِّ حُكم بحكمة،وكلِّ أمر بما يُثبِّته في النفس، وكلِّ نهي بما يُنفِّر عنه،لأنَّ القرآن كلام خالق النفوس،وعالم ماتكنُّ وماتبدي،ومركِّب الطبائع،وعالم مايصلح ومايفسد.

ويتابع رحمه الله : ” وهجر المسلمين للقرآن يُردُّ إلى أسباب، بعضها آتٍ من نفوسهم،وبعضها آتٍ من خارجها.فمن الأوَّل:افتتانهم بآراء الناس،وبالمصطلحات التي تتجدَّد بتجدّد الزَّمان،ومع طول الأمد رانت الغفلة،وقست القلوب،وطغت فتنة التقليد،وتقديس الائمة والمشايخ،والعصبية للآباء والأجداد،وغلت طوائف منهم في التعبد، فنجمت ناجمة التصوف والاستغراق،فاختلّت الموازنة التي أقامها القرآن بين الجسم والروح،وغلت طوائف أخرى في … وتوحيده، ونجمت لذلك ناجمة علم الكلام، وما استتبعه من جدل وتأويل وتعطيل، وتشابهت السبل على عامة المسلمين،لكثرة

              هذه الطوائف فكان هذا التفرق الشنيع في الدين وأصوله وفروعه وفي غمرة هذه الفتن بين علماء الدين ضل  الديني على الأمة فاستبدَّ بها الملوك وساقوها في طريق شهواتهم فأفسدوا دينها ودنياها وكان ماكان من هذه العواقب المحزنة

 ومن الثاني تلك الدسائس الدخيلة التي صاحبت تاريخ الإسلام من حركات وبعض المعتقدات المنافية للقرآن إلى ما ادُّخر لزماننا من إلقاء المبشرين والمستشرقين للشبهات في نصوص القرآن عن عمد ليصدوا المسلمين عن هديه وإن خطر هذه الفتنة الأخيرة لأعظم مما يتصوره علماؤنا ويقدره أولياء امورنا .ويتابع رحمه الله:” ومازلنا نرى من آيات حفظ الله لدينه أن يقوم في كلِّ عصر داعٍ أو دعاة إلى القرآن،وإمام أو أئمة يُوجِّهون الأمة الإسلامية،ومفسرٌ أو مفسرون يشرحون للأمة مُراد الله منه ،ويتناولون تفسيره بالأدوات التي ذكرناها ،ويجعلونه حجة على المذاهب والاصطلاحات،ومنازع الرأي والعقل، وحكماً بينها،وأصلاً ترجع إليه ولا يرجع إليها،ومن المبشِّرات بالخير،ورجوع دولة القرآن ،أنَّ الدعوة إليه قد تجدّدت في هذا الزمان على صورة لم يسبق لها مثيل، وأن أصوات الدعاة المصلحين قد تعالت بذلك ،وتجاوبت وتلاقت على هدىً، تدعو إلى دراسته، واستخراج ذخائره، وإحياء دعوته إلى الفضيلة والخير والمحبة ،وأخذ العقائد والعبادات في كلِّ ما يشجر من خلاف في الدين والدنيا ” انتهى كلام الشيخ الإبراهيمي .

ورحم الله عمر الفاروق: ” يا أهل القرآن! ارفعوا رؤوسكم، فقد وضح الطريق.