آداب عيادة المريض

 

بسم الله الرحمن الرحيم

آداب عيادة المريض

عيادة المريض سُنّة من السنن النبوية الشريفة التي يجب إتباعّها والعمل بها .

عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع :” أمرنا بإتبّاع الجنائز،وعيادة المريض،وإجابة الداعي،ونصر المظلوم،وإبرار القسم،وردّ السلام،وتشميت العاطس،ونهانا عن آنية الفضة،وخاتم الذهب والحرير والديباج،والقسي والاستبرق “[ متفق عليه].

(الديباج: نوع من الثياب،والاستبرق : غليظ الحرير،والقسي : ثياب فيها حرير أو كتان مخلوط بالحرير)

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “حق المسلم على المسلم خمس: ردّ السلام،وعيادة المريض،وإتباّع الجنائز،وإجابة الدعوة،وتشميت العاطس” [ متفق عليه].

وفي رواية لمسلم ” حق المسلم على المسلم ست : إذا لقيته  فسلم عليه،وإذا دعاك فأجبه،وإذا استنصحك فانصح له،وإذا عطس فحمد الله فشّمته،وإذا مرض فعده، واذا مات فاتبعه “.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “إن الله عزّ وجلّ يقول يوم القيامه: يابن آدم مرضت فلم تعدني قال يارب كيف أعودك وأنت رب العالمين قال أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده أما علمت أنك لو عدته لو جدتني عنده”  [رواه مسلم].

وعن ابي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “عودوا المريض وأطعموا الجائع وفُكّوا العاني ” [رواه البخاري] .

( العاني: الأسير ).

وتعددت أساليب المطالبة بهذه الآداب الاجتماعية،فمرة تأتي بأنها من حقّ المسلم على أخيه،ومرة بمثابة عتاب بين الله وعبده يوم القيامة لتقصيره في ممارسة هذه الحقوق،ومرة تأتي على الندب والإستحباب،

وإن في عيادة المريض الأجر والثواب.

عن ثوبان رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة  الجنة حتى يرجع،قيل يارسول الله وما خرفة الجنة؟  قال: جَناها ” [رواه مسلم ].

وعن علي كرم الله وجهه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ” ما من مسلم يعود مسلما غدوة إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي،وإن عاده عشية صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة ” [رواه الترمذي وقال حسن] .

(أما الخريف هنا : أي الثمر المخروف أي المُجتنى )

وفي حديث أخر  “من عاد مريضاً، أو زارَ أخاً  له في الله ناداه مُنادٍ: أن طِبت وطاب ممشاك وتبوأت من  الجنةمنزلا “.[صحيح الترمذي وصححه الألباني]

ويقول صلى الله عليه وسلم:”من عاد مريضاً ،نادى مُنادٍ من السماء : طِبت، وطاب ممشاكَ، وتبوأت من الجنة منزلاً” [رواه الترمذي وحسنه وابن ماجة ورواه الطبراني  بنحوه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقال الألباني حديث حسن]وفي حديث أخر “من عاد مريضاً لم يزل يخوضُ في الرحمة حتى يجلسَ فإذا جلس اغتمس فيها ” [رواه  البخاري وأحمد وابن حبان في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه] .

 آداب عياده المريض:

أولا: تخفيف الجلوس عند المريض وعدم إطالة الزيارة:

مرض بكر بن عبد الله المزني فعاده أصحابه فأطالوا الجلوس عنده، فقال: المريض يُعاد والصحيحُ يُزار (عيون الأخبار –ابن قتيبة ج3-4 ص43).

وإلا قد ينقلب الامر عند إطالة الزياره إلى عكس المتوخى منه فينطبق على ذلك قول الشاعر :

يَعِدون مريضاً هُنَّ هيجنَّ داءَهُ   ألا إنما بعض العوائد دائيا

وقال سفيان الثوري “حمق القراء أشدّ على المرضى من أمراضهم يجيئون في غير وقت ويطيلون الجلوس”.

وجاء في عيون الأخبار( ابن قتيبة  ج3-4 ص43): “مرض أبو عمرو بن العلاء،فأتاه أصحابه وأبطأ عنده رجل منهم، فقال: ما يبطئ بك، فقال: أريد أن أساهرك،قال: أنت معافى،وأنا مُبتلى،فالعافية لا تدعك تسهر والمرض لا يدعني أنام،فاسأل الله أن يسوق إلى أهل العافية الشكر وإلى أهل البلاء الصبر والأجر”.

جاء في العقد الفريد لإبن عبد ربه (ج2 ص254 ): مرض الأعمش فأبرمه الناس بالسؤال عن حاله  فكتب قصته في كتاب وجعله عند راسه فإذا سأله أحد قال عندك القصة في الكتاب فاقرأها “.

ويروى عن الأعمش أيضاً أن أحد زواره أتاه عائدا في مرضه وقال له لولا أن أثقل عليك أبا محمد لعدتك والله في كل يوم مرتين .فقال له الأعمش: والله يابن اخي أنت ثقيل عليّ وأنت في بيتك فكيف لو جئتني  في كل يوم مرتين “.

ومن السّنة النبوية تقليل عدد مرات الزيارة،وتخفيف مدتها،وأن تكون الزياره لغرض التخفيف عن المريض،وتذكيره أن ما أصابه ليس إلا تطهيرا له من الذنوب،وتخفيفا من السيئات.

وفاقرة الفواقر على المريض أن لايجد أحدا في قربه عند مرضه فهذا كرب على كرب ومدعاة للحزن والألم.

يقول الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله في” هكذا علمتني الحياه “:

”  أنفقت صحّتي على الناس فوجدت قليلا منهم في مرضي فإن وجدت ثوابي عند ربي تمّت نعمته عليّ في الصحه والمرض”.

لما مرض قيس بن سعد بن عبادة استبطأ إخوانه في العيادة فسأل عنهم فقيل له إنهم يستحيون مما لك عليهم من الدين،فأمر من ينادي من كان لقيس عنده مال فهو في حل فكسرت عتبة بابه بالعشي لكثرة العُوّاد “.

عاد الخليل بن أحمد الفراهيدي بعض تلامذته فقال له تلميذه: “إن زرتنا فبفضلك وإن زرناك فلفضلك فلك الفضل زائراً ومزورا”.

يقول طه حسين ( الموسوعه المجلد 12  ص14):

“ومهما يكن من شيء فإن هناك شعورا لذيذاً لا يستطيع أن يتقّيه إنسان حساس يحدث في نفسك أثناء المرض وأوقات السفر حين ترى من حولك ناساً يعطفون عليك ويرفون لك ويؤثرونك بالمودة واللطف،لذيذ جدا هذا الشعور الذي ينبعث في نفسك حينئذ،ويشعرك بأنك لست وحيدا في الحياة،وبأن هناك قلوبا قد تخفق مع قلبك ونفوسا قد تشاركك في الألم،وتشاركك في اللذة،ولست أعرف شعوراً يفوق هذا الشعور لذة وحسن موقع في النفس رسائل”.

ثانيا : الدعاء له بالشفاء :

عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعود بعض اهله ويدعو له “لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما، ويمسح بيده عليه ويطّيب خاطره ” [ رواه البخاري ].

وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:” اللهم اشف سعداً،اللهم اشف سعدا، اللهم اشف سعدا”  [رواه مسلم].

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أعرابي يعوده وكان إذا دخل على من يعوده قال: “ لا باس طهور إن شاء الله “. [رواه البخاري].

وعن عائشه رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى الإنسان الشئ منه أو كانت به قرحه أوجرح قال النبي صلى الله عليه وسلم بإصبعه هكذا ووضع سفيان بن عيينه الراوي سبابته بالارض ثم رفعها وقال : بسم الله تربة أرضنا بريقة بعضنا يشفى به سقيمنا  بإذن ربنا ” [متفق عليه].

(وهذا يعني أن الرسول صلى الله عليه وسلم يداوي بريقه والتراب الطاهر )

وأن يدعو الله في نفسه أن يمنّ عليه بالعافية وأن لا يبتليه كما ابتلى من يعوده.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :” من رأى منكم مُبتلى فقال الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضّلني على كثير ممن خلق تفضيلا، لم يصبه ذلك البلاء” [اخرجه الترمذي وقال حديث حسن عن سالم بن عبد الله عن أبيه عن جده ].

ثالثا : التنفيس بالأجل :

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ” إذا دخلتم على المريض فنفسّوا له في الأجل، فإنّ ذلك لا يرد شيئًا ،وهو يطيب بنفس المريض ” [رواه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وقال الألباني::حديث ضعيف].

عن ابن عباس رضي الله عنهما  أن علي بن ابي طالب رضي الله عنه خرج من عند رسول الله في وجعه الذي توفي فيه فقال الناس: يا أبا الحسن كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟قال: أ صبح بحمد الله بارئا “[ رواه البخاري].

وأما إذا تيقن أنه ملاق ربه فليكن له في رسول الله صلي الله عليه وسلم أسوه حسنة عن عائشه رضي الله عنها قالت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو مستند إلي يقول” اللهم اغفر لي وارحمني والحقني بالرفيق الاعلى” [ متفق عليه].

وعنها قالت رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالموت وعنده قدح فيه ماء وهو يدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول:” اللهم أعني على غمرات الموت أوسكرات الموت” [رواه الترمذي وقال الألباني:حديث ضعيف].

وإن عيادة بعض المحبين قد تكون من عناصر تسريع الشفاء يقال إن أنس بن مالك رضي الله عنه عاد أحدهم فقال:

عادني مالك فلست أبالي               بعد من عادني ومن لم يعدني

وجاء في زهر الآداب للحصري (ص413 وفي عيون الأخبار –ابن قتيبة –ج3-4 ص48):”

دخل كثير على عبد االملك بن مروان وهو عليل وأهله يتمنون ان يبتسم فقال لولا أن سرورك لا يتم بان تَسلمَ واسقم لدعوت الله ان يصرف مابك إليَّ ولكني اسال الله أيها الامير العافية لك ولي وفي كَنفك  النعمة ،فضحك وأمر له بمال فخرج وهو يقول

ونعودُ سيِّدنَا وسِّيدَ غيرِنا
  ليت التَّشكيَ كان بالعُوادِ

 

لو كان تُقبلُ فِديهٌ لفديتهُ
  بالمصطفى من طارفي  وتلادي

 

 

وجاء في عيون الأخبار (ابن قتيبةج3-4 ص48 ): “أرجف الناسُ بعّلة معاوية وضعفهِ،فدخل عليه مصقلة بن هبيرة، فأخذ معاوية بيده ثم قال يا مَصقل:

أبقى الحوادثُ من خليلك مثل جَندلة المَراجِمْ

قد رامني الأقوام قبلك فامتنعتُ من المظالم

فقال مصقلة: أما قولُ امير المؤمنين:أبقى الحوادث من خليلك، فقد أبقى الله منك جبلاً راسياً وكَلاً مَرْعياً لصديقك وسُماً ناقعاً لعدوك . وأما قولك : قد رامني الأقوام قبلك، فمن ذا يرومك أو يظلمك ! فقد كان الناس مشركين فكان أبو سفيان سيدهم،وأصبح الناس مسلمين وأصبحت أميرهم، فأعطاه معاوية فخرج ،فسئل عنه ، فقال: والله لغمزني غمزةً كاد يكسر منها يدي،وأنتم تزعمونه مريضاً.

جاء في البصائر والذخائر (ج2 ص96 ): “إن عجز مالك عن المشتكي أو دواؤك عن المريض فلا تعجزن عنه برحمتك وعيادتك فإن أدنى منازل الخيرات نصائح القلوب”.

وجاء في عيون الاخبار (ابن قتيبة ج3-4 ص43) : “عاد رجل رَقَبة،فنعى رجالاً اعتلوا مثل علته،فقال له رقبة : إذا دخلت على مريض فلا تنعَ إليه الموتى،وإذا خرجت من عندنا فلا تعد إلينا “.

والأهل لهم أجر في الإحتساب والصبر،إن للأهل كما للمريض دور في مواجهة المرض بالصبر والإحتساب،ولهم الأجر والثواب.

عن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته قبضتم ولد عبدي فيقولون نعم فيقول قبضتم ثمره فؤاده فيقولون نعم فيقول فماذا قال عبدي فيقولون حمدك واسترجع  فيقول الله تعالى ابنوا لعبدي بيتا في الجنه وسموه بيت الحمد” [رواه الترمذي وقال حديث حسن].

وعن أبي هريره رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة” [رواه البخاري].

مات  لأعرابية ولد فدفنته ووقفت على قبره تودعه وتقول :”والله يابني قد غذوتك رضيعا وفقدتك سريعا ،وكأن لم يكن بين الحالين مدة ألتذّ بعيشك فيها، فأصبحت بعد النضاره والغضارة ورونق الحياة والتنسم بطيب روائحها تحت أطباق الثرى جسداً هامداً، ورفاتًا سحيقاً ،وصعيداً جرزا، اللهم  إنك قد وهبته لي قرة عين فلم تمتعني به كثيرا بل سلبتنيه وشيكا ثم أمرتني بالصبر ووعدتني عليه بالأجر، فصدقت وعدك ورضيت قضاءك فارحم اللهم غربته وآنس وحشته واستر عورته يوم تنكشف الهنات والسوآت”.

ومن أجمل الرثاء في فقد الإبن واحتسابه عند الله ماقاله مصطفى المنفلوطي :

“رأيتك يابني في فراشك عليلا فجزعت ثم خفت عليك الموت ففزعت،وكأنما كان يخيل الي أن الموت والحياة شأن من شؤون الناس،وعمل من الأعمال التي تملكها أيديهم، واستشرت الطبيب في أمرك فكتب لي الدواء ووعدني بالشفاء،فجلست بجانبك أصب في فمك ذلك السائل الاصفر قطرة قطرة  والقدر ينتزع من جنبيك الحياة قطعة قطعة،حتى نظرت فاذا انت بين يدي جثة باردة لا حراك بها ،وإذا قارورة الدواء ماتزال في يدي فعلمت أني قد ثكلتك،وأن الامر أمر القضاء لا أمر الدواء، لقد كان خيرا لي ولك يابني أن أَكل إلى الله أمرك في شفائك ومرضك وحياتك وموتك .

ويتابع: “الآن نفضت يدي من تراب قبرك يابني وعدت إلى منزلي كما يعود القائد المنكسر من ساحة الحرب لا أملك إلا دمعة لا أستطيع إرسالها،وزفره لا أستطيع تصعيدها،ذلك لأن الله الذي كتب لي في لوح مقاديره هذا الشقاء في أمرك فرزقني بك قبل أن أساله إياك ، ثم اختطفك قبل أن أستعفيه منك ،قد أرادأن يتم قضاءه فيّ وأن يجرّعني الكأس حتى ثمالها ،فله الحمد راضيا وغاضبا،وله الثناء منعما وسالبا ،وله مني مايشاء من الرضا بقضائه والصبر على بلائه”.

ويذكر  الاستاذ أحمد امين( في فيض الخاطر ج4 ص2 )تحت عنوان “صور من الحياة “قصة إنسان غني فقد ابنه نختصر منها مايلي:

لم يرزق من الدنيا إلا ابنا واحدا وضع فيه كل أمله ومنحه كل عنايته ورعايته ،حتى شبّ كأحسن مايكون الشباب صحة وثقافة وخلقا،أخذته الحُمّى فارتفعت حرارته وذبل جسمه واصفر وجهه وغاب عقله، وبذل الأب كل مايستطيع لنجاته ،هؤلاء أشهر الاطباء وهذا أعز الدواء، وهؤلاء الممرضات ينفذن التعاليم في دقة وإحكام ،وهذا كل مايستطاع وما لا يستطاع لإنقاذه ،وينظر الأب إلى مزارعه الفسيحة ودنياه العريضة،فيراها أضيق من سَمِّ الخِياط، يتمنى أن لو جرد من كل ثروته ومن كل صحته ،ومن عينيه يبصر بهما وأذنيه يسمع بهما ليبرأ ابنه من المرض وينجو من الموت،ويرجو أن يكون سائلا يتكفف الناس ومُعدما لا يملك من الدنيا إلا ثوبه المهلهل يستر جسمه ثم يشفى ابنه،ويودّ أن لو كانت الصحة توهب فيهبها له،والحياة تُمنح فيخلعها عليه ويتشهى أن يفقد كل نعيم الدنيا لينعم فقط بابنه صحيحا بجانبه،كان يؤمن بالطب فدعا الأطباء،وكان يفكر بالرقى والتعاويذ ودعوة الصالحين فآمن بها وتشفع بأهلها ،وكان لا يذكر الله في سرائه فذكره في ضرائه ،وحشد لشفاء ابنه كل ما يستطيع من قوى مادية وقوى روحانية،ولكن غلب القدر فمات الولد، ويتابع أحمد امين :” لقد وجد في التدين عزاءه الوحيد فتدين،أدرك فشل المال والجاه في دفع المرض،فآمن بسلطان القدر،ورأى عجز الطب والعلم والدواء،فلجأ إلى من لا يعجز، وفهم أن الإلحاد يدعو إلى اليأس ويقرر فناء الميت فكفر بذلك كله،ورأى الايمان يقول بحياة بعد هذه الحياة وتلاق بعد الفراق،وفناء الجسم وحياه الروح،فطبق ذلك على إبنه وعلى نفسه ،فبعث عنده الأمل وأحيا فيه الرجاء،وقرأ ان العمل الصالح يقربه إلى بغيته ويجعل الحياه الأخرى أسعد واهنأ،فأكثر من الصلاة والزكاة وشارك في أعمال البر،وكان يقرأ القرآن ويقف كثيرا عند آيات الجنه ونعيمها فيتلهف شوقا إلى ان يجمعه الله وابنه فيها،كان يناجي ربه : إن قد مات قلبي بموت ابني فأحيه بك وقد انطفأت شعلتي فأمدها بنورك إني فقير اليك فالهمني الصبر لقد كنت في حلم فتبدد وفي سعادة فزالت وكنت معتمدا على مالي وجاهي فاذا هما هباء فلا ألجأ الآن الا اليك ولا أسالك الآن سعادة فقد مللتها ولا شيئا من متع الدنيا فقد زهدتها وانما اسألك ان ألمس قوتك لأستعين بها على حمل عبئي وأن ألمس رحمتك  لألطف بها حرارة الحمى في كبدي وأن أسبح في بحرك الواسع أطهر فيه نفسي من يأسي وأن تنيلني قبسا من حكمتك أدرك به الدنيا على حقيقتها فلا أجزع لمصائبها ولا أخدع بزخارفها إي ربي اغفر لي جهلي بك وغروري بمالي واعتزازي بجاهي فلا عز إلا بك ولا أمل إلا فيك ولا اعتماد إلا عليك، إي ربي اسكن قلبي فقد صار هواء وآنس وحشتي فقد فزعت من كل شيء حولي واطو الحياة طيا حتى القى وجهك  ووجه ابني”.

ويتكلم أحمد أمين عن إنسان أخر ابتُلي بالمرض ثم عُوفيّ منه ويذكر مافعل به المرض وما “غيّر من حياته،يقول  أحمد امين ( في فيض الخاطر ج6 ص36 )تحت عنوان “خطاب

أخي العزيز:

معذرة إن تاخرت في الكتابة إليك فقد مرضت مرضا خطيرا طال شهرين،لقد أضعف المرض جسمي ولكنه صهر نفسي،وأتاح لي أن استعرض حياتي الماضية فرأيتني كنت أعنى فيها بالسطح دون العمق،تشغلني التوافه وأطمح الى أوهام، فأخذت في مرضي أتعرف الى الغرض من الحياة،وأشتاق إلى تفهم معناها فأجتهد أن أجتلي حقيقتها المغطاة بالأشكال والأسماء،وأبحث عن نقطة الاتصال بين الله والإنسان. كان وكانت نفسي نبعا مدفونا فتفجرت،وكان الله كان في السماء فصار في القلب،لشد ما يكون الإنسان أقرب إلى ربه في مرضه وفي أحزانه وفي شدائده،لأنه يطلب النجدة فلا يجدها في الأصدقاء والأقرباء وإنما يطلبها ممن لا تحدّ قوته ولا تقصر قدرته،ولأنه في مثل هذه المواقف تتكّشف له النفس لإنسانيه فيراها ضعيفة بذاتها، قوية بربها”.

رسائل إخوانية في المرض :

كتب سهل بن هارون إلى صديق له أبلّ من المرض: ” بلغني خبرالفترة في إلمامها وانحسارها،والشكاة في حلولها وارتحالها  فكاد يشغل القلق بأوله عن السكون لآخره، وتذهل الحيرة في إبدائه عن المسرى في انتهائه ،وكان تغيري في الحالين بقدرهما ارتياعا للاولى ،وارتياحا للأخرى( عن أمراء البيان محمد كرد علي ص153).

وكتب ابن المعتز لعليل : “أذن الله في شفائك،وتلقى داءك بدوائك،ومسح بيد العافية عليك، ووجه وفد السلامة إليك ،وجعل علتك ماحية لذنوبك مضاعفة لثوابك ( نقلا عن زهر الأداب للقيرواني ص226)

ونالت ابا الطيب المتنبي علة بمصر فكان بعض اخوانه من المصريين يكثر الإلمام به ،أي يكثرمن زيارته وعيادته فلما أبلّ أي شفي من مرضه قطعه ،فكتب إليه صلتني أعزّك الله معتلا وقطعتني مبلا ،فان رأيت ألا تكدر الصحة علي وتحبّب العلةإلي فعلت (زهر الأداب للقيرواني ص928).

وكتب ابو بكر الخوارزمي الى أحدهم : “وصل كتابك ياسيدي فسرني نظري إليه ثم غمّني إطّلاعي عليه لما تضمنه من ذكر علتك جعل الله أولها كفاة وأخرها عافية ولا أعدمك على الأولى أجرا ولا على الأخرى شكرا، وبودي لو قرب علي متناول عيادتك فاحتملت عنك بالتعهد والمساعدة بعض أعباء علتك فلقد خصني من هذه العلة قسم كقسمك ومرض قلبي فيك لمرض جسمك وأظن أني لو لقيتك عليلا لانصرفت عنك وأنا اعتل منك فاني بحمد الله تعالى جلد على أوجاع أعضائي غير جلد على أوجاع اصدقائي شفاك الله وعافاك ( جواهر الادب للهاشمي ص118).

الكاتب احمد بن يوسف  يهنئ أحدهم  بإبلاله من مرضه فقال: قد أذهب الله وصب العلة ونصبها ووفر أجرها وثوابها وجعل فيها ارغام العدو بعقباها أضعاف ماكان عنده السرور بقبح أولاها  (شوقي ضيف العصر العباسي الاول ص549).

وكتب أبو الفضل محمد بن الحسين  بن العميد  إلى القاضي أبي محمد الخلادي: بسم الله الرحمن  الرحيم أيها القاضي الفاضل أطال الله بقاءك وأدام عزك ونعماك من أسر داءه وستر ظماءه بعد عليه أن يبل من علته ولا شفاء إلا قربك  ومجالستك ولا دواء إلا طلعتك ومؤانستك ولا وصول إلى ذلك إلا بزيارتك أواستزارتك فان رأيت أن توثر أخفهما عليك وتعلمني آثرهما لديك وتقوم ما ألبسته في ذلك فعلت فإني أراعيه أشد المراعاة واتطلعه في كل الأوقات وأعد على الفوز به الساعات ( معجم الادباء ياقوت الحموي ج3 ص5).

وجاءفي زهر الآداب للقيرواني (ج3,4 ص929_930 ):خبرَّني فلان بعلَّتك فأشركني فيها ألماً وقلقاً، فلا أعلَّ الله لك جسماً ولا حالاً. فليست نِكاية الشيطان في قلبي بأقلّ من نِكاية الشكاية في جسمك،ولا استيلاء القلق على نفسي بأيسر من اعتراض السقم لبدنك، ومن ذا الذي يصحُّ جسمه إذا تألمت إحدى يديه،ومن يحل محلها في القرب إليه ؟ أنا منزعج لشكاتك، مبتهج بمعافاتك ،إن كانت علتّك قد قرَّحت وجرَحت فإن صحتك قد آست وآنست”.

وجاء أيضاً: الحمد لله الذي أعفاك من معاناة الألم ،وعافاك للفضل والكرم،ونظمني معك في سِلك النعمة ،وضمّني إليك في منبلج الصّحة”.

وجاء أيضاً: أغناك الله عن الطب والأطباء،بالسلامة والشفاء، وجعله عليك تمحيصاً لا تنغيصاً، وتذكيراً لا نكيراً، وأدباً لا غضباً”.

وجاء في عيون الأخبار – ابن قتيبة -: كتب رجل إلى صديق له : كيف أنت؟ بنفسي أنت! وكيف كنت؟ لا زلت! وكيف قوتك ونشاطك؟ لا عَدمتهما ولا عدمناهما منك، وأعادك الله إلى أحسنِ ما عودك ! لولا عوائقُ يُوجب العذر بها تَفَضَّلك لم أدع تَعرَّفَ خبرك بالعين، فإنها أشفى للقلب وانفع للغليل وأشدُّ تسكيناً للأعج المشوق” .

وجاء في العقد الفريد – -ابن عبد ربه- :”لئن تخلفت عن عيادتك بالعذر الواضح من العلة لما أغفل قلبي ذكرك ولا لساني  فحصا عن خبرك،يحب أن تتقسم جوارحه وصبك،وإن زاد في ألمها ألمك ،وأن تتصل به أحوالك في السراء والضراء،ولما بلغتني إفاقتك كتبت مهنئاً بالعافية  معفياً من الجواب إلا بخبر السلامة  إن شاء الله “.

وجاء في العقد الفريد (–ابن عبد ربه-ج4 ص289):” “ليست حالي – أكرمك الله – في الاغتمام بعلتك حال المشارك فيها بأن ينالني نصيب منها وأسلم من أكثرها ،بل اجتمع على منها أني مخصوص بها دونك ،مُؤْلَم منها بما يؤلمك ،فأنا عليل مصروف العناية إلى عليل كأني سليم، فأنا أسأل الله الذي جعل عافيتي في عافيتك ، أن يخصني بما فيك ، فإنها شاملة لي ولك”.

وفصل : إن الذي يعلم حاجتي إلى بقائك ،قادرٌ على المدافعة عن حوبائك ،فلو قلت إن الحق قد سقط عني في عيادتك لأني عليل  بعلتك ،لقام بذلك شاهد عدلٍ في ضميرك ، وأثرٌ بادٍ في حالي لغيبتك ،وأصدق الخبر ما حققه الأثر ،وأفضل القول ما كان عليه دليل من العقل “.