بسم الله الرحمن الرحيم
داء الهيضة(الكوليرا) أو الداء الأصفر
من الناحية الطبية :
انتان حاد تُسببه جراثيم تسمى ضُمّات الهيضة والتي تنتج الذيفان المعوي،يترافق بإسهالات شديدة وآلام بطنية،وقد يصل حجم البراز 15-20 لتر خلال 24 ساعة،وهو اسهال مائي مخاطي ويسمى بالإسهال الرُّزي ،وتحدث الوفاة بسبب التجفاف ونقص السوائل والصدمة .
إن داء الكوليرا ينتقل عن طريق الماء الملوث أو الخضار والأطعمة الملوثة ،وهذا الداء مستوطن في الهند والصين وباكستان وبورما وتايلاند،ويحدث بشكل أوبئة في العالم وهناك اجماع على أنه عندما يتوفر الماء النقي ،وتُصرف الفضلات بطريقة صحية في المناطق الموبوة فإن المرض يختفي،فالماء الملوث هو الوسيلة الأساسية لنقل المرض وانتشار الوباء .
من الناحية التاريخية:
جاء في مجلة المنار (العدد 317):
“لم تكن الكوليرا معروفة عند أطباء اليونان والعرب ولم يذكر التاريخ أنها تجاوزت حدود الهند وبعض الجزر المجاورة لها قبل أوائل القرن الثامن عشر.وهي قديمة جداً في الهند ذكرها كتابهم منذ أكثر من ألفي سنة.واسم الكوليرا مشتق من اليونانية وهي لفظة منحوتة من كلمتين ومعناها جريان الصفاء، وسميت في العربية بإسم الهيضة وهو لفظ شبيه جداً بلفظة(هيجة) وهي اسم الكوليرا بلغة الهند”.
عرفت البشرية مرض الكوليرا منذ آلاف السنين ،وموطنه الأصلي في دلتا نهر الجانج في الهند وفي وادي اليانج تسي في الصين ،وكل الأوبئة التي اجتاحت العالم خرجت من هذه المناطق .
وأول وباء للكوليرا يمكن أن نسميه عالمياً في التاريخ الحديث كان عام 1817م حيث انتشر في الهند ثم إلى روسيا واوروبا الغربية ،وعندما وصل الى بريطانيا عام 1831 أدى الى وفاة خمسين ألف مواطن ،وقد شهدت الفترة من 1871حتى 1923 ستة أوبئة كوليرا عالمية منها أربعة في القرن التاسع عشر.
وفي عام 1883 اكتشف العالم الألماني روبرت كوخ ميكروب الكوليرا أثناء عمله في احدى المشافي في مدينة الاسكندرية .
وفي عام 1947 حدث وباء الكوليرا في مصر وذهب ضحيته حوالي 18 ألف شخص.
وما بين عام 1961وعام 1970 حدث انتشار لداء الكوليرا من اندونيسيا وحتى ايران وروسيا بعصيات الكوليرا المسماة ميكروب الطور (نسبة الى الحجر الصحي في سيناء )حيث كشفت العصيات لاول مرة عام 1905 .
من الناحية الأدبية :
طه حسين يتكلم عن الكوليرا (الأيام ج1 ص123-131):”
كان هذا اليوم يوم 21 اغسطس من سنة 1902 . وكان الصيف منكراً في هذه السنة . وكان وباء الكوليرا قد هبط َ مصرَ ففتك بأهلها فتكاً ذريعاً،ودمرّ مدناً وقرىً،ومحا اُسراً كاملة . وكان “سيدنا” قد أكثر من الحُجبِ وكتابة المخلّفات،وكانت المدارس والكتاتيب قد اُقفلت ، وكان الأطباء ورُسُل مصلحة الصحة قد انبثوا في الارض ومعهم أدواتهم وخيامهم يحجزون فيها المرضى،وكان الهلع قد ملأ النفوس واستأثر بالقلوب،وكانت الحياة قد هانت على الناس ،وكانت كلُّ اُسرةٍ تتحدث بما أصاب الأسر الأخرى وتنتظر حظهّا من المصيبة . وكانت اُم الصبي في هلعٍ مستمرٍ ،وكانت تسأل نفسها ألف مرة في كلِّ يوم بمن تنزل النازلة من أبنائها وبناتها . وكان لها ابنٌ في الثامنة عشرة ،جميل المنظر رائع الطلعة نجيب ذكيُّ القلب،وكان أنجبَ الاسرة وأذكاها وارقها قلباً،وأصفاها طبعاً ،وأبرّها بأمه،وأرافها بأبيه ، وأرفقها بصغار إخوته وأخواته،وكان مبتهجاً دائماً ،وكان قد ظفر بشهادة “البكالوريا” وانتسب إلى مدرسة الطب ،وأخذ ينتظر آخر الصيف ليذهب إلى القاهرة . فلمّا كان هذا الوباء، اتصلّ بطبيب المدينة وأخذ يرافقه ويقول:إنه يتمرن على صناعته ،حتى كان يوم 21 أغسطس .
أقبل الشاب آخر هذا اليوم كعادته باسماً ،فلاطف اُمه وداعبها وهدأ من روعها وقال:لم تُصب المدينة اليوم بأكثر من عشرين إصابة ،وقد أخذت وطأة الوباء تخف ،ولكنه مع ذلك شكا بعض الغثيان ،وخرج إلى ابيه فجلس إليه وحدّثه كعادته ،ثم ذهب إلى أصحابه فرافقهم إلى حيث كان يذهب معهم في كل يوم عند شاطئ الإبراهيمية . فلما كان أول الليل عاد وقضى ساعةً في ضحكٍ وعبث مع إخوته . وفي هذه الليلة زعم لأهل البيت جميعاً أنّ في أكل الثوم وقايةً من الكوليرا ،وأكل الثوم وأخذ كبار إخوته وصغارهم بالأكل منه ،وحاول أن يُقنع أبويه بذلك فلم يُوفَق .
وكانت الدار هادئةً مغرقةً في النوم كبارها وصغارها وحيوانها عندما انتصف الليل . ولكنَّ صيحةً غريبةً ملأت هذا الجو الهادئ ،فهبَّ لها القوم جميعاً. فأما الشيخ وزوجته فكانا في هذا الدهليز المنبسط الذي تظله السماء يدعوان ابنهما باسمه . وأما الشبان من أهل الدار فكانوا يثبون من فراشهم مسرعين إلى حيث الصوت . وأما الصبيان فكانوا يجلسون يحُكّون أعينهم بأيديهم يحاولون أن يتبينوا في شئٍ من الهلع من أين يأتي الصوت وماذا كانت الحركة الغريبة ؟
وكان مصدر هذا كُلِّهِ صوت هذا الفتى وهو يعالجُ القئَ. وكان الفتى قضى ساعةً أو ساعتين يخرج من الحجرة على أطراف قدميه ويمضي إلى الخلاء ليقئ مجتهداً ألا يوقظ أحداً. حتى إذا بلغت العلة منه أقصاها لم يملك نفسه ولم يستطع أن يقئ في لطف،فسمع أبواه هذه الحشرجة ففزعا لها وفزع معهما أهل الدار جميعاً.
إذن فقد اُصيب الشاب،ووجد الوباء طريقه إلى الدار ،وعرفت اُم الفتى بأيِّ أبنائها تنزل النازلة. لقد كان الشيخ في تلك الليلة خليقاً بالإعجاب حقاً. كان هادئاً رزيناً مُرَوّعاً مع ذلك ، ولكنه يملك نفسه . وكان في صوته شئ يدل على أنَّ قلبه مفطور،وعلى أنه مع ذلك جَلْدٌ مُستعِدٌ لإحتمال النازلة . آوى ابنه إلى حُجرته ،وأمر بالفصل بينه وبين بقية إخوته ،وخرج مسرعاً فدعا جارين من جيرانه وما هي إلا ساعةٌ حتى عاد ومعه الطبيب .
وفي أثناء ذلك كانت اُمُّ الفتى مُروّعةً جَلدةً مؤمنةً تُعنى بابنها،حتى إذا أمهله القئ خرجت إلى الدهليز فرفعت يدها ووجهها إلى السماء وفنيت في الدعاء والصلاة،حتى تسمعَ حشرجةَ القئِ فتسرع إلى ابنها تسنده إلى صدرها وتأخذ رأسه بين يديها ،ولسانها مع ذلك لا يكفُّ عن الدعاء والابتهال.
ولم تستطع أن تحول بين الصبيان والشبان وبين المريض ،فملؤوا عليه الحجرة وأحاطوا به واجمين،وهو يداعب اُمهُ كلما أمهله القئ، ويعبث مع صغار إخوته . حتى إذا جاء الطبيب فوصف ما وصف وأمر بما أمر وانصرف على أن يعود مع الصبح ،لزمت اُم الفتى حُجرة ابنها ، وجلس الشيخ قريباً من هذه الحجرة واجماً لا يدعو ولا يصلي ولا يجيب أحداً من الذين كانوا يتحدثون إليه .
وأقبل الصبح بعد لأيٍ، وأخذ الفتى يشكو ألماً في ساقيه. واقبلت إليه أخواته يدلكنَ له ساقيه ،وهو يشكو صائحاً مرةً كاتماً ألمه مرةً أخرى والقئ يُجهده ويخلعُ في الوقت نفسه قلب أبويه . وقضت الأسرة كلها صباحاً لم تقض مثله قطُّ: صباحاً واجماً مظلماً فيه شئٌ مفزعٌ مروِّعٌ.فأما خارج الدار فكان يزدحم بالناس أقبلوا إلى الشيخ يواسونه . وأما داخل الدار فكان يزدحم بالنساء أقبلن يواسين اُمُّ الفتى . وكان الشيخ وزوجهُ عن أولئك وهؤلاء في شُغلٍ. وكان الطبيب يتردد بين ساعةٍ وساعة.وكان الفتى قد طلب أن يُبْرَقَ إلى أخيه الأزهري في القاهرة وإلى عمه في أعلى الإقليم . وكان يطلب الساعة من حينٍ إلى حين ينظر فيها كأنه يتعجل الوقت،وكأنه يشفق أن يموت دون أن يرى أخاه الشاب وعمه الشيخ. يالها من ساعةٍ منكرةٍ هذه الساعة الثالثة من الخميس 21 أغسطس سنة 1902 .
انصرف الطبيب من الحجرة يائساً ،وكأنه قد أسرَّ إلى رجلين من أقرب أصحاب الشيخ إليه بأن الفتى يُحتضَرُ فأقبل الرجلان حتى دخلا الحجرة على الفتى ومعه اُمه . ظهرت في هذا اليوم لأول مرةٍ في حياتها أمام الرجال.
والفتى في سريره يتضوّرُ ،يقف ثم يلقي بنفسه ،ثم يجلس ثم يطلب الساعة ،ثم يعالج القئ ،واُمهُ واجمةٌ،والرجلان يواسيانه وهو يجيبهما : لستُ خيراً من النبيِّ. أليس النبيُّ قد مات ! ويدعو أباه يريد أن يواسيه فلا يجيبه الشيخ.وهو يقوم ويقعد ويلقي نفسه في السرير مرةً ومن دون السرير مرةً أخرى . وصبينا منزوٍ في ناحية من هذه الحجرة ،واجمٌ كئيبٌ دَهشٌ يُمزق الحزن قلبه تمزيقاً.
ثم ألقى الفتى نفسه على السرير وعجز عن الحركة ،وأخذ يئنُّ أنيناً يخفت من حين إلى حين . وكان صوت هذا الأنين يبعُدُ شيئاً فشيئاً. وإن الصبي لينسى كلَّ شئٍ قبل أن ينسى هذه الأنّة الأخيرة التي أرسلها الفتى نحيلةً ضئيلةً طويلةً ثم سكت . في هذه اللحظة نهضت اُمُّ الفتى وقد انتهى صبرها ووهى جَلدها ،فلم تكد تقف حتى هوت أو كادت وأسندها الرجلان ،فتمالكت نفسها وخرجت من الحجرة مُطرقةً ساعيةً في هدوءٍ، حتى إذا جاوزتها انبعثت من صدرها شكاةٌ لا يذكرها الصبيُّ إلا انخلع لها قلبه انخلاعاً. واضطرب الفتى قليلاً ،ومرّت في جسمه رِعدةٌ تبعها سكوت الموت. وأقبل الرجلان إليه فهيآهُ وعَصباهُ وألقيا على وجهه لثاماً، وخرجا إلى الشيخ ثم ذكرا أنّ الصبيَّ مُنزوٍ في ناحية من نواحي الحجرة ،فعاد أحدهما إليه فجذبه جذباً وهو ذاهلٌ،حتى انتهى به إلى مكانٍ بين الناس فوضعه فيه كما يوضع الشئ” .انتهى
وقال احمد حسن الزيات (وحي الرسالة ج3 ص99-101) تحت عنوان من ذكريات الطفولة:
“كنت في الثالثة عشرة من عمري حين وفد على مصر وباء الهيضة(الكوليرا) في سنة 1902،وكانت قريتنا الصغيرة الفقيرة تنقل خُطاها الوئيدة في طريق الحياة وادعة بالأمن ، ناعمة بالرضا،هانئة بالقناعة .كان المرض قليلاً ما يغشاها ! فإذا غشيها غِشي الكهل الضعيف ،وكان الموت كثيراً ما ينساها فإذا ذكرها ذكر الشيخ الهرم.لذلك كان المرض لندرته مرهوب الاسم . وكان الموت لوحشته مهيب الصورة ،فإذا مرض الصحيح تجمع القوم في منظرته أو على مصطبته،يؤانسونه ويمرضونه ويدعون له .وإذا مات المريض لبسوا الحداد عليه العام كله، فلا يلبسون الجديد، ولا يحلقون اللحي،ولا يأكلون الفسيخ، ولا يصنعون الكعك،ولا يباشرون المضاجع.
وفي ذات ليلة من ليالي الصيف على ما أذكر،قيل إن لإسرة فلان قريباً غريباً علموا أنه مريض فذهبوا ليعودوه في بلده فعادوا به،وهو يشكو مرضاً لم يشكه أحد من قبل: ظمأ لا ينقعه ماء،وقئ لا يمنعه دواء وإسهال لا يقطعه شئ .وفي الصباح نعته الناعيات فأجمعت القرية على الحزن عليه،وأقبلت الجيرة على العزاء فيه ،ورسموا المأتم اسبوعاً كالعادة.إلا أن ثلاثة من أسرة الفقيد مرضوا تلك المرضة وماتوا تلك الموتة،فلم يقوضوا سرادق العزاء ، حتى أتى على جميع الأسرة الفناء.وصحا الناس من دهشة الروع وذهول الفاجعة ،فإذا كل غرفة فيها مريض،وإذا كل ساعة فيها جنازة!وهان الموت ورخصت الأموات،فلا يُعاد محتضَر، ولا يُشّيع ميت ،ولا يُعزّى حي.وقال فقهاء القرية إنه الهواء الأصفر الذي اهلك الله به عاداً الأولى فهيهات أن يعصم الناس منه بيوت مغلقة ،أو حصون معلقّة .فاستكان القوم للقضاء وصفت قلوبهم من الحقد ،وعزفت نفوسهم عن الدنيا ،وانصرف كل امرئ عن عمله في انتظار اجله.
كان الموت الوحىُّ الذريع يخترم لِداتي في الحارة واحداً بعد واحد،فخلت الملاعب من الأطفال،واقفرت المكاتب من الصِّبية . وكان شوقي إلى بعضهم يدفعني إلى أن أزورهم خلسة،فأجد فيهم من يكابد هول الداء وحده،فلا أبوه يخفف عن كبده سعار العطش،ولا أمه تمسح عن ثوبه رجع القئ! لقد شغل كل إنسان بنفسه عن غيره،ولها كل بيت بكبيره عن صغيره.
واحسرتا على قريتي الصغيرة الفقيرة ! لقد جثم على صدرها الموت المائت حتى ختم على أكثر الدور ،ونقل نصف اهليها من الدور إلى القبور !
كانت حالنا يومئذ غير حالنا اليوم ،فلم يكن هناك مصل يقي،ولا علاج يشفي،ولا حكومة تطارد الوباء وتحصره،ولا أمة تتبع النظام الصحي وتنشره”.
وفي مقال أخر للأستاذ احمد حسن الزيات (وحي الرسالة ج3 ص240)تحت عنوان “الطابور الخامس في حرب الكوليرا” يقول:
“عبأت الحكومة المصرية لجهاد الكوليرا الإنجليزية(لأن عدواها انتقلت من جيش الاحتلال في القنال إلى سائر البلاد المصرية) قوى الدولة،وتجهزت للقائها بأفتك الأسلحة الحديثة من عزل وحصار وعلاج وتلقيح وتطهير ودعاية .وكان المرجو من كل أولئك أن يموت الداء الوليد في مهده، وينكفئ الوباء العنيد عن قصده، وترفضّ مخاوف الموت عن البلاد في مدى أسبوعين كما وعد بذلك أولو الأمر في أول الأمر.ولكن شهراً يوشك أن ينصرم والعدوى السريعة لا تزال تسري ،والعلة الثقيلة لا تزال تستشري،والموت بمنجله الحاصد لا يزال يسبق الآجال في كل بقعة . فيما نعلل هذه الهزيمة واسباب النصر موصولة ،ونتائجها مكفولة ،وطرائقها مؤدية؟ نعللها بأن في صفوف العدو طابوراً خامساً يغذي المرض بالوقود ليشتعل،ويشحذ للموت المناجل ليحصد. ذلك الطابور الخامس هو أطباء وزارة الصحة . ومن الإنصاف ألا نعمم الحكم،فإن من هؤلاء فريقاً لا يزالون أوفياء للإنسانية خلصاء للمهنة ،لم يفجروا في يمين أبقراط ،ولم يخرجوا عن قانون ابن سينا. ولكن هذا الفريق واأسفاه لم يزوروا الإقليم الذي نعيش اليوم فيه.
أكثر هؤلاء الأطباء منهومون بالمال،يتهالكون على جمعه،ويتنافسون في ادّخاره. وهم في سبيل تحصيله يسفهون الحق، ويغفلون الواجب،ويجهلون الرحمة ،وينكرون الحسنى ثم يُخفون اللقاح المجاني عن الفقير ليظهره بالثمن للغني، ويُصعّبون دخول المستشفى العام ليسهلوا دخول العيادة الخاصة ،يكلون تطبيب المرضى لأجلاف الممرضين وجفاة الخدم ليلعبوا النرد في القهوة أو يلهوا بالورق في النادي.ومن جراء هذا الإهمال والإستغلال والعنت استحب الناس المرض على الصحة وفضلوا الحلاق على الطبيب،وضنوا بمرضاهم على المعازل فلم يبلغوا المركز عنهم،حتى لا يموتوا وحَداء في وحشة،ولا يدفنوا غرباء في مهانة .
هؤلاء الأطباء وأشباههم من غير الموظفين تعرفهم الحكومة بالسماع والخبرة . ولولا سوء رأيها فيهم ،وترجيحها ما أشيع عنهم ،لما جعلت ألف جنيه مكافأة لكل من يبلغها أن طبيباً تاجر بلقاح أو لقح بأجر .
وإنك لتعجب أن يكون في الناس من لا يشغل باله في الوباء إلا بالثراء ،ومن طبيعة الإنسان إذا اكتنفته ظواهر المرض ومظاهر الموت أن يخشع قلبه وتزهد عينه ،ولكن عجبك ينقضي إذا حشرك الله في زمرة الذين يعيشون على حساب المرض والموت،فجعلك طبيباً أو ممرضاً أو حانوتياً أو نحو ذلك ،فيومئذ تشعر بحكم الإلف والعادة أنك أشبه بخدمة الموائد في حفلة العرس ، أو بحملة القماقم في موكب الجنازة ،لا يعنيك من الأمر غير الأجر ،ولا يغنيك عن شأنك شؤون الناس.
على أن في الطبابة جزءاً من النبوة ،وشطراً من الحكمة . وعلى هذا الشطر وذلك الجزء يعوَّل الناس في إيقاظ الضمير الإنساني في هؤلاء الأطباء ليعودوا رسل سلامة وملائكة رحمة”.
ويقول الأستاذ أحمد أمين رحمه الله في مقال له بعنوان”إلى الله أشكو”(مجلة الثقافة العدد 460 عام 1947م:
“إلى الله أشكو”الكوليرا”،فقد روعت مصر وما حولها،واستنفدت من مالها ومجهودها ما لو أنفق في وجوه الإصلاح لأتى بالخير الكثير،وأزهقت أرواحاً عزيزة،وطعنت نفوساً كريمة،وأصابت التجارة فكسدت،والأسواق فشُلّت،وزادت الفقير فقراً،والبائس بؤساً،فكم من صانع بارت صناعته،ومحترف ركدت حرفته.
عدو ثقيل بغيض لئيم،يحارب في الخفاء،ولا يجرؤ على الظهور،ويتغفل الناس فيفترسهم،وينتقل كالهواء فيفتك بهم،ويفعل في صمت ما لا تفعل القنابل والطيارات المدمرة،ويتوالد بالملايين،ويتكاثر ما لا تتكاثر جيوش الأمم القوية،والممالك العتيدة،ويتسلح بالكتمان،ويصيب في الصميم.
فاسد الذوق،يتخير أسوأ الأوقات فيفزع الناس بزيارته،فالناس في مصر لم يرتاحوا مما غشيهم من حرب،وهم في شغل شاغل بما أفسدته الحرب،وهم في قلق واضطراب مما خلّفته الحرب”.
عباس محمود العقاد رحمه الله(المجموعة الكاملة ـ المجلد 22 ـ ص34):
“وعرض لي حادث دون السابعة من عمري أتمثله الآن كأني حضرته منذ يومين وهو حادث الوباء الذي كان معروفاً باسم الهيضة أو الهواء الأصفر في أسوان.
أقفرت المدينة شيئاً فشيئاً من سكانها.
مات كثيرون منهم ورحل آخرون،وخلا الشارع الذي أقيم فيه فأغلقت الحكومة أبوابه ولطختها بالعلامة الحمراء التي معناها أن هذا البيت قد زاره الوباء.
ومن لحظة إلى لحظة يتراءى في الشارع نعش عار يمشي من ورائه رجلان أو ثلاثة،وقد يكون بينهم وبين حمل هذا النعش مسافة الطريق،وتوصيلة أخرى من توصيلاته التي لا تنقطع طول النهار.
وبيتنا وحده فيه إصابتان.
وليس في الشارع،إذا خرجت إليه،طفل واحد يحوم بين تلك البيوت المغلقة بالعلامة الحمراء.
وإذا نزلت إلى شارع النيل حيث كان يطيب لي التجوال على غير هدى،وجدته مقفراً من الناس،ومن حين إلى حين تعبر في النيل سفينة شاردة لا تجترىء على ملامسة الشاطىء خوفاً من العدوى.ويصيح منها صائح كلما لمح على المورد زميلاً يسأله عن الخبر:
ـ كم المحصول اليوم؟
فيجيبه:مصري كامل…أو مجيدي…أو بنتو…أو نصف جنيه فقط في أسلم الأيام.
ماهذا المحصول؟وما هذه العملة التي يحسبونه بها؟
إنها تهكم المصائب الوجيع!
إنه عدد الموتى في ذلك اليوم:جنيه مصري كامل أي مائة ميت،ونصف جنيه أ] خمسون،ولم أسمع قط ذكر الريال إلا في ختام الموسم الشنيع:موسم الحصاد!
صورة لا أنساها،ولا ألتفت إليها إلا تمثلت وحشتها وبلواها،وإليها ولا شك يرجع شىء من هذه الوحشة التي تحبب إليَّ الخلوة والإنفراد”.
وقال الشيخ العلامة علي الطنطاوي رحمه الله(الرسالة العدد 744):
“تحرك الجيش المصري بعد طول السكون،وسهر القادة يرسمون الخطط،ويعدون مناهج القتال،واستعد الجند وشحذوا السلاح،وسيقت الكتائب تتراً،فلا ترى إلا جنداً يزحفون إلى ساحة المعركة،يمشون خائفين وهم الكماة الشجعان الذين ماعرفوا الخوف،ويتقدمون حذرين وهم الشوس المقاديم الذين لايرهبون الخطر،يتلفتون لايدرون من أين يأتيهم هذا العدو المرعب،الذي يضرب الضربة،فيهدم الدور،ويفتح القبور،وهو مختف لا يرى،فإذا وارى الناس موتاهم،ومسحوا دموعهم،وحسبوا أنهم نجوا منه،رأوه قد ضرب ضربته الثانية،في مكان قريب أو بعيد،لا يعلمون كيف تسلل إليه.لا يقف في وجهه حصن،ولا يرده بارود،ولا ينفع معه رصاص ولا قنابل،ولا يدرون من أين يطلع عليهم:أيهبط من السماء،أم يخرج من الماء،أم ينبعث من خلال الظلام،يخشون أن يكون قد امتلكهم وهم لا يحسون،وقبض على أعناقهم،يمتص دماءهم،ويزهق أرواحهم،ويجرعهم كؤوس الموت…وهم واقفون يحرسون البلاد منه،ويعدون العدة للقضاء عليه.
وفشا في الناس الخوف،وعمّ الذعر،وعلت الوجوه قترة الجزع،وشغلت الألسنة أحاديث الخطر،وملأت القلوب رهبة المصير ولو كانت معركة جنود وعتاد لهانت ولما خاف منها أحد،لأن هذا الشعب قد تمرس بالمعارك من يوم كان قابعاً في صحرائه،يساير الشمس،ويصاحب الرمال،ويعانق السيوف،إلى أن أخرجه محمدليضىء مصباح القرآن في المشارق والمغارب،فينير بها الدنيا المظلمة،والقلبوب القاتمة،وهو إلف المعارك وحليفها،خاضها وهي تلتهب بنار الهواجر،عند خط الاستواء،وهي تتشح بجليد الشتاء على حدود القطب،ماردّه عنها الزمهرير ولا ريح السموم،وواجه الأعداء من كل لون وجنس ولسان،فما يخاف اليوم انكلترا ولا يخشى أمريكا،ولكن هذا العدو أنكى من إنكلترا نكاية،وأخفى مكراً،وأسرع ضرراً.صغير ولكنه يحط النسر من عليائه،ويلقى الأسد على مضائه،ويفتك بهذا الإنسان الذي حكم الجو والبحر،وسابق في الفضاء الصوت،وعاند القدر،فجاء القدر يحاربه بأصغر جندي،بجندي تحمل الآلاف منه ـ من هوانه ـ رجل ذباب،وهي لا تشعر بما تحمل…ب(مكروب الكوليرا).
وسمع الناس باسم(الكوليرا)فذكروا(الهواء الأصفر) وذكروا(الوباء)وما يروي التاريخ من أرزائه وبلاياه.
واغتنم الشيوخ الفرصة ليحظوا بالتفات إليهم بعد طول الإعراض عنهم،فحدثوا بما رأوا من فظائع الوباء الذي مرّ على مصر في مطلع هذا القرن،والذي جاز بالشام،في الحرب الماضية،ورأيناه نحن،وبالغوا،ووصفوا الجثث التي تكاثرت حتى ماتسعها القبور،والصراخ الذي علا حتى ما تتحمله الآذان،والآلام التي ازدادت حتى ما يطيقها بشر.فروّعوا الناس وخوفوهم،على خوفهم،فما يستقر بهم قرار…
وقامت الحكومة،وانبرى الأطباء،يهدئون الناس ويطمئنونهم،ويرجعون إليهم ثقتهم بالعلم،ويضعون لهم المناهج الصحة،ويدلونهم على وسائل الوقاية:لا تشربوا الماء إلا من الأنابيب،وإن شككتم فيه فاغلوه،ثم صبوا عليه ماء الليمون،ولا تأكلوا الثمار إلا مسلوقة أو مغموسة بالماء المغلي،ولا تعملوا كذا إلا بكذا،ولا تضعوا كيت إلا بكيت.ثم تعالوا نعطيكم الدواء الواقي،وما بقي من القضاء إلا من قضاه..ولكن لكل شىء أسباباً ولكل مرض علاجاً،والذي أنزل الداء هو الذي أنزل الدواء.
ونشرت هذه النصائح في الجرائد،وعلقت على السيارات،وقيلت في (الإذاعات)،وخطب بها على المنابر،وأسرع القارئون والسامعون يعملون بها،وينفذون ماجاء فيها،وحسب أولو الأمر أنهم قد أسمعوا الناس،وعلموهم،ووقوهم أسباب الردى،ولم يدر لأحد بجيراننا الذين يسكنون(عشة حقيرة)خلال قصور الروضة العامرة،مبنية من جذوع النخل،مغطاة بالقش وبأنواع اللقي،لها باب صغير كأنه فتحة مغارة،لاشباك لها ولا نافذة،ولاترى الشمس داخلها،ولا يجاوز الضوء بابها ولا يلجها إلا بمقدار.لا ماء فيها إلا مايستقونه من ماء النهر فيضعونه في الجرار المكشوفة يلغ فيها الكلب،وتغسل فيها الآنية،ويسقط فيها الذباب،فتزداد أذى على أذاها،ولا نور إلا نور مصباج زيتي يكاد دخانه المتكاثف يطمس نوره الخافت،ولا نار إلا نار هذا الحطب الذي يوقدونه فيها ليطبخوا عليه،فيخرد دخانه من شقوق السقف،يملأ الحيّ،ويروع الغريب،فيظن أن البيت،(أعني الكوخ)قد احترق…تنام في هذه(العشة)الأم(الشحادة)وأولادها والكلب والحمار الهزيل،وما لا يعلمه إلا الله من الفيران والصراصير والخنافس وسائر الهوام والحشرات ،لا يكلمون أحداً في الحي ولا يكلمهم أحد،قد خرجوا من دنيا الناس ولم يدخل الناس دنياهم.وما دنياهم؟إن خيراً منها دنيا كثير من كلاب الأغنياء وخيولهم وقردتهم.وليس فيهم من يقرأ جريدة أو يبصر إعلاناً،أو يسمع(رادّاً) أو يحضر وعظ واعظ،أو خطبة خطيب،فلم يعلموا بما روّع الناس،وصدع خوفه قلوبهم،ولا عرفوا من طرق الوقاية كثيراً ولا قليلا،وإن هم عرفوها،لما استطاعوا أن يصنعوا شيئاً.
وأمثال هؤلاء الذين لم يدر بهم أحد كثير كثير…إن نحن توقينا المرض،حملوه هم إلينا،فما أغنى عنا توقينا شيئاً،وإن اعتصمنا بالعلم والمال،فما لهم من علم يعصمهم ولا مال.
ولو كنا صدقنا الحملة يوم حملنا على المرض والجهل والفقر لوجدنا فيهم اليوم صحة تعينهم على احتمال المرض،وعلماً يمكنهم من فهم مناهج الوقاية،وما لا يقدرهم على تهيئة أسبابها.ولكنا أهملناهم فجئنا نتلقى عواقب هذا الإهمال،فإن أصبنا اليوم بهم فياطالما أصيبوا هم بنا،وإن شكونا من أذاهم لنا،فيا طالما شكوا هم من أذانا.
وهل شكوا حقاً؟وهل تركنا لهم ألسنة تنطق بشكوى؟أو أقلاماً تعبر عن نقمة؟أما أخرسنا بالجوع ألسنتهم،وشللنا بالجهل أصابعهم،وحرمناهم الإنسانية حين جعلناهم حيوانات لا تنطق وما كان الإنسان إلا بالنطق إنساناً!
فانشروا الآن ماشئتم من نصائح،وأذيعوا ما أردتم من مناهج،إن أكثر الناس لا يقرؤونها،وإذا قرؤوها لا يعملون بها لأنهم عاجزون عنها،فوقوهم أنتم أسباب المرض لتقوا أنفسكم واعتنوا بهم ليبقوا في خدمتكم،ولكن لا تنموا عليهم بفعلكم،ولاتزعموا أنكم أحسنتم إليهم بصنعكم،لأنكم تطيلون حياتهم فتطيلون معها عذابكم،ولو تركتموهم يموتون لكان خيراً لهم (هم) وأبعد للمتاعب عنهم.
أما إن الخطر على هؤلاء المساكين منا،والخطر على الأمة منهم من مرضهم وجهلهم وفقرهم،أشدّ من خطر(الكوليرا)فاعملوا على دفعه،واعلموا أنكم إن لم تحيوهم بما في طبيعة العروبة من مساواة،وما في أحكام الإسلام من عدالة،أوشكتم أن تخالفوا بفعلكم العروبة والإسلام،وأن تؤيسوهم منها،وأن تضطروهم اضطراراً إلى التفتيش عن مصدر آخر للأمل لعلهم يظنون(ظناً كاذباً)أنهم واجدوه في الشيوعية،فيكونوا شيوعيين،ويومئذ تكون الطامة الكبرى…
وبعد، فلا يبلغ بكم الجزع،فالخطب إن شاء الله يسير،والسلامة قريبة،والمرض زائل،وما أخشى على مصر المرض ولكن أخشى أن تنقشع السحابة،ويعود الصفاء،فننسى أن في مصر ملايين لم تصل إليهم هذه الحضارة،ولم يستمتعوا بشىء من متعها،ولم يصبهم من خير مصر إلا الأقل،وخيرها يصيب كل أجنبي عن مصر،آكل لخيراتها كاره لها،مزدرد لأهلها،وإن لهؤلاء حقاً صريحاً،حقاً أقرته الأديان والشرائع كلها،والإنسانية،وقواعد العدالة:هو أن يكونوا أصحاء الأجسام،متعلمين مايفهمون به الخير من الشر،واجدين من المال مايشترون به ضروريات الحياة.وننسى أن الله خلق الناس إخواناً،فلم يخلق بعضهم عبيداً لبعض،وأن عمرو بن العاص،أبطل العبودية من مصر وألغى(نظام الطبقات)،وسوّى بين الناس،في العهد الذي نسميه جهلاً وغفلة عهد(القرون الوسطى)،وأنه من العار على الإنسانية وعلى الحضارة،وعلى مصر،أن تعود إليه مصر في(قرن العشرين).”.
أحمد شوقي يتكلم عن الكوليرا التي أصابت مصر عام 1902(نقلاً عن فيض الخاطر أحمد أمين ج10 ص103 ومجلة الرسالة العدد747):
الدهر جاءك باسط الأعذار فأقبل فأمر الدهر للأقدار
هل كنت تدفع حاضراً أو غائباً عن مصر حكم الواحد القهار
ذاقت نواك وروعت بثلاثة بالداء بعد المحل بعد النار
ودهى الرعية ما دهى فتساءلوا في كل ناد أين ربّ الدار
ذكروك والتفتوا لعلك مسعد ذكر الصغير أباه في الأخطار
فأسى جراحهو وبل صداهمو طيب الرسائل منك والأخبار
لهفي على مُهجِ غوالِ غالها خافي الدبيب مُحَجبْ الأظفار
خمسونَ الفاً في المدائن صادهم شِركُ الردى في ليلةٍ ونهارِ
ذهبوا فليت ذهابهم لعظيمة مرموقة في العصر أو افخار
فالموت عند ظلال(موشا) رائع كالموت في ظل القنا الخطار
علي الجارم في وباء الكوليرا الذي داهم مدينة رشيد عام 1895 ميلادي (الديوان ص466):
أيُّ هذا “المكروبُ”مهلاً قليلاً قد تجاوزتَ في سُراكَ السبيلا
لستَ كالواوِ، أنتَ كالمنجلِ الحصَّادِ إن أحسنوا لكَ التمثيلا
(جرثوم الكوليرا يشبه الواو والضمة)
ما غلبتَ النفوسَ بالعزمِ لكن هكذا يغلِبُ الكثيرُ القليلا
رُبَّ طفل تركتَ من غيرِ ثدي يضرب في الأرض ضجة وعويلا
وفتاة طرقتها ليلة العر سِ وقبل الحليل كنت الحليلا
كحلّوا جفنها فكحلَّتَ فيها كل جفن أسى وسُهداً طويلا
أنت في الهندِ في مكانٍ خصيبٍ فلماذا رَضيتَ هذا المُحُولا(الجدب)
أنتَ كالشيبِ إن دَهِمتَ ابنَ أنثى لم تُزايلْ جنبيهِ حتى يزولا
حار “بنشنج”فيكَ يا ابنَ شَعُوبٍ ونقضتَ المُجرَّبَ المعقولا
(اسم مدير صحة، شعوب: المنية)
عقَدَ الأمرَ فابتكرتَ لهُ الحَلَّ وما كان عَقدُهُ محلولا
قام يغزوكَ بين جيشِ القواريرِ فولَّى بجيشهِ مخذولا
وتركتَ الحموضَ تجرَعُها الأ رضُ وجرَّعتنا العذاب َ الوبيلا
“وبموَشى” أرادَ حَصْرَكَ بالجُنْدِ وهل تَحصُرُ الجنودُ السيولا
(بلدة في أسيوط اول ماظهر فيها )
يا ثقيلَ الظلال آذيت بالما لِ وبالنَّفْسِ فالرحيلَ الرحيلا
من يَبِتْ عِندهُ الهِزْبرُ نزيلاً كان من قِبْلِ زادهِ مأكولا
رُبَّ طفلٍ تركتَ من غيرِ ثديٍ يضرِبُ الأرضَ ضجةً وعويلاً
وفتاةٍ طَرَقتها ليلة العرسِ وقبلَ الحليلِ كنتَ الحليلا
كَحَّلوا جفنها فَكَّحلتَ فيها كُلَّ جفنٍ أسىً وسُهداً طويلا
خَضَّبتها يدُ المواشطِ صُبْحاً فَمحاهُ المُطَهرونَ أصيلا
ما رحمتَ العيونَ تلكَ اللواتي تركتْ كُلَّ عاشقٍ مذهولا
لو رآها جبريلُ_أستغفرُ الله_ لآلَهتْ عن وحيهِ جبريلا
يا قتيلَ”الفينيك”يكفيكَ قتلا كَ فأغمِدْ حُسامكَ المسلولا
(مادة مطهرة)
إنَّ في مِصْرَ غيرَ موتِكَ موتاً تركَ الأروعَ الأغَرَّ ذليلا
فارتَحِلْ بارِدَ الفؤادِ قريراً مُروَّياً من دمِ العبادِ الغليلا
وقال الشيخ محمد رجب البيومي في وباء الكوليرا الذي أصاب الكفر الجديد احدى قرى الدقهلية (مجلة الرسالة احمد حسن الزيات العدد 749):
شبت تحت الضلوع يعصف بالجسم كما يعصف اللظى بالهشيمِ
ذعر الناس فاستهلت دموع كانهمار الغيوث تحت الغيومِ
وأفاق الشعب الجريح كما استيقظ جفن على صراخ أليمِ
زأر الرعب في القلوب فجاش الحزن يغلي بها كغلي الحميمِ
الصبور الشجاع غير صبور والحليم الرزين غير حليمِ
جزعت أنفس وطارت عقول قد دهاها الردى بخطب جسيمِ
سلمت أمرها إلى الله لكن هل يرد القضاء بالتسليمِ
خطر هب يمحق الناس محقاً كرجوم تهوى وراء رجومِ
كلما قد قرأت عنه حديثاً شبّ في أضلعي لهيب الجحيمِ
قيل لي أنت خالك فتطعم أي خير يكون في تطعيمي
أنا أمشي وبين طيات قلبي خيفة منه رعدة المحمومِ
ينفث السم كالافاعي مجداً ويبيد الجسوم تلو الجسومِ
الشديد القوي صريع لديه والسليم الصحيح غير سليمِ
جثث ترتمي كساحة حرب أسفرت عن فناء جيش عظيمِ
جنت الأرض فهي تغفر فاها طمعاً في ابتلاع عظم رميم
أكلت أهلها ولم تبق شيئاً ما صنيعي في الآكِلِ المنهومِ؟
طفت بالريفِ اجتليه صباحاً وهو دنيا لذاذاتي ونعيمي
كان يبدو لناظري وسيماً كيف أضحى الغداة غير وسيم
لا الأزاهير ذات عرف شذى لا النواعير ذات صوت رخيم
لا الغواني الصباح يخطرن في السهل ولا الطير بارع الترنيم
انظر الحقل فالطبيعة فيه كبنى الإنس أسرفت في الوجوم
هي والله ذات فكر حصيف قد هداها فشاركت في الهموم
النخيل الوفي يخفض عطفيه كئيباً كبائس محروم
وعلى القطن غبرة سودته بعدما لاح ساطعاً النجوم
والغراب العجيب يرسل نحوي نظرات كالفيلسوف الحكيم
خطر هدد الجميع فكل صارخ من مصيره المحتوم
إن دها منزلا رأيت ذويه بين فانٍ يمضي وحي سقيم
يهجر الوالد ابنه ثم يعدو خيفة من أذاه عدو الظليم
وحنان الأم الرؤم توارى فهي عند المصاب غير رؤم
ترك الزوج زوجه تتلظى في جحيم يفوق كل جحيم
فر منها وكان يخشى عليها قبل هذا الوباء مر النسيم
فادخل البيت لست تبصر فيه غير أم ثكلى وطفل يتيم
فتح القبر فاطمأنت جنوب غرقت في سكونها المستديم
مرض يملأ الخواطر بالوهم فيالي من خاطري الموهوم
أنا منه مكبل بقيود قذفت بي إلى عذاب أليم
حرموا الماء الفواكه ظلماً من مجيري من ذلك التحريم
قيل لي إن في المياه سموماً فكرهت المياه ذات السموم
وكذاك الفواكه الحلوة الطعم مجال لكل داء وخيم
عجباً أبغض الرحيق المصفى وأعاف الجنان ذات الكروم
قيل لي لا تسر جوار صديق واعتزل في الأنام كل نديم
احذر العدوى أن تصيبك من خل وفيّ أو من عدو خصيم
فاجتنبت الورى وعشت وحيداً وتوغلت في ضلالي القديم
ليت شعري من أصطفيه لنفسي إن تخوفت من صديقي الحميم
عشت حتى غدوت مثل المعري ألزم الدار غارقاً في همومي
يا لحُمّى تفرى لحوم البرايا أو ما أتخمت بتلك اللحوم
مهدها الكنج مذ بدت فلماذا تطعن (النيل) ويحها في الصميم
نزلت في الوادي كشمطاء لاحت لعيون الورى بوجه دميم
وأتتنا مع العدو كما تسعى الأفاعي مع الظلام البهيم
ليتها أهلكته أبشع هلك ورمته بكل داء عقيم
هكذا الإنجليز جرثومة الشر ونار مشبوبة اليحموم
رب من للضعيف هاجمه الخطب وما يستطيع صد الهجوم
يكظم الغيظ في الحياة إلى أن يتلقى الردى بغيظ كظيم
المناحات لا تزال بسمعي كدوي الرعود ذات الهزيم
والثكالى يسرن خلف الثكالى ساهمات وقيت شر السهوم
كلما صاحت الديوك توهمت صداها صراخ عان كليم
ارحم الناس يا إلهي واكشف كل سوء فأنت خير رحيم
أحمد محرم يتكلم عن داء الكوليرا الذي أصاب مصر عام 1902م ( الرسالة العدد747):
ضيف ولكن لا أقول سلام ولربّ ضيف ذمّ منه مقام
ريعت لطلعتك القلوب وهالها هذا التوثب منك والإقدام
تسطو على سرب النفوس وإنما يسطو على سرب الحياة حِمام
وتصول ما يثنيك عن آجالها عذل تؤجج ناره وملام
أو كنت ذا قلب يرق لنادب أمنت بلاءك هذه الأقوام
الله في أرواحها ونفوسها إن كانت التقوى لديك تُرام
أوقدتها حرباً يشبّ ضرامها فمتى يغيث الناس منك سلام
أتظن أن الخوف يملك منطقي؟ نظم القريض إذن علي حرام
أم أنت تطمع أن يدين لحادث قلم تدين لربه الأقلام؟
أسطو عليك به وأعلم أنه قدر تطيش لهوله الأحلام
كف الوعيد فإن أنفاس الفتى معدودة وكذلك الأيام
ولكل نفس مدة محدودة ولكل شيء غاية وتمام
يا ضيفنا المكروه يومك بيننا شهر وشهرك إن تقاصر عام
أنّى حللت من المدائن والقرى حلّ البلاء وزادت الآلام
يا ضيفنا لو لم تكن قذراً لما ضربت على الأقذار منك خيام
إن اغتيالك ذا الخصاصة بيننا عيب يجانبه الكريم وذام
أم الغني تخاف ويحك أم ترى أن الغني من حقه الإعظام
سر أو أقم إن المنون روائح وبواكر ومن المحال دوام
نازك الملائكة والكوليرا:
سكنَ الليلُ
أصغِ إلى وقعِ صدى الأناتْ
في عُمْقِ الظلمةِ،تحتَ الصمتِ، على الأمواتْ
صرخاتٌ تعلو ، تضطربُ
حزنٌ يتدفق ، يلتهبُ
يتعثر فيه َصدى الأهاتْ
في كل فؤادٍ غليانُ
في الكوخِ الساكن أحزانُ
في كل مكان
روحٌ تصرخُ في الظلماتْ
في كل مكان يبكي صوتْ
هذا ما قد مزقّهُ الموت
الموت الموت الموتْ
يا حُزْنَ النيل الصارخِ مما فعلَ الموتْ
طَلعَ الفجرُ
أصغِ إلى وَقْعِ خُطى الماشينْ
في صمتِ الفجر ، أصِخْ، أنظْر ركبَ الباكين
عشرةُ أمواتٍ ، عشرونا
لا تُحصِ أصِخْ للباكينا
اسمعْ صوتَ الطفل المسكين
موتى ، موتى ، ضاعَ العدد ُ
موتى ، موتى ، لم يبقَ غدُ
في كلِ مكانٍ جَسَدٌ يندبُه محزونْ
لا لحظةَ إخلادٍ لا صمتْ
هذا ما فعلتْ كفُّ الموتْ
الموتُ الموتُ الموتْ
تشكو البشرية تشكو ما يرتكب ُ الموتْ
الكوليرا
في كهفِ الرُّعب مع الأشلاءْ
في صمت الأبدِ القاسي حيثُ الموتُ دواءُ
استيقظ داءُ الكوليرا
حقداً يتدفقُ موتوراً
هبطَ الوادي المرحَ الوضَّاءْ
يصرخُ مضطرباً مجنوناً
لا يسمعُ صوتَ الباكينا
في كل مكانٍ خلَّفَ مخلبُهُ أصداءْ
في كوخِ الفلاحة في البيتْ
لاشئَ سوى صرخات الموتْ
الموت الموت الموتْ
في شخصِ الكوليرا القاسي ينتقمُ الموتْ
الصمتُ مريرْ
لاشئَ سوى رجْع التكبيرْ
حتى حفَّارُ القبر ثوى لم يبقَ نصيرْ
الجامعُ ماتَ مؤذُنهُ
الميتُ من سيؤبنهُ
لم يبقَ سوى نوحٍ وزفيرْ
الطفلُ بلا أمٍّ وأبِ
يبكي من قلبٍ ملتهبِ
وغداً لا شكَّ سيلقفهُ الداءُ الشّريرْ
يا شبحَ الهيضة ما أبقيتْ
لا شئ سوى أحزانِ الموتْ
الموتُ ، الموتُ، الموت
يا مصرُ شعوري مزقَّهُ ما فعلَ الموتْ
الشيخ محمد عاقل يصف الكوليرا(الهواء الأصفر) نقلاً عن الآداب العربية في القرن التاسع عشر لويس شيخو ص88:
دهانا بوادي النيل كالسَّيل حادثٌ له تذهَلُ الألبابُ حين يحيفُ
دعوهُ بريحٍ أصفرٍ شاعَ ذكرهُ وما هو إلا هيضةٌ ونزيفُ
بهِ احتارت الأفكار والعقل والنهى وكلُّ طبيبٍ شانه ُ العلمُ موصوفُ
فلم يُبقِ داراً لم يَزُرها ولم يَذرْ جناناً بهِ ركبُ السروريطوفُ
ثكلنا رجالاً للزمانِ نَعُدُّهم طروساً وهم للمعضلاتِ سيوفُ
تراهم ليومِ اليأسِ والبأسِ عُدَّةً وجاههمُ للقاصدينَ منيفُ
وكم فيهمُ من أهلِ ذوقٍ وفِطنةٍ وفيهم لطيفٌ ألمعي وظريفُ
لقد أقشبت أقطارُ مصرٍ لفقدهم وكان بهم روح الكمال قطيفُ
نأووا وأقاموا بارح الحزن في الحشا فليسَ بديلاً تالدٌ وطريفُ
فَشَّيعهم عقلي وفكري وفطنتي ولم يبقَ من لُبّي لديَّ طفيفُ
وناقَصَ أمثالي صحيحٌ مضاعفٌ ومهموز حزني أجوفٌ ولفيفُ
د. لويس صابونجي(_1843_1928_) من شعراء سوريا يقول بعد أن خرج من قريته التي انتشر فيها “الهواء الأصفر” نقلاً عن الأدب العربي المعاصر سامي الكيالي ص77-78:
خُلقت بأرضٍ قد تَجَلَّت ببهجة سقاها إلهي من فرات ودجلة
بلاد ثواها “أدم” بعد جنة إليها انتمى الأبطال في كل حقبة
ولدت بها فوراً على غير موعد غداة أتاها والدي لنزهة
بشهر فشا فيها الوباء مؤلفاً وشاع انتشاراً في بلاد الجزيرة