بسم الله الرحمن الرحيم
الأدواء المترافقة مع الحمى
الحُمّى:
من الناحية الدينية:
جاء في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “الحُمّى من فيحِ جهنّمْ ،فأبردوها بالماء “. [متفق عليه].
وفي حديث آخر عن التابعي أبو جمرة نصر بن عمران الضبعي:كنت أجالس ابن عباس بمكة،فأخذتني الحمى،فقال: أبرِدها عنك بماء زمزم،فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:”الحمى من فيح جهنّم فأبردوها بالماء.أو قال: بماء زمزم .شك همّام“[صحيح البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما].
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله:
“إن قوله صلى الله عليه وسلم فيه وجهان:
أحدهما: أن ذلك أنموذج،ورقيقة اشتقت من جهنم ليستدل بها العباد عليها،ويعتبروا بها،ثم إن الله سبحانه قدر ظهورها بأسباب تقتضيها،كما أن الروح،والفرح والسرور،واللذة من نعيم الجنة أظهرها الله في هذه الدار عبرة ودلالة،وقدّر ظهورها بأسباب توجبها.
والثاني:أن يكون المراد التشبيه،فشبّه شدّة الحمى ولهبها بفيح جهنم،وشبّه شدّة الحر ّبه أيضاً،تنبيهاً للنفوس على شدّة عذاب النار،وأن هذه الحرارة العظيمة مشبهة بفيحها،وهو ما يصيب من قرب منها من حرها”.
وقال ابن حجر العسقلاني رحمه الله:
“واختلف في نسبتها إلى جهنم فقيل: حقيقة،واللهب الحاصل في جسم المحموم قطعة من جهنم،وقدر الله ظهورها بأسباب تقتضيها ليعتبر العباد بذلك.
قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين قدومه مكة،وقد أخذتهم الحُمّى ،فخاف أن يشمت بهم الأعداء حين ضعفهم عن السعي فقال : “رحم الله من أظهر من نفسه الجَلَد”. [رواه مسلم والنسائي وأبو داود وأحمد].
جاء في فتح الباري ج11 ص180:
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها : قدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله .حتى قال صلى الله عليه وسلم “اللهم حببّ إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشدّ،وصَححها،وبارك لنا في صاعها ومُدّها،وانقل حُمَّاها فاجعلهابالحُجفة “[صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها]،
وفي حديث آخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أم السائب أو أم المسيّب وهي تُزفزف فقال:”مالك يا أم السائب أو أم المسيب تُزفزفين؟”قالت: الحمى لا بارك الله فيها فقال صلى الله عليه وسلم:”لا تسبّي الحمّى فإنها تُذهب خطايا ابن آدم كما يُذهب الكير خبثَ الحديد“[صحيح مسلم و ابن حبان عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه].
(تزفزفين:أي ترتعدين بشدة)
والعلة من النهي عن سبّ الحمى أن هذا فيه من التبرم والتضجر من قدر الله تعالى،مع ما فيها من تكفير السيئات وإثبات الحسنات.
أبو بكر الصديق : جاء في أحد اعداد مجلة الفيصل :”في يوم الإثنين 7 جمادى الأخرة 13 هجري (8 آب 634م) اغتسل أبو بكر رضي الله عنه ،وبالرغم من أن الفصل كان صيفاً فقد كانت ليلة باردة بالمدينة ،وحُمّ أبو بكر وارتفعت حرارته خمسة عشر يوماً ،فلازم فراشه ولم يكن يخرج إلى الصلاة وإنما كان يأمر عمر بن الخطاب أن يصلي بالناس،وكان المسلمون يعودونه في داره وهو يثقل كل يوم ،وكانت ابنته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها هي التي تمرضه،واشتدّ المرض على أبي بكر فقيل له : لو أرسلت إلى الطبيب ؟ قال: قد رآني ،قالوا: فما قال لك؟ قال: إني أفعل ما أشاء . ونظرت عائشة إلى أبيها العظيم ثم رددت بصوت مسموع قول حاتم الطائي:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
فنظر إليها أبو بكر كالغضبان وقال: ليس كذاك يا أم المؤمنين ولكن :{وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد}[ق 19] فلما غابت شمس ذلك اليوم توفي أبو بكر عشاء عن ثلاث وستين وكان آخر ما تكلم به “ربي توفني مسلماً وألحقني بالصالحين”.
وجاء في مجموعة السفير ج37-38 ص2870″ كانت وفاة الصديق رضي الله عنه ليلة الثلاثاء 13 من جمادى الأخرة 13 هجري (14 اغسطس 634م) وعمره ثلاثة وستون عاماً ،ودفن حيث أوصى وجُعل رأسه عند كتف النبي صلى الله عليه وسلم .
جاء في كتاب السيرة النبوية في ضوء القران والسنة –أبو شهبة- ج2 ص36:”
لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كانت أوبأ أرض الله من الحُمّى،فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم ،وصرف ذلك عن نبيه،وكان ممن وعكتهم الحمى وهدَّت من كيانهم الصديق أبو بكر ،وعامر بن فهيرة مولاه،وبلال بن رباح ،فكان الصديق إذا اشتدّت به الحمى يقول:
كُلُّ امرئ مُصَبِّحٌ في أهلهِ والموتُ أدنى من شِراكِ نعله
وكان عامر يقول:
قد وجدت الموتَ قبلَ ذوقه إنَّ الجبان حتفه من فوقه
كل امرئ مجاهد بطوقه كالثور يحمي جلده برَوقه
(القرن)
وكان بلال يقول:
ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة بواد وعندي إذخر وجليلُ
(نباتان من نبات البادية)
وها أرَدنْ يوماً مياه مجّنة وهل يبدون لي شامةٌ وطَفيلُ
(جبلان بمكة)
فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم عما رأت وسمعت فدعا بهذا الدعاء:“اللهم حَبّب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشدّ،وصّححها وبارك لنا في صاعها ومدها ،وانقل حماها فاجعلها بالجحفة ” [رواه البخاري ].
وقد استجاب الله لنبيه الدعاء وصار جو المدينة من أحسن الأجواء . ولم تكن الجحفة حينئذ من بلاد الإسلام وهي التي كانت مهل أهل الشام ومصر ومن على شاكلتهم.
من الناحية الطبية:
التنظيم الحروري في البدن:
إن الحفاظ على درجة حرارة ثابتة ومعتدلة عند الإنسان يعتبر مثالاً لتوازن الجسم Homeostasis.
حيث تتداخل عدة فعاليات من أجل إنجاز هذا الهدف.ويمكن من وجهة النظر الفيسولوجية التعبير عن العلاقة بين الحياة والحرارة بأنه طالما كان الإنسان حياً طالما كان هناك نشراً للحرارة.وإن كمية الحرارة المنتشرة عند الأصحاء تختلف تبعاً للنشاط في العضلات الصقلية لديهم، ولنوع الطعام المُتناول،ودرجة حرارة المحيط،وحالة بعض الغدد الصماء.
تبلغ كمية الحرارة المنتشرة عند الشخص السليم الكهل الصائم في حالة الراحة حوالي 1700 حريرة (كالوري) خلال 24 ساعة،فإذا ما قام بنشاط عادي فإن الرقم يرتفع إلى 3000 كالوري.وفي الأعمال المجهدة الشاقة يصل إلى 7000كالوري.
وبما أن هتاك توليداً للحرارة مستمراً خلال الحياة فلا بد أن يكون هناك ضياع مستمر أبضاً،وإلا اررتفعت درجة حرارة الجسم،ومعظم الضياع الحراري يتم عن طريق الجلد وخاصة من خلال عملية التعرق.وهناك نوعان من الحيوانات:ثابتة الحرارة ومنها الإنسان،ومتبدلة الحرارة وتسمى ذوات الدم البارد.
إن توليد الحرارة في الجسم هو عملية لا إرادية تنجم عن أفعال حيوية مثل التنفس وعمل القلب،والدوران والغدد والاستقلاب.
وفي حال وجود محيط بارد كما في الشتاء فإن توليد الحرارة يزداد،ولكن إلى درجة تحمي الجسم من البرد القارص وبدون أن يتعرض للتجمد أو الموت.وإن ظاهرة الإرتعاش في الجسم والتي تشاهد عند التعرض للبرد تعتبر عملية وقائية جسمية هامة تقيه من البرد.وهذا الارتعاش أو القشعريرة عبارة عن تقلص في العضلات الصقلية يتم بشكل إرادي ولا إرادي.ولذا فإنه في حالات إصابة العضلات بالشلل أو بسبب تناول الأدوية المسببة للاسترخاء العضلي فإن درجة حرارة المصاب بالتخدير أو الشلل تهبط إلى درجة حرارة المحيط،ولذا تجرى العمليات الجراحية المرافقة بالتخدير في جو غرفة دافىء.
إن الحرارة تتولد في الجسم من خلال عملية أكسدة الطعام في جميع خلايا الجسم،وبما ان القسم الاكبر من الجسم يتألف من العضلات المخططة الصقلية فإنها تقوم بالدور الأكبر في هذه العملية.وعند استرخاء العضلات كما يشاهد أثناء النوم فإن توليد الحرارة يتناقص،وعلى العكس يزداد ارتفاعاً في حالات الجهود العضلية الشاقة.
كما أن توليد الحرارة له علاقة مع النشاط الإفرازي للغدد الصماء وغير الصماء،وبما أن الكبد هو أكثر الأعضاء الغدية نشاطاً وحجماً فإنه يقوم بالدور الرئيسي في نشر الحرارة وخاصة عندما تسترخي العضلات أثناء النوم.
وإن الحرارة المتولدة في أي نسيج من الجسم تتوزع إلى جميع أقسام البدن عن طريق الجهاز الدوراني،وهذا يمنع حدوث فرط الحرارة الموضعي في عضو من الأعضاء.
وفي الطقس البارد أو الحار يحدث تبدلاً ملحوظاً في كمية ونوعية الطعام المستهلك،وفي الشهية عند الإنسان.حيث تزداد الشهية في حالات الطقس البارد،وإن لنوع الطعام وكميته دوراً في توليد الحرارة.وهذا يعزى إلى عمل العضلات الملساء في الجهاز المعدي المعوي من جهة،وإلى نشاط وعمل الغدد وافرازاتها الهاضمة في جهاز الهضم.
كما أن الاستقلاب يزداد سرعة ونشاطاً بسبب مادة الأدرنالين،والذي يزداد افرازه من لب الكظر وخاصة في حالات الطقس البارد،والذي يؤدي أيضاً إلى ارتفاع الضغط الشرياني وحدوث التقبض الوعائي المشاهد في حالات التعرض للبرد.
كما أن الغدة الدرقية تلعب دوراً هاماً في النشاط الاستقلابي،وهذا يؤدي إلى ارتفاع حرارة الجسم،وخاصة في حالات فرط نشاط الغدة،وعلى العكس فإن نقص نشاط الغدة يؤدي إلى نقص النشاط الاستقلابي ولذا فإن من الأعراض البارزة في نقص نشاط الغدة الدرقية التأثر من البرد عند المصاب.
وإن الطريق الرئيسية للضياع الحراري يتم عن طريق جلد الإنسان،وكذلك عن طريق الرئتين والمفرغات.حيث يتم مثلاً فقدان 130 كيلو كالوري عن طريق تدفئة الطعام والهواء الداخلين للجسم،وحوالي 370 حرة عن طريق تحويل الماء إلى بخار ماء مشبع ليطرح عن طريق الزفير بالرئتين،وإن هذه الكميات تعادل حوالي 500 حرة ولا تمثل إلا حوالي 20% من المجموع الكامل والذي يبلغ 3000حرة لا بد أن تفقد يومياً من الجسم.والباقي إي حوالي 80% يتم ضياعه عن طريق الجلد والتعرق.
إن التوازن القائم بين توليد الحرارة وضياعها في الجسم يسيطر عليه ويشرف على شقيه الجملة العصبية في الجسم.فتوليد الحرارة يكون بزيادة الحركات في الجملة العضلية الإرادية وهذا مايشاهد بحدوث الارتعاش أو القشعريرة،وهذا يتم بإشراف الألياف العصبية المحركة،وخاصة في النخاع الشوكي وبنشاط الجملة الهرمية وخارج الهرمية في الدماغ.
والضياع الحروري له علاقة مع كمية الدم الجوالة في أوعية الجلد والتي يمكن زيادتها من خلال عملية التعرق وهذه تخضع أيضاً لإشراف التعصيب في الجملة الودية (السمباتية)
وعند الإنسان فإن درجة حرارة الجسم يشرف عليها جهازين: محيطي ومركزي.
أما الجهاز المحيطي فنعني به المستقبلات الجلدية والنشاط الانعكاسي وهذا يلعب دوراً هاماً وخاصة عندما يتعرض الإنسان لتبدلات سريعة في درجات الحرارة في المحيط الذي يعيش فيه.
وأما الجهاز المركزي فإنه يقع تحت إشراف منطقة ما تحت المهاد والذي يشرف على توليد الحرارة ويمنع فرط المعاوضة الناجمة عن المنعكسات الجلدية.حيث تبين أن وضع إحدى اليدين في ماء بارد فإنه يؤدي إلى انخفاض درجة الحرارة في اليد الاخرى.وهذا يتم في اليد المغموسة في الماء البارد من فعل تقلص وعائي مباشرة بسبب تأثير الماء البارد على الأوعية في تلك اليد،وأما في اليد الثانية فإن هبوط حرارتها ينجم عن فعل منعكس يؤدي إلى التقبض الوعائي في أوعيتها.وهذا كله يتم عن طريق مستقبلات جلدية عصبية تسير فيها سيالات عصبية إلى الأعصاب الموضعية وهذا يشرف عليه الجملة العصبية الذاتية الودية.
وأما عملية التعرق من أجل الضياع الحروري فهي عملية معقدة نوعاً ما،ولقد تبين أن التعرق يتم بصورة أسهل في الجو الحار الجاف،ولكنه أكثر صهوبة في الجو الحار الرطب.
وفي بعض الحالات وضمن بعض الظروف القاسية يمكن أن يفقد الجسم كمية غزيرة من عرق الجسم،وهذه تكون مليئة بالأملاح وخاصة الصوديوم وبالتالي لابد من تعويض السوائل والأملاح خوفاً من حدوث مضاعفات خطيرة.
وتوجد الغدد العرقية في كل أنحاء الجسم تقريباً،ولكن حوالي 50% من عملها يكون من ناحية الجذع والبطن،و25% من الأطراف السفلى،و25% من ناحية الرأس والأطراف العليا.
وأما التعرق في ناحية راحتي اليدين وأخمص القدمين فإنه يشاهد غالباً في حالات القلق والاضطرابات النفسية،والانفعالات العاطفية.
ويوجد في الحقيقة نوعان من التعرق وكل منهما يحتاج إلى منبه خاص:ففي الطقس الحار يحدث التعرق في كل مناطق الجلد وخاصة في الناحية الجبهية والشفة العليا والعنق والصدر والجذع وبصورة أقل في الراحتين والأحمصين.
وفي حالات الاضطرابات الانفعالية والعاطفية والنفسية يحدث بشكل خاص في الراحتين والأخمصين والإبطين.
وفي حالات التعرض لدرجات الحرارة العالية يحدث مايسمى “ضربة الشمس”،فإن الإصابة قد تكون شديدة وتسبب هبوط الضغط الدموي والوهط الدوراني ويمكن في بعض الحالات أن تسبب فقدان الوعي والسبات والموت.
إن المكان الرئيسي من أجل توليد الحرارة في الجسم يكون في النسيج الشحمي البني،ويوجد بشكل خاص بين مثلثي الكتف وفي الإبط وعلى شكل شريط أمام الشريان الابهر الصدري.ويشرف على الاستقلاب في هذا النسيج هرمون النور ادرنالين.
الحمى:
ارتفاع في درجة حرارة الجسم عن المعدل الطبيعي،وذلك بسبب تأثر المركز المنظم للحرارة في منطقة تحت المهاد في الدماغ.حيث يؤدي هذا الارتفاع في المركز إلى حث الجسم على الحفاظ على حرارته ،ويترافق ذلك مع تضيق في أوعية الجلد مما يتسبب في الشعور بالبرد،ويزداد توتر العضلات مع حدوث النافض(القشعريرة).وعندما تعود درجة الحرارة في المركز المنظم للحرارة في تحت المهاد إلى وضعها الطبيعي يسعى الجسم إلى فقد ما اكتسبه من حرارة الجسم فيحدث توسع في أوعية الجلد مما يؤدي إلى الشعور بالحر والتورد وقد يصاحبه التعرق.
ومن الناحية الفيزلوجية:فإن منطقة تحت المهاد تنظم درجة حرارة الجسم،وتؤدي مُسببات الحمى(وتسمى البيروجينات)إلى اطلاق مادة البروستاغلاندين E2،حيث تستهدف هذه المادة منطقة تحت المهاد فتؤثر في تنظيم حرارة الجسم متسببة في زيادة درجة حرارة الجسم لتتوافق مع درجة الحرارة الجديدة.وإن بعض الستيروئيدات وخاصة الايتوكولانون والناجم عن استقلاب الهرمونات القشرية الكظرية وهرمونات الجنس يعتبر مولداً للحرارة(بيروجين)كما أن البريغنالون يعتبر مولداً للحرارة.
يشبه عمل المركز المنظم للحرارة في تحت المهاد عمل الترموستات،ففي الحالة العادية يكون هذا الترموستات مضبوطاً على درجة حرارة الجسم الطبيعية،وفي حالة الحمى فإن مسببات الحمى تؤدي إلى ارتفاع درجة الحرارة في هذا الترموستات في تحت المهاد،مما يتطلب من الجسم أن يحافظ على حرارته حتى يصل إلى درجة الحرارة الجديدة،ومن ثم يحدث تضيق في أوعية الأطراف بالجلد،مما يقلل من فقدان الحرارة،وهذا يؤدي للشهور بالبرد،ويزيد النور ايبينفرين من توليد الحرارة في الأنسجة الدهنية البنية،ويزداد توتر العضلات ويزداد معدل الاستقلاب،وهذا يسبب ارتعاد العضلات وذلك من أجل توليد المزيج من الحرارة،وهذا يسبب النافض،وعندما تنخفض درجة الحرارة في المركز المنظم في تحت المهاد وتعود للحرارة الطبيعية،يحدث توسع وعائي في أوعية الجلد ما يسبب الشعور بالدفء والتورد،ومن ثم ازدياد التعرق.
وهناك أسباب عديدة لحدوث الحمى ومنها: الأمراض الإنتانية الجرثومية والفيروسية وبالطفيليات.كما يمكن أن تشاهد الحمى لاسباب غير انتانية ومنها في بعض حالات السرطان،والأدواء الرثوية،والتهاب الأوعية الدموية،وأمراض المناعة الذاتية،وبسبب تناول بعض المركبات الدوائية…
ومن الوسائط المنزلية في تخفيض درجة الحرارة :استعمال الكمادات بالماء البارد على الجبهة،أو الاستحمام بماء دافىء،ويجب الانتباه إلى ارتفاع درجة الحرارة الشديد عند الأطفال الصغار الذي قد يسبب نوبات اختلاجية مرافقة للحمى الشديدة،وقد يحتاج الامر إلى إعطاء خافضات الحرارة .
ويشاهد عدة أشكال للحمى:
1 ـ الحمى المستمرة:حيث تظل درجة الحرارة مرتفعة طوال اليوم بدون هبوط ملحوظ،ويشاهد هذا غالباً في ذات الرئة،وحمى التيفوئيد،والتهاب السحايا،والتهاب المجاري البولية…
2 ـ الحمى المتقطعة: حيث ترتفع ومن ثم تعود للطبيعي في نفس اليوم:ويشاهد هذا خاصة في الملاريا،وداء اللايشمانيات الحشوي،وتجرثم الدم…
3 ـ الحمى المترددة:حيث ترتفع درجة الحرارة عن الطبيعي وتنخفض قليلاً أثناء اليوم،ويشاهد هذا خاصة في التهاب الشغاف الجرثومي،وداء البروسيلللات أي الحمى المالطية.
4 ـ حمى بل إيبشتاين:وهو نوع معين من الحمى يصاحب سرطان الغدد اللمفية(داء هودجكن اللمفومي)حيث ترتفع الحرارة لمدة اسبوع ثم تنخفض في الاسبوع التالي وهكذا..
من الناحية اللغوية والأدبية:
يقول الشيخ العلامة علي الطنطاوي رحمه الله(البواكيرـ خواطر غريب):
“أنا لا أشكو إلا هذه الذكرى،فلقد أقضّت مضجعي،ونغّصت عليَّ حياتي،وإنني وإياها كصاحب الحُمّى تعاوده حُمّاه،فإذا جاءتني خفق لها قلبي،وونت أعصابي،ودارت بي الأرض حتى أجهل مكاني منها،وأستغرق في سبات عميق من التأمل المُمرض والتفكير المؤلم”.
أنواع الحمى التي عرفها العرب كما جاء في مقال للأستاذ عيسى اسكندر معلوف من مجلة المقتبس 92 بتاريخ الاول من ايلول عام 1914):
حمى مردم : من أردمت عليه إذا لم تفارقه أياماً .
حمى نائبة:تنوبه كل يوم,
البرحاء:شِدّة الحمى.
حمى الرس:أول الحمى قبل أن تأخذه وتظهر ،فإذا كان مع الحمى قرة وجد مسها فهي العرواء اي البردية كما يقول العامة .
ويقال وعك الرجل:إذا وجد عرواء الحمى ،فإذا عرق منها فهي الرحضاء وهو مرحوض ،وتقول اخذته رحضاء ورحض .
الصالب: الصداع من الحمى ،وحمى صالب:تسيل العرق من الصليب أي الورك ،وقد صلبت عليه الحمى وأخذته النفضة اي الرعدة،وأخذته حمى نافض ونفضته الحمى .
الوعك: الحمى التي معها حر خالص تقول وعكته الحمى فهو وعك.
الورد: يوم الحمى وقد وردته الحمى .
الربع: الحمى التي تأتي في اليوم الرابع وقيل التي تدع يومين وتأخذ يوما ،وربع الرجل وأربع واربعته الحمى وأربعت عليه وربعت .
القلد: يوم تاتيه الربع والغب إن تأخذه يوما وتدعه آخر وقد أغبته الحمى وأغبت عليه وغبت فهو مغب .
وإذا أقامت الحمى فذلك الحين هو القلع وخمدت الحمى :سكن فوارها، وصارت الحمى تتعهده وتتعاهده وتحاوده بمعنى تداومه وتنقطع عنه .
العقابيل: ما يظهر على الشفتين من غب الحمى .
وهو يتضور من الحمى : أي يتلوى ويضج ويتقلب ظهراً لبطن .
المسبوت: العليل الملقي كالنائم يغمض عينيه في أكثر أحواله وهي من أعراض الحمى .
حمى قبس:اقتبسها من غيره بالعدوى .
حمى عرضك تعرض لها من تلقاء نفسه .
المليلة: حرارة الحمى وتوهجهها .
الحمى الدائرة: التي تأخذ وقتاً وتدع وقتاً .
افرق المحموم:إ ذا تركته الحمى
(انتهى كلام عيسى اسكندر معلوف من مجلة المقتبس)
يقال : أردّمتِ الحمى عليه وأعبطت عليه أي لزمته (البصائر والذخائر ج1 ص122)
يقال أثقَلُ من الحُمّى (الميداني ص157)
حُمّى خيبر(ثمار القلوب للثعالبي ص549-550):يضرب بها المثل لأن خيبر مخصوصة بالحمى والوباء ،قال أوس بن حجر :
كأنَّ به إذ جئته خَيبريةً يعود عليه وردُها وملالُها
(الملال: حرارة الحمى ، والورد والصالب : من أسماء الحمى )
وقال أعرابي كثرت عياله وقلّ ماله : ما أراني إلا سأنتجع خيبر عسى أن يخف عني ثقل هؤلاء ،فلما ارتحل الى خيبر فلما شارفها أنشأ يقول :
قلتُ لحُمّى خيبرَ استعدِّي وباكري بصالبٍ ووِرْدِ
هاكِ عيالي فاجهدي وَجِدّي أعانكِ اللهُ على ذا الجُنْدِ
فلما وصلها حُمَّ حِمامهُ وعاش أيتامه .
زيد الخيل ومرض حمى المدينة :
هو زيد بن مهلهل الطائي ،قيل له زيد الخيل لطول طِراده بها وقيادته لها ،وكان جسيماً وسيماً يُقّبل المرأة على الهودج ويخطُّ رجله على الأرض اذا ركب ،وكان شاعراً ،ووفد على النبي صلى الله عليه وسلم فسماه زيد الخير ،وقال فيه : الحمد لله الذي جاء بك من سهلك وجبلك ،ورقق قلبك على الإسلام يا زيد ،ما وصف لي رجل قط فرأيته إلا كان دون ما وصف به إلا أنت ،فإنك فوق ما قيل فيك . وأقطعه أرضاً ،وكانت المدينة وبيئةً ،فقال لما خرج من عنده عليه السلام : إن يَنجَ زيدٌ من أمِّ مِلْدَم0أي الحمى ) فلما بلغ بلده مات ، وفي رواية أخرى قال النبي صلى الله عليه وسلم:أي رجل إن سلم من آطام المدينة (ثمار القلوب –الثعالبي ص101 والهامش).
وجاء في اختيارات الأغاني ج2 ص130-132″:
ورد زيد الخيل الطائي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلم عنده ،وقال : يا رسول الله أعطني ثلاثمائة فارس اُغير بهم على قصور الروم . فقال له: أي رجلٍ أنت يازيد ،ولكِنَّ اُم الكلبة تقتلك-أي الحمى- فلم يلبث زيد بعد انصرافه إلا قليلاً حتى حُمَّ ومات . وقال هذا الشعر قبل موته ”
أمرتحِلٌ صحبي المشارقَ غُدوةً واُتركُ في بيتٍ بفردةَ مُنجدِ(ديار نجد)
سقى الله مابين القفيل فطابةٍ فما دون أرمامٍ فما فوق مُنشدِ(مواضع)
هنالك لو أني مرضتُ لعادني عوائدُ من لم يشفِ منهنَ يَجهدِ
فليتَ اللواتي عُدنني لم يَعدنني وليتَ اللواتي غبنَ عني عُودَّي
وقال بعض المحدثين :
يا فاترَ الظلِّ غليظ الهوى أنت على نفسك لي شاهدُ
ليست لحمى خيبرٍ رُقيّةٌ تُعرف إلا شعرك الباردُ
حُمّى الأهواز(ثمار القلوب للثعالبي ص 550-551):
قال الجاحظ : قصبة الأهواز مخصوصة بالحمى الدائمة اللازمة ،قتّالة الغلباء ،على أن حُمّاها ليست إلى الغريب بأسرع منها إلى القريب. أخبرنا ابراهيم بن العباس عن مشيخة من أهلها ، عن القوابل ،أنهنَّ ربما قبلن الطفل المولود فيجدنه محموماً،يعرفن ذلك ويتحدثن به قال : ولم أر بها وجنةً حمراء لصبيّ ولا لصبية،ولا دماً ظاهراً ولا قريباً من ذلك ،وإنما وباؤها وحماها في وقت انكشاف الوباء ونزوع الحمى عن جميع البلدان .قال : وليس يؤتى أهلها والطارئون عليها من كثرة الحُميات من قبل التخم ،أو من قبل الحَبَط والإكثار ،وإنما يؤتون من عين البلدة ،وبليتها أن من ورائها سباخاً ومناقع مياه غليظة ،وفيها أنهار تشقها مساكن ومياه امطارهم ومتوضاتهم ،وقد تحدث تلك السباخ وتلك الأنهار هواءً فاسداً يفسد كل شئ يشتمل عليه ذلك الهواء” .
أم مِلْدم: هي الحُمّى ،قال أصحاب الإشتقاق : هي مأخوذة من الّلدْم، وهو ضرب الوجه حتى يحمّر ،وقال بعضهم : ملذم بالذال المعجمة ،من قولهم لذم به ،إذا لزمه .
بنت المنيّة: هي الحُمّى ،ويقال إن أبلغ ما قيل في وصفها قول عبد الصّمد بن المعذَّل من قصيدةٍ أولها :
هجرتُ الهوى…..موجودة في اسفل الصفحة
وله أيضاً (أي ابن المعذّل) :
بنت المنيّة بي موكَّلَةٌ عقب النهارِ كمقتضٍ قرضا
ألفتْ وفاءً ليس تسأمهُ فترى مواصلتي بهِ فَرْضا
عَرقت بنافِضِها وصالبِها لحمي ورضَّتْ أعظمي رَضّا
ولو أنها ترمى بشكّتها نيقاً أشمَّ لذاب وارفضّا
ولم يزل شعر ابن المعذّل أمير ما قيل في الحمى حتى جاءت ميمية أبي الطيب فأربت عليه ،وقد جعلها بنتَ الدهر في قوله:
أبنتَ الدهر عندي كلُّ بنت فكيفَ وصلتِ أنتِ من الزحامِ
يقول عندي كل حادثة من حوادث الدهر ونوائبه فكيف خلصت الى جسمي من زحمة النوائب .
ولبعض أهل العصر :
سئمتُ العيشَ حين رأي تُ صرف الدهر يُرهقني
صعوداً والصعود إلي هِ يعجزني فيقلقني
وبنتُ الموت بالآلا مِ والأوجاعِ تطرقني
تُؤرقني ، تُحرّقني تُعرّقني ، تُغَرّقني
(نقلاً عن ثمار القلوب للثعالبي ص273-274)
صفي الدين الحلي ”
فداءُ الجهلِ ليس له دواءٌ كحمى الربع في فصلِ الخريفِ
أحدهم :
فإن تَكُ حُمَّى الغِبِّ شَفَكَّ وِردُها فعقباكَ منها أن يطول لك العمرُ
وقيناك ! لو نعطى المنى فيك والهوى لكان بي الشكوى وكان لك الأجرُ
(حمى الغب: التي تنوب المريض يوماً بعد يوم ، الورد : من اسماء الحمى وقيل هو يومها الذي تاخذ فيه صاحبها)
الشنفرى (لامية العرب):
وإلفُ هُمُومٍ ما تزالُ تعودُهُ عِياداً كحُمَّى الرِبْعِ أو هي أثقَلُ
إذا وَردَتْ أصدرتُها ،ثمَّ إنّها تثوبُ فتأتي من تُحَيتٍ ومن عَلُ
المتنبي وحمى الملاريا(البرداء):في ذي الحجة من السنة 348هجري (نيسان 960م) أصيب المتنبي بحمى الِربع (الحمى الراجعة لأنها تعود في كل أربعة ايام مرة) فقال يشكو المرض والحمى :
وَمَلَّني الفراشُ وكان جنبي يَملُّ لقاءَهُ في كُلِّ عامِ
عَليلُ الجسمِ مُمتنِعُ القيامِ شديدُ السُّكرِ من غيرِ المُدامِ
قليلٌ عائدي ،سَقِمٌ فؤادي كثيرٌ حاسدي ،صعبٌ مرامي
وزائرتي كأنَّ بها حياءً فليسَ تزورُ إلا في الظلامِ
بذلتُ لها المطارفَ والحشايا فعافتها وباتت في عظامي
يضيقُ الجلدُ عن نَفَسي وعنها فتوسِعهُ بأنواعِ السَّقامِ
إذا ما فارقتني غسلتني كأنا عاكفان على حَرامِ
كأنَّ الصُبحَ يطرُدُها فتجري مدامعُها بأربعةٍ سِجامِ
أراقبُ وقتها من غيرِ شَوقٍ مراقبةَ المشوقِ المُستهامِ
(من غير شوق:كرها لاشوقا)
ويصدُقُ وعدُها ،والصدقُ شرٌّ إذا ألقاكَ في الكُرَبِ العظام
أبنتَ الدهر عندي كُلُّ بنتٍ فكيفَ وصلتِ أنتِ منَ الزحامِ
جَرَحتِ مُجَرَّحاً لم يبقَ فيهِ مكان ٌ للسيوفِ ولا السهامِ
ألا ياليتَ شَعرَ يدي أتُمسي تَصَرَّفُ في عِنانٍ أو زِمامِ
وهل أرمي هوايَ براقصاتٍ مُحلاةِ المقاودِ باللغامِ
فربما شفيتُ عليلَ صدري بسبر أو قناةٍ أو حُسامِ
وضاقت خُطةٌ فخلصتُ منها خلاصَ الخمرِ من نَسجِ الفِدامِ
وفارقتُ الحبيب بلا وداعٍ وودَعتُ البلادَ بلا سلامِ
يقولُ ليَ الطبيبُ أكلتَ شيئاً وداؤكَ في شرابك والطعام
وما في طِبَّهِ أني جَوادٌ أضَرَّ بجسمهِ طولُ الجِمامِ
تَعوَّدَ أن يُغَبِرَّ في السّرايا ويدخلَ من قَتامٍ في قَتام
فأمسِكَ لا بُطالُ له فيرعى ولا هو في العليق ولا اللجام
فإن أمرِض فما مرِضَ اصطباري وإن اُحَمْ فما حُمَّ اعتزامي
وإن أسلمْ فما ابقى ،ولكن سَلِمتُ من الحِمامِ إلى الحِمامِ
تمتَّع من سُهادِ أو رقادٍ ولا تأمل كرى تحتَ الرِجامِ
فإنَّ لثالثِ الحالينِ معنىً سوى معنى انتباهكَ والمنام
(المطارف: ج المطرِف : الثوب الثمين ، الحشية : الفراش .أي نمت على فراش ولبست ثيابا ومع ذلك لم يفارقني البرد . ومع اقتراب الصبح ينضح جسم المصاب بالبرداء عرقاً وتذهب عنه الحمى ويفارقه البرد ، وكأن العرق دموع للحمى حزنا على فراقه ).
ويقول في زهر الاداب للقيرواني ج3-4 ص928: أصابته الحمى بمصر فكان بعض اخوانه يكثر الإلمام به فلما أبلَّ قطعه فكتب اليه : وصلتني أعزَّكَ الله معتلاً وقطعتني مُبلاً ، فان رايت ألا تكدر الصحة علي وتحبب العلة إلي فعلت )
المتنبي:
لا نعذل المرض الذي بك، شائقٌ أنت الرجال ،وشائقٌ علاّتها
ومنازل الحمى الجسوم، فقل لنا: ماعذرها في تركها خيراتها؟
(لا عذر للحمى في تركها جسمك إذ هو أفضل الجسوم)
أعجبتها شرفاً فطال وقوفها لتأمل الأعضاء لا لإذاتها
ضجر اعرابي بكثرة العيال والولد وبلغه أن الوباء بخيبر شديد ، فخرج إليها بعياله يعرضهم للموت وأنشأ يقول:
قلتُ لحُمَّى خيبرَ استعدّي هاكِ عيالي فاجهدي وجدِّي
وباكري بصالبٍ ووِردِ أعانك اللهُ على ذي الجُنْدِ
فأخذته الحمى ،فمات هو وبقي عياله (العقد الفريد ج4 ص20، وعيون الاخبار ابن قتيبة كتاب السؤدد ص 249)
الأخطل:
سقى الله منهُ دارَ سَلمى برَّيةٍ على أنَّ سلمى ليسَ يشفى سقيمها
من العربياتِ البوادي ،ولم تكن تلوّحها حُمّى دمشقَ ومُومها
ولو حملتني السرّ سلمى حملتهُ وهل يحملُ الأسرارُ إلا كتومها
المرقش الأكبر:
إذا ذكرتها النفس ظَلَّتُ كأنني يزعزعني قفقافُ وِردٍ وصالبه
(الوِرد :الحمى ، القفقاف: اضطراب الحنكين واصطكاك الاسنان ،الصالب: شدة الحرارة مع الرعدة)
فروة بن حميضة الأسدي:
سقى الله وصلَ المالكيّة إنها وإن كانت لا تثيبُ ولا تجدي
ليعتادني منها على النأي عائدٌ كما اعتادتْ الحُمّى أخا الوعك بالوردِ
بشار بن برد:
وصاحبٍ نافع لي طول صحبته لا ينفعُ الدهرَ إلا وهو محمومُ
تأتيكَ في نافضِ الحمى مكارمه وإن أفاقَ بدا في وجهه اللومُ
أبو تمام:
إنّ وجه الحمى لوجه صفيقٌ حين حلَّتْ بهِ نهاراً جهاراً
لم تشن وجهه المليح ولكن حولّت ورد وجنتيه بهارا
أبو نواس في الجارية عنان أصابتها الحمى:
إنّي حممت ولم أشعر بحماك حتى تحدّث عوادي بشكواك
فقلت ما كانت الحمى لتطرقني من غير ما سبب إلا بحماك
وخصلة كنت فيها غير متهم عافاني الله منها حين عافاك
حتى إذا انفقت نفسي ونفسك في هذا وذاك وفي هذا وذاك
عبد الصمد بن المعذَّل يصف حمى اعترته(تاريخ الأدب العربي-العصر العباسي الأول –شوقي ضيف ص 185):
هجرتُ الهوى أيمّا هَجرَهْ وعفتُ الغواني والخَمره
لوتني عن وصلها سكرةٌ بكأسِ الضنا بعدها سكره
وبنتُ المنيِّة تنتابني هُدُوَّاً وتطرقني سَحره
(الهدو:أوائل الليل. السحر:وقت السحر)
إذا وردتْ لم يَزع وِرْدَها عن القلب حُجب ولا ستره
كأنَّ لها ضَرَماً في الحشا وفي كل عضوٍ لها جَمْرَهْ
لها قُدرةٌ في جُسومِ الأنامِ حباها بها الله ذو القُدْرَهْ
فقد سلبت أعظمي نَحضَها ولم تترِكْ من دمي قَطره
وطوراً ألقيتها سُخْنَةً وطوراً ألقبَّها فَتْرَهْ
وصِرْتُ إذا جُعْتُ يوماً ظَلِلتُ كأنَّ على كبدي شَفْرَهْ
ويربو الطحالُ إذا ما شبعتُ فتعلو الترائِبُ والصُّدَرهْ
وأمسي كأني من معدتي لبستُ الثيابَ على زُكْرَهْ
(زق الخل)
إذا ما رأيتُ امرءاً مُطْلَقاً لهُ الأكلُ تخنقني العَبَرهْ
كأني في منزلي مُخضِباً ببلقعةٍ جَدْبَةٍ قَفْرهْ
(الفلاء)
(يصف أثر الحمى في الجسم وأوقاتها التي تفد فيها وآلامه مع الجوع والأكل وما يحس به في جوفه من مرارة وحدّة،وصوّر شعوره بالحرمان وغبطته الأصحاء على ما يطعمون ،وبيته حافل بألوان الغذاء ولكنه يشعر كأنما هو في فلاة مجدبة).
ابن شيروية يصف الحمى:
وزائرة تزور بلا رقيب وتنزل الفتى من غير حبه
وما أحد يحب القلب منها ولا تحلو زيارتها بقلبه
تبيت بباطن الأحشاء منه فيطلب بعدها من عظم كربه
وتمنعه لذيذ العيش حتى تنغصه بمأكله ومشربه
اتت لزيارتي من غير وعد وكم من زائر لا مرحباً به
أبو بكر الخوارزمي يصف الحمى (يتيمة الدهر الثعالبي ج4 ص248):
ولي من أمِّ ملدمَ كُلَّ يومٍ ضجيجٌ لا يلذُّ له منامُ
مُقَبِلَّةٌ وليسَ لها ثنايا معانقةٌ وليسَ لها التزامُ
كأنَّ لها ضرائرُ من غذائي فيغضبها شرابيَ والطعام
إذا ما صافحت صفحاتُ وجهي غدا ألفاً وأمسى وهو لام
إذاً لرأيتَ عبدك والمنايا تصيحُ به تَنَبهْ كم تنام
وما استبكاك من بعدي أسيرٌ يرضُّ عظامه الحقُّ العظام
ولا ترجيع ثكلى خلف نعشٍ (أمحمولٌ على النعش الهمام)
الأمير ناصر الدين بن النقيب في الحمى:
أقول لنوبة الحمّى اتركيني ولا بك منك لي ماعشت أوبه
فقالت كيف يمكن ترك هذا وهل يبقى الأمير بغير نوبه
أبو الحجاج الفهري الغرناطي في الوزير ابن الحكم وقد أصابته حمى تركت على شفتيه عقابيل(بثورا):
حاشاك أن تمرض حاشاكا قد اشتكى قلبي لشكواكا
إن كنت محموماً ضعيف القوى فإنني أحسد حماك
ما رضيت حماك إذا باشرت جسمك حتى قلبك فاكا
أبو الغوث بن نحرير المنيحي يقول في الحمى (يتيمة الدهر الثعالبي ص93):
وحُمّى حمتني النوم حتى كأنما شقوقُ جفوني في الصفاة صدوعُ
تهبُّ شتاءً ثم تعقب صايفاً أما لسنيك المنكرات ربيعُ
أدثر عنها بالحشايا تَعللاً وليس لها عمّا تريد رجوعُ
إذا كان نبض السهم من باطن الحشا فكيف تجنّ المرء منه دروع
كشاجم في سبب الحمى:
ولقد اخطأ قوم زعموا أنها من فضل برد في العصب
هو ذاك الذهن أذكى ناره والمزاج المفرط الحر التهب
أحمد بن بدر المعروف بالبلاط في ولده وقد حُمَّ(يتيمة الدهر ج1 ص520) :
أعزز عليَّ بنيَّ ماتلقى سدَّت عليَّ شكاتك الطرُّقا
قد كنت بالحُمَّى أحَقُّ فليتني ألقى من الحُمى الذي تلقى
ابن النبيه دخل على الملك الأشرف ورآه يرتعد بسبب الحُمّى فقال:
تباً لِحُمّاك التي كست فؤادي ولها
هل سألتك حاجة فأنت تهتز لها؟
المرار الفقعسي:
خليليَّ إنَّ الدارَ غَفْرٌ لذي الهوى كما يغفِرُ المحمومُ او صاحِبُ الكَلم
(غفر الرجل: إذا برأ من مرضه ،أما غَفَر إذا نُكس وغفر الجرح إذا فسد)
البستي:
فلا تكن عَجلاً في الأمر تطلبهُ فليس يحمد قبل النضج بُحرانُ
الياس صالح كنعان البيروتي في الحمى:
إذا جنّ الظلام وغاب صبحي وفارقني أحبائي وناسي
اتت تسعى إلي وليست ترضى مقاماً غير أحشائي ورأسي
أحمد شوقي يرثي والدته التي ماتت بالحمى وكان منفياً في الاندلس:
اَسَتْ جُرْحها الانباءُ غيرَ رَفيقةٍ وكم نازعٍ سهماً فكان هو السهما!
تَغارُ على الحُمّى الفضائلُ والعُلا لِما قبَّلتْ منها،وما ضَمّت الحُمّى
أكانت تَمَنَّاها وتهوى لِقاءَها إذا هي سَمّاها بذي الأرضِ مَنْ سَمى؟
اَلَمّتْ عليها ،واتَّقَتْ ثمراتِها فلما وُقوا الأسواءَ لم ترَها ذمّا
خليل مطران:
اقرئِ القومَ سلامي واعتذاري حجبتني عِلَّةٌ في عُقْرِ داري
عاودتني جارةُ السّوءِ التي فارقتني منذُ أيامٍ قصارِ
أسرتني مرةً ثانية بعدَ ظني أنها فكَّتْ أساري
إن تنلْ عابدَ شمسٍ نارُها لا يدِن بعد تولّيها بنارِ
ما بجسمي من بقايا همّتي غيرُ ضعفِ والتواءِ وانكسارِ
بي وقرٌ يُشبِهُ الشئ الذي في أولي الجاهِ يسمى بالوقارِ
كان لي بالأمسِ جأشٌ رابطٌ فغدا يُنكرهُ اليومَ دُواري
إنما دهريَ عنكم عاقني فأنا القاعدُ لكن باضطرارِ
خليل مطران:
ما موتُ أحمدَ حتفَ أنفٍ إنهُ للقتلُ في عُقبى أشدِّ نِزالِ
لبّى نداء ضميره لمّا دعا داعي الحفاظِ فجالَ أيَّ مجالِ
تعتاقهُ الحُمّى ولا يلوي بها هل عاقتِ الضِّرغامَ دونَ صيالِ
يا خيرَ من حامى فكان لِكُلِّ مَن حامى بقدوتهِ أجلَّ مِثالِ
جُزتَ الفدى لمّا نهاكَ الطبُّ أو تَردى فلم تمنحهُ أدنى بالِ
وأجبتَ إني لم أضِنَّ على الحِمى بدمِ الشبابِ فما الدماءُ بغالي
جميل صدقي الزهاوي:
قيل عبد الرحمن يشكو زكاما ثمَّ قالوا يشكو ضَنىً ونحولا
ثمَّ قالوا خراجةٌ فيه لا بد دَ من الشق عاجلاً لتزولا
ثم قالوا الحُمّى التي لا زمته تيفوئيدٌ قد لا تدوم طويلا
ثمَّ قالوا أضاع من شدة الحم مى نُهاه والرشد إلا قليلا
فدوى طوقان في قصيدة يتيم وأم:
هاضه الوهن،وأعياهُ الألم وسطا الضعف عليه والسقم
خاشع الأطراف من إعيائه ما به يقلّب كفاً أو قدم
متداعٍ جسمه،منخذلٌ لجّت الحمى عليه فاضطرم
ساكن الأوصال إلا بصراً زائغاً،يطرف حيناً،ويجم
عطفت من رحمة تحضنه إنما دنيا اليتامى حضن أم
ومضت تمسح بالكفّ على جبهةٍ رهن اشتعال وضرم
ولقد تندى فتخضّل له وفرةٌ مثل الظلام المدلهم
نظر الطفل إليها صامتاً وبعينيه حديث وكلم
ليت شعري،ما به؟ ما يبتغي أبنفس الطفل سؤلٌ مكتتم؟
وحنت تسأل عن طلبته فرنت عين له،وافترّ فم
قال:يا أمي واسأليه رجعة فلكم يفرح قلبي لو قدم
لا تسل عن جرحها كيف مضى من هنا أو من هنا ينزف دم
ضمّت الطفل إليها بيدٍ وبأخرى مسحت دمعاً سجم
عزّ ما يطلبه،يا رحمتا كيف تأتي برفات ورمم!؟
غازي القصيبي في الحمى:
أحس بالرعشة تعتريني والموت يسترسل في وتيني
وموجة الإغماء تحتويني فقرّبي مني ولامسيني
مُرّي بكفيك على جبيني وقبل أن أرقد حدثيني
قُصّي علي قصة السنين حكاية المشرد المسكين
طوف عبر قفره الضنين يشرب من سرابه الخؤون
ويشتكي النجود للحزون وجرّب الغربة في السفين
وهام في مرافئ الجنون كسندباد أحمق مأفون
وعاد بالحمى وبالشجون محملاً بصفقة المغبون
تعبت من جدّي ومن مجوني من كل ما في عالمي المشحون
من مسرح محنط الفنون مشاهد باهتة التلوين
اُغنية رديئة التلحين امرأة شابت فما تغريني
برمت بالمسرح … أخرجيني
مري بكفيك على جبيني وقبل أن أرقد ودعيني
احدهم:
زارت مُكفرّةُ الذنوبِ سريعةً فسألتُها باللهِ أن لا تُقلعي
احدهم :
شربنا وداوينا وما كان ضارنا إذا الله حُمَّ المرءَ أن لا تدوايا
أحدهم:
وزائرةٍ بلا وعدٍ أتتني فحلَّتْ بين جسمي والفؤاد
سنانٌ للمنايا أن تراءت لنفسي فالمنايا في طراد
أحمد حسن الزيات –من وحي الرسالة –ج2 ص69:
“فإن الهذيان في الحر كالهذيان في الحمى ،تنفيسٌ عن الروح المكروب ،وتخفيفٌ عن الدم الفائر ،والهذيان كلام كفورةِ الإناء،ليس له نظام ولا فيه عقل ،ولكنه كحلم النائم لاتغلب فيه جملة على جملة ، ولا تظهر به صورة دون صورة ، إلا لأن لهما في العقل الباطن أثراً وبالروح اليقظان صلة ،ولعلك واجد في لواغي المحموم والنشوان والنائم من ومضات الحق ما لاتجده في بعض الكلام . ولقد كان في قرى الريف جماعة من الممسوسين المستهامين يعتقد الناس أن وسوستهم من كشف الغيب وإنذار القدر . وربما اصابوا في لحونهم توجيهاً إلى منفعة أو تنبيهاً إلى مضرة “.
بعض الأدواء المترافقة مع الحمّى:
1 ـ حمى النفاس
باحثة البادية:
تعدو العوادي والخطوب تنوب ويلاه عيش المرء كيف يطيبُ
حمى النفاس شببت مهجة والد هيهات أن يطفي لظاه نحيبُ
حمى النفاس فجعت بعلاً لم يكد يرتاح حتى كدّرته شَعوبُ
حمى النفاس قصفت غصناً قد بدا إثماره وجناه كاد يطيبُ
حمى النفاس أما رحمت محمداً وبكاؤه يصمي الحشا ويذيبُ
أمحمد يوم الولادة سرّنا لكنه من حيث سرّ عصيبُ
كم نقبت في الطب تبغي حملها ولرب شرٍّ جرّه التنقيبُ
وعسى الذي فيه الحياة مبغض وعسى الذي فيه البلاء حبيبُ
لهفي عليك اليتم أول حاضن لك بعدها والقابلات خطوبُ
واستقبلتك نوادب ما كان ذا يرجى ولكن البلاء نصيبُ
لم يجد ما زعم الطبيب ببرئها هيهات أن يقضي القضاء طبيبُ
فبطبه سالت عليك مدامع وبطبه انشقت عليك قلوبُ
يا قبر لا تعبث بغصن قوامها واحرص عليه إنه لرطيبُ
جاءت بأكفان وثوب زفافها لم يبله والله ذاك عجيبُ
إني أفاطم مذ نعوك عليلة قلبي وطرفي ذائب وسكوب
ما كنت أدري قبل خطبك بالأسى حتى دهتني اليوم منه ضروبُ
أرضيت سكنى القبر كيف وأنت لم يجبك بيت كنت فيه رحيبُ
وحثوا ثراه على جمالك عاطلاً أين الغلائل والحلي والطيبُ
واهاً لعيني جؤذر قد أغمضت لك كان يحلو فيهما التشبيبُ
ما كنت أحسب أن تغمض في الثرى رغماً ألا إن الحياة كذوبُ
أصديقتي جلت عليك مصيبتي والصبر ندّ وما أراه يؤوبُ
عش يا محمد بعد اُمك سلوةً لأبيك إن غابت فليس تغيبُ
يقول الدكتور يوسف القرضاوي-موقع القرضاوي (الحكم على الناس بدخول الجنة أو النار):
ومن الشهداء موت المرأة في نفاسها بسبب ولدها أو هي حامل به ،ومن أدلة ذلك ما رواه الإمام أحمد وغيره بسند صحيح عن عبادة بن الصامت أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبر عن الشهداء فذكر منهم والمرأة يقتلها ولدها جمعاء شهادة ،يجرها ولدها بسرره إلى الجنة) يعني بحبل المشيمة الذي يقطع عنه .
2 ـ الحصبة
في الحديث الصحيح عن أسماء رضي الله عنها أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله ، إن ابنتي أصابها الحصبة ،فامرّق شعرها (انتثر وسقط)وإني زَوجتها ، أفأصِلُ فيه ؟ فقال: “لعن الله الواصلة والموصولة” . [متفق عليه] . وفي رواية : “الواصلة والمستوصلة” .
ابن أحمر الباهلي:
تمشي بأكنافِ البليخِ نساؤنا أراملَ يستطعمن بالكفِ والفمِ
نقائذ برْسام وحُمَّى وحصبة وجوع وطاعون وفقرٍ ومَغرمِ
3 ـ النكاف
أحدهم:
يا أيها الدارئُ كالمنكوفِ والمُتشكي مَغلةَ المجحوف
(جعل حقده الذي نفخه كالورم في ظهر العير والمنكوف الذي يشتكي نكفته)
4 ـ الدفتريا=الخانوق
نور الدين الشهيد: كان يتمنى أن يموت شهيداً، فمات بعلة “الخوانيق”في قلعة دمشق-لعله مرض الدفتريا-فقيل له الشهيد وقبره في المدرسة النورية .
أحمد حسن الزيات (وحي الرسالة –ج1 ص312) :
يصف كيف اُصيب ابنه بالدفتريا وفقده على إثرها:
” والهف نفسي عليه يوم تسلل إليه الحمام الراصد في وعكة قال الطبيب الغفلان إنها “البرد”، وقال القدر اليقظان بعد ثلاثة أيام إنها ” الدفتريا”. لقد عبث الداء الوبيل بجسمه النضر كما تعبث الريح السّموم بالزهرة الغضّة ! ولكن ذكاءه وجماله ولطفه لم تبرح قوية ناصعة ،تصارع العدم بحيوية الطفولة ، وتُحاجّ القدر في حكمة الحياة والموت . والهف نفسي عليه ساعة أخذته عضّةُ الموت ،وأدركته شهقة الروح ،فصاح بملء فمه الجميل “بابا، بابا” كأنّما ظنّ أباه يدفع عنه ما لا يدفع عن نفسه . لنا الله من قبلك ومن بعدك يارجاء، وللذين تطولوا بالمواساة فيك السلامة والبقاء .”
وقال أيضاً:(وحي الرسالة ج2 ص136):
“في مثل هذا اليوم من سنة 1932-14 يناير-ولد لي ولدان : طفل وكتاب ! أذكر هذا كل الذكر، لأنني في ذلك اليوم المقرور عدت في متوع الضحى من دار المعلمين بكرخ بغداد إلى داري بالرصافة ،فلزمتها جالساً امام المدفأة الموقدة أكتب الفصل الأخير من كتابي (العراق كما رأيته) ثم جاءني النبأ من مصر بعد ذلك بأن “رجاء” ولد في هذا اليوم نفسه . وكان طفلي وكتابي أعز شئ علي ،لأن ابن نفسي كان نتيجة أربعين سنة من خير عمري وابن فكري كان نتيجة ثلاث سنين من خير عملي .
ويتابع رحمه الله:” ولكن وا أسفاه ! لم يعد للطفل الحبيب نَفَس ينسم على نفسي ببرد الجنة، ولم يبق من الكتاب العزيز سطر يشعَب فؤادي بذكرى العراق! والهفتاه على ولدي الذي أبدعه الله ،وعلى أخيه الذي ابدعته نفسي ! جاءا معاً في الشتاء ،فلم أجد بفضل وجودهما برداً ولا عبوساً ولا كآبة ،وذهبا معاً في الربيع، فلم أحس بسبب فقدهما دفئاً ولا طلاقة ولا بهجة. أودى بهما القدر العابث خداعاً وغيلة ، فسلب العين الكلوء ريبة الحذر، وجرد الدفاع اليقظ من فرصة الحيلة . دب للطفل الموت الوحيّ(السريع)في وعكة خفيفة من البرد ظنها الطبيب زكاماً عارضاً فإذا هي الخناق(الدفتريا) القاتل . ومشى للكتاب القدر المحتوم في ركام من الورق المتروك فذهب خلسة إلى النار المبيدة!.
ويتابع:”وهكذا قضى الله أن تذهب إلى العدم خلاصة العمر وعصارة الفكر في فترة ضائعة من فترات الغفلة! وهيهات أن يكون لهما في الحياة عوض ، فإن الفلذة إذا اقتطعت من الجسم لا ترجع إليه ولا تتجدد فيه ،وسحر المنظر الجديد لا يتكرر أثره في نفس زائره ومجتليه”.
5 ـ الحمى القرمزية
ابراهيم الدياغ يصف طفلاً أصيب بالحمى القرمزية فتالم للطفل وواساه وأنشد:
رمى الله “أم القرمزية ” وابنها بسهم إذ كان “ابن عباس” مرماها
ألَمَّتْ به إلمامة المريح بالقنا لئن طاب مأواها ،فلا طابَ مثواها
فكم ضايقت طفلاً وليداً وأبرمت صبياً ،وبات الشيخ والكهل يخشاها
فشلت يداها أن اقامت فأثقلت وقص جناحاها سراعاً وعيناها
تعاقب بممساها وآذن صبحها عسى صبحها يأتي ببشرى وممساها
6 ـ داء التيفوس
محمد محمود الزبيري يصف وباء التيفوس الذي اجتاح اليمن عام 1362هجري وتوفي به القاضي يحيي بن محمد الأرياني(شعراء عرب معاصرون البعيني ص335):
شمسٌ طواها بليلِ القبر مقدورٌ فالنور مُفتقَدٌ والصبحُ مقبورُ
وأقبلَ العيدُ أعمى غارَ ناظرُهُ كأنَّما اللحدُ في عينيهِ محفورُ
يسعى ويعثرُ بالأكباد مضرمةً كأنَّها الجمر في مسعاهُ منثورُ
رأى الثرى أدمعاً حمراً فرَّقَ له كأنَّما الأرضَ جُرْحٌ وهو دكتور
والموتُ يفتحُ أفواه القبورِ له على الطريقِ فيمشي وهو مذعورُ
يفتّرُ مبتسماً من قُبحِ طلعته كما تَبَسَّمَ للأهوالِ سكّيرُ