بسم الله الرحمن الرحيم
1ـ البحث عن الحقّ
إنّ حُبّ الحقِّ،والالتزام به،والعمل به وله،والدعوة إليه والتواصي به…من طبيعة الفطرة الإنسانية السليمة السويّة،فالإنسان مفطورٌعلى حُبِّ الحقّ،مفطورٌ على كراهية الظلم طموحٌ إلى كل ما هو حقّ وخير وجمال.وهذا ينطبق بشكل خاص على الإنسان المسلم … انظر معي إلى ما حدّث به الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري رضي الله عنه قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إنَّ الله وضع الحقّ على لسان عمر يقول به” [صحيح أبو داود وصححه الألباني]وذلك بسبب قوته الفطرية واستعداده في الحكم على الأشياء وإصابته في معرفة العدل والظلم وخبرته من خلال واقع الحياة والعالم الذي يعيش ويحيط به.ولكن هذا الإستعداد الفطري ينطبق أيضاً على النفس البشرية العاقلة وغير المسلمة أيضاً، يذكر عن ارسطو قوله”إني أحب الحق وأفلاطون، فإذا افترقا فالحقّ أولّى بالمحبة”.
يقول الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله”لا يجتمع حبّ الحقّ وموالاة المُبطلين في قلب ٍمخلصٍ أبداً”.
ورحم الله شوقي حيث يقول:
والحقُّ أرفع ملّة وقضية من أن يكون رسوله الإضرار
والله سبحانه وتعالى هو الحقّ:
{ثم ردوا إلى الله مولاهم الحقّ ألا له الحكم}[الأنعام 62]،{فذلكم الله ربُّكم الحقّ} [ يونس 32]،{فتعالى الله الملك الحقّ}[طه 114]
وقوله الحق:
{والله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل} [الأحزاب4]،{ويوم يقول كن فيكون قوله الحقّ}[ الأنعام73]
وله دعوة الحق:
{له دعوة الحقّ} ا[لرعد 14]،{ألا إن وعد الله حقّ ولكنَّ أكثرهم لا يعلمون}[ يونس 55]
وحكمه بالحق:
{وقضي بينهم بالحقّ وهم لا يظلمون} [الزمر 69]،{وقضي بينهم بالحقّ وقيل الحمد لله رب العالمين} [الزمر 75]،{والوزن يومئذ الحقّ}[ الأعراف8]
وأنزل الملائكة بالحقّ:
{وما ننزل الملائكة إلا بالحقّ}[ الحجر 8]،{قل نزله روح القدس من ربك بالحقّ ليثبت الذين آمنوا}[ النحل 102]
وأرسل رسله بالحق:
{يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحقّ من ربكم} [النساء 170]،{إنا أرسلناك بالحقّ بشيراً ونذيراً}[البقرة 119]
وأنزل كتبه بالحق:
{ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحقّ}[ البقرة 176]،{وأنزل معهم الكتاب بالحقّ}[ البقرة 213].
وخلق السموات والأرض بالحق:
{خلق السموات والأرض بالحقّ} [التغابن 3]،{وهو الذي خلق السموات والارض بالحقّ} [الأنعام73]،{وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحقّ} [الحجر 85]
فالله هو الحق،وخلق الإنسان بالحق،وخلق الكون بالحق، فالحقُّ هو قوام الوجود،وأساس الحياة،والإبتعاد عنه أو تَحييده عن واقع الحياة هو الفساد عين الفساد .
يقول الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه: “أمّا بعد فإنّ الله خلق الخلق بالحق، فلا يقبل إلا الحق،خذوا الحق وأعطوا الحق”.
ويقول الشهيد سيد قطب رحمه الله في مقدمة “الظلال”:
“والحق في منهج الله أصيل في بناء هذا الوجود،ليس فلتة عابرة،ولا مصادفة غير مقصودة، إن الله سبحانه هو الحق،ومن وجوده تعالى يستمد كل موجود وجوده{ذلك بان الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير} [الحج 62]،وقد خلق الله هذا الكون بالحق لا يتلبس بخلقه الباطل{ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك}[آل عمران 191]،والحق هو قوام هذا الوجود، فإذا حاد عنه فسد وهلك {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن} [المؤمنون 71]،ومن ثَمَّ فلا بد للحق أن يظهر ولابد للباطل أن يزهق،ومهما تكن الظواهر غيرهذا فإن مصيرها إلى تكشف صريح{ بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق}[الأنبياء 18]”انتهى كلام سيد قطب رحمه الله .
والحقُّ واحدٌ لا يتعدّد،أزلي لايبلى ولا يتجدّد {فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون} [يونس 32]،وليس بين الحق والباطل قرابة،وليس بينهما مُداجاة ولا مُهادنة،يقول الشيخ محمد متولي شعراوي رحمه الله في كتاب “أهوال القيامة”:
“والصراع في الدنيا لا يكون بين حق وحق،لأن الحقَّ واحد، فلا يوجد حقّان،ولكن الصراع في الدنيا إما أن يكون بين حق وباطل وفي هذه الحالة ينتهي سريعاً،لأن الله ينصر الحق ويزهق الباطل،وإما أن يكون بين باطل وباطل وفي هذه الحالة لا يُعين الله باطلاً على باطل،بل يترك الطرفين كل لما يستطيع أن يعده لفنون القتال،فيطول الصراع ويبقى فترة طويلة دون أن يستطيع أي من الطرفين أن يحقق نصراً حاسماً،وفي هذه الحالة يعاني البشر من شرور الباطل معاناة لا تنتهي”.
ويقول الأستاذ عصام العطار حفظه الله: “إن الحقَّ واحد لا يتعدد بنظر الإسلام،وإن ماعدا الحق هو الضلال،ولا لقاء بينهما أبداً، ودفاعنا عن هذا الحق هو دفاع الشرف عن الذين يصرون على إقراره في الأرض،وتخليص البشرية من ظلام الكفر ولوثات الجاهلية،فإما حكم الله وحياة الطهر والعفاف والحرية والكرامة،وإما حكم الجاهلية وحياة البؤس والشقاء”.
ويقول جبران خليل جبران: “للبحر مدٍّ وجز،وللقمرِ نقص وكمال،وللزمن صيف وشتاء،أما الحق فلا يحول ولا يزول ولا يتغير”
والحق واضح أبلج لا التباس فيه ولا غموض،وقد قالت العرب قديماً: “الحقُّ أبلج والباطل لجلج”، يراد به أن الحق متكشف والباطل ملتبس، يقال:” انبلج الصبح إذا انكشف”،ومنه سُمى الكشفة بين الحاجبين بلجه،واللجلج من قوله : تلجلج في القول:إذا تتعتع فيه ولم يستوف العبارة منه (جمهرة الأمثال للعسكري ج1 ص 364)
وقديماً قال الشاعر:
ألم ترَ أن الحقَّ تلقاهُ أبلجاً وأنكَ تلقى باطل القول لجلجا
وقال أخر:
فإن الحقَّ ليس به خفاءٌ ولا تخفى الخيانة والخلابُ
وقال أبو تمام:
الحقُّ ابلج والسيوفُ عواري فحذارِ من أسدِ العرينِ حذارِ
فالحق واضح،إن التبس عليك فإّنه لا يخفى على أهل العلم والمعرفة،وإن غابت عنك ملامحه وأبعاده،فإنها لا تغيب عن أهله وأنصاره،انظر إلى قارون عندما خرج في موكبه وزينته وأمواله،كيف كان قول السواد الرعاع من العامة الذين تأثروا به،وماذا كان جواب اهل العلم عليهم؟
{فخرج على قومه في زينته قال الذين يُريدون الحياة الدنيا يا ليتَ لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم*وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير}..[ القصص 79ـ 80]
ولذا مدح الله العلماء الذين عرفوا الحق وآمنوا به واقتدوا به ونشروه وعلموه للآخرين :
{ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد} [سبأ 6 ]،ويقول تعالى: {فأما الذين أمنوا فيعلمون أنه الحقّ من ربهم}[ البقرة 26]، ويقول تعالى: {فمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى}[الرعد19].
والحق وإن غابت معالمه عن العامة أحياناً أو خفيت حقائقه عن بعض الناس أيضاً،إلا أنها لا تخفى على النخبة المخلصة من علماء الأمة،والعلم الذي يوصل إلى الحق،ليس من جهة أخرى بالشجرة الوارفة الظلال دانية القطوف سهلة المنال،بل هو صروح مشيدة،لايتم الوصول إليها إلا من خلال سلوك سبل متعرجة وعرة، قد تحيط بها الظلمات الداكنة،وقد تعصف بها الرياح العاتية، ويحتاج إلى جهاد ومثابرة مستمرة،وتضحيات متتالية للتغلب على العقباتوتجنب العثرات،وهذا لا يتم ايضاً إلا من نفسٍ عظيمة أبيّة تستعذب الصعاب،وتستصغر العظائم، وتستلذّ المشاق والآلام،”ومن طلب الحسناء لم يُغله المهر” .
وهو طريق يستلزم من الباحث عن الحق أن يكون متواضعاً أشدّ التواضع للوصول إلى الهدف البعيد،ويحتاج منه أن يستهدي بنور الله في كل لحظة وفي كل مكان،لكي ينير له المسالك،ويزيح عنه المهالك،ويبعد عنه الضلالات،ويحتاج أيضاً إلى تهذيب النفس ومحاكمتها ونقدها المستمر،وتحكيم العقل لا الهوى للوصول إلى قمة الهدى.
ومما يساعد على الوصول إلى الحق أن يعلم الإنسان علم اليقين انه يجب أن يسعى إليه وأن يأخذه ـ أي الحق ـ مهما كان مصدره،بغض النظر عن السن أو الجنس،الحب أو البغض،القرب أو البعد ممن يصدر عنه.
يقول الإمام الفضيل بن عياض رحمه الله :”من جاءك بالحق فاقبل منه،وإن كان بعيداً بغيضاً،ومن جاءك بالباطل فاردد عليه وإن كان حبيباً قريباً،وقصة عمر الفاروق رضي الله عنه في موضوع تحديد المهر وجواب إحدى النساء عليه،وقوله المأثور الذي ذهب مثلاً”أخطأ عمر وأصابت امرأة”.
ويقول العالم الجليل أبو حامد الغزالي رحمه الله في “المنقذ من الضلال”:”والعارف العاقل يعرف الحق ثم ينظر في نفس القول، فإن كان حقاً قبله سواء كان قائله مبطلاً او محقاً،بل ربما يحرص على انتزاع الحق من أقاويل أهل الضلال عالماً بأن معدن الذهب الرغام”.
والوصول إلى الحق ومعرفته،قد لا يتم سريعاً ولا يتحقق آنياً،وكما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه:” لا يُدرَكُ الحق إلا بالجدّ،ولكن عذر الباحث عن الحق ومن يسعى إليه أنه ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه”.
وإذا عدنا إلى تراجم الصحابة رضوان الله عليهم وقصة البحث عن الحق لأدركنا شدّة المعاناة في طلبه،وحلاوة النشوة واللذة عند الوصول إليه.وهنا يمكن الرجوع إلى قصة الصحابي الجليل سلمان الفارسي ورحلة البحث عن الحق لنأخذ منها أفضل العبرات والعظات،وقصة الإمام العظيم ابي حامد الغزالي وبحثه عن الحق كما ذكرها في كتابه ” المنقذ من الضلال” فهي قصة كفاح طويلة ومعاناة مستمرة،وجهد دؤوب حتى وصل إلى واحة الحق الوارفة الظلال،بعد أن قطع من أجلها الفيافي والسهول والوديان،وقد قالوا قديماً:”لم يَجُرْ سالكُ القصد، ولم يَعْمَ قاصد الحق” .
ولقد عانى الرسول صلى الله عليه وسلم أشدّ المعاناة في رحلة البحث عن الحق كما تطالعنا كتب السيرة النبوية الشريفة الطاهرة، ولعلّ من أفضل من عبروا عن هذه المعاناة وصوّرها أجمل تصوير الكاتب القدير أحمد امين رحمه الله في كتاب “فيض الخاطر” ج2 ص296 حيث يقول:
“لقد عرف الباطل ويريد أن يعرف الحق،وأدرك الضلالة ويريد أن يدرك الهدى،ولم يحب ما عليه الناس ولكن يريد أن يعرف ما ينبغي ان يكون عليه الناس.هذا الظلام فأينَ النور؟وهذا العمي فأين البصر؟وهذا ما يجب ألا يكون فأين ما يجب أن يكون؟لقد طلب الحق في غار حراء بعد أن تهيأت نفسه واستعدت روحه وكملت مشاعره،وتوجت بالحيرة، فكانت حيرته إرهاصاً لليقين، وضلاله إرهاصاً للهدى، وكانت فترة غار حراء الحدّ الفاصل بين محمد بشراً،ومحمد بشراً رسولاً،لقد صعد إليه إنساناً حائراً،وهبط منه إنساناً نبياً مهتدياً مطمئناً،ونزل من الغار يدعو الناس أن يستضيئوا بضوئه،وان يُحيوا قلوبهم من حياة قلبه،وأن يسمعوا لصوت الله على لسانه،وأن يروا عظمة الله في كل أثر من آثاره…” .
وقال أحمد أمين أيضاً (الرسالة العدد 196):
“في غار حراء،كان محمد صلى الله عليه وسلم وهو في سن الأربعين قبيل الرسالة يتحنث.كان يألف العزلة(لم يكن شىء أحب إليه من أن يخلو وحده)وكان يخرج إلى شعاب مكة وبطون أوديتها.وكان يقضي شهراً مجاوراً في غار حراء.
فيم كان يفكر؟وما الذي كان يطلب؟وما هذه الحالة النفسية الجديدة التي استولت عليه؟وما الذي جعله يهرب من الناس وقد كان بهم أنيساً.يسعد بالوحدة،ويسعى إلى العزلة،ولا يطمئن إلا إلى نفسه وتفكيره؟وما الذي جعله يختار قمة جبل يشرف منه على العالم حوله فتسبح نفسه في التفكير من غير أن يحدها حد أو يقف بها عند غاية.
ماهذه الأفكار التي كانت تملأ نفسه شهراً فلا يمل التفكير،ولعله كان يود أن يبقى كذلك أشهراً لولا واجب أهله وواجب عشيرته؟
ولكن هل لنا أن نتساءل هذه الأسئلة؟وإذا سألناها فهل في استطاعتنا أن نجيب عنها؟
أكبر الظن أن (محمداً) في هذه الفترة،وعلى الاخص في غار حراء كان في حيرة ما أشده من حيرة عبر الله عنها بقوله:{ووجدك ضالاً فهدى}[الضحى 7].
لقد عرف قومه فلم يعجبه دينهم ولا نوع حياتهم ولا كفرهم ولا إيمانهم ولا أخلاقهم،وسافر إلى الشام فرأى فيها لامدينة الرومان بمالها وأعمالها التجارية وترفها ونعيمها ودينها الرسمي ومظاهره،فلم يعجبه شىء من ذلك.
لقد رآهم يعيشون كما يعيش السمك يأكل بعضه بعضاً،أو كما تعيش الذئاب والشياه في حظيرة واحدة.
رحماك الله!ما هذه الحيرة الشاملة؟لا البداوة لسذاجتها ونظامها أعجبته،ولا الحضارة بترفها وزخارفها أعجبته.لم يعجبه ما رأى من وثنية،ولم يعجبه ما رأى من نصرانية.فأين الحق؟
لقد اطمأن إلى شىء واحد وهو أن كل ما رأى ضلال،وحيره شىء واحد وهو سؤاله أين الهدى؟
حالة نفسية إذا تملكت نفساً مرهفة وشعوراً دقيقاً ملكت نفسه وغمرت قلبه،فحلا له أن يعتزل الناس لأنهم يحولون بينه وبين تفكيره ويقطعون عليه سلسلة مشاعره.
لقد جرب العزلة الساعة واليوم فوجدها تفتح قلبه وتريح نفسه،ووجد فيها مفتاحاً لحيرته واتجاه لهدايته فبالغ فيها حتى بلغت الشهر!
إن الناس وضوضاءهم ومناظر حياتهم يضنون نفسه فليهرب منهم،وإن منظر الطبيعة بجمالها وبهائها ورونقها ليحيى نفسه فليطمئن إليه.يتعاقب عليه في عزلة الليل والنهار فيجد في كل غذاء نفسه:هذا الليل في أعلى الجبل بسكونه وهدوئه،وسمائه ونجومه،والعالم ةحوله كله نائم،وهو يناغي النجم،ويشاطره الاضطراب والحيرة،وهذا النهار ـ في أعلى الجبل ـ يشرف منه على العالم من تحته،فيهزأ بالناس وسخافاتهم هزؤا مشوباً برحمة،واستخفافاً ممزوجاً بعطف.
كل ذلك وأكثر من ذلك كان يخفق له قلب محمد في غار حراء.
لقد عرف الباطل،ويريد أن يعرف الحق،وأدرك الضلالة ويريد أن يدرك الهدى،ولم يحب ما عليه الناس،ولكن يريد أن يعرف ما ينغي أن يكون عليه الناس.
هذا الظلام فأين النور؟وهذا العمى فأين البصر؟وهذا ما يجب ألا يكون،فأين ما يجب أن يكون؟
لقد طلب الحق ـ في غار حراء ـ بعد أن تهيأت نفسه واستعدت روحه،وكملت مشاعره،وتوجت بالحيرة،فكانت حيرته إرهاصاً لليقين،وضلاله إرهاصاً للهدى.
لم يطلب الحق من طريق الشعر،فالشاعر يتخيل ثم يخال،والشاعر يخلق ما لم يكن ولا يدرك ما يجب أن يكون،والشاعر يغني لنفسه أولاً ولا بأس أن يسمع للناس،والشاعر يعيش في جو خيالي يخلقه بنفسه لنفسه.وليس هذا من النبوة في قليل ولا كثير.
ولم يطلب الحق من طريق الفلسفة أو العلم،فكلاهما عبد المنطق،عبد الألفاظ،عبد الكتب،عبد النصوص،وأحسن أمرهما أنهما عبدان للعقل،والعقل مغيب مغرور مضل،ولكل إنسان عقله،ولكل إنسان تفكيره،ولكل إنسان منطقه وقضاياه.
إنما طلب محمد الحق من طرق أسمى من ذلك كله،وأرفع من ذلك كله:طلبه من طريق القلب،وأعلن أنه لم يطلب علماً ولكن طلب إيماناً،فأعلن أنه أمي وفخر بأميته،لأن القلب فوق اللغة،وفوق الكتابة والقراءة،وفوق العلم،وفوق المنطق،وهو القدر المشترك بين الناس،لا يؤمن بحدود اللغة والجنس،ولا يؤمن بحدود اللسان والألوان.
من أجل هذا لم يذهب ـ وقد حار ـ إلى معلم يعلمه الكتاب،ولا إلى مثقف بالكتب والأديان،وإنما فضل على ذلك كله غار حراء حيث الطبيعة على فطرتها مفتوحة أمام قلبه،وحيث يتصل هو وهي بربها وربه.
لقد اهتدى إلى الصراط المستقيم،واتجه اتجاه الأنبياء،لا اتجاه الشعراء والعلماء،وتهيأ للأمر العظيم،فلمعت في قلبه الشرارة الإلهية،كما يتهيأ السحاب فيلمع البرق.
لقد أضاءت له هذه الشرارة الإلهية كل شىء،وكانت رسالته من جنس هدايته،فرسالته أن يبعث الحياة في القلب،ويبعث الضوء إلى النفس،كالقمر يستمد نوره من الشمس،ثم يعكس أشعته الجميلة على الناس،يشترك في الاهتداء به العالم والجاهل،والذكي والغبي،والفيلسوف والعامي،على اختلاف فيما بينهم،لأن لديهم جميعاً قدراً مشتركاً من القلب صالحاً للاهتداء.
وليست العقول مسايرة في الرقي والانحطاط للقلوب، فقد يكون مريض القلب صحيح العقل،وقد يكون صحيح القلب مريض العقل،ومقياس صحة الاستفادة من النبوة صحة القلب لا صحة العقل،فلذلك آمن بلال قبل أن يؤمن عمرو بن العاص،وأسلمت جارية بني مؤمل قبل أن يسلم أبو سفيان.
كانت فترة غار حراء الحد الفاصل بين محمد بشراً،ومحمد بشراً رسولاً.لقد صعد إليه إنساناً حائراً،وهبط منه إنساناً نبياً،مهتدياً مطمئناً.صعد شاكاً وهبط مؤمناَ.لمع في قلبه النور الإلهي فإذا كل شىء حوله شفاف يراه بقلبه ويكشفه بنوره.
نزل من الغار يدعو الناس أن يستضيئا بضوئه،وأن يحيوا قلوبهم من حياة قلبه،وأن يسمعوا لصوت الله على لسانه،وأن يروا عظمة الله في كل أثر من آثاره”.
أي شهر كان هذا الشهر؟لو وزن به الزمان لوزنه،وأي مكان غار حراء؟لو فاضل كل مكان لفضله”.
واحياناً ورغم البحث والجد والسعي، قد يَخفى الحق عن الأنظار،وقد يُخفي الحق عن الأنظار نسيجٌ مهلهل،أو قد يفرق بينه وبين الباطل خيط رفيع أو حدّ شعرة،ومع ذلك لابد من متابعة البحث وحشد قوى الجسم المعنوية والمادية،وأن يكون شعار الباحث عن الحق ما قاله الشاعر ابن الحقيق:
إني إذا مالت دواعي الهوى وأنصت السامع للقائل
واعتلج الناس بآرائهم نقضى بحكم عادل فاصل
لا نجعل بالباطل حقاً ولا نرضى بدون الحق للباطل
يقول الأستاذ أحمد امين (فيض الخاطر ” ج7 ص67 )معقباً على هذا الشعر:
“يدعو هذا الشعر إلى أن الأهواء إذا اختلفت،والآراء إذا اشتبكت وتضاربت،يجب على الإنسان ألا يتجّنب المعركة ولا يفر من الميدان،ولكن يبتعد عن الأهواء كلها،ويدرس الآراء كلها في دقة وإمعان،حتى يعرف صحيحها من باطلها،ولا ينخدع بزيفها، فإذا تبين له وجه الصواب أعلنه،وأعلن التمسك به،فقضى بالرأي الذي يراه صواباً وعدلاً،وقاله قولاً فصلاً ليس فيه إبهام ولا غرض ولا التواء،ثم هو لا يكتفي بالقول، فما القول إذا لم يُدعم بالعمل،فلا يقر قراره حتى يكون الحق،ويُحل محل الباطل، ثم لا يكتفي بأنصاف الحلول فإما الحق كله أو لاشئ غيره، فذلك قوله ولا نرضى بدون الحق للباطل” .
وإنها قلة قليلة من الناس من تسعى جادّة في البحث عن الحق والوصول إليه، واقل منها من تلتزم هذا الحق وتثبت عليه وتدعو إليه.
يقول الأستاذ أحمد أمين (فيض الخاطر ج3 ص142):
“ومن أجل هذا كان دعاة التجديد والإصلاح في كل أمة،وفي كل عصر نادرين جدا، وندرتهم لم تأت من ندرة الذكاء،وإنما أتت على الأغلب من ندرة احتمال العقل الصبر على البحث وراء الحق،وندرة الشجاعة في اعتقاد الحق والجهربه،فالناس ـ إلا القليل النادر ـ يألفون الحياة كما هي لا كما ينبغي أن تكون،وهم بين من لايجد إلا زمناً لتحصيل قوته،ومن يجد الفراغ ولكن لا يستطيع عقله الصبرعلى البحث الحر،أو يجد كل ذلك ويستطيعه ولكن لا يستطيع الجهر به لما يتوقع من متاعب وآلام:مساس بسمعته،وقدح في ذمته،وتهكم على عقله،وتجريح لخلقه،ونيل من دينه”.
ويقول شاعر الشام خير الدين الزركلي:
رأيت سبيل الهدى وعرة ولم أر في الناس من يسلك
وأخيراً لابد لمن يسعى ويبحث عن الحق أن يطلب قبل كل شئ معونة الله وهداية الله،فنور الله يُنير لك السُبل،ويُمكّنك من أن تُفرِّق بين الحق والباطل،لانّه من ضلّ عن الحق وقع في الضلال،وكم سمعنا عن بعض الفئات والجماعات أخلصت في طلب الحق ولكنهم ضلوا الطريق إليه. يقول الأستاذ عصام العطار حفظه الله:
“أنا ضامن أن تصلوا إلى الحق والصواب في كثيرمن الأمورالملتبسة عليكم الآن،شريطة أن يكون عندكم التجرد لله عزَّ وجلَّ،والصدق والإخلاص في طلب الحق والصواب،فالأهواء والمصالح والعبودية للدنيا تحجب الرؤية الواضحة،أو تجعل أصحابها يكابرون في المحسوسات ويجادلون في نور الشمس اسطع مايكون”.
ويقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله(جدّد حياتك ص50) :
” وجدير بالإنسان في عالم استوحش فيه الحق على هذا النحو أن يجتهد في تحريّه وأن يلتزم الأخذ به،وأن يرجع إليه كلما أبعدته التيارات عنه،ولعلّ هذا هو السّر في أن الله طلب إلى كل مؤمن أن يسأله الهدى،وكلّفه ألا يسأم من تكرار هذا السؤال حيناً بعد حين،ويتابع رحمه الله”على أن الاهتداء إلى الحق والثبات على صراطه يحتاج إلى جهد ودأب،ويحتاج كذلك إلى استلهام طويل من عناية الله،وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر ضجَّ إلى الصلاة يضم إلى عزيمته وجَلَدِهِ حولَ الله وطولَه”.
وقد تكون بعد علم وبحث ومثابرة على باطل وضلال،ويظهر لك الحق،ويثبت لديك، فحذار أن تبقى على الباطل،والرجوع إلى الحق فضيلة،والتمادي في الباطل رذيلة ما بعدها رذيلة،يقول الإمام الشعبي رحمه الله: ” إنّي لأستحيّ من الحقّ إذا عرفته ألا أرجع إليه”. ويقول الأستاذ عصام العطار حفظه الله: ” لا تقل لم يعد بإمكاني أن أصحّح خطئي بعد أن تماديت فيه إلى هذا الحد، فأنت تملك التصحيح ماملكت الإخلاص والإرادة والشجاعة،وإياك إياك أن تهرب من واجب التصحيح وتبرير خطئك لنفسك وللناس ففي ذلك الضياع الحقيقي والهلاك كل الهلاك والخسارة كل الخسارة”، ويقول أيضاً حفظه الله”لا تكن أخطاء الأمس حاجزاً بينك وبين صواب اليوم،ولا تغد أسير طريق سلكته إذا وجدت أن الطريق الأقوم والأفضل طريق سواه”.
ويقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله(جدّد حياتك ص94):
“ولطبيعة الإنسان نزوات تطفو بها أحياناً وتطيش،والمخوف في هذه النزعات أن يسترسل المرء معها، فإن هذا الاسترسال يرمي به في مطارح لا يعود منها سالماً،ولذلك قال ابن المقفع: “المؤمن بخير مالم يعثر،فإذا عثر لجّ به العثار”، ويتابع الشيخ الغزالي رحمه الله” إنّ الإنسان يخطئ حتماً، فليست العصمة أملاً له،ولا طبعاً فيه،وهو يعاني نتيجة ما يتورط فيه من أخطاء انفعالات مضطربة حمقاء،وأفضل ما يصنع أن ينفض يديه كلتيهما مما حدث وألا يدع اللجاجة تنتقل من سئ إلى أسوأ ومن ظلال داكنة إلى ظلمات بعضها فوق بعض،اجتهد ألا تسلك طريق ضلال، فإذا سلكته ـ تحت اي ضغط أو إغراء ـ فاجتهد ألا توغل فيه،وعُد من حيث جئت في أقرب فرصة وفي أسرع وقت” .
وما أجمل أن تصل إلى الحقيقة بعد رحلة العناء الطويلة، كالمسافر في الفيافي والصحاري قد ضلّ الطريق ثم وجد واحة الراحة والإطمئنان،وكالغريق الذي أوشك على الغرق ثم وجد يداً تنتشله إلى برِّ الأمان،والصادي الذي حرق جوفه الظمأ ثم يجد ما يروي غُلّة العطشان.
يقول شوقي رحمه الله :
أُعِدَّت الراحةُ الكبرى لمن تعبا وفاز بالحقِّ من لم يَألُهُ طلبا
يقول الأستاذ عصام العطار حفظه الله:
” ألا ما أنبل السعي وراء المعرفة،والتعب في طلب الحقيقة،والكفاح الدائم للِسّمو على معيشة الأنعام والهوام،وما أعظم ان يصل الإنسان إلى اليقين فيجد الطمأنينة بعد القلق،والأمن بعد الخوف،والراحة النديّة بعد مشقة السير ولفحة الهجير،أما الذين تَشّعبت بهم الطرق،وتاهوا في أودية الضلال ولم يجدوا السبيل إلى الله، فهم في بلاء وعناء وغَمٍّ شديد،وما أروع ما تفصح عن حالتهم تلك الصيحة التي أرسلها تولستوي كما يرسل الغريق المتخبط في اليّم صيحته الاخيرة العالية تحمل كل ماعنده من رجاء وكل ما ينطوي عليه نت أسى ويأس: رَبِّ هبني إيماناً، وهَبّ لي أن اساعد الناس ليجدوه” .