بسم الله الرحمن الرحيم
“وجاءت سكرة الموتِ بالحقِّ”
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونسترشده،ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئاتِ أعمالنا،من يهده الله فلا مُضلّ له،ومن يُضلل فلاهادي له،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،إقراراً بربوبيته،وإرغاماً لمن جحد به وكفر،وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر،ما اتصلت عين بنظر،أو سمعت أذن بخبر،بلّغ الرسالة،وأدّى الأمانة،اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد،وعلى آله وأصحابه،وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين،اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا،إنك أنت العليم الحكيم،اللهم علّمنا ما ينفعنا،وانفعنا بما علّمتنا،وزدنا علماً،واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه،واغفر لنا واهدنا وارحمنا وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الموت حقّ:
يقول تعالى:{كلُّ نفسٍ ذائقةُ الموتِ}[آل عمران 185].وقال تعالى:{كلُّ من عليها فانٍ*ويبقى وجهُ ربّكَ ذو الجلالِ والإكرامِ}[الرحمن 26 ـ 27].
نعم الموت حق،وهذه الحقيقة الأبدية الأزلية ليس لها استثناء،فالموت حوض الكل وارده، وسيشرب من كأسه وباب سيلج الجميع من خلاله،من عهد آدم عليه السلام وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها،لا يوجد استثناء،وحتى بحق أعظم الناس من الأنبياء،وكل من عليها فان ولا يبقى إلا وجه ربك ذو الجلال والإكرام.
يقول سيد قطب رحمه الله في قوله تعالى في سورة النجم:{وأنّهُ هوَ أماتَ وأحيا}[النجم44]،يقول رحمه الله:
“أمات وأحيا…أنشأ الموت والحياة،كما قال في سورة أخرى:{الذي خلق الموت والحياة}.وهما أمران معروفان كل المعرفة بوقوعهما المتكرر.ولكنهما خافيان كل الخفاء حين يحاول البشر أن يعرفوا طبيعتهما وسرهما الخافي على الأحياء…فما الموت؟وما ما حقيقتهما حين يتجاوز الإنسان لفظهما وشكلهما الذي يراه؟كيف دبت الحياة في الكائن الحي؟ماهي؟ومن أين جاءت؟وكيف تلبست بهذا الكائن فكان؟وكيف سارت في طريقها الذي سارت فيه بهذا الكائن أو بهذه الكائنات الأحياء؟وما الموت؟وكيف كان…قبل دبيب الحياة وبعد مفارقتها للأحياء؟إنه السر الخافي وراء الستر المسبل،بيد الله.
أمات وأحيا..وتنبثق ملايين الصور من الموت والحياة.في عوالم الأحياء كلها.في اللحظة الواحدة.في هذه اللحظة.كم ملايين من الأحياء ماتت,وكم ملايين الملايين بدأت رحلة الحياة.ودب فيها هذا السر من حيث لا تعلم ومن حيث لا يعلم أحد إلا الله.وكم من ميتات وقعت فإذا هي ذاتها بواعث حياة.وكم من هذه الصور يتراءى على مدار القرون،حين يستغرق الخيال في استعراض الماضي الطويل،الذي كان قبل أن يكون الإنسان كله على هذا الكوكب.وندع ما يعلمه الله في غير هذا الكوكب من أنواع الموت والحياة التي لا تخطر على بال إنسان.
ويقول في موضع آخر من الظلال(الآية 66 من سورة الحج):
“والموت سر آخر يعجز العقل البشري عن تصور كنهه،وهو يتم في لحظة خاطفة،والمسافة بين طبيعة الموت وطبيعة الحياة مسافة عريضة ضخمة…وفيه مجال فسيح للتأمل والتدبر”.
ويقول الشيخ العلامة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله(مقال:كن في الدنيا كأنك غريب):
“روى البخاري في صحيحه،عن ابن عمر رضي الله عنهما،عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:”كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل” وكان ابن عمر يقول:”إذا أصبحت فلا تنتظر المساء،وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح،وخذ من صحتك لمرضك،ومن حياتك لموتك.[رواه البخاري وأحمد والترمذي وبن ماجه عن ابن عمر].
يقول الشيخ القرضاوي:”إن مشكلة الناس أنهم يحيون في الدنيا بعقلية الخالدين،يظنون أن الحياة لهم دائمة،فإن لم تكن دائمة،فهم يحسبون أن الموت عنهم بعيد،ودواء هذا كله،أن يُقصِّر الناس من آمالهم،وأن يعيشوا على ذكر من الآخرةنوأن يجعلوا الآخرة نصب أعينهم،ومن أجل هذا يوصي رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عمر بقوله:كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل”.
فإن من الخطر أن يتخذ الإنسان الدنيا دار إقامة،ويتخذها وطناً دائماً،ويحسب أن لا رحيل له عنها، أو هكذا يفكر…وهكذا يُعامل نفسه…وهكذا يعامل الناس..إن عليه أن يعرف أن الدنيا دار ممر،لا دار مقر،كما قال العبد المؤمن الصالح،مؤمن آل فرعون وهو يدعو قومه إلى الله،ويقول لهم:{يا قومِ اتّبعونِ أهدِكمْ سبيلَ الرَّشادِ *يا قومِ إنّما هذهِ الحياةُ الدُّنيا متاعٌ وإنَّ الآخرةَ هيَ دارُ القَرارِ}[غافر 38 ـ 39].
الحياة الدنيا هي متاع،بل متاع قليل،بل هي متاع الغرور…والآخرة هي دار القرار،دار الإقامة…دار الخلود.فليكن الإنسان في الدنيا على إحدى هاتين الحالتين:حال الغريب،أو حال عابر سبيل.
الغريب الذي يقيم في أرض وهو يعلم أنها ليست أرضه،ويُقيم في بلد،وهو يعلم أنها ليست وطنه،فهو دائم الحنين إلى وطنه،دائم الحنين إلى أرضه،إلى مسقط رأسه،ومهد طفولته،ومهوى فؤاده،حيث يجتمع شمله بأحبابه وأصحابه…فهذا هو شأن المؤمن.
فوطن المؤمن ليس هو الدنيانإنما هو الجنة…فإن الله حينما خلق آدم ،أسكنه وزوجته الجنة،ثم أهبطه منها،ووعده وذريته من الصالحين بالرجوع إلى المسكن الأول…إلى الجنة.
والحالة الثانية التي يرشد إليها الحديث أن تعتبر نفسك غير مُقيم قط،وإنما أنت مسافر،تقطع مرحلة وراء مرحلة،ومنزلة عقب منزلة،حتى تذهب إلى مقصدك وإلى مأواك،وإلى دار مقامتك.
ويتابع الشيخ القرضاوي:”فهذه الدار دار مقيل،وليست دار إقامة،ولكن الناس عن ذلك غافلون .إن هذه الحياة ليست حياة خلود أبداً،لا تستحق أن يفرح الإنسان بها،إلا بما أوتي من فضل الله،:{قل بفضل الله وبرحمتهِ فبذلكَ فليفرحوا هو خيرٌ ممّا يجمعونَ}[يونس 58]،كيف يفرح بالدنيا من تهدم ساعاته فيها يومه،وأيامه تهدم شهره،وشهوره تهدم عامه،وأعوامه تهدم عمره؟وهكذا حتى تنتهي هذه الحياة،التي يتكالب الناس عليها ويتنافسون!.
ويقول الشيخ العلامة علي الطنطاوي رحمه الله(نور وهداية):
“ولقد طالما وقفت هذا الموقف ففكرت في الزمان وتفلسفت،وعدت إلى ماضيّ فحزنت وفكرت في المستقبل فأيِست،ثم رأيت ذلك باطلاً كله،كله باطل! لا الماضي يعود ولا الحاضر يدوم ولا المستقبل يأتي،تفنى اللّذاذات وتذهب الأحزان،وتمر الأيام بنا في طريق القبر حتى نبلغه،فتكون خاتمة المطاف هذه الآلام التي نوّدع بها الدنيا،والتي تُنسينا كل لذة وكل متعة استمتعنا بها.
ويا ليت الموت هو الغاية! إن الموت بداية لذّة لا آخر لها أو ألم ما له من نهاية.
فأين نحن،وفي أي واد من أودية الضلال نتخبط؟اللهم إني أتوجه إليك في هذه الساعة لتصلني بك وتدلني على اطريق إليك حتى أعرفك،فلقد عرفت أن كل شىء سواك باطل.
ما الحياة؟ماهذه الفترة القصيرة من الزمان السّرمدي؟وما الزمان في جنب الله الباقي؟وما الجمال الدنيوي؟وما الحب الأرضي؟وما العلم؟أليس العلم كله إدراك سطر واحد من سفر الوجود وكشف حفنة واحدة من رمال الصحراء؟فما أجهل العلم إذن بالوجود!وما أحمق العلم حين يرفع رأسه ليتكلم في الموجِد وقد خرس عمّا أوجد،ولينظر إلى الخالق الباقي وقد عمي عن المخلوقات الفانية!وهل عرف العلم من نحن ومن أين جئنا وإلى أين نسير؟”.
ويقول الأستاذ أحمد أمين رحمه الله(مجلة الثقافة العدد 223 بتاريخ 6 نيسان عام 1943ن):
“من قديم والإنسان أمام الموت مرتاع فزع،ومع أن الموت هو النتيجة الحتمية الطبيعية للحياة،لم يتقدم الإنسان أي خطوة في سبيل تهوين أمره وتلطيف وقعه،ومع أنا إذا نظرنا إليه من الناحية الاجتماعية لا من الناحية الفردية،وجدناه أمراً لا بد منه لحياة الجيل الحاضر والجيل المستقبل،إذ الأرض يستحيل البقاء عليها والعيش فيها،إذا لم يكن الموت ـ مع كل ذلك ـ فهذا التفكير المعقول لم يخفف الشعور بهول الموت،وهذه المصيبة الكبرى.
أمامه تنهار كل القيم:المال والجاه والمنصب،واللذائذ تتضاءل كلها أمامه،فيستهونها واجدها ويستقل شأنها فاقدها.
وفي كل يوم عبر،فهو لايرحم شاباً لشبابه،ولا عظيماً لعظمته،ولا أباً لحنوه،ولا صحيحاً لصحته،سواء عنده كل شىء.
وكلما كان الميت أعظم،كانت العبرة به أعظم،ومن أجل ذلك وقف الناس وقفة اتعاظ بموت الجبابرة،أمثال الإسكندر،ودارا،وتيمورلنك،ونيرون،ونابوليون،إذ رأوا أن جبروتهم انهار أمام الموت كما ينهار السائل الفقير،والمسكين الحقير،فإذا الدنيا كلها،والجبروت كله، والعظمة كلها فقاقيع مسها الهواء فزالت،وكأن الحياة لعبة في الهواء،أو كتابة على ماء.
وفي الأدب العربي قصة طريفة،بعثرت فجمعناها،ورويت روايات مختلفة فاخترنا خيرها،وهي أن الإسكندر لما مات اجتمع حول جثته جمع من الفلاسفة من تلاميذ أرسطو،فقال عظيمهم:ليقل كل منكم قولاً يكون للخاصة معزياً،وللعامة واعظاً.
فقام أحدهم وضرب بيده على التابوت وقال:أيها النطيق ما أخرسك،أيها العزيز ما أذلك، أيها القانص كيف وقعت في الشرك؟من هذا الذي يقنصك؟
وقام ثان فقال:هذا القوي الذي أصبح اليوم ضعيفاً،والعزيز الذي أصبح اليوم ذليلا.
وقال ثالث:قد كانت سيوفك لا تجفّ،ونقمتك لا تؤتمن،ومدائنك لا تُرام،وعطاياك لا تبرح،وضياؤك لا يخبو،فأصبح ضوءك قد خمد،ونقمتك لا تُخشى،وعطاياك لا تُرجى،وسيوفك لا تُنتضى،ومدائنك لا تُمنع.
وقال رابع:هذا الذي كان للملوك قاهراً،أصبح اليوم للسوقة مقهوراً.
وقال خامس:قد كان صوتك مرهوباً،وكان ملكك غالباً،فأصبح الصوت قد انقطع،والملك قد اتضع.
وقال سادس:كنت كَحلم نائم انقضى،أو كظل غمام انجلى.
وقال سابع:لئن كنت أمس لا يأمنك أحد،لقد أصبحت اليوم وما يخافك أحد.
وقال ثامن:هذه الدنيا الطويلة العريضة طويت في ذراعين.
وقال تاسع:كفى للعامة أسوة بموت الملوك،وكفى الملوك عظة بموت العامة.
وقال عاشر:قد حرّكنا الإسكندر بسكونه،وأنطقنا بصمته.
وهذه القصة إن شك فيها المؤرخ،لا يشك في قيمتها الأديب والمعتبر.
ورحم الله الحسن البصري إذ يقول:”ما أكثر المعتبَر وأقل المعتبر”.
يقول الأستاذ فيصل بن عبد الحمن الشدي(موقع صيد الفوائد ):
“إننا لاندري متى نفارق دنيانا إلى قبورنا،ونجهل الحال التي يختم بها لنا،ولا نعلم أي عمل نلقى به ربنا،والموت قد تسبقه إلى العبد نذرٌ وعلامات من مرض مهلك،أو حرب مبيدة،أو حكم من بشر بقصاص أو قتل سواء كان بحق أو باطل.وقد يأتي الموت للعبد بغتة وهو على أتم حال يكون فيها وأحسنها،وهذا الذي يفجع الأحياء،ويخافه الناس على أنفسهم،لقلة الزاد،وضعف الاستعداد.
وهذا يوجب على العباد الخوف الدائم،وترقب الموت في أي لحظة{فسبح بحمد ربّكَ وكن من الساجدين*واعبد ربّك حتى يأتيك اليقين}[الحجر].
إن الله فطر الأحياء على الخوف من الموت،واتقاء أسبابه،واجتناب مظانه،كما فطرهم على التشبث بالحياة،وبذل الغالي والنفيس فيها،ومع أن الأحياء تفر من الموت،وتتقي أسبابه،فإن كل مخلوق لا بد أن يموت{كلُّ من عليها فان*ويبقى وجهُ ربّكَ ذو الجلال والإكرام}[الرحمن].
وإذا كان هم الكافر في الدنيا أن يستمتع بلذاتها،ويعب من شهواتها فإن همة المؤمن في الدنيا عمارة الآخرة،والتزود من الباقيات الصالحات،مستحضراً الموت والقبر والحساب والجنة والنار،فمن فعل ذلك كانت دنياه مطية لآخرته ومزرعة لها.
ونسيان الموت سبب للهو والغفلة والانغماس في الدنيا كما أن تذكر الموت سبب للزهد في الدنيا والإقبال على العمل الصالح،ولذا حثنا النبي صلى الله عليه وسلم على تذاكر الموت وعدم نسيانه لئلا نغفل فقال صلى الله عليه وسلم:” أكثروا ذكر هاذم اللذات”[رواه النسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].
ويقول الأستاذ العلامة راتب النابلسي حفظه الله:”لا يستطيع أحد أن ينكر حدث الموت،لكن الناس يتفاوتون لا في الإنكار أو التصديق بل يتفاوتون في مدى الاستعداد للموت،يستعد للموت بالتوبة الصادقة،والعمل الصالح،وبطلب العلم،وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،وبالدعوة لله عز وجل،وبتربية الأولاد،الناس يتفاوتون لا في تصديقهم أو تكذيبهم بحدث الموت،ولكنهم يتفاوتون في مدى الاستعداد للموت.وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”إن أكيسكم أكثركم للموتِ ذكراً،وإن أحذركم أشدكم استعداداً له،ألا وإن من علامات العقل التجافي عن دار الغرور،والإنابة إلى دار الخلود،والتزود لسكنى القبور،والتأهب ليوم النشور“[رواه البيهقي]انتهى كلام النابلسي.
إنَّ الموت حقّ،وسكرات الموت حق ،فلابد من أن يتذكر الإنسان أنه يعيش حياته الدنيا لفترة معينة ومن ثم ينتقل إلى الدار الآخرة،حيث النعيم الخالد المقيم،أو الجحيم الخالد المقيم.
يقول الأستاذ العلامة علي الطنطاوي رحمه الله(مقال:كلنا نموت):
“هل رأى أحد منكم يوماً جنازة؟هل تعرفون رجلاً كان إذا مشى رجّ الأرض،وإن تكلم ملأ الأسماع،وإن غضب راعَ القلوب،جاءت عليه لحظة فإذا هو جسد بلا روح،وإذا هو لا يدفع عن نفسه ذبابة،ولا يمتنع من جرو كلب؟!!!
هل سمعتم بفتاة كانت فتنة القلب وبهجة النظر،تفيض بالجمال والشّباب،وتنثر السحر والفتون،تبذل الأموال في قبلة من شفتيها المطبقتين كزر ورد أحمر،وتراق الكبرياء على ساقيها القائمتين كعمودين من المرمر،جاءت عليها لحظة فإذا هي قد آلت إلى النتن والبلى،ورتع الدود في هذا الجسد الذي كان قبلة عبّاد الجمال،وأكل ذلك الثغر الذي كانت القبلة منه تشترى بكنوز الأموال؟!
هل قرأتم في كتب التاريخ عن جبار كانت ترتجف من خوفه قلوب الأبطال،ويرتاع من هيبته فحول الرجال،لا يجسر أحد على رفع النظر إليه ،أو تأمل بياض عينيه،قوله إن قال شرع ،وأمره إن أمر قضاء،صار جسده تراباً تطؤه الأقدام،وصار قبره ملعباً للأطفال،أو مثابة”لقضاء الحاجات”.؟!!
هل مررتم على هذه الأماكن،التي فيها النباتات الصغيرة،تقوم عليها شواهد من الحجر،تلك التي يقال لها المقابر؟!!
فلماذا لا تصدقون بعد هذا كله،إن في الدنيا موتاً؟!
لماذا تقرؤون المواعظ،وتسمعون النذر فتظنون أنها لغيركم؟وترون الجنائز وتمشون فيها فتتحدثون حديث الدنيا،وتفتحون سير الآمال والأماني…كأنكم لن تموتوا كما مات هؤلاء الذين تمشون في جنائزهم،وكأن هؤلاء الأموات ما كانوا يوماً أحياء مثلكم،في قلوبهم آمال أكبر من آمالكم،ومطامع أبعد من مطامعكم؟
لماذا يطغى بسلطانه صاحب السلطان،ويتكبر ويتجبر يحسب أنها تدوم له؟إنها لاتدوم الدنيا لأحد،ولو دامت لأحدٍ قبله ما وصلت إليه.ولقد وطىء ظهر الأرض من أهم أشدّ بطشاً،وأقوى قوة،وأعظم سلطاناً؟فما هي….حتى واراهم بطنها فنسي الناس أسماءهم!
يغترُّ بغناه الغني،وبقوّته القويّ،وبشّبابه الشّاب،وبصحته الصحيح،يظن أن ذلك يبقى له…وهيهات…!
وهل في الوجود شىء لا يُدركه الموت؟!
البناء العظيم يأتي عليه يوم يتخرب فيه،ويرجع تراباً،والدوحة الباسقة يأتي عليها يوماً تيبس فيه،وتعود حطباً،والأسد الكاسر يأتي عليه يوم يأكل فيه من لحمه الكلاب،وسيأتي على الدنيا يوم تغدو فيه الجبال هباءً،وتشققّ السماء،وتنفجر الكواكب،ويفنى كل شىء إلا وجهه.
يوم ينادي المُنادي:{لمن الملك اليوم}
فيجيب المُجيب:{لله الواحد القهار}
لقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإكثار من ذكر الموت.
فاذكروا الموت لتستعينوا بذكره على مطامع نفوسكم،وقسوة قلوبكم،اذكروه لتكونوا أرقّ قلباً وأكرم يداً،وأقبل للموعظة،وأدنى إلى الإيمان،اذكروه لتستعدوا له،فإن الدنيا كفندق نزلت فيه،أنت في كل لحظة مدعو للسفر،لا تدري متى تُدعى،فإذا كنت مستعداً:حقائبك مغلقة وأشياؤك مربوطة لبيّت وسرت،وإن كانت ثيابك مفرقة،وحقائبك مفتوحة،ذهبت بلا زاد ولا ثياب،فاستعدوا للموت بالتوبة التي تصفي حسابكم مع الله،وأداء الحقوق،ودفع المظالم،لتصفوا حسابكم مع الناس.
ولا تقل أنا شاب…ولا تقل أنا غني…
فإن ملك الموت إن جاء بمهمته لا يعرف شاباً ولا شيخاً،ولا عظيماً ولا حقيراً ولا غنياً ولا فقيراً..
ولا تدري متى يطرق بابك بمهمته….!!
ويقول الأستاذ مصطفى صادق الرافعي رحمه الله في مقال بعنوان”صوت القبر”:
“يا من لهم في القبور أموات!
إن رؤية القبر زيادة في الشعور بقيمة الحياة،فيجب أن يكون معنى القبر من معاني السلام العقلي في هذه الدنيا.
القبر فم ينادي:أسرعوا أسرعوا،فهي مدة لو صُرفت كلها في الخير ما وفت به،فكيف يضيع منها ضائع في الشر أو الإثم! لو ولد الانسان ومشى وأيفع وشب واكتهل وهرم في يوم واحد،فما عساه كان يضيع من هذا اليوم الواحد؟إن أطول الأعمار لا يراه صاحبه في ساعة موته إلا أقصر من يوم.
ينادي القبر:أصلحوا عيوبكم،فإنها إن جاءت إلى هنا كما هي بقيت كما هي إلى الأبد.
هنا قبر،وهناك قبر،وهنالك القبر أيضاً،فليس ينظر في هذا عاقل إلا كان نظره كأنه حكم محكمة على هذه الحياة كيف تنبغي وكيف تكون.
في القبر معنى إلغاء الزمان،فمن يفهم هذا استطاع أن ينتصر على أيامه،وأن يُسقط منها أوقات الشر والإثم،وأن يميت في نفسه خواطر السوء،فمن معاني القبر ينشأ للإرادة عقلها القوي الثابت،وكل الأيام المكروهة لا تجد لها مكاناً في زمن هذا العقل،كما لا يجد الليل محلاً في ساعات الشمس.
ثلاثة أرواح لا تصلح روح الإنسان في الارض إلا بها:روح الطبيعة في جمالها،وروح المعبد في طهارته،وروح القبر في موعظته”.
ويقول الكاتب العظيم مصطفى صادق الرافعي رحمه الله(الرسالة العدد 89ـ مقال:عروس تزف إلى قبرها):
“واهاً لك أيها الزمن!من الذي يفهمك وأنت مدة أقدار؟واليوم الواحد على الدنيا هو أيام مختلفة بعدد أهل الدنيا جميعاًَ،وبهذا يعود لكل مخلوق سر يومه،كما أن لكل مخلوق سر روحه،وليس إليه لا هذا ولا هذا.
أيتها الدنيا،هذا تحقيرك الإلهي إذا أكبرك الإنسان!
ويا عجباً لأهل السوء المغترين بحياة لابد أن تنتهي! فماذا يرتقبون إلا أن تنتهي؟حياة عجيبة غامضة،وهل أعجب وأغمض من أن يكون انتهاء الإنسان إلى آخرها هو أول فكرة في حقيقتها؟
فعندما تحين الدقائق المعدودة التي لا ترقمها الساعة ولكن يرقمها صدر المحتضر…عندما يكون ملك الملوك جميعاً كالتراب لا يشتري شيئاً البتة…
أعمالنا في الحياة هي وحدها الحياة،لا أعمارنا ولا حظوظنا.ولا قيمة للمال أو الجاه،أو العافية،أو هي معاً إذا سلب صاحبها الأمن والقرار! والآمن في الدنيا من لم تكن وراءه جريمة لا تزال تجري وراءه.والسعيد في الآخرة من لم تكن له جريمة تطارده وهو في السموات”.
ويقول الأستاذ الدكتور محمد لطفي الصباغ رحمه الله(الإنسان في القرآن الكريم ـ ص66):
“إن حبّ الحياة والرغبة في البقاء غريزة ثابتة في النفس الإنسانية،وما أوجدها الله إلا لتؤدي دوراً إيجابياً في استمرار عمران الأرض وقيام شؤون الحياة،وبسببها قامت حضارات،وتحقق كثير من التقدم.ولكن الطواغيت الذين يريدون قهر الجماهير واستغلالهم وتسخيرهم لخدمتهم وتصريفهم كما يشاؤون انتبهوا إلى هذه الحقيقة فجعلوا التهديد بالموت السلاح التقليدي الذي يشهرونه على الشعوب والأفراد في سبيل إذلالهم.
أما الإسلام في هذا الموضوع فقد قرر أن الله عز وجل هو الذي يُحيى ويميت فقال:{وهوَ الّذي ذَرَأَكُمْ في الأرضِ وإليهِ تُحشرونَ*وهوَ الّذي يُحيى ويُميتُ ولهُ اختلافُ الّليلِ والنّهارِ أفلا تعقلونَ}[المؤمنون 79 ـ 80].
وقرر أن الأجل محتوم لا يمكن أن يتقدم لحظة ولا أن يتأخر،وأن هذا في الأمم كما هو في الأفراد.قال تعالى:{اللهُ يَتوفَّى الأنفُسَ حينَ مَوتِها والّتي لم تَمُتْ في منامها فَيُمسِكُ الّتي قضى عليها الموتَ ويُرسِلُ الأخرى إلى أجلٍ مُسَمّىً}[الزمر 42].وقال:{وأنفِقوا من مارَزقناكُم من قبلِ أن يأتيَ أحدَكُمُ الموتُ فيقولَ ربِّ لولا أخّرّتني إلى أجلٍ قريبٍ فاصَّدَّقَ وأكنْ منَ الصّالحينَ*ولنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نفساً إذا جاءَ اجَلُها واللهُ خبير بما تعملونَ}[المنافقون 10 ـ 11].وقال:{ولِكُلِّ أُمَّةٍ أجلٌ فإذا جاءَ أجلُهُم لا يستأخرونَ ساعةً ولا يستقدمونَ}[الأعراف 34].
ويقول الأستاذ العلامة الشيخ محمد الغزالي رحمه الله(جدد حياتك ص33):
“والحق الذي كان يجب على المنتسبين للأديان كافة أن يفقهوه وأن يقفوا عنده هو أنّ الموت مرحلة تتلوها حياة أضخم من حياتنا هذه،وأعمق إحساساً،وأرحب آفاقاً.
حياة تعدُّ حياتنا هذه لهواً وعبثاً إلى جانبها،ولذلك يعبّرُ القرآن عنها بلفظ أكبر في مبناه ليكون أوسع في معناه فيقول:{وما هذه الحياةُ الدنيا إلا لَهوٌ ولَعبٌ وإنَّ الدارَ الآخرة لَهيَ الحيوانُ لو كانوا يعلمون}[العنكبوت 64].
إن الشعور بأن الموت بداية فناء مطلق وهمٌ يشيع للأسف بين الكثيرين،وهو الذي يخامر المنتحرين عندما يقررون مغادرة الحياة.
إنهم معذّبون بالإحساس الساري في أعصابهم بحملهم الغمّ والكرب ،فما الذي يريحهم من هذا الإحساس؟الموتُ الذي يتوهمونه ضياعاً وانقطاعاً وفراغاً من كل شعور!!
فكيف إذا علموا بالحقيقة المرّة،ووجدوا أنفسهم التي يريدون إزهاقها ما تزال باقية لم يتغير منها إلا الإهاب الذي احتواها حيناً،ثم عريت عنه دون أن ينقص وعيها أو يقلَّ حسُّها؟!
إنّ ما بعد الموت طورٌ آخر من أطوار الوجود الإنساني يتسّم بزيادة الوعي وحدّة الشعور.
ويتابع رحمه الله:”الواقع أن الجزع والجبن والتحسر وشتى العواطف التي تنتاب الناس بإزاء الموت تعود إلى فهمه على أنه انتقال من وجود إلى عدم،ومن ضياء إلى ظلام،ومن إيناس إلى وحشة.
فهل يدري هؤلاء أن هذه الحياة الدنيا بما فيها ومن فيها ستكون ذكريات حافلة مثيرة،وأن يوماً لابدّ منه سوف يقدم ليتلاقى فيه الصالحون،فيقول بعضهم لبعض:{إنّا كنّا قبلُ في أهلنا مُشفقين*فَمنَّ اللهُ علينا ووقانا عذابَ السَّموم*إنّا كُنّا من قبلُ ندعوهُ إنّهُ هو البرُّ الرحيم}[الطور 26 ـ 28]”.
ويقول الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله(مشاهد يوم القيامه ص89):
“والحديث عن الموت،أو انتهاء الحياة حديث يمكن أن يلخص في سطور قليلة…فالموت كما قلنا من خلق الله مصدقاً لقوله تعالى:{الذي خلقَ الموتَ والحياةً ليبلوكم أحسنُ عملاً}[تبارك 2].
ولعلنا نلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى قد قدم في هذه الآية الموت على الحياة…فقال سبحانه:{خلقَ الموت والحياة}
ولنا أن نتساءل :لماذا قدم الله سبحانه وتعالى الموت على الحياة؟فنجد أنه لسببين:
السبب الأول أنه يسبق الحياة…فالله سبحانه وتعالى يقول:{كيفَ تكفرون بالله وكُنتمْ أمواتاً فأحياكُم ثمَّ يُميتُكم ثمَّ يُحييكم ثمَّ إليه تُرجعون}[البقرة 28].
أي أن الموت يكون قبل الحياة.. ومن هنا فهو سابق للحياة..
والثاني أن الله سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى الموت حتى إذا تذكرناه سارعنا إلى الخير والإيمان والعمل الصالح..ولكنه ليس في حاجة لأن يلفتنا إلى الحياة…فدوافع الحياة متمكنة متأصلة في النفس البشرية..
إذن فنحن محتاجون دائماً لأن يلفتنا الله سبحانه وتعالى إلى الحقيقة…فيأتي ذكر الموت أولاً ليلفتنا الله سبحانه وتعالى إليه حتى لا نحسب أننا أخذنا الحياة اغتصاباً واقتداراً،ولن نخرج منها.
والموت هو انتهاء الإرادة البشرية…فما دمت حياً فإنك تستطيع أن تفعل كذا ولا تفعل كذا…ويكون لك اختيار وبدائل..ولكن متى جاء الموت انتهى هذا الإختيار تماماً،ولم يعد لك اختيار فيما سيفعل بك ،أو سيقع عليك من أحداث …من لحظة الموت إلى يوم القيامة،فالإرادة البشرية انتهت مهمتها في اختبارات الدنيا…وما دامت قد انتهت مهمتها فهي الأخرى لم يعد لها وجود.
وهكذا تنتهي إرادتك البشرية…وتنتقل إلى حياة البرزخ التي لا تملك فيها إرادة…ثم يوم القيامة الذي لا تملك فيه أيضاً إرادة…على أننا لابد أن نلتفت إلى قول الحق سبحانه وتعالى:{كلُّ نفسٍ ذائقةٌ الموتِ ثمَّ إلينا تُرجعون}[العنكبوت 57].
هل للموت مذاق وطعم يتذوقهُ الإنسان؟هل له طعم مثل الطعام مثلاً؟
نقول إن الله سبحانه وتعالى يستخدم لفظ الذوق لأنه الإحساس الصارخ في الأشياء الذي يحس بها كيانك كله…فأنت مثلاً ترى بعينيك ،وتسمع بأذنيك ،وتلمس بيديك،وتشم بأنفك…ولكن الذوق باللسان هو الشىء الذي يعود بالنفع على هيكل الجسم كله..فيعطيك إحساساً باللذة وجمال الطعم..ويعطي جسدك الطاقة التي يعيش بها..ويعطي الدم الغذاء الذي يحتاج إليه..ويعطي المعدة ما تمتصه للجسم ويعطيك القدرة على الحركة.
وهكذا نرى أن أثر الذوق يصل إلى الجسد كله..وفي ذلك يقول الحقّ سبحانه وتعالى:{وذوقوا عذابَ الحريق}[الأنفال 50].
أي أن الكفار حين يعذبون في النار يصل الحريق إلى كل خلية من أجسادهم ،كما يصل الطعام إلى كل خلية من خلايا الجسد في الحياة…”.
ويقول الشيخ الشعراوي رحمه الله في قوله تعالى:{كل نفس ذائقة الموت}(تفسير الشعراوي):
“فالموت معناه أعمّ وهو:انتهاء الحياة سواء أكان بنقض البنية مثل القتل،أم بغير نقض البنية مثل خروج الروح وزهوقها حتف الأنف.ولذلك فالعلماء الذين يدققون في الألفاظ يقولون:هذا المقتول لو لم يُقتل،أكان يموت؟نقول :نعم،لأن المقتول ميت بأجله،لكن الذي قتله هل كان يعرف ميعاد الأجل؟لا.إذن فهو يُعاقب على ارتكابه جريمة إزهاق الروح،أما المقتول فقد كتب الله عليه أن يفارق الحياة بهذا العمل.
إذن فكل نفس ذائقة الموت إما حتف الأنف وإمّا بالقتل.ولأن الغالب في المقتولين أنهم شهداء،والشهداء أحياء،لكن الكل سيموت،يقول تعالى:{ونفخَ في الصور فَصُعقَ من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله}[الزمر 68].
ويقول الشهيد سيد قطب في الظلال:
“إنه لا بد من استقرار هذه الحقيقة في النفس:حقيقة أن الحياة في هذه الأرض موقوتة،محدودة بأجل،ثم تأتي نهايتها حتماً…يموت الصالحون،يموت الطالحون،يموت المجاهدون،ويموت القاعدون،يموت المستعلون بالعقيدة ويموت المستذلون للعبيد.يموت الشجعان الذين يأبون الضيم،ويموت الجبناء الحريصون على الحياة بأي ثمن…يموت ذوو الإهتمامات الكبيرة والأهداف العالية،ويموت التافهون الذين يعيشون فقط للمتاع الرخيص.
الكل يموت(كل نفس ذائقة الموت)[آل عمران 185]..كل نفس تذوق هذه الجرعة،وتفارق هذه الحياة…لا فارق بين نفس ونفس في تذوقّ هذه الجرعة من هذه الكأس الدائرة على الجميع…إنما الفارق في شىء آخر.
الفارق في قيمة أخرى.الفارق في المصير الأخير:
{وإنّما تُوفّونَ أجورَكُم يومَ القيامةِ فَمنْ زُحزِحَ عن النَّارِ وأُدخِلَ الجنَّةَ فقد فاز وما الحياةُ الدُّنيا إلا متاعُ الغُرورِ}[آل عمران 185]
هذه هي القيمة التي يكون فيها الإفتراق،وهذا هو المصير الذي يفترق فيه فلان عن فلان.القيمة الباقية التي تستحق السعي والكد.والمصير المخوف الذي يستحق أن يحسب له ألف حساب.
(فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز)..
ولفظ(زحزح) بذاته يصور معناه بجرسه،ويرسم هيئته،ويلقي ظله!وكأنّما للنار جاذبية تشد إليها من يقترب منها،ويدخل في مجالها!فهو في حاجة إلى من يزحزحه قليلاً قليلاً ليخلصه من جاذبيتها المنهومة!فمن أمكن أن يزحزح عن مجالها،ويستنقذ من جاذبيتها،ويدخل الجنة…فقد فاز.
صورة قوية.بل مشهد حيّ،فيه حركة وشدّ وجذب!وهو كذلك في حقيقته وفي طبيعته.فللنار جاذبية!أليست للمعصية جاذبية؟أليست النفس في حاجة إلى من يزحزحها زحزحة عن جاذبية المعصية؟بلى!وهذه هي زحزحتها عن النار!أليس الإنسان ـ حتى مع المحاولة واليقظة الدائمة ـ يظل أبداً مقصراً في العمل…إلا أن يدركه فضل الله؟بلى!وهذه هي الزحزحة عن النار،حين يدرك الإنسان فضل الله،فيزحزحه عن النار!”.
ويقول الشيخ الشعراوي رحمه الله في قوله تعالى:{إنّكَ ميّتٌ وإنَّهم ميّتون}[الزمر 30]،يقول رحمه الله:
“كان كفار مكة إذا أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سوء أو وعكة صحية،أو نزلت به شدّة كما حدث في أُحد يفرحون لذلك،فما بالك لو مات رسول الله؟لذلك يقرر القرآن لرسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة{إنّكَ ميتٌ وإنّهم ميتون} فعلام يفرحون وهذه نهاية الجميع،كما قال عز وجل في موضع آخر:{وما جعلنا لبشرٍ من قبلكَ الخلدَ أفإن متَّ فهم الخالدون}[الأنبياء 34].
لكن المسألة لن تنتهي عند هذا الحدّ،إنما بعد الموت حياة أخرى،فيها حساب وجزاء ووقوف بين يدي الله تعالى،وساعتها سيكون النبي صلى الله عليه وسلم في أعلى مقام،أما أنتم فسيكون موقفكم موقف المخالفين لله،فماذا تقولون؟هذا معنى قوله سبحانه:{ثمَّ إنكم يومَ القيامةِ عندَ ربّكم تختصمونَ}[الزمر 31].
ومعنى( إنك ميّت)هكذا بالتشديد.أي ذاهب منتهٍ إلى الموت ففرق بين ميّت بتشديد الياء وميت بسكونها،ميّت يعني من سيموت ويؤول إلى الموت،ولو كان حياً،لأن الله خاطب رسوله صلى الله عليه وسلم وهو ما يزال حيّاً.أما ميت(بدون التشديد) فمن مات بالفعل.
ومن ذلك قول الشاعر:
وكلُّ أنامِ الله في الناسِ ميّتٌ وما الميتُ إلا من إلى القبرِ يُحملُ
وقوله تعالى:{إنك ميّتٌ وإنهم ميّتون} فيه تطمينٌ وتأسية لرسول الله صلى الله عليه وسلم،كما خاطبه سبحانه بقوله:{فإمّا نُرينَّكَ الذي نعدُهُمْ أو نتوفينَّكَ فإلينا يُرجعونَ}[غافر 77]،وهنا قال:{ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون}[الزمر 31].
يعني:إما أن ترى انتقام الله منهم في الدنيا وإلا ففي الآخرة،إذن:من مصلحتك أن تنتقل إلى الرفيق الأعلى لنختصر المسافة،وترى بعينك مصارع الكافرين المعاندين،فلا تضعف ولا تذل،لأن لك مآلاً عند الله تأخذ فيه جزاءك،ويأخذون جزاءهم”.
ويقول سيد قطب رحمه الله في الظلال:”(إنك ميت وإنهم ميتون):
“إنه الموت نهاية كل حي،ولا ينفرد بالبقاء إلا الله وفي الموت يستوي كل البشر بما فيهم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.ثم يلي ذلك تقرير ما بعد الموت.فالموت ليس نهاية المطاف.إنما هو حلقة لها ما بعدها من حلقات النشأة المقدرة المدبرة،التي ليس شىء منها عبثاً ولا سدى.فيوم القيامة يختصم العباد فيما كان بينهم من خلاف.ويجىء رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام ربه ويوقف القوم للخصومة فيما كانوا يقولونه ويأتونه،ويواجهون به ما أنزل الله إليهم من الهدى”.
ويقول الشيخ عاطف عبد المعز الفيومي (مقال:ذكر الموت ومنازل الآخرة ـ شبكة الألوكة):
“ومن أعلام الهداية على الطريق للسائرين والمشتاقين إلى الجنة ونعيمها وأحوالهم،ذكرهم الدائم للموت ،مع قصر الأمل،وتذكر منازل الآخرة،من أعظم السبل الموصلة إلى الجنة ونعيمها،ودلالة على الإيمان بها،والاستعداد لها،كما أنه من أعظم الأسباب الموصلة لزيادة الإيان في القلب،واستقامة الجوارح على الطاعات،وكفّ النفس وزجرها عن المعاصي والمحرمات،واستحضار مراقبة الله تعالى حقَّ المراقبة.
فالموت هو:حق مقدّر من الله على خلقه،ومفارقة للحياة بخروج الروح من الجسد،وانفصال مؤقت عنه،يكون معه شدائد وسكرات للمحتضر،ويُبشر عندئذ ببشرى الصالحين والأولياء إن كان مؤمناً،أو بسوء عذاب إن كان فاجراً فاسقاً،ثم تعود له الروح في عالم القبر والبرزخ،فيُقعد في قبره،ويُسأل من الملكين،عن الرب والدين والرسول.
ولهذا فالحياة الدنيا كقنطرة للآخرة،والسائر العاقل فيها يعدُّ نفسه فيها من الغرباء الراحلين عنها،ولهذا يُكثر من ذكره للموت والفراق،ليكون على حال المسافر الراحل،فلا يتعلق منها بشىء،بل يُعلّق قلبه بالدار الباقية في الآخرة،فهو غريب على حال الاستعداد والرحيل،ويؤكد هذا ما جاء في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال:”كن في الدنيا كأنكَ غريبٌ أو عابرُ سبيل”،وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول:”إذا أمسيتَ،فلا تنتظر الصباح،وإذا أصبحتَ،فلا تنتظر المساء،وخذ من صحتك لمرضك،ومن حياتك لموتك“[رواه البخاري].
وجاء أيضاً عن أنس رضي الله عنه قال:خطّ النبي صلى الله عليه وسلم خطوطاً،فقال:”هذا الإنسان،وهذا أجله،فبينما هو كذلك إذ جاء الخط الاقرب“[رواه البخاري].
وقد حوت سورة”ق” من حقائق الموت وحقائق الآخرة الكثير من المشاهد التي تورث القلب خوفاً ووجلاً وقرباً وطمعاً في عفوه وكرمه تعالى،وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُكثر منها على المنبر في يوم الجمعة،ولنا فيه الأسوة الحسنة.
قال ابن القيم رحمه الله:”وقد جمعت هذه السورة من أصول الإيمان ما يكفي ويشفي،ويُغني عن كلام أهل الكلام،ومعقول أهل المعقول،فإنهاتضمنت تقرير المبدأ والمعاد والتوحيد والنبوّة والإيمان بالملائكة،وانقسام الناس إلى هالك شقي،وفائز سعيد،وأوصاف هؤلاء وهؤلاء،وتضمنت إثبات صفات الكمال لله،وتنزيهه عما يُضاد كماله من النقائص والعيوب،وذكر فيها القيامتين الصغرى والكبرى،والعالمين:الأكبر وهو عالم الآخرة،والأصغر وهو عالم الدنيا.وذكر فيها خلق الإنسان ووفاته وإعادته،وحاله عند وفاته ويوم معاده،وإحاطته سبحانه به من كل وجه،حتى علمه بوساوس نفسه،وإقامة الحفظة عليه،يُحصون عليه كل لفظة يتكلم بها،وأنه يوافيه يوم القيامة،ومعه سائق يسوقه إليه،وشاهد يشهد عليه،فإذا أحضره السائق قال:{هذا مالديَّ عتيدٌ}[ق 23]،أي :هذا الذي أمرت بإحضاره قد أحضرته،فيقال عند إحضاره:{ألقيا في جهنم كلَّ كفارٍ عنيدٍ}[ق 24]،كما يحضر الجاني إلى حضرة السلطان،فيقال:هذا فلان قد أحضرته،فيقول:اذهبوا به إلى السجن،وعاقبوه بما يستحقه”.
كراهية الموت وحبّ الحياة:
قال تعالى:{قُلْ إنَّ الموتَ الذي تفِرُّونَ منهُ فإنَّهُ مُلاقيكمْ ثمَّ تُرَدُّونَ إلى عالمِ الغَيبِ والشّهادةِ فينبّئكُمْ بما كنتًم تعملون}[الجمعة 8].
يقول الشيخ محمد صالح المنجد(الموقع):”يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:”يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنان:حب المال،وطول العمر”[رواه الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
ففطر الله نفوس العباد على حب الحياة،والرغبة في طول العمر،وكراهية الموت.
وفي رواية لمسلم:”يهرم ابن آدم ويشب معه اثنتان:الحرص على المال،والحرص على العمر”.
فمع أنه يكبر في السن،ويطعن فيه،ويصبح شيخاً،لكن الامل في طول الحياة،يبقى حيّاً شاباً في نفسه،مع أن آماله وحرصه على الدنيا من المتوقع أن تكون قد صغرت وقلت.ونظراً لأن الموت يقطع عن الحياة،والناس يريدون الحياة، فلا عجب أن يكره الناس الموت.وهذه القضية حب الحياة،وطول العمر،يشترك فيها المسلم والكافر،والبر والفاجر،والطائع والعاصي.
ويتابع:”فهل كراهية الموت مذمومة أو ممدوحة؟هل هي بحد ذاتها تنقص من قدر المؤمن؟هل هي كراهية الموت تخالف أمر الدين أو تنزل من رتبة المسلم؟
يقول النبي صلى الله عليه وسلم:”من أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه،ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه”قالت عائشة أو بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم:”إنا لنكره الموت؟الحقيقة والصراحة أننا نكره الموت.قال:”ليس ذاك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته“[رواه الشيخان].
إذاً،الكلام السابق “من أحب لقاء الله…..”ليس أثناء الحياة،لكن إذا حضرت الملائكة،إذا نزل الموت بالعبد،قال:”إذا حضره بالموت بشر برضوان الله وكرامته فليس شىء أحب إليه مما أمامه،فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه،وإن الكافر إذا حضر” يعني نزل به الموت الذي لا يرتفع “بشر بعذاب الله وعقوبته فليس شىء أكره إليه مما أمامه،كره لقاء الله وكره الله لقاءه“[رواه الشيخان].
وقال الإمام النووي رحمه الله:”معنى الحديث:إن المحبة والكراهة التي تعتبر شرعاً،هي التي تقع عند النزع في الحالة التي لا تقبل فيها التوبة،فحينئذ يبشر كل إنسان بما هو صائر إليه،وما أعد له،ويكشف له عن ذلك،عند نزول الموت يكشف له،هل هو من أهل الجنة أو من أهل النار،فأهل السعادة عند نزول الموت يحبون ما بعده،لأنهم الآن يرون ما هم صائرون إليه،ويرون ملائكة الرحمة،فيحبون ما لابعد الموت،لأنهم يريدون الانتقال إلى النعيم،وقد بدأت أوائله تأنيهم،وبشائره تتلى عليهم:{إنَّ الذينَ قالوا ربُّنا الله ثمَّ استقاموا تتنزّلُ عليهمُ الملائكةُ ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنّةِ التي كنتم تُوعدونَ}[فصلت 30]،ويكشف له عن ذلك،فيحبون لقاء الله،وأهل الشقاوة يكرهون لقاءه،لما علموا،يعني عند نزول الموت،عند سحب الروح،عند حضور الملائكة،لما علموا من سوء ما ينتقلون إليه،ويكره الله لقاءهم”.
يقول الشيخ محمد صالح المنجد(موقع الشيخ ـ مقال بعنوان:ذكر الموت):
“حديثنا عن أمر يكرهه الكثيرون،ولا يحب كثير من الناس سماعه،بل ويشردون عن مجالسه شرود البعير الضال عن أهله،ونظراً لأن كثيراً من الناس ينفرون من سماعه،ويفرون من الحديث حوله فإن الله عز وجل قال لهم:{قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه مُلاقيكم}.
الناس أيها الأخوة يفرون من ذكر الموت،ويفرون من الموت،ويحسب الإنسان أنه إذا خنس من الموت بوسيلة،أنه قد فر منه،وأنه لن يقع فيه،وإذا هو يفر من سماع مواعظ الموت،لأنها تقطع عليه لذات الدنيا،وتجعله يعيش في مخاوف عظيمة،لذلك ترى أكثر الناس لا يحبون سماع مثل هذه المواعظ،ولكن الله عز وجل قرر في قرآنه العظيم،وكتابه العزيز،حتى لا يظن ظان أنه بعيد عن هذا الموضوع فقال جلا وعلا:{ كلُّ نفسٍ ذائقةُ الموت}فالحياة متاع الغرور،وكل شىء إلى الله صائر،ولا يبقى إلا وجه الله العظيم.
إننا نحتاج حاجة عظيمة إلى التمعن والتفكر في هذه المٍآلة،لأنها أساس التقوى ولبّ العمل الصالح،وهي دافع مهم من الدوافع على القدوم على الله عز وجل بأعمال صالحة،إذا فكر الإنسان في الميت:يفكر كيف قد سالت العيون،وتفرقت الخدود،مساكين أهل القبور،عن يمينهم التراب،وعن يسارهم التراب،ومن أمامهم التراب،ومن خلفهم التراب،كانوا أهل الدور والقصور فصاروا أهل التراب والقبور،كانوا أهل النعمة فصاروا أهل الوحشة والمحنة،قد سالت العيون،وصدأة الجفون،وتقطعت الأوصال،وبطلت الآمال،وصار الضحك بكاء،والصحة داء،والبقاء فناء،والشهوة حشرات،والتبعات زفرات،فما بيدهم إلا البكاء والحسرات،نفدت الأعمار وبقيت الأوزار”.
هل الموت نعمة؟
يقول تعالى:{واللهُ خلقكُمْ ثمَّ يتوفَّاكُمْ ومنكم من يُردُّ إلى أرذلِ العمرِ لكي لا يعلمَ بعدَ علمٍ شيئاً}[النحل 70].
يقول الشيخ القرضاوي حفظه الله:”إن الله سبحانه جاء بهذه الآية في معرض النِعم،فهل يكون الموت نعمة؟
نعم الموت نعمة،فلو أن الناس يولدون ولا يموتون،كيف ستكون النتيجة،فالكرة الأرضية الآن رغم(الموت)فيها 6 مليارات من البشر،ومن سنتين تقريباُ بدأ المليار السابع،ويشكو الناس الآن من قلة الموارد،ومن شح الموارد،ويريدون تحديد النسل…الخ،ولو لم يكن كتب الله الموت على الناس،كان لا بد أن يجتمع الناس،ويجتمع كل قرية ويبحثوا في مشكلة العدد الزائد من الناس،وربما وجد البعض الحلّ أن نقطع رقاب كبار السن،حتى يتيحوا فرصة للجيل القادم،فلا يمكن إلا هذا،فسيقول الشباب:لماذا يحتل هؤلاء هذه الأماكن،ويحجزون عنا الترقي،لماذا لا يدع هؤلاء أماكنهم للجيل الصاعد الواعد،حتى يأخذ حقه،ويحتل مساحته…
فسيتصرف الناس عندئذ ليقضي بعضهم على بعض،وربما تحصل مشكلات بين الناس واختلافات،فتقول قبيلة:نترك شيوخنا حتى المائة،وآخرون يقولون:بل للثمانين،وآخرون :للسبعين…قطعاً سيختلف الناس.فكان هذا الحل من الله تبارك وتعالى،بان الموت يقضي على الناس أولاً بأول.هذه هي سنة الله في الحياة.ولذلك كان الموت نعمة،فربما يستغرب بعض الناس أن توجد في سورة النعم،أن يمتن الله على الناس أنه يتوفاهم،بل هي نعمة من الله تبارك وتعالى”.
أفراح الروح:
يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله في مقال له بعنوان”أفراح الروح” وهي رسالة سطرها سيد قطب إلى شقيقته أمينة ونشرت عام 1959م يقول فيها:
“أختي الحبيبة…هذه الخواطر مهداة إليك….
إن فكرة الموت ما تزال تخيل لك،فتتصورينه في كل مكان،ووراء كل شىء وتحسبينه قوة طاغية تُظل الحياة والأحياء،وترين الحياة بجانبه ضئيلة واجفة مذعورة.
إنني أنظر اللحظة فلا أراه إلا قوة ضئيلة حسيرة بجانب قوى الحياة الزاخرة الطافرة الغامرة،وما يكاد يصنع شيئاً إلا أن يلتقط الفتات الساقط من مائدة الحياة ليقتات!
مد الحياة الزاخر هو ذا يعج من حولي!…كل شىء إلى نماء وتدفق وازدهار…الأمهات تحمل وتضع،والناس والحيوان سواء.الأرض تتفجر بالنبت المتفتح عن أزهار وثمار…السماء تتدفق بالمطر،والبحار تعج بالأمواج…كل شىء ينمو على هذه الأرض ويزداد!
بين الحين والحين يندفع الموت فينهش نهشة ويمضي،أو يقبع حتى يلتقط بعض الفتات الساقط من مائدة الحياة ليقتات! والحياة ماضية في طريقها،حية متدفقة فوارة،لا تكاد تحس بالموت أو تراه!
الجرح سرعان ما يندمل،وصرخة الألم سرعان ما تستحيل مراحا..
الشمس تطلع،والشمس تغرب،والأرض من حولها تدور،والحياة تنبثق من هنا ومن هنا…كل شىء إلى نماء…نماء في العدد والنوع،نماء في الكم والكيف…لو كان الموت يصنع شيئاً لوقف مد الحياة! ولكنه قوة ضئيلة حسيرة،بجانب قوة الحياة الزاخرة الطافرة العامرة…من قوة الله الحي…تنبثق الحياة وتنداح!!
عندما نعيش لذواتنا فحسب،تبدو لنا الحياة قصيرة ضئيلة،تبدأ من حيث بدأنا نعي،وتنتهي بانتهاء عمرنا المحدود.
أما عندما نعيش لغيرنا،أي عندما نعيش لفكرة،فإن الحياة تبدو طويلة عميقة،تبدأ من حيث بدأت الإنسانية وتمتد بعد مفارقتنا لوجه هذه الأرض.
إننا نربح أضعاف عمرنا الفردي في هذه الحالة،نربحها حقيقة لا وهماً،فتصور الحياة على هذا النحو،يضاعف شعورنا بأيامنا وساعاتنا ولحظاتنا.وليس الحياة بعدة السنين،ولكنها بعداد المشاعر.
إننا نعيش لأنفسنا حياة مضاعفة،حينما نعيش للآخرين،وبقدر ما نضاعف إحساسنا بالآخرين،نضاعف إحساسنا بحياتنا،ونضاعف هذه الحياة ذاتها في النهاية.
لم أعد أفزع من الموت حتى لو جاء اللحظة! لقد عملت بقدر ما كنت مستطيعاً أن أعمل هناك أشياء كثيرة أود أن أعملها لو مد لي في الحياة،ولكن الحسرة لن تأكل قلبي إذا لم أستطع،إن آخرين سوف يقومون بها،إنها لن تموت إذا كانت صالحة للبقاء فأنا مطمئن إلى أن العناية التي تلحظ هذا الوجود لن تدع فكرة صالحة تموت…
لم أعد أفزع من الموت حتى لو جاء اللحظة! لقد حاولت أن أكون خيّراً بقدر ما أستطيع،أما أخطائي وغلطاتي فأنا نادم عليها.إني آكِلُ أمرها إلى الله وأرجو رحمته وعفوه أما عقابه فلست قلقاً من أجله،فأنا مطمئن إلى أنه عقاب حق وجزاء عدل،وقد تعودت أن أحتمل تبعة أعمالي خيراً كانت أو شراً…فليس يسوءني أن ألقى جزاء ما أخطأت حين يقوم الحساب.
الوفاة الصغرى والوفاة الكبرى:
قال تعالى:{الله يتوفَّى الأنفُسَ حين موتها والتي لم تَمتْ في منامها فَيُمسكُ التي قضى عليها الموتَ ويرسلُ الأخرى إلى أجلٍ مُسمىً إنَّ في ذلكَ لآياتٍ لقومٍ يتفكرون}[الزمر42].
يقول ابن القيم رحمه الله معلقاً:”وهو أحد القولين في الآية،وهو أن الممسكة من توفيت وفاة الموت أولاً والمرسلة من توفيت وفاة النوم،والمعنى على هذا القول:أنه يتوفى نفس الميت فيمسكها ولا يرسلها إلى جسدها مثل يوم القيامة ويتوفى نفس النائم ثم يرسلها إلى جسدها إلى بقية أجلها فيتوفاها الوفاة الأخرى.
والقول الثاني في الآية:إن الممسكة والمرسلة في الآية كلتاهما توفيت وفاة النوم،فمن استكملت أجلها أمسكها عنده فلا يردها إلى جسدها،ومن لم تستكمل أجلها ردها إلى أجلها لتستكمله.واختار شيخ الإسلام هذا القول،وقال:عليه يدل القرآن والسنة،قال:فإنه سبحانه ذكر إمساك التي قضى عليه الموت من هذه الأنفس التي توفاها النوم،وأما التي توفاها حين موتها فتلك لم يصفها بإمساك ولا بإرسال،بل هي قسم ثالث”.ثم قال ابن القيم:”والذي يسترجح هو القول الأول،لأنه سبحانه أخبر بوفاتين:وفاة كبرى،وهي وفاة الموت،ووفاة صغرى وهي وفاة النوم،وقسم الأرواح قسمين:قسماً قضى عليها بالموت فأمسكها عنده وهي التي توفاها وفاة الموت،وقسماً لها بقية أجل فردها إلى جسدها إلى استكمال أجلها،وجعل سبحانه الإمساك والإرسال حكمين للوفاتين المذكورتين أولاً فهذه ممسكة وهذه مرسلة،وأخبرأن التي لم تمت هي التي توفاها في منامها،فلو كان قد قسم وفاة النوم إلى قسمين:وفاة موت ووفاة نوم لم يقل:{والتي لم تمت في منامها}فغنها حين قبضت ماتت،وهو سبحانه قد أخبر أنها لم تمت فكيف يقول بعد ذلك:{يتوفى الأنفس حين موتها}بعد أن توفاها وفاة النوم،فهو سبحانه توفاها أولاً وفاة نوم ثم قضى عليها الموت بعد ذلك؟والتحقيق أن الآية تتناول النوعين:فإنه سبحانه ذكر وفاتين،وفاة نوم،ووفاة موت،وذكر إمساك المتوفاة وإرسال الأخرى،ومعلوم أنه سبحانه يمسك كل نفس ميت سواء أمات في النوم أم في اليقظة،ويرسل نفس من لم يمت فقوله:{يتوفى الأنفس حين موتها}،يتناول من مات في اليقظة ومن مات في المنام:.
وجاء في الحديث الشريف :”قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:إذا أوى أحدكم إلى فراشه فليأخذ داخلة إزاره فلينفض بها فراشه،وليسم الله،فإنه لا يعلم ما خلفه بعد على فراشه،فإذا أراد أن يضطجع،فليضطجع على شقه الأيمن،وليقل سبحانك ربي،باسمك وضعت جنبي وبك أرفعه،إن أمسكت نفسي فاغفر لها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين”[رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وروى البخاري عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أخذ مضجعه من الليل وضع يده تحت خده الأيمن،ثم يقول:”اللهم باسمك أموت وباسمك أحيا”وكان إذا استيقظ يقول:”الحمد لله الذي أحيانا بعد أن أماتنا وإليه النشور.الحمد لله الذي رد إلى روحي،وعافاني في جسدي وأذن لي بذكره”.
ومن هذا الحديث الشريف يتبين أن الروح تترك الجسد أثناء النوم،فيمسك الله تعالى الروح التي قضى عليها الوفاة،ولا يردها إلى جسدها،أما التي لم يقدر عليها الوفاة،فيردها إلى بدنها فيستيقظ صاحبها.
وقوله صلى الله عليه وسلم:”الحمد لله الذي أحيانا بعد موتنا” فيه الدليل على أن النوم موت أصغر.
وأخرج الأئمة أحمد والبخاري وأصحاب السنن عن أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم ليلة الوادي ـ عندما ناموا واستيقظوا ـ :”إن الله قبض أرواحكم حين شاء،وردها حين شاء”.{إنَّ في ذلكَ لآياتٍ لقومٍ يتفكرون}.
أي إن إمساك الأرواح وإرسالها أثناء النوم والموت،آيات كثيرة وعظيمة،تدل على كمال قدرة الله عز وجل وحكمته وشمول رحمته لقوم يتفكرون.
يقول صاحب اللسان:الوفاة: الموت وهي نوعان:وفاة صغرى ويقصد بها النوم،ووفاة كبرى ويراد بها الموت.
يقول الشيخ الشعراوي رحمه الله:
“إنه سبحانه يسمي النوم وفاة،وسماه ـ أيضاً ـ موتاً.وهو أمر فيه إرسال وفيه قبض.ومعنى الموت في بعض مظاهره غياب حس الحياة،والذي ينام إنما يغيب عن حس الحياة،إذن فمن الممكن أن تكون الوفاة بمعنى النوم.
ونعرف أن الموت يقابله القتل أيضاً،فالحق يقول:{أفاإن ماتَ أو قُتلَ}[آل عمران 144].
فالموت هو خروج الروح مع بقاء الأبعاض سليمة،أما القتل فهو إحداث إتلاف في البنية فتذهب الروح.وقد قال الحقّ على لسان المسيح عليه السلام:{فلما توفيتني}أي أخذتني كاملاً غير منقوص.وهذه مسألة لا تنقض الرفع.إن عيسى عليه السلام يقول عن نفسه:إنه مجرد شهيد على قومه في زمن وجوده بينهم،ولكن بعد أن رفعه الله إليه فالرقابة على القوم تكون لله،فالحق سبحانه شهيد دائماً ورقيب دائماً،ولكن عيسى ببشريته يقدر أن يشهد فقط،والله القادر وحده على أن يشهد ويغير ويمنع”.
وذكر ابن عاشور في تفسيره أن حالة النوم حالة انقطاع أهم فوائد الحياة عن الجسد وهو الإدراك،سوى أن أعضاءه الرئيسية لم تفقد صلاحيتها للعودة إلى أعمالها حين الهبوب من النوم”.
ويقول الشيخ العلامة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله في قوله تعالى:{وجعلنا نومكم سُباتا}[النبا 9]:
“خلق الله الإنسان والحيوان بحيث يحتاج إلى النوم،وجعل هذا النوم سباتاً،أي قاطعاً للإنسان عن العمل المرتبط بحال اليقظة،فيأخذ جسمه حقه من الراحة،وعبّر ب(السبات) عن الموت،لما بينهما من التشابه التام في انقطاع الحياة،ولهذا قيل:النوم هو الموتة الصغرى،والموت هو النومة الكبرى.ومثل:النوم موت خفيف،والموت نوم ثقيل!وفي هذا جاء قوله تعالى:{وهو الذي يتوفاكم بالليل}[الأنعام 60]،وقوله:{الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها}[الزمر42]،ومن وصايا لقمان :يا بني كما تنام فتوقظ،كذلك تموت فتنشر!
أينما تكونوا يُدرككم الموت:
ويقول الشيخ الشعراوي رحمه الله في قوله تعالى:{أينما تكونوا يُدرككمُ الموتُ ولو كنتم في بروجٍ مُشيدّةٍ}[النساء 78]يقول رحمه الله:
“والحق هنا يتعرض لقضية الموت مع المكان.فالعقل البشري الذي يتوهم أن بإمكانه الاحتياط من الموت مكاناً عليه أن يعي جيداً أنه لا يستطيع ذلك،فوجود الشخص عند ظرف ما لا يدفع ولا يمنع عنه الموت،فالعندية سواء في معسكر الكفر أو في معسكر الإيمان لن تمنع حدوث الموت.
والعندية ـ كما نعلم ـ تعطي ظرف المكان.فلطافة تغلغل الموت تخترق أي مكان وزمان ما دام الحق قد قضى به،وأعداء الإنسان في عافيته وفي حياته كثيرون،لكن إن نظرنا إليها في العنف نجدها تتناسب مع اللطف.فكلما لطف عدو الإنسان ودقّ،كان عنيفاً،وكلما كان ضخماً كان أقل عنفا.فالذي له ضخامة قد يهول الإنسان ويفزعه،ولكن بإمكان الإنسان أن يدفعه.لكن متى يكون العدو صعباً؟يكون العدو صعباً كلما صغر ولطف ولا يدخل تحت الإدراك.فيتسلل إلى الإنسان.ولذلك فأخطر الميكروبات التي تتسلل إلى الإنسان،ولا يدري الإنسان كيف دخلت إلى جسده ولا كيف طرقت جلده،ولا يعرف إصابته بها إلا بعد أن تمر مدة التفريخ الخاصة بها وتظهر بجسده آلامها ومتاعبها.إنها تدخل جسم الإنسان دون أن يدري،ولا يعرف لذلك زماناً أو مكاناً.
ويلفتنا سبحانه إلى أن الشىء عندنا كلما لطف ازداد عنفاً،ولا تمنعه المداخل.فما بالكم بالموت وهو ألطف من كل هذا،ولا أحد يستطيع أن يحتاط منه أبداً.
وما مقابل الموت؟إنه الحياة حيث توجد الروح في الجسد.وما كُنه الروح؟لا يعرف أحد كنه الروح على الرغم من أنه يحملها في نفسه،ولا أحد يعرف أين تكون الروح أو ما شكلها،ولا أحد يعرف من رآها أو سمعها أو لمسها.
وعندما يقبضها الله فإن الحياة تنتهي.والحق هو الذي جعل للحيّ روحاً،وعندما ينفخها فيه تأتي الحياة.
إن الحقّ سبحانه يلفتنا وينبهنا إلى ذلك فيترك في بعض ماديتنا أشياء لا يستطيع العلماء بالطب ولا المجاهر أن يعرفوا كنهها وحقيقتها،فنحن لا نعرف مثلاً الفيروس المسبب لبعض الأمراض.
فإذا كان الله جعل للإنسان روحاً يهبه بها الحياة،فلماذا لا نتصور أن للموت حقيقة،فإذا ما تسلل للإنسان فإنه يسلب الروح منه،وبذلك نستطيع أن نفهم قول الحقّ سبحانه وتعالى في سورة الملك{تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شىءٍ قدير*الذي خلق الموت والحياةَ ليبلوكم أحسنُ عملاً}[الملك 1 ـ 2].
يقول الدكتور العلامة الشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله:
“ومن العجيب أن يقول القرآن:{الذي خلق الموت والحياة)،وهذا يدلنا على أن الموت،ليس فناء محضاً،ولا عدماً صرفاً،كما يتصور الماديون،لأن العدم لا يُخلق.
إن الموت رحلة،وانتقال من حياة إلى حياة،ومن دار إلى دار،كما قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه:”إنكم خلقتم للأبد،وإنما تنقلون من دار إلى دار،ونحن ننتقل من هذه الدار إلى تلك الدار بالموت”.وقال الشاعر:
وما الموت إلا رحلة غير أنها من المنزل الفاني إلى المنزل الباقي
(انتهى كلام الشيخ القرضاوي)
إذن فالموت ليس عملية سلبية كما يتوهم بعض الناس،بل عملية إيجابية،وهو مخلوق بسرّ دقيق للغاية يناسب دقة الصانع.ووصف الحقّ أمر الموت والحياة في سورة الملك وقدّم لنا الموت على الحياة،مع أننا في ظاهر الأمر نرى أن الحياة تأتي أولاً ثم يأتي الموت.لا،إن الموت يكون أولا،ومن بعده تكون الحياة.فالحياة تعطي للإنسان ذاتية ليستقبل بها الأسباب المخلوقة،فيحرث الأرض أو يتاجر في الاشياء أو يصنع ما يلائم حياته ويمتع به السمع والبصر،فيظن أن الحياة هي المخلوقة أولا.
ينبهنا ويوضح لنا الحق:لا تستقبل الحياة إلا إذا استقبلت قبلها ما يناقض الحياة،فيقول لنا عن نفسه(الذي خلق الموت والحياة)وهذا ما يسهل علينا فهم الحديث القدسي الشريف الذي يشرح لنا كيف يكون الحال بعد أن يوجد أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار ويأتي الحقّ سبحانه بالموت في صورة كبش ويذبحه.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبشٌ أملح،،فيوقف بين الجنة والنار،،فيقال:يا أهل الجنة:هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون، ويقولون نعم، هذا الموت.قال: ويقال:يا أهل النار، هل تعرفون هذا؟ قال فيشرئبون وينظرون، ويقولون نعم، هذا الموت، قال:فيؤمر به فيُذبح ، قال:ثم يقال:يا أهل الجنة،خلود فلا موت،ويا أهل النار،خلود فلا موت،قال:ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:{وأنذرهم يومَ الحسرةِ إذ قُضيَ الأمرُ وهم في غفلةٍ وهم لا يؤمنون}[مريم 39].[رواه مسلم].ويتابع الشيخ الشعراوي رحمه الله:
“وتجسيد الموت في صورة كبش معناه أن للموت كينونة.ويعلمنا الله أنه يقضي على الموت،فنحيا في خلود بلا موت.وينبه الناس الذي كفروا وظنوا أن الذين قتلوا في سبيل الله لو كانوا عندهم لما ماتوا.نقول لهم:العندية عندكم لا تمنع الموت.ولو كان من دنا أجله وحان حَينه يسكن في بروج مشيدة لأدركه الموت.
وسبحانه وتعالى يقول(أينما تكونوا يُدرككم الموت)أي أينما توجدوا يدرككم الموت.وكلمة”يدرككم”دليل على أن الإنسان عندما تدبّ فيه الروح ينطلق الموت مع الروح،إلى أن يدركهها في الزمن الذي قدره الله.وكلمة “يدرك” توضح لنا أن الموت يلاحق الروح حتى إذا أدركها سلبها وكما قال الأثر الصالح عن ملاحقة الموت للحياة:”حتى إذا أدركها جرت،فلا أحد منكم إلا هو مُدرك”،ولذلك يقول أهل المعرفة والإشراق:”الموت سهم أرسل إليك وإنما عمرك هو بقدر سفره إليك”.
وسبحانه وتعالى يوضح أنه أتى بالموت ليؤدي حاجتين:الحاجة الأولى:أن من يؤمن عليه أن يستحضر الموت لأن جزاءه لا يكون له منفذ إلا أن يموت ويلقى ربه،ويعلم أن الحاجب بينه وبين جزاء الخالق هو الموت،فساعة يسمع كلمة الموت فهو يستشرف للقاء الله،لأنه ذاهب إلى الجزاء.
والحاجة الثانية:أن غير المؤمن يخاف الموت ويخشاه ولا يستعد له ويخاف أن يلاقي ربه.إذن فكلمة الموت تعطي الرّغب والرّهب.فصاحب الإيمان ساعة يسمع كلمة الموت يقول لنفسه:إن متاعب الدنيا لن تدوم،أريد أن ألقى ربي.
ولذلك يجب أن يستحضر المؤمنون بالله تلك القضية.وحين يستحضرون هذه القضية يهون عليهم كل مصاب في عزيز،فالإنسان ما دام مؤمناً فهو يعرف أن العزيز الذي راح منه إما مؤمن وإمّا غير مؤمن ،فإن كان مؤمناً فليفرح له المؤمن الذي افتقده،لأن الله عجّل به ليرى خيره،فإن حزنت لفقد قريب مؤمن فأنت تحزن على نفسك.وإن كان الذي ذهب إلى ربه غير مؤمن،فالمؤمن يرتاح من شره.إذن الموت راحة،والذي عمل صالحاً يستشرف إليه،وهذا رغب،أما الكافر فهو خائف،وهذا رهب”.
ويقول الأستاذ منصور فهمي في مقال له بعنوان”مآتمنا”:
“ألا إن الموت لا يطلب إلينا إلا أمراً واحداً،هو أن نتعظ به،فإنه أفصح خطيب،ونحفظ الوفاء لمن يموت في الحزن الصادق،وما مظهر الحزن الصادق إلا غمامة جميلة تعلو الوجه،ودمعة حارة تروي الوجنات،وتأوه صامت ينتزع من أعماق الفؤاد”.
وجاء في كتاب الأمالي للقالي:”حدثنا أبو بكر الأنباري قال حدثنا الزنادي قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله:”ما الجزع مما لابدَّ منه،وما الطّمع فيما لا يُرجى،وما الحيلة فيما سيزول!وإنما الشىء من أصله،فقد مضت قبلنا أصولٌ نحنُ فروعها،فما بقاءُ فرعٍ بعد أصله.إنما الناس في الدنيا أغراضٌ تنتصل فيهم المنايا،وهم فيها نهبٌ للمصائب،مع كل جَرعة شَرَق،وفي كل أكلة غَصص،لا ينالون نعمة إلا بفراق أخرى،ولا يُعَمَّرُ مُعَمّر يوماً من عمره إلا بهدم آخر من أجله،وأنتم أعوان الحتوف على أنفسكم،فأينَ المهرب مما هو كائن!وإنما نتقلّب في قدرة الطالب،فما أصغر المصيبة اليوم مع عظيم الفائدة غداً،وأكبرَ خيبةَ الخائب فيه”.
وفي الحديث الشريف:”استحيوا من الله عز وجل حقَّ الحياء.فقيل: يا رسول الله فكيف نستحي من الله عز وجل حقّ الحياء؟قال:”من حفظ الرأس وما وعى،والبطن وما حوى،وترك زينة الحياة الدنيا،وذكر الموت والبلى،فقد استحيا من الله حق الحياء“[رواه الترمذي].
ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مصلاه،فرأى ناساً كأنهم يكتشرون ـ تظهر أسنانهم من الضحك ـ قال:”أما إنكم لو أكثرتم ذكر هادم اللذات ،فإنه لم يأت على القبر يوم إلا تكلم فيه فيقول:”أنا بيت الغربة ..وأنا بيت الوحدة،وأنا بيت التراب،وأنا بيت الدود،فإذا دفن العبد المؤمن قال له القبر:مرحباً وأهلاً أما إن كنت لأحب من يمشي على ظهري إليَّ،فإذا وليتك اليوم،وصرت إليّ،فسترى صنعي بك.قال:فيتسع له مدّ بصره،ويفتح له باب إلى الجنة.وإذا دفن العبد الفاجر أو الكافر،قال القبر:”لا مرحباً ولا أهلا،أما إن كنت لأبغض من مشى على ظهري إليّ،فإذا وليتك اليوم،وصرت إليّ،فسترى صنعي بك.قال: فيلتئم عليه حتى تلتقي عليه وتختلف أضلاعه،قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصابعه فأدخل بعضها في جوف بعض…إلى أن يقول:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :”إنما القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار”)”[رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه].
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل من الأنصار فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال:يا رسول الله،أيّ المؤمنين أفضل؟قال: أحسنهم خُلقاً.قال: فأيُّ المؤمنين أكيس؟ قال: أكثرهم للموت ذكراً،وأحسنهم لما بعده استعداداً،أولئك الأكياس“[رواه ابن ماجه].
وعن شدّاد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:”الكيّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت،والعاجز من أتبعَ نفسهُ هواها،وتمنّى على الله“[رواه الترمذي].
عدم تمني الموت:
جاء في الحديث النبوي الشريف:عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”لا يتمنينَّ أحدكم الموت لِضرّ نزل به،فإن كان لابد مُتمنياً فليقل:اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي،وتوفني ما كانت الوفاة خيراً لي“[متفق عليه].ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تمني الموت،لأنه يحرم المؤمن من خير الطاعة،وفرصة التوبة،واستدراك ما فات،والتقرب إلى الله تعالى.قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”لا يتمنى أحدكمُ الموت،ولا يدعُ به من قبلِ أن يأتيه،إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله،وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً“[رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه].وفي حديث آخر رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه:”لا يتمنى أحدكمُ الموت،إما محسناً فلعلّهُ يزداد،وإمّا مسيئاً فلعلّهُ أن يَستعتبُ”.
إن طول العمر للمؤمن الذي يعمل صالحاً هو خيرٌ له ،يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:”خير الناس من طال عمره وحسن عمله“[رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني].وقال صلى الله عليه وسلم:”طوبى لمن طال عمره وحسن عمله”[رواه الطبراني وأبو نعيم وصححه الألباني].
وهذا الأحاديث تدل على أن من أصابه ضر من مرض أو شدة أو فقر أو خوف أو مصيبة من مصائب الدهر ومن رزايا الزمان أن لا يقل”ليتني أموت”أو اللهم أسألك الموت إلى غير ذلك من العبارات لأنه لا يعلم أين الخير المقدر له هل هو في استمرار الحياة أو أن يتوفاه الله.وإنما يترك الأمر لله عز وجل فهو أرحم وأعرف وا‘لم بشؤون عباده.يقول الإمام النووي رحمه الله:”في الأحاديث التصريح بكراهة تمني الموت لضرٍّ نزل به من فاقة،أو محنةٍ بعدوّ،ونحوه من مشاق الدنيا،فأما إذا خاف ضرراً أو فتنة في دينه فلا كراهة فيه لمفهوم هذا الحديث،وقد فعله خلائق من السلف”.
ولا شك أن موت الإنسان بعيداً عن الفتن،خير له من أن يفتن في دينه.
عن محمود بن لبيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:”اثنتان يكرههما ابن آدم:الموت،والموتُ خيرٌ للمؤمن من الفتنة،ويكره قلة المال،وقلة المال أقلُّ للحساب”[رواه أحمد وصححه الألباني].وقد دلّ على مشروعية تمني الموت في هذه الحال أيضاً دعاء النبي صلى الله عليه وسلم:”وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون“[رواه الترمذي وصححه الألباني].
وفي الحديث الشريف عن عمار بن ياسر رضي الله عنه عن النبي صلى اللهى عليه وسلم قال:”أسـألك لذّة النظر إلى وجهك،والشوق إلى لقائك،في غيرِ ضرّاءَ مضرّة،ولا فتنة مضلة”[رواه النسائي وابن حبان والحاكم وصححه الألباني].
وهناك من يدخل تمني السيدة مريم العذراء في هذا الباب حين قالت:{يا ليتني متُّ قبلَ هذا وكنتُ نَسياً منسياً}[مريم 23] فهناك بعض الفقهاء ومنهم القرطبي وابن كثير قال:أن مريم عليها السلام تمنت الموت من جهة الدين،لوجهين:
الأول:أنها خافت أن يُظن بها الشر في دينها وتُعيّر،فيفتنها ذلك.
الثاني:لئلا يقع قومٌ بسببها في البهتان،والنسبة إلى الزنا.
وكذلك يجوز من يتمنى الشهادة في سبيل الله عز وجل.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:”لولا أن أشقَّ على أمتي ما قعدتُ خلف سريّةٍ،ولوددتُ أنّي أُقتلُ في سبيلِ الله،ثم أحيا ثم أُقتل،ثم أحيا ثمَّ أُقتل”[متفق عليه].
وفي الحديث الشريف الذي رواه مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:”من سأل الله الشهادة بصدقٍ بلّغهُ الله منازلَ الشهداء وإن مات على فراشه”.
وقد كان السلف الصالح يحبون الموت والشهادة في سبيل الله.قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه بشأن مسيلمة الكذاب:”والله لأقاتلنه بقوم يحبون الموت كما يحب الحياة.
وكتب خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى أهل فارس:”والذي لا إله غيره لأبعثنَّ إليكم قوماً يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة.
عن سلمان رضي الله عنه قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:”رباطُ يومٍ وليلةٍ خيرٌ من صيام شهرٍ وقيامه،وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله،وأجري عليه رزقه،وأمن الفتّان”[رواه مسلم]
(الشهيد يحمى من فتنة القبر).
سكرات الموت:
قال تعالى:{ وجَاءتْ سَكرَةُ الموتِ بالحقِّ ذلكَ ما كُنتَ مِنهُ تَحيدُ}[ق 18 ].
جاء في موقع دار الإسلام:
“زفراتٌ تخرج،وحشرجاتٌ تتوالى،وأنفاسٌ تضطرب،وانتزاعٌ للروح،وآلامٌ تنوء بها الجبال،وتتلاشى عندها كل لذة،وتنسي معها ساعات الفرج،وتهون أمامها عذابات الدنيا وأنكادها،ورزاياها ومصائبها،هي الخطب الأفظع،والأمر الأشنع،والكأس التي طعمها أكره وأبشع،هي بابٌ وكلّ الناس داخله،وشرابٌ علقميّ المذاق وكل امرئ سيعاقره،إنه الحديث عن سكرات الموت، ووقوفٌ على معانيها وأدلتها، وأوصافها وأحوالها .
وقد سمّى الله في كتابه هذه الشدّة التي تلاقيها النفس عند انتزاع الروح بالسكرات،وهي جمع سَكْرة، والسّكرفي الأصل كما يقول الامام الأصفهاني: حالة تعرض بين المرء وعقله،وأكثر ما يستعمل في الشراب المسكر،يقولون: ذهب بين الصحوة والسكرة ،والمعنى أنه بين أن يعقل وألا يعقل،وهي تطلق كذلك للتعبيرعن شدّة الغضب والعشق والنعاس والألم،ومن الإطلاق الأخير جاء التعبيرعن شدّة الموت بالسكرات، فسكرة الموت:غشيته التي يُستدلّ بهاعلى حلول الموت،بما فيه من الشدائد والأهوال الناتجة عن نزع الروح.
ومن المعاني المُقاربة للمعنى السابق لفظ الغمرات،وهو تعبيرآخر عن سكرات الموت،مفرده:غَمْرة وهي الشدّة، يقال: كشفت الحرب عن غمارها: أي استبانت شدائدها،جاء في تفسير الجامع:”الغمرات جمع غمرة،وغمرة كل شئ: كثرته ومعظمه،وأصله الشئ الذي يغمر الأشياء فيغطيها “.
وتاسيساً على ما تقدّم،فإن غمرات الموت يقصد بها الشدّة المفظعة التي تغمر المحتضر وتعلوه وتستغرقه وتغطي عقله وتذهله .
ويروى عن أمير المؤمنين عمر الفاروق رضي الله عنه أنه قال لكعب الأحبار حدّثنا عن الموت؟فقال:نعم يا أمير المؤمنين،هو كغصن كثير الشوك أدخل في جوف رجل،فأخذت كل شوكة بعرق،ثم جذبه رجل شديد الجذب،فأخذ ما أخذ وأبقى ما أبقى”.
وقال شداد بن أوس:”الموت أفظع هول في الدنيا والآخرة على المؤمن،وهو لأشد من نشر بالمناشير وقرض بالمقاريض،وغلي في القدور،ولو أن الميت نُشر(بعث من قبره)فأخبر أهل الدنيا بألم الموت،ما انتفعوا بعيش ولا تلذذوا بنوم”.
ويقال أنه دخل الحسن البصري رحمه الله على مريض يعوده فوجده في سكرات الموت،فنظر إلى كربه،وشدّة ما نزل به،فرجع إلى أهله بغير اللون الذي خرج به من عندهم،فقالوا له:الطعام يرحمك الله،فقال:يا أهلاه،عليكم بطعامكم وشرابكم،فوالله لقد رأيت مصرعاً لا أزال أعمل له حتى ألقاه”.
ويقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله في قوله تعالى{وجاءت سكرة الموت بالحق}:
“والموت أشدّ ما يحاول المخلوق البشري أن يروغ منه أو يبعد شبحه عن خاطره،ولكن أنّى له ذلك.والموت طالب لا يملّ الطلب،ولا يبطىء الخطى،ولا يخلف الميعاد،وذكر سكرة الموت كفيل برجفة تدبّ في الأوصال!وبينما المشهد معروض يسمع الإنسان”ذلك ما كنت منه تحيد” وإنه ليرجف لصداها وهو بعد في عالم الحياة! فكيف به حين تقال له وهو يعاني السكرات!وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تغشّاهُ الموت جعل يمسح العرق عن وجهه ويقول:”سبحان الله إنَّ للموت سكرات“.يقولها وهو قد اختار الرفيق الأعلى واشتاق إلى لقاء الله.فكيف بمن عداه؟!
ويلفت النظر في التعبير ذكر كلمة الحق”وجاءت سكرة الموت بالحقّ“وهي توحي بأن النفس البشرية ترى الحقّ كاملاً وهي في سكرات الموت،تراه بلا حجاب،وتدرك منه ما كانت تجهل وما كانت تجحد ولكن بعد فوات الأوان،حين لا تنفع رؤية،ولا يُجدي إدراك،ولا تُقبل توبة,ولا يُحسب إيمان.وذلك الحقّ هو الذي كذبوا به.وحين يدركونه ويصدقون به لا يجدي شيئاً ولا يفيد”.
ويقول الأستاذ الكبير مصطفى صادق الرافعي رحمه الله (الرسالة العدد88):
“والرجل إذا بلغ هذا المبلغ كان حياً كالميت ساعة احتضاره،ينظر إلى كل ما في الحياة نظرة من يترك لا من يأخذ،ومن يعتبر لا من يغترّ،ومن يلفظ لا من يتذوق،ومن يُدرك السر لا من يتعلق بالظاهر.ويرى الشهوات كأنها من لغة لا يعرفها،فهي ألفاظ فيها معاني أهلها لا معانيه،وإنما تلبسُ كلماتنا معانيها من أنفسنا.وفي النفوس مثل الهشيم،إذا وقعت فيه المعاني المشتعلة استطار حريقاً وتضرمنوفيها على المجاهدة مثل الماء،إذا خالطته تلك المعاني انطفأت فيه وخمدت.
ويقول الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله(مشاهد يوم القيامة ص65):
“وبعد أن أموت لا علاقة لي بالحياة على الأرض…فمن مات قامت قيامته…لماذا؟…لأنه يرى كل شىء..يراها في الدنيا…وبالنسبة له تنتهي فترة الإختبار التي هي المدخل إلى يوم القيامة…لذلك يقول الحق سبحانه:{يا أيُّها الّذينَ آمنوا لا تَتولَّوا قوماً غضبَ الله عليهم قد يئسوا من الآخرةِ كما يئسَ الكُفّارُ من أصحاب القبورِ}[الممتحنة 13].
لماذا قال الله سبحانه وتعالى:{كما يئس الكفار من أصحاب القبور}،لأن الذي يموت كافراً…يعلم يقيناً أن لا أمل له إلا العذاب في الآخرة…ولأنه رأى فهو يعرف أن لا أمل له في دخول الجنة…وأن لا أمل له في النجاة من النار…وهذا اليأس يصبح يأساً يقينياً…
فالإنسان يعرف مصيره ساعة يحتضر…تلك اللحظات التي هي بين الموت والحياة..يشاهد فيها الإنسان كل ما أخفى عنه…تلك الساعة التي تغادر فيها الروح الجسد..أو سكرة الموت كما يسميها الله سبحانه وتعالى…تلك اللحظات التي تخمد فيها بشرية الإنسان…وتنتهي فيها حياة الاستعلاء وحياة الكبر،وكل مظاهر الحياة الدنيوية بكل ما فيها ومن فيها.
وإذا أردت أن تشهد ذلك فانظر إلى إنسان قد تجبر وعلا وأعطاه الله أسباب الملك في الدنيا…تجده ساعة الاحتضار ضعيفاً ذليلاً عاجزاً…كل مظاهر الاستعلاء ذهبت…ينظر إليك في مسكنة غريبة،ويحاول أن يستنجد بكل من حوله…ولكن الكل عاجزون…في هذه اللحظة يأخذ الإنسان مقدمات الغيب…ويرى ما أخبره الله سبحانه وتعالى عنه ،ولم يكن يصدقه…ذلك لأن بشريته الآن قد خمدت…وما دامت البشرية خمدت،تهب نفحات الغيب…وفي هذا يقول الحق سبحانه وتعالى:{وجاءت سكرةُ الموتِ بالحقِّ ذلكَ ما كنتَ منهُ تحيدُ}[ق 19].
أي ما كنت تظن أنه لن يقع…أو تحاول ألا تتذكره،وألا تعترف به،وكنت تظن أن هذه اللحظة لن تأتي…فإذا أتت فأنت تتوهم بأن شيئاً لن يحدث فيها..في هذه اللحظات بالذات لا تنفع التوبة..ولا يجدى الاستغفار…فمع سكرة الموت ينقطع عمل الإنسان الدنيوي..وتأتي الساعة التي ينتقل فيها كل منا إلى عالم البرزخ لينتظر الحساب..وفي هذا يقول الحق سبحانه وتعالى:{فلولا إذا بلغتِ الحُلقومَ*وأنتم حينئذٍ تنظرون*ونحنُ أقربُ إليه منكم ولكن لا تبصرون}[الواقعة 83 ـ 85].
أي أن الإنسان وهو يحتضر يكون أقرب إلى ملكوت الله من أولئك الذين يقفون حوله ساعة الاحتضار..ومع أن أهل المحتضر يحيطون به إحاطة لصيقة عن قرب في هذه الساعة العصيبة…فإن ملكوت الله يكون أقرب منهم إليه…وتحيط بالإنسان في هذه الحالة إما ملائكة الرحمة إذا كان صالحاً..أو زبانية جهنم ـ والعياذ بالله ـ إذا كان فاسقاً.
يقول سيد قطب رحمه الله:”لنكاد نسمع صوت الحشرجة،ونبصر تقبض الملامح،ونحس الكرب والضيق من خلال قوله تعالى:{فلولا إذا بلغت الحلقوم}…كما نكاد نبصر نظرة العجز وذهول اليأس في ملامح الحاضرين من خلال قوله تعالى:{وأنتم حينئذ تنظرون}.
هنا في هذه اللحظة.وقد فرغت الروح من أمر الدنيا.وخلفت وراءها الأرض وما فيها،وهي تستقبل عالماً لا عهد لها به،ولا تملك من أمره شيئاً إلا ما ادّخرت من عمل،وما كسبت من خير أو شر.
هنا وهي ترى ولا تملك الحديث عما ترى.وقد انفصلت عمّن حولها وما حولها.الجسد هو الذي يراه الناظرون،ولكنهم ينظرون ولا يرون ما يجري ولا يملكون من الأمر شيئاً.
هنا تقف قدرة البشر،ويقف علم البشر،ينتهي مجال البشر.
هنا يعرفون ـ ولا يجادلون ـ أنهم عجزة عجزة،قاصرون قاصرون.
هنا يسدل الستار دون الرؤية،ودون المعرفة،ودون الحركة.
هنا تنفرد القدرة الإلهية والعلم الإلهي ويخلص الأمر كله لله بلا شائبة ولا شبهة ولا جدال ولا محال:{ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون}
وهنا يجلل الموقف جلال الله،ورهبة حضوره،سبحانه وتعالى،وهو حاضر في كل وقت،ولكن التعبير يوقظ الشعور بهذه الحقيقة التي يغفل عنها البشر،فإذا مجلس الموت تجلله رهبة الحضور وجلاله.فوق ما فيه من عجز ورهبة وانقطاع ووداع.
وفي ظل هذه المشاعر الراجفة الواجفة الآسية الآسفة يجىء التحدي الذي يقطع كل قول وينهي كل جدال:{فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين}
فلو كان الأمر كما تقولون:إنه لا حساب ولا جزاء.فأنتم إذن طلقاء غير مدينين ولا محاسبين.فدونكم إذن فلترجعوها ـ وقد بلغت الحلقوم ـ لتردوها عما هي ذاهبة إليه من حساب وجزاء.وأنتم حولها تنظرون.وهي ماضية إلى الدينونة الكبرى وأنتم ساكنون عاجزون!
هنا تسقط كل تعلة.وتنقطع كل حجّة.ويبطل كل محال.وينتهي كل جدال.ويثقل ضغط هذه الحقيقة على الكيان البشري،فلا يصمد له،إلا وهو يكابر بلا حجة ولا دليل”.
وبنحو هذا المعنى جاء قوله تعالى :{ كَلّا إذا بلغتِ التَّراقي* وقِيلَ من رَاقٍ* وظنَّ أنَّهُ الفِراقُ }[القيامة 26-28].
يقول سيد قطب رحمه الله في الظلال:”إنه مشهد الموت.الموت الذي ينتهي إليه كل حي،والذي لا يدفعه عن نفسه ولا عن غيره حي.الموت الذي يفرق الأحبة،ويمضي في طريقه لا يتوقف،ولا يتلفت،ولا يستجيب لصرخة ملهوف ولا لحسرة مفارق،ولا لرغبة راغب ولا لخوف خائف!الموت الذي يصرع الجبابرة بنفس السهولة التي يصرع بها الأقزام،ويقهر بها المتسلطين كما يقهر المستضعفين سواء!الموت الذي لا حيلة للبشر فيه وهم مع هذا لا يتدبرون القوة القاهرة التي تجريه.
“كلا إذا بلغت التراقي*وقيل من راق”
إنه مشهد الاحتضار،يواجههم به النص القرآني كأنه حاضر،وكأنه يخرج من ثنايا الألفاظ ويتحرك كما تخرج ملامح الصورة،من خلال لمسات الريشة.
“كلا إذا بلغت التراقي”
وحين تبلغ الروح التراقي يكون النزع الأخير،وتكون السكرات المذهلة،ويكون الكرب الذي تزوغ منه الأبصار..ويتلفت الحاضرون حول المحتضر يتلمسون حيلة أو وسيلة لاستنقاذ الروح المكروب.. “وقيل من راق” لعل رُقية تفيد؟وتلوى المكروب من السكرات والنزع”والتفت الساق بالساق”وبطلت كل حيلة،وعجزت كل وسيلة،وتبين الطريق الواحد الذي يساق إليه كل حي في نهاية المطاف…
إن المشهد ليكاد يتحرك وينطق.وكل آية ترسم حركة.وكل فقرة تخرج لمحة.وحالة الاحتضار ترتسم ويرتسم معها الجزع والحيرة واللهفة ومواجهة الحقيقة القاسية المريرة،التي لا دافع لها ولا راد…ثم تظهر النهاية التي لا مفر منها”إلى ربك يومئذ المساق” ويسدل الستار على المشهد الفاجع،وفي العين منه صورة،وفي الحس منه أثر،وعلى الجو كله وجوم صامت مرهوب”.
القيامة الصغرى والقيامة الكبرى:
يقول الشيخ الشعراوي رحمه الله:
“على أننا لابد أن نتوقف عند قول الحق سبحانه وتعالى:{ولو ترى إذ الظالمونَ في غمراتِ الموتِ والملائكةُ باسطوا أيديَهُم أخرجوا أنفُسَكُم اليومَ تُجزونَ عذابَ الهُونِ}[الأنعام 93].
نتوقف عند قول الحق سبحانه وتعالى:{أخرجوا أنفسكم}.
والنفس كما قلنا هي التقاء الروح بالجسد..فكيف يطلب الملائكة من الظالم المحتضر أن يخرج نفسه.
لكي نفهم هذه الآية لا بد أن نضع في أذهاننا أن هذا المحتضر كان كافراً بالله وكذوباً بالبعث..وحينئذ إذا جاءت ساعة الاحتضار يكون حوله ملائكة العذاب أو زبانية جهنم..يقولون له هأنتذا ترى الآن ما كنت تكذب به..وترى العذاب الذي ينتظرك..فإذا كان لك قوة أو قدرة كما كنت تدعى في الحياة الدنيا فأخرج نفسك مما ينتظرك..اهرب من العذاب الشديد الذي سوف تلاقيه..أرنا أين ستذهب..لقد كانت لك قدرة في الحياة الدنيا..قدرة من الله ولكنك بدلاً من أن تستخدمها في شكر الله…انطلقت تقول على الله غير الحق..وتستكبر في الأرض،وتبارز الله بالمعاصي،ولكنك الآن خامد خافت…لا تملك شيئاً لنفسك،ولا صوتاً تستجير به بأنصارك…فأنت ترى العذاب وهو واقع بك،ولن تفلت منه.
ويتابع الشيخ الشعراوي رحمه الله:
“المؤمن يرى الملائكة أيضا،ولكنه يرى ملائكة الرحمة الذين يبشرونه بالجنة،ويستقبلونه بالسلام،ويكون فرحاً مستبشراً..فالإنسان حين يحتضر تكون قيامته قد قامت،ولا علاقة له بالأيام والأحداث القادمة إلى الدنيا…فهو قد انتهى دوره عند هذه اللحظة،وانتهت مهمته في الحياة،وانتقل إلى عالم القيامة:عالم الحساب لينتظر يوم تقوم الساعة.
ولذلك فإننا نقول لكل من يجهدون أنفسهم في أشياء هي من علم الغيب،ولم يصلوا إليها يقيناً…نقول لهم:لا تجهدوا أنفسكم في أشياء هي من علم الغيب ،ولم تصلوا إليها يقيناً..فما دام الله قد أخفى وجعل علم الساعة عنده،فلا أحد يعلمها سواه…
إذن لو عرفنا موعد الساعة،ماكان ذلك ليفيدنا على المدى الطويل..فإذا نظرنا إليها على المدى القصير إذا نظرنا إليها من هذه الزاوية..وهي أن القيامة الصغرى عندما يموت الإنسان…والقيامة الكبرى في آخر الزمان…نجد أيضاً أن الأجل قد أخفى عنا..لماذا؟..لنتوقع الموت في كل لحظة فيسارع كل منا إلى الخير قدر إمكانه..ويبتعد عن الشر قدر استطاعته..ولو أن الأجل محدد معلوم لأثر ذلك على استمرارية الخير في الكون…ولزاد من استمرارية الشر…
إذن فالبحث عن موعد الساعة سواء كان نهاية للأجل أو نهاية للكون…لابد أن نتركه إلى حياة البرزخ…فإنها ينتقل من حياة لها قوانينها إلى حياة أخرى لها قوانينها المختلفة.
والله سبحانه وتعالى أراد أن يقرب ذلك إلى أذهاننا فأعطانا قانونين مختلفين في حياتنا…هما قانون اليقظة.وقانون النوم.فالإنسان وهو مستيقظ يحس بالأحداث..يؤثر فيها ويتأثر بها..ويحس بالزمن..ويرى بعينيه ويمشي بقدميه..إلى آخر ما نعرفه عن حياة اليقظة..”.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن معنى الآية “وجاءت سكرة الموت…..” :جاءت بما بعد الموت من ثواب وعقاب،وهو الحق الذي أخبرت به الرسل،ليس مراده أنها جاءت بالحقّ الذي هو الموت فإن هذا مشهور لم ينازع فيه، ولم يقل أحد: إن الموت باطل حتى يقال جاءت بالحق ” .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن معنى الآية “وجاءت سكرة الموت…..” :جاءت بما بعد الموت من ثواب وعقاب،وهو الحق الذي أخبرت به الرسل،ليس مراده أنها جاءت بالحقّ الذي هو الموت فإن هذا مشهور لم ينازع فيه، ولم يقل أحد: إن الموت باطل حتى يقال جاءت بالحق ” .
ربِّ أرجعون:
يقول سيد قطب رحمه الله في قوله تعالى:{حتى إذا جاءَ أحدهم الموت قال رب أرجعون*لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون}[المؤمنون 99 ـ 100].يقول رحمه الله:
“إنه مشهد الإحتضار،وإعلان التوبة عند مواجهة الموت،وطلب الرجعة إلى الحياة،لتدارك ما فات،والإصلاح فيما ترك وراءه من أهل ومال…وكأنما المشهد معروض اللحظة للأنظار،مشهود
كالعيان!فإذا الردّ على هذا الرجاء المتأخر لا يوجه إلى صاحب الرجاء،إنما يعلن على رؤوس الأشهاد:”كلا إنها كلمة هو قائلها“.كلمة لا معنى لها،ولا مدلول وراءها،ولا تنبغي العناية بها أو بقائلها.إنها كلمة الموقف الرهيب،لا كلمة الإخلاص المنيب.كلمة تقال في لحظة الضيق،ليس لها في القلب رصيد”.
ويقول الشيخ العلامة يوسف القرضاوي حفظه الله:”ولذلك لا يعرف الإنسان قيمة عمره،وقيمة دنياه، إلا ساعة الموت،فحين يأتيه الموت يقول:{لولا أخّرتني إلى أجلٍ قريبٍ فأصدّقَ وأكن من الصالحين}[المنافقون10]،لو تتركني يا رب قليلا،يوم أو نصف يوم،ساعتيننساعة،نصف ساعة،خمس دقائق،ولكن هيهات{ولن يؤخّرَ الله نفساً إذا جاءَ أجلًها والله خبيرٌ بما تعملون}[المنافقون 11]،{أو لمْ نُعَمّركمْ ما يتذكّرُ فيهِ من تذكّرَ وجاءكمُ النَّذيرُ فذوقوا فما للظالمينَ من نصير}[فاطر 37].
ويتابع الشيخ القرضاوي:”لذلك كان من المهم،أن نضع الآخرة نصب أعيننا،ولا نجعل الدنيا أكبر همّنا ولا مبلغ علمنا كما قال الله تعالى لرسوله:{فأعرضْ عن من تولّى عن ذكرنا ولم يُرِد إلا الحياةَ الدُّنيا*ذلكَ مبلغهُم من العلمِ إنَّ ربّكَ هو أعلمُ بمن ضلَّ عن سبيلهِ وهو أعلمُ بمن اهتدى}[النجم 29 ـ 30]،كل ما يعرفه،وكل همّه،ومحور تفكيره،وجل اهتمامه،يدور على الحياة الدنيا.
ويقول الشيخ الشعراوي رحمه الله:
“ذلك لمجرد أن تحضره سكرات الموت ويوقن أنه ميت تتكشف له الحقائق ويرى ما لانراه نحن،كما جاء في قوله تعالى:{فكشفنا عنك غطاءكَ فبصرُكَ اليوم حديد}[ق22].
فيتمنّى الإنسان أن يرجع إلى الدنيا وهو مايزال يحتضر،لماذا؟لأنه رأى الحقيقة التي كان ينكرها ويُكذب بها،والذين يشاهدون حال الموتى ساعة الاحتضار يرون منهم إشارات تدل على أنهم يرون أشياء لا نراها نحن،كل حسب حاله وخاتمته.والجنود الذين صاحوا في المعركة:هبّي يا رياح الجنة،لابد أنهم رأوها وشمّوا رائحتها،وإلا مالذي جعلهم يتلهفون للموت،ويشتاقون للشهادة إلا أنهم يرون حالاً ينتظرهم أفضل مما هم فيه.
ومن هؤلاء الصحابي الجليل الذي حدّثه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أجر الشهيد عند الله،وكان في يده تمرات أو فمه يمضغها،فقال:يا رسول الله ،أليس بيني وبين الجنة إلا أن أدخل هذه المعركة،فأقتل في سبيل الله؟قال:نعم،فألقى التمرة من فمه ومضى إلى المعركة.كأنه استكثر أن يقعد عن طلب الجنة مدة مضغ التمرات.فإلى هذه الدرجة بلغ يقين هؤلاء الرجال في الله وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونلحظ في هذه الآية”حتى إذا جاء أحدهم الموت“هكذا بصيغة المفرد”قال رب أرجعون“جاء بالجمع على سبيل التعظيم،ولم يقل ربَّ أرجعني،كما جاء في قوله تعالى:{إنا نحنُ نزلنا الذكر وإنا لهُ لحافظون}[الحجر 9].فهنا الحق تبارك وتعالى يُعظم ذاته،لكن هذا يُعظم الله الآن،وهو في حالة الاحتضار،وقد كان كافراً به،وهو في سَعة الدنيا وبحبوحة العيش.
أو أنه كرر الطلب:أرجعني أرجعني أرجعني،فجمعها الله تعالى أو:أنه استغاث بالله فقال:ربِّ ثم خاطب الملائكة:أرجعون إلى الدنيا.لكن،لماذا الرجوع؟
“لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون“أي:أنني تركت كثيراً من أعمال الخير،فلعلي إن رجعت بعد أن عاينت الحقيقة أستدرك ما فاتني من الصالحات،
أو لعلي أعمل صالحاً فيما تركت،لأني ضننت بمالي وبمجهودي وفضلي على الناس،وكنزت المال الكثير،وتركته خلفي ثم أحاسب عليه،فإن عدت قدمته وأنفقته فيما يدخر لي ليوم القيامة.
ثم تأتي الإجابة:”كلا إنها كلمة هو قائلها“أي قوله:أرجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت،إنها مجرد كلمة لا واقع لها،كلمة يقولها وقت الضيق والشدّة،فالله تعالى لن يرجعهم،ولو أرجعهم ما فعلوا،لذلك نفاها بقوله”كلا”التي ترد على قضايا تريد إثباتها،ويريد الله تعالى نفيها،كما ورد في سورة الفجر:{فأما الإنسان إذا ما ابتلاهُ ربُّهُ فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن *وأما إذا ما ابتلاهُ فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن}[الفجر 15 ـ 16]فيرد الحق سبحانه:”كلا” لا أنت صادق ولا هو،فليس المال والغنى وكثرة العرض دليل إهانة،ولا الفقر دليل إجابة،فكلتا القضيتين خطأ،بدليل أنك إذا أعطاك الله المال،ثم لاتؤدي فيه حقّ الله وحقّ العباد،ولا يُعينك على أداء مافرض عليك صار المال وبالاً عليك وإهانة لا كرامة.ما جدوى المال إن دخلت في قوله تعالى:{كلا بل لا تُكرمون اليتيم}[الفجر17]؟ساعتها سيكون مالك حجّة عليك.كذلك الحال من يظن أن الفقر إهانة،فإن سلب الله منك المال الذي يُطغيك فقد أكرمك،وإن كنت لاتدري بهذا الإكرام.
ثم يقول سبحانه:”ومن ورائهم برزخٌ إلى يوم يُبعثون“أي:كيف يتمنون الرجوع وبينهم وبينه برزخ يمنعهم العودة إلى الدنيا،لذلك تسمى الفترة بين الحياة الدنيا والآخرة بالحياة البرزخية،فليست من الدنيا وليست من الآخرة.
وفي موضع آخر يُصور الحقّ سبحانه وتعالى هذا الموقف بقوله:{ولو رُدوا لعادوا لما نُهوا عنه}[الأنعام 28]أي:لو رددناهم من الآخرة لعادوا لما كانوا عليه من معصية الله.”
الشهادة عند الاحتضار:
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله(الفوائد ص76):
“لشهادة “أن لا إله إلا الله” عند الموت تأثير عظيم في تكفير السيئات وإحباطها،لأنها شهادة من عبد موقن بها عارف بمضمونها،قد ماتت منه الشهوات ولانت نفسه المتمردة،وانقادت بعد إبائها واستعصائها وأقبلت بعد إعراضها وذلّت بعد عزها،وخرج منها حرصها على الدنيا وفضولها،واستخذت بين يدي ربها وفاطرها ومولاها الحق أذل ما كانت وأرجى ما كانت لعفوه ومغفرته ورحمته. وتجرد منها التوحيد بانقطاع أسباب الشرك وتحقق بطلانه،فزالت منها تلك المنازعات التي كانت مشغولة بها،واجتمع همها على من أيقنت بالقدوم عليه والمصير إليه،فوجه العبد وجهه بكليته إليه ،وأقبل بقلبه وروحه وهمه عليه. فاستسلم وحده ظاهراً وباطناً،واستوى سره وعلانيته فقال لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه.
وقد تخلص قلبه من التعلق بغيره والالتفات إلى ما سواه.قد خرجت الدنيا كلها من قلبه وشارف القدوم على ربه،وخمدت نيران شهوته ،وامتلأ قلبه من الآخرة فصارت نصب عينيه،وصارت الدنيا وراء ظهره فكانت تلك الشهادة الخالصة خاتمة عمله،فطهرته من ذنوبه،وأدخلته على ربه،لأنه لقي ربه بشهادة صادقة خالصة،وافق ظاهرها باطنها وسرها علانيتها،فلو حصلت له الشهادة على هذا الوجه في أيام الصحة لاستوحش من الدنيا وأهلها،وفرّ إلى الله من الناس،وأنس به دون ما سواه،لكنه شهد بها بقلب مشحون بالشهوات وحبّ الحياة وأسبابها،ونفس مملوءة بطلب الحظوظ والالتفات إلى غير الله.فلو تجردت كتجردها عند الموت لكان لها نبأ آخر وعيش آخر سوى عيشها البهيمي والله المستعان”.
عودة إلى سكرات الموت:
يقول الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله:
“اعلم أنه لو لم يكن بين يدي العبد المسكين كرب ولا هول ولا عذاب سوى سكرات الموت بمجردها لكان جديراً بأن يتنغّص عليه عيشه ويتكدّر عليه سروره ويفارقه سهوه وغفلته.وحقيقاً بأن يطول فيه فكره ويعظم له استعداده لا سيما وهو في كل نَفَس بصدده كما قال بعض الحكماء:”كرب بيد سواك لا تدري متى يغشاك”.واعلم أن شدّة الألم في سكرات الموت لا يعرفها بالحقيقة إلا من ذاقها،ومن لم يذقها فإنّما يعرفها إما بالقياس إلى الآلام التي أدركها،وإما بالاستدلال بأحوال الناس في النزع على شدّة ما هم فيه.فأما القياس الذي يشهد له فهو أن كل عضو لا روح فيه فلا يحس بالألم،فإذا كان فيه الروح فالمدرك للألم هو الروح.فمهما أصاب العضو جرح أو حريق سرى الأثر إلى الروح فبقدر ما يسري إلى الروح يتألم،والمؤلم يتفرق على اللحم والدم وسائر الأجزاء فلا يُصيب الروح إلا بعض الألم،فإن كان في الآلام ما يباشر نفس الروح ولا يلاقي غيره فما أعظم ذلك الألم وما أشدّه.
والنزع عبارة عن مؤلم بنفس الروح فاستغرق بجميع أجزائه حتى لم يبق جزء من أجزاء الروح المنتشر في أعماق البدن إلا وقد حلَّ به الآلام،فلو أصابته شوكة فالألم الذي يجده إنما لايجري في جزء من الروح ويلاقي ذلك الموضع الذي أصابته الشوكة،وإنما يعظم أثر الاحتراق لأن أجزاء النار تغوص في سائر أجزاء البدن فلا يبقى جزء من العضو المحترق ظاهراً وباطناً إلا وتصيبه النار فتحسّه الأجزاء الروحاتية المنتشرة في سائر أجزاء اللحم.وأما الجراحة فإنما تصيب الموضع الذي مسّهُ الحديد فقط فكان لذلك ألم الجرح دون ألم النار.فألم النزع يهجم على نفس الروح ويستغرق جميع أجزائه،فإنه المنزوع المجذوب من كل عرق من العروق وعصب من الأعصاب ،وجزء من الأجزاء ومفصل من المفاصل،ومن أصل كل شعرة وبشرة من الفرق إلى القدم.فلا تسأل عن كربه وألمه حتى قالوا:”إن الموت لأشدّ من ضرب بالسيف ونشر بالمناشير وقرض بالمقاريض” لأن قطع البدن بالسيف،إنما يؤلم لتعلقه بالروح.فكيف إذا كان المتناول المباشر نفس الروح.وإنما يستغيث المضروب ويصيح لبقاء قوته في قلبه وفي لسانه،وإنما انقطع صوت الميت وصياحه من شدّة ألمه لأن الكرب قد بالغ فيه وتصاعد على قلبه وبلغ كل موضع منه فهدَّ كل قوة وضعف كل جارحة فلم يترك له قوة الاستغائة.فإن بقيت فيه قوة سمعت له عند نزع الروح وجذبها خواراً وغرغرة من حلقه وصدره،وقد تغيّر لونه،وأربد حتى كأنه ظهر منه التراب الذي هو أصل فطرته وقد جذب منه كل عرق على حياله فالألم منتشر في داخله وخارجه حتى ترتفع الحدقتان إلى أعالي أجفانه،وتتقلص الشفتان ويتقلص اللسان إلى أصله،وتخضر أنامله ،فلا تسل عن بدن يجذب منه كل عرق من عرق،ولو كان المجذوب عرقاً واحداً لكان ألمه عظيماً فكيف والمجذوب لا من عرق واحد بل من جميع العروق،ثم يموت كل عضو من أعضائه تدريجياً،فتبدو أولاً قدماه ثم ساقاه ثم فخذاه ،ولكل عضو سكرة بعد سكرة وكربة بعد كربة حتى يبلغ بها إلى الحلقوم،ومنذ ذلك ينقطع نظره عن الدنيا وأهلها ويغلق دونه باب التوبة،وتحيط به الحسرة والندامة.قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”إن الله يقبل توبة العبد مالم يغرغر“.[أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما].
وفي قوله تعالى:{ كل نفس ذائقة الموت } [آل عمران 185] دلالة على أن كل المخلوقات تموت، وأنه تعاني سكرات الموت مع اختلاف ٍ في درجة الإحساس بالسكرات بين مخلوقٍ وآخر كما ذكر ذلك العلماء
سكرات الموت عند الكافرين والظالمين:
وفي سورة الأنعام قوله تعالى :{ ولو تَرى إذِ الظَّالِمونَ في غَمراتِ المَوتِ والملائكةُ باسِطُو أيديهِمْ أَخرِجُوا أنفُسَكُمُ اليومَ تُجزونَ عذابَ الهُونِ بما كُنتُم تقولونَ على الله غيرَ الحقِّ وكُنتُمْ عن آياتهِ تَستكبرونَ} [الأنعام 93]،وهذا وصفٌ تفصيلي للحظات انتزاع أرواح الكافرين وبيان شدّة ما يلاقونه من شدائد وأهوالٍ فظيعة،وكروبٍ شنيعة،في حالةٍ يعجز اللسان عن وصفها وبيانها،ويكفيهم ما يرونه من شدّة الملائكة وما يستقبلونهم به من العذاب،ويوبخونهم به من التقريع،وهي حالة لا يقدر الواصف أن يصفها، أقل ما يقال فيها :”تغشاهم سكرات الموت،وينزل بهم أمر الله، ويحين فناء آجالهم،والملائكة باسطوا أيديهم يضربون وجوههم وأدبارهم، كما قال جلّ ثناؤه :{ فَكيفَ إذا تَوفَّتْهُمُ الملائكةُ يضربونَ وجُوهَهُمْ وأدبارَهُمْ* ذَلكَ بأنَّهُمْ اتَّبعُوا ما أسخطَ اللهَ وكَرهُوا رِضوانَهُ فأحبطَ أعمالَهُمْ } [محمد 27-28].
ويقول تعالى:{ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكةُ يضربونَ وجوههمْ وأدبارهم وذوقوا عذابَ الحريق}[الأنفال 50]
يقول الشيخ الشعراوي رحمه الله:”والصورة هنا تنتقل بنا من عذاب الدنيا للكفار إلى ساعة الموت.
و”يتوفى”أي لحظة أن تقبض الملائكة أرواح الكافرين،والتوفي وهو قبض الأرواح يجىء مرة منسوباً لله سبحانه وتعالى مصداقاً لقوله :{وهوَ الذي يتوفاكم}ومرة يأتي منسوباً لرسل من الله:{توفّتهُ رسلنا}ومرة يأتي منسوباً إلى ملك الموت:{قل يتوفاكم ملكُ الموت}.
وهذا العذاب يحدث ساعة الاحتضار وهي اللحظة التي لا يكذب الإنسان فيها على نفسه،لأن الإنسان قد يكذب على نفسه في الدنيا،وقد يكون مريضاً بمرض لا شفاء منه فيقول:سأشفى غداً،ويعطي لنفسه الأمل في الحياة،وقد يكون فقيراً لا يملك من وسائل الدنيا شيئاً ويقول:سوف أغتني،لأن الإنسان يغلب عليه الأمل إلا ساعة الاحتضار،فهذه لحظة يوقن فيها كل ميت أنه ميت فعلاً ولا مفرّ من لقاء الله،ولذلك تجد أن الذي ظلم إنساناً لحظة يموت يقول لأولاده:أحضروا فلاناً لقد ظلمته فردّوا له حقوقه نحوي وما ظلمته فيه،والإنسان لحظة الاحتضار يرى كل شريط عمله.فإن كان مؤمناً رأى شريطاً منيراً،فيبتسم ويستقبل الموت وهو مطمئن.وإن كانت أعماله سيئة فهو يرى ظلاماً،ويتملكه الذعر والخوف لأنه عرف مصيره.
ويتابع الشعراوي رحمه الله:
“ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا….}نجد أنه قد حذف جواب”لو” والمعنى لو كشف الحجاب لترى الملائكة وهم يتوفون الذين كفروا لرأيت أمراً عظيماً فظيعاً.ويقال أن الملائكة معها مقامع من حديد.أي قطع حديد ضخمة يضربون بها وجوه الكفار وأدبارهم.ومن شدة الضربة واحتكاك الحديد بالجسم تخرج منه شرارة من نار لتحرق أجساد الكفار.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:{وذوقوا عذاب الحريق}[الأنفال 50].
إذن فهم يضربون الكفار ساعة الاحتضار ضرباً مؤلماً جداً هذا الضرب رغم قسوته،والشرر الذي يخرج منه لا يُنجيهم في الآخرة من عذاب الحريق.
وقد ضرب الله للناس المثل بحال المحتضر،وذلك في قوله تعالى :{ أشحَّةً عَليكُمْ فإذا جاءَ الخوفُ رأيتَهُمْ ينظرونَ إليكَ تدورُ أعينُهُمْ كالَّذي يُغشى عليهِ من الموتِ}[ الأحزاب 19]، فالآية جاءت لتصف بدقةٍ حال المنافقين الذين يعرقلون الناس عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويمنعونهم عن ذلك بأقوالهم وأفعالهم،كيف يكون موقفهم من نداءات الجهاد؟ عندها ترى في أعينهم نظر الخائف المذعور الذي يحدق بعينيه إلى الجهات المختلفة يحذر أن تأتيه المصائب من إحداها،وهذه النظرات الزائغة غير المستقرة تشبه كثيراً حال المحتضر الذي يعاني سكرة الموت،ونظير ذلك قوله تعالى :{ فإذا أُنزِلتْ سُورةٌ مُّحكَمَةٌ وذُكِرَ فيها القتالُ رأيتَ الَّذينَ في قلوبِهِم مرضٌ ينظرونَ إليكَ نَظَرَ المَغشيِّ عليهِ من الموتِ } [محمد 20 )،ووجه الشبه بيان شدّة ما يلاقيه من يؤمرون بالجهاد مع المسلمين،فتراهم من شدة الجبن،الذي خلع قلوبهم،والقلق الذي أذهلهم ينظرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم نظر المغشي عليه، الذي يعالج انتزاع الروح” .
ويقول شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله :” من شدّة الرعب الذي في قلوبهم يُشبهون المغمي عليه وقت النزع،فإنه يخاف ويذهل عقله،ويشخص بصره،ولا يطرف، فكذلك هؤلاء،لأنهم يخافون القتل “.
من أحب لقاء الله ومن كره لقاء الله(حسن وسوء الخاتمة):
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم،فإن كانت صالحة قالت :قدموني قدموني،وإن كانت غير صالحة قالت:يا ويلها أين تذهبون بها،يسمع صوتها كل شىء إلا الإنسان ولو سمعها لصعق”[رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه]
ويقول الشيخ الشعراوي رحمه الله في قوله تعالى:{ وتزهق أنفسُهُم وهم كافرون}[التوبة55]،يقول رحمه الله:
“و”تزهق” أي تخرج بصعوبة،لماذا؟لأن عابد الدنيا عمل من أجلها فقط.ولم يعمل شيئاً من أجل الآخرة،فعندما يأتي له الموت،يجد أنه لم يقدم شيئاً لآخرته،وأن ما ينتظره هو العذاب،ولذلك يكره أن يترك نعيم الدنيا إلى عذاب الآخرة.أما صاحب الأعمال الطيبة عندما يأتي له الموت فهو يستبشر،لأن الذي ينتظره خير يفوق كل الذي سيتركه.وجاء في الحديث الشريف الذي روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه،ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه.فقلتُ :يا نبي الله أكراهية الموت؟فكلنا نكره الموت.فقال:”ليس كذلك.ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله فأحبّ الله لقاءه.وإن الكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله وكره الله لقاءه”[أخرجه مسلم والترمذي].
ويتابع الشيخ الشعراوي رحمه الله:”والمؤمن يفرح حين ينتقل من الدنيا الفانية إلى الحياة الخالدة الباقية،ومن النعمة إلى المنعم،ومن الحياة بالأسباب إلى الحياة مع المُسبِّب،فنحن في الدنيا لا بد أن نأخذ بالأسباب لنصنع ما نريد،أما في الآخرة فلا توجد أسباب،بل بمجرد أن يخطر الشىء على بالك تجده أمامك،أليست هذه حياة نعيم؟
إذن:فالذي تنفرج أساريره ساعة الموت هو المؤمن،والذي ينقبض وجهه ويتشنج عندما يأتيه ملك الموت هو الكافر والعاصي،لأنه سينتقل من نعيم حتى ولو كان نسبياً إلى عذاب رهيب”.
(قال الحسن البصري رحمه الله:لا راحة للمؤمن إلا في لقاء الله،ومن كانت راحته في لقاء الله تعالى فيوم الموت يوم سروره وفرحه وأمنه وعزه وشرفه).
ويتابع الشيخ الشعراوي رحمه الله:
“وقد قيل للإمام علي رضي الله عنه:يا إمام،أريد أن أعرف نفسي أأنا من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة؟فقال الإمام علي رضي الله عنه:الله أرحم من أن يجعل جواب هذا السؤال عندي وجعل جواب السؤال عندك أنت،إن كنت تحب من يدخل عليك وهو يريد أن يأخذ منك أكثر مما تحب من يدخل عليك وهو يريد أن يعطيك هدية تكون من أهل الآخرة.
أي:إذا دخل عليك إنسان يطلب صدقة أو مالاً فاستقبلته بترحاب وتحية وتعطيه وأنت مسرور تكون من أهل الآخرة،لأنك تعرف أنه أخذ منك في الفانية ما يحمله لك أجراً في الإخرة التي تعمل من أجلها،ولذلك تحبه.أما إن كنت تحب من جاء يعطيك هدية أكثر ممن جاءك يسألك تكون من أهل الدنيا،لأن معطى الهدية يزيدك في دنياك.وما دمتَ تفرح بذلك أكثر من فرحك بالذي يزيد آخرتك فأنت من أهل الدنيا.
ويقال:إن فلاناً أحسن الله خاتمته لأنهم دخلوا عليه لحظة الموت وجدوا وجهه أبيض وملامحه سمحة مستريحة.نقول:إن هذا صحيح،فهذه لحظة لا يكذب الإنسان فيها على نفسه.ونحن نعلم أن الإنسان حين يشتد عليه المرض فهو يتشبث بالأمل في أن ينال الشفاء على يد طبيب بارع.لكن الأمر يختلف ساعة الاحتضار حين يعلم الإنسان أن الموت يتخلله وأنه ميت لا محالة،مصدقاً لقول الحق سبحانه:{فلولا إذا بلغتِ الحلقوم}[الواقعة].
ويرى ما كان محجوباً عنه في الدنيا.حينئذ يستعرض أعماله،فإن رأى شريط الحياة حلواً منيراً،ابتسم وانفرجت أساريره فيُقبض على هذا الوضع.أما من امتلأت حياته بالسوءِ والمعاصي فوجهه يسوّد وتنقبض أساريره فيُقبض على هذا الوضع.وهذا ما نسميه الخاتمة،فلحظة الاحتضار فيها يقين بالموت،تماماً كساعة الامتحان حيث تجد التلميذ الخائب مصفر الوجه مرتعداً ومتشنجاً،أما التلميذ المجتهد فيكون مُبتسماً منفرج الأسارير.
وفي ساعة الاحتضار يخلو الذهن من أي شىء إلا صحيفة عمله،فهي التي تبقى في بؤرة شعوره،وبؤرة الشعور هي المكان الذي إن استقر فيه شىء فإنه لا يُنسى أبداً.فإذا عرف طالب قبل الامتحان بفترة قصيرة أن هناك سؤالاً سيأتي في جزء معين من الكتاب وأمسك هذا الجزء وقرأه مرة واحدة تجد أنه وهو يقرؤه لا يفكر في شىء آخر غيره،ومجرد قراءته مرة تجعله يجيب الإجابة المتميزة،لأن بؤرة الشعور مثل آلة التصوير،تأخذ صورة ما ترى مرة واحدة.إذن:فساعة الالتقاط هذه حيث لا شىء يشغل الذهن،تجد أن الشعور لا يتسع إلا لخاطر واحد،فلا يأتي خاطر آخر إليها إلا إذا تزحزح الخاطر الأول عنها.
وقوله تعالى:{وتزهق أنفسُهُمْ وهم كافرون}يعطينا معنيين:
ـ المعنى الأول:أن النعمة تظل معهم تلهيهم عن الله حتى تأتي ساعة الموت.
ـ والمعنى الثاني:أن ساعة الموت تكون شاقة وصعبة على الكافر والمنافق،لأنه يترك الأموال والأولاد ويذهب إلى العذاب.انتهى كلام الشيخ الشعراوي.
التعوذ من الشيطان عند الموت:
جاء في الحديث الشريف عن أبي اليسر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو:”اللهم إنّي أعوذُ بكَ من الهدمِ،وأعوذ بك من التردّي،وأعوذ بك من الغَرقِ والحَرَقِ والهَرَم،وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت،وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مُدبراً،وأعوذ بك أن أموتَ لديغاً“[رواه أحمد وأبو داود والنسائي وقال الحاكم صحيح الإسناد،وصححه الألباني في صحيح أبي داود].
قيل أن إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رضي الله عنه لما نام على فراش الموت أتاه ولده عبد الله ليلقنه الشهادة،ويذكره بلا إله إلا الله،ولكن الإمام كان لا يتكلم إلا بكلمة واحدة،ولا يصرخ إلا بها،ولا ينطق إلا بها،كان يقول:لا،لا،ولما أفاق الإمام من سكرات الموت وكرباته وهوله،سأله ولده وهو يبكي:يا أبت! أقول لك:قل لا إله إلا الله وأنت تقول لي :لا،لا،؟فرد الإمام وقال يابني! أنا لا أتحدث معك،أتاني شيطانان،جلس أحدهما عن يميني،والآخر عن يساري يقول لي الأول:يا أحمد! لقد فتنا في دنياك ولو فتنا اليوم ما أدركناك بعد اليوم،يا أحمد! مت يهودياً،فإنه خير الأديان،والآخر يقول:يا أحمد!مت نصرانياً،فإنه خير الأديان،وأنا أقول:لا،لا،بل على دين محمد،على لا إله إلا الله،على كلمة التوحيد والإخلاص.
فمن الناس من يمنع الفتان كالمرابط في سبيل الله،ومن قتل شهيداً في سبيل الله،وأما من سواهم فيأتيه الفتان فيقول له:مت على دين اليهودية،مت على دين النصرانية،ويريه صورة أبويه وغير ذلك مما يفتنه،فمن ثبته الله تعالى بالقول الثابت في الحياة الدنيا فسيختم بخير،ولهذا قال تعالى:{يُثّبتُ الله الذينَ آمنوا بالقولِ الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويُضلُّ الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء} [إبراهيم 27].
يقول الشيخ العلامة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله:”في الآية 27 من سورة إبراهيم {يثبت الله الذين آمنوا….}أي: في القبر،والقبر أول منازل الآخرة،يثبتهم الله في القبر،إذا سالهم الملكان عن ربهم ونبيهم والكتاب المنزل عليه من ربه ـ كما جاء في الأحاديثـ يثبتهم الله،أما الكفار والمنافقون لا يثبتون عندما يُسألون عن محمد،ويقولون:لا ندري سمعت الناس يقول قولاً فقلت مثلهم،أما المؤمن فهو يعرف من هو ربه،وما دينه،ومن رسوله وما كتابه،يثبته الله ويُنطقه بالحق في هذا الموقف،ولذلك جاء في الأحاديث:أن المراد بالقول الثابت هنا القول الثابت في القبر،ولكن الآية تشمل أيضاًنالقول الثابت في الآخرة حينما يُسأل الناس يوم القيامة:{فَوَرَبِّكَ لنسألنهمْ أجمعين*عمّا كانوا يعملون}[الحجر 92 ـ 93].
هناك تزل الأقدام،وتضل الأفهام،وتطيش العقول،يوم تُنشر الدواوين،وتنصب الموازين:{يُثبتُ الله الذين آمنوا} حين يٍابون يجيبون،تثبيت من الله،ثبتهم في الدنيا ويثبتهم في الآخرة”.
ومن الأحاديث التي وردت في ذلك:
ـ عن البراء بن عازب رضي الله عنه مرفوعاً:”المسلم إذا سئل في القبر:يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله،فذلك قوله:{يثبتُ الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة}[رواه الشيخان].
ـ وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”إذا وضع العبد في قبره،وتولى عنه أصحابه،إنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له:ما كنت تقول في هذا الرجل محمد صلى الله عليه وسلم؟فأما المؤمن فيقول:أشهد أنه عبد الله ورسوله،فيقال له:انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعداً خيراً منه،قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيراهما جميعاً،وأما الكافر أو المنافق فيقال له:ما كنت تقول في هذا الرجل؟فيقول:لا أدري،كنت أقول كما يقول الناس،فيقال له:لا دريت ولا تليت،ثم يضرب ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين”[رواه البخاري]
وجاء في الحديث الشريف عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة:”اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر،وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال،وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات،اللهم إني أعوذ بك من المأثمِ والمَغرم.”[رواه الشيخان].
وفتنة المحيا:هي الفتن التي يلاقيها المسلم في حياته.
وأما فتنة الممات:فيمكن أن يكون المراد بها:ما يعرض للمسلم عند احتضاره وقرب مماته،فقد يعرض له الشيطان في آخر لحظات حياته،يحاول أن يضله،فسميت فتنة الممات لقربها من الموت.هذا ما قاله ابن دقيق العيد رحمه الله.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:”فتنة المحيا:هي أن يفتتن الإنسان بالدنيا.وينغمس فيها،وينسى الآخرة،وهذا ما أنكره الله تعالى على العباد:{بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرةُخيرٌ وأبقى}.[الأعلى 16]
أما فتنة الممات فتشمل شيئين:الأول ما يحدث عند الموت،والثاني ما يحدث في القبر.
فأما الأول:وهو الذي يحدث عند الموت:فإن الشيطان،أعاذنا الله منه،أحرص ما يكون على إغواء بني آدم عند موته،لأنها هي الساعة الحاسمة فيحول بين المرء وقلبه،بمعنى:أنه يوقع الإنسان في تلك اللحظة فيما يخرجه عن دين الإسلام….يحرص حرصاً كاملاً على إغواء بني آدم في تلك اللحظة.ولكن الذين آمنوا بالله حقاً،واتبعوا رسوله صدقاً،واستقاموا على شريعة الله،لن يخذلهم الله،ولن يختم لههم بسوء الخاتمة،فمن صدق مع الله،فليبشر بالخير..”.
ملائكة الرحمة وملائكة العذاب:
في سورة النازعات وردت أوصاف تتعلق بالملائكة الذين أوكلوا بهذه السكرات ،قال تعالى: {والنَّازِعاتِ غَرْقاً* والنَّاشِطاتِ نَشْطاً}[النازعات 1-2]، فالنزع الشديد لأرواح الكافرين،والأخذ اللين لأرواح المؤمنين واستلالها برفق وسهولة .
جاء في الحديث الشريف عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال:خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار،فانتهينا إلى القبر ولمّا يُلحد،فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله،وكأن على رؤوسنا الطير،وفي يده عُودٌ ينكثُ في الأرض،فرفع رأسه فقال:”استعيذوا بالله من عذابِ القبر مرتين أو ثلاثاً”ثم قال:”إنَّ العبد المؤمن إذا كان في انقطاعٍ من الدنيا وإقبالٍ من الآخرة نزل إليه ملائكة من السّماءِ بيضُ الوجوه،كأنَّ وجوههمُ الشّمسُ،معهم كفنٌ من أكفان الجنة،وحنوطٌ من حنوط الجنة،حتى يجلسوا منهُ مدَّ البصر،ثم يجىء ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه،فيقول:أيتها النّفس الطيبة،اخرجي إلى مغفرةٍ من الله ورضوان،قال:”فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فِي السّقاء،فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين،حتى يأخذوها،فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط،ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، قال:”فيصعدون بها،فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا:ما هذا الروح الطيّب؟فيقولون:فلان بن فلان،بأحسن أسمائه التي كانوا يُسمونه بها في الدنيا،حتى ينتهوا بها إلى السّماء الدنيا،فيستفتحون له فيُفتح لهم،فيُشيّعه من كلِّ سماءٍ مقربوها إلى السماء التي تليها،حتى يُنتهى به إلى السماء السابعة،فيقول الله عز وجل:اكتبوا كتابَ عبدي في عليين،وأعيدوه إلى الأرض،فإني منها خلقتهم،وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى،قال: فتُعاد روحه في جسده،ويأتيه ملكان،فيجلسانه فيقولان له:من ربُّك؟فيقول: ربّي الله،فيقولان له:ما دينك؟فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له:ما هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟فيقول:هو رسول الله صلى الله عليه وسلم،فيقولا له:وما عِلمك؟فيقول:قرأت كتاب الله فآمنت به وصدّقت فيُنادي منادٍ في السّماء أن صدق عبدي،فأفرشوه من الجنة،وألبسوه من الجنة،وافتحوا له باباً إلى الجنة،فيأتيه من روحها وطِيبها،ويُفسحُ له في قبره مدَّ بصره،قال:”ويأتيه رجل حسن الوجه،حسن الثياب،طيّبَ الرّيح،فيقول:أبشِر بالذي يسرّك،هذا يومُكَ الذي كنت تُوعد،فيقول له :من أنت؟ فوجهك الوجه يجىء بالخير،فيقول :أنا عملُك الصالح،فيقول:ربِّ أقِم الساعة حتى أرجعَ إلى أهلي ومالي”
قال:”وإنَّ العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا،وإقبالٍ من الآخرة،نزل إليه من السماء ملائكة سودُ الوجوه،معهم المُسوح،فيجلسون منه مدَّ البصر، ثم يجىء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول:يا أيتها النفس الخبيثة،اخرجي إلى سخطٍ من الله وغضب،قال: فتُفرَّقُ في جسده فينتزعها كما يُنتزع السَّفودُ من الصوفِ المبلول،وفي رواية لأحمد:فينتزعها تتقطّع معها العروق والعصب فيأخذها،فإذا أخذها لم يدعوها في يده طَرفة عين حتى يجعلوها في تلك المُسوح،ويخرج منها كأنتنِ ريح جيفةٍ وُجدت على وجه الارض،فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملاٍ من الملائكة إلا قالوا:ما هذا الروحُ الخبيث؟فيقولون:فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يُسمى بها في الدنيا،حتى ينتهي به إلى السّماءِ الدنيا،فيُستفتح له فلا يُفتح له”
ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:{لا تُفَتَّحُ لهم أبوابُ السّماءِ ولا يدخلونَ الجنّةَ حتى يَلِجَ الجملُ في سَمِّ الخِياط}[الأعراف 40]فيقول الله عز وجل:اكتبوا كتابه في سِجّين في الأرض السفلى،فتُطرح روحه طرحاً،ثم قرا:{ومن يُشرك بالله فكأنّما خرَّ من السّماءِ فتخطفهُ الطيرُ أو تهوي بهِ الرِّيحُ في مكانٍ سحيق}[الحج 31]،فتعاد روحه في جسده،ويأتيه ملكان فيُجلسانه،فيقولان له:من ربّك؟فيقول:هاه هاه،لا أدري،فيقولا له:ما دينك؟فيقول: هاه هاه ،لا أدري،فيقولان له:ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟فيقول:هاه هاه لا أدري،فينادي منادٍ من السّماء:أن كذب،فافرشوا له من النار،وافتحوا له باباً إلى النار،فيأتيه من حرّها وسمومها،ويُضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه،ويأتيه رجلٌ قبيح الوجه،قبيح الثوب،مُنتن الريح،فيقول:أبشر بالذي يسوءك،هذا يومك الذي كنت تُوعد،فيقول:من أنت؟فوجهكَ الوجه يجىء بالشرِّ،فيقول:أنا عملك الخبيث،فيقول:ربِّ لا تُقم الساعة”[رواه أحمد وأهل السنن إلا الترمذي].
جاء في تفسير ابن كثير رحمه الله:”الملائكة حين تنزع أرواح بني آدم،فمنهم من تأخذ روحه بعسر فتغرق في نزعها،ومنهم من تأخذ روحه بسهولة وكأنما حلته من نشاط.
وجاء في تفسير القرطبي رحمه الله:”الملائكة التي تنزع أرواح الكفار.قال ابن مسعود:يريد أنفس الكفار ينزعها ملك الموت من أجسادهم،من تحت كل شعرة،ومن تحت الأظافر وأصول القدمين نزعاً كالسفود ينزع من الصوف الرطب، يغرقها،أي يرجعها في أجسادهم،ثم ينزعها فهذا عمله بالكفار”.
ويقول الشيخ الدكتور العلامة يوسف القرضاوي حفظه الله:
“النازعات،فما النازعات؟
النازعات قد اختلف في تعيينها،وتحديدها مفسرو السلف.فمنهم من قال:إنها الملائكة،يعنون:حين نزع أرواح البشر،فمنهم من تأخذ روحه بعنف فتغرق في نزعها.ومنهم من تأخذ روحه بسهولة وكأنما حلته من نشاط وعقال.
قال الإمام الرازي في تفسيره الكبير:”والنازعات غرقاً“:هي الملائكة الذين ينزعون نفوس بني آدم،فإذا نزعوا نفس الكفار نزعوها بشدة،وهو مأخوذ من قولهم:نزع في القوس فأغرق،يقال: أغرق النازع في القوس،إذا بلغ غاية المدى،حتى ينتهي إلى النصل.فتقدير الىية:والنازعات إغراقاً.والغرق والإغراق في اللغة بمعنى واحد.
وقوله”والناشطات نشطاً“النشط:هو الجذب،يقال:نشطت الدلو أنشطها وأنشطتها نشطا:نزعتها برفق،والمراد:هي الملائكة التي تنشط روح المؤمن فتقبضها،وإنما خصصنا هذا بالمؤمن والأول بالكافر،لما بين النزع والنشط من الفرق،فالنزع جذب بشدة،والنشط جذب برفق ولين،فالملائكة تنشط أرواح المؤمنين ،كما تنشط الدلو من البئر.
أما قوله:”والسابحات سبحاً”،فمنهم من خصصه أيضاً بملائكة قبض الأرواح،ومنهم من حمله على سائر طوائف الملائكة.
أما الوجه الأول:فنقل عن علي وابن عباس رضي الله عنهم،وعن مسروق رحمه الله:أن الملائكة يسلون أرواح المؤمنين سلاً رفيقاًنفهذا هو المراد من قوله”والناشطات نشطا” ثم يتركونها حتى تستريح رويداً،ثم يستخرجونها بعد ذلك برفق ولطافة،كالذي يسبح في الماء فإنه يتحرك برفق ولطافة لئلا يغرق،فكذا ها هنا يرفقون في ذلك الاستخراج،لئلا يصل إليه ألم وشدة،فذاك هو المراد من قوله:”والسابحات سبحا”.
وأما قوله:”فالسابقات سبقا” فمنهم من فسره بملائكة قبض الأرواح يسبقون بأرواح الكفار إلى النار،وبأرواح المؤمنين إلى الجنة، ومنهم من فسره بسائر طوائف الملائكة”.
الموت كتاب مؤجل:
ويقول الشيخ الشعراوي رحمه الله في قوله تعالى:{وما كان لنفسٍ أن تموتَ إلا بإذنِ الله كتاباً مؤجلاً} [آل عمران 145]،يقول رحمه الله:
“هذا القول قد يدفع إلى التساؤل:وهل الموت أمر اختياري؟لا،ولكن تعبير الحق سبحانه له إيحاء،لأنك عندما تقول:ما كان لفلان أن يفعل كذا،فهذا معناه أن لفلان أن يختار أن يفعل ذلك أو لا يفعله،وفي قدرة فلان أن يفعل أو لا يفعل.أما عن قدرة الله فلا يمكن أن يقول أحد ذلك.
إننا نفهمه على فرض أن النفس تدفع نفسها إلى موارد التهلكة،فما لها أن تموت إلا بإذن الله.فإذا كانت النفس هي التي تدفع نفسها إلى موارد التهلكة،ومع ذلك لا تملك أن تموت،فكيف إذا لم تدفع نفسها إلى موارد التهلكة.إذن فالموت إن أرادته النفس فلن يأتي إلا أن يكون الله قد أذن بذلك.وإننا نجد في واقع الحياة صوراً شتى من هذه الصور.
نجد من يضيق ذرعاً بهذه الحياة،لأن طاقته الإيمانية لا تتسع للبلاء والكدّ في الدنيا فينتحر،إنه يريد أن يفر مما لا يقدر على دفعِ أسبابه.أما الذي يملك الطاقة الإيمانية الرحبة فأي شقاء أو بلاء يقابله بقول:إن لي رباً،وما أجراه عليّ ربي فهو المربي الحكيم الذي يعرف مصلحتي أكثر مما أعلم،ولعل هذا البلاء كفارة لي عن ذنب.
وهذا عكس من يفر مما لايقدر على دفع أسبابه،فيحاول أن يقتل نفسه،وكل منا قد رأى أو سمع عن بعض الذين يريدون ذلك لكن يتم إنقاذهم ويدركهم من ينفذ مشيئة الله في إنقاذهم،كغسيل المعدة لمن ابتلع أقراصاً سامة،أو إطفاء حريق من أشعل في نفسه النار.فالمنتحر يريد لنفسه الموت ولكن الله إذا لم يأذن،فلا يبلغه الله هذا،فقد تجد منتحراً يريد أن يطلق على نفسه رصاصة من مسدس فلا تنطلق الرصاصة،أو تجد مُنتحراً آخر يريد أن يشنق نفسه بحبل معلق في السقف فينقطع الحبل،لماذا؟لا يقبض الحياة إلا من وهب الحياة.
إن الكتاب إذا انطوى فقد انتهى الأمر،حتى عندما يلتقي الإنسان بأسد،فيستوي الموت بالناب،كالموت بظفر الأسد.فإن نام الموت عن الإنسان فقد يشفيه من أمراضه قرص دواء أو جرعة ماء.أما إن استيقظ الموت فالطب والعلاج قد يكونا ذنباً أو أداة للموت.
والحق يقول:{وما كان لنفسٍ أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلا}.ولنلحظ قوله”بإذن الله” فهي تدلنا على أن الله هو الذي يطلق الأذن.والإذن يكون للملائكة ليقوموا بهذه المسألة،ولذلك نجد القرآن الكريم حين يتعرض لهذه المسألة يسند مرة هذه العملية لله فيقول سبحانه:{الله الذي يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيُمسك التي قضى عليها الموت ويُرسل الأخرى إلى أجلٍ مسمى إن في ذلك لآياتٍ لقومٍ يتفكرون}[الزمر 42].
ومرة أخرى يسند القرآن هذه العملية لملك واحد:{قل يتوفاكم ملكُ الموت الذي وُكل بكم ثم إلى ربكم تُرجعون}[السجدة 11].
ومرة يسنده الحق سبحانه إلى رسل من المعاونين لملك الموت:{وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظةً حتى إذا جاءَ أحدكم الموتُ توفته رسلنا وهم لا يُفرطون}[الأنعام 61].
والحق سبحانه وتعالى صادق في كل بلاغ عنه،لأن كل أمر يحدد الأجل ليس بمراد الموكل بإنهاء الأجل،إنما هو من بإذن الله تعالى الذي يحدد ذلك.
وصيرورة الأمر بالموت إلى الملائكة ببلاغ من الله،هذا هو الإذن،والإذن يقتضي مأذوناً،والمأذون هم ملائكة الموت الذين أذن لهم ملك الموت بذلك،وملك الموت تلقى الإذن من الله سبحانه وتعالى”.
وفي قوله تعالى: {وهوَ القاهرُ فوقَ عِبادهِ ويُرسِلُ عليكُم حَفظةً حتَّى إذا جاءَ أحدَكُمُ الموتُ توفَّتهُ رُسُلنَا وهُم لا يُفرِّطُونَ* ثُمَّ رُدُّوا إلى الله مَولاهُمُ الحَقِّ ألا لهُ الحُكْمُ وهو أسرعُ الحاسبينَ } [الأنعام 61-62 ]، وقوله سبحانه :{ قُلْ يتوفَّاكُم مَّلكُ الموتِ الَّذي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إلى ربكُمْ تُرجعونَ }[السجدة 11 ]،بيانٌ أن ملك الموت موكلٌ من خالقه تبارك وتعالى بمهمة قبض الارواح واستلالها من الأجسام وإخراجها منها، يساعده في ذلك عدد آخر من الملائكة .
موت الفجأة:
يراد بموت الفجأة :الموت الذي يأتي بغتة على حين غفلة،ووقوعه بلا سبب سابق مؤدي له كمرض وغيره،ودون حدوث معاناة أو مشقة من مقدماته أو سكراته.ويسمى أيضاً موت الفوات،أو موت السكتة.
ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذة من موت الفجأة،وإنما الحديث الصحيح:”اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك،وتحول عافيتك،وفجاءة نقمتك،وجميع سخطك“[أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما].أما ما ورد من استعاذة النبي عليه الصلاة والسلام من موت الفجأة فقد بين العلماء إن في إسناد ذلك الحديث ضعف ولا يصحّ.
ولكن من علامات الساعة كما ورد في الحديث الشريف ازدياد عدد حالات الموت فجأة .قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”إن من أمارات الساعة أن يظهر موت الفجأة”[رواه الطبراني وحسنه الألباني عن أنس بن مالك رضي الله عنه].وهذا مانراه في العصور الأخيرة حيث ازدادت عدد حالات الوفاة فجأة بسبب الحروب والمجاعات والأوبئة وأمراض القلب والصدر وازياد عدد حالات الحوادث بالسيارات والطائرات والنكبات والزلازل وغيرها.
يقول الأستاذ فيصل بن عبد الرحمن السندي(موقع صيد الفوائد):
“وأكثر ما يخافه المؤمن في الموت أن يباغته وهو لم يتهيأ له،وإلا فإن المقدم على الموت لمرض أو نحوه تتغير حياته في آخر أيامه،فترخص عنده الدنيا وتعظم الآخرة،فيكون ما ألمَّ به من علامات الموت ومقدماته خيراً له،ذلك أن من عادة الإنسان التسويف في التوبة والعمل الصالح،وطول الأمل والرغبة في الدنيا،وكل ذلك من الغرور والشيطان.
ومن عجيب ما يقدر الله تعالى على الإنسان موت الفجأة،ويكون عاماً وخاصاً:
أما العام فيشمل أهل بلاد بوقوع وباء مهلك يحصد الأرواح،ويملأ المقابر،ويتساقط الناس فيه سراعاً،حتى تفنى أسر وعشائر بكاملها،وتغلق دور وتخلو من ساكنيها،وحفار القبور لا يرفع ظهره من كثرة من يدفنون ،وقد وقع ذلك كثيراً في القديم والحديث،وفي الشرق والغرب.
وأما الخاص فيقع لفرد أو أسرة على إثر هدم أو حريق أو غرق أو نحوه،ثم كانت حوادث السيارات في العصر الحاضر من أوسع المجالات الفردية لموت الفجأة.
وقد يموت العبد بشىء لا يظن أنه يموت به أبداً،وكم من ضربة لا تؤلم مات المضروب بها،وليست إلا مقادير قُدرت على بني آدم،كانت هذه أسبابها،كبرت الأسباب أم صغرت.
وموت الفجأة لا يُذم ولا يُمدح،فقد يكون رحمة للمؤمن الطائع كما يكون عقوبة على الكافر والفاجر،فمن كان مستعداً للموت كل حين بالإيمان والعمل الصالح فإن موت الفجأة رحمة في حقه،وتخفيف عليه.ومن كان متثاقلاً عن الطاعات،مسارعاً إلى المحرمات فإن موت الفجأة نقمة عليه وعذاب في حقه،لأن الميت يبعث يوم القيامة على ما مات عليه،ولأنه لا يتمكن من التوبة،ومن أداء ما عليه من الحقوق،ولذا كان موت الفجأة كأخذة الغضب،وجاء في حديث عن أبي داود عن عُبيد بن خالد السلمي :”موت الفجأة أخذةُ أسف”[صححه الألباني].قال النخعي رحمه الله تعالى:إن كانوا ليكرهون أخذة كأخذة الأسف أي الغضب.
وموت الفجأة لا يخرج عن قدر الله تعالى وتدبيره،ومعلوم أن الدعاء يرد القدر،وكان من دعاء النبي عليه الصلاة والسلام:”اللهم إني أعوذُ بك من الهدم وأعوذُ بك من التردي وأعوذ بك من الغرق والحرق….”[راه أبو داود عن أبي اليسر رضي الله عنه].
وموت الفجأة قد يكون من فجاءة النقمة،ثم إن فجع الإنسان بموت صفي أو قريب فيه زوال النعمة،وتحول العافية،ولذا تعوذ النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك،وحري بمن يخاف الفواجع والمفاجأت أن يحافظ على هذا الدعاء المبارك.
ولما كان موت الفجأة أخذه أسف في حق المفرط،والأسف هو الغضبان،فإن مما يطفىء غضب الله تعالى الصدقة كما جاء عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”إنَّ الصدقة لَتطفىءُ غضبَ الربّ وتدفعُ عن ميتة السوء”[رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب،وصححه ابن حبان]”.
وجاء في موقع إسلام ويب عن موت الفجأة:
“جاء في الحديث الشريف عن عبيد بن خالد السلمي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:”موت الفجأة أخذةُ أسف”[رواه أحمد وأبو داود].
إذا غضضنا الطرف عن الاختلاف اليسير في مسألة وقف الحديث ورفعه في ظل وجود عدد من العلماء الذين يصححونه،فإن وصف النبي صلى الله عليه وسلم لموت الفجأة بأنه”أخذة أسف”قد تفهم بأنها حالة تستوجب الذم،فالأسف من حيث الأصل اللغوي هو الغضب،ومنه قوله تعالى:{فلما آسفونا انتقمنا منهم}[الزخرف 55].وهذا يقودنا إلى السؤال التالي:هل موت الفجأة بحد ذاته مذموم؟أو أنه كما يقال أمارةٌ على سوء الخاتمة؟
إن النصوص الشرعية من حيث الأصل لا تدل على أن الموت السريع دون معالجة السكرات التي يراها الناس في المحتضرين ذات دلالة مذمومة بحيث يُظن بصاحبها ظن السوء،وهذا ما يشير إليه العلماء وله دلائل من الشرع.فقد بوّب الإمام البخاري رحمه الله باباً في صحيحه وعنوّنه:باب موت الفجأة البغتة،وأورد بعده حديث عائشة رضي الله عنها أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم إن أمي افتلتت نفسها،وأظنها لو تكلمت تصدقت،فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟قال نعم)،والمقصود بالافتلات :الموت بغتة.
والفيصل في المسألة أن الذمّ في موت الفجأة لا من حيث الاصل،ولكن من حيث ما يترتب عليه،فميت الفجأة لا تتاح له الفرصة في أن يُلقن الشهادة كما هو الحال للمحتضرين الآخرين،وقد لا يكون مستعداً للقاء الله،بخلاف من تقدّمت له الدلائل وساق الله تعالى له من الشواهد على قرب مفارقته للدنيا،فاستعد للقاء خالقه ومولاه،وليس هذا بحاصلٍ لمن يفجؤه الموت.
ويمكن النظر إلى موت الفجأة من زاوية أخرى،بأن يقال:هو يختلف باختلاف متعلقه،فإن تعلق بأهل الصلاح والتقوى،كان رحمة من الله لأصحابه،إذ خفف عنهم سكرات الموت وصانهم من معالجة شدّته،وإن تعلّق بأهل الفسق والفجور كان نقمة من الله عليهم،إذ لم يمهلهم حتى يتوبوا ويتداركوا أمرهم،وبذلك يكون رحمةً للصالحين،ونقمة على الكافرين،والفاسقين ،وقد جاء عن عبد الله بن مسعود وعائشة رضي الله عنهما قولهم:”هو أسف على الفاجر،وراحة للمؤمن”.
هذا هو موت الفجأة وانسلال الروح على حين غرة،فلا مقدمات ولا علامات،ولا أمارات ولا دلالات،ولا إمهال ولا إخطار،فليحذر كل الحذر المتهاونون الغافلون،الذين غرّهم طول الأمل،وغرّهم بالله الغرور،ولينتبه المسوفون للتوبة،والمشتغلون بحطام الدنيا ومتاعها،ولابد من المحاسبة الجادة للنفس،والعودة إلى الله تعالى،قبل أن يفجأ الموت،ولات حين مندم،قال الله تعالى:{أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين*أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين*أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين}[الزمر 56 ـ 58].
سكرات الموت والأنبياء والصالحين:
فمقتضى الحديث أن الأصل في احتضار الكافر الشدّة،والأصل في احتضار المؤمن السهولة واليسر، ويستثنى من هذا الأصل أن تحصل الشدة في انتزاع الروح للمؤمن تكفيراً لسيئاته وتعظيماً لدرجاته، وإعلاءً لمكانته .
ويشهد للإستثناء المذكور آنفاً قول زيد بن أسلم مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه :” إذا بقي على المؤمن من ذنوبه شئ لم يبلغه بعمله، شُدّد عليه الموت ليبلغ بسكرات الموت وشدائده درجته من الجنة “. وروي بهذا المعنى حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :”الموت كفارة لكل مسلم ” [رواه البيهقي في شعب الإيمان وقال أبو بكر بن العربي في سراج المريدين:حديث صحيح حسن].
وفي ضوء التقريرالسابق يمكننا فهم ما قاساه الأنبياء من شدّة هذه السكرات،ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم عبرة، فإنه وإن كان سيد الخلق وحامل لواء الحمد وصاحب الحوض والشفاعة،وأقرب من دنا إلى الربّ تبارك وتعالى حسّاً ومعنى،إلا أنه ذاق من ذات الكأس المريرة، تروي لنا عائشة رضي الله عنها تلك اللحظات فتقول:”إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بين يديه ركوة–أي علبة فيها ماء-فجعل يدخل يديه في الماء،فيمسح بهما وجهه ويقول:”لا إله إلا الله إن للموت سكرات“[ رواه البخاري ].
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : لما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من كرب الموت ما وجد، قالت فاطمة: واكرب أبتاه، فقال لها عليه الصلاة والسلام :” لا كرب على أبيك بعد اليوم، إنه قد حضر من أبيك ما ليس بتارك منه أحدا،الموافاة يوم القيامة “[ رواه ابن ماجة ].
وبيّن الإمام الطحاوي أن لتشديد الموت على الأنبياء فائدتان :
إحداهما : تكميل فضائلهم ورفع درجاتهم،وليس من باب العذاب والمجازاة،واستدّل بالحديث الصحيح القائل:عن مصعب بن سعد عن أبيه،قال: قلت: يارسول الله،أيُّ الناسِ أشد بلاءً؟قال:”الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل“[رواه الترمذي وابن ماجه وصححه الألباني]
الثانية : أن يعرف الخلق أن ألم الموت وشدّته حاصلة ولو لم تظهر على العصاة والمذنبين المستحقين لها فإن بعض الكفرة أو العصاة قد يموتون فلا يُرى عليهم أثر النزع،ويظن الظان سهولة أمر الموت، فكان من الحكمة الإلهية تقدير شئ من هذه الشدة على بعض أنبيائه، ليكون إخبارهم عنها مع كرامتهم على الله تعالى دليلاً قاطعاعلى هذه السكرات لإخبار الصادقين عنه،وبياناً أن ألم الموت قد لا يكون ظاهراً للعيان وخفاؤه لا يعني بالضرورة انتفاؤه .
أما أسعد الناس في الموت فهم الشهداءعند ربهم، فقد ثبت في السنة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :” ما يجد الشهيد مسّ القتل،إلا كما يجد أحدكم من القرصة “[رواه أصحاب السن غير أبي داود] .
تلقين المحتضر:
وفي السنة النبوية:تلقين الميت،والمراد بتلقين الميت أن يكون عنده من يذكره بلا إله إلا الله،فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”لقنوا موتاكم لا إله إلا الله“[رواه مسلم].وجاء في الحديث النبوي الشريف:”من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة“[رواه أبو داود وهو حديث صحيح،صححه الألباني].
وقال أنس بن سيرين:شهدت أنس بن مالك وقد حضره الموت فجعل يقول:”لقنوني لا إله إلا الله،فلم يزل يقولها حتى قُبض رضي الله عنه”.
ويستحب إغماض عيني الميت بعد قبض روحه.
دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة،وقد انشق بصره،فأغمضه،ثم قال:”إن الروح إذا قبض تبعه البصر فضج ناس من أهله“[رواه مسلم].
حسن الظن عند الاحتضار:
يقول ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين:
“الخوف والرجاء كجناحي الطائر،إذا استويا استوى الطائر وتمّ طيرانه،وإذا نقص أحدهما وقع الطائر في النقص،وإن ذهب أحدهما أو كلاهما،صار الطائر عرضة للهلاك”،وقال تعالى جامعاً بينهما:{أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذرُ الآخرة ويرجو رحمة ربه}[الزمر 9].
ولا يجتمع الخوف والرجاء في قلب العبد عند سكرات الموت إلا أعطاه الله ما يرجوه من الرحمة،وأجاره مما يخافه من العقوبة،وأنعم عليه بالمغفرة.
وفي رواية أن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل على شاب في الموت،فقال:”كيف تجدك؟”قال:والله يا رسول الله إني أرجو الله وإني أخاف ذنوبي،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو،وآمنّه مما يخاف“[رواه الترمذي وابن ماجة وحسنه الألباني عن أنس رضي الله عنه].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاث:”لا يموتنَّ أحدكم إلا وهو يُحسنُ الظنَّ بالله”[رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه].
وجاء في الحديث الصحيح:”قال الله عز وجل:أنا عند ظن عبدي بي،إن ظنَّ خيراً فله،وإن ظنَّ شراً فله”[أخرجه الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه].
وروى الإمام أحمد بمسنده أن عقبة بن عمرو أبا مسعود البدري الأنصاري قال لحذيفة بن اليمان رضي الله عنهما ألا تحدثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:سمعته صلى الله عليه وسلم يقول:”إن رجلاً حضره الموت،فلما يئس من الحياة أوصى أهله إذا أنا متّ فاجمعوا حطباً كثيراً جزلاً،ثم أوقدوا فيه ناراً،حتى إذا أكلت لحمي وخلصت إلى عظمي فامتحشت،فخذوها،فدقوها،فذرّوها في اليم،ففعلوا،فجمعه الله تعالى إليه ثم قال له:لم فعلت ذلك؟قال: من خشيتك،فغفر الله عز وجل له”وقد ورد الحديث في صحيحي البخاري ومسلم بألفاظ كثيرة جاء في بعضها”فأمر الله تعالى البحر فجمع ما فيه،وأمر البر فجمع ما فيه،قال له :كن فإذا هو رجل قائم،قال:ما حملك على ما صنعت؟قال: مخافتك وأنت أعلم فما تلافاه أن غفر له”
(المحش:احتراق الجلد وظهور العظم).
فالإنسان المفارق لدنياه،المقبل على مولاه،لم يبق له إلا التعلق بعفو الله ورحمته،وعظيم فضله،ورجاء كرمه،ولا بد أن يسبق إلى ذهنه في هذه اللحظة أن رحمة الله وسعت كل شىء،وأنها غلبت غضبه،وأن عفو الله أحب إليه من الانتقام،ولأن الشيطان يأتيه ويجعله يسخط على الله،أو يخوّفه فيما هو قادم عليه،فحسن الظن بالله أقوى سلاح يدفع به عن وساوس الشيطان ونفثاته .
وهذا هو حسن الظن بالله،والذي ينبغي أن يكون عليه كل من نزل به الموت،حتى يحب لقاء الله،فيحب الله لقاءه.
بعد الموت ماذا أريد أن يقال عني:
سأل محرر الدنيا الأستاذ الكاتب العظيم مصطفى صادق الرافعي هذا السؤال قبل موته بشهرين فأجابه ونشر المقال في مجلة الرسالة العدد203:
“ماهي الكلمات التي تقال عن الحي بعد موته إلا ترجمة أعماله في كلمات؟فمن عرف حقيقة الحياة عرف أنه فيها ليهيىء لنفسه ما يحسن أن يأخذه،ويعد للناس ما يحسن أن يتركه،فإن الأعمال أشياء حقيقة لها صورها الموجودة وإن كانت لاترى.
وبعد الموت يقول الناس أقوال ضمائرهم لا أقوال ألسنتهم،إذ تنقطع مادة العداوة بذهاب من كان عدواً،وتخلص معاني الصداقة بفقد الصديق،ويرتفع الحسد بموت المحسود،وتبطل المجاملة باختفاء من يجاملونه،وتبقى الأعمال تنبه إلى قيمة عاملها،ويفرغ المكان فيدل على قدر من كان فيه،وينتزع من الزمن ليل الميت ونهاره فيذهب اسمه عن شخصه ويبقى على أعماله.
ومن هنا كان الموت أصدق وأتم ما يعرف الناس بالناس،وكانت الكلمة بعده عن الميت خالصة مصفاة لا يشوبها كذب الدنيا على إنسانها،ولا كذب الإنسان على دنياه وهي الكلمة التي لا تقال لإلا في النهاية،ومن أجل ذلك تجىء وفيها نهاية ما تضمر النفس للنفس.
أما أنا فماذا ترى روحي وهي في الغمام وقد أصبح الشىء عندها لا يسمى شيئاً؟إنها سترى هذه الأقوال كلها فارغة من المعنى اللغوي الذي تدل عليه لاتفهم منه شيئاً إلا معنى واحداً هو حركة نفس القائل،وخفقة ضميره.فشعور القلب التأثر هو وحده اللغة المفهومة بين الحي والميت.
سترى روحي أن هؤلاء الناس جميعاً كالأشجار المنبعثة من التراب عالية فوقه وثابتة فيه،وستبحث منهم لا عن الجذوع والأغصان والأوراق والظاهر والباطن،بل عن شىء واحد هو هذه الثمرة الإنسانية السماوية المسماة القلب.وكل كلمة دعاء وكلمة ترحم وكلمة خير.ذلك ما تذوقه الروح من حلاوة هذه الثمرة.
الصبر والاحتساب لأهل الميت:
والاحتضار هو فترة عصيبة وشدّة غير مألوفة تصيب المحتضر،ولكن في نفس الوقت هناك الحزن والتأثر والاحتساب من أهل المحتضر.ولعل موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وفاة ابنه إبراهيم من ماريا القبطية يعطينا مثالاً على الصبر والاحتساب والامتثال لقدر الله بدون شكوى ولا جزع.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سيف القين،وكان ظئراً لإبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم،فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقبّله وشمّه،ثم دخل عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه،فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان!فقال له عبد الرحمن بن عوف:وأنت يا رسول الله؟فقال صلى الله عليه وسلم:”إن العين تدمع،والقلب يحزن،ولا نقول إلا ما يرضي ربنا،وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون“[رواهى البخاري].وكان ذلك في شهر ربيع الأول السنة العاشرة للهجرة،وكان عمره ستة عشر شهراً.
الأستاذ أحمد حسن الزيات رحمه الله يصف كيف مات ابراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وموقف رسول الله صلى الله عليه وسلم (وحي الرسالة ج1 ص316-317):
“ولكن أنبياء الله موضع بلائه وسر حكمته ! دعوتهم الحقّ والحقّ ثقيل،وعدّتهم الصبر كليل،وبرهانهم الألم والألم قاتل ! غرباء في الأرض لأنهم من السماء،وأغراض لسهام القدر لأنهم ضحايا، وأمثلة لبؤس العيش لأنهم عِبَر! هذا ابراهيم حبّة قلب أبيه وسواد عين اُمه مسبوتاً على فراش المرض تحت النخيل ! تذوي نضارته على وهج الحُمّى،وتذوب حشاشته على عراك الموت وأمه وخالته قائمتان على سريره تشبهان منظراً يهون في جانبه على الوالدين الجنون والكفر والعدم ! وهذا أبو ابراهيم يضعضعه النبأ المرّوع فيتحامل على عبد الرحمن بن عوف،ويمشي ثقيل الخطى لهيف الفؤاد على الصغير المحتضر ! أخذ النبي إبراهيم من حجر أمه فوضعه في حجره، ثم نظر من خلال الدمع إلى قسماته المشرقة تغشّاها ظلال الموت وقال بصوت متهدج وفؤاد متأجج واستسلام مطمئن :” إنا يا ابراهيم لا نغني عنك من الله شيئاً ” ثم يقول:” إن العين لتدمع وإن القلب ليجزع،وإنا بعدك يا إبراهيم لمحزونون،أما والله لولا أنه أمر حقّ ووعد صدق وأن آخرنا سيلحق بأولنا، لحزنا عليك بأشدّ من هذا”.
ومن مات له قريب فليحتسب ويصبر ويسعى في نفعه بالصدقة عنه،والدعاء له،وإبراء ذمته في الحقوق التي عليه.
يقول الأستاذ محمد رجب البيومي(الرسالة العدد 926):
“يقع الموت على الإنسان فيخطفه من بين أهله وذويه،ويحمله إلى حفرة دامسة حالكة،لا يسطع فيها نجم ولا يهب بها نسيم،ووراءه أكباد تتقطع حسرة على فراقه،ودموع تتساقط حزناً على غربته،وأجسام ترتدي السواد،فتثير كامن اللوعة ودفين الوجد.
وقد يحاول كثير من المرزوئين في أحبائهم وأعزائهم التجلد والتماسك فيظهرون الرضا والاستسلام بضع ساعات،ثم تهب عليهم الذكريات الموجعة فتطير الأمن وتمزق الصبر،ويصبح الصابر القانع،كالهالع الجازع،فريسة في أيدي الحزن يمزق أحشاءه،ويريق دموعه،حتى يمنّ الله عليه بالسلو مرة ثانية فيتماسك ويتجلد،إلى حين محدود…
ولعل غموض الموت سبب أصيل للحيرة التي يعانيها الإنسان من جرائه،فلو أدرك المرء أمره ،وما يعقبه من خطوات مستترة خافية،لا تنتهي إلى نتيجة معينة،ووقف عند حد لا يقبل التجاوز ووطد العزم على قبوله راضياً أو كارهاً،وهنا تتبدد الحيرة وينتهي التساؤل،ولكن ذلك لن يكون ،فالباب موصد،تعلوه الأقفال،ولن يزال ما وراءه خافياً عن الإفهام.
قضايا فقهية:
1 ـ موت القلب وموت الدماغ
يقول الدكتور محمد علي البار:
“لابد من تعريف للموت،ومعرفة علاماته وكيفية تشخيصه.ورغم أن ملايين البشر قد أتوا إلى الدنيا ثم مانوا،ورحلوا عنها دون الحاجة إلى طببيب لتشخيص ذلك،إلا أن كثيراً من الحالات تم فيها تشخيص الموت خطأ،وأدى ذلك إلى دفن بعض الأحياء،ثم تبين أن هؤلاء لم يموتوا بعد،وقد كتب ابن أبي الدنيا كتاباً فيمن عاش بعد الموت.وكذلك كتب”ادجار آلان بو”مجموعة من القصص ؤتحكي حوادث لأشخاص دفنوا وهم أحياء،وكتب”الكونت كارنيس كارنيكي” مجموعة من الاقتراحات والتوصيات،مثل أن يوضع في النعش أعلام وأجراس،وتفتح كوة من القبر بحيث يستخدمها الشخص إذا دفن أثناء غيبوبته وهو لم يمت بعد.
وإذا كان نشخيص الموت لمن عاش ثم فقد الوعي أمراً عسيراً في بعض الأحيان،فإن تشخيص الموت في المولود أكثر صعوبة.وقد كان القدماء يُعدّون الطفل المولود ميتاً،مالم يستهل صارخاً،وكم من المواليد ينزلون دون أن يبدأوا حياتهم بالصراخ؟وقد أدى هذا الإجراء إلى دفن آلاف الأطفال المواليد الذين كانوا يعانون من صعوبة ما في التنفس،وبالتالي لم يبدأوا حياتهم بالصراخ.
يقول فضيلة مفتي تونس الشيخ محمد مختار السلامي موضحاً آراء الفقهاء الأقدمين في المولود الذي لم يستهل صارخاً:”يقول خليل بن اسحاق:ولا سقط ما لم يستهل صارخاً،ولو تحرك أو بال،أو رضع.إن هذه الفقرة تجعل مقياس الحياة الصوت.وقد فصل اللخمي ماتكون به الحياة فقال:”اختلف في الحركة والرضاع والعطاس،فقال مالك”لا يكون بذلك حكم الحياة.قال ابن حبيب:”وإن أقام يوماً يتنفس ويفتح عينيه ويتحرك حتى يسمع له صوت،وإن كان خفياً.قال إسماعيل:”وحركته كحركته في البطن لا يحكم له فيها بحياة.قال عبد الوهاب:”وقد يتحرك المقتول.وعارض هذا المازري وقال:”لامعنى لإنكار دلالة الرضاع على الحياة،لأنا نعلم يقيناً أنه محال بالعادة أن يرضع الميت.وليس الرضاع من الأفعال التي تكون بين الطبيعة والاختيارية،كما قال ابن الماجشون:”إن العطاس يكون من الريح،والبول من استرخاء المواسك،لأن الرضاع لايكون إلامن القصد إليه،والتشكك في دلالته على الحياة يطرق إلى هدم قواعد ضرورية،والصواب ما قاله ابن وهب وغيره أنه كالاستهلال بالصراخ.
وقد زعم بعض الفقهاء الاقدمين أن عمر رضي الله عنه لما طُعن كان معدوداً في الاموات،رغم أنه كان يتكلم ويعهد.وذلك لأن الطبيب سقاه لبناً فخرج اللبن من الجرح من بطنه.وقال ابن القاسم:”إنه لو قتل رجل عمر آنذاك لما قُتل به،لأن القاتل هو الأول،وهو أبو لؤلؤة المجوسي غلام المغيرة بن شعبة،ولو مات مُورث لعمر آنذاك لما ورثه لأن عمر نفسه كان معدوداً في الاموات.
وهذا كله يدل على شيئين:أولهما:أن الطب كان متأخراً في تلك الازمنة،بحيث يعد عمر رضي الله عنه في الأموات،ولو حدث مثل ذلك في العصر الحديث لأمكن إنقاذه بسهولة.
والثاني:أن تعريف الموت ينبغي لأن يترك إلى الفئة المختصة بذلك،وهم الأطباء والله سبحانه وتعالى يقول:{فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}[النحل 43].
ولا شك أن تشخيص الموت أمر قد تكتنفه الصعوبات،ولذا فإن تُرك للعامة فإن احتمال خطا في التشخيص سيؤدي إلى الحكم على العديد من الاشخاص بالموت،وهم لايزالون أحياء.
1 ـ تعريف الموت:
إن تعريف الموت مثل تعريف الحياة،أمر تكتنفه كثير من الصعوبات،رغم أن العلامات الفارقة بين الموت والحياة،وبين الكائن الحي والجماد،أمر يدركه الإنسان بفطرته،كما يدركه بمعارفه.فالكائن الحي يتنفس ويتغذى وينمو ويتكاثر،ويتحرك ثم تختلف بعد ذلك طرق التنفس والغذاء والنمو،والتكاثر والحركة بأشكالها المتعددة التي لا تعد ولا تحصى،وأصعب تلك الكائنات تحديداً هي الفيروسات،فهي كالجماد لاتتحرك،ولاتنمو ولاتتنفس ولا تتغذى خارج الكائنات الحية،بل تتبلور مثل بعض الجمادات،فإذا مادخلت إلى جسم الكائن الحي،تحكمت في سرِّ السرّ فيه،وجعلته عبداً لها،لايتحرك إلا بمشيئتها،ولا ينقسم إلا حسب أوامرها،وكل انقسام في الخلية المصابة بالفيروس ينتج فيروسات جديدة،تخرج لتهاجم خلايا أخرى،ولولا أن الله يهب الأجسام الحية القدرة على مقاومة هذا الغزو الفيروسي،لأبادت الفيروسات جميع الكائنات الحية ىابتداءً من البكتريا وانتهاءً بالإنسان،وما هو أصعب وأشدّ من الفيروسات مجموعة البرايون التي تسبب جنون البقر وأشباهه فهي مجرد بروتينات ولا يوجد فيها حامض نووي على الإطلاق،ومع هذا تتم العدوى والتكاثر.وقد سببت صدمة لعلماء البيولوجيا.
وفي جسم الكائن الحي المتعدد الخلايا مثل الإنسان أو الحيوان أو النبات تموت ملايين الخلايا كل يوم،ويخلق الله بدلاً عنها ملايين أخرى،ويبقى الكائن الحي على قيد الحياة،مادامت عملية البدء والإعادة مستمرة فيه.
2 ـ المفهوم الديني للموت:
تقرر معظم الأديان والفلسفات الأدبية أن موت الإنسان هو خروج الروح من بدنه،ومغادرته إلى حيث لا نعلم.وهذا المفهوم موجود لدى الأمم القديمة مثل المصريين القدماء والبابليين والآشوريين والصينيين والهنود والإغريق.
وهو موجود إلى اليوم لدى المسلمين واليهود والنصارى والهنادكة والبوذيين وعقائد الشنتو في اليابان.
وفي الإسلام يُعد الموتى خروج الروح من الجسد،وقد وكل الله ملائكة يقومون بإخراج الروح،يقول تعالى:{الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم}،ويقول تعالى:{ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق}،وقال سبحانه:{قل يتوفاكم ملم الموت الذي وُكل بكم ثم إلى ربكم تُرجعون}،وقال تعالى:{إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم}وقال:{ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم}.
والآيات بعد ذلك كثيرة في الكتاب العزيز،الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.وكلها تصرح بأن الموت هو خروج النفس(الروح)من الجسد بواسطة الملائكة.
وقد وردت أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم توضح كيفية إخراج الملائكة لروح المؤمن وروح الكافر،وما في الأول من تيسير،حتى تسيل مثل الماء من فم السقاء،وما في الثاني من تنكيل،حتى تخرج كما يخرج السفود المبلل من كومة من الصوف.
والموت هو انتقال الروح من الجسد إلى ما أعد لها من نعيم أو عذاب،والروح مخلوقة مربوبة،خلقها الله سبحانه وتعالى ثم هي خالدة،والمقصود بالموت مفارقتها الجسد،قال ابن القيم في تعريف الموت:”والصواب أن يقال إن موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها،وخروجها منها،فإن أريد بموتها هذا القدر فهي ذائقة الموت،وإن أريد أنها تعدم وتضمحل وتصير عدماً محضاً فهي لاتموت بهذا الاعتبار”.
وقد ذكر الإمام الغزالي:”إن الموت معناه تغير حال فقط،وأن الروح باقية بعد مفارقة الجسد،إما معذبة وإما منعمة،ومعنى مفارقتها للجسد انقطاع تصرفها عنه،بخروج الجسد عن طاعتها،فإن الأعضاء آلات الروح،والموت عبارة عن استعصاء الأعضاء كلها”.وانتهى إلى القول:”لايمكن كشف الغطاء عن كُنه الموت،إذ لا يعرف الموت من لا يعرف الحياة”.
وقال الإمام الطحاوي:”ونؤمن بِملكِ الموت الموكل بقبض أرواح العالمين”.قال الشارح:”والصواب أن يقال موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها وخروجها منها”.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:”قد استفاضت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الأرواح تقبض وتنعم وتعذب،ويقال لها:أخرجي أيتها الروح الطيبة”.
وذكر الدكتور أبو زيد في بحثه القيم”أجهزة الإنعاش وحقيقة الوفاة بين الفقهاء والأطباء:”إن حقيقة الوفاة هي مفارقة الروح البدن.وإن حقيقة المفارقة خلوص الأعضاء كلها عن الروح،لا يبقى جهاز من أجهزة البدن فيه صفة حياتية”.
3 ـ أمارات الموت عند الفقهاء:
إذا قررنا أن الموت هو مفارقة الروح الجسد،فإننا نقرر أيضاً أن هذا مفهوم ميتافيزيقي(أي من وراء الطبيعة)ولا نستطيع أن ندركه نحن بحواسنا،إذ أننا نجهل أمر الروح وكنهها،لا نعرف دخولها وخروجها إلا بعلامات تدل عليها.
وقد استدل الفقهاء على الموت ببعض الأمارات،وببعض الأحاديث النبوية،ونذكرها كما جاءت في بحث الدكتور بكر أبو زيد رئيس مجمع الفقه الإسلامي بشىء من الاختصار:
1 ـ عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:”إن الروح إذا قُبض أتبعه البصر”[أخرجه مسلم].
2 ـ‘ عن شداد بن أوس يرفعه:”إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر فإن البصر يتبع الروح،وقولوا خيراً،فإنه يؤمن على مايقول أهل الميت”[أخرجه أحمد في مسنده].
فشخوص بصر الميت علامة هامة على قبض روح الميت ومفارقتها لجسده،وقد ذكر الفقهاء علامات الموت عندهم وهي:انقطاع النفس،واسترخاء القدمين وعدم انتصابهما،وانفصال الكفين،وميل الأنف،وامتداد جلدة الوجه،وانخساف الصدغين،وتقلص خصيتيه إلى فوق مع تدلي الجلدة وبرودة البدن.
ولاشك أن هذه العلامات كلها ليست علامات مؤكدة على الموت،ماعدا توقف النفس الذي ينبغي أن يستمر لفترة من الزمن،وقد تنبه بعض الفقهاء إلى احتمالات الخطأ في تشخيص الوفاة،قال الإمام النووي في روضة الطالبين:”فإن شك بأن لا يكون به علة،واحتمل أن يكون به سكتة،أو ظهرت أمارات فع أو غيره،أُخر إلى اليقين بتغير الرائحة أو غيره”.
4 ـ علامات الموت عند الأطباء:
1 ـ توقف التنفس والقلب والدورة الدموية:
يعد توقف التنفس والقلب والدورة الدموية توقفاً لا رجعة فيه،العلامة المميزة والفارقة بين الحياة والموت.
صحيح أن الأطباء يستطيعون إيقاف القلب عن العمل لمدة ساعتين أو أكثر أثناء عملية القلب المفتوح،لكن الدورة الدموية لا تتوقف،ولا لمدة ثوان،وكذلك يوقف التنفس الطبيعي بالتنفس بواسطة المنفسة في جميع حالات التخدير العام،وإجراء العمليات،كما أن التنفس بالمنفسةRespirator يستخدم في حالات توقف التنفس،وقد يجري التنفس في حالات الإسعاف بواسطة النفخ في الفم،أو بواسطة جهاز النفخ(كيس أمبو) الذي يحمله المسعفون في حقائبهم،وفي هذه الحالات جميعاً فإن التنفس يستمر،ولو بطريقة ميكانيكية غير طبيعية،وذلك غالباً ما يكون لفترة محدودة من الزمن،بحيث يعود الشخص المصاب إلى التنفس الطبيعي.
وهناك حالات لا يعود فيها الشخص إلى التنفس الطبيعي،ويبقى معتمداً فيها على المنفسة طوال حياته،كما يحدث في حالات شلل الأطفال الذي يصيب مراكز التنفس في البصلة السيسائيةMedulla،وهو الذي يعرف باسم الشلل البصلي،بسبب إصابة البصلة في الدماغ.
كما أن المصابين بالقصور التنفسي يحتاجون لاستخدام المنفسة،وبالذات المنفسة المساعدة،وهي التي تساعد الشخص على التنفس مع وجود تنفسه الطبيعي،ومثالها جهاز منفسة بينيت وغيرها من أنواع المنفسات.
وأما العلامات الدالة على توقف القلب والدورة الدموية توقفاً لا رجعة فيه فهي:
1 ـ توقف النبض في الشرايين وخاصة الشريان الكعبري أو العضدي أو الصدغي أو السباتي.
2 ـ توقف القلب،ويعتمد في ذلك على عدم سماع أصوات القلب بالسماعة الطبية،وينبغي أن يستمر ذلك التوقف التام لمدة خمس دقائق على الأقل،وفي حالات توقف القلب الفجائي ينبغي أن تستمر محاولات الإسعاف بضغط أسفل القفص الصدري وأسفل القص،بضغط متتال بمعدل 60 مرة في الدقيقة،وفي الوقت نفسه يتم التنفس الاصطناعي بمعدل 10 ـ 15 مرة في الدقيقة(بواسطة التنفس من الفم إلى الفم أو بواسطة جهاز أمبو)ويستخد جهاز مانع الذبذباتDefibrillator لإعادة نبض القلب وذلك بإعطاء شحنة كهربائية للقلب العليل.
وتستمر محاولات الإنقاذ هذه لمدة نصف ساعة،وفي بعض الحالات التي تبدو بها بعض علامات تدل على امكانية عودة الدورة الدموية إلى أكثر من ذلك.
أما إذا توقفت الدورة الدموية توقفاً تاماً لا رجعة فيه،وتوقف التنفس توقفاً تاماً كذلك،رغم محاولات الإنقاذ والإسعاف،فيعلن الطبيب أنذاك وفاة الشخص المصاب.
وهناك علامات أخرى ثانوية لتوقف الدورة الدموية،تذكرها كتب الطبي الشرعي بصورة خاصة،وأغلبهاعلامات وفحوص بسيطة تُجرى في بعض الحالات التي قد يكون فيها نوع من الشك في حالة الوفاة ولا داعي هنا للدخول فيها.
وبطبيعة الحال يتم تشخيص الوفاة بعد توقف القلب والدورة الدموية والتنفس توقفاً لا رجعة فيه،ولا يحتاج الأمر الانتظار حتى تحدث التغيرات الرُميّة،وإنما يتم التشخيص مبكراً.ولكن تشترط كثير من القوانين أن لا يتم الدفن إلا بعد مرور بضع ساعات على تشخيص الوفاة.ففي القانون المصري لايصرح بالدفن إلا بعد مرور 8ساعات صيفاً،و12 ساعة شتاء،على إعلان الوفاة،ولا يسمح بنقل الجثة من السرير في المستشفى إلى الثلاجة أو المشرحة إلا بعد مرور ساعتين على الأقل من تشخيص الوفاة.
ومن المعلوم أن كثيراً من خلايا الميت تبقى حية بعد إعلان الوفاة،ولذا نجد أن الخلايا العضلية تستجيب للتنبيهات الكهربائية،وتبقى بعض خلايا الكبد تحول السكر الجلوكوز إلى غلايكوجين.
ولا تموت الخلايا كلها دفعة واحدة،ولكنها تختلف في سرعة موتها وهلاكها بعد موت الإنسان،ويمكن إطالة عمر هذه الخلايا إذا وضعت في محلول مثلج،وخاصة مع الدفق بواسطة مضخة وهذا ما يتيح استخدام أعضاء وخلايا الميت لشخص آخر مريض محتاج إليها.
5 ـ موت الدماغ:
إن التعريف الطبي القديم للموت،وهو توقف القلب والدورة الدموية والتنفس لا يزال سارياً بالنسبة لمئات الملايين من الوفيات التي تحدث سنوياً.ولكن هناك مجموعة من الحالات لا ينطبق عليها هذا المفهوم بسبب التقدم السريع في وسائل الإنعاش.وعلى سبيل المثال يتوفى في بريطانيا في كل عام نصف مليون شخص حسب التعريف القديم للموت،ولكن هناك أربعة آلاف حالة لاينطبق عليها هذا التعريف نتيجة التقدم الطبي في وسائل الإنعاش،بحيث يستمر القلب في النبض والرئتين في التنفس بواسطة المنفسة.
وتحدث هذه الحالات أساساً نتيجة حادث(سيارة أو غيرها) لشخص سليم في الغالب،وتؤدي هذه الحادثة المروعة إلى إصابة بالغة في الدماغ.وبما أن مراكز التنفس والتحكم في القلب والدورة الدموية موجودة في الدماغ،بالذات في جذع الدماغ،فإن إصابة هذه المراكز إصابة بالغة دائمة تعني الموت.
وعادة ما يقوم الأطباء بمحاولة إنقاذ الحالات المصابة،إذ ربما تكون الإصابة مؤقتة وغير دائمة،فيستخدمون أجهزة الإنعاش بما في ذلك المنفسة التي تقوم بوظيفة الرئتين،وبمساعدة القلب ليستمر في عمله.
وباستخدام هذه الوسائل تستمر الدورة الدموية،ويستمر القلب في الضخ والنبض،وتستر الرئتاتن في التنفس،ولكن عند معاودة الفحص يتبين للأطباء أن الدماغ قد أصيب إصابة لا رجعة فيها،وأن الدماغ قد مات.وبالتالي فإن استمرار عمل القلب والمنفسة إنما هو عمل مؤقت لافائدة منه.إذ أن القلب سيتوقف حتماً خلال ساعات أو أيام على الأكثر من موت الدماغ،وإن كانت هناك حالة موثقة تبين فيها أن القلب استمر في العمل لمدة 68 يوماً بمساعدة الأجهزة بعد موت الدماغ.
ثم ظهرت المدرسة الأمريكية المتمثلة في اللجنة الخاصة من جامعة هارفارد عام 1968م والتي قامت بدراسة موضوع موت الدماغ،ووضعت مواصفاتها الخاصة لهوالتي تمثلت في العلامات التالية:
1 ـ الإغماء الكامل وعدم الاستجابة لأي مؤثرات.
2 ـ عدم الحركة(تلاحظ الجثة لمدة ساعة على الأقل)
3 ـ عدم التنفس(عند إيقاف المنفسة)
4 ـ عدم وجود أي من الأفعال الانعكاسية
5 ـ لايوجد نشاط في تخطيط الدماغ الكهربائي.
ولايعد تخطيط الدماغ إجبارياً،بل هو أمر اختياري.ومؤكد لعلامات موت الدماغ.
ثم قامت مجموعة مينيسوتا عام 1971م بتقديم مواصفات مشابهة مع اختلاف في التفاصيل لتشخيص موت الدماغ.وأكدت علىأن يكون السبب المؤدي إلى موت الدماغ معلوماًوأن لا يكون هناك أي حركة ذاتية في الجثة،وأن يتوقف التنفس توقفاً تاماً بعد إيقاف المنفسة،وأن لا تكون هناك أي أفعال منعكسة،وأن تبقى كل هذه الشروط بدون تغيير خلال 12 ساعة.
ودرست الجمعية الطبية الدولية المنعقدة في سيدنب بأوستراليا عام 1968م موت الدماغ،كما درسه في نفس العام المؤتمر العالمي المنعقد في جنيف في 13 ـ 14 حزيران 1968م.
ثم قامت الكليات الملكية البريطانية بتكوين لجان خاصة لدراسة موت الدماغ،وأصدرت توصياتها وتعريفاتها بموت الدماغ عام 1976م وعام 1979م.
وفي عام 1981م أصدر الرئيس السابق رونالد ريجان أمره بتكوين لجنة من كبار الأطباء المختصين وعلماء الدين والقانونيين لدراسة موضوع موت الدماغ،وأصدرت اللجنة قرارها وتصياتها في تموز عام 1981م.
وقد اعترفت معظم الدول بمفهومموت الدماغ تدريجياً،إما اعترافاً قانونياً كاملاً،وإما اعترافاً بالأمر الواقع،حيث أوكلت إلى الأطباء مهمة تشخيص الوفاة.
وهكذا بدأت منذ بداية الثمانينات حقبة جديدة في مجال تشخيص الوفاة لبعض الحالات الخاصة،والتي يتم فيها الموت نتيجة توقف القلب والدورة الدموية،بل نتيجة موت الدماغ.
الخطوات اأساسية لتشخيص موت الدماغ:
هناك ثلاثة خطوات أساسية لتشخيص موت الدماغ وهي:
ـ الشروط المسبقة:وتشمل الآتي:
1 ـ وجود شخص مغمى عليه إغماءً كاملاً ولا يتنفس إلا بواسطة جهاز التنفس(المنفسة)
2 ـ وجود تشخيص لسبب هذا الإغماء،ويوضح وجود مرض أو إصابة في جذع الدماغ،أو في كل الدماغ،وهذه الإصابة لا يمكن معالجتها ولا التخفيف منها.
ـ أهم أسباب موت الدماغ(جذع الدماغ أو كل الدماغ) وتتلخص في الآتي:
1 ـ إصابات الحوادث:مثل حوادث المرور والطائرات والقطارات وحوادث العمل،أو السقوط من حالق،أو أثناء القفز في المسابح أو في البحر،حيث يقفز الشخص ويرتطم رأسه بحجر،وهذه الحوادث تمثل 50% من جميع حالات موت الدماغ.
2 ـ نزف داخلي في الدماغ بمختلف أسبابه،ويمثل ذلك 30% من جميع حالات موت الدماغ في بريطانيا والدول الصناعية.
3 ـ أورام الدماغ،والتهاب الدماغ،والسحايا،وخراج الدماغ،وتمثل هذه المجموعة حوالي 20% من جميع حالات موت الدماغ.
الخطوة التالية للوصول لتشخيص موت الدماغ بعد استيفاء الشروط المسبقةـ هي عدم وجود سبب من أسباب الإغماء المؤقت والناتجة عن:
1 ـ الكحول والعقاقير مثل الباربيتورات والعقاقير المنومة والمهدئة الأخرى والتي تؤخذ أحياناً بكميات كبيرة أثناء محاولة الانتحار.
2 ـ انخفاض شديد في درجة حرارة الجسم كما يشاهد عندما يفقد شخص في المناطق الثلجية الباردة.
3 ـ حالات الإغماء الناجمة عن زيادة السكر في الدم(السبات السكري) أو نقصانه.
4 ـ حالات الإغماء الناتجة عن إصابة الغدد الصم بزيادة شديدة في الإفراز الهرموني أو النقصان الشديد فيه كما في إصابات الغدة الدرقية أو الكظرية أو النامية.
5 ـ اضطراب الشوارد في الجسم،وحالات الصدمة.
وينبغي أولاً أن تعالج هذه الاسباب المؤقتة جميعاً قبلأن يتم تشخيص موت الدماغ أو جذع الدماغ.
ولا يعني هذا أن هذه الأسباب لا تسبب الوفاة في بعضالحالات،إلا أنه ينبغي التأكد أولاً أن هذه الأسباب قد أدت إلى خلل دائم بالدماغ أو جذع الدماغ في تلك الحالات الخاصة.
الفحوصات السريرية لموت الدماغ:
1 ـ عدم وجود الأفعال الانعكاسية من جذع الدماغ.(منعكسات الحدقة،ومنعكسات الألم للعصب مثلث التوائم،ومنعكس البلع..)
2 ـ عدم وجود تنفس بعد إيقاف المنفسة لمدة 10 دقائق،وبشروط معينة،يتم فيها إجراء هذا الفحص الهام،وذلك بإدخال أنبوب قسطرة إلى القصبة الهوائية،يمر عبرها الأوكسجين من الأنبوب إلى الرئتين،فإذا لم يحدث تنفس خلال عشر دقائق فإن ذلك يعني توقف مركز التنفس في جذع الدماغ عن العمل،رغم ارتفاع ثاني أوكسيد الكربون في الدم إلى الحد الذي ينبه مركز التنفس(أكثر من 50 مم زئبق في الدم الشرياني).وينبغي أن تعاد هذه الفحوص كلها من قبل فريق آخر من الأطباء بعد بضع ساعات من الفحص الاول،وبشرط أن لا يكون بين هؤلاء الأطباء من له علاقة مباشرة بزرع الأعضاء.
الفحوصات المؤكدة:
1 ـ تخطيط الدماغ الكهربائي وينبغي أن يكون بدون أي ذبذبة(Flat EEG).
2 ـ عدم وجود دورة دموية بالدماغ،وذلك بتصوير شرايين الدماغ أو بفحص المواد المشعة.
الموقف الفقهي من قضية أجهزة الإنعاش وموت الدماغ:
أول من بادر إلى بحث هذه القضية المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية،حيث عقدت ندوة في 24 ربيع الآخر عام 1405هجري الموافق 15 كانون الثاني عام 1985م في مدينة الكويت،وباشتراك مجموعة من الأطباء والفقهاء.
ثم ناقش مجمع الفقه الإسلامي والتابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي هذه القضية في دورته الثانية المنعقدة بجدة في 10 ـ 16 ربيع الثاني عام 1406 هجري والموافق 22 ـ 28 كانون الأول عام 1985م.
وبعد مناقشات مستفيضة قرر تأجيل البت في هذا الموضوع إلى الدورة التالية والتي عقدت في عمان بالأردن في 8 ـ 13 صفر عام 1407هجري والموافق 11 ـ 16تشرين الأول عام 1986م.
وصدر فيها القرار التاريخي رقم 5 بشأن أجهزة الإنعاش حيث قرر المجتمع:
“إن الشخص قد مات،وتترتب جميع الأحكام المقررة شرعاً على الوفاة إذا تبينت فيه إحدى العلامتين التاليتين:
1 ـ إذا توقف قلبه وتنفسه توقفاً تاماً،وحكم الأطباء بأن هذا التوقف لا رجعة فيه.
2 ـ إذا تعطلت جميع وظائف دماغه تعطلاً نهائياً،وحكم الأطباء الاختصاصيون الخبراء بأن هذا التعطل لا رجعة فيه،وأخذ دماغه في التحلل.
وفي هذه الحالة يسوغ رفع أجهزة الإنعاش المركبة على الشخص،وإن كان بعض الأعضاء لايزال يعمل آلياً بفعل الأجهزة المركبة.
وقام المجمعالفقهي لرابطة العالم الإسلامي ببحث هذا الموضوع في دورتيه الثانة والتاسعة وأصدر قراره في دورته العاشرة المنعقدة في مكة المكرمة عام 1408هجري.
وأجاز رفع الأجهزة في مثل هذه الحالة،إلاأنه لم يُعد الشخص ميتاً من الناحية الشرعية ولاتسري عليه أحكام الموت إلا بعد توقف قلبه ودورته الدموية.
وقد أدى قرار مجمع الفقه الإسلامي المنعقد بعمان الأردن إلى فتح الطريق أمام زرع الأعضاء من المتوفين،حيث ينبغي أن يكون العضو المستقطع مثل القلب أو الكبد،متمتعاً بالتروية الدموية إلى آخر لحظة.وذلك كما يوفره تشخيص موت الدماغ،حيث يستمر الأطباء في التنفس الصناعي،وإعطاء العقاقير،بحيث تستمر الدورة الدموية لحين استقطاع الأعضاء المطلوبة من المتوفى.
2 ـ قتل الرحمة أو تيسير الموت
جاء في قرارات الدورة العادية الحادية عشرة للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث(مقال نشر في مجلة الرائد العدد 345 بقلم الأستاذ الدكتور محمد الهواري رحمه الله):
“تعريف قتل المرحمةEuthanasia:
هذه كلمة إغرقية(الأوتانازيا) وتتألف من مقطعين:السابقةEu وتهني الحسن أو الطيب أو الرحيم أو الميسر.
واللاحقةTathanos وتعني الموت أو القتل.
وعليه فإن الكلمة تعني لغوياً الموت أو القتل الرحيم أو الموت الحسن أو الموت الميسر.
أما في التعبير العلمي المعاصر فتعني كلمة “الأوتانازيا” :تسهيل موت الشخص المريض الميؤوس من شفائه بناء على طلب مُلحٍ منه مقدم للطبيب المعالج”.
ثانياً :أنواع قتل الرحمة:
لقتل الرحمة صور تطبيقية مختلفة هي:
1 ـ القتل الفعال أو القتل المباشر أو المتعمد:
ويتم بإعطاء المريض جُرعة قاتلة من دواء كالمورفين أو الكورار أو الباربيتورات أو غيرها من مشتقاتالسيانيد بنية القتل.
وهو على ثلاثة أحوال:
ـ الحالة الأولى:الحالة الاختيارية أو الإرادية:حيث تتم العملية بناءً على طلب ملح من المريض الراغب في الموت وهو في حالة الوعي أو بناءً على وصية مكتوبة مسبقاً.
ـ الحالة الثانية:الحالة اللإرادية:وهي حالة المريض البالغ العاقل الذي فقد الوعي ،حينئذ تتم العملية بتقدير الطبيب الذي يعتقد بأن القتل في صالح المريض،أو بناءً على قرار من ولي أمر المريض أو أقربائه الذين يرون أن القتل في صالح المريض.
ـ الحالة الثالثة:وهي حالة لا إرادية يكون فيها المريض غير عاقل،صبياً كان أو معتوهاً،وتتم بناءً على قرار من الطبيب المعالج.
2 ـ المساعدة على الانتحار:
وفي هذه الحالة يقوم المريض بعملية القتل بنفسه بناءً على توجيهات قدمت إليه من شخص آخر الذي يوفر له المعلومات أو الوسائل التي تساعده على الموت.
3 ـ القتل غير المباشر:
ويتم بإعطاء المريض جرعات من عقاقير مسكنة لتهدئة الآلام المبرحة،وبمرور الوقت يضطر الطبيب المعالج إلى مضاعفة الجرعات للسيطرة على الآلام،وهو عمل يستحسنه القائمون على العلاج الطبي،إلا أن الجرعات الكبيرة قد تؤدي إلى إحباط التنفس وتراجع عمل عضلة القلب فتفضي إلى الموت الذي لم يكن مقصوداً بذاته ولو أنه متوقع مسبقاً.
4 ـ القتل غير الفعال أو المنفعل:
ويتم برفض اوة إيقاف العلاج اللازم للمحافظة على الحياة ويلحق به رفع أجهزة التنفس الاصطناعي عن المريض الموجود في غرفة الإنعاش والذي حُكم بموت دماغه،ولا أمل أن يستعيد وعيه.
ومع أن التقاليد الطبية السائدة في بلدان العالم والكثرة الغالبة من الأطباء مازالت ترفض وتنفر بشدة مما يسمى قتل الرحمة،ومع أن القوانين السارية في معظم بلدان العالم تعتبر قتل الإنسان بأي صورة ولأي سبب جريمة يعاقب عليها القانون،إلا أن قتل الرحمة أخذ يُمارس بصورة متزايدة في عدد من البلدان الأوروبية مستتراً تحت أسماء مضللة تجعل السلطات تغض الطرف عنها أو تمتنع المحاكم من إيقاع العقوبات القانونية في حق مرتكبيها,وتكاد هذه الأمور تصبح ممارسة يومية في بلد كهولندا،حتى أصبح الأمر مُقنناً من قبل السلطات التشريعية.
ويبدو أن الممارسين للقتل يقيمون على بعض المبررات منها:
ـ الفلسفة اللادينية السائدة في الغرب التي تقيس قيمة الحياة بمساهمة الإنسان في المجتمع من إنتاج وإبداع،فإذا أصبح هالة على الغير فموته أولى.
ـ أن القتل الرحيم يُريح المريض ويخلصه من المعاناة والعذاب والآلام التي لا يطيق الصبر عليها.
ـ في القتل الرحيم تخفيف للمعاناة التي يتحملها أهل المريض وأصدقاؤه ومن يتولون رعايته،وكذلك توفير التكاليف المادية والأعباء الاقتصادية التي تتحملها الأسرة أو المجتمع.كماأن المؤيدين للقتل الرحيم يرون أن للمريض حقاً ذاتياً في تقرير مصيره وله الحق في أن يُقتل إذا طلب ذلك.
موقف المجلس الفقهي:
وبعد أن اطلع المجلس على المواقف القانونية المختلفة التي تتخذها الدول الغربية من القتل الرحيم بصورة متباينة ما بين مؤيد ومعارض،قرر المجلس ما يلي:
1 ـ تحريم قتل الرحمة الفعال المباشر وغير المباشر وتحريم الانتحار والمساعدة عليه،ذلك أن قتل المريض الميؤوس من شفائه ليس قراراً مباحاً من الناحية الشرعية للطبيب أو لأسرة المريض أو المريض نفسه.
فالمريض أيّاً كان مرضه وكيف كانت حالة مرضه لا يجوز قتله لليأس من شفائه أو لمنع انتقال مرضه إلى غيره،ومن يقوم بذلك يكون قاتلاً عمداً،والنص القرآني قاطع الدلالة على أن قتل النفس محرّم قطعاً لقوله تعالى:{ولا تَقتلوا النفسَ التي حرَّمَ اللهُ إلا بالحقٍّ}[الأنعام 151]،ولقوله تعالى:{من أجلِ ذلكَ كتبنا على بني إسرائيلَ أنّهُ من قتلَ نفساً بغيرِ نفسٍ أو فسادٍ في الارضِ فكأنّما قتلَ الناسَ جميعاً}[المائدة 32].
2 ـ يحرمُ على المريض أن يقتلَ نفسه ويحرمُ على غيره أن يقتله حتى لو أذن له في قتله،فالأول انتحار والثاني عدوان على الغير بالقتل،وإذنه لا يُحل الحرام،فهو لايملك روحه حتى يأذن لغيره أن يقضي عليها.والحديث معروف في تحريم الانتحار عامة،فالمنتحر يُعذّب في النار بالصورة التي انتحر بها خالداً مخلداً فيها أبداً،إن استحلَّ ذلك فقد كفر وجزاؤه الخلود في العذاب،وإن لم يستحله عُذّب عذاباً شديداً.
3 ـ لا يجوز قتل المريض الذي يُخشى انتقالُ مرضه إلى غيره بالعدوى،حتى لو كان ميؤوساً من شفائه(كمريض الإيدز مثلاً)،فلا يجوز قتله لمنع ضرره،ذلك لأن هناك وسائل عديدة لمنع ضرره كالحَجر الصحي ومنع الاختلاط بالمريض،بل يجب المحافظة عليه كآدمي يقدّم له كل مايتطلب من الغذاء والدواء حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً،وفي الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم:”ما أنزل الله داءً إلا أنزلَ له شفاءً”،وفي الحديث الذي رواه الترمذي:”يا عبادَ الله تَداووا فإنَّ الله لم يضع داءً إلا وضعَ له دواءً”،وفي الحديث الذي رواه أحمد:”إن الله عزَّ وجلَّ لم يُنزل داءً إلا أنزلَ لهُ شفاءً علمهُ من علمهُ وجهلهُ من جهله“.فهذه الأحاديث تعطينا أملاً في اكتشاف دواء لمثل هذه الأمراض،كما اكتشفت أدوية لأمراض ظنَّ الناس أن شفاءها ميؤوسٌ منه،فلا يصحُّ قتلُ حامله لليأس من شفائه،ولا لمنع الضرر عن الأصحاء.
4 ـ وبالنسبة لتيسير الموت بإيقاف أجهزة الإنعاش الاصطناعي عن المريض الذي يعتبر في نظر الطب”ميتاً” أو في “حكم الميت” وذلك لتلف جذع الدماغ أو المخ،الذي به يحيا الإنسان ويحسُّ ويشعر،وإذا كان عمل الطبيب مجرد إيقاف أجهزة العلاج فلا يخرج عن كونه تركاً للتداوي فهو أمر مشروع ولا حرج فيه،وبخاصة أن هذه الأجهزة تُبقي عليه هذه الحياة الظاهرية ـ المتمثلة في التنفس والدورة الدموية ـ وإن كان المريض ميتاً بالفعل،فهو لا يعي ولا يحس ولا يشعر،نظراً لتلف مصدر ذلك كله،وهو المخ.
وبقاء المريض على هذه الحالة يتكلف نفقات كثيرة دون طائل ويحجز أجهزة قد يحتاج إليها غيره مما يجدي معه العلاج.والله أعلم.
بين جيلين:
يقول الأستاذ محمود محمد شاكر رحمه الله (مقال بعنوان:بين جيلين ـ الرسالة العدد 692):
انتفض شعر المتنبي فرمى إلي بهذين البيتين،وهما على بساطة لفظهما كالجبلين الشامخين في تاريخ الإنسانية:
سُبقنا إلى الدنيا فلو عاش أهلها مُنعنا بها من جَيئة وذُهوبِ
تملكها الآتي تملك سالبٍ وفارقها الماضي فِراقِ سليبِ
أفليس لملَك الموت من عمل إلا إخلاء الطريق للقادم،حتى يتاح له أن يغدو ويروح في الارض التي ورثها عن السابق الفاني الذي مهّد له بمواطئه سبيل الحياة!!ولعل ملك الموت يحارُ أحياناً حيرة تديرُ رأسه في الأمر الذي حمل أوزاره،وكُلف بقضائه،ولعله يرى أحياناً أنه يزيلُ خيراً كثيراً ليخلفه شرٌّ كثير،فهو يتردد تردُّد المتحسر على ذاهبٍ هو أولى بالبقاء من قادم،ولكنه يقضي قضاءه الذي لا يجد عنه مندوحة ولا مهرباً،وهو ككل صاحب صناعة قد ألفها ودرب عليها،ولا يجيد سواها،فهو يعيش بها على الرضى وعلى السخط،وعلى الفقر والغنى،وعلى الفتور والنشاط،وهو كسائر الخلق مُيَّسرٌ لما خُلق له،ولو تُرك له أن يختار لاختار قديماً كثيراً على جديد كثير،ولآثر ناساً على ناس وحياةً على حياة.ولقد أرثي أحياناً لهذا المخلوق البائس الذي يسره الله لصناعة الإفناء والإهلاك،فإنه ولا ريب يرى ما لانرى،ويحس ولا نحس،ولربما كُلّف أن يقبض الروح من زهرة ناضرة لم تكد تستقبل الحياة.فهو يذوب لها رقة وحناناً لما سوف تتجرّعه من غُصصه وسكراته وحشرجته ومكارهه،فكيف يقسو على من هو بالرحمة أولى،وبالبقاء أخلق من أخرى لم يبق فيها العمر المتقادم إلا الأعواد والأشواك والجذور التي ضربت فيها الأوقات،وبرِم بها البلى من طول مُراغمتها له على العيش!
وكيف يفعل هذا البائس حين يعلمُ أنه قد دنا أجلُ عقل عبقريّ لم يتمَّ عمله لخير هذه الحياة الإنسانية،فهو مأمور أن يطفىء نوره ليخلفه عقل دَجُوجيّ لا يأتي إلا بالسواد والإظلام؟أترى أنامله ترتجف من الإشفاق والضنّ والبُقيا على هذا السراج الذي أمر أن يقطع عنه أسباب الحياة؟أم تراه يفعل ذلك وهو مسلوب العقل والإرادة والإحساس كأنه قائد من رجال الحرب الحديثة،لا عقل له إلا الحرب،ولا إرادة له إلا الحرب،ولا إحساس له إلاالحرب،فهو كله حرب على الجنس البشري شِيبه وولدانه ورجاله ونسائه،لا يرحم صغيراً،ولا يوقر كبيراًنولا يشفق على أم ولا ذات جنين!أم تراه يعلم ما لا نعلم من خبىء هذه الحياة الدنيا،وأن جليلها الذي نُجلّه ونوقره،هو أولى الشيئين بالمهانة والتحقير،وأن الحقير الذي نزدريه كان أولاهما بالتجلة والتوقير؟فهو إذن يؤدي عمله راضياً عن نفسه وعما يعمل،لا تزعجه الرحمة لما لا يستحق رحمة،ولا يُمسك يده الإشفاق عما لا يستأهل إلا الإرهاق والتعذيب.وكأننا نحن إنما نحبُّ ونبغض ونرضى ونكره على قدر إدراكنا وما بلغ،لا على منطق الحياة المتطاولة الآماد والآباد،فنرى الأشياء متصلة بمصالحنا ومنافعنا،ومحصورة في حاجات أنفسنا وآمال قلوبنا،لا متماسكة ممتدة في كهوف الأمس السحيق،وسراديب الغد العميق.
فلو أن هذا المَلك كان ميسَّراً لإدراك الحياة ومعانيها بمثل العقل الذي ندركها نحن به،وكان كمثلنا في تقدير الأقدار على قياس الحاجات والآمال الراهنة محجوباً عن الغيب الذي لا يعلمه إلا الله،لرأيناه يحرص أحياناً على أن يُبقي على بعضنا ويُعجل أحياناً في القضاء على بعض آخر نظنُّ،ويظنُّ معنا،أنه لا معنى لبقائه في هذه الدنيا ليكون زحاماً من الزِّحام لا عمل له إلا أن يَعوق المتقدم،ويعثر به الماشي،ويتفلل من جرائه حدُّ الماضي المتعجل،ولكان الناس يومئذ يأتون إلى الدنيا ليجدوها ممَّهدة من نواحيها لا يلقى لاحقٌ عَنتاً من وجود سابق،ولا يُصادف إلا طريقاً خالياً لا يضطره إلى جهاد ولا حيلة ولا حذر،ولا يحمله على النظر والتأمل والهمة في إصلاح الفاسد والفكر في أسباب الفساد،وبذلك يتعطل العقل وتقف الإرادة ويستنيم المرءُ إلى الراحة حين يرضى عن عمل من سبقه من الذين أبقى الموت عليهم لأنهم أهلٌ للحياة.وكذلك تنقطع مادة الحياة،ويتفانى الخلق بالرضى والقناعة كما يتفانون اليوم بالسخط والطمع.بيد أن موت الرضى والقناعة شرٌّ كله لأنه عقيم لا ينتج،أما موت التسخط والطمع فهو إلى الخير أقرب،لأنه يبقي البقية الصالحة التي تستمر بها الحياة متجددة على وجه الدهر.
ومن أجل ذلك قُدر للآتي القادم على الدنيا أن يأتي منذ ولد وفي إهابه حب التملك والتسلط والأثرة والعناد واللجاج في صغير الأمر وكبيره،وكذلك الطفل.وقُدّر للذاهب الراحل عن هذه الدنيا أن يدلف إلى الغاية،وقد نفضَ عن نفسه أحبَّ أشيائها إليه فهو يؤثر الزُّهد والإيثار وسعة العقل وقلة المبالاة في كبير الأمر وصغيره،وكذلك الشيخ. فإذا الآتي متملك سالب،وإذا الماضي مفارق سليب.
وقديماً قال القائل:
لكلِّ جديد لذّةٌ،غير أنني وجدتُ جديدَ الموتِ غير لذيذ
فيأتي الآتي إلى جديد الحياة،فإذا هو بها مشغوفٌ لهيف،وإذا هو نفسه جديد،فهو معجب بجديد نفسه ساخرٌ من قديم غيره،وإذا سرُّ كل(آت) هو جدته الموفورة،وسرُّ الضعف في كل(ماض) هو جدّته البالية.وللجديد نخوة ونشوة وإرباء على القديم،وفي القديم هيبة وذهول وتقصير عن الجديد،والصراع بين القديم والجدبد هو صراع على الحياة وعلى البقاء وعلى الخلود،ولذلك لم يخلُ وجه الأرض قط من نزال دام مفزع بشع بين هذين الجبارين:الجبار الآتي الذي يريد أن يستأثر بالحياة،والجبار الراحل الذي يلتمس لجبروته الخلود:ولا تزال الدنيا دنيا ما اصطرع هذان الجباران،فإذا سكن ما بينهما فقد انطفأت يومئذ جمرة الحياة،ولم يبق إلا رمادها.
كيف واجه الرسل والصحابة والتابعين والصالحين ساعة الموت وهم على فراش الموت:
إن لحظات الاحتضار في حقيقتها هي اختصار لحياة الإنسان كلها، فمن الثابت المشاهد أن العبد يموت على ما عاش عليه،لهذا اختلفت جداً أحوال المحتضرين،فلو نظرت إلى أحوال الصحابة عند موتهم لوجدت ثباتاً من عند الله تعالى وفرحاً بقدوم الموت لأنه يقربهم من لقاء الله تعالى.
الرسول صلى الله عليه وسلم:
ـ في يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الاول للسنة الحادية عشرة للهجرة كان المرض قد اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم،وسرت أنباء مرضه بين أصحابه،وبلغ منهم القلق مبلغه،وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوصى أن يكون أبا بكر إماما لهم،حين أعجزه المرض عن الحضور إلى الصلاة.
وفي فجر ذلك اليوم وأبو بكر يصلي بالمسلمين،لم يفاجئهم وهم يصلون إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يكشف ستر حجرة عائشة،ونظر إليهم وهم في صفوف الصلاة،فتبسم مما رآه منهم فظن أبو بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج للصلاة،فأراد أن يعود ليصل الصفوف،وهم المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم، فرحاً برسول الله صلى الله عليه وسلم.فأشار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم،وأومأ إلى أبي بكر ليكمل الصلاة،فجلس عن جانبه وصلى عن يساره…وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حجرته،وفرح الناس بذلك أشد الفرح،وظن الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أفاق من وجعه،واستبشروا بذلك خيراً.
وجاء الضحى…وعاد الوجع لرسول الله صلى الله عليه وسلم،فدعا فاطمة..فقال لها سراً أنه سيقبض في وجعه هذا،فبكت لذلك..فأخبرها أنها أول من يتبعه من أهله ،فضحكت..
واشتدَ الكرب برسول الله صلى الله عليه وسلم..وبلغ منه مبلغه..فقالت فاطمة:واكرباه…فرد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم:“لا كرب على أبيك بعد اليوم.”
وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصيته للمسلمين وهو على فراش موته:”الصلاة الصلاة..وما ملكت أيمانكم…الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم..وكرر ذلك مرارا”ً.
ودخل عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وبيده السواك،فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم،قالت عائشة:آخذه لك؟فأشار برأسه أن نعم…فاشتد عليه…فقالت عائشة:ألينه لك…فأشار برأسه أن نعم…فلينته له…
وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل يديه في ركوة فيها ماء،فيمسح بالماء وجهه وهو يقول:“لا إله إلا الله…إن للموت سكرات”.
وفي النهاية ..شخص بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم…وتحركت شفتاه قائلاً:…مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ،اللهم اغفر لي وارحمني…وألحقني بالرفيق الأعلى اللهم الرفيق الأعلى..اللهم الرفيق الاعلى… اللهم الرفيق الأعلى.
وفاضت روح خير خلق الله…فاضت أطهر روح خلقت إلى ربها..فاضت روح من أرسله الله رحمة للعالمين وصلى الله عليه وسلم تسليماً.
ويقول الشيخ العلامة محمد الغزالي رحمه الله في كتابه فقه السيرة:
“شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوعكة المرض الذي نزل به أواخر صفر من السنة الحادية عشرة للهجرة.وبدأت آلامه صداعاً حاداً،عاناه في سكون،حتى ثقل عليه الوجع،وهو في بيت زوجه ميمونة…فلم يستطع الخروج.
وأذن له نساؤه أن يُمرَّض في بيت عائشة،لما رأين من ارتياحه إلى خدمتها له ،فخرج من عند ميمونة بين الفضل بن العباس، وعلي بن أبي طالب.
وكان الألم قد أوهى قواه.فلم يستطع مسيراً.فانتقل بينهما معصوب الرأس،تخطُّ قدماهُ على الأرض..حتى انتهى إلى بيتها.
واشتدت وطأة المرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم،واتّقدت حرارة العلة في بدنه.فطلب أن يأتوه بماء يتبرد به..ماء كثير! أهريقوا على سبع قرب من آبار شتى.
قالت عائشة:فأقعدناه في مخضب لحفصة،ثم صببنا عليه الماء،حتى طفق يقول:حسبكم ،حسبكم.
كانت هناك مهام كثيرة،ترتقب صحوه ليُبتَّ فيها ولكن أعباء العلة حبسته في قيودها،فلم يستطع منها فكاكا.
وإذا استطاع أن يخرج في فترات قليلة تخف فيها حدة المرض فإلى المسجد ليلقى نظرات أخيرة على الأمّة التي صنعها والرجال الذين أحبهم.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يوماً على المنبر فال:”إن عبداُ خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ماشاء،وبين ما عند الله،فاختار ما عند الله” فبكى أبو بكر ثم قال:فديناك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله.
قال أبو سعيد:فتعجبنا له،وقال الناس:انظروا إلى هذا الشيخ يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد يخير ويقول:فديناك بآبائنا وأمهاتنا!
قال فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المُخيّر،وكان أبو بكر أعلمنا به.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :إن أمنَّ الناس على في صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذاً خليلاً،لاتخذت أبا بكر خليلاً،ولكن أخوة الإسلام”.
وفي رواية:”ولكن صحبة،وإخاء إيمان،حتى يجمع الله بيننا عنده“[أخرجه البخاري ومسلم]
وحدث في أثناء المرض أن مرت أوقات هادئة،خيلت لمحبي الرسول صلى الله عليه وسلم أن أمانيهم في عافيته نجحت،وأنه يوشك أن يقوم ليستـأنف كفاحه في سبيل الله،وليظل يحبوهم بعطفه وحرصه وإيناسه ورحمته.
فعن عبد الله بن كعب بن مالك أن ابن عباس أخبره أن علي بن أبي طالب خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي توفي فيه.
فقال الناس: ياأبا حسن،كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟قال: أصبح بحمد الله بارئاً.
فأخذ بيده العباس بن عبد المطلب فقال: ألا ترى؟إنك بعد ثلاث عبد العصا وإني أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم سيتوفى في وجعه هذا،وإني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت.فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسله فيمن يكون هذا الأمر،فإن كان فينا علمنا ذلك وإن كان في غيرنا استوصى بنا خيراً،قال علي:والله لئن سألناها رسول الله فمنعناها لا يعطينا الناس أبداً،والله لا أسألها رسول الله أبداً”[أخرجه البخاري).
وزادت وطأة المرض على رسول اله صلى الله عليه وسلم،وعانى من بَرحائه ألماً مضاعفاً،حتى تأذت فاطمة ابنته من شدة ما يلقى،فقالت: واكرب أبتاه!فقال: لا كرب على أبيك بعد اليوم “[رواه البخاري].
وترامت الأخبار إلى جيش أسامة،فشاع الحزن والاضطراب في صفوفه .عن محمد بن أسامة عن أبيه قال: لما ثقل رسول الله،هبطت وهبط الناس معي إلى المدينة،فدخلناها على رسول اله صلى الله عليه وسلم وقد أصمت لا يتكلم،فجعل يرفع يده إلى السماء ثم يضعها على،فعرفت أنه يدعو لي[أخرجه البخاري].
وأغمي عليه مرة فلده أهله،فلما أفاق كره ذلك منهم[أخرجه البخاري عن عائشة].
وحين عجز النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بالناس، استقدم أبا بكر ليؤمهم.فخشيت عائشة أن يكره الناس أباها ويتشاءمون من طلعته.فقالت: إن أبا بكر رجل رقيق وإنه متى يقم مقامك لا يطيق.فقال: مروا أبا بكر فليصلِ بالناس.فكررت عائشة اعتراضها.فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:”إنكن صواحب يوسف.مروا أبا بكر فليصل بالناس”[أخرجه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها].
وصلى أبو بكر بالناس سبع عشرة صلاة.
وهذه الأيام التي تخلف فيها النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يؤم المسلمين،كانت من أشد الأيام ثقلاً عليه.وصحّ عنه أنه قال:”إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم”[أخرجه الشيخان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه].
ومع فيح الحمى وحدة مسها لبدنه،فقد ظل يقظ الذهن،مهموماً بتعاليم الرسالة،حريصاً على تذكير الناس بها.وكان يخشى أن ترتكس أمته،فتتعلق بالأشخاص و”الأضرحة” كما ارتكس أهل الكتاب الأولون.وشدته في إخلاص التوحيد لله هي التي جعلته وهو يعالج سكرات الموت،يرّهب المسلمين من هذه المزالق.
عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم قالا:لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه،فإذا اغتم،كشفها عن وجهه فقال ـ وهو كذلك ـ :”لعنة الله على اليهود والنصارى،اتخذوا قبور أنبيائهم مساجدـ يحذر ماصنعواـ”[أخرجه الشيخان].
وكان يخشى أن تغلب شهوات الغيّ والكبر على أمته.هذه الخشية حملت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة أن ينبه المسلمين إلى معاقد الخير ليتمسكوا بها.
عن أنس بن مالك قال:كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضره الموت الصلاة وما ملكت أيمانكم.حتى جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يغرغر بها صدره،وما يكاد يفيض بها لسانه”[حديث صحيح أخرجه ابن ماجه وأحمد ]
وربما غلبه الشوق لحضور الجماعة ورؤية الأصحاب في أيامه الأخيرة فتحامل على جسمه المنهوك،وانسل إلى المسجد من حجرة عائشة،فصلى بالناس وهو قاعد.
قال ابن عباس رضي الله عنهما:لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر أن يصلي بالناس ثم وجد خفة فخرج.فلما أحس به أبو بكر،أراد أن ينكص،فأومأ إليه الرسول صلى الله عليه وسلم فجلس إلى جنب أبي بكر عن يساره واستفتح من الآية التي انتهى إليها أبو بكر فكان أبو بكر يأتم بالنبي،والناس يأتمون بأبي بكر”[حديث صحيح أخرجه أحمد وابن ماجه].
عل أن أبا بكر ظل يصلي بالناس هذه الأوقات التي مرض فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صبيحة اليوم الذي قُبض فيه وكان الرسول صلى الله عليه وسلم معلق القلب بشئون أمته.
وكأن الله أراد أن يطمئنه على كمال انقيادها وحسن اتباعها،فأشهده آخر وقت حضره وهو في الدنيا،إذ أقبل المؤمنون من بيوتهم إلى المسجد فجر الإثنين الذي قُبض فيه،واصطفوا لصلاتهم خشعاً مخبتين،وراء إمام رقيق التلاوة فياض الإخلاص،ورفع النبي صلى الله عليه وسلم الستر المضروب على منزل عائشة،وفتح الباب وبرز للناس.
فكاد المسلمون يفتنون في صلاتهم ابتهاجاً برؤيته،وتفرجوا يفسحون له مكاناً فأشار بيده:أن اثبتوا على صلاتكم،وتبسم فرحاً من هيئتهم في صلاتهم.
قال أنس بن مالك:ما رأيت رسول الله أحسن هيئة منه في تلك الساعة”[أخرجه البخاري ومسلم].
ثم رجع وانصرف الناس،وهم يظنون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أفق من وجعه.
واطمأن أبو بكر لهذا الظن،فرجع إلى أهله بالسنح ـ في ضواحي المدينة.
قالت عائشة رضي الله عنها:وعاد رسول الله من المسجد ،فاضجع في حجري.ودخل علينا رجل من آل أبي بكر في يده سواك أخضر،فنظر رسول الله إلى يده نظراً عرفت منه أنه يريده.فأخذته فألنته له ثم أعطيته إياه.فاستن به كأشد ما رأيته يستن بسواك قبله،ثم وضعه.ووجدت رسول الله يثقل في حجري.فذهبت أنظر في وجهه.فإذا نظره قد شخص وهو يقول: بل الرفيق الأعلى من الجنة.قلت:خيرتَ فاخترت،والذي بعثك بالحق.وقُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم[حديث صحيح ].
وفي خطبة له عن السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها يقول الشيخ العلامة يوسف القرضاوي حفظه الله:
“لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم رشح أبا بكر ليصلي بالناس،فقالت له عائشة يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق ولا يملك نفسه من الدموع فليتك تأمر أحداً غيره فيصلي بالناس وهي تقول ما بي إلا أن يتشاءم الناس من أن أبا بكر يصلي بدل رسول الله ذكرت له هذا الأمر مرة ومرة فقال:ليصل أبو بكر بالناس،إنكن صواحب يوسف(في الإلحاح والتكرار)فصلى أبو بكر بالناس واشتد المرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم،فكان من حرصه على العدل أن يبيت كل يوم عند امرأة من نسائه حتى لا يقال إنه فضل أحداهن،وكان يقول أين أنا غداً؟فلما كرر السؤال فهم نساؤه أنه يريد يوم عائشة فاتفقن على أن يتركن له الخيار ليقيم،فأقام عند عائشة رضي الله عنها بقية أيام مرضه حتى لحق بربه.قالت عائشة:مات رسول الله في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري واختلط ريقه بريقي،حين أشار لها أن تأ
تيه بالسواك فبللته من ريقها وأعطته له،ودفن في حجرتها،وكانت رأت رؤيا أن ثلاثة أقمار سقطن في حجرتها،فلما دفن في حجرتها وكان أبوها قد أوّل لها الرؤية قال: ثلاثة من خير الناس يدفن في بيتك،فلما دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتها قال هذا هو القمر الأول قمر الأقمار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما مات أبو بكر الصديق رضي الله عنه دفن أيضاً في حجرتها.
ولما طعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه،طعنه أبو لؤلؤة المجوسي لعنه الله فقال عمر لإبنه عبد الله:اذهب إلى أم المؤمنين عائشة وقل لها:يسلم عليك عمر بن الخطاب،ولا تقل لها أمير المؤمنين،فلست اليوم للمؤمنين أميراً،ويستأذنك أن يدفن بجوار صاحبيه في حجرة عائشة.
فقالـ أما إني كنت أعددته لنفسي،أما إني والله لأوثرن به عمر على نفسي،وأذنت أن يدفن بجوار صاحبيه،فلما رجع عبد الله إلى أبيه وأخبره استبشر وقال له:إذا وافاني الأجل فاحملوا سريري وقفوا عند باب عائشة وقولوا لها عمر بن الخطاب يسلم عليك ويستأذنك أن يدفن إلى جوار صاحبيه فربما أذنت حياء مني وأنا حي،فإن إذنت فبها وإلا فادفنوني في مقابر المسلمين…وأذنت لعمر..وكان هذا هو القمر الثالث”.
ـ عندما حضرت أبا بكر الصديق رضي الله عنه الوفاة أنشدت عائشة رضي الله عنها :
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
فقال لها أبو بكر رضي الله عنه:”لا تقولي ذلك،ولكنه كما قال تعالى:{ وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد}.
وقال لعائشة رضي الله عنها:انظروا ثوبي هذين،فاغسلوهما وكفنوني فيهما،فإن الحيّ أولى بالجديد من الميت.
ولما حضرته الوفاة أوصى عمر الفاروق رضي الله عنه:” إني أوصيك بوصية،إن أنت قبلت عني:إن لله عزّ وجل حقاً بالليل لا يقبله بالنهار,وإن لله حقاً بالنهار لا يقبله بالليل،وإنه لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة،وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه في الآخرة باتباعهم للحق في الدنيا،وثقلت ذلك عليهم،وحق لميزان يوضع فيه الحق أن يكون ثقيلاً،وإنما خفت موازين من خفت موازينه في الآخرة باتباعهم الباطل،وخفته عليهم في الدنيا وحق لميزان يوضع فيه الباطل أن يكون خفيفاً”.
ـ ولما طعن عمر الفاروق رضي الله عنه جاءه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فقال:يا أمير المؤمنين،أسلمت حين كفر الناس،وجاهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خذله الناس،وقُتلت شهيداً ولم يختلف عليك اثنان،وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راض.
فقال له:أعد مقالتك فأعاد عليه،فقال:المغرور من غررتموه،والله لو أن لي ما طلعت عليه الشمس أو غربت لافتديت به من هول المطلع.
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:كان رأس عمر على فخذي في مرضه الذي مات فيه.فقال: ضع رأسي على الأرض.فقلت:ما عليك كان على الأرض أو كان على فخذي؟
فقال:لا أمّ لك،ضعه على الأرض.فقال عبد الله:فوضعته على الأرض.فقال:ويلي وويل أمي إن لم يرحمني ربي عز وجل”.
وأما أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه فإنه قال حين طعنه الغادرون والدماء تسيل على لحيته::لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.اللهم إني أستعديك وأستعينك على جميع أموري وأسالك الصبر على بليتي”.
ولما استشهد فتشوا خزائنه فوجدوا فيها صندوقاً مقفلاً.ففتحوه فوجدوا فيه ورقة مكتوباً عليها هذه وصية عثمان:
بسم الله الرحمن الرحيم
عثمان بن عفان يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله وأن الجنة حق،وأن الله يبعث من في القبور ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد.عليها يحيا وعليها يموت وعليها يبعث إن شاء الله.
وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بعد أن طعن قال: ما فعل بضاربي؟
قالوا:أ خذناه.
قال:أطعموه من طعامي،واسقوه من شرابي.فإن أنا عشت رأيت فيه رأيى،وإن أنا مت فاضربوه ضربة واحدة لا تزيدوه عليها.
ثم أوصى الحسن أن يغسله وقال: لا تغالي في الكفن فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تغالوا في الكفن فإنه يسلب سلباً سريعاً.
وأوصى:إمشوا بي بين المشيتين لا تسرعوا بي،ولا تبطئوا،فإن كان خيراً عجلتموني إليه،وإن كان شراً ألقيتموني عن أكتافكم.
ينسب إلى الإمام علي رضي الله عنه لما أحسّ بضيق شديد في صدره واضطراب في نَفسه يوم قُتل أنه رددَ هذه الأبيات:
شدَّ حيازيمك للمو ت فإنَّ الموتَ لاقيكا
ولاتجزع من المو ت إذا حلّ بواديكا
وهذا عمر بن عبد العزيز رحمه الله عند موته يقول:أجلسوني،فلما أجلسوه،قال: أنا الذي أمرتني فقصرّت،ونهيتني فعصيت،ولكن لا إله إلا الله، ثم رفع رأسه فأحدّ النظر.فقالوا له: إنك لتنظر نظراً شديداً يا أمير المؤمنين.قال: إني أرى حضرة ماهم بإنس ولا جن ثم قبض رحمه الله وسمعوا تالياً يتلو{تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون عُلواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين}[ القصص 83].
وفي رواية أخرى أنه لما حضره الموت قال لبنيه وكان مسلمة بن عبد الملك حاضراً:يا بني،إني قد تركت لكم خيراً كثيراً لا تمرون بأحد من المسلمين وأهل ذمتهم إلا رأوا لكم حقاً.
يا بني،إني قد خيرت بين أمرين،إما أن تستغنوا وأدخل النار،أو تفتقروا وأدخل الجنة،فأرى أن تفتقروا إلى ذلك أحب إلي،قوموا عصمكم الله…قوموا رزقكم الله…قوموا عني،فإني أرى خلقاً ما يزدادون إلا كثرة،ما هم بجن ولا إنس..
قال مسلمة:فقمنا وتركناه،وتنحينا عنه،وسمعنا قائلاً يقول:{تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين}.ثم خفت الصوت،فقمنا فدخلنا، فإذا هو ميت مغمض مسجى.
وهذا سيف الله المسلول خالد بن الوليد رضي الله عنه يقول على فراش الموت:”ما من ليلة يُهدى إليَّ فيها عروس أنا لها محب،أو أُبشر فيها بغلام أحبَّ إليَّ من ليلة شديدة البرد،كثيرة الجليد،في سرية من المهاجرين،أصبّح فيها العدو.لقد طلبت القتل في مظانه(في كل مكان من الممكن أن يكون فيه موت ذهبت إليه)فلم يُقدر لي إلا أن أموت على فراشي،وما من عمل شىء أرجى عندي ـ بعد التوحيد ـ من ليلة بتها،وأنا متكرس،أمسك درعي،والسماء تهلني،منتظر الصبح حتى تغير على الكفار.
ثم قال كلمته المشهورة وهو يبكي:” لقيت كذا وكذا زحفاً،وما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة بسيف،أو رمية بسهم،وها أنا أموت حتف أنفي،كما يموت البعير،فلا نامت أعين الجبناء”.
ولما مات خالد ابن الوليد رحمه الله تعالى ارتفعت أصوات النساء في بكاء شديد في بيته،وفي المدينة المنورة بكاملها،وقيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه:أرسل إليهن فانههن.فقال عمر:وما عليهن أن ينزفن دموعهن على أبي سليمان.ثم قال الفاروق رضي الله عنه:”على مثل أبي سليمان فلتبكي البواكي،قد ثلم في الإسلام ثلمة لا ترتق”.وتابع الفاروق:كان والله سداداً لنحور العدو،ميمون النقيبة”.
هذا بلال بن رباح مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم لما حضرته الوفاة وبكت زوجته وقالت:واحزناه، قال لها:” بل واطرباه،غداً نلقى الأحبّة محمداً وصحبه “.
وهذا إمام العلماء معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول وهو يعالج السكرات: “مرحباً بالموت حبيب جاء على فاقة”.ونادى ربه حين جاءت ساعة الاحتضار قائلاً:”يا رب إنني كنت أخافك ،وأنا اليوم أرجوك…اللهم إنك تعلم أنني ما كنت أحب الدنيا لجري الأنهار،ولا لغرس الأشجار..وإنما لظمأ الهواجر،ومكابدة الساعات،ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق العلم.ثم فاضت روحه بعد أن قال:لا إله إلا الله.
ولما مرض الخليفة هارون الرشيد رحمه الله ويئس الأطباء من شفائه وأحس بدنو أجله قال: أحضروا لي أكفاناً فأحضروا له…فقال: احفروا لي قبراً…فحفروا له…فنظر إلى القبر وقال: ما أغنى عني ماليه…هلك عني سلطانية…
وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه حينما حضره الموت دعا ابنه فقال:”يا عبد الرحمن إن عبد الله بن مسعود يوصيك بخمس خصال فاحفظهن عني:أظهر اليأس للناس فإن ذلك غنى فاضل،ودع مطلب الحاجات إلى الناس فإن ذلك فقر حاضر،ودع ما تعتذر منه من الأمور ولا تعمل به،وإن استطعت ألا يأتي عليك يوم إلا وأنت خير منك بالأمس فافعل،وإذا صليت صلاة فصلِ صلاة مودّع كأنّكَ لا تصلي بعدها”.
وهذا أبو ذر الغفاري رضي الله عنه لما حضرته الوفاة بكت زوجته ..فقال :ما يُبكيك؟
قالت:وكيف لا أبكي وأنت تموت بأرض فلاة وليس معنا ثوب يسعك كفناً
فقال لها:لا تبكي وأبشري فقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لنفر أنا منهم:ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض يشهده عصابة من المؤمنين وليس من أولئك النفر أحد إلا ومات في قرية وجماعة،وأنا الذي أموت بفلاة،والله ما كذبت ولا كذبت فانظري الطريق.
قالت:أنّى وقد ذهب الحاج وتقطعت الطريق.
فقال انظري فإذا أنا برجال فألحت ثوبي فأسرعوا إلي فقالوا:ما لك يا أمة الله؟
قالت:امرؤ من المسلمين تكفنونه..
فقالوا: من هو؟
قالت:أبو ذر
قالوا:صاحب رسول الله
ففدوه بأبائهم وأمهاتهم ودخلوا عليه فبشرهم وذكر لهم الحديث
وقال:أنشدكم الله،لا يكفنني أحد كان أميرأ أو عريفاً أو بريدا
فكل القوم كانوا نالوا من ذلك شيئاً غير فتى من الأنصار فكفنه في ثوبين لذلك الفتى.
وصلى عليه عبد الله بن مسعود.فكان في ذلك القوم.
ولما جاء الصحابي أبا الدرداء رضي الله عنه الموت قال:ألا رجل يعمل لمثل مصرعي هذا؟ألا رجل يعمل لمثل يومي هذا؟الا رجل يعمل لمثل ساعتي هذه؟ثم قبض رحمه الله.
والصحابي الجليل سلمان الفارسي رضي الله عنه بكى عند موته،فقيل له:ما يُبكيك؟
فقال:عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون زاد أحدنا كزاد الراكب،وحولي هذه الأزواد.وقيل:إنما كان حوله إجانة وجفنة ومطهرة!
(الإجانة:إناء يجمع فيه الماء،والجفنة:القصعة يوضع فيها الماء والطعام،والمطهرة:إناء يتطهر فيه).
والصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال عندما حضره الموت لمن حوله:أجلسوني.فأجلسوه…فجلس يذكر الله…ثم بكى…وقال:الآن يا معاوية..جئت تذكر بعد الانحطام والانهدام…أما كان هذا وغضّ الشباب نضير ريان.؟ثم بكى وقال:يارب يارب،ارحم الشيخ العاصي ذا القلب القاسي…اللهم أقل العثرة واغفر الزلة…وجد بحلمك على من لم يرج غيرك ولا وثق بأحد سواك..ثم فاضت روحه رضي الله عنه.
وجاء (في البصائر والذخائر – التوحيدي – ج1 ص223):
“لما احتضر معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه رفع يديه وقال متمثلاً:
هو الموتُ لا أدهى من الموت والذي أحاذر بعد الموت أدهى وأفظع
ثم قال :” اللهم فأقِلِ العَثَرة،واعفُ عن الزّلة،وعُدْ بِحلمك على جهل من لا يرجو غيرك،ولا يثق إلا بك، فإنك واسعُ الرحمة تعفو بقدرة،وما وراءك مذهبٌ لذي خطيئة موبقة يا أرحمن الراحمين “. فبلغ سعيد بن المسيب قوله فقال : “لقد وُفقّ عند الموت في الطلب إلى من لا مثله مطلوب إليه،فإن ينجُ أبوعبد الرحمن من النارغداً فهو الرجل الكامل،ما أخوفني عليه” .
وحينما حضرت الوفاة عمرو بن العاص رضي الله عنه بكى طويلاً..وحوّل وجهه إلى الجدار،فقال له ابنه:ما يُبكيك يا أبتاه؟أما بشرّك رسول الله صلى الله عليه وسلم…فأقبل عمرو رضي الله عنه إليهم بوجهه وقال:إن أفضل ما نعد…شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله..
إني كنت على أطباق ثلاث…لقد رأيتني ما أحد أشدّ بغضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني،ولا أحب إلي أن أكون قد استمكنت منه فقتلته،فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار…
فلما جعل الله الإسلام في قلبي،أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت:ابسط يمينك فلأبايعنك،فبسط يمينه،قال:فقبضت يدي..فقال:مالك ياعمرو؟
قلت:أردت أن أشترط.
فقال:تشترط ماذا؟
قلت:أن يغفر لي.
فقال: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله،وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها،وأن الحج يهدم ما كان قبله؟
وما كان أحد أحبّ إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحلى في عيني منه،وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له،ولو قيل لي صفه لما استطعت أن أصفه،لأني لم أكن أملأ عيني منه.ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة.
ثم ولينا أشياء،وما أدري ما حالي فيها؟
فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار،فإذا دفنتموني فسنوا علي التراب سناً ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها،حتى أستأنس بكم،وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي؟.
عمرو بن العاص: كان يقول:عجباً لمن نزل به الموتُ وعقله معه كيف لا يصفه . فلما نزل به الموت ذَكرَّه ابنه بقوله وقال : صِفْهُ. قال : “يا بني :الموتُ أجَلُّ من أن يوصف ولكني سأصِفُ لك،أجدني كأنَّ جبلَ رَضوى على عنقي، وكأنَّ في جوفي شوك السُّلاء،وأجدني كأنَّ نَفَسي يخرج من إبرة “.(طبقات ابن سعد)
وجاء في (الكامل للمبرد ج1 ص347):” دخل ابن عباس على عمرو بن العاص وهو يحتضر فقال له : يا أبا عبد الله إنكَ كنتَ تقول: أشتهي أن أرى عاقلاً يموتُ حتى اسأله كيفَ يجد؟قال: “أجدُ السماءَ كأنها مُطَبقَةٌ على الأرض،وأنا بينهما،وأراني كأنمّا أتنفسُ من خَرْتِ ابرة(ثقبها) ثم قال: اللهم خُذْ عيني حتى ترضى، ثم رفع يديه فقال: اللهم أمرت فعصينا، ونهيت فركبنا، فلا برئٌ فأعتذر،ولا قويٌ فأنتصر، ولكن لا إله إلا الله ثلاثاً، ثم فاض” .
ولما حضرت الوفاة أبو موسى الاشعري رضي الله عنه دعا فتيانه وقال لهم:اذهبوا فاحفروا لي وأعمقوا…ففعلوا..
فقال: اجلسوا بي،فوالذي نفسي بيده إنها لإحدى المنزلتين،إما ليوسعن قبري حتى تكون كل زاوية أربعين ذراعاً،وليفتحن لي باب من أبواب الجنة،فلأنظرن إلى منزلي فيها وإلى أزواجي،وإلى ما أعدّ الله عز وجل لي فيها من النعيم،ثم لأنا أهدى إلى منزلي في الجنة مني اليوم إلى أهلي،وليصيبني من روحها وريحانها حتى أبعث.
وإن كانت الأخرى ليضيقن علي قبري حتى تختلف منه أضلاعي،حتى يكون أضيق من كذا وكذا،وليفتحن لي باب من أبواب جهنم،فلأنظرن مقعدي وإلى ما أعد الله عز وجل فيها من السلاسل والأغلال والقرناء،ثم لأنا إلى مقعدي من جهنم لأهدى مني اليوم إلى منزلي،ثم ليصيبني من سمومها وحميمها حتى أبعث”.
ـ لما انتهت غزوة أحد قال رسول الله صلى الله عليهى وسلم من يذهب فلينظر ماذا فعل سعد بن الربيع؟
فدار رجل من الصحابة بين القتلى…فأبصره سعد بن الربيع قبل أن تفيض روحه فناداه…ماذا تفعل؟
فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني لأنظر ماذا فعلت؟
فقال سعد:اقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام وأخبره أني ميت وأني قد طعنت إثنتي عشرة طعنة وأنفذت في،فأنا هالك لا محالة،واقرأ على قومي السلام وقل لهم ياقوم لاعذر لكم إن خلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف..
وأما عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فقد قال قبل أن تفيض روحه:ما آسى من الدنيا على شىء إلا على ثلاثة:ظمأ الهواجر ومكابدة الليل ومراوحة الأقدام بالقيام لله عز وجل وأني لم أقاتل الفئة الباغية التي نزلت.
ولما حضرت الوفاة حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال:”حبيبٌ جاء على فاقة،لا أفلح من ندم،اللهم إن كنت تعلم أن الفقر أحب إليّ من الغنى،والسّقمُ أحبّ إلي من الصحة،والموت أحب إليَّ من العيش،فسّهل عليَّ الموت حتى ألقاك”.
ـ لما حضرت عبادة بن الصامت رضي الله عنه الوفاة قال:أخرجوا فراشي إلى الصحن.ثم قال:اجمعوا لي موالي وخدمي وجيراني ومن كان يدخل علي.فجمعوا له…فقالب:إن يومي هذا لا أراه إلا آخر يوم يأتي علي من الدنيا،وأول ليلة من الآخرة،وإنه لا أدري لعله قد فرط مني إليكم بيدي أو بلساني شىء،وهو والذي نفس عباده بيده،القصاص يوم القيامة،وأحرج على أحد منكم في نفسه شىء من ذلك إلا اقتص مني قبل أن تخرج نفسي.
فقال:أغفرتم لي ما كان منى ذلك؟
قالوا :نعم.
فقال: اللهم اشهد…أما الآن فاحفظوا وصيتي…أحرج على كل إنسان منكم أن يبكي،فإذا خرجت نفسي فتوضئوا فأحسنوا الوضوء،ثم ليدخل كل إنسان منكم مسجداً فيصلي ثم يستغفر لعباده ولنفسه،فإن الله عز وجل قال:{واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين}..ثم أسرعوا بي إلى حفرتي،ولا تتبعوني بنار.
وأما الحسن البصري رضي الله عنه فإنه لما حضرته المنيّة حرك يديه وقال:هذه منزلة صبر واستسلام.
وأما عبد الله بن المبارك رحمه الله فإنه حين جاءته الوفاة واشتدت عليه سكرات الموت ثم أفاق..ورفع الغطاء عن وجهه وابتسم قائلاً:لمثل هذا فليعمل العاملون…لا إله إلا الله..ثم فاضت روحه.
وأما الفضيل بن عياض رحمه الله فإنه لما حضرته الوفاة،غشي عليه،ثم أفاق وقال:وابعد سفراه..واقلة زاداه…
وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يحتضر وهو يقرأ قوله تعالى{إنّ المتَّقينَ في جنَّاتٍ ونَهَر* في مَقعدِ صِدقٍ عند مليكٍ مُقتدرٍ}]القمر 54-55].
وجاء( في معجم الادباء –ياقوت الحموي –ج5 ص203):
حدّث المزني وهو أبو ابراهيم اسماعيل بن يحيى قال : دخلت على الشافعي رضي الله عنه في مرضه الذي مات فيه فقلت: كيف أصبحت؟ قال : أصبحت من الدنيا راحلاً وللإخوان مفارقاً، ولكأسِ المنية شارباً، ولسوء فِعالي ملاقياً، وعلى الله جلّ ذكره وارداً،ولا والله ما أدري روحي تصير إلى الجنة أو إلى النار فأعزّيها ثم بكى وأنشأ يقول:
فلما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلتُ رجائي نحو عفوك سُلّما
تعاظمني ذنبي فلما قرنتهُ بعفوكَ ربي كان عفوكَ أعظما
فما زلتَ ذا عفوٍ عن الذنب لم تزلْ تجودُ وتعفو مِنَّةً وتكرُّما
فإن تعف عني تعفُ عن ذي إساءة ظلومٍ غشومٍ قاسي القلب مجرما
وإن تنتقم مني فلست بآيسٍ ولو دخلت روحي بجرمي جهنما
فلو لولاك َ لم يُقَدرْ بإبليسَ عابدٌ فكيفَ وقد أغوى صَفيّكَ آدما
وجاء في مجلة الرسالة العدد158 مقال للأستاذ ناجي الطنطاوي رحمه الله في موت سعيد بن المسيِّب رحمه الله:
“قال أبو حازم:قال سعيد بن المسيب في مرضه الذي مات فيه:إذا ما متّ فلا تضربوا على قبري فسطاطاً،ولا تحملوني على قطيفة حمراء،ولا تتبعوني بنار،ولا تؤذنوا بي أحداً،حسبي من يبلغني ربي ولا يتبعني.
وقال عبد الرحمن بن الحارث المخزومي:اشتكى سعيد ابن المسيب فاشتدّ وجعه،فدخل عليه نافع بن جبير يعوده وهو مضطجع على فراشه،فأغمي عليه،فقال لمحمد ابنه:حول فراشه،فاستقبل به القبلة،ففعل،فأفاق فقال:من أمركم أن تحولوا فراشي إلى القبلة؟أنافع بن جبير أمركم؟فقال نافع:نعم،فقال له سعيد:لئن لم أكن على القبلة والملة لا ينفعني توجيهكم فراشي.وفي رواية:ألست امرأً مسلماً،وجهي إلى الله حيثما كنت؟
وقال زرعة بن عبد الرحمن:شهدت سعيد بن المسيب يوم مات يقول:يازرعة،إني أشهدك على ابني محمد،لا يؤذن بي أحداً،حسبي أربعة يحملوني إلى ربي،ولا تتبعني صائحة تقول فيّ ما ليسَ فيّ.
وقال يحيى بن سعيد:لما حضر سعيد بن المسيب،ترك دنانير،فقال: اللهم إنك تعلم أني لم أتركها إلا لأصون بها حسبي وديني.
وقال :دخلنا على سعيد نعوده،ومعنا نافع بن جبير،فقالت أم ولده إنه لم يأكل منذ ثلاث فكلموه،فقال نافع بن جبير:إنك من أهل الدنيا ما دمت فيها،ولا بد لأهل الدنيا مما يصلحهم فلو أكلت شيئاً.قال: كيف يأكل من كان على مثل حالنا هذا بضعة يذهب بها إلى النار أو إلى الجنة.فقال نافع:أدع الله أن يشفيك،فإن الشيطان قد كان يغيظه مكانك من المسجد.قال: بل أخرجني الله تعالى من بينكم سالماً”.
قال محمد بن مطرّف بن داود:دخلنا على أبي حازم الأعرج لما حضره الموت،فقلنا يا أبا حازم،كيف تجدك؟قال: أجدني بخير،أجدني راجياً الله، حسن الظن به،ثم قال:إنه والله ما يستوي من غدا وراح يعمر عقد الآخرة لنفسه،فيقدمها أمامه قبل أن ينزل به الموت،حتى يقدم عليها فيقوم لها وتقوم له،ومن غدا وراح في عقد الدنيا يعمرها لغيره ويرجع إلى الآخرة لا حظ له فيها ولا نصيب”.
ولما حضرت الوفاة الخليفة العباسي المأمون قال:أنزلوني من على السرير.فأنزلوه على الأرض.فوضع خده على التراب وقال:يا من لايزول ملكه…ارحم من قد زال ملكه.
ويروى أن عبد الملك بن مروان لما أحس بالموت قال: ارفعوني على شرف،ففعل ذلك،فتنسم الروح،ثم قال: يا دنيا ما أطيبك! إن طويلك لقصير.وإن كثيرك لحقير.وإن كنا منك لفي غرور.
ولما احتضر هشام بن عبد الملك نظر إلى أهله يبكون حوله فقال:جاء هشام إليكم بالدنيا وجئتم له بالبكاء،ترك لكم ما جمع وتركتم له ما حمل،ما أعظم مصيبة هشام إن لم يرحمه الله.
ويقال إن الخليفة المعتصم العباسي قال عند موته:لو علمت أن عمري قصير هكذا ما فعلت..
وقال حكيم بن حزام(كان من العقلاء والحكماء عاش ستين سنة قبل الإسلام في الجاهلية وستين سنة في الإسلام)عندما حضره الموت:”لا إله إلا الله اللهم إني كنت أخشاك،فأنا اليوم أرجوك”.
وجاء في كتاب وحي القلم للرافعي رحمه الله(ج2 ص92):
“أعلمت أن رجلاً من المسلمين قد مرض،فأعضلَ مرضه فأثبتهُ على سريره ثلاثين سنة لا يتحرك،وطوى فيه الرجل الذي كان حياً ونشر منه الرجل الذي سيكون ميتاً،فبقي لا حياً ولا ميتاً ثلاثين سنة؟
أفتدري من كان الصابر ثلاثين سنة على بلاء الحياة والموت مجتمعين في عظامٍ ممددةٍ على سريرها،إنه إمامنا عمران بن حُصين الخزاعي الذي أرسله عمر بن الخطاب يُفقّه أهل البصرة وتولّى قضاءها،وكان الحسن البصري يحلف بالله ما قدمها خيرٌ من عمران بن حصين، ودخل عليه أخوه العلاء،فرآه مثبتاً على سرير الجريد كأنّما شُدَّ وما شُدَّ إلا بانتهاك عصبه وذوبان لحمه ووهن عظامه،فبكى أخوه فقال:لم تبكي؟قال:لأني أراك على هذه الحال العظيمة.قال: لا تبك،فإن أحبّهُ إلى الله تعالى أحبّهُ إلي.ثم قال:إن هذه الأرض تحمل الجبال فلا يشعر موضع منها بالجبل القائم عليه ،إذ كان تماسك الأرض كلها قد جعل لكل موضع منها قوة الجميع،ولولا هذا لدّك الجبل موضعه وغارَ به،فالبلاء محمول على هِمّة الروح لا على الجسم،وهذا معنى الخبر:”إن المؤمن بكل خير على كل حال،إن روحهُ لتُنزع من بين جنبيه وهو يحمد الله عز وجل”.
عضد الدولة البويهي على فراش الموت:
لما مات عضد الدولة البويهي،وكان ما كان من ضخامة ملك وعزة جاه،وهو الذي لقب بشاهنشاه،ولي المملكة وقد استولى الخراب عليها فعمرّها،وتخلص فيها من اللصوص والمفسدون فأمنّها،ونظم المخبرين،فعنده أخبار العالم الإسلامي في سرعة البرق،ورتب الجواسيس حتى خاف الرجل امرأنه والسيد خادمه،وهو شديد لا يلين،وقاس لا يرحم،وما أكثر من قتل وشرّد لسبب يستوجب ولغير سبب،حتى رووا عنه أنه أولع بجارية شغلته بجمالها وحسن حديثها عن بعض شؤون الملك،فأغرقها حتى لا يعود لمثلها،وزهت له الدنيا فاغترّ بها ووصف نفسه في شعره بأنه ملك الأملاك غلّاب القَدر،وقصده المتنبي فرأى ملكاً كبيراً،ونعيماً عظيماً،وقدرة قادرة،وسطوة قاهرة،فصرخ:
وقد رأيتُ الملوك قاطبة وسرتُ حتى رأيتُ مولاها
ومنْ مناياهم براحته يأمرها فيهم وينهاها
وإن له شرقها ومغربها ونفسهُ تستقل دنياها
تجمعت في فؤاده همم ملء فؤاد الزمان أحداها
وكان في ملكه كرمان وفارس وعمان والعراق والموصل وديار بكر وحران ومنبج،خضعت له وخافت منه واستكانت له،وفزع منه الصغير والكبير،ثم ماذا؟
أصابه المرض وهو في السابعة والأربعين،فأذل نفسه وأحقر شأنه،واستدعى له مهرة الأطباء فعجزوا عجزه وذلوا ذله،فأخذ يقول الشعر ينعي نفسه:
قتلت صناديد الرجال فلم أدع عدواً ولم أمهلْ على ظِنّةٍ خَلقا
وأخليتُ دورَ الملك من كلِّ نازلٍ فشرّدتهم غرباً وبدّدتهم شرقا
فلما بلغتُ النجمَ عزَّاً ورفعةً وصارت ركاب الخَلقِ أجمعَ لي رِقا
رماني الردى سهماً فأخمد جمرتي فها أنذا في حجرتي عاطلاً مُلْقَ
ثم جعل يقول:ما أغنى عني ماليه،هلك عني سلطانيه،إلى أن مات.
إذا كان هذا ففيمَ غرور المغترّ،وطمع الطامع،وسطوة الظالم،وطغيان المستبد،وخيلاء المعجب؟
ورحم الله الحسن البصري،إذ يقول:”ما أكثر المُعتبّر وأقلّ المُعتبِر”.
(نقلاً عن مقال للأستاذ أحمد أمين ـ مجلة الثقافة ـ العدد 223).
مصطفى السباعي رحمه الله وفي ساعة من ساعات اشتداد الآلام،وبعد أن صارحه الأطباء بيأس من شفائه فاضت نفسه المؤمنة الراضية بهذه الأبيات التي يودع فيها وداع مفارق أهله وأحباءه وذويه:
أهاجكَ الوجدُ أم شاقتكَ آثار كانت مغاني نعمَ الأهلُ والدارُ
وما لعينكَ تبكي حُرقة وأسىً وما لقلبِكَ ما ضجَّت بهِ النارُ؟
على الأحبّة تبكي أم على… طَللٍ لم يبق فيه أحباءٌ وسُمارُ؟
وهل من الدّهر تشكو سوءَ عشرتِهِ لم يوف عهداً ولم يهدأ له ثأر؟
هيهات يا صاحبي آسى على زمن ساد العبيدُ به وأقتيدَ أحرارُ
أو أذرفُ الدمع في حبٍّ يفاركني أو في اللذائذِ والآمال تنهار
فما سبتني قبلَ اليومِ غانيةٌ ولا دعاني إلى الفحشاء فجَّار
أَمَتُّ في الله نفساً لا تطاوعني في المكرمات لها في الشرِّ إصرار
وبعتُ في الله دنيا لا يسود بها حقٌ ولا قادها في الحكم أبرارُ
وإنّما حزني في صِبيةٍ دَرَجوا غُفْلٍ عن الشرِّ لم تُوقدْ لهم نارُ
قد كنت ارجو زماناً أن أقودَهمُ للمكرماتِ فلا ظلمٌ ولا عارُ
والآنَ قد سارعت خُطوي إلى كَفنٍ يوماً سيلبسه بَرٌ وجبّارُ
باللهِ يا صبيتي لا تهلِكوا جزعاً على أبيكم طريقُ الموتِ أقدارُ
تركتكم في حِمى الرحمن يكلؤكم من يهدهِ اللهُ لا توبقْهُ أوزارُ
وأنتم يا أهيلَ الحيِّ صِبيتُكمْ أمانةٌ عندكم هل يُهمل الجارُ؟
أفدي بنفسيَ أُماً لا يفارقها هَمٌ وتنهارُ حزناً حين أنهار
فكيف تسكن بعد اليومِ من شَجَنٍ يا لوعةَ الثكل ما في الدّار دَيَّارُ
وزوجةً منحتني كل ما ملكت من صادقِ الودِّ تحنانٌ وإيثارُ
عشنا زماناً هنيَّاً من تواصلنا فكم يؤرقّ بعدَ العزِّ إدبارُ
وأخوة جعلوني بعد فقد أبي أباً لآمالهم روضٌ وأزهارُ
أستودع الله صحباً كنت أذخرهم للنائبات لنا أنسٌ وأسمارُ
الملتقى في جنان الخلد إن قُبلت منا صلاةٌ وطاعاتٌ وأذكارُ
مصطفى السباعي في قصيدة أخرى بعنوان “رويدك”:
ومُنتظرٍ موتي ليشفي غيظه رُويدّك إن الموت أقرب موعد
كلانا سيلقى الله من غير ناصرٍ فيحكم مَنْ منا الشقيّ ومن هُدي
أغاظك مني شهرة ومحبّة من الناس أولتني قلادة سؤدد؟
لَعمرُك ما ذاك الذي قد أهابَ بي إلى دعوة الاصلاح في ظلِّ أحمد
ولكنّه الإخلاص والعلم والظمأ وطول عناء الأمس واليوم والغد
أبى المجد أن يعنو لكل مُضلّل تسيّره الأهواء خبطاً بفدفد
فإن تكن الأيام أودّت بصحتي وعاقت خطى عزمي بكل مُسدَّد
فما كنتُ خوّاراً ولا كنتُ يائساً ولست بثاوٍ في فراشي ومقعدي
سأمشي إلى الغايات مشي مكافح ألوذ بعزِّ الله من كل مُعتد
وأحمي لواء الحق من أن يدوسه طغاة غدوا حرباً على كل مُرشد
فمن ساءه عزمي على السير إنني إلى الله ماضٍ فليطل هَمُّ حسَّدي
وإن يأس أحبابي عليَّ من الرّدى لطول السُرى، فالموت في الحقِّ مسعدي
مصطفى السباعي في قصيدة ثالثة بعنوان “أيها السائرون”:
أيها السائرون في موكب الح قِّ سراعاً للخير لا للمغانم
صدقوا الله عهدهم فتنادّوا للمنايا لا يعبؤون بظالم
عرّجوا في الطريق نحو جريح كان في الله ثورة لا تُسالم
كافح الظالمين في صولة الظل م وللشرّ دولة ومعالم
ثم شاءت إرادة الله أن يق صى بعيداً عن خوض تلك الملاحم
أوثقته الأسقام بضع سنين في اكتمال الشّباب والحظ باسم
أرغمته الآلام أن يلزم البي ت إذ الخطب في العشيرة داهم
علم الله كرههُ راحة الجس م إذا البغي في المرابع جاثم
يقول الشيخ العلامة علي الطنطاوي رحمه الله في مقال بعنوان:”في لجج البحر”(الشيخ يرثي نفسه):
“مات علي الطنطاوي.وليس عجباً أن يموت،والموت غاية كل حي،ولكن العجيب أن يرجع بعدما مات،ليصف للقراء الموت الذي رآه…
لم يكن يعرف من السباحة إلا درساً واحداً،كان قد تلقاه من أكثر من ثلث قرن،على معلم لم يسبح أبداً.وأخذت أسبح السباحة التي أعرفها:أرفع رجلي،وأحرّك يدي،فإذا تعبت خرجت أستمتع بالشمس والهواء،وكنت ممتلئاً بالصحة،أكاد أتوثب من النشاط توثباً،وكان الموت بعيداً عن فكري،والموت أبداً أبعد شىء في أفكارنا عنا،وإن كان أقرب شىء في حقيقته منا،نتناساه وهو عن أيماننا وشمائلنا،نشيع الجنائز ونمشي معها ونحن في غفلة عنها،نتكلم كلام الدنيا،ونرى مواكب الموت تمر بنا كل يوم،فلا نفكر ولا نعتبر،ولا نقدر أننا سنموت كما ماتوا،ومات من كان أصحّ منا صحة،وكان أشدّ منا قوة وأكبر سلطانا،وأكثر أعوانا،فما دفعت عنه الموت لما جاءه صحته ولا قوته،ولا حماه منه سلطانه ولا أعوانه،نعرف بعقولنا أن الموت كأس سيشرب منها كل حيّ،ولكننا ننسى هذه الحقيقة بشعورنا وعواطفنا،وتحجبها عنا شواغل يومنا،وتوافه دنيانا،يقول كل واحد منا بلسانه:إن الموت حقّ وإنه مقدّر على كل حيّ،ويقول بفعله لم أموت،لقد كتب الموت على كل نفس إلا نفسي،فلا يزال في العمر فسحة لي دائما،ولن يأتي أجلي أبداً.
وعاودت الدخول في الماء،وأطلب البقاء فيه،وحاولت الوقوف فإذا أنا لا أجد الأرض الصلبة من تحتي،وحاولت أن أرفع رأسي فأنظر،فإذا أنا لا أجد الهواء ولا أبصر شيئاً،وأحسستُ أن الماء المالح قد تدفق على فمي،وأنفي،فأنا لا أملك إلا أن أبلعه وأنشقه،وبدأت أحس آلاماً لا تصور ولا توصف،ليست في الرأس ،وليست في عضو من الأعضاء وحده،ولكنها في كل ذرة من جسدي،وروحي،وشعرت كأن قد ألقيت علي صخرة ضخمة،وأن أعصابي تجذب من تحتها وتقلع،كما تجذب خيوط الحرير مما خالطها من الشوك،وصار كل همي من دنياي أن أجد نسمة واحدة من الهواء فلا أجدها.فقلت:هذا هو الموت،هذا هو الموت الذي أفر من الكلام فيه والحديث عنه،والذي أراه بعيداً عني،لم يحن حينه،ولم يدن موعده،لذلك كنت أؤجل التوبة من يوم إلى يوم،أقول إذا بلغت من الشباب تبت،فلما بلغتها قلت:أتوب في الاربعين،فلما جاوزتها قلت:أنتظر حتى أتم بناء الدار،فلما أتممتها فلت:أتوب وأتفرغ إلى الله،إذا بلغت سن التقاعد،كأني أخذت على ملك الموت عهداً،ألا يطرق بابي حتى أبلغ سن التقاعد،فها هو ذا قد جاء على غير ميعاد.
لقد أمحت(والله)صورة الدنيا كلها من أمامي .ومالي وللدنيا.ولم يبق لي فيها إلا لحظات معدودات،أنا أتجرع فيها ثمالة كأس اللآلام ،لم يبق لي منها ما يغريني بها،حتى الأهل والولد شغلت بنفسي عنهم،فلا تصدقوا ما تقرؤونه في القصص من ان المشرف على الغرق،يفكر في أحبائه أو في أعماله،أو في أدبه وعلمه ومقالاته وأشعاره،أو يهمه ما يقال فيه من بعده وما كان ذلك من غير المسلم،أما المسلم فلا يرى في تلك الساعة إلا ما هو قادم عليه.
وازدحمت عليَّ الخواطر فيما أفعله،فحاولت التشهد والتوبة أولاً،فلم أستطع النطق بشىء مما كان في فمي من الماء،وازدادت علي الآلام ولكنها لم تقطع خواطري،وكان ذهني في نشاط عجيب ما أحسست مثله عمري كله،وكنت بين خوف من الموت ورغبة فيه:أرغب فيه أرجو أن تكون هذه الميتة على الإيمان،وأخاف لأنه ليس لدي ما أقدم به على الله،وقد فاجأني الموت ،كما يفاجىء التلميذ المهمل،الذي لا يزال يؤجل المطالعة والحفظ،ويقول:الإمتحان بعيد،وتمضي الأيام،حتى إذا رآه صار أمامه قطع أصابعه ندماً،وأذهب نفسه حسرة،وما نفعه ذلك شيئاً.
ونظرت فإذا كل ما ربحته من عمري لحظات ،لحظات كنت أحس فيها حلاوة الإيمان،وأخلص فيها التوجه إلى الله تقابلها عشرات من السنين كنت سابحاً فيها في بحار الغفلة،تائهاً في بيداء الغرور،أحسب من جهلي،أن الأيام ستمتد بي،لم أدر أن العمر ساعات محدودة،وأن ذلك هو رأس مالي كله ،فإن أضعته لم يبق لي من بعده شىء.
ونظرت فإذا المقاييس كاملة تتبدى ساعة الموت،وإذا كل ما كنت أحبه وأنازع عليه، قد صار عدماً!وإذا أنا لم أخذ معي شيئاً،بنيت داراً فما حملت معي منها حجراً،واقتنيت مالاً فما كان لي منه،إلا ما ظننتُ من قبل أني خسرته ،وهو ما أخرجته لله،وكتبت ألفاً من المقالات في عشرات من السنين،فما نفعني إلا كلمة قلتها لوجه الله،وأين هي؟وعرفت لذائذ الحياة كلها،فما الذي بقي في يدي وأنا أموت غرقاً من لذائذ،وما الذي استبدلته بالعمل الصالح الذي لا أرجو النجاة الآن إلا به؟
وغلبني ألم الموت،ولم يعد في طوقي أن أفكر،فرجعت إلى الله وتصورت كرمه وعفوه،وكان يغلب عليَّ الأمل وحب الحياة،فأضرب بيدي ورجلي وأرفع يميني أشير بها،ثم يدركني اليأس فأسلم أمري إلى الله،ولم أكن أتمنى بعد المغفرة،إلا شيئاً واحداً،هو أن يخفف الله عني بتعجيل موتي ،أخشى أن يطول بي هذا الألم فوق ما طال.
ثم لما خارت قواي،وأوشكت أن أغوص فلا أطفوا أبداً،خيّل إليَّ أنّي أسمع أصواتاً تناديني،وأحسست بيدي تمس شيئاً صلباً،أدركت أنه طرف من زورق،ففرحت فرحة ما فرحت قط مثلها،وشعرت أني أرفع إلى الزورق،ثم غبت عن نفسي وهم يمسكون برجلي لأخرج بعض ما في جوفي من ماء البحر.
لقد خرجت بنفس جديدة،واتعظت موعظة أرجو أن تدوم لي،وعرفت قيمة الحياة،وحقيقة الموت،ونحن لا نعرف من الموت إلا ظاهره دون حقيقته،نراه عدما،ونندب القريب والحبيب إن وضعناه في حفرة باردة،وخلفناه وحيدا،تأكله الدود،وليس حبيبك الذي أودعته الحفرة،ولكن جسده،والجسد ثوب يخلع بالموت،كما تخلع الحية ثوبها،فهل يبكي أحد على ثوب خلع؟!
وما الموت إلا انتقال إلى حياة أرحب وأوسع ،إلى النعيم الدائم أو الشقاء الطويل،ولو كان الموت فناء لكان نعمة.
ولو أنا إذا متنا تُركنا لكان الموت راحة كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعدها عن كل شىء
فإذا كان الموت سفرة لابد منها،فالعاقل من تهيأ لها،وأعدّ لها الزاد والراحلة،وذكرها دائماً كي لا ينساها،ونظر في كل شىء،فإن كان مما يستطيع أن يحمله فيها حرص عليه،وإن كان مجبراً على تركه وراءه زهد فيه وانصرف عنه”.
ويقول الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني (مقال:في وقع الموت ـ الرسالة العدد136):
“وقد راقبت الموت في أكثر من مرة،وشهدت كثيرين وهم في سياقه،ثم ماتوا بين يدي،وكان الموت في هذه الحالات كلها على أثر نضوب الحيوية ونفاد القدرة على المقاومة.وكانت إحدى الميتات بسبب النزف،فظل العقل حاضراً لا يغيب ولا تغيم سماؤه،ولا يتعكر صفوه،وكان الإحساس بدنو الأجل قوياً،ولا شك أن الرغبة في الحياة كانت عظيمة،والجزع من الفناء كان شديداً،ولكن الجسم لم تكن له قوة تستخدمها الإرادة،فخرج النفس الأخير في سلام ومن غير أن يبدو للناظر أثر للصراع.
وميتة أخرى شهدتها،كان الصراع فيها كأعنف ما يمكن أن يكون ،لأن الجسم بوغت بعدوان المرض المنذر،فتنبه فيه كل كامن من قوته،وهبت إرادة الحياة تدفع هذه الغائلة،وكان يخيل إلي وأنا أنظر كأنّ إنساناً ألقي به في الماء وهو لا يعرف من السباحة إلا لفظها،وكما يفعل المرء حين يلقى نفسه في الماء ويخشى عليها الغرق،فتراه يضرب بيديه ورجليه بغير حساب أو تفكير ويهز رأسه هزاً عنيفاً،وينفخ ويرغى،كذلك كنت أرى أمي لما أصابتها الذبحة،وسكنت الآلام بفضل العلاج يومين،وبدأنا نستبشر،ولكن النكسة جاءت،أو لا أدري ماذا حدث ،فجعلت نوبات من الاختناق تعتريها،وبينها في أول الأمر فترات طويلة جعلت تقصر شيئاً فشيئاً حتى صارت دقائق.وكانت أول الأمر تقاوم الاختناق بشدة،وتعالج التنفس بجهد عنيف،يظهر أثره في كل عضلة من عضلات الوجه والعنق،وفي اضطراب الصدر وخفق القلب وفي دفع اليدين والرجلين،وكان همّي أن أقوي إرادة الحياة في نفسها وأن أمدّها بما يكفي من الأمل والثقة والشجاعة،ولكن كرّات الاختناق أوهت قوتها،ولم يذهب عقلها ولا ضعف ولا كلّ ،ولكن ما خير العقل وما غناؤه وحده؟؟وبأي شىء يشتد أزره؟فما جاءت آخر النوبات كان كل ما وسع الجسم أن يكافح به هذه الغارة أن الشفة السفلى اختلجت مرة أو مرتين،فهمد الجسم وكفّ القلب عن النبضان وانقطعت الأنفاس.
ويتابع:”ومن هنا كانت الشيخوخة ـ أي الضعف ـ والمرض الطويل أو المضني،بمثابة التدريب على الموت.وكل امرىء يقرن الشيخوخة أو المرض بالموت،ولا يستغربه حين يحل بالهرم أو الذي خامره الداء،ولكن موت الشاب يصدم النفس ويرجّها،لأن الشباب ـ وهو أوان الحيوية الزاخرة لا يقترن في الأذهان بفكرة الموت.أما الشيخ الهرم فإن كل من يراه يجري بخاطره أنه هامة يوم قريب،وأخلق أن يكون الموت أقرب إلى خاطره،وأجرى بباله،وأشد مثولاً وأكثر حضوراً،لأنه أحس بنفسه وأدق إدراكاً لما خسر من قوته ،وعلماً بما صار إليه من الوهن والفتور بالقياس إلى ما كان عليه من المنّة والنشاط والخفة والمرونة.ويألف المرء الضعف واليبس فيألف المصير الذي يرى نفسه ينحدر إليه بسرعة أو على مهل ،فيكون هذا كالرياضة له على السكون إلى المآل المحتوم،وهذا هو معنى قولي إن الشيخوخة أو المرض تدريب على الموت”.
جاء في( معجم الادباء – ياقوت الحموي- ج4 ص504):
حُدِّثَ عن النَّظام أنه دخل على سيبويه في مرضه فقال له: كيفَ تجدُكَ يا أبا بِشر؟ قال أجدني ترحلُ العافية عني بانتقالٍ،وأجدُ الداء يخامرني بِحلولٍ،غير أني وجدت الراحة منذ البارحة . قلت: فما تشتهي ؟ قال : أشتهي أن أشتهي(يرجو أن يعود إليه قدر من الصحة يجعله يشتهي الأشياء)، فلما كان من بعد ذلك اليوم دخلت إليه وأخوه يبكي وقد قطرت من دموعه قطرةٌ على خَدِّه فقلت : كيفَ تجدك؟ فقال:
يَسُرُّ الفتى ما كان قدَّمَ من تُقىً إذا عَرَفَ الداءَ الذي هو قاتله
قال النظام : ثم مات من يومه .
وجاء في أمالي المرتضى:”ومن المعمرين زهير بن جَناب عاش مائتي سنة وعشرين سنة،وكان سيداً مطاعاً شريفاً في قومه،ويقال:كانت فيه عشر خصال لم يجتمعن في غيره من أهل زمانه،كان سيد قومه وشريفهم ،وخطيبهم،وشاعرهم،ووافدهم إلى الملوك،وطبيبهم ـ والطب في ذلك الزمان شرف ـ وحازي قومه ـ الحزاة :الكهان ـ وكان فارس قومه،وله البيت فيهم، والعدد منهم”.وأوصى بنيه فقال:” يا بني،قد كبرت سنّي،وبلغتُ حَرْساً من دهري ،فأحكمتني التجارب ،والأمور تجربة واحتيال،فاحفظوا عني ما أقول وعُوه ،إياكم والخور عند المصائب،والتواكل عند النوائب ،فإنّ ذلك داعية للغم ،وشماتةً للعدو،وسوء ظن بالربِ،وإياكم أن تكونوا بالأحداث مغترين ،ولها آمنين ،ومنها ساخرين،فإنه ما سخر قومٌ قطّ إلا ابتلوا،ولكن توقعوها،فإنما الإنسان في الدنيا غرض تعاوره الرماة،فمقصّر دونه ومجاوزٌ لموضعه،وواقعٌ عن يمينه وشماله،ثم لابدَّ أنه مصيبه”.وهو القائل:
ليتَ شعري والدهرُ ذو حَدثان أيّ حينٍ منيّتي تلقاني
أسُباتٌ على الفراشِ خُفاتٌ أم بكفّي مُفَجَّعُ حرَّان
وقال حين مضت له مائتا سنة من عمره:
لقد عُمرِّتُ حتى ما أبالي أحتفي في صباحي أم مسائي
وحُقّ لمن أتتْ مائان عاما عليهِ أن يملَّ من الثواءِ
ويتكلم الأستاذ أحمد حسن الزيات رحمه الله عن وفاة ابنه(الرسالة العدد 144):
“يا قارئي أنت صديقي فدعني أرِقْ على يديك هذه العبرات الباقية!هذا ولدي كما ترى رُزقته على حال عابسة كاليأس،وكهولة بائسة كالهرم،وحياة باردة كالموت،فأشرق في نفسي إشراق الأمل،وأورق في عودي إيراق الربيع،وولد في حياتي العقيمة معاني الجدّة والاستمرار والخلود!
كنت في طريق الحياة كالشارد الهيمان،أنشد الراحة ولا أجد الظل،وأفيض المحبة ولا أجد الحبيب،وألبس الناس ولا أجد الأنس،وأكسب المال ولا أجد السعادة،وأعالج العيش ولا أدرك الغاية!فلما جاءني(رجاء) وجدتني أولد فيه من جديد،فأنا أنظر إلى الدنيا بعين الخيال،وأبسم إلى الوجود بثغر الأطفال،وأضطرب في الحياة اضطراب الحي الكامل يدفعه من ورائه طمع،ويجذبه من أمامه طموح!
ماهذا الضياء الذي يشع في نظراتي؟ما هذا الرجاء الذي يشيع في بسماتي؟ما هذا الرضى الذي يغمر نفسي؟ماهذا النعيم الذي يملأ شعوري؟ذلك كله انعكاس حياة على حياة،وتدفق روح في روح،وتأثير ولد في والد!؟
ثم انقضت تلك السنون الأربع!فصوّحت الواحة وأوحش القفر،وانطفأت الومضة وأغطش الليل،وتبدّد الحلم وتجهّم الواقع،وأخفق الطب ومات رجاء!!
لم يكن رجاء طفلاً عادياً حتى أملك الصبر عنه وأطيع السلوان فيه،إنما كان صورة الخيال الشاعر ورغبة القلب المشوق!
والهف نفسي عليه يوم تسلل إليه الحمام الراصد في وعكة قال الطبيب إنها (البرد)،ثم أعلن بعد ثلاثة أيام أنها (الدفتريا)!لقد عبث الداء الوبيل بجسمه النضر كما تعبث الريح السموم بالزهرة الغضة!ولكن ذكاءه وجماله ولطفه ما برحت قوية ناصعة،تصارع العدم بحيوية الطفولة،وتحاجُّ القدر في حكمة الحياة والموت!!
والهفَ نفسي عليه ساعة أخذته غصّة الموت،وأدركته شهقة الروح،فصاح بملء فمه الجميل بابا!بابا)كأنما ظن أباه يدفع عنه ما لا يدفع عن نفسه!
لنا الله من قبلك ومن بعدك يا رجاء،وللذين تطولوا بالمواساة فيك السلامة والبقاء!”.
وقال الأستاذ أحمد أمين مُعزياً الدكتور أحمد حسن الزيات في وفاة ابنه “رجاء”(مجلة الرسالة العدد 142):
“سعيت أمس لعزائك،في (رجائي)و(رجائك)،فرأيتك واجماً ساهماً،مولهاً مدلهاً،فانعقد لساني،وتخلّف ذهني،وفاض دمعي.
وكيف أستطيع عزاءك وما استطعت أن أعزي نفسي؟أو كيف أستطيع أن أخفف ما بك وما استطعت أن أخفف حزني؟
رأيت بك كمداً باطناً،وحزناً مكتمناً،فعلمت أنك تتجرّع غصص الهمّ،وتختزن برحاء الكرب،فتمنيت أن تخفف عنك بصرخة،وتنفس عن نفسك بدمعة،ولكن عزّ الصبر،وعزّ الدمع،فما هي إلا زفرات تذيب لفائف القلوب وتنفطر لها المرائر.
وا رحمتاه لك! لقد كان (رجاء)قبلة رجائك،ومعقد آمالك،وحديث أحلامك،وملء سمعك وبصرك،تشوفته حياتك،وترقبته مطلع شبابك،حتى جاد به الزمان البخيل،فربطت أسبابك بأسبابه،وتعلقت بأهدابه،فلما شِمت مخايله،ورقبت منه النجح،عدا عليه الدهر الذي لا يرعى ميثاقاً،ولا يثبت على عهد،فأخلف ظنك،ونقض املك،فإذا الدنيا أضغاث أحلام،ووساوس أطماع.
ولكن يا أخي ـ ما الجزع مما لابد منه،وما الهلع مما قدر،ومثلك من يعرف مقدار الحياة وهوانهانأفليست إلا مرسحاً تمثل عليه أدوار مختلفة،مرة مهزلة،ومرة مأساة،ونحن في حين ممثلون،وفي حين ناظرون.وليس لنا أن نبالغ في الألم،ونغلو في الجزع،فقد كان يكون لذلك وجه من الحق لو ذهب من ذهب أبداً،وعشنا بعده أبداً،وإنما الأمر دور يعقب دوراً،ولاحق منا إثر سابق،وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وأية سعادة نجدها في هذه الحياة حتى نحزن على الراحل،ونبكي على الميت،ونود أن لو بقى ليستمتع بها،ويتذوق طيباتها،إنما هي سلسلة عناء،وضروب شقاء،تنوعت ألوانها،واتحدت حقيقتها،ولو أنصفنا لغبطنا من مات،وأشفقنا على من بقى،ومن مات في صباه فقد اختصر الحياة واختصر همومها وأحزانها،ووفر على نفسه عبئاً ثقيلاً ينتهي مختصره بما ينتهي مطوله،وخير للزهرة أن تذهب وهي ناضرة تعجب الناس،من أن تذهب وهي ذابلة يعافها الناس.
وليس الوفاء للميت بالإفراط في الحزن،والإمعان في البكاء،إنما الوفاء بمقابلة دواعي الحزن بدواعي الصبر،وليست الحكمة في إضعاف الحي من أجل الميت،إنما هي في إحياء الحي من أجل الحي والميت.
وقد أخطأ الناس فغلوا في استفظاع الموت والاحتفاء به،وهولّوا في الاستكثار من مظاهره،ولو عقلوا لقابلوه كما يقابل كل قانون طبعي في هذا العالم،زهرة تنضر وتذبل،وشمس تطلع وتغرب،ونجم يتألق ويأفل،وسماء تصحو وتغيمـ ولو عقلوا أيضاً لرددوا هذا المعنى في نفوسهم،واطمأنت له عقولهم،فإذا كان فهو ما تخيلوه،وإذا حدث فهو ما توقعوه،وإذن لخفّ الألم وانقطع الجزع.
أي أخي ـ ليكن ما أراده الله،ولنلوّن حياتنا بلون من ألوان التصوف،رضاء بالقدر،واستخفاف بالعالم وما فيه،وطمأنينة إلى قوانينه،وإيمان بعظمة الله وسلطانه،والتجاء إليه أن يتولاك برحمته ويظلك بإحسانه.
أي أخي ـ لقد أصبحت منسرق القوة،ضعيف البنية،مرهف الحس،رقيق الصحة ـ ولئن كان الانتحار جريمة لا تغتفر،ويأساً لا يرضاه الله،فليس هو ـ فحسب ـ في إطلاق عيار ناري،أو القاء النفس في اليم،أو ما عهدت من ضروب إزهاق الروح،ولكن من ضروبه أيضاً الاستسلام للحزن والتسمم بالغم،والاسترسال في أسباب الكرب،فهو انتحار بطىء ولكنه شر من الانتحار العاجل أعيذك بالله منه،واربأ بنفسك عنه.
أحسن الله عزاءك،وأجمل صبرك،وأجزل أجرك”.
وقال الأستاذ أحمد أمين رحمه الله(الرسالة العدد43ـ مقال بعنوان:الموت والحياة):
“أبت عليَّ نفسي أن تكتب اليوم إلا في الموت،وهل نتاج الكاتب إلا قطعة من نفسه؟يفرح فيرقص قلمه،وينقبض فيسبل قلمه بالدمع،وقد كرهت للقراء هذا العنوان فأضفت إلى الموت الحياة،ولست أدري لم يلطف ذكر الحياة الموت،ولا يلطف ذكر الموت الحياة.
ولكن ما الجزع من الموت وقد طال عهدنا به ،وعرفه بنو آدم منذ عرفوا الحياة.ولمَ لم يالفوه كما ألفو كثيراً من المرّ حتى اعتادوه.
ولكن أعظم الناس شأن الموت لما أحاط به من ظروف،وما اتصل به من خيالات،وأُثير حوله من رعب بالغ بعض من رجال الدين في تفظيع الموت،وهوّلوا من شأنه تهويلاً تنخلع له القلوب،وتقشعر منه الجلود،لأنهم رأوا في ذلك درساً قاسياً يردع المجرم عن إجرامه،ويزع الآثم عن إثمه،ولكن أخشى أن يكونوا قد أفرطوا إفراطاً شلّ النفس وأشاع فيها اليأس.وأنهم ـ وقد عهد إليهم أن يعادلوا بين الترغيب والترهيب ـ قد أرهقوا كفة الترهيب حتى ثقلت وهوت،وخفّفوا كفّة الترغيب حتى شالت وعلت،ولعل هذا كان من الأسباب التي جعلتنا نتسخط الحياة ونتبرم بها.ثم ما هذه الأخلاق التي هي أشبه ما تكون بأخلاق العبيد!لا ندعى للخير إلا بالعصا،ولا تطلب منا الفضيلة إلا بالسياط؟
أليس خيراً من ذلك أن يحدونا إلى الخير الحب.لا أن يسوقنا إليه الرعب؟
ثم زاد الموت سوءاً ما أحاطه به الأحياء من مظاهر الفزع والألم،فصراخ تنفطر له المرائر،وبكاء يذيب لفائف القلوب،والناس حول الميت بين ساهم البصر،ومطرق الطرف،ومكروب النفس،وناكس الرأس،يتأوه الآهة تنقصف منها ضلوعه،ويزفر الزفرة تتصدع منها نفسه،ولست أظن أن هذا وأمثاله من طبيعة الإنسان،قد يكون من طبيعته الحزن على فقد القريب والصديق،ولكن ليس من طبيعته الجزع”.
وجاء في (العقد الفريد ج4 ص3):أ عرابي يدعو ويصف داء الموت “اللهم اغفر لي والجلد بارد، والنفس رطبة، واللسان منطلق،والصحف منشورة، والأقلام جارية، والتوبة مقبولة،والأنفس مريحة، والتضرع مرجو، قبل أزّ العروق، وحَشَك النفس،وعَلَز الصدر، وتزيل الأوصال،ونصول الشعر، وتحيّف التراب”.
من احدى مقالات محمود محمد شاكر (جمهرة المقالات-عن وفاة ذو الرّمة)):
“ثارت نفس ذي الرمة ثورتها على مي،وقلق،فاضطرب في البلاد حتى أبعد، فذهب إلى أصبهان،فلم يطق أن يقيم بها فعاد إلى دياره … فلم يلبث ذلك الشاب القصير،النحيف،الخفيف العارضين،أن استحال شيخاً شَخْتاً(الدقيق الضامر)،دقيق العظام ،قد براه الحب والضنى ولمّا يشرف على الأربعين.فلم يلبث ذو الرمة على ذلك أن اشتكى “النوطة”-وهي زيادة تحدث في النحر كأنها غُدّة ،تمور بين الجلد واللحم إذا حركتها- فوجع بها دهراً حتى قال:
ألِفتُ كلابَ الحَيِّ حتى عَرَفنني ومُدّتْ نِساج العنكبوت على رحلي
فلما تماثل عزم على أن يخرج إلى الشام،إلى هشام بن عبد الملك،فقال لأخيه مسعود: يا مسعود! قد أجدني تماثلت،وخفّت الأشياء عندنا،واحتجنا إلى زيارة بني مروان، فهل لك بنا فيهم؟فقال نعم ! وركب ذو الرمة ناقته فقمصت به، فانفجرت النوطة التي كانت به . فلما بلغ موعد اخيه جهد فقال: أردنا شيئاً وأراد الله شيئاً. وإنّ العلة التي كانت بي قد انفجرت. مكث أياماً حتى ثقل،وكان معه من أخواله الحجاج الأسدي فسأله: يا غيلان ! كيف تجدك! فقال: أجدني والله يا أبا المثنى اليومَ في الموت لا غداة أقول:
كأني غداة الزُّرْق يا مي مُدْنِفٌ يَكيد بنفسٍ قد أحمّ حِمامها
فلما احتضر كان أخر ما قاله:
ياربِّ قد اشرفتْ نفسي،وقد علمتْ علماً يقيناً لقد أحصيت ثاري
يا مُخْرِجَ الروح من جسمي إذا احتضرت وفارجَ الكرب،زحزحني عن النار
ـ ولي الدين يكن في طفلة له رأها تحتضر وهي في الشهر الثالث من عمرها(مجلة الزهور العدد35 بتاريخ الاول من حزيران عام 1913م):
“أقصرت عنكِ وسائلُ العناية،وخابت في استبقائكِ آمال القلبين المشفقين اللذين طال خفوقها عليكِ في الليالي الطويلة.وها أنتِ اليوم على وشك التوديع.لم تتعلمي ما يقولُ المودّعون،لأنكِ لم تبلغي سنَّ القول.ولستِ تفهمين ما يُقال فيكِ،لأنكِ لم تصلي إلى زمن الفهم.
أشفقتُ عليكِ من أوجاع تُحسينَ بها ولا تدركينها.ثلاثةُ أشهر،كثلاث طرفاتٍ بالجفن،مضت وكأنّها لم تكن.ليت الشفاه التي لا مست قبلاتها تينك الوجنتين الذابلتين جفت قبل أن تكونَ ممراً للتأوهِ .. وليت تلك الأنفاس التي سرت على وجهكِ الغضِّ التهبت في أحشائنا قبل أن تنقلب زفرات..
أعددتك ذخراً، وإذا بكِ مسلوبة. ظننتكِ لي،فإذا بكِ للثرى.
لهفي عليكِ إذ تذهبين،ولم تري من سطوري ما يكون لكِ عظة من بعدي.بل لهفي عليَّ إذ أستندي عيونَ النيّرات بمصراع أرتجله،وأنا أطلبُ اليومَ فيكِ كلامَ الرثاء،فلا تساعفني المعاني.إن يخطئكِ الحِمام،وهيهات ما أظنهُ فاعلا! فقد أبقى لي الدهرُ أملاً كاد يزمع الرحيل.وإن يأخذكِ كما أخذ أجدادكِ وجدّاتكِ من قبل،فقد أسرعتِ في قطع طريق يتظالع في قطعها الخلائق.
أتيتِ نقية،وتذهبين نقية، كقطرة الطلّ على ورقةٍ من الورد،تلمعُ بكرةً،ولا تلبث أن تستطار بخاراً.بين نوحات الثاكلات،وترجيع الحمائم بالأسحار،وبكاء السماء،وابتسام الأرض تضادّ يغيظ الموجع.
لا أشكو بثي فيكِ،ولكني أستبقيه لأعتصرَ منهُ ذوبَ الشجون،ولأخاطبَ بهِ نفسي ناصحاً كلما غلبت عليها غفلات هذه الدار،وكادت تكون لها فتنة.
لا أستطيع دفعاً لشئ يسوقه المقدور،ولكني وفيٌّ أضمن لكِ ألا يلتام جرح يومك هذا.
تزولين أنتِ وتبقى ذكراكِ. كذاك الحياة،تزول الهيولى وتبقى الصور”.
أحمد شوقي(في وفاة والده):
ياليلة سميتها ليلتي لأنها بالناس مامرت
أذكرها،والموت في ذكرها على سبيل البث والعبرة
ليعلم الغافل ما أمسه؟ ما يومه؟ ما منتهى العيشة؟
نبهني المقدور في جنحها وكنت بين النوم واليقظة
الموت عجلان إلى والدي والوضع مستعص على زوجتي
هذا فتى يبكى على مثله وهذه في أول النشأة
وتلك في مصر على حالها وذاك رهن الموت والغربة
والقلب ما بينهما حائر من بلدة أسري إلى بلدة
حتى بدا الصبح، فولَّى أبي وأقبلت بعد العناء ابنتي
فقلت: أحكامك حرنا لها يا مخرج الحي من الميت
شوقي:
وما الجِراحُ بالآسى المُرجّى إذا لم يَقتُل الجثث اطّلاعا
ورُبَّ حديثِ خيرٍ هاجَ خيراً وذكرِ شجاعةٍ بعثَ الشجاعا
مَرِضت فما ألحَّ الداءُ إلا على نفسٍ تَعوَّدت الصّراعا
ومن يَتجرَعُّ الالامَ حَيّاً تَسُغْ عند المماتِ له اجتراعا
أرَقتَ وكيفَ يُعطى الغَمضَ جفنٌ تَسُلُّ وراءه القلبَ الرّوُاعا
ولم يهدأ وسادُكَ في الليالي لعلمك أن ستفُنيها اضطجاعا
عجبتُ لشارحٍ سَببَ المنايا يُسّمي الداءَ والعِلل الوِجاعا
وإنَّ النفسَ تهدأ بعد حينٍ إذا لم تَلقَ بالجزع انتفاعا
إذا اختلف الزمانُ على حزينٍ مضى بالدمع ثم محا الدِّماعا
شوقي يرثي مصطفى كامل وهو على فراش المرض:
ولقد نظرتُكَ والرّدى بك مُحْدِقٌ والداءُ ملءُ معالم الجُثمانِ
يبغي ويطغى والطبيبُ مُضَّلل قنِطٌ وساعات الرحيل ثواني
ونواظرُ العُوّاد عنكَ أمالها دمعٌ تُعالِجُ كتمهُ وتُعاني
فَهَششتَ لي حتى كأنّكَ عائدي وأنا الذي هدَّ السقام كَياني
ورأيتُ كيفَ تموتُ آسادُ الشّرى وعرفتُ كيف مصارع الشجعان
ووجدتُ في ذاك الخيال عزائِماً ما للِمنونِ بِدكهنَّ يدان
يا صَبَّ مصرَ ويا شهيدَ غرامها هذا ثرى مصر فنم بامان
اخلع على مصر شبابك غالياً والبس شباب الحور والولدان
فلعلَّ مصراً من شبابك ترتدي مجداً تتيهُ به على البلدان
حافظ إبراهيم:
سلامٌ على الدنيا سلامَ مُوَدِّعٍ رأى في ظلامِ القبرِ اُنْساً ومَغنما
أضَرَّتْ به الأولى فهامَ بأختِها فإن ساءت الأخرى فويلاهُ مِنهُما
فَهُبيّ رياحَ الموتِ نُكْباً وأطفئي سِراجَ حياتي قبلَ أن يتحطّما
فما عصمتني من زماني فضائلي ولكن رأيتُ الموتَ للِحُرِّ أعصما
فيا قلبُ لا تَجزعْ إذا عَضّكَ الأسى فإنّكَ بعد اليومِ لن تتألما
ويا عينُ قد آنَ الجمودُ لمدمعي فلا سَيلَ دَمع تسكبين ولا دَما
ويا يدُ ما كَلّفُتكِ البَسَّطَ مرةً لذي مِنّةٍ أولى الجميلَ وأنعما
فللهِ ما أحلاكِ في أنمُلِ البِلى وإن كنتِ أحلى في الطُروسِ وأكرما
ويا قدمي ما سِرْتِ بي لِمَذَّلةٍ ولم ترتقي إلا إلى العِزِّ سُلّما
فلا تُبطئي سَيراً إلى الموتِ واعلمي بأنَّ كريمَ القومِ من مات مُكْرما
ويا نفسُ كم جَشّمتُكِ الصبرَ والرّضا وجَشّمتني أن ألبسَ المجدَ مُعْلَما
فما اسطَعْتِ ان تستمرئي مُرَّ طعمهِ وما اسطعتُ بين القومِ أن أتقدّما
فهذا فِراقٌ بيننا فَتَجّملي فإنَّ الردى أحلى مذاقاً ومطعما
ويا صدرُ كم حَلّت بذاتِكَ ضِيقةٌ وكم جالَ في أنحائكَ الهَمُّ وارتمى
فَهلّا ترى في ضِيقةِ القبرِ فُسحةً تُنَفِّسُ عنكَ الكَرْبَ إن بِتَّ مُبْرِما
ويا قبرُ لا تبخل برَدِّ تحيةٍ على صاحبٍ أوفى علينا وسَلَّما
وهيهاتَ يأتي الحَيُّ للميتِ زائراً فإني رأيتُ الوُدَّ في الحيِّ أسقما
ويا أيُّها النجمُ الذي طالَ سُهدَهُ وقد أخذت منه السُّرى أين يَمما
لعلّكَ لا تنسى عُهودَ مُنادمٍ تَعلّمَ منكَ السُّهدَ والأينَ كُلّما(الأين: التعب)
حافظ إبراهيم يرثي منصور فهمي(مجلة المنار العدد414):
آذنت شمس حياتي بمغيب ودنا المنهل يا نفس فطيبي
إن من سار إليه سيرنا ورد الراحة من بعد اللغوب
قد مضى”حفني” وهذا يومنا يتدانى فاستثيبي وأنيبي
وارقبيه كل يوم إنّما نحنُ في قبضة علام الغيوبِ
اذكري الموت لدى النوم ولا تُغفلي ذكرته عند الهبوبِ
واذكري الوحشة في القبر فلا مؤنس فيها سوى تقوى القلوبِ
قدّمي الخير اختساباً فكفى بعض ما قدّمت من تلك الذنوبِ
راعني فقد شبابي وأنا لا أراع اليوم من فقد مشيبي
حن جناي إلى برد الثرى حيث أنسى من عدو وحبيب
مضجع لا يُشتكى صاحبه شدّة الدهر ولا شدّة الخطوبِ
لا ولا يُسئمه ذاك الذي يسئم الأحياء من عيش رتيب
حافظ ابراهيم مخاطباً حفني ناصف بك ،وكان حفني قد بعث إلى حافظ بأبيات يذكره فيها بالموت ويدعوه إلى الاستعداد له إذا نزلت به المنية:
أخشى عليكَ المنايا حتى كأنّكَ مني
إذا شكوتَ صداعاً أطلتَ تسهيدَ جفني
وإن عَراكَ هُزالٌ هيأتُ لحدي وقطني
وإن دعوتُ لِحيٍّ يوماً فإياكَ أعني
عُمري بِعمرِكَ رَهنٌ فَعِشْ أعِشْ الفَ قرنِ
محمود سامي البارودي في أواخر أيامه:
أيا ليل كم تعتادني فيك خيفة فأثبت مقهوراً لها حين ألقاها
وما بي من خوف ولكن حوائج وددت لو أني قبل موتي أقضاها
تلمُّ بي الأوجال في كلِّ ساعة يُحسُّ بها قلبي ويجهلُ مأتاها
علي الجارم في سعد زغلول على فراش الموت :
لهفي عليه وهو رَهْنُ فِراشهِ مُتَفرزاً من دائهِ القتَّال
لهفي على لَيثِ الكنانةِ أُغمِدتْ أظفارهُ من بعدِ طُولِ صيالِ
قَنَصَتْ بناتُ الدهرِ واحِدَ دهرهِ ورمتهُ من أدوائها بِعُضالِ
يرنو إليهِ العائدونَ بأعيُنٍ غُزْرِ الدموعِ كثيرةِ التسآلِ
مُتقدمينَ،تسوقُهمْ لُمَعُ المنى متراجعينَ مخافة الإعوالِ
والموتُ يسخرُ بالحياةِ وطِبّها جُهدُ الحياةِ نهايةُ الآجالِ
يَفِدونَ للبيتِ الكريمِ كأنَهمْ زُمَرُ الحجيجِ تسيرُ في أرسالِ
عرفوا الجميلَ، ولا تزالُ بقيةٌ في الناسِ للإحسانِ والإجمالِ
علي الجارم يعزي في عبد العزيز جاويش:
فيامن رأى عبد العزيز تنوشهُ نيوبٌ لعادي الموت ايُّ نيوبِ
طريحاً على أيدي الاُساةِ كأنّهُ حِمالةُ عَضْبٍ أو رشاءُ قليب(حبل بئر)
فيا ويحَ للصدرِ الرحيبِ الذي غدا بِمُزدَحمِ الآلامِ غير رحيبِ
تَدِّبُ به في موطنِ الحلمِ عِلّةٌ لها كالصِّلال الرُّقشِ شرُّ دبيبِ
ترى القلبَ منها واجباً أن تَمسَّهُ فتتركهُ قلباً بغيرِ وجيبِ
أصابتْ نظاماً للمعالي فبدّدتْ ومقصِدَ آمالٍ ومجدَ شُعوبِ
علي الجارم:
مَرضْتَ، فقلنا مَشرفيُّ بغمده توارى،ونجمٌ عن قليلٍ سَيطلعُ
ولم ندرِ أن الموتَ باسطُ كفّهِ إلى الغُصنِ في رَيعانهِ وهو مُونِعُ
وأنّ قضاءَ اللهِ حُمَّ، فما لنا محيصٌ،ولا مما قضى الله مَفزَعُ
إذا برعَ الطبُ الحديثُ فقل له: يدُ الموتِ أمضى من يديك وأبرَعُ
وإنّ الفتى ماضٍ وماضٍ طبيبهُ وعائدهُ من بعدهِ والمُشَيّعُ
اسماعيل صبري(مشاهير شعراء العصر ص160):
إن سئمتَ الحياةَ فارجع إلى الأر ضِ تَنمْ آمناً من الأوصابِ
تلك أمٌ احنى عليك من الأ م التي خَلَّفتكَ للأتعاب
لا تَخفْ فالمماتُ ليسَ بماحٍ منكَ إلا ما تشتكي من عذاب
كُلُّ مَيتٍ باقٍ وإن خالف العن وانُ ما نُصَّ في غضونِ الكتاب
وحياةُ المرءِ اغترابٌ فإن ما تَ فقد عاد سالماً للتراب
اسماعيل صبري:
يا موتُ خُذْ ما أبقتْ ال أيامُ والساعاتُ مني
بيني وبينكَ خطوةٌ إن تَخطُّها فرّجتَ عني
علي محمود طه يصف أحدهم(صاحب الأهرام) على فراش الموت:
قم يا فتى الأهرام وانظر رفقة ينتظرون خطاك في الميعادِ
ويسائلون بك العشيّ كدأبهم هذا النديّ!فأين صدر النادي؟
يا لهف،ماعلموا بأنّك مزمع سفر الحياة ورحلة الآبادِ
يا لهف ما ظفروا كما عوّدتهم عند الوداع بنظرة وتنادي
حين الوفاء ألجم شيمتك التي أسرت قلوب أحبّة وأعادي
دخلوا عليكَ البيتَ جسماً ضارعاً متفرّداً،والموتُ بالمرصادِ
والفكرُ صحوٌ،والجبينُ شُعاعةٌ ألاقةٌّالرّوحُ في إيقادِ
والشّمسُ بينَ سحابتين تدجّتا رَمَقٌ يُصارِعُ حَينَهُ ويُرادي
في شاطئٍ قاني المياهِ كأنَّها مصبوغةٌ بدمِ النهارِ الفادي
هي صورةٌ لكَ،والمساءُ مقارِبٌ والرُّوحُ رَكْبٌ،والمنيَّةُ حادي
والقلبُ في كَفِّ القضاءِ فراشةٌ رَفافّةٌ،والعمرُ وَشْكُ نَفادِ
عجباً أيشكو قَلبَهُ من قلبهُ كنز الرّضى،والخيرِوالإسعادِ
وتخونهُ الأنفاسُ وهو رَحابةٌ كم نَفَّسَتْ عن أُمةٍ وبلادِ ؟
وإذا أتى الأجلُ النفوسَ فلا تَسَلْ عن صحةِ الأرواحِ والأجسادِ
أحمد رامي في أبيه وكان طريح الفراش:
أبٌ طريحٌ في فِراشِ الضَنى أقَضَّ في رَقْدتهِ المَضجعُ
شكا من الدَّاءِ الذي شَفَّهُ فجالَ في مُقْلتهِ المَدْمعُ
وقال أخشى أن يَحِلَّ الرَّدى ولي قَطا زُغْبٍ،وليَ مَطمَعُ
أخافُ أمضي عنهم تارِكاً عِشهُمُ تلوي به زعزَعُ
عزيز أباظه يصف زوجته على فراش الموت(قصيدة وحي الغروب):
قلتُ لما رايتُها تتهادى لمغيبٍ في جوف يَمٍّ سحيقِ
وهي مُصفرَّةُ الأديمِ كما اصفرَّ مشوقٌ أضناهُ نأيُ مشوقِ
سابقٌ في سديمه جدَّ في السير فأخلى السبيل للمسبوقِ
سُنةُ الكونِ والحياةِ دواليكَ غروبٌ مستأنفٌ من شروقِ
أنتِ ذكّرتني بشمس من الحور تولّت في حُسنها المرموقِ
في إطارٍ من الجلالِ سَنىٍّ وطرازٍ من الشبابِ أنيقِ
قلتُ هذا صدري تعالي إليه رُبَّ صدرٍ حانٍ عليك شفيقِ
طالعتني بنظرةٍ تجمعُ العطفَ إلى الوُدِّ والوفاء العميقِ
في طوايا صفائها الشكرُ لله وتصديقُ وعدهِ المصدوقِ
خَصّها اللهُ بامتحانٍ غليظٍ حملتهُ حملَ الشكورِ المُطيقِ
ثم قالتْ في أنّةٍ وأناةٍ أزِفتْ ساعةُ الفراقِ السحيقِ
لا تُرَعْ واحمل الفجيعة جَلداً لستَ للضعفِ دونها بخليقِ
وأشارت لطفلةٍ تشهدُ الهولَ بقلبٍ دامٍ وجفنٍ غريقِ
قالت: ارعَ الأولادَ وابقَ كما كنتَ مثالَ الأبِ المُحبِّ الرفيق
ومضت تنزَعُ الحياة وتُلقى في زفيرٍ أعباءَها وشهيقِ
في سنىِّ لامحٍ وعَرْفِ ذكيٍّ وابتسامٍ عذبٍ ووجه طليق
لو تراها تقولُ قد مسّها البُهرُ فآوت إلى سُباتٍ رقيقِ
ووقفنا مُروَّعين نُجيلُ الطرفَ بين التكذيبِ والتصديقِ
ثم عدنا للحقِّ عانين صَرعى من مُفيق يهذي وغيرِ مُفيق
ذهبت كالندى تألقَّ فوق الزهر في غُرّة الصباحِ الطليقِ
ومضت كانطلاقةٍ من أسارٍ ونأت كانفراجةٍ من ضيقِ
والبواكيرُ للخواتيمِ تُقضى وهما هامةُ الفناءِ السحيقِ
خليل مطران:
ما بالُ ذاكَ الجسمِ باتَ من الضّنى كالرَّسمِ في جُرفٍ بهِ مُنهارِ
ما بالُ ذاكَ العزمِ بعدَ مَضائهِ عَثَرتْ بهِ العِلّاتُ كُلَّ عِثار
ما بالُ ذاكَ القلبِ بعدَ خُفوقِهِ تنتابهُ هدآتُ ا لاستقرارِ
أمسى يُعالجُ سَكرةً في نزْعهِ من لم يذُقْ في العمرِ طعمَ عُقارِ
ولو استطاع لما أضاعَ دقيقةً يمضي الزمانُ بها مُضيَّ خَسارِ
أكذاكَ يختِمُ في الشقاءِ حياتهُ من كان جمَّ الجاهِ والإيسارِ
ماذا تفي من حقِّهِ بعد الذي عاناه كلُّ قلائدِ الأشعارِ
إن الذي يبلوهُ شاري قومهِ غيرُ الذي نتلوهُ في الأسطارِ
ماتَ الرئيس فصارَ كُلَّ مسيرةٍ ذاكَ النعيَّ وطارَ كلّ مطارِ
مات العصاميّ العظاميُّ الذي ما كان بالعاتي ولا الجبارِ
مات الذي مارى سواهُ في الهوى يومَ الحفاظِ وعاشَ غيرِ مُمارِ
خليل مطران:
أقولُ لها والدّاءُ يُنحِلُ جسمها عَزاءكِ لا بأسٌ عليكِ فتجزعي
كذبتُ على أنَّ الأكاذيبَ رُبَّما أطالتْ حياةً للحبيبِ المُودّعِ
ولكن أراها ينفثُ الدّمَ صدرُها فاشعرُ في صدري بمثلِ التقطّعِ
وأحنو عليها حِنيّةَ الأُمِّ مشفقاً وهيهاتَ تحميها من البينِ أضلعي
وأرنو إليها باسماً متكلّفاً فتفشي مِراراً سِرَّ خوفي أدمعي
وما غَرَّها مني افترارٌ وإنّما يَدُلُّ على اليأسِ انكشافُ التَصنُعِ
إذا افتَرَّ ثَغري من خلالِ كآبتي على ما بقلبي من آسىً وتَفَجُعِ
فقد يَبسِمُ البرقُ البعيدُ وإنَّهُ لذو ضَرَمٍ مُضْنٍ ورعدٍ مُرّوعِ
فبينا يُناجي نفسَهُ وفؤادُهُ كَشِلْوٍ بأنيابِ الغُمومِ مُبَضعِ
دَعَتْهُ وقالتْ يا حبيبي إنَّهُ دنا أجلي فالزمْ على القُربِ مَضجعي
متى تبتعدْ أُوجِسُ حِذاراً من الرّدى ولكننّي أسلو الرَّدى إن تكن معي
أيُذْكِرُكَ التوديعُ أوَّلَ مُلتقىً كَشفنا بهِ سِترَ الغرامِ المقَّنَعِ
وَحِلفتنا أن لا يُصَدِّعَ شَملَنا فِراقٌ على رَغمِ الزمانِ المُصَدِّعِ
فَعِشْ سالماً واغنمْ شِبابكَ مُطْلقاً من العهدِ ولأُجْعَلْ فِداكَ بمصرعي
وما كان ذاكَ العهدُ إلا وديعةً تَلَقيتها من ذي وفاءٍ سَمَيذَعِ
وعندَ النَوى تُوفَى الأماناتُ اهلَها وَيُنهى إلى أربابهِ كُلُّ مُودَعِ
ولكنْ إذا مَلَّكتَ قلبكَ فاحتفظْ بِرسمي وحَسبي فيهِ أصغرُ موضعِ
فأصغى إليها وهو يشهدُ نَزْعها وَينزِعُ في آلامهِ كُلَّ مَنْزِعِ
وقالَ أبى اللهُ الخيانةَ في الهوى فإنْ لمْ أمُتْ بالعهدِ فلأ تطوعِ
فيا بَهجةَ البيتِ الذي هوَ بَعدها كَدارسِ رَسمٍ فاقدِ الأنسِ بَلقَعِ
ويا زهرةَ الحبِّ التي بذُبولها ذُبولُ فؤادي الناشئ المُتَرَعرعِ
لئن تَنزلي دارَ الفناءِ وحيدةً فلا كانَ قلبي في الهوى قلبَ أروعِ
وإن عُدتُ فيمن شَيعوكِ فلا يكنْ بموتيَ لي من صاحبٍ ومُشَيِّعِ
ولما أجابت داعيَ البينِ مَوهناً أجابَ كما شاءَ الوفاءُ وما دُعي
أصابت سِهامُ اليأسِ مَقتَلَ قلبِهِ فما نُعيتْ حتى على إثرهَا نُعي
على أنها الدنيا اجتماعٌ وفرُقةٌ وتَخْلُفُ دارَ البينِ دارُ التَجمعُ
خليل مطران في فتاة ماتت شابة (الديوان ص97) :
منْ بالمنونِ لوالهٍ صَبِّ ذاكي الأضالعِ مُقْلَقِ الجَنبِ
ليت الرزيئةَ فيك أودت بي فنجوتُ من ألمي ومن كربي
وفزعتُ من نفسي إلى ربي
يا مُنيتي ماكنتُ بالجَزعِ في حادثٍ أيامَ كنتِ معي
والآن بتُّ مُخَلَّدَ الفزَعِ ميتاً بلا أملٍ ولا طمعِ
حيّاً بذكرِ معاهد الحُبِّ
تمتْ سعادُتنا على قَدَرٍ فسطت عليها غَيرةُ القدرِ
أودتْ معاً بالعينِ والأثرِ وتخلّفَ الباقي من الخبرِ
ذكرى وتبصرةً لذي لُبِّ
زالت حقيقةٌ ذلكَ الحُلُمِ وقضى الأبرُّ الطاهرُ الشيّمِ
منّا فراحَ فريسةَ العّدمِ وظللِتُ فيه فريسةَ الألمِ
حتى يَمنَّ الله بالقرُبِ
فَقْدَ النّفوسِ عذوبةَ الأملِ فَقْدَ العيونِ النُّورَ وهو جلي
فقدَ العزيزِ العزَّ لم يَطُلِّ فقدَ الفتى الدنيا على عجلِ
إذ جاءها ضيفاً على الرُّحبِ
خليل مطران وإسعاف أحدهم وموته:
وحَفلنَ حول سريرهِ ينهرنهُ لكنْ أحطنَ بصخرةٍ صَماءِ
فرفعنَ عنهُ غطاءَهُ فوجدنهُ بالميتِ أشبه منهُ بالأحياءِ
عالجنهُ جُهدَ العلاجِ ولم يكنْ شئٌ ليوقظهُ من الإغماءِ
حتى إذا دُعيَ الطبيبُ فجاءهمْ راعَ القلوبَ بنفي كُلِّ رجاءِ
فَتبدّلتْ أفراحهم في لحظةٍ بمناحةٍ وسرورُهمْ ببكاءِ
وكذا الحقيقةُ جِدُّها ومِزاحها سِيّانِ في الإشقاءِ والإفناءِ
محمود حسن اسماعيل يرثي علي الجارم الذي مات في حفل وهو يستمع لشعره:
لا لحنه عازف ولا وتره ما كان من طيّ النشيد ينتظره
أصغى لأنغامه ومهجته نوح مع الطير هاجه سحره
يهتزّ لهفان في تسمعه كأنما قد سرى به قدره
الله في جنبه ولوعته هشيم غصن أذابه شرره
أحسّ بالعمر في مقاطعه وقافيات العذاب تعتصره
والموت في جرسها ونغمتها خطو من الغيب لا يرى أثره
ما زال يدنيه من غياهبه حتى احتواه بنظرة بصره
فخَرّ في صمته،وفرّ به سرٌّ على الناس غامض خبره
وقيل: ما باله ! وما وهنت خطاه .. قلت انتهى عمره
باك أتى والدموع في يده وبل من النار واكفٌ مطره
ترتجُّ من حزنه قصيدته ويصطلي في لهيبها ضجره
قد خاف من حرّها فراح لها يصغي بقلبٍ تخيفه ذكره
ما أوشكت تنتهي مناحتها وينتهي من معنيّها عبره
حتى غدا صرخةً على فمها وداع من لن يردّه سفره
لكن قضى الله وانتهى بطلٌ كنا لريب الزمان ندخره
ابراهيم ناجي في رثاء أحمد شوقي:
هيهات أنسى قبل بينك ساعةً جمعت صحابك في غروب نهار
والشمس في سقم الغروب وأنت في لون الشحوبِ معصفرٌ ببهارِ
منحت وقد ذهبت شعاعاً غارباً كسناك طوافّاً على السُّمارِ
تشكو لي الضعفَ المُلِّمَّ لعلَّ في طبي مَقيلاً من وشيك عثارِ
وكشفتَ عن متهدّم جال الردى متهجماً في صرحهِ المنهارِ
فرأيتُ ما صنعَ الضنى في صُورةٍ حالت،وخلى هيكلاً كإطارِ
ووجمتُ! ألمحُ في الغيوبِ نهايةً وأرى بعينيَ غايةَ المضمارِ
وأرى النبوغَ وقد تهاوى نجمهُ والعبقريةُ وهي في الإدبارِ
أو لم يكن لك من زمانك ذائداً وثباتُ ذهنٍ ماردٍ جبار؟
أو لم يكن لكَ من حِمامكَ عاصماً ذاكَ الجبينُ مكللاً بالغار؟
وليّت في إثر الذين رثيتهم ُ وأقمت فيهم مأتمَ الأشعار
وسُقيتَ من كاسٍ تطوف بها يدٌ محتومةُ الأقداح والأدوارِ
عبد الرحمن صدقي يصف زوجته في مرض موتها(الشعر بعد شوقي . محمد مندور ج3 ص623):
دعوت لها الأفذاذ في الطبِّ جملة وشتى ومن غرب نماه ومشرق
فلم يأتلوا جُهداً ولا وجه حيلة وقد سوروا دون الظنون وخندقوا
نهاري حيران ألاقي أساتها وأرسل في إثرِ الدواءِ وألحق
وليلي سهران لصيق فراشها أراعي إلى أنفاسها وأحملق
تقول بصوت قد تهضّمه الضنى وأجهشَ حتى ما يبين منطق
أأشفى؟ أجل يا قرّة العينِ لا تهبى ولا تجزعي إنَّ الشفاء محقق
مقالة ملتاع الجنان أقولها وبين الرجاء واليأسِ قلبي مرهق
وترمقني منها لواحظ وامق تجلى هواه كله حين يرمق
نُجَرّعها مُرَّ الدواءِ تسيغه وناظرها في ناظري مُعلق
وننحى عليها إبرة بعد إبرة فترضى وهذا جلدها يتمزّق
تريد لتحيا من رضاها بصحبتي ولولاي ما كانت من الموت تفرق
وتحرص أن تبدو كعهدي جميلة يطالعني منها على السقم رونق
تعرَّقتها يا داء ما شئت جاهداً ولكن حسّ الروح في الوجه مشرق
عبد الرحمن شكري – مجلة الرسالة العدد 247-:
إذا ما دنا الموت من هالك وأيقن ألا يطول البقاءْ
وقد زال ما كان من نشوة ومن شِرَّةٍ نال عنها العزاء
ولاح له عيشه ماثلا وقد بُزَّ عما جناه الرياء
وأفهمَ ما كان من حرصه وأبصر ما قد طواه الخفاء
يُرى آسفاً أن عدا أو جنى وأن كان منه الأذى والعداء
وليس يُرى آسفاً لإغتفار دعاه قديماً فلبّى الدعاء
فليس على صفحه آسفاً ولكن على النيل ممّن أساء
أيأسف أن ضاع ثأر سُدىً ومُتِّعَ خصم له بالبقاء
عَدوان عاشا على إحنة وباعا السماحة بيع الإماء
أباحا النفاق وكيد اللئام لنيل الحطام وكسب الهباء
إذا ما دنا الموت من واحد أيشمت خصم له بالفناء
أيفرح مثل الجبان استراح وبُشِّرَ بالأمن بعد العداء
أيطعنه طعن نذل خصيما صريع التراب مُراق الدماء
ومرأى الحِمام كمرأى السَّقام يُذِلُّ العُتُلَّ ويُخزي الجفاء
هو الموت يشفي قلوب العدى ويختم بالصلح حرب البقاء
وقد يُطلبُ الصلح من فرحة تعير الشماتة ثوب السخاء
وكم من عداء غدا أُلفةً فيا عبثا إذ تراق الدماء
كم احتربت أمم ثم عادت كأن لم تذق في الحروب الشقاء
ألم تسمع الأرض نوح الجريح يُوَدِّع حتى جنون الرجاء
أما اختلطت بالصديد الدماء أما أفعم الموت نتنَ الهواء
وكم عُنق لقتيل، به عضاضُ عدو صريع العداء
عضاضٌ يحاول خلد الضغائ ن في جسد خَلقهُ للفناء
فيا عبثا لجهود الأنام سيمضي الرخاء ويمضي العناء
ويصبحُ من كان خصماً لدوداً عزيزاً ويُبْغَضُ إلفُ المساء
عبد الرحمن شكري من قصيدة غلام مريض يكلم أمه:
خبريني أمي أئن متُّ ماتت نزعاتي إليكم وحنيني؟
والحنانُ الذي أضمُّ به ك لَّ قريب معانق أو قرينِ
والضياءُ الذي ترين بعيني أمضئٌ سواد تلك المنون
وهل المرءُ في الممات غبينٌ أم هو المرءُ فيه غيرُ غبين
عاهديني أن لا تعاني لموتي حرقات تفيض ماءَ الجفون
وإذا شئتِ فاجعليه رشاشاً ذلك الدمع واحبسي من أنين(القليل من الدمع)
في قليلٍ من البكاءِ بلاغٌ وكثيرُ البكاء داء العيون
لست أرضى لحرِّ وجهك أن يز رى به من شحوب وجه الحزين
لست أرضى لأضلعٍ حملتني أن تعاني حملَ الأسى المكنون
ولصدرٍ قد كان يحنو على جس مي في المهد لوعة من شجون
العصافير في الرياض تغني لا كجسمي تحت الترابِ الدفين
كنتُ في العيش مثل هذي العصافي ر أغنى في وكريَ المأمون
فألاحت لي المنون بوجهٍ أي راءٍ يرضيه وجه المنون؟
ليس ما بي خوف الجبانِ ولكن خوف جهلٍ لا خوف جبن وهون
كالمكان الخراب يبعث في النف سِ خشوعاً ورعدةً للظنين
فهو يخشى وليس يعرف ما يخ شى ووجه الفناء غير أمين
ولي الدين يكن:
سقى الله داراتِ القرافةِ ديمةً ترفُّ على قومٍ هنالك هُجَّدِ
تَعوَّدَ كلٌّ بؤسَها ونعيمَها وعشنا على بؤسٍ ولم نَتعوّدِ
أحِنُّ إلى تلك المراقدِ في الثرى ولو استطيعُ اليومَ لأخترتُ مرقدي
فأنزلتُ جسمي منزلاً لا يملُّهُ يكونُ بعيداً من أعادٍ وحُسَّدِ
وما يتمنى الحرُّ في ظِلِّ عيشةٍ تَمرُّ لاحرارٍ وتحلو لأعبُدِ
لقد أتعبتني،والمتاعبُ جَمَّةٌ مسيرةُ يومي بين أمسي والغدِ
ألمّا يئِنْ أن يستريحَ مجاهِدٌ ألمّا يَئِنْ أن يبلغَ المنهلَ الصَّدي
فزعتُ من الآمالِ باليأسِ عائِداً فإن تُدْنني منها اللباناتُ أبعُدِ
فلا ترتعي منّي بقلبٍ مُعَذَّبٍ ولا تبخلي مني لطرفٍ مُسَّهدِ
فيا ريحُ إن يعصف بي الشجوُ سكّنّي ويا غيثُ إن يُضرمني الوجدُ أحمدِ
ويا ساكناتِ الطير في دولةِ الدُّجى أرى إن دعاكِ الصُبحُ أن لا تُغردي
لديَّ شكاياتٌ وأنتِ شجيّةٌ فإن تستطبيها لشجوكِ أنشدي
ولا تحسبي التقليدَ يذهِبُ حُسنها فكم حسناتٍ قد أتت من مُقَلّدِ
تَزَهّدتُ في وصلِ المعالي جميعها ومن يطَّلبها كاطَّلابي يزهدِ
وبِتُّ،تساوت في فؤادي مناهِجٌ تُودّي لخفضٍ،أو تؤدّي لسؤددِ
وإني في بيتٍ صغيرٍ مهدّمٍ كأنّي في قصرٍ كبيرٍ مُشيَّدِ
عفا الله عن قومٍ أتاني غدرُهم فَرُبَّ مُسئٍ، لم يُسئ عن تعمُّدِ
وكم من نفوسٍ يستطيلُ ضلالُها ولكن متى ما تبصرُ النورَ تهتدِ
ولي الدين يكن:
أيا ليل كم تعتادني فيك خيفة فأثبتُ مقهوراً لها حين ألقاها
وما بي من خوف ولكن حوائج وددت لو أني قبل موتي أقضاها
تَلُمْ بي الأوجال في كل ساعة يُحسُّ بها قلبي ويجهل مأتاها
ولي الدين يكن في أواخر أيامه:
مُتْ يا وليَ الدينِ مُتْ ما ثَمَّ من يبكيكا
ودّعْ حياتك هذهِ ما ذُقتهُ يكفيكا
وقال:
ما لهذا السقام لازم جسمي حلّ مني مابين عظمي وجلدي
كل يوم أذوب شيئاً فشيئاً ولقد ذاب قبل ذلك كبدي
غير مجد في الموت طبّ ولكن أنتمو تحسبون ذلك يُجدي
وقال:
يا جسداً قد ذاب حتى امحّى إلا قليلاً عالقاً بالشقاء
أعانكَ اللهُ بصبرٍ على ما ستعاني من قليل البقاء
أحمد رامي يصف والده على فراش الموت(الرسالة العدد 578):
يا نهر أيامي،أما آخر لشقّة العيش التي أقطع
أربت همومي فنبا مضجعي وصاحب الآلام لا يهجع
أب طريح في فراش الضنى أقضّ في رقدته المضجع
تتابعت في الليل أنّاته وكل أنّات الدجى تسمع
شكا من الداء الذي شفّه وانهمرت من عينه الأدمع
وقال أخشى أن يحل الرّدى ولي قطا زُغبٌ ولي مطمع
أخاف أمضي عنهم تاركاً عشهم تلوى به زعزع
ولي أخ يا نهر عيشي خلت منه ديار وخلا مهيع
وكان أنسي في ضمير الدجى وكان لي من عطفه مرتع
فهل لذي العلّة من صحة وهل لنضو نازح مرجع
وهل لليل العيش من مشرق يجلو ظلام اليأس إذ يطلع
لو كنت فرداً لم أرع إربة إن كان يعطي الدهر أو يمنع
لكن لي أماً ولي أخوة ولي أباً في ظلّه نرتع
ولا يطيب العيش إلا إذا سقاهم حوض المنى المترع
زكي مبارك يرثي محمد فريد:
سلوا برلين عمن حلَّ فيها يُفَتِّتُ كَبدَهُ المرضُ العنيدُ
مضى يستوهبُ الأيام عمراً تتمّ به المساعي والجهود
فلم يذهب بِعلّته طبيبٌ ولم يكتبْ له عمرٌ جديد
وخَرَّ على السرير وحُبُّ مصرٍ على تبريح عِلَّتهُ يزيد
فما ضمن البقاءَ له صديقٌ ينادي: لا عدمتُكَ يا فريد
فيا لهفي عليك وأنت كهلٌ غريبٌ عن أحبتهِ بعيدُ
تموت فلا ترى مثواك أمٌ ولا أختٌ ولا زوجٌ ودود
ولا يروي ثراك أخٌ شقيقٌ بدمعتهِ ولا طِفلٌ وليد
عائشة التيمورية ترثي ابنتها :
إن سالَ من غرب العيون بحورُ فالدهر باغٍ والزمان غدورُ
فلكل عين حقّ مِدرار الدما ولكلِ قلبٍ لوعةٌ وبثورُ
سُتر السنا وتحجبت شمسُ الضحى وتغّيبت بعد الشروق بدورُ
ومضى الذي أهوى وجرّعني الأسى وغدت بقلبي جذوةٌ وسعيرُ
ياليته لما نوى عهد النوى وافى العيون من الظلام نذيرُ
ناهيك ما فعلت بماءِ حشاشتي نارٌ لها بين الضلوعِ زفيرُ
لو بثّ حزني في الورى لم يُلتفت لمصاب قيس والمصاب كبيرُ
طافت بشهر الصوم كاسات الردى سَحراً وأكوابُ الدموع تدورُ
فتناولت منها ابنتي فتغيرّت وجناتُ خدِّ شانها التغييرُ
فذوت أزاهيرُ الحياة بروضها وانقدّ منها مائسٌ ونضيرُ
لبست ثيابَ السقم في صغرٍ وقد ذاقت شراب الموت وهو سريرُ
جاء الطبيب ضحى وبشّرَ بالشفا إنّ الطبيب بطبّه مغرورُ
وصفَ التجرّع وهو يزعمُ أنه بالبُرْءِ من كل السقام بشيرُ
فتنفست للحزن قائلة له عجّل ببرئي حيث أنت خبيرُ
وارحم شبابي إن والدتي غدت ثكلى يشير لها الجوى وتشيرُ
وارأف بعين حُرمت طيب الكرى تشكو السُّهاد وفي الجفون فتورُ
لما رأت يأس الطبيب وعجزه قالت ودمعُ المقلتين غزيرُ
أُمّاهُ وقد كلَّ الطبيبُ وفاتني مما اُومّلُ في الحياة نصيرُ
أُمّاهُ قد عزّ اللقاءُ وفي غدٍّ سترين نعشي كالعروسِ يسيرُ
وسينتهي المسعى إلى اللحد الذي هو منزلي وله الجموعُ تصيرُ
قولي لرب اللحد رِفقاً بابنتي جاءت عروساً ساقها التقديرُ
وتجلّدي بإزاءِ لحدي بُرهةً فتراك روحٌ راعها المقدورُ
أُمّاهُ قد سلفت لنا أمنية يا حسنها لو ساقها التيسيرُ
كانت كأحلام مضت وتخلّفت مُذ بان يومُ البين وهو عسيرُ
عودي إلى ربعٍ خلا ومآثر قد خلفت عني لها تاثيرُ
صوني جهاز العرس تذكاراً فلي قد كان منه إلى الزفاف سرورُ
جرّت مصائب فرقني لك بعد ذا لبس السواد ونُفِّذ المسطورُ
والقبر صار لغصن قدِّي روضة ريحانها عند المزار زهورُ
أُمّاهُ لا تنسي بحقِّ بنوتي قبري لئلا يحزن المقبورُ
فأجبتها والدمع يحبسُ منطقي والدهر من بعد الجوارِ يجورُ
بنتاهُ يا كبدي ولوعة مهجتي قد زال صفوٌ شانه التكديرُ
لا توص ثكلى قد أذاب فؤادها حزنٌ عليك وحسرةٌ وزفيرُ
أبكيك حتى نلتقي في جنة برياض خُلد زينتها الحورُ
إن قيل “عائشة” أقول لقد فنى عيشي وصبري والإله خبيرُ
ولهي على “توحيدة” الحسن التي قد غاب بدرُ جمالها المستورُ
قلبي وجفني واللسان وخالقي راضٍ وباكٍ شاكرٌ وغفورُ
مُتعتِ بالرضوان في خلد الرضا ما ازينت لك غرفة وقصورُ
أحمد زكي أبو شادي يرثي زوجته(الرسالة العدد668):
ماذا تُفيدُكِ لوعتي وبكائي؟ هذا فناؤكِ مُؤذِنٌ بفنائي
أسديتِ عمرك للحياة فما وفت ومضيتِ للأبرارِ والشهداءِ
لهفي عليكِ وقد أتيتُ مودِّعاً فبكيتُ فوق جبينك الوضاء
زانت الممات جماله وتناثرت مني الدموعُ عليكِ كالأنداءِ
كانت حشاشتي المذابة حرقة وبقيّة المكنوزِ من نعمائي
فترنحتْ بفجيعتي،وتضوّعت بسريرتي،وتلألات بوفائي
وروت مُحياً كان جنة نعمتي وملاذ تفكيري ووحي ذكائي
وطرحتِ آلام الحياة عزيزة فبدوتِ بين سماحةٍ وصفاءِ
وأقبلُ الوجه الحبيب،وطالما أودعتُ فيه صبابتي ورجائي
وأكاد أنسى للماتِ خشوعه لما نسيتُ تجلّدي ومضائي
كم كنتُ أعلقُ بالخيالِ توهماً وأرى الشّفاءَ ولاتَ حين شفاء
ويغالطُ القدرَ العتيَّ تفاؤلي وأنا الخصيمُ لخدعةٍ ورياءِ
آبى اعترافاً بالممات،كأنني لما بكيتُكِ قد أضِلَّ بكائي
أو أن هذا الموت حقّ ثابت إلا على الأحباب والخلصاء
أو أن عيشي أن أراكِ بجانبي مهما هُزلتِ فلا يهدُّ بنائي
أعتاضُ باللمحاتِ عن أُغنيّةٍ وعن الحديثِ العذبِ بالإيماءِ
وأعدُّ أنفاساً وهبتِ،ذخيرتي وحفيفَ ألفاظ همستِ،رخائي
وأموِّه الألمَ الدفينَ وأتقي عِلماً به،وأصدُّه بغبائي
وأكادُ أقسو في مُجانبةٍ له أو ليسَ جسمكِ رمز كل نقاء؟
مُتنزّهاً عن كل ما شان الورى مُترفعاً عن عِلّةٍ وعناءِ
حتى صدمتُ،ولا كصدمةِ شاهق متحطمٍ بصخوره الصمّاءِ
فجننتُ من حُزني وعِفتُ حصانتي ودفنتُ كلَّ رجاحتي العمياء!
لهفي عليك زميلتي في رحلتي وشريكتي في الصفو والضراء
لم أرض غيري أن يسير مُشيّعاً أو أن تُوزَّع حرقتي وعنائي
وكتمتُ نعيك،كم أضن بذكره وأحوطهُ بنُهايَ واستحيائي
لبيتُ رغبتكِ الزّكية دائماً ووعيتُها نبلاً ولطفَ حياء
وجعلتُ مأتمك الرهيبَ عواطفي وبخلتُ بالتنويهِ والإفضاءِ
حتى تفجر بي الأنينُ مَلاحما وجرى النظيم بأدمعي ودمائي
ما كنتُ أحسب أن يومك سابقي أو أن أيام الحياة ورائي
كنا نهيىء للرحيل متاعنا وننسق الآمالَ غير بطاء
ونهيبُ بالدنيا لتشهد حظنا ونهشُّ للأيام والأنباءِ
ونردُّ عادية الانام تسامحاً مستغفرين لجاحدٍ ومرائي
متسابقينَ لنملأ الدنيا سنىً بالحبِّ ووالإيثارِ والإيحاءِ
فإذا رحيلكِ للنوى ووداعنا للحظِّ،والباقي الكليمُ ذمائي
غدرت بي الدنيا،كأني لم أصُغْ فيها الثناءَ فما أفادَ ثنائي
ووهبتها ـ كرما ـ عزيز مواهبي فجنت عليَّ شهامتي وعطائي
اليومَ أدركُ ايَّ عبءٍ فادحٍ عني رفعتِ وما مدى أعبائي
كم كنت أحلم بالهناءةِ والرَّضى لك في نهاية عمركِ المتنائي
فأودُّ من قلبي بقاءكِ بعدما أفنى وأحسبُ في هواكِ بقائي
وأعدُّ عمركِ وحده عمري وما أرضى سواكِ من الحياةِ جزائي
فتناثرَ الحلمُ الجميلُ وأقفرت دنيايَ من حُلمٍ ومن أضواءِ
وبقيتُ وحدي لا عزاءَ أرومهُ والذكرياتُ تزيد من برحائي
من عشتُ أفديها بكلِّ جوارحي فإذا الفداءُ يهونُ وهي فدائي
من علّمتني أن أقدس واجبي مهما شقيت فأستطيب شقائي
من لم تودّعْ في السقامِ وفاءها للناسِ حين مضوا بكلِّ وفاءِ
من لم تفارقها الشجاعة مرة حتى الممات،شجاعة العظماء
فمضت وخلّتني وحيداً عابراً قفر الحياة أنوء بالأنواءِ
أقتاتُ بالحزنِ المبرِّح راضياً وأعافُ كلَّ ملاحةٍ وسناءِ
قالوا:تصبر! إن حولك رفقة منها،وحسبك صفوةُ الابناء
ورثوا مكارم خلقها وسماتها إرثاً تدلُّ به على الآباءِ
تمضي الحوادث والسنون وتنقضي أممٌ على أممٍ صباحَ مساء
ويظلُّ قلبي هيكلاً لكِ خالداً أبداً يرتل لوعتي ورثائي
حسن كامل الصيرفي يرثو الشاعر علي محمود طه(الرسالة 907):
لم يبق لي في طريق العمر أحباب خلا الطريق وأحباب الرؤى غابوا
كانوا خيالاً،وكان العيش حلم كرى مضى به قدر للعمر نهاب
لم أنس آخر لقيانا وقد دمعت شمس الأصيل ورقّت منه أطياب
وأنتَ في حجرة كان الشفاء بها وهماً،وخلف صراع الطبّ وثاب
كدمعة في جفونِ العين بارقة حتى يحين لها في الخدِّ انسكاب
روح تشفّ عن الأحلام حائرة والجسم قد شفّه سقم وأوصاب
ترنو إلى الأفقِ الدامي فتحسبه فتى من الحزن قد خانته أعصاب
تقضي لياليك بعد الأنس منفرداً لم يهو ساحك خلان وأتراب
سأمان ترقب أياماً مغربة كما تحول نحو الغرب جواب
في عزلة لم يقصر ليلها سمر ولم تكشف دجالها الجهم أكواب
قاسيتها محنة ما كاد غاشمها ينزاح عن كتف الغاني وينجاب
كان اللقاء وداعا،والحديث صدى من عالم الغيب لم تدركه ألباب
نشكو جراحاتنا والدمع يحبسه عن أن يسيل أبي النفس غلاب
نرجو ونأمل والأقدار ترقبنا والموت يحجبه عن وهمنا الباب
“علي”! كان غروب الشمس موعدنا يوم الخميس،فمالي منه أرتاب؟
أطارد الوهم عن نفسي وبي وجل كما يطارد وحش الغاب هيّاب
حتى تلقيت هول النعي فانتثرت خواطري في ظلام الحزن تجتاب
لم يبق منعاك لي جهداً أفيك به حق الرثاء ودمع العين منساب
ما أعجب القدر اللاهي بعالمنا إذ تبسم أبدى الشرة الناب!
إن فرّق الموت جسمينا فغن لنا في عالم الروح لقيا ليس تنجاب
ابراهيم عبد القادر المازني(الاتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر للدكتور القط ص149):
فيا مرحباً بالموت يثلج بردُهُ فؤادي،وينسيني طويلَ عنائيا
تموتُ مع المرءِ الهمومُ،ولن ترى ككأسِ الردى من علّة العيش شافيا
ولست على شئٍ بآسٍ وإنني لأهجرُ ظهر الأرضِ جذلان راضيا
وما طالَ عمري،غير أن لواعجا أطلن عنائي فاجتويت مقاميا
أهابَ بنا داعي الردى فترحموا وقولوا:سقى الله القلوبَ الظواميا
وقُمْ ودّع الأرضين عني فإنني بقيد الردى المحتوم إلا لسانيا
لقد أفردته نفسُهُ بين قومه فعاشَ خيالاً بينهم مترائيا
وما كان إلا قوة أحدقت بها حوائل ضعفٍ أمرُها ليس باديا
فعاد وما يستطيع حملاً لساعة فكيف بأيام حملن لياليا
ابراهيم عبد القادر المازني في قصيدة بعنوان :فتىً في سياق الموت:
نعدُّ أنفاسَهُ ونحسبُها والليلُ فيهِ الظلامُ يلتطِمُ
إذا خروجُ الحياةِ أجهدَهُ تساقطت عن جبينهِ الدِّيمُ
صدرٌ كصدرِ الخضّمِ مضطربٌ جحافلُ الموتِ فيهِ تزدحِمُ
إن قام ملنا لهُ بمسمعنا أو نامَ خَفَّت بوطئنا القدَمُ
كأنّما الخوفُ من تردُّدهِ خيلٌ لها من رجائنا لحُمُ
خلناهُ قد مات وهو في سَنةٍ ونائمَ الجفن وهو مخترمُ
قد قلَّصت ثغرَهُ منيتهُ كأنّهُ للِحمامِ يبتسِمُ
سيد قطب:
قد تولّت وذوت نضرتها وبدت كالميت المحتضر
تفتح الأجفان أو تغمضها فتحة الضعفِ وغمضَ الخور
وشذاها لم يزل يفعمني فيعيد الشجو لي بالذكر
فخري أبو السعود في قصيدة ياليتني(الرسالة العدد 14):
عينيَ هل من صوب دمع مسعد؟ نفدت دموعي والأسى لم ينفد
روح فقدت حنانها البر الذي لا يُستظل بمثله أن يفقد
مازلت في حزن عليها مرمض وتحير في إثرها وتلدّد
جاءت وراحت أشهر لم تنصرف عن ودّها روحي وقد صفرت يدي
وتجئ أعوام وتذهب اشهر لا يرتوي من وجهها الطرف الصدي
ياليتني قد كنت حاضر يومها وسعدت قبل رحيلها بتزود
وشهدت أنّتها بلين مهدها ورأيت سكتتها بجافي المرقد
لما نضت أوصاب داء مسقم من بعد طول تصبر وتجلد
ورمت قيود معيشة ما عاشها في الناس غير مثقل ومقيد
لولا حذاري أن يفجعها الأسى ويؤودها صرف الحِمام المعتدي
ويزيدها شجناً على أشجانها لوددت لو عاشت وكنت أنا الردي
ونعمت في لحدي بهاطل دمعها ينهلُّ لي وبشوقها المتجدد
وحنانها الصافي يظل مزاورا قبري يروح مع الزمان ويغتدي
وأقرّ جسمي في التراب موسداً ذاك الفؤاد يعودني في العوّدِ
قد كان ذلك راحتي لا ما أرى من حيرة تضني وعيش مكمد
محمد خورشيد – مجلة الرسالة – العدد 67:
سالَ ذوبُ الفؤاد في أناتِهْ وتلاشى بُكاهُ في آهاتهْ
ساكنُ الطرفِ لا يرفُّ لهُ جفنٌ ولا يعزفُ الضَّنى عن أذاتهْ
واجفُ الصدر،شاحب الوجه خُطّت نفثاتُ الأسى على قسماتهْ
كادت الروح تستحيل أريجاً تتملّى الجِنانُ من نفحاتهْ
وظلامُ المنون مَدَّ رواقيهِ ليطوي في الليل فجرَ حياتهْ
وأبوهُ المرور ضمَّ إلى الصد رِ فتاهُ ليفتديهِ بذاتهْ
حابساً ما استطاع أنفاسَ صدر شبَّ جمرُ اللأواء في جنباتهْ
ولو استطاعَ أسكت القلبَ حتى لا يَضِجُّ الصغيرُ من خفقاتهْ
كلما أرسلَ ابنه زفراتٍ كاللظى خالها صدى زفراتهْ
كلما أسبل الدموعَ فتاهُ كالآلئ تَشِفُّ عن حسراتهْ
ظنَ وجهَ الفطيمِ أصبحَ مرآ ةً أرتهُ المدرارَ من عبراتهْ
باتَ قلبي طيَّ الضلوعِ سجلا لجنان الوحيد في نبضاتهْ
أن هفا مسرعاً حكاه ابنُ جَنبي أو تأني شاكلتهُ في أناتهْ
وضميري ناجى الحبيبَ فأصغى وهو رهنُ الضّنى إلى همساتهْ
قد حُرِمتُ السُّباتَ والدّاء يقظ أن يُوالي مُسَدّداً رَمياتهْ
حارَ إذا عادنا الطبيبُ ولمّا يدرِ أيّا يَطبُّهُ بأداتهْ
أ(نزارا)وقد ذوتْ مُقلتاهُ أم أباهُ والرُّوح قربَ لهاتهْ
إن سُقم الأبناء أقسمَ إلا أن يكونَ الآباءُ مرمى تِراتهْ
يا رسولَ الردى أماناً فهذا قد عقدنا المُنى على بسماتهْ
إن أردتَ الفداء دونك روحي تلكَ عند الشبابِ أغلى هِباتهْ
يرثُ التاجَ أولياء العهودِ الصّيِدِ والمجدُ مُوقِعٌ نغماتهْ
فاعفُ عني،وليَّ عهدي،لأني خِفتُ دهري فكنتُ من أقواتهْ
لم اُورِّثكَ غيرَ شعر شجى سالَ ماءُ الفؤادِ من أبياتهْ
أصبحَ البؤسُ توأمَ الشعرِ عندي يزدهيني بندبهِ وشكاتهْ
إنّ وحيَ الأسى المروِّع يحبو الشاعرَ الفذ مُجتبى خَطراتهْ
ابراهيم عبد الوهاب يرثي ابنه الذي مات ولم يتجاوز الثانية عشرة من عمره- الرسالة العدد 209-:
عافَ الحياة وملَّ من أوصابها لما ألحّ الداء في أسبابها
بَكَرتْ إليه يد المنون ولم يكد يُوفي من الدنيا على أبوابها
ورمت منيّته إليه شباكها وعَدتْ عليه بظفرها وبنابها
وطوت صحيفتهُ ولما يكتملْ عنوانُ قصتها وبَدءُ كتابها
فمضى كأزهار الربيع قصيرةٌ أيامها وفريدة في بابها
أبني أيُّ فجيعةٍ غدّارةٍ دهياء قد نزلت بفصلِ خطابها
رمت القلوب فأقصدتْ حياتها ومحتْ جميل الصبر في أعقابها
وأسالت الدمع الأبيّ كأنّه غيثُ السماء هَمَي وهَطلُ سحابها
لهفي عليك وأنت نِضوٌ خائر تشكو من الحمّى ومن أذنابها
وتبيت مضطرباً كأنك في لظى قلقاً تَوجَّعُ من أليم عذابها
حلت بجسمك لا تريد فراقه فكأنما ألفتك من أحبابها
ورمت يديك برعدة مشئومة أيقنت أن الموت ينذرنا بها
الجسم مرتعها ولحمك طعمُها وعصير قلبك من لذيذ شرابها
صهرتك لم ترحم صباك ولم تهن حتى مضت بالروح أسلابها
وقف الطبيب إلى سريرك مطرقاً حَيران مغتنماً لدائك آبها
ودعا صحابته إليك فلم يجد رأياً جديداً أو مُشيراً نابها
وأهابَ بالطب العتيد فخانه وأراد معجزة فما أوفى بها
الطبّ إن شاء الإله وسيلة تشفي من الحمى ومن أترابها
أو لم يشأ تلقاه شر رسالة للموت يُدجيها إلى أربابها
قل للمؤّمل في الطبيب وطبه إن الحياة رهينة ٌ بكتابها
لا الطبّ يصنعها ولا أقطابه الله قدرها ليوم مآبها
هي صنعة المولى تملّكَ سِرَّها وأجادها وَوَعي دقيق حسابها
أبنيَّ أزمعتَ النوى وتركتني أشتَّفُ من كدر الحياة وصابها
أذكيت نار الحزن تلتهم الحشا وتذيب قلبي من سعير لهابها
تلك الدموع الحائرات بمقلتي هي مهجتي تنساب من أهدابها
أفلا رَحمتَ أباك من أدوائه حتى أضفت لها الفراق مشابها
ورَحمتَ أُمك من لواعج ثكلها وغزيرعبراتها وسود ثيابها
تبكي وتندب حظها وعِثارهُ وربيبَ مهجتها وصِنوَ شبابها
وتودّ لو أنَّ الدموع شرابُها أو أن ماء البحر من تسكابها
وتطوف حول القبر تلتمس الهدى فكأنما أوفت على محرابها
الخطب أرهقها وحَطمَ عودها وارُبَّ عاقلةٍ مضى بصوابها
وقد كنت وثاب الذكاء محبّباً وبرئت من طبعِ الخصالِ وعابها
قد كنت بهجة دارنا وسرورها فغدت بفيض الحزن من أعتابها
قد كنت لي أملاً ألوذ بنوره في لجّة الدنيا وشقّ عبابها
غدت الحياة ثقيلة أيامها ضَيقٌ على رَغمي فسيحُ رحابها
ما أضيع الآمال بعدك والمنى هي خُدعة الدنيا وكِذبُ سرابها
حشدت لي الأيام حرَّ نِصالها ومضت تجُدُّ بحدّها ودُبابها
وتتابعت نوَبُ الزمان كأنما ألِفتنيَ الأحداثُ في إغبابها
وأصابَ هذا الدهر خير أحبّةٍ سَلكتهُمُ العلياءُ في أنسابها
أبني إن عظمت بفقدك نكبتي فرَجائيَ المولى عظيمُ ثوابها
ناداك ربك فاستجبت نداءه وصدفتَ عن دنيا الورى وكذابها
نم في جوار الله غير مُرَوَّع وأنعم بجنته ورحب جنابها
وارتعْ هنالك بين رَيِّق مائها وبهيج سُنْدُسها وفي أعنابها
وارجُ الإله لوالديك تصبُّراً ينسيهما البلوى ووقعَ مُصابها
إن الذي خلق المكاره والأسى هو باري الرحمات يُسعدنا بها
الشيخ محمد عبده نظم أبياتاً في مرضه الأخير(المعاصرون ـ محمد كرد علي ص362):
ولستُ أبالي أن يُقالَ محمدٌ أبلَّ أم اكتظَّتْ عليهِ المآتمُ
ولكنَّ ديناً قد أردتً صلاحه أحاذرُ أن تقضي عليهِ العمائمُ
وللناسِ آمال يُرجّون نَيلها إذا متُّ ماتت واضمحلت عزائمُ
فيا ربِّ إن قَدَّرتَ رُجعى قريبةً إلى عالم الأرواحِ وانفضَّ خاتمُ
فبارك على الإسلام وارزقه مرشداً رشيداً يضىء النهجَ والليلُ قاتمُ
يماثلني نطقاً وعلماً وحكمةً ويشبه مني السيف والسبف صارمُ
محمود درويش:
وأريد شيئاً واحداً لاغير
شيئاً واحداً
موتاً بسيطاً هادئاً
في مثل هذا اليوم
في الطرف الخفي من الزنابق
فقد يعوّضني كثيراً أو قليلاً
عن حياة كنت أحصيها
دقائق أو رحيلا
وأريد موتاً في الحديقة
ليس أكثر أو أقل
أبو القاسم الشابي:
ها هنا،في قلبي الرحب،العميق يرقصُ الموتُ وأطيافُ الوجود
ها هنا،تعصفُ أهوال الدّجى ها هنا،تخفق أحلام الورود
ها هنا،تهتف أصداءُ الفنا ها هنا، ُتعزَفُ الحانُ الخلود
ها هنا،تمشي الأماني والهوى والأسى في موكبٍ فخمِ النشيد
ها هنا،الفجر الذي لا ينتهي هاهنا الليل الذي ليس يبيد
هاهنا،ألفُ خِضَّمٍ ثائرٍ خالدِ الثورةِ،مجهول الحدود
ها هنا،في كُلِّ آنٍ تمحيّ صورُ الدنيا وتبدو من جديد
أبو القاسم الشابي:
إلى الموت! يا ابن الحياة التعيس ففي الموتِ صوتُ الحياة الرخيمْ
إلى الموت! إن عَذَبتكَ الدهورُ ففي الموت قلبُ الدهور الرحيم
إلى الموت،فالموتُ روحٌ جميلُ يرفرف من فوق تلك الغيوم
أبو القاسم الشابي:
إلى الموت! فالموت جام رويُّ لمن أظماتهُ سموم الفلاة
ولستُ براوٍ إذا ما ظمئت من المنبع قبل الممات
فما الدمعُ إلا شرابُ الدهور والحزنُ إلا غذاءُ الحياة
إلى الموت! فالموت مهد وثيرٌ تنامُ بأحضانه الكائنات
هو الموت طيف الخلود الجميل ونصف الحياة الذي لا ينوح
أبو القاسم الشابي:
الوداع الوداعَ يا جبالَ الهموم
يا ضبابَ الأسى يا فجاج الجحيم
قد جرى زورقي في الخِضّمِ العظيم
ونشرتُ القلاعَ فالوداعَ الوداعَ
بدوي الجبل:
أحقاً ما روتْ عنك الرواة ترى أم في حديثهم هنات
وهل نبأ رواه البرق صدق أم الأسلاك فيه كاذبات
غلبت الموت فيه وذاك أمر ستكبره القرون الآتيات
وهَوّنت المنون لشاربيها فلا ألم هناك ولا شكاة
سلكت صعابها ما فلَّ حدٌ لعزمك ولا غمزت قناة
وأرخصت الحياة فيالكنز أزالتهُ المقاديم الأباة
بسطت يديك بسطة أريحيّ فكانت من عطاياك الحياة
وكنت هناك أجرأهم جناناً إذا طاشت من القوم الحصاة
وأثبتهم لدى الجُلّى فؤاداً إذا ما أعوزَ القوم الثبات
بدوي الجبل:
بلغت من العدى بالموت مالم تبلغه السيوف المرهفات
لقد وقفوا لديك وهي حيارى فراعهم سكونك والأناة
رأوك تهشّ في وجه المنايا وحولك في الحياة الطيبات
وتبتسم للمنون وقد تسّنتْ لو اخترت النجاة لك النجاة
وتقتبل الردى ظمأ وجوعاً ليذكو الغرس بعدك والنبات
فأكبركَ العداة ورُبّ حرّ تَغّنتْ في بطولته العداة
بدوي الجبل في رثاء الشيخ علي محمد كامل(مجلة القيثارة ـ العدد 7 بتاريخ 1947):
نُعيتم فلم يخلص إلى القلب نعيكم يولم تتقبله البصيرة واللبّ
إذا مرّ وجه عابر رحت أجتلي أساريره،بشر عليهم أم رعب؟
لعلّ الذي ينعاكم كان كاذباُ فيا نعمة قد كان يحملها الكذب!
يجسّ الطبيب النبض حيران ذاهلاً وهيهات لا يُغني الطبيب ولا الطبّ
ويرجو على اليأس المريرِ،وأنه خداع الأماني والتعلّة والحبّ
وللأهل أبصار روان تعلقت بعينيه،إيجاب هنالك أم سلب؟
وصمت مرير دون ما فيه من أسى بكاء الثكالى والتفجع والندب
فوارحمتا للناهلات من الصبى! ألم يتهيب من براءتها الخطب؟
غرائر من نعمى الدلال تلفتت فأعوزها عطف الأبوة والحدب
فيا للصبي الهاني! شجاني أنه حزين،ومن طبع الصبى اللهو واللعب
فيارب! لا راع الطفولة رائع ويارب! لا ألوى بنعمائها كرب
بدوي الجبل:
شبح الموت:ما يخيفُ البرايا من حتوف تعانق الأرواحا
وجد الناس في كؤوسكَ سمّاً غير أني وجدت فيهن راحا
فاسقنيها قد طال صحوي ومكثي وتمنيّتُ سكرة ورواحا
لا تُبادر بها وقد نصل الليل وذرني حتى أحيّ الصباحا
وتمّهل حتى أودّ نور الشّمس إذ همَّ أن يلوح فلاحا
ثم خذني إليكَ يا موت جذلان طروباً إلى الرّدى مرتاحا
ذاك مصباحُ صبوتي وشبابي فتعجّل وأطفىء المصباحا
عمر أبو ريشة كتب على قبر والده:
ناداكَ تحناني فما أسمعك فاذهب فداكَ الشوق قلبي معك
سرنا معاً حيناً وخلّفتني وحدي على الدربِ الذي ضيّعك
أرنو إلى الدنيا وآفاقها فما أراها جاوزت مضجعك
حسبي منها موعد في المسا أفهم فيه سر ما استودعك
هيثم مردم بك ابن خليل مردم بك مات في العشرين من عمره بسبب روماتزم القلب،أرسل قصيدة إلى صديقه عبد الغني العطري (اعلام ومبدعون ـ العطري ص342):
“عبد الغني” لقد بعثت رسالة كالبُرء حين يدبّ بعد سقام
لما تَمّشَتْ كالمُنى في خاطري وّدّعت من طرب بها آلامي
كانت عزاء يامحبُّ وسلوةٌ لشجٍ يذوب ضنىً وقلب دامِ
وتراقصت فيها العرائس كالدمى زينَّ بالسحر الحلال كلامي
عذراء غَنَّت بالسلامة والشفا ومشت إليَّ بمزهري ومدامي
حملت بيمناها منايَ وأسبلت بعد السهاد غلالة الأحلام
تلك الحروف ترفّ روضاً زاهياً خطر النسيمُ عليهِ غبّ رهامِ
طلعت عليه كأنها شمسُ الضحى وغدت كلإبراهيم للأصنامِ
أما الشبابُ فَعدِّ عنه فإنه طيف يمر على لذيذ منام
لما برى دائي الضلوع كَمُديةٍ أصبحتُ في دنيا من الأوهام
أبلى صبايَّ فكان أول غادر وضعتْ يداه الآس فوق رجامي
نَفَسٌ يردد في خيال مدنفٍ فالقلب ناعٍ والضلوع دوامي
كَفّرتْ عن باقي الذنوب بمدمعي وغسلت في ليل الأسى آثامي
والنفسُ تهمسُ، لا تبالي أنّةً داء يقود إلى الخلود كلامي
والشعرُ بين الناسِ نليٌ ساحرٌ وشذا الربيعُ ونطفة الأرحام
وتركت أصحابي وكوناً فاسداً وعلوت في جوٍ رفيع سامِ
ماذا لقيت من الزمان وأهله إني لقيت مصائبي وحِمامي
هذا قصيدي هَيّجته رسالة فإليك فوح تحيتي وسلامي
هيثم مردم بك:
وشبابٍ كشمعة ذاب نورا في ظلام كعاصف جرار
يتلاشى على الفراش ويفنى في ضلوعي ولا يقرّ قراري
هيثم مردم بك:
ذاب قلبي في ضلوعي الداميه إنّ آلامي كنيران الجحيم
أقطع العمر بعين غافية ليس في لوم ولكن من هموم
أدمع كالقطر سالت طافية تطلب الغفران من رب رحيم
عائشة التيمورية:
قد كنتُ عائشة فنوديتُ ارجعي للقبرِ مأوى كلِّ حيٍّ فانِ
فأتيتُ صَفرَ الكفِّ عن مرضاته ومُقرّة بالعجز والعصيانِ
جُرّدتُ من ثوب الهدى لكنَّ لي تاجاً من الإسلامِ والإيمانِ
ونزلتهُ مستشفعاً بمحمدٍ وتوسلي عفواً من الرحمنِ
أصبحتُ ممن زار قبري راجياً خير الدعا،وتلاوة القرآن
إيليا أبو ماضي:
أزفَّ الرحيلُ وحان أن نتفرّقا فإلى اللقا يا صاحبيَّ إلى اللقا
إن تبكيا فلقد بكيت من الأسى حتى لَكِدّتُ بادمعي أن اغرقا
وتسّعرت عند الوداعِ أضالعي ناراً خَشيتُ بِحَرّها أن أُحرقا
إيليا ابو ماضي في مرض الشيخ محمد عبده:
مَرِض الندى لما مرضتَ وكاد أن يقضي من اليأسِ المُلِمُّ المُعسِرُ
كم حاولوا كتمَ الاسى لَكِنّهُ قد كانَ يخترِقُ الجسومَ فيظهرُ
والداءُ يقوى ثم يضعف تارةً فكأنّهُ يبلو القلوبَ ويسبرُ
أوردتهُ عذباً فأوردكَ الردى تَبَّتْ يداهُ فذنبهُ لا يُغفَرُ
معروف الرصافي(المقتبس العدد30 بتاريخ الاول من تموز عام 1908):
قد يحسب الإنسان من آماله والموت مصغ نحوه يسمع
حتى إذا أكمل حسبانها وافاه ما ليس له مدفع
فَخرَّ للجنب صريعاً به وأي جنب ماله يصرع
وظَلَّ فوق الأرض في حالة يزوّر عنها الحسب الأرفع
لا تعمل الأقلام في كفه وكان من قبل بها يصدع
ولم تعد تقطع أسيافه من بعد ما كان بها يقطع
فاستل مثل السيف من مطرف طرائق الوشي به تلمع
ولف في ثوب له واحد ليس له رقم ولا ميدع
واهاً له ثوب البلى إنه يبلى مع الجسم ولا ينزع
ودس حيث الأرض أمست له ملحودة ضاق بها المضجع
حيث البلى يرميه حتى إذا لم يبق في قوس البلى منزع
خالط التراب جثمانه مطحونه منها بها الأضلع
لله درّ الموت من خطة فيها استوى ذو العي والمصقع
يخون فيها القول منطيقه كما تخون البطل الأدرع
ما أقدر الموت فمن هوله لم ينج لا كسسرى ولا تبع
يا رافع البنيان كم للردى من سلم يدرك ما ترفع
ويا طبيب القوم لا تؤذهم إن دواء الموت لا ينجع
لا بد للمغرور من مندم بالعضِّ تدمى عنده الإصبع
وما عسى تغني وقد حشرجت ندامة ليست إذاً تنفع
يا برقع الخلقة واهاً لما فيك واهاً منك يا برقع
قد زاغت الأبصار فيما ترى إذ فات عنها سرك المودع
وليس في الإمكان عند النهى أبدع مما خلق المبدع
جميل صدقي الزهاوي:
هلم إلى جنبي فإني مريضة بحمى قوى جسمي بها تتزلزل
وسارع وأحضر لي طبيباً مدوياً كما كنت قبلاً إن تشكيتُ تفعلُ
ولكنني أخطأت فيما طلبته ذهولاً ومن قاسى الحوادث يذهل
فإني لا أبغي سواك مداوياً فأنت طبيبي والشفاء المؤمل
أقم عندنا لا ترحلن فإن تُقم فكل نحوسات الزمان ترحل
نعيش كما كنا نعيش بغبطة ونمرح في ثوب السلام ونرفل
فحينئذٍ لا حادث يستفزّنا ولا أحد بيني وبينك يفصل
وغاب فقالت آه بل أنت ميت ولكنما روحي إليك ستقبل
وحانت لصوب الطفل منها التفاتة فقالت وفياضٌ من الدمع مهمل
ولكن صبيّ من يقوم بأمره إذا زارني حتفي الذي أتعجل
أأترك من بعدي صغيري أحمداً وحيداً بلا حامٍ به يتكفل
وأحمد ريحاني فإن أبتعد فمن يشممه بعدي ومن ذا يقبل
جميل صدقي الزهاوي:
أموت نعم إني أموت ومن يعش فلابد من يوم يموت به مثلي
فما لي أراني جازعاً من منيتي كأن لم يمت في غربةٍ أحد قبلي
جزعت لأني للمقابر راحلٌ وأكثر سكان المقابر من شكلي
يدِبُّ البلى في الجسم مني سارياً مع الترب من بعضي لبعضي إلى كلّي
إذا كان أصلي من تراب فإنني سأرجع فيه بعد موتي إلى أصلي
جميل صدقي الزهاوي:
قضت ليلى وقد مرضت ثلاثاً يعذب روحها الداء الدفين
وكانت في الفراش تئن ليلى فجاء الموت وانقطع الأنين
جميل صدقي الزهاوي:
يا ويلتا سأموت بعد قليل وأفارِقُ الدنيا وكل جميل
سأجدُ مرتحلاً إلى دار البلى بعد المقام ولا يطول رحيلي
سأحث في ظلمات ليل حالك سيري إلى عدم بغير دليل
سأشط عن وطني الحبيبِ مُخَلِّفاً صحبي هناك واسرتي وقبيلي
سأنامُ ثم أنام في ملحودةٍ ضاقت وفي ليل عليَّ طويل
ستضئ بعدي الشمس في صحواتها وتعود تطلع غبَّ كلِّ افُولِ
ولسوف ينساني الألى أحببتهم ويصدّ عني صاحبي وخليلي
الزهاوي:
اطمئني يا نفس بعد اضطرابِ قد أقضَ الفراش منك اطمئني
إنَّ في الموتِ وهو منك قريب لخلاصاً من كُلِّ هَمٍّ وحزنِ
جميل صدقي الزهاوي:
أتعبتَ نفسكَ في الإصلاح مجتهداً بما كتبت وأنتَ الناحل الدنف
حتى مرضت فبتّ الليل مشتكياً من طول إظلامهِ والليل منتصف
وإن داءكَ من بعد استحالتهِ أعيا الأطباء في مصر كما اعترفوا
واشتدَّ من غير إنذارٍ فمت به كذلك الغصن بالنكباء ينتصفُ
ورُبَّ داء عَياء لا دواء له يأتي المريض على أعقابه التلفُ
ما كان أعدله لو كان يمهله لكنّما الموت في الأحكام معتسفُ
كان الجدير به إبقاء جذوته إذ ليسَ في نشر أنوار الهدى سرف
ما كنتً أجهلُ مذ شقّ الهدى بصري أنَّ الذي هو ماشٍ للونى يقفُ
أحمد الصافي النجفي:
ضاقَ صدري رحماكَ يا موتُ عَجِّلْ لا تمتني من شدّة الانتظار
أنت احلى من الحياة ولكّنْ شوهتك الحياة للنظار
ليس هذي الحياةُ غيرَ سِتارٍ فامضِ فينا لما وراءَ الستار
إن يكُ النومُ راحةً فلعمري أنتَ أبقى نومٍ وأهنأ قرار
كم نعاني الآلام من أجلِ لقيا كَ فأنت الجنانُ حّفتْ بنار
إن جسر الحياة قد ضاق فينا فازدحمنا في السير كالتيار
نتوخى العبور من ضيق الكون سِراعاً إلى فسيح القفار
راح كل يسابق الصحبَ في الس ير كأنّما عيشنا في فرار
قد سئمتُ الحياة إذا كررت لي فأرحني من عالم التكرار
بدر شاكر السياب:
أهكذا السنون تذهبُ
أهكذا الحياة تنضبُ
أحسُّ أنني أذوبُ،أتعبُ
أموت كالشجر
بدر شاكر السياب:
لأكتب قبل موتي،أو جنوني،أو ضمور يدي من الإعياء
خوالج كلِّ نفسي،ذكرياتي،كُلَّ أحلامي
وأوهامي
وأسفحُ نفسيَ الثكلى على الورق
يقرأها شقيٌ بعد أعوام وأعوام
ليعلمَ أن أشقى منه عاش بهذه الدنيا
وآلى رغمَ وحش الداء والآلام والأرقِ
ورغم الفقر أن يحيا
عبد الله البردوني:
تمتصني أمواج هذا الليل في شرهٍ صموتْ وتعيدُ ما بدأت،وتنوي أن تفوت ولا تفوت
فتثيرُ أوجاعي وترغمني على وجع السكوت وتقول لي: مت أيها الذاوي .. فأنسى أن أموت
لكن في صدري دجى الموتى وأحزان البيوت ونشيجُ أيتام بلا مأوى،بلا ماء وقوت
وكآبة الغيم الشتائي وارتجاف العنكبوت وأسى بلا إسم واختناقات بلا اسم أو نعوت
محمد محمود الزبيري:
ونحسُّ المنون تدنو إليه ونراهُ ينهار منها ويَنهّدْ
يجتدي من يد الفرنج سويعات من العمر عندهم قد تحدد
والمنايا امضى من الطبّ إقداماً وأهدى إلى الضحايا وأقصد
محمد محمود الزبيري:
خَطبٌ أثارَ على الشجون شجوناً ودهى الفؤادَ الوادِعَ المحزونا
أوّاه.. يا أبتاه لهفةُ مُوْجَعٍ لا يستقِرُّ تلهُّفاً وحنينا
سافرتُ أرتادُ الشفاء فلم أجد في الأرضِ من طبّ يَرُدُّ منونا
جاء العلاجُ من الطبيب يريد أن تُشفى وكانَ الموتُ فيك كمينا
أخرْتُهُ عن وقته وكأنّما نِلْتُ الحياة من الطبيب ديونا
هيهات أرتجِعُ السلامة بعد أن ذهبتْ وحَلَّ الخطبُ فيك يقينا
وغَدوتُ في “عدن” أروح وأغتدي وأظُنُّ في كيد الزمان ظنونا
وأجولُ من حولِ السرير كأنّما أمسيتُ من ألم عليك طعينا
أترَقبُ الألطافَ تأتي بالذي أعيا الطبيبَ وأعجزَ المسكونا
وإذا بقارعةٍ تَحلُّ ونكبةٍ تُضفي عليَّ من الشقاء فنونا
وإذا بقلبي لا يُطاقُ وجيبُهُ وبدمع عيني لا تكفّ هتونا
وإذا بأفراحي التي أوليتني دهراً تعود مناحة وأنينا
ميخائيل نعيمة في قصيدة”إلى دودة” (الرسالة العدد 319):
تدبّين دبّ الوهن في جسمي الفاني وأسعى بجدٍ خلفَ نعشي وأكفاني
فأجتاز عمري راكضاً متعثراً بأنقاض آمالي وأشباح أشجاني
وأبني قصوراً من هباءِ وأشتكي إذا عبثت كفّ الزمان ببنياني
ففي كل يوم لي حياة جديدة وفي كل يومٍ سكرة الموت تغشاني
ولولا ضباب الشك يادودة الثرى لكنت ألاقى في دبيبك إيماني
فأترك أفكاري تذيع غرورها وأترك أحزاني تكفن أحزاني
وأزحف في عيشي نظيرك جاهلاً دواعيَ وجدي أو بواعث وجداني
ومستسلماً في كلِّ أمرٍ وحالةٍ لحكمة ربي لا لأحكام إنسان
فها أنت عمياء يقودك مبصر وأمشي بصيراً في مسالكِ عميان
لك الأرض مهد والسماء مظلمة ولي فيهما من ضيق فكري سِجنان
لئن ضاقتا بي لم تضيقا بحاجتي ولكن بجهلي وادعائي بعرفاني
ناصيف اليازجي:
عشنا كأنا لم نعِشْ ونموتُ عن كثب كأنا لم نكن بين الورى
ذهبَ الزمانُ ومن طواهُ مقدماً وكذاكَ يذهبُ من يليه مؤخرا
نبكي ونضحك للمنيّة والمنى وكلاهما عبث يدور مكررا
ابراهيم المنذر (1875-1950) في قصيدة “الدنيا أم” (شعراء عرب مهاجرون – نجيب البعيني ص56) قصة طفل مريض يتعذب وهو على وشك الموت،والأم بقربه جاثية باكية تريد ان تعصر دمها في شرايين وحيدها علّها تمنحه الحياة :
الطفلُ فوقَ سريرهِ رَقَدا والنارُ فيه تُحرِقُ الكَبدا
نزلتْ به الحُمَّى فما تركتْ إلا فؤاداً باتَ مُتَقِدَّا
والموتُ أرسلَ فوقَهُ مَلَكاً بَسَطَ الجناحَ ليخطِفَ الولدا
والأمُ جاثيةٌ ومُقْلَتُها يَنَهَّلُّ منها دَمعُها بَرَدا
لا صوتَ يُسْمَعُ في الديارِ سوى زفراتِها والأُنْسُ قد فُقِدا
وإذا شقيقته الفتاة وقد كانت تعاني الدرسَ والجُهدا
هي مثلُ عمرِ البدرِ مكتملاً نوراً تمايل عطفها ميدا
جاءت فشاهدت الصغير على ذاك السرير وليس فيه جَدا
صرخت : أخي روحي حبيبي ما ذا نابك انطق وادفع النكدا
قد كنت عند الصبح سلوتنا والآن لا سلوى ولا رغدا
ورنت إلى العلياء ضارعة فرأت ملاك الموت قد رصدا
ماذا تريد ؟ أخي وحيدَ أبي دعه يعش فالأنس فيه غدا
أمّا إذا ماشئت تضحية فأنا أكون عن الشقيق فدى
أحنى ملاك الموت هامته قال اتبعيني واقطعي الأمدا
فمشت ومرّ على حديقتها حيث الجمال يموج متحدا
ورأت رفيقات الدرس كما ال غزلان تقفز والسرور شدا
وبدت ضمامات الزهور على أعناقهن صففنها عقدا
وتمثّلت قبراً يُغيبّها ويضم منها ذلك الجسدا
فبكت وقد رجفت جوانحها لا تبتغي أن تترك البلدا
أنا لي أبٌ يحنو عليّ ولي اُمٌ تذوب لفرقتي كمدا
وإذا أبو الطفل انثنى عَجِلا مِنْ شُغْلِهِ للبيتِ مُفتقدا
فرأى ابنَهُ دَنِفاً يذوبُ وَطَرْفُ الأمِ من آلامها سَهِدا
كَفٌ تَجُسُّ بها يديه وبالأ خرى تُهدئ قلبهَا جَلَدا
وبدا ملاكُ الموتِ فَوقَهُما ظِلاً رهيباً يُرعِبُ الأسدا
هذا وحيدي يا ملاكُ ولا أرجو سِواهُ في الورى عَضُدا
وبعد ذلك يصف حالة الأم عندما يفتح الطفل عينيه وتضمه الى صدرها قائلة روحي، ياروح أمك:
رَجَعتْ فألفتْ نَجلَها يقظاً يَفْتَرُّ عن ثغرٍ حوى بَرَدا
أماهُ ،رُوحي جاوَبتهُ وقد بَسطتْ ذراعيها لهُ سَنَدا
وتعانقا ملكينِ ما وجَدتْ عينايَ مِثلهما،ولن تجدا
وإلى السَّما رفعتْ نواظِرَها بالدَّمعِ تشكرُ ربها الصّمدَّا
محمد بن عبد الملك الزيات:
ألا من رأى الطفلَ المُفارقَ اُمَّهُ بُعيدَ الكرى عيناهُ تبتدرانِ
رأى كلَّ اُمٍّ وابنها غيرَ اُمِّهِ يبيتانِ تحتَ الليلِ ينتجيانِ
وباتَ وحيداً في الفراشِ تحثُّهُ بلابلُ قلبٍ دائمِ الخفقانِ
ألا إنَّ سَجْلاً واحداً قد أرَقْتُهُ من الدّمعِ أو سَجلينِ قد شفياني
فلا تلحياني إن بكيتُ فإنّما اُداوي بهذا الدّمع ما تريانِ
وإنّ مكاناً في الثرى خُطَّ لحدُهُ لمن كان في قلبي بكلِّ مكانِ
أحقُّ مكانٍ بالزيارةِ والهوى فهل أنتما إن عُجتُ منتظرانِ
فهبني عَزَمتُ الصّبرَ عنها لأنني جليدٌ فمن بالصبرِ لإبنِ ثمانِ
ضعيفُ القوى لا يعرفُ الأجرَ حِسبةً ولا يأتسي بالناسِ في الحَدثانِ
ألا من اُمنِّيهِ المنى فأعِدُّهُ لعثرةِ أيامي وصَرفِ زماني
ألا من إذا ما جئتُ أكرمَ مجلسي وإن غبتُ عنهُ حاطني ورعاني
فلم أرَ كالأقدارِ كيفَ يصبنني ولا مثلَ هذا الدّهرِ كيفَ رماني
كان مالك بن الرّيب من مازن تميم،وكان لصاً يقطع الطريق ،ولما ولّى معاوية بن سفيان رضي الله عنه سعيد بن عثمان خراسان،سار فيمن معه فأخذ طريق فارس،فلقيه بها مالك بن الريب،وكان مالك فيما ذُكر من أجمل العرب جمالاً وأبينهم بيانا.فلما رآه سعيد أعجبه،ومالكٌ في نفر من أصحابه فقال له:ويحك يا مالك! ما الذي يدعوك إلى ما يبلغني عنك من العَداء وقطع الطريق؟
قال: أصلح الله الأمير!العجزُ عن مكافأة الإخوان.
قال: فإن أغنيتُك واستصحبتُك،أتكفّ عما تفعل وتتبعني؟
قال: نعم،أصلح الله الأمير! أكفّ كفاً ما كفّ أحدٌ أحسنَ منه.
فاستصحبه وأجرى عليه خمسمائة دينار في كل شهر،وكان معه حتى قُتل بخراسان.. طُعن فسقط وهو بآخر رمق،فقال هذه القصيدة يرثي بها نفسه،ويذكر غربته(أحد أعداد مجلة الحديقة لمحب الدين الخطيب)؟
ويقول الشيخ العلامة علي الطنطاوي رحمه الله في كتابه”رجال من التاريخ” في قصيدة مالك بن الريب:
“قصيدة وهبها للموت،إذ تغنى له فيها،فوهب له الموت بها الحياة.لم يتفلسف فيها تفلسف المعري،ولا تجبر تجبر المتنبي،ولا أغرب إغراب الدريدي،ولكنه جاء بأقرب الأفكار،في أسهل الألفاظ،فجاءت من هذه السهولة عظمة القصيدة.
شاعر لم يعش شاعراً،ولكنه مات شاعراً.عاش عمره كله يغنى بسنانه للحرب،لا يغنى بلسانه للحب،لا يعمل لوصال الأحبة،وسلب القلوب،ولكن يعمل لقطع الطرق،وسلب القوافل.كان لصاً من أشهر لصوص العصر،ثم تاب ومشى إلى الجهاد في جيش ابن عفان ،حتى أدركته الوفاة وهو على أبواب خراسان،فرثى نفسه بهذه القصيدة،التي لا أعرف في موضوعها إلا قصائد معدودات في آداب الأمم كلها.
عربي عاش عمره كله في جزيرته،ما استمتع بحياته ،ولا ناجى طيف ذكرياته ،ولا انتشى برحيق آماله،لأنه لم يجد يوم راحة،يخلو فيه إلى نفسه فيحس لذة الأحلام،وجمال التذكر،وسحر الأمل،لينبثق في نفسه الشعر المخبوء فيها،كما يختبىء الماء في بطن الجبل،يرقب معولاً يفتح له الطريق.
وها هو ذا الآن ملقىً على صعيد غريب عنه،في بلاد لا يعرفها ولا تعرفه ،ولا يألفها ولا تألفه،فهو يتذكر الآن…الآن فقط…بلده وأرضه،ويدرك قيمة تلك النعم الجسام،ولا يدرك المرء قيمة النعم إلا بعد زوالها،وتثور في نفسه الأماني،فلا يتمنى إلا أن يبيت ليلة أخرى بجنب الغضى،وأن يسوق كرة أخرى إبله إلى المرعى،ويذكر كيف كان يزدري هذه النعمة التي يراها الآن عظيمة،ويتمنى ـ وليس ينفع التمني ـ لو أنه لم يسر من تلك الديار،أو لو طال مشيه فيها قبل أن يخرج منها حتى تطول متعته بها.
مالك بن الريب يرثي نفسه:
ألا ليتَ شعري هل أبيتنّ ليلةً بِجنبِ الغضى أُزجي القِلاصَ النواجيا
فليتَ الغضى لم يقطعِ الركبُ عَرْضَهُ وليتَ الغضى ماشي الرِّكابَ لياليا
لقد كانَ في أهلِ الغضى لو دنا الغضى مَزارٌ، ولكنَّ الغضى ليس دانيا
ألم ترني بعتُ الضلالة بالهدى وأصبحت في جيش ابن عفّان غازيا
وأصبحتُ في أرضِ الأعادي بُعيدما أراني عن أرضِ الأعادي قاصيا
دعاني الهوى من أهل أُودٍ وصحبتي بذي الطّبسين،فالتفتُ ورائيا
أجبت الهوى لمّا دعاني بزفرةٍ تقنّعتُ منها،أن أُلام،ردائيا
أقول وقد حالت قرى الكردِ دوننا: جزى الله عَمراً خيرَ ما كانَ جازيا
إن الله يَرجعني من الغزو لا أُرى وإن قلَّ مالي طالباً ما ورائيا
تقول ابنتي،لما رأت طولَ رحلتي: سِفاركَ هذا تاركي لا أبا ليا
لعمري، لئن غالتْ خُراسانُ هامتي لقد كنت عن بابى خراسان نائيا
فلله درّي، يوم أترُك طائعاً بنيَّ بأعلى الرَّقمتين، وماليا
ودرُّ الظِّباء السانحاتِ عشيّة يُخبِّرنَ، أني هالكٌ، مَنْ ورائيا
ودرُّ كبيريّ اللذينِ كلاهما عليَّ شفيقٌ ناصح لو نهانيا
ودَرُّ الرجال الشاهدين تفتُّكي بأمريَ ألا يقصرا من وَثاقيا
ودرُّ الهوى من حيث يدعو صِحابه ودر لحاجاتي ودرّ انتهائيا
تذكّرتُ من يبكي عليَّ فلم أجد سوى السيفِ والرُّمحِ الرُّدينيّ باكيا
وأشقرَ محبوكاً يجرّ لجامه إلى الماء لم يترك له الموتُ ساقيا
ولكن بأكنافِ (السُّمَينةِ) نِسوةٌ عزيزٌ عليهنّ العشيّةَ ما بيا
صريعٌ على أيدي الرجالِ بقفرة ٍ يُسَوّون لحدي حيثُ حُمَّ قضائيا
ولمّا تراءت عندَ مَرْوَ منيتّي وخلَّ بها جسمي،وحانت وفاتيا
أقولُ لأصحابي :ارفعُوني فإنّني يقرُّ بعيني أن (سُهيلٌ) بدا ليا
فيا صاحبيْ رَحلي ،دنا الموتُ فانزِلا برابيةٍ،إني مقيمٌ لياليا
أقيما عليَّ اليومَ أو بعضَ ليلةٍ ولا تُعجلاني،قد تبينّ شانيا
وقُوما ،إذا ما اسُتلَّ رُوحي فهيّئا ليَ السِّدرَ والأكفانَ عند فنائيا
وخُطّا بأطرافِ الأسنّةِ مَضجعي ورُدّا على عينيَّ فضلَ ردائيا
ولا تحسُداني،باركَ الله فيكُما من الأرضِ ذاتِ العَرضِ أن تُوسِعا ليا
خُذاني فَجُرّاني ببردي إليكما فقد كنتُ قبل اليوم صعباً قياديا
وقد كنتُ عطّافاً إذا الخيلُ أدبرت سريعاً إلى الهَيجا إلى من دَعانيا
وقد كنتُ محموداً لدى الزاد والقرى وعن شتميَ ابن العمِّ والجارَ وانيا
وقد كنتُ صبّاراً على القِرنِ في الوغى ثقيلً على الأعداءِ عضباً لسانيا
فَطَوراً تراني في ظِلالٍ ونعمةٍ وطورأ تراني والعِتاقُ ركابيا(رواية:ويوما تراني)
ويوماً تراني في رحىً مستديرةٍ تُخرِّقُ أطرافُ الرِّماح ثيابيا
وقوما على بئر السَّمينة أسمِعا بها الغرَّ والبيضَ الحِسان الرَّوانيا:
بأنّكما خلَفتُماني بقفرةٍ تهيلُ عليَّ الريحُ فيها السّوافيا
ولا تَنسيا عهدي خليليَّ بعد ما تقطَّعُ أوصالي وتبلى عِظاميا
ولن يعَدمَ الوالُونَ بثّا يُصيبهم ولن يعدم الميراثُ منّي المواليا
يقولون: لا تبْعَدْ،وهم يدفنونني وأينَ مكانُ البُعدِ إلا مكانيا!
غداةَ غدٍ، يالهفَ نفسي على غدٍ إذا أدلجوا عني وأصبحتُ ثاويا
وأصبحَ مالي من طريفٍ وتالدٍ لغيري،وكان المالُ بالأمسِ ماليا
فياليت شعري هل تغيّرتِ الرَّحى رحا المُثلِ أو أضحت بفلج كما هيا
إذ الحيّ حَلّوها جميعاً،وأنزلوا بها بقراً حُم العيون سواجيا
وعين وقد كان الظلام يُجنها يسُفنَ الخزامى مرَّة والأقاحيا
فياليت شعري، هل بكت أُمَّ مالكٍ كما كنتُ لو عالَوا بنعيّكِ باكيا !
إذا مِتَّ فاعتادي القُبورَفسلّمي على الرَّمس،أُسقيتِ السحابَ الغواديا
على جَدَثٍ قد جرَّتِ الريحُ فوقَه تراباً كسَحقِ المَرنبانيَّ هابيا
رهينة أحجارٍ وتُربٍ تضمَّنت قرارتُها منّي العظامَ البواليا
فيا صاحبي،إمَّا عَرضتَ فبلغنْ بني مازنٍ والرَّيبِ أن لا تلاقيا
وعَطِّلْ قلوصي في الرِّكابِ فإنّها ستفلِقُ أكباداً وتُبكي بواكيا
غريبٌ بعيدُ الدار ثاوٍ بقفرةٍ يدَ الدهر،معروفاً بأن لا تَدانيا
أقلِبُ طرفي فوق رحلي فلا ارى بهِ من عُيونِ المؤنساتِ مُراعيا
وبالرَّملِ منّا نِسوةٌ لو شهِدنَني بكينَ وَفدّينَ الطبيبَ المُداويا
فمنهنَّ أمّي وابنتاها وخالتي وباكيةً أخُرى تهيجُ البَواكيا
وما كانَ عهدُ الَّرملِ عندي وأهِلهِ ذَميماً ولا وُدّعِتُ بالرَّملِ قاليا
أبو الحسن علي الحصري يرثي ولده – مجلة الرسالة العدد161-:
حاشاك من نار على الأحشاء يزداد ضِعفاً حرها بالماء
عزيتني فيما ترى وعزوتني للصابرين ولات حين عزاء
من لي بأجر الصابرين وأعظمي موهونة من أعظم الأرزاء
هل مستطيع أن يكفكف دمعه من لا براح له على البُرحَاء
لهفي على ريحانة راحت إلى مثوى ثواب ليت فيه ثوائي
سالت حشاشة نفسه من أنفه فشهدت منه مصرع الشهداء
ونظرت في قطع الرعاف فلم تمط حمك المنية حيلة الحكماء
فإذا أراد الله ميتة مدنف أخفى على الآسي دواء الداء
داواه من أدواه حتى قال لي لا تأتني من ذا الردى بدواء
لا أشتكي أني حرمت إجابة لولا شعوب لدَعَّ عنه دعائي
والخير فيما اختار خالقه فقد آلت به الضراء للسراء
ولقد يَسُرُّ الله بالبأساء في أحكامه ويضرّ بالنعماء
عرضت له تفاحة نفاحة بعض الأماء فرد بالإيماء
ولو استطاع القول قال مشافها تفاح جنات الخلود شفائي
عبد الغني لك المسرة غائبا ولي المساءة مصبحي ومسائي
وقال أيضا- نفس المرجع-:
كان عبد الغني للعين نورا ولقلبي هدى وللعيش طيبا
كان شيبي به شبابا فلما بان ردّ الشّباب مني مشيبا
كنت في غربتي كأنّي به في وطني،فانقضى فعدت غريبا
لم يدع فقده لمغناي معنى فخلا آهلا وضاق رحيبا
لست أنسى مقامه ومقامي وكلانا مثل القتيل خضيبا
أنفه ينثر العقيق وعيني تنثر الدمع بالعقيق مشوبا
ضمني شاكيا إلي فقلبي كلما يشتكي يطير وجيبا
وبودي لو احتملت فداء عنه ذاك الضنى وتلك الكروبا
لو أطق فيه حيلة غير أني مذ قضى نحبه ألفت النحيبا
مات من كنت أقطع البيد جرا ه وأرجو المنى وأخشى الخطوبا
ما أعزّ الحياة للمرء! ما أب عد آماله وأدنى شعوبا
ما أقل الوفاء،ما أضعف الطا لبَ في ذا الزمان والمطلوبا
يا حبيب الإله لولا المنايا لشفي منك ما أعلّ الطبيبا
يوم ناديت فرج الله كربي إنني اشتقت مسجدي والأديبا
ولِداتٌ سبقتهم لحقوني صار من كان غالباً مغلوبا
طال سقمي فارفع دواتي وأقلا مي ولا تمح لوحي المكتوبا
فإذا ما أفقت أدركت من فا ت وعادت عنقاؤهم عندليبا
قلتَ ما قلت ثم زاد سقام ودم غادر البياض شحوبا
فجرت عبرتي وأحسب نفسي فجرت، كان برّها أن تذوبا
ولدي! كيف نستوي؟ أنا في حرّ الرزايا وأنت في ظل (طوبى)
أنت حيث المقربون فأبشر وسل الله أن أراك قريبا
خضعت بعده رقاب لداتٍ كان فيهم معظما ومهيبا
كان يهدي قلوبهم ثم ولّى فمعه الآن أعينا وقلوبا
حقّ لي أن أشقّ قلبي بكاء لا أوفيك إن شققت الجيوبا
أبو تمام يرثي أخاه وقد حضر وفاته يقول واصفاً لحظة النزع الأخير:
إنّي أظنُّ البِلى،لو كان يفهمهُ صدَّ البلى عن بقايا وجههِ الحَسَنِ
للهِ مُقلَتهُ والموتُ يكسُرها كأنَّ أجفانَهُ سَكرى من الوَسَنِ
يردُّ أنفاسَهُ كَرْهاً وتعطِفُها يدُ المنيَّة عَطْفَ الرِّيحِ للغُصُنِ
يا هول ما أبصرتْ عيني وما سمعت أذني فلا أبصرت عيني ولا أذني
لم يبقَ من بَدني جزءٌ علمتُ بهِ إلا وقد حَلَّهُ جُزءٌ من الحَزَنِ
كانَ اللحاقُ به أهنأ وأحسن بي من أن أعيش سقيم الروحِ والبدنِ
أبو تمام يرثي ابنه وهو يحتضر(لالئ الشعر – مي علوش- الرثاء ص241):
دافعتُ إلا المنونَ عنه والمرءُ لا يدفع المنونا
آخرُ عهدي بهِ صريعاً للموتِ بالداءِ مُستكينا
إذا شكا غُصَّةً وكربًا لا حظَ أو راجعَ الأنينا
يُديرُ في رجعهِ لساناً يمنعهُ الموتُ أن يبينا
يَشْخَصُ طوراً بناظريهِ وتارةً يُطبقُ الجفونا
ثم قضى نحبَهُ فأمسى في جَدَثٍ للثرى دفينا
بعيدُ دار قريبُ جارٍ قد فارقَ الإلفَ والقرينا
أبو تمام:
تولّى ولم يأل الرّدى في اتباعهِ كأنَّ الردى في قصدهِ هائِمٌ صَبُّ
الفرزدق على فراش الموت وقد أشرف على المئة:
إلى من تفزعون إذا حثوتم بأيديكم عليَّ التراب
ومن هذا يقوم لكم مقامي إذا ما الريقُ غَصَّ بذي الشراب
ابن الرومي في اليوم الذي توفي فيه:
أبا عثمان :أ عميدُ قومكْ وجودك للعشيرة دون لومِكْ
تمتعْ من أخيك فما اراهُ يراكَ،ولا تراهُ بعد يومكْ
لبيد يخاطب ابنتيه وهو على فراش الموت:
تمنّى ابنتايَ أن يعيشَ أبوهما وهل أنا إلا من ربيعةَ أو مُضرْ؟
فإن حانَ يوماً أن يموتَ أبوكما فلا تَخمشا وجهاً ولا تحلقا شعرْ
وقولا هوَ المرءُ الذي لا حليفهُ أضاعَ ولا خانَ الصديقَ ولا غدرْ
إلى الحولِ ثمَّ اسمُ السلامِ عليكما ومن يبكِ حولاً كاملاً فقد اعتذر
امرؤ القيس:
إلى عِرْقِ الثرى وَشَجتْ عُروقي وهذا الموتُ يسلبُني شبابي (وشجت:اتصلت)
ونفسي سوفَ يَسلبُها،وجِرمي فيلحقني،وشيكاً بالترابِ
الأعشى :
تقولُ بنتي وقد قَرَّبتُ مُرتحلاً ياربِّ جَنِّبْ أبي الأوصابَ والوجعا
عليكِ مثلُ الذي صَلَّيتِ فاغتمضي نَوماً فإنَّ لجنبِ المرء مُضطجعا
الأعشى:
سأوصي بصيراً إن دنوتُ من البِلى وكلُّ امرىءٍ يوماً سيصبحُ فانيا
بأن لا تأنَ الودَّ من متباعدٍ ولا تنأ إن أمسى بقربكَ راضياً
وذا السَّرِّ فاشنأه وذا الودِّ فأجزه على ودّهِ وزد عليه الغلانيا
وإن بَشراً يوماً أحالَ بوجههِ عليكَ فَحل عنهُ وإن كنتَ دانيا
طرفة بن العبد:
فإن مُتُّ فانعيني بما أنا أهلهُ وشُقّيِّ عليَّ الجيبَ يابنةَ معبدِ
الممزق العبدي يصور نفسه بعد أن يسقى كأس المنية:
هل للفتى من بناتِ الدّهرِ من واقِ أم هل له من حِمامِ الموتِ من راقِ؟
قد رَجَّلوني وما رُجِّلتُ من شَعَثٍ وألبسوني ثياباً غير أخلاقِ
ورفعوني وقالوا أيُّما رجلٍ وأدرجوني كأنّي طيُّ مِخراقِ
هَوِّن عليكَ ولا تَولعْ بلإشفاقِ فإنما مالنا للوارثِ الباقي
كأنّني قد رماني الدّهر عن عُرثضِ بنافذاتٍ بلا ريشٍ وأفواقِ
المتلمس عند وفاته:
خليليّ!إمّا متُّ يوماً وزُحزحتْ منايا كما فيما يُزحزحه الدّهرُ
فَمُرّا على قبري فقوما فسلّما وقولا سقاكَ الغيثُ والقَطرُ يا قبرُ
كأنَّ الذي غيّبتَ لم يلهُ ساعةً من الدّهرِ والدنيا لها ورق نَضرُ
الفرزدق على فراش الموت:
أروني من يقومُ لكم مقامي إذا ما الأمرُ جلَّ عن العتابِ
إلى من تفزعون إذا حثوتم بأيديكم عليَّ من التراب
يعقوب بن الربيع يرثي جاريته وهي على فراش الموت(ثمار القلوب للثعالبي ص 218):
حتى إذا احتبسَ اللسان وأصبحتْ للموت قد َذبُلَتْ ذبولَ النرجسِ
وتكاءَبتْ منها محاسنُ وجهها وعلا الأنين تَحثُّهُ بتنفسِ
رَجعَ اليقين مطامعي ياساً كما رجعَ اليقينُ مطامعَ المتلمسِ
السموأل:
اسلمْ سلمتَ ولا سليمَ على البِلى فنيَ الرجالُ ذوو القُوى ففنيتُ
كيفَ السلامةُ إن أردتُ سلامةً والموتُ يطلبني ولستُ أفوتُ
وأقيلُ حيثُ ارى فلا أخفى لهُ ويرى فلا يعيا بحيثُ ابيتُ
ميتاً خُلِقتُ ولم أكن من قبلها شيئاً يموتُ فَمتُّ حيثُ حييتُ
وأموتُ اخرى بعدها ولأعلمن إن كان ينفعُ انني سأموتُ
السموأل:
ياليتَ شعري حين أندبُ هالكاً ماذا تؤبنني به نُوّاحي
أيقلنَ لا تبعدْ فَرُبَّ كريهةٍ فرّجتها بشجاعةٍ وسماحِ
ولقد أخذتُ الحقَّ غير مُخاصمٍ ولقد بذلتُ الحقَّ غيرَ مُلاحِ
يزيد بن حدّاق العبدي على فراش الموت(يقال أنه أول من رثى نفسه):
هل للفتى من بناتِ الدهرِ من واقِ أم هل لهُ من حِمام الموتِ من راقِ
قد رَحّلوني وما رُحِّلتُ من سَغبِ وألبسوني ثياباً غيرَ أخلاقي
ورفعوني وقالوا:أيُّما رَجُلٍ وأدرجوني كأنّي طيُّ مِخراقِ(منديل)
وأرسلوا فتيةً من خيرهم نسباً ليسندوا في ضريحِ التُّربِ أطباقي
وأقسموا المالَ وارفضَّتْ عوائِدُهمُ وقال قائلهُم:ماتَ ابنَ حَذّاق
هَوِّنْ عليك ولا تُولع بإشفاقِ فإنما مالُنا للوارثِ الباقي
كأنني قد رماني الدهرُ من غِرضٍ بنافذاتٍ بلا ريشٍ وأفواقِ(موضع الوتر)
هدبة بن الخشرم:
الا عَللَّاني قبل نوح النوائحِ وقبلَ إطّلاع النفس بين الجوانحِ
وقبل غدٍ يالهف نفسي على غدٍ إذا راحَ أصحابي ولستُ برائحِ
إذا راحَ أصحابي يفيضُ دُموعهم وغُودِرتُ في لحدٍ عليَّ صفائحي
يقولون هل أصلحتمُ لأخيكمُ وما الرمس في الأرضِ القِواء بصالحِ
يقولون لا تبعُد وهم يدفنونني وليس مكانُ البعد إلا ضرائحي
الطغرائي:
ولم أنسها والموتُ يقبض كفّها ويبسطها والعينُ ترنو وتطرق
وقد دمعت أجفانها فوق خدّها جني نرجس فيه الندى يترقرق
وحلَّ من المقدور ما كنت أتقى وحُمَّ من المحذورِ ما كنت أفرقُ
وقيل فراق لا تلاقي بعده ولا زاد إلا حسرة وتحرّقُ
فلو أن نفساً قبل محتوم يومها قضت حسرات كانت الروح تزهق
هلال ثوى من قبل أن تمّ نوره وغصن ذوى فينانه وهو مورقُ
فواعجباً أنّي أحم اجتماعنا ويا حسرتي من أين حلَّ التقرّقُ
أحنُّ إليها إن اراخى مزارها وأبكي عليها إن تدانى وأشهقُ
وأبلس حتى ما أبين كأنّما تدور بي الأرض الفضاء وأصعق
وألصقها طوراً بصدري فأشتفي وأمسحه حيناً لكفّي فتعبقُ
وما زرتها إلا توهمت أنها بثوبي من وجدي بها تتعلق
وأحسبها والحجبُ بيني وبينها تعي من وراء الترب قولي فتنطقُ
وأشعر قلبي اليأس عنها تصبراً فيرجع مرتاباً به لا يصدق
الشنفرى الأزدي:
إذا ما أتتني منيتي لم ابالها ولم تذر خالاتي الدموع وعمتي
ولو لم ارْمِ في أهل بيتي قاعداً إذن جاءني بين العمودين حُمتي
الشمّاخ:
إذا بَلغتّني وحَملتِ رحلي عَرابة فأشرقي بدم الوتين
(عرابة بن أوس من الصحابة المشهورين بالكرم)
معجم الادباء-ياقوت الحموي-ج1 ص163:
“أحدهم وقد غشي عليه ساعة ثم أفاق ففتح عينيه،فقال له من يعوده: أرى قلبك قد سَكَن،وعرقُ جبينك قد انقطع،وهذه أمارة العافية فأنشأ يقول:
أقولُ لصاحبيَّ وسَلّياني وَغَرّهما سكونُ حمى جبيني
تَسّلوا بالتعزِّي عن أخيكمُ وخوضوا في الدّعاءِ وودّعوني
فلم أدَعِ الأنينَ لِضَعفِ سُقمٍ ولكني ضَعُفتُ عن الأنينِ
ثم مات من ليلته .
أبو نواس:
اصبرْ لِمُرِّ حوادثِ الدّهرِ فلتحمَدنَّ مغبةَ الصّبرِ
وامهَدْ لِنفسكَ قبل مِييتها واذْخرْ ليومِ تفاضُلِ الذّخرِ
فكأنّ أهلكَ قد دعوكَ، فلم تسمعْ ،وأنتَ مُحشرجُ الصّدرِ
وكأنّهم قد عطّروكَ بما يتزوّدُ الهَلكى من العِطرِ
وكأنّهم قد قَلَبّوكَ على ظهرِ السريرِ وظُلمةِ القبرِ
يا ليتَ شعري ! كيفَ أنتَ على ظهرِ السريرِ، وأنتَ لا تدري؟
أو ليتَ شعري! كيفَ أنتَ إذا وُضِعَ الحسابُ صبيحةَ الحشرِ؟
ما حُجّتي فيما أتيتُ،وما قولي لربي،بل وما عذري
أن لا أكونَ قصدتُ رشديَ أو أقبلتُ ما استدبرتُ من أمري
يا سوأتا مما اكتسبتُ،ويا أسفي على ما فاَتَ من عمري
أبو نواس يرثي نفسه وكتب بها إلى صديق له في علته التي مات فيها:
شِعرُ مَيْتٍ أتاكَ من لَفْظٍ حَيٍّ صارَ بين الحياةِ والموتِ وَقفا
أنحلتْ جِسمهُ الحوادِث حتى كادَ عن أعُينِ الحوادثِ يَخفى
لو تاملتني لِتُثبتَ وجهي لم تُبِنْ من كتابِ وجهيَ حَرْفا
ولكررت طَرْفَ عَينكَ فيمنْ قد براهُ السَّقامُ حتى تَعَفى
أبو نواس:
يا نفسُ! خافي الله واتئدي واسعي لنفسك سعي مجتهدِ
من كان جمعُ المالِ هِمّتهُ لم يخلُ من غمٍّ ومن كمدِ
يا طالبَ الدنيا ليجمعها جمحت بكَ الآمالُ فاقتصدِ
لو لم تكن لله متهماً لم تُمسِ محتاجاً إلى أحدِ
فاقصد فلستَ بمدرك أملاً إلا بعونِ الواحد الصمدِ
والحرصُ يفقر أهله حسداً والرزقُ أقصى غاية الحسدِ
وإذا المنيّة أمَمت أحداً لم تنصرف عنه ولم تحِدِ
لو أنَّ دونَ النفسِ واقيةً لفديتها بالمالِ والولدِ
أبو نواس وجدت تحت الفراش الذي مات عليه:
ياربّ إن عظُمت ذنوبي كثرةً فلقد علمتُ بأنَّ عَفوكَ أعظمُ
إن كان لا يرجوك إلا مُحسنٌ فبمن يلوذ ويستجيرُ المجرمُ
أدعوكَ ربِّ كما أمرتَ تَضرُّعاً فإذا رددَتَ يدي فمن ذا يرحمُ
مالي إليكَ وسيلةٌ إلا الرّجا وجميلُ عفوكَ ثمّ إني مسلمُ
أبو نواس:
وعظتكَ أجداثٌ صُمُتْ ونعتكَ أزمنة عُفُتْ
وتكلّمتْ عن أوجهٍ تبكي وعن صورٍ سُبتْ
وأرتك قبرك في القبورِ وأنتَ حيٌّ لم تمُتْ
المعري:
أوُمِّلُ عفو الله والصدرُ جائِشٌ إذا خلجتني للمنونِ الخوالِجُ
هُناكَ تَوَدُّ النفسُ أن ذنوبها قليلٌ وأنَّ القِدْحَ بالخيرِ فالجُ
أبو العتاهية لما حضرته الوفاة:
أُذْنَ حيِّ تَسَمّعي اسمعي ثمّ عِي وَعي
أنا رهنٌ بمضجعي فاحذري مِثلَ مَصرعي
عِشتُ تِسعينَ حِجّةً ثم وافيتُ مَضجعي
ليس شئٌ سوى التُّقى فخذي منه أو دَعي
أبو العتاهية:
إذا انقطعتْ عني من العيش مُدّتي فإنَ بكاءَ الباكياتِ قليلُ
سَيُعرضُ عن ذكري وتُنسى مودّتي ويحدثُ بعدي للخليلِ خليلُ
أجَلَّكَ قومٌ حينَ صرتَ إلى الغنى وكلُّ غنيٍّ في العيونِ جليلُ
وليسَ الغنى إلا غنىً زيّنَ الفتى عشيةَ يقري أو غداةَ يُنيلُ
ولم يفتقر يوماً وإن كان مُعدماً جوادٌ ولم يستغنِ قطُّ بخيلُ
إذا مالت الدنيا إلى المرءِ رغّبت إليه ،ومالَ الناسُ حيث يميل
أرى عِللَ الدنيا عليَّ كثيرةٌ وصاحبُها حتى المماتِ عليلُ
وإنّي وإن أصبحتُ بالموتِ مُوقناً فلي أملٌ دونَ اليقينِ طويلُ
عبدة بن الطبيب يرثي نفسه:
فبكى بناتي شَجوهُنَّ وزوجتي والأقربونَ إليَّ ثمَّ تصدَّعوا
وتُركتُ في غبراءَ يُكرَهُ وِردُها تسفي عليَّ الريحُ حينَ أُوَدّعُ
فإذا مضيتُ إلى سبيلي فابعثوا رجلاً له قلبٌ حديدٌ اصمعُ
إنَّ الحوادثَ يخترمنَ وإنما عمرُ الفتى في أهلهِ مُستودعُ
يسعى ويجهدُ جاهداً مستهتراً جداً وليسَ بآكلٍ ما يجمعُ
حتى إذا وافى الحِمامُ لوقتهِ ولكلِّ جنبٍ لا محالة مصرعُ
نبذوا إليه بالسّلامِ،فلم يثجب أحداً وصَمَّ عن الوداعِ الأسمعُ
علقمة بن سهل أحد شعراء الجاهلية يصور مايحصل بعد موته:
فلن يعدَمَ الباقونَ قبراً لجثتي ولن يعدم الميراثَ مني المواليا
حراصٌ على ما كنتُ أجمع قبلَهم هنيئاً لهم جمعي وما كنتُ واليا
ودُلِّيتُ في زوراءَ ثمت اعنقوا لشأنهم قد أفردوني وشانيا
فأصبحَ مالي من طريفٍ وتالدٍ لغيري وكان المالُ بالأمسِ ماليا
بشير بن النكث الثقفي:
ألا ليتَ شعري إنَّ سُليمةَ فاتها بيَ الموتُ ما تلقى من الناسِ والدّهرِ
ـ ابن شهيد الأندلسي في أواخر حياته بعد علة دامت به عدة سنين(نفح الطيب ج3 ص362):
لما رأيتُ العيشَ لوّى برأسهِ وأيقنتُ أنَّ الموتَ لا شكَّ لاحقي
تمنيتُ أنّي ساكنٌ في غيابةٍ بأعلى مهبّ الريحِ في رأسِ شاهقِ
أدرُّ سقيطَ الطلّ في فصلِ عيشتي وحيداً وأحسو الماء ثني المعالقِ
خليليَّ من ذاقَ المنيّةَ مرّةً فقد ذاقها خمسين،قولة صادقِ
كأنّي وقد حان ارتحالي لم أفزْ قديماً من الدنيا بلمحةِ بارقِ
فمنْ مبلغٌ ابن حزمٍ وكان لي يداً في حُلماتي وعندَ مضايقي
عليكَ سلامُ الله إنّي مفارقٌ وحسبُكَ زاداً من حبيبٍ مُفارقِ
فلا تنسَ تأبيني إذا ما ذكرتني وتذكارَ أيامي وفضلَ خلائقي
وحرّك له بالله من أهل فَننا إذا غيّبوني كلَّ شهمٍ غرانقِ
عسى هامتي في القبرِ تسمعُ بعضهُ بترجيعِ شادٍ أو بتطريبِ طارقِ
فلي في ادّكاري بعد موتي راحةٌ فلا تمنعوها لي عُلالة زاهقِ
وإنّي لأرجو الله فيما تقدّمت ذنوبي به مما درى من حقائقِ
ابن حزم الظاهري ينعي نفسه:
كأنّكَ بالزُوارِ لي قد تبادروا وقيل لهم:أودى عليّ بن أحمدِ
فيا رُبَّ محزونٍ هناك وضاحكٍ وكم أدمع تُذرى وخدٍّ مُقدَّدِ
عفا الله عني يومَ أرحلُ ظاعناً عن الأهلِ محمولاً إلى ضيقِ ملحدي
وأتركُ ما قد كنتُ مرتبطاً به وألقى الذي أُنسيتُ دهراً بمرصدِ
فوا راحتي إن كانَ زادي مقدّماً ويا نَصبي إن كنتُ لم أتزوّدِ
ابن عبد ربه:
مَنْ لي إذا جُدْتُ بين الأهلِ والولدِ وكانَ مني نحو الموتِ قيدُ يدِ
والدّمعُ يهملُ والأنفاسُ صاعدةٌ فالدّمعُ في صَببٍ والنفسُ في صُعدِ
ذاكَ القضاءُ الذي لا شىء يصرفهُ حتى يُفرّقَ بين الروحِ والجسدِ
ابو اسحق الألبيري:
كأنّي بنفسي وهي في السكرات تعالج أن ترقى إلى اللهوات
وقد زم رحلي واستقلت ركائبي وقد آذنتني بالرحيلِ حداتي
إلى منزل فيه عذاب ورحمة وكم فيه من زجر لنا وعظات
ومن أعين سالت على وجناتها ومن أوجه في التراب منعفرات
ومن وارد فيه على ما يسره ومن وارد فيه على الحسرات
ومن عاثر ما إن يقال له لعا على ما عهدنا قبل في العثرات
ومن ملك كان السرور مهاده مع الآنسات الخرد الخفرات
غدا لا يذود الدود عن حر وجهه وكان يذود الأسد في الأجمات
وعوض أنسا من ظباء كناسه وأرامه بالرقش والحشرات
وصار ببطن الأرض يلتحف الثرى وكان يجر الوشي والحبرات
ولم تغنه انصاره وجنوده ولم تحمه بالبيض والأسلات
ابو اسحق الألبيري:
فيا إخواتي مهما شهدتم جنازتي فقوموا لربي واسألوه نجاتي
وجدّوا ابتهالاً في الدعاء وأخلصوا لعلَّ إلهي يقبل الدعوات
وقولوا جميلاً إن علمتم خلافه وأغضوا على ما كان من هفواتي
ولا تصفوني بالذي أنا أهله فأشقى وحلوني بخير صفات
ولا تتناسوني فقدما ذكرتكم وواصلتكم بالبر طول حياتي
وبالرغم فارقت الأحبة منكم ولما تفارقني بكم زفراتي
وإن كنت ميتاً بين أيديكم لقى فروحي حي سامع لنعاتي
أناجيكم وحيا وإن كنت صامتا ألا كلكم يوما إلي سيأتي
وليس يقوم الجسم إلا بروحه هو القطب والأعضاء كالأدوات
ولابد يوما أن يحور بعينه ليجزى على الطاعات والتبعات
وإلا أكن أهلا لفضل ورحمة فربي أهل الفضل والرحمات
فما زلت أرجو عفوه وجنانه وأحمده في اليسر والأزمات
وأسجد تعظيماً له وتذللا وأعبده في الجهر والخلوات
ولست بممتن عليه بطاعتي له المن في التيسير للحسنات
أبو اسحق ابن خفاجة الأندلسي:
خليليَّ هل من وَقفةٍ لتأُّلمِ على جَدثي أو نظرةٍ بِتَرَحُّمِ
خليليَّ هل بعد الردى من مآبةٍ وهل بعد بطنِ الأرضِ دارَ مُخَيّمِ
وإنّا حَيينا أورَدينا لإخوةٌ فَمنْ مَرَّ بي من مُسلمٍ فَليسَلِّمِ
وماذا عليه أن يقول مُحيّياً ألا عِمْ صباحاً أو يقول: ألا اسلمِ
وفاءً لأشلاءٍ كَرُمْنَ على البلى يُعاجُ عليها من رُفاتٍ وأعظُمِ
يُرَدِّدُ طوراً آهةَ الحزن عندها ويذرِفُ طوراً دمعة المُترحمِ
ابن زهر الأندلسي يكتب على قبره(نفح الطيب ج2 ص434):
تأمَلْ بفضلكَ يا واقفاً ولاحظْ مكاناً دُفعنا إليه
ترابُ الضريحِ على صفحتي كأنّي لم أمشِ يوماً عليه
أداوي الأأنامَ حِذار المنونِ فها أنا قد صرتُ رهناً لديه
ابن شُهيد الأندلسي كتب للفقيه ابن حزم الظاهري في مرضه الذي مات به:
ولما رأيتُ العيشَ ولّى برأسهِ وأيقنتُ أنّ الموتَ لا شكَّ لا حقي
تمنيتُ أني ساكنٌ في غَيابةٍ بأعلى مهبِّ الريحِ في رأسِ شاهقِ
خليليَّ من ذاقَ المنيّة مرّةً فقد ذُقتها خمسين:قولة صادقِ
كأنّي وقد حانَ ارتحالي لم أفُزْ قديماً من الدنيا بلمحةِ بارقِ
فمن مُبلغٌ عنّي ابنَ حزمٍ وكان لي يداً في مُلمّاتي وعندَ مضايقي
عليكَ سلامُ الله إنّي مُفارقٌ وحسبُكَ زاداً من حبيبٍ مُفارقِ
فلا تنسَ تأتيني إذا ما فقدتني وتذكرُ أيامي وفضلَ خلائقي
فلي في ادِّكاري بعد موتي راحةٌ فلا تمنعونيها عُلالة زاهقِ
وإني لأرجو الله فيما تقدمتْ ذنوبي به مادرى من حقائقي
أبو بكر بن مغاور الشاطبي كتب على شاهدة قبره:
أيُّها الواقفُ اعتباراً بقبري استمعْ فيهِ قولَ عظمٍ رميمِ
أودعوني بطنَ الضريحِ وخافوا من ذنوبٍ كُلومها بأديمي
قلتُ لا تجزعوا عليَّ فإنّي حسنُ الظنِّ بالرؤوفِ الرحيمِ
واتركوني بما اكتسبت رهيناً غِلقَ الرهنُ عند مولى كريمِ
العباس بن الأحنف وهو يحتضر:
يا غريبَ الدار عن وطنهْ مُفْرداً يبكي على شَجَنِهْ
شَفَّهُ ما شَفّني فبكى كُلنا يبكي على سَكنهْ
ولقد زادَ الفؤادَ شَجاً طائراً يبكي على فَنَنهْ
كُلّما جَدَّ البكاءُ به دَبتِ الأسقامُ في بَدنهْ
هُدبة العُذري لما أيقن بالموت
ألا عَللَاّني قبلَ نَوحِ النوائِح وقبلَ اطَّلاعِ النفس بين الجوانح
وقبلَ غدٍ يا لهفَ نفسي على غدٍ إذا راح أصحابي ولستُ برائحِ
إذا راح أصحابي بفيض دموعهم وغُودرِتُ في لحدٍ عليَّ صفائحي
يقولون هل أصلحتمُ لأخيكمُ وما الرمس في الأرضِ القِواء بصالح
عمران بن حطان الشيباني:
لقد زادَ الحياةَ إليَّ حُبّاً بناتي أنهُنَّ من الضعافِ
مخافةَ أن يرينَ البؤسَ بعدي وأن يشربنَ رنقاً بعد صافِ
وأن يعرينَ إن كُسي الجواري فيبدي الضرُّ عن كرمٍ عجافِ
وأن يضطرهُنّ الدّهرُ بعدي إلى قَحَمٍ غليظَ القلبِ جافِ
ولولاهُنَّ قد أبصرتُ رُشدي وفي الرّحمن للضعفاءِ كافِ
أبو الفضل بن المليحي عندما شعر بدنو أجله:
أسفتُ على موتي وما كان من أمري فياليت شعري من يرثيكم بعدي
وإني لأختارُ الرجوع لو أنني اُرَدُّ ولكن لا سبيلَ إلى الردِّ
ولو كنت أدري أنني غير راجعٍ لما كنتُ قد أسرعتُ سيراً إلى اللّحدِ
ألا هل من الموتِ المُفرّق من بُدّ وهل لزمانٍ قد تَسَّلف من رَدِّ
مضى الأهلُ والأحبابُ عني وودّعوا وغودرتُ في دهماء موحشةٍ وحدي
لبعض على بعضكم لديكم مزية ولا يعرفُ المولى لدنيا من العبد
لقد كنت قد أفرحتكم بمنيتي وسَرَّكم موتي وآنسكم فقدي
ولا تقنطوا من رحمة الله بعد ذا فليس لنا من رحمة الله من بُدّ
ابن الزّقاق:
أإخوَانَنا والموتُ قد حالَ دُونَنا وللموتِ حُكمٌ نافذٌ في الخلائقِ
سَبقتُكُمُ للموتِ والعمرُ طَيَّهُ وأعلمُ أنّ الكلَّ لا بُدّ لاحقي
بِعيشِكُمُ أو باضطجاعيَ في الثرى ألم نكُ في صَفوٍ من العيشِ رائقِ
فمن مرَّ بي فليمضِ بي مُترَحّماً ولا يكُ مَنسياً وفاءُ الأصادِقِ
لسان الدين بن الخطيب وكان في السجن يتوقع مصيبة الموت فتجيش هواتفه بالشعر يبكي نفسه ومما قال في ذلك:
بعدنا وإن جاورتنا البيوت وجئنا بوعظ ونحن صموت
وأنفاسنا سكنت دفعة كجهرالصلاة تلاه القنوت
وكنا عظاماً فصرنا عظاماً كنا نقت فها نحن قوت
وكنا شموس سماء العلا غربن فناحت عليها البيوت
فكم جدلت ذا الجسام الظبا وذو البخت كم جدلته النجوت
وكم سيق للقبر في خرقه فتى ملئت من كساه التخوت
فقل للعدا ذهب ابن الخطي ب وفات ملئت من كساه التخوت
ابن زهر الأندلسي أوصى أن يكتب على قبره:
تأمَّلْ بحقِّكَ يا واقفاً ولاحظْ مكاناً دُفِعتَ إليهْ
فإنّي حَذَرتُ منهُ الأنا مَ وها أنا قد صِرتُ رهناً لديهْ
أبو الصّلت الإشبيلي:
سكنتُكِ يادارَ الفناءِ مُصَدِقاً بأني إلى دارِ البقاءِ أصيرُ
وأعظمُ مافي الأمرِ أني صائرٌ إلى عادلٍ في الحكمِ ليسَ يجورُ
فيا ليتَ شعري كيفَ ألقاهُ عندها وزادي قليلٌ والذنوبُ كثيرُ
فإن أكُ مَجزياً بذنبي فإنني بشرِّ عقابِ المذنبينَ جديرُ
وإن يكُ عفوٌ ثّمَ عني ورحمةٌ فَثّمَ نعيمٌ زائدٌ وسرورُ
ابن الجنان الأنصاري شاعر أندلسي في مرضه الذي توفي فيه يرجو رحمة الله (تاريخ الأدب العربي للدكتور عمر فروخ ج2 ص197):
جَهِلَ الطبيبُ شِكايتي،وشكايتي أنَ الطبيبَ هو الذي ممرضي
فإن أرتضي بُرئي تدارك فضله وإن أرتضي سقمي رضيت بها رضي
مالي اعتراضٌ بالذي يقضي به لكن لرحمتهِ جعلتُ تَعرُّضي
الغزّال:
أصبحتُ والله مجهوداً على أملٍ من الحياةِ قصيرٍ غيرِ مُمّتد
وما أفارِقُ يوماً من أفارِقه إلا حسبتُ فراقي آخرَ العهد
أنظرْ إليَّ إذا أدرجتُ في كفني وانظر إليَّ إذا أدرجتُ في اللحدِ
واقعد قليلاً وعاينْ من يُقيمُ معي ممن يُشيّعُ نعشي من ذوي ودّي
هيهات كُلّهمُ في شأنهِ لَعِبٌ يرمي الترابَ ويحثوهُ على خدّي
المعتمد بن عباد حين استشعر دنو منيته واقتراب أجله – وهو لا يزال يرسف في أغلال أسره- يوصي بأن يكتب على قبره:
قبرَ الغريب، سقاك الرائح الغادي حقاً ظفرتَ بأشلاء ابن عبّادِ؟
بالطاعن،الضارب،الرامي،إذا اقتتلوا بالخصبِ إن أجدبوا،بالريِّ للصادي،
بالدهر في نقمٍ،بالبحر في نعم بالبدر في ظلم،بالصدر في النادي
نعم! هو الحقّ وافاني به قدرٌ من السماء فوافاني لميعاد
ولم أكن قبل ذاك النعش أعلمهُ أنّ الجبال تهادى فوق أطواد
كفاك،فارفق بما استودعت من كرم روّاك كلّ قطوب البرق رعّادِ
يبكي أخاه الذي غيبّت وابلهُ تحت الصفيح بدمع رائح غادِ
حتى يجودك دمعُ الطلِّ منهمراً من أعين الزهر لم تبخل بإسعادِ
ولا تزال صلوات الله دائمة على دفينكَ لا تُحصى بتعدادِ
نظم ابن يوسف بن رضوان النجّاري وهو أحد أعلام غرناطة هذه الأبيات وكتبها على شاهد قبر والده:
إلهي خدّي في التراب تذللا بسطتُ عسى رحماك يحيا بها الروحُ
وجاورتُ أجداث الممالك خاضعاً وقلبي مصدوعٌ ودمعي مسفوحُ
ووجهت وجهي نحو جودك ضارعاً لعلّ الرضى من جنبِ حلمك ممنوحُ
أتيتُ فقيراً والذنوبُ تؤدّني وفي القلب من خوف الجرائم تبريحُ
ولم أعتمد إلا الرّجاء وسيلةً وإخلاصُ إيماني به والصدرُ مشروحُ
وأنت غنيٌّ عن عذابي وعالمٌ بفقري وبابُ العفو عندك مفتوحُ
فهبْ لي عفواً من لَدُنكَ ورحمةً يكون بها من ربقة الذنب تسريحُ
وصلّ على المختار ما همعَ الحيا وما طلعت شمسٌ وما هبت الريحُ
بكر بن حمّاد التاهرتي:
غفلتُ وحادي الموت في إثري يحدو فإن لم أرح ميتاً فلا بدّ أن أغدو
أرى عمري ولّى ولم أترك المنى وليس معي زاد وفي سفري بعدُ
أنعم جسمي باللباس ولينه وليس لجسمي من قميص البِلى بدُّ
كأنّي به قد مدَّ في برزخ البِلى ومن فوقهِ ترب ومن تحته لحدُ
وقد ذهبت تلك المحاسن وامّحت فلم يبقَ فوق العظمِ لحم ولا جلدُ
عسى غافر الزّلاتِ يغفر زلّتي فقد يغفر المولى إذا أذنبَ العبدُ
أنا الفردُ عند الموتِ والفرد في البِلى وأبعثُ فرداً فارحم الفرد يا فردُ
المعتضد بالله العباسي لما حضرته الوفاة:
تمتعْ من الدنيا فإنك لا تبقى وخذ صفوها ما إن صفت ودعِ الرنقا
ولا تأمنن الدّهرَ إني أمنته فلم يبق لي حالاً ولم يرع لي حقاً
قتلت صناديد الرجال ولم أدع عدواً ولم أمهل على ظنة خلقا
وأخليت دار الملك من كل نازع فشردتهم غرباً وشردتهم شرقا
فلما بلغت النجم عرا ورفعة وصارت رقاب الناس أجمع لي رقا
رماني الردى سهماً فأخمد جمرتي فها أنا ذا في حفرتي عاجلاً ألقى
ولم يغن عني ما جمعت ولم أجد لدى ملكي إلا حياء في حبها رفقا
فيا ليت شعري بعد موتي ما أرى أفي نعمة الله أم ناره ألقى
ابن المعتز:
فإن متُّ فانعيني إلى المجدِ والتُّقى ولا تحزني دمعاً إذا قامَ نائِحُ
وقولي هوى عرشُ المكارمِ والعلا وعُطّلَ ميزانٌ من العلمِ راجحُ
وقال مجنون ليلى:
فلا تعذلوني إن هلكتُ،ترحموا عليَّ ففقدُ الرُّوح ليسَ يعوقُ
وخطوا على قبري إذا متّ واكتبوا: “قتيل لِحاظٍ مات وهو عشيقُ”
إلى الله أشكو ما ألاقي من الهوى بليلى،ففي قلبي جوىً وحريقُ
ابن خفاجة الأندلسي:
خليليَّ هل من وقفةٍ لتأّلّمِ على جدثي أو نظرةٍ لترحُّمِ؟
خليليَّ هل بعد الردى من ثنيةٍ وهل بعد بطن الأرض دارُ مُخيَّمِ
وإنا ـ حيينا أو رَدينا ـ لإخوةٌ فمن مرَّ بي من مسلم فيسَلّمِ
وماذا عليهِ أن يقولَ محيّياً ألا عِمْ صباحاً أو يقول الا اسلمِ
وفاءً لأشلاءٍ كَرُمنَ على البِلى فعاجَ عليها من رفات وأعظمِ
يردّد طوراً آهة الحزن عندها ويذرفُ طوراً دمعة المترحّمِ
أبو البقاء الرندي:
خليليَّ بالود الذي بيننا اجعلا إذا متّ قبري عُرضةً للترحّمِ
عسى مسلمٌ يدنو فيدعو برحمةٍ فإني محتاج لدعوة مسلمِ
ابن الزقاق البلنسي:
أإخوانَنا والموتُ قد حال دوننا وللموتِ حكمٌ نافذٌ في الخلائقِ
سبقتُكمُ للموتِ والموتُ ظِنّة وأعلمُ أنَّ الكلّ لابد لاحقي
أبو جعفر اللمائي الأندلسي:
فيا زائراً قبري أوصيك جاهداً “عليك بتقوى الله في السر والجهرِ”
فلا تُحسنن بالدهرِ ظَنّاً فإنما من الحزمِ الا يُستنامَ إلى الدّهرِ
أبو الحسن سلام بن عبد الله الباهلي الإشبيلي:
يا ذا الذي مرَّ بي اجتيازاً سألتكَ الله قفْ قليلاً
واسمع لقولي ففيه وعظٌ يوقظ من نومه الغفولا
عشتُ ثمانين كاملاتٍ ناهيك منها مدى طويلا
عجبتُ أن أدبرت سراعاً ولم أنل من مُنايَ سولا
بادرَ رحلي بها ارتحالي كأنني عابرٌ سبيلا
وها أنا اليوم رهنُ قبرٍ أصبحَ من منزلي بديلا
منفرداً لا أرى قريباً ولا حميماً ولا خليلا
رهن ذنوبِ تقدمتْ لي حملتُ من عبئها ثقيلا
فما اعتذاري إذا دعاني للعرضِ مُستصغراً ذليلا؟
وقال لي:ما عملتَ في ما علمتَ يا ظالماً جهولا؟
يا ويلتا إن عدمتُ رُحمى من لم يزل راحماً وصولا
فادعُ لي الله يا وَليّي فصفحهُ لم يزل جميلا
واستغفر الله لي عساهُ يكون من عثرتي مُقيلا
وقل: عفا الله عن سلام فكم عصى الله والرسولا
فرُب داعٍ بظهرِ غيبٍ قابل من ربّه القَبولا
أبو محمد عبد المنعم الغرناطي:
عليك سلام الله يا من يسلم ورحمته ما زرتني تترحمُ
أتحسبني وحدي نُقلت إلى هنا ستلحق بي عما قريب فتعلمُ!
ويا”مسرفا”يمسي لدنياه مؤثراً ويُهملُ أخراهُ ستشقى وتندمُ
قلا تفرحن إلا بتقديمِ طاعةٍ فذاكَ الذي يُنجي غداً ويسلّمُ
الطغنري الغرناطي:
يا خليلي عرّجْ على قبري تجدْ أُكلة التّربِ بين جنبي ضريح
خافت الصوت إن نطقتُ ولكنْ أيّ نطق إن اعتبرتَ فصيحِ؟
أبصرتْ عيني العجائبَ لمّا فرّقَ الموتُ بين جسمي وروحي
محمد ابن إبراهيم الأندلسي:
لئن نفذ القدر السابق بموتي كما حكم الخالق
فقل للذي سرّهُ مصرعي تأهّبْ فإنّكَ بي لاحق
ابن سريج المغني في مرضه الذي مات فيه قيل له: كيف أصبحت يا أبا يحيى فقال أصبحت والله كما قال الشاعر:
كأنّي من تَذّكُرِ ما ألاقي إذا ما أظلم الليلُ البهيمُ
سَقيمٌ ملَّ منهُ أقربوهُ وأسلمهُ المداوي والحميمُ
(نقلاً عن اختيارات الأغاني ج6 ص31) .
أبو حامد الغزالي وقيل غيره(جدد حياتك للشيخ محمد الغزالي ص 34 ـ 35):
قُلْ لإخوانٍ رأوني ميتاً فرثوني،وبكوا لي حزنا
أتظنوني بانّي ميتكُم ليس هذا الميت والله أنا
أنا في الصُّور وهذا جسدي كان بيتي وقميصي زمنا(الصور:البرزخ)
أنا عصفور وهذا قفصي طِرتُ عنه وبقي مرتهنا
أنا درٌّ قد حواهُ صدف لإمتحاني فنفيت المِحنا
أحمدُ الله الذي خلّصني وبنى لي في المعالي سكنا
كنت قبل اليوم ميتاً بينكم فحييتُ وخلعتُ الكفنا
وأنا اليوم أناجي ملاً وأرى الله جهاراً علنا
قد ترّحلتُ وخلفتكمو لستُ أرضى داركم لي وطنا
لا تظنوا الموت موتاً إنّه كحياة،وهو غايات المنى
لا ترُعكم هجمةُ الموتِ فما هي إلا نقلةٌ من ها هنا
أبو النجم العجلي:
قالت بَجيلةُ إذ قَرَّبتُ مُرتحلاً يا ربِّ جَنّبْ أبي الأوصابَ والعطبا
وأنتَ يا ربِّ فارحمها ومُدَّ لنا في عُمرها وقِها الفاقاتِ والوصبا
يا بَجلُ إنَّ لِجنبِ المرءِ مُضطجعاً لا يستطيعُ لهُ دفعاً إذا وجبا
فشاهِدُ الحَيِّ مثلُ غائبهمْ عندَ المنايا إذا ما يومهُ اقتربا
وما تُدني وفاةُ المرءِ رحلتهُ عما قضى الله في الفرقانِ إذ كتبا
يا بَجلُ قومي إلى أثمَّيكِ فاغتمضي إنَّ المُصاباتِ قد أنستني الطّربا
وإن اتاكِ نعيِّ فاندبنَّ أباً قد كانَ يضطلعُ الأعداءَ والخَطَبا
واستغفري الله لا تَنسيهِ واحتسبي فإنّما يأجرُ الله الذي احتسبا
ابن مغاور الشاطبي الأندلسي أمر أن يُخطّ على قبره:
أيها الواقف اعتباراً بقبري استمعْ فيَّ قول عظمي الرَّميمِ
أودعوني بطن الضريحنوخافوا من ذنوبٍ كلومها بأديمي
قلت: لا تجزعوا عليَّ فإنّي حسنُ الظنِّ بالرؤوفِ الرحيمِ
واتركوني بما اكتسبتُ رهيناً غَلِقَ الرهنُ عند مولى كريم
(غلق الرهن:عجز صاحبه عن فكاكه فصار ملكاً للمرتهن)
ابن منير الطرابلسي أوصى أن يكتب على قبره:
من زار قبري فليكنْ موقناً أن الذي ألقاهُ يلقاهُ
فيرحمُ الله امرأً زارني وقال لي: “يرحمك الله”
أوصى الزمخشري أن يكتب على لوح قبره:
إلهي قد أصبحت ضيفكَ في الثرى وللضيفِ حقُّ عند كلِّ كريمِ
فهبْ لي ذنوبي في قِراي فإنها عظيم،ولا يُقرى بغير عظيم
وجد في كفّ ابن ناقيا البغدادي(صاحب كتاب”الجمان في تشبيهات القرآن” مكتوباً حين مات هذان البيتان:
نزلتُ بجارٍ لا يخيبُ ضيفَهُ أرجّي نجاتي من عذاب جهنمِ
وإني ـ على خوفي من الله ـ واثقٌ بإنعامه،والله أكرمُ مُنعمِ
وقال أبو بكر مالك بن حِمير:
رحلتُ وإنني من غير زادٍ وما قدّمتُ شيئاً للمعادِ
ولكني وثقت بجود ربّي وهل يشقى المُقلّ مع الجواد؟
بشر بن أبي خازم لابنته عُميرة:
فمن يكُ سائلاً عن بيتِ بشرٍ فإنّ له بجنبِ الرَّدة بابا
ثوى في مُلحَدٍ لا بُدَّ منهُ كفى بالموتِ نأياً واغترابا
رهينُ بلىً وكلُّ فتى سيبلى فأذرى الدمع وانتحبي انتحابا
علي بن عيسى الفارسي المعروف بالسكّري:
نفسُ! يا نفس! كم تمادينَ في الغيّ وتأتينَ بالفعال المعيبِ!
راقبي الله،واحذري موضع العَرْ ض،وخافي يوم الحسابِ العصيبِ
لا يَغُرنّك السّلامة في العي ش فإن السليم رهنُ الخطوبِ
كلُّ حيّ فللمنون ولا يد فعُ بأسَ المنونِ كيدُ الأريبِ
واعلمي أنَّ للمنيّة وقتاً سوف يأتي عجلان غيرَ هَيوبِ
وأعدّي لذلك اليوم زاداً وجواباً لله غيرَ كذوبِ
إن حب الصِّديق في موقف الحش رِ أمانٌ للخائفِ المطلوبِ
ابن أرقم النميري الوادي آشي:
أتيتُ إلى خالقي خاضعاً ومن خدّه في الثرى يخضعُ
فأخلص دعاءك يا زائري لعلَّ الإله بهِ ينفعُ
أبو الصّلت الداني:
فيا ليتَ شعري كيف ألقاهُ عندها وزادي قليلٌ والذنوبُ كثيرُ
أحدهم:
إذا متّ فابكيني بثنتينِ لا يَقلْ كذبتِ وشرُّ الباكياتِ كذوبها
بعفّةِ نفسٍ حين يُذكر مطمعٌ وعزّتها إن كان أمرٌ يَريبها
فإن قُلتِ سمحٌ بالنّدى لم تكذبي فأما تُقى نفسي فربّي حَسيبُها