بسم الله الرحمن الرحيم
“كالهرِّ يحكي انتفاخاً صولة الأسد”
يذكر لنا التاريخ أن الأمم رجال،كلّما ازدادوا عظمةً،كلّما ازدادوا تواضعاً،ونأوا عن الألقاب،وكلّما ازدادوا خبالاً،كلّما ازدادوا اختيالاً،وتزّوقوا بالألقاب.
وهذا مارأيناهُ مع بدء انحطاط وانهيار الحضارة الإسلامية في أواخر العصر العباسي وما تلاه من العصور،حيث بدأت تظهر التسميات والألقاب كالمعتضد بالله،والمستكفي بالله،والحاكم بأمر الله،والمتوكل على الله….وهذا ما حصل في الأندلس وخاصة في عصور الانحطاط حيث قال شاعرها:
ممّا يُزّهدني في أرضِ أندلسٍ تلقيب معتمد فيها ومعتضدِ
ألقابُ مملكةٍ في غير موضعها كالهرِّ يحكي انتفاخاً صولة الأسدِ
والأمة الإسلامية،تعيش اليوم أسوأ أيامها بسبب حكامها،الذين عمدوا إلى تغطية عجزهم أمام شعوبهم باللجوء إلى الألقاب الكبيرة،فأصبحنا نسمع عن”حبيب الملايين” و”الزعيم الخالد”و”زعيم الأمة العربية”و”بطل الحرب والسلام”و”بطل التحرير”…ولم يقتصر الأمر على هذه الألقاب،بل أحبّ بعضهم أن يُدخل مسحة دينية على بعض الألقاب لعل هذا يكون له تأثيراً أكبر عند شعبه المسلم فظهرت ألقابٌ أخرى مثل”سليل الأسرة الهاشمية”و”سليل الأسرة العلوية”و”الرئيس المؤمن”و”خادم الحرمين”و”راعي القدس”..وأحدهم كان يحلم قبل قتله أن يُنادى به سادس الخلفاء الراشدين!!
والبعض أحبّ أن يُضيف اسم محمد على اسمه حتى يدرك الناس أن هذا الرئيس هو”مسلم” بالتأكيد بعد أن رأوا في تصرفاته وأفعاله أنه بعيد كل البعد عن الإسلام والمسلمين!!
والبعض من هؤلاء الزعماء أحبّ أن يوضع مع الجامعيين والأكاديميين،فلجأ إلى الجامعات المحلية الداخلية أو المأجورة الخارجية فمنح منها لقب”الدكتوراه الفخرية” ومعها رسالة شكر خاصة من قسم التشريح في كلية الطب التابعة لهذه الجامعة،لما قدّمه ويقدّمه من ضحايا ـ عفواً ـ أقصد تضحيات وخدمات جلّى لهذا القسم!!
وإذا كان هذا الرئيس أكثر حظاً وأكثر تبعيّةً ورضي عنه أسياده ،فإنه يُمنح لقب جائزة نوبل للسلام،ولابأس أن يشاركه هذا اللقب أحد مجرمي الحرب المعاصرين ممن عُرف عنه قتل النساء والأطفال وبقر بطون الحوامل!!
ولابد لإستكمال هيئة العظمة من تسمية الساحات الكبرى،والمدارس،والجامعات والمطارات بأسماء هؤلاء العظام وإقامة النُصب والتماثيل لهم في كل مكان،وتعليق صورهم في كل الإدارات والمؤسسات والحوانيت..وحتى الطبيعة المسكينة لم تسلم منهم ،فهناك بحيرة فلان،وهنا سد عُلان، ومكتبة فلان ،وكل ما أذكره أنه لم يسلم شيء لم يُلحق بهم ويُسمى بأسمائهم اللهم ماعدا حدائق الحيوان…والمرافق العامة وتوابعها!!
ولابد من إقامة الأعياد والإحتفالات للرئيس أو الملك العظيم،فهناك عيد الجلوس على العرش،واحتفالات عيد ميلاد الزعيم،وعيد زواج ابنته أو ابنه،ومن حالفه الحظ منهم أقيم له الاحتفال الفضي بتوليه الحكم ،أما الاحتفال الذهبي،فإذا لم تخني الذاكرة فإنه لم يفرح أحد منهم بإقامته بعد!!
ولابد للرئيس المُتعب والمُنهك أن يقوم بإجازته السنوية،والشتوية،والصيفية،والفصلية،والإسبوعية…فلابد من إقامة منتزه له هنا،ومنتجع هناك ،وقصر في سويسرا حيث ثلوج الشتاء،وفيللا في كاليفورنيا حيث الشمس والرمال والبحر والصفاء…ولابد أن تكون له بالطبع طائرته الخاصة يتوجه بها حيث شاء،ويرافقه طبعاً الصحفيون المُقرّبون،يلتقطون له بعض الصور،وهو في حمام السباحة بالمايوه الجميل،ولابأس من بعض الصور بالألوان مع زوجته وعائلته و”الكلاب المرافقة”وخاصة وهو في حالة تأمل وتفكير بمرافقة “الغليون” والكتب وبعض الصحف والمجلات!!
ولا بأس من التقاط بعض الصورالخاصة التي لايطلّع عليها إلا “الخاصة”و”المقربون”وهو يرقص مع نساء السلك الدبلوماسي،ويتبادل معهم الأقداح،فالرئيس المؤمن واعٍ لعصره وأبعاده ومتجدداته!!وتراه بين الفينة والأخرى ينظر نظرة حنان وافتخار وغبطة وسعادة لزوجته الحسناء وهي ترقص مع الرئيس أو الوزير أو السفير الأجنبي، وكيف لا،وقد رفع رأسه في حلبات الرقص بعد أن نكسته “حلبات الحرب”!!
وبعض حكام العرب والمسلمين يحلو له بين الفينة والأخرى أن يلبس”البدلة العسكرية” معلقاً عليها الأوسمة والنياشين التي ينوء بحملها بعير،ولكنه في هذه الحالة أقوى جَلَداً وأكثر تحملاً من البعير،وكيف لا،وهو “الكولونيل:الذي أعجز جنرالات الغرب بحنكته ودهائه،وهو”اليوزباشي”الذي دوّخ الإنكليز ببطولاته ،وتفوق على الأمريكيين بحنكته ودهائه!!
والمتعارف عليه في “العالم المتحضر” أن يعطى الجندي أو القائد وساماً إذا أظهر بطولة ما في إحدى الحروب،أو قام بعمل عظيم،أما في بلادنا،فيتم تقليد الأوسمة ومنح النياشين والترفيعات إذا خسر الزعيم حرباً أو أصاب بلاده “نكسة،والأدهى والأنكى من ذلك أن تخرج المظاهرات طالبة عودته للحكم بعد أن مرّغ جبين الشعب والأمة بالتراب!!
والبدلة العسكرية في بلادنا لها توابع،ومنها حمل العصا والصولجان،وتسمى عندهم “عصا الماريشالية”يحملها هذا الزعيم المحنك ويضعها تحت كتفه،ويستعرض بها ضباطه وجنده،وكيف لا، وهو فرعون العصر الحديث له القرار والرأي {ما أُريكُم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرَّشاد}[غافر 29]،وقد كان عمر الفاروق رضي الله عنه يحمل دُرَّته ولكن ليضرب بها رؤوس المُقصرين والظالمين،فماذا تراه يقول إذا رآها بيد الظالمين!!
ومن توابع البدلة العسكرية أيضاً ارتداء النظارات السوداء،والتي لم نكن نعهدها سابقاً إلا في رجال المخابرات وأذنابهم،فأصبح كثير من حكام العرب والمسلمين لايستغنون عنها ولو في الليالي المظلمة،والمرء يتسائل؟لماذا هذه النظارات؟هل لأن رمداً أصاب العيون فنعذرهم؟أم أنهم حنّوا إلى أصولهم …فليعذرونا؟!
وبعض حكام المسلمين هم أصحاب مزايا ومواهب متعددة،فهم رجال فكر وثقافة وأصحاب نظريات ومبادىء،فهذا الرئيس مفكر وهذا صاحب نظرية والثالث صاحب كتاب بل كتب وبمختلف الألوان وإن كان يغلب عليها اللون الأخضر،وهذا له كتب عن تجربته في الثورة والتي أصبحت قوانين تفرض ودستوراً يقدّس ،وآخر أصدر كتيبات عن نظريته الثالثة ورصد لها المال والدعاية وأقام الندوات لدراسة أفكاره النيّرة،التي لم يسبقه إليها أحد من قبل!!وهو أول من قال بأنه لا فرق بين الرجل والمرأة فكلاهما سواء،اللهم إلا فارق واحد بسيط!!وهو أن المرأة تحمل وتلد والرجل لا!!وذهب إلى “خيمته الصحراوية”يفكر ويدبر،ويقلب الأمور،فربما أسعفه التأمل وأسعفه التدبر،فاستطاع أن يكتشف دواءً أو يجد حلاً يُمكّن الرجال من أن تحمل وتلد،أو يمنع النساء من الحمل والولادة،وعندها تلتغي الفروق ويتساوى الجنسان!! فقتل كيف فكر وقتل كيف دبر!!.
وزعماء العالم يكتبون في العادة مذكراتهم بعد اعتزال السياسة والحكم،أما حكام المسلمين،فبما أنهم حكام حتى الخلع أو القتل،عفواً أقصد حتى الموت…فلابد من الإستعجال بكتابة المذكرات،فنجد أن أول مايفعلونه عند استلام الحكم هو كتابة مذكراتهم وفيها”البحث عن الذات” والكتابة عن”النضال والكفاح”و”فلسفة الثورة”….وإذا كانت لغة الحاكم لم تنضج بعد ـ وهذا حال معظمهم ـ فإنه يُوحي إلى أتباعه من الكتاب والصحفيين أن يكتبوا عن حياته ونضاله وتضحياته وماتعرض له من السجن والإضطهاد….بإسلوب مشوّق مثير،فنقرأ عنهم كيف أن هذا الزعيم والقائد والعسكري المناضل كافح وناضل ضد”الامبريالية”والاستعمار والصهيونية…وأنه قد رضع حب الوطن منذ نعومة أظفاره،وأنه تشرّب حب الجهاد منذ أوائل سنين دراسته…وبمجرد أن يسقط هذا الصنم ـ أعني الزعيم ـ نكتشف أن عدو الامبريالية اللدود هذا،لم يكن في الحقيقة إلا أحد أقزام المخابرات الأمريكية وأحد جنودها المخلصين!!
نعم بمجرد أن يسقط زعيم من هؤلاء ونادراً مايكون سقوطه حتف أنفه،بل القاعدة أنه استولى على الحكم بالقوة والعنف فتكون نهايته بالقوة والعنف،بعد انقلاب دموي وخاصة من أقرب المقربين إليه!! وبعد أن يسقط هذا “القائد” تسقط معه ألقابه دفعة واحدة كما تتساقط أوراق الشجر في الخريف بعد أول هبّة ريح،فإذا بحبيب الملايين وإذا بزعيم القومية ..هو خائن الأمة ،وإذا ببطل الحرب والسلام هو خائن العروبة والإسلام!!
ولابد للصحافة”الحرة”و”الأقلام النزيهة” أن تكتب عن عظمة هذا الرئيس،فهو الخطيب المفوّه،وهو خطيب الأمة الذي جاد به الزمان بعد سنوات من القحط والجدب ،وأنه في خطبه”الرنانة”أفصح من سحبان وائل،وإن كان في حقيقته أعيا من باقل!!لو كان سيبويه على قيد الحياة لشنق نفسه حزناً وأسىً على ضياعة اللغة لدى هؤلاء “الخطباء”وكيف لا وهو يسمع المضاف إليه منصوباً،والمجرور مرفوعاً،ولكن سيبويه نسي أنه من طبع”المجرورين”أن يرفعوا أنفسهم بعد سنوات من “الجرّ”وأن ينصبوا المضاف إليهم من الأتباع والزبانية في أعلى المناصب!!
ولم يكتف بعض حكام المسلمين بذلك،بل لابد من تغيير تسمية الدولة أو المملكة بما يتناسب مع مقام الرئيس أو الملك العظيم،فتراهم ينسبون دولة أو مملكة كاملة بكل مافيها من أشجارها وصحرائها وسكانها وعمرانها وفجها وفجاجها.. إلى الرئيس العظيم أو الملك المفدّى!!وزعيم آخر حزن جداً أن يسمع بوجود دولة مثل بريطانيا العظمى،وهو زعيم لدولة اسمها مؤلف فقط من كلمة واحدة،فأضاف إليه أسماء وصفات ،واختار لدولته تركيبة من الأسماء فهي الدولة العظمى الديمقراطية الشعبية الإشتراكية العظمى…وبحيث حارت الأمم المتحدة في كتابة اسم هذه الدولة وبماذا تبدأ وبماذا تنتهي!!وهذا لايهم هذا الزعيم الثوري المناضل بل يكفيه فخراً أنه أغاظ دولة الإنجليز الذين لسان حالهم في أمثال هؤلاء “الزعماء” قول المتنبي”يا أمة ضحكت من جهلها الأمم”.
نعم، هذه حال العرب والمسلمين مع حكامهم،تذكرني بقول المعري رحمه الله:
يسوسون الأمور بغير عقل فَينفذ أمرهم ويقال ساسة
فأُفٍ من الحياة وأُفٍ مني ومن زمنٍ رئاسته خساسة
(نشر جزء من هذا المقال بمجلة الرائد العدد 146 بتاريخ تشرين الأول عام 1992 تحت عنوان حكام المسلمين).