بسم الله الرحمن الرحيم
أعْلُ هُبَلْ
لقد عرفت الأرض جاهليات كبيرة وكثيرة،عرفتها في دورات تاريخية متكررة،وها نحن اليوم ـ ولسوء حظ العالم والبشرية ـ نعيش دورة جديدة من دورات التاريخ،تتحكّم في العالم قوّةٌ جاهلية عظمى،تسمى أمريكا!!!وها نحن اليوم،وفي كل أنحاء المعمورة،نسمع ونرى،نحسّ ونشعر،بما يرزح به العالم من أقصاه إلى أقصاه تحت نير الطاغوت الجديد وجبروته.
نعم،لقد أصبح للعالم اليوم قوّة واحدة منفردة،تتحكّم في مصائره ومستقبله،وتتحكّم في طاقاته ومقدراته،وتتحكّم في حكامه ومحكوميه،وتتحكّم حتى في لقمة الخبز وزجاجة الحليب…قوة طاغية تحمل من صنوف الشرّ…الكثير الكثير..وتحمل من معاني الخير…القليل القليل…قوّةٌ قامت منذ نشأتها على العنصرية والإستغلال،وعلى الإستكبار والإستذلال،استولت على الأرض باستئصال السكان الأصليين،واستولت على القيادة باستعباد الآخرين…ونشأ نظام جاهلي جديد،يعتمد القوة كأساس دون كل قوة أخرى من القوى الإنسانية،نظام يوجه مصائر العالم والشعوب،وهو في داخله وضمن كيانه مُنقسم أشدّ الانقسام،وكيف لا،وهو قائم على نظام جائر،ومجتمع منحرف مُكابر:
ـ فهو نظام قائم على القلة الحاكمة المُستغِلة،والكثرة المحكومة المُستغَلَة،وعلى مجتمع يخرج السيدُ العبدَ فيه من زمرة الآدميين،والعبد فيه يمقت السيد مقت الموت فيلحقه بالآبالسة والشياطين.
ـ وهو نظام قائم على الإفراط في الملذات حتى السآم من الحياة،والإفراط في الشقاء والجحيم حتى النقمة على الحياة،فرَّ فيه السادة إلى الترف والمتعة،وغرقوا في بحور الخمر والمخدرات والضلالات،وفرّ فيه العبيد إلى الشقاء والهوان،وعاشوا حياة دون حياة أدنى الحيوان،ففسدت حياة هؤلاء وهؤلاء.
ـ وهو نظام قائم على المظاهر والتفاخر،وعلى الزينة والأبهة،وعلى مناظر المشردين والمحرومين الذين يقفون في الطوابير الطويلة من أجل صحن حساء…فيلتحفون السماء أو صفائح القصدير في ليالي الصيف والشتاء.
ـ وهو نظام قائم على أُناسٍ خربوا باطنهم وزيّنوا ظاهرهم،ولهثوا وراء القشور وزخارف الحياة،وانغمسوا في الملذات وفي الحطام وادّعوا أنهم سادة البشر،وهناك من جانب آخر ناس آخرون لهثوا وراء لقيمات الخبز،وانغمسوا في ذلّ الحياة والإستعباد ونسوا أنهم من جنس البشر،فسادت بينهم الشحناء والبغضاء.
والعدل عندهم تمثال مقدس!ولكن قد كُمّم فوه،وعُصبت عيناه،وغُلّت يداه،وسلسلت قدماه!!!
والمساواة عندهم رمز مقدس!وفي الكليات والمدارس تُدرس!ولكن لاتجد في عالم الواقع تطبيقاً أو تنفيذاً،ولا تجد في عالم الضمائر قبولاُ أو تأييداً،ولاتجد في عالم القضاء إلا تفرقةً وتمييزاً!!
والأمن عندهم أمنان،وله صورتان ،فأما أمن الكبار فقد تعهده ورعاه مجموعة من أجهزة المخابرات “العريقة”والحرس الخاص المدربين،وأما أمن الصغار فهو مضمون ومكفول،ولكن بشرط حمل السلاح،وإطلاق الرصاص عند أدنى الشبهات وأضعف الظنون،ويستحسن بل يُحذر من مغادرة المنزل عند حلول المساء،فالقوم قد قسموا أيامهم بينهم قسمة ضيزى،فالنهار قد تعهد به رجال الأمن والشرطة،والليل قد تعهد به رجال العصابات ومثيرو الفوضى!!
هذه القوة الكبرى بما تحمله من سلبيات تتحكّم في مصائر العالم في هذه السنوات الحالكات،ويا بؤس هذا العالم!!
يقول الأستاذ الحبيب عصام العطار:”ما أتعس البشرية إذا كانت أمرها ومصائرها بأيدي أفرادٍ أو دول يملكون القوة ولا يملكون الوعي أو لا يملكون الضمير”.
ويا بؤس العالم الذي يستمد أخلاقياته ومبادئه ومُثُله من خلال”رامبو”و”دالاس”و”رعاة البقر”.
يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله:
“أمريكا تصلح أن تكون”ورشة العالم” فتؤدي وظيفتها على خير مايكون،أما أن يكون العالم كله أمريكا،فتلك هي كارثة الإنسانية بكل تأكيد”. ويتابع رحمه الله:”وأنا شديد الإشفاق على الإنسانية أن تؤول قيادتها إلى هذا الشعب،وهو فقير من تلك القيم الإنسانية جميعاً”.
إن هذه القوة،تستطيع أن توجه ضرباتها متى،وأنّى،وأين شاءت،ويتم ذلك تحت ستار من “الشرعية الدستورية الدولية وموافقة الأمم المتحدة”!!!ولا يملك الجميع شرقاً أو غربًا،بيضاً أو صفراً،حُمراً أو سوداً،إلا الإمتثال والإنصياع،بل الأنكى من ذلك لابدّ أن يباركوا أعمال الشرّ هذه،ويغلفونها بغلاف الخير والعدل،ولابدّ للجميع أن يطوفوا حول”البنتاغون”يتبركون ويتوسلون بأبطال حرب كوريا وفيتنام،وأبطال العراق والصومال،هاتفين،مرددين ومنادين:أُعلُ هُبَلْ…أُعلي أمريكا!!!
والعالم كله يدور حول محورها،وخبراته وثرواته تصب في خزائنها،والويل الويل لمن يعارض هذه القيادة الحكيمة!والثبور الثبور لمن يُندّد بهذه السياسة الرشيدة!فليس أمام العبيد حكاماً كانوا أو محكومين،مهما توزعت بلادهم،ومهما اختلفت مشاربهم ومآكلهم،ومهما تعددت دياناتهم ومعتقداتهم،ليس لهم إلا الخضوع والركوع،والطواف حول البيت الأبيض،والتوجه للزعيم الكبير في “الغرفة البيضاوية”مُحيين ومرددين:أُعلُ هبل…أُعلي أمريكا!!!
إننا نخاطب المخدوعين بهذه الحضارة الوهمية،ونخاطب عُبّاد الآلهة المزيفة والقيم الفانية،ونقول لهم:لا تنخدعوا وأفيقوا من سباتكم،وعودوا إلى رشدكم،فحضارة القوّة والبغي لم يتجاوز عمرها عشرات السنين،وثقوا تماماً أن من علا على أعناق الشعوب،وارتاد سُلم المجد فوق عشرات الآلاف من الجثث والضحايا فأحرى به أن يسقط مهما استمر علوه وطال بقاؤه.
ونقول لهم:لقد ظلت راية الإسلام مرفوعة مئات السنين،لأن حضارة الإسلام قامت على المنهج الرباني،وأعمدته العدل والمساواة والخير لكل البشر،ولم تقم على الشر والعدوان والعنصرية والعصبية واستغلال الآخرين واستعبادهم.
ونقول لهم:يا من تبتغون العزّة والسؤدد والمجد،عند من لايملك أن يدفع عن نفسه إعصاراً أو زلزالاً أو طوفاناً أو فيضاناً أو عاصفةً أو حريقاً،عودوا إلى كتاب الله واقرؤوا قوله تعالى:{فَكُلاً أخذنا بِذنبهِ فَمنهم مَّنْ أرسلنا عليهِ حَاصباً ومِنهُم من أخذتهُ الصَّيحةُ ومِنهُم من خَسفنَا بهِ الأرضَ ومِنهُم من أغرقنا وما كانَ اللهُ لِيظلِمَهُم ولكنْ كانوا أنفُسَهُم يظلمون}[العنكبوت 40].
ونقول لهم اقرؤوا قوله تعالى:{قُلِ الَّلهُمَّ مَالِكَ المُلك تُؤتي المُلكَ مَنْ تَشاءُ وتَنزِعُ المُلكَ ممَّنْ تَشاءُ وتُعِزُّ من تَشاءُ وتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيدِكَ الخيرُ إنَّكَ على كلِّ شيءٍ قدير}[آل عمران 26]
ونقول لهم:ثقوا تماماً بأن الإسلام هو الوحيد القادر على أن يخرج البشرية إلى برِّ الأمل والنجاة،وهو الذي يستطيع أن يمسح القنوط من قرارة الوجدان،ويُشيع الحبور في كل مكان وزمان،ويحكم العالم بأعدل القوانين وبأفضل القيم والمثل،ولن يحكم العالم بصلصلة القيود،ووسوسة الأغلال،وسوط الإستكبار.
ونقول لهم:إن الحضارة التي قامت على القوة والسطوة،سوف تنتهي بها هذه القوة إلى حيث انتهت إليه قوى الشر الأخرى،وليست روما وأثينا عن أمريكا ببعيد!!
نعم،إن القوّة قد تغلب الحقّ أحياناً،ولكن الحق يصنع القوة التي يغلب بها الباطل ويكفه عن عدوانه.
(نشرت هذه المقالة في مجلة الرائد العدد160 بتاريخ نيسان عام 1994).
ملاحظة:الإسلام الذي ندعو له هو الإسلام القائم على الحب والعدل والرحمة والمساواة،هو الإسلام الذي تمثل في سيد البشرية محمد صلى الله عليه وسلم عندما دخل مكة فاتحاً وقال لأهلها الذين ناصبوه العداء عشرات السنين ولقي منهم كل أشكال الأذى ومع ذلك قال لهم”اذهبوا فأنتم الطلقاء”،وهو إسلام عمر الفاروق القائم على العدل والمساواة والذي قال لأمير مصر عمرو بن العاص بعد أن اعتدى ابنه على أحد الأقباط فاقتص عمر الفاروق للقبطي من “ابن الأكرمين” وقال له قولته الخالدة المأثورة”متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً”،وهو إسلام الفاتح صلاح الدين الأيوبي والذي أبدى كل التسامح مع نصارى أوروبا بعد فتح القدس وذلك بشهادة الأوروبيين قبل شهادة المسلمين،وهو إسلام التسامح الخالي من العصبية والتفرقة والذي ساد في اسبانيا لثمانية قرون وبنى حضارة رائعة جميلة وعاش فيها أصحاب الديانات السماوية الثلاثة وبدون عداء أو خصومة أو عصبية…
وأما ما نشاهده اليوم من وجود بعض الحركات والتي تسمي حالها “إسلامية” وهي بعيدة كل البعد عن الإسلام وروح الإسلام وتعاليم الإسلام والتي تقوم على العنف والإرهاب والعصبية القذرة والتفرقة…فإنها لاتمثل الإسلام والإسلام منها براء وهي إلى زوال لأنها باطل،والباطل غثاء،ولابد أن تجرفه السيول وتمحقه الأيام”.