بسم الله الرحمن الرحيم
معذرة اليراع أيها الشيخ الحكيم
الأستاذ عصام العطار قامةٌ من قامات العمل الإسلامي في السنوات السبعين الأخيرة،إنسان تتفقُ معه كثيراً،وتختلف معه قليلاً،ولكنك لا تَملِكُ مع هذا إلا أن تُحبّه وتحترمه وتُقدّره،عرفته معرفة العيان والعشرة والصحبة الجميلة لأكثر من أربعين عاماً،وأخذت منه الكثير،وتأثرت به غير قليل،وأردت من خلال هذا المقال أن أبعث عدة رسائل لهذا الإنسان الوفي العظيم:
ـ تحيةً:من القلب لمن خدم الإسلام والمسلمين والإنسانية جمعاء،من خلال فكر نيرٍ،وصفاء ذهني رائعٍ،وعقيدة إسلامية صافية رائقة مباركة كمطر السماء الذي أحيا الأرض بعد الموات.
إن فيه من شموخ قاسيون،وسلاسة ووداعة بردى،وكرم الغوطة،وقدسية مسجد بني أميّة.
ـ ورداً:على من تعرضوا ويتعرضون له خلال سنوات عمره المليئة بالتضحية والجهاد من أجل خدمة البشرية كُلِّ البشرية وبني الإنسان.
نعم، قد تُخالفه في بعضٍ من أرائه واجتهاداته ـ وهو مجتهد ـ ولكن لا يعني الخلاف معه أن يصل إلى الاختلاف واستعمال الألفاظ البذيئة والنابية،والتشهير بهذه القامة الشامخة السامقة،شاء من شاء وأبى من أبى.فكل من تعرّض له بالشتيمة الرخيصة والكلمة النابية قد طاش سهمه وخاب سعيه.
ـ ومعذرة إلى الله:فإننا وللأسف لانعطي علمائنا وشيوخنا ما يستحقون من التكريم والتعظيم في حياتهم،وقد نتذكرهم أحياناً بعد مماتهم!
أكتب هذا المقال بمداد من الصفاء والمحبة،بعيداً عن المحاباة والمداجاة،والكل يعرفني ويعرف أن مافي ثنايا قلبي يظهر مباشرة في تعابير وجهي ،وفي نظرات عيناي،ومهما قدّمت بحقِّ هذا الإنسان الكريم العظيم فإنه لايعدل شيئاً بالمقارنة ماقدّمه من صحته وعافيته ووقته ،وما لاقاه في نفسه وأهله من ظلم القريب قبل البعيد.ولكنه جُهد المُقلّ،ومحبة المُريد.
وغايتي التي أحرص عليها هي جلاء سيرة هذا الإنسان كما أجد صورته في نفسي،وأثره في وجداني ،متجرداً ما استطعت من غلبة الهوى،وسلطان العاطفة.
أسأل الله أن يعينه وينصره ويؤيده،وأن يجمعنا على محبته ومحبة رسوله،في الدنيا والآخرة.
وإلى المقال :
معذرة اليراع ….أيها الشيخُ الحكيم
منذ سنوات،وأنا مُترددٌ في كتابة هذه الكلمات،فأنا أعرف أنكَ لا تقبل المديح لذاتك…مع أنّهُ حقٌّ لك…وأنكَ لا تقبل الثناء لشخصك مع أنّهُ يحقُّ لك…وتركتُ التردد بعد كلِّ هذه السنوات،لأنني وجدت نفسي أعيشُ في زمنٍ قاسٍ،ومجتمعٍ ناسٍ،ينسى الحسنات،ويتتّبع العثرات،ويُضخّمُ الهفوات،لامحاسن عنده إلا لمن هم في عالم الأموات،وكل المساوىء والقبائح والنقائص لمن هم مازالوا على قيد الحياة،فأردتُ الخروج من هذه العادة الذميمة القبيحة،واستَننتُ لنفسي سُنّةٌ أخرى،وأمسكت بالقلم،وتركته يكتب مما يدور في الضمير،وما يختلج في الفؤاد،من أحاسيس ومشاعر وأفكار ممزوجة بعواطف الودّ والمحبة والإخاء،بعيدةً كل البعد عن الزيف والتملقِّ والرياء،طالباً رضى الله ثم راحة الضمير وحقّ الأخوّة والوفاء.
أنت لاتكاد تعرض لخصاله حتى تعجبك كلها،وحتى تدعوك كلها إلى أن تحمده وتثني عليه،وإذا أنت حائر لاتدري ماذا تأخذ منها وماذا تدع.
أعرفك يا أستاذي منذ زمن بعيد…ومُذ عرفتك،عرفت فيك دماثة الرجل الذي حسنت أخلاقه،ورّقت شمائله،إنسانٌ جَمُّ الأدب،موفور التواضع،سمح الطبع كأسمح ماتكون الطباع،رقيق الشعور،مُرهف الحسّ،حلوّ الروح عذب النفس،ولم أره قد خرج عن هذه الصفات مذ عرفته.
وأخلاقُ إحسانٍ وعفوٍّ ورقّةٍ روائعُ يُخفيها اتضاع وتَظهرُ
متواضع شديد التواضع لا يضيف فضلاً لنفسه،ولا يَدُلُ على أثر لفضل،بل إنه لشديد الاجتهاد في أن يُمثل لك في صورة آحاد الناس،ولقد يجيد سَبك هذا حتى يجوز أمره عليك،فتحسب حقاً أنه مثل سائر الناس،فإذا كان الحديث في علم أو في أدب،أو في فقه أو علم من علوم الدين…فهنا لا يستطيع أن يكتمك نفسه،وإذا بعبقريته تفضحه برغمه،وكشفت حقائق شأنه،وهو يحاول أن يواريها بشدة التواضع ،وجمّ الادب.
قد بلغ به التواضع أبعد مبلغ،فأُتهم بالضعف ظلماً وعدواناً،فقد كان لايحب الخصام ولا الجدال ولا القتال وإنما كانت فطرته تهديه دائماً إلى ايثار الرفق والمسالمة مع جميع الناس.
إنسانٌ مُحًبّبٌ إلى النفوس جميعاً،مُقَرّبٌ إلى الناس جميعاً،يتحرَّقُ الجميعُ إلى لقائه،ويحزنون على فراقه،وبُعد العهد به،يُمَنُّونَ النفس بِحُسن استقباله،ويُسعدون العين بطلاقة محياه،وكرم مسعاه،أثيراً في القلوب، عزيزاً على الأهل والأصدقاء معاً.
ولِكُلِّ عينٍ قُرّةٌ في قُربهِ حتّى كأنَّ مَغيَبُهُ الأقذاء
تحنُّ إليه أفئدةُ البرايا وتهواهُ الخلائق للسَّماعِ
نبت الأستاذ في أكرم منبت وأزكى مغرس،فبيته مشهور في دمشق الشام بأنه بيت علم وأدب وتقوى،وكان ذا مواهب فطرية ووراثية عظيمة.
أبوه الشيخ رضا العطار عميد الأسرة،ربّاه على التقوى والكرم والأدب،فشبّ ذكي الفؤاد إلى درجة الحكمة،مَشبوب العزم،ينظر إلى الحياة نظر الكيّس اللبيب المجرب.وكنت تراه مع أمه رحمها الله وقد شاهدتها وقد تجاوزت التسعين من العمر وكانت ذات ذاكرة قوية وأورثت ابنها حب الأدب والأشعار.وقد ذكرها في أشعاره وقصائده بأجمل وأعذب الأبيات رحمها الله.
ومع ذلك لم يفخر بحياته ونسبه على أنه كان جديراً أن يفخر به لو وجد الفخار من خلا إلى نفسه.
إنسانٌ حَسنُ السيرة والسريرة،يحمل في جنبيه قلب شاب ويحمل في رأسه عقل حكيم،وشباب القلب وحبّ الحكمة نعمتان جزيلتان تجعلان صاحبهما مُتفتح الفكر مُتجدّد العزم مُتلّفت الذهن نحو ما تلده الليالي من أعاجيب الحياة.
ماذا تقولينَ في شيخٍ فتىً أبداً وقد يكونُ شبابٌ غير فِتيان
أعطاه الله نعمة العقل والبصيرة،وادع النفس ينظر إلى الأشياء من وجهها الحسن، ولا يفتأ يُجمِّلها بحسن ظنه،يجد في نفع الناس لذّةً وحبوراً،وبهجةً وسروراً،لايحفل بما جنى عليه بعضهم ولا بما جرّعوه من فنون الأذى وضروب البلاء،بل يندفع إلى الجميع مُسلّماً عليهم ،سائلاً كُلاً منهم عن حالته وصحته وعائلته،حتى الأطفال الصغار يُسلّم عليهم ويداعبهم ويرسم لهم على الأوراق ويحمل إليهم الهدايا.
رقيق القلب،عفّ الضمير،سليم الصدر،صحيح العقيدة،موّزع العقل والفضل والهوى بين أسرته ووطنه ودينه وإنسانيته.
حساسٌ إلى درجة لا تتصور،تجرحه الكلمة الخفيفة لايشعر بها أحد،والإشارة القليلة والإيماءة المعتادة قد تحزُّ في نفسه وتصل إلى أعماق قلبه.
ومن أظهر صفاته أنه وصولٌ لرحمه،دائب جاهد في غير ملل ولا سأم على كل مايعود بالخير على ولده وأحفاده وسائر عائلته.ولقد رثى زوجته وحفيدته “هدى” رحمهما الله بأجمل وأصدق الرثاء.
وهو خفيف الروح،نبيل الخلق واللسان،ترى فيه غبطة العصفور،وترى فيه وداعة الحمام،وهو قطعة من الحب والرحمة،وإذا كان الحب ضعفاً،وإذا كانت الرحمة ضعفاً،فلاشك في أنه أضعف الخلق أجمعين.
وهو شديد الرقة للناس جميعاً،أضعفه الحب وفلّ من عزمه،فلا يستطيع أن يشهد مشهداً مؤلماً،ولا يستطيع أن يسمع قصة حزينة.
عرفتُ فيه الوفاء،لكُلِّ من أحسن إليه من الناس،لا يُفرِّق بينهم،مهما تكن الظروف،ومهما بَعُدَ بهم الزمان أو ناءت المسافات،ومهما ألّمت الأحداث وادلهمت الخطوب..نعم،أمّا وفاؤه لودِّ الصديق واحتماله لاعباء الأخوّة، فقل فيه ماشئت وأنت وائق أنك لن تبلغ من ذلك ماتريد.
وجَرَّبنا وجَرَّبَ أوّلونا فلا شيء أعزّ من الوفاء
فيا سائلي أينَ المروءة والوفا وأينَ الحِجا والرأي ،ويحيكَ ها هيا
وكان من وفائه لأصحابه وإخوانه أنه كان يهتم بشؤونهم في السر والجهر،والبعد والقرب،والغيب والشهادة،وقد كان وفائه هذا خير قدوة لمعاشريه والمتصلين به.
وعرفت فيه الكرم والسخاء،فهو نعم الرافد إذا حلَّ به الوافد،ولم أعرف قطُّ قلباً براً بفقير،ولا نفساً أرقّ لذي حاجة ولا يداً أسرعُ إلى العطاء منه،يُسارعُ إلى الخيرات قبل أن يَحُضَّ عليها كأكرم ماتكون النفوس،وكان يكتم الصدقة ويخفي البذل،وكان يصرف على كثير من البائسين والمحتاجين يعولهم ويوصيهم بالكتمان،وكان هذا حاله في السراء والضراء،ويسبق كرمه ابتسامته الحلوة الهادئة الوادعة التي هي أدلُّ شيء عليه.
تراهُ إذا ماجئتهُ متهلّلاً كأنَّكَ تُعطيه الذي أنتَ سائله
ولو لم يكُنْ في كفّهِ غير نفسهِ لجادَ بها،فليتقِّ الله سائله
وعرفتُ فيه عِفّةَ اللسان،فلم يُعرفْ عنه قطُّ كلمةٌ مؤذيةٌ،أو قولٌ جارحٌ،أو عملٌ مسيءٌ،رغم مالاقاه من التجريح والتشهير والأذى من القريب والبعيد على حدٍّ سواء
لمّا تلاحى الناسُ لم تنزل إلى المرعى الوخيم
كم شاتمٍ قابلتهُ بِترفعِ الأسدِ الشكيمِ
وشغلتَ نفسكَ بالخصيبِ من الجهودِ عن العقيمِ
أستاذي الحبيب…علّمتنا وتعلّمنا منك الحبّ والوفاء…في زمن البغضاء والغدر والكراهيات.
علّمتنا وتَعلّمن منك الإلفة والإخاء…في زمن الشحناء والتنافر والعداوات
علّمتنا وتَعلّمنا منك الجود والعطاء…في زمن الشحِّ والبخل والأثرات.
عَلّمتنا وتَعلّمنا منك الإسلام كما أنزله الله…في زمن الرموز والاستغلال وزيف الشعارات.
وهو إنسانٌ لايعرف الحقد أو الضغن أو البغضاء،ولا تطمئن نفسه إلى ذلك،لأنّ نفسه خُلقت من نور الإيمان،ومن معدن الحبِّ،وجوهر الصفاء،وفُطرت على سجيّة الإخاء والوفاء،فارتفعَ في عيون المُحبين والأصدقاء واحترمه المُخالفين والأعداء.
لا يحملُ الحقدَ من تعلو بهِ الرُّتبُ ولا ينالُ العُلا من طبعهُ الغضبُ
وكم رأيتُ وسمعت أُناساً نالوا منه في السرِّ والعلن،وطعنوه في الظهر والصدر،ومع ذلك لم يُبادلهم حقداً بحقد،ولا غضباً بغضب،بل كان يعفو عنهم،ويدعو لهم،ويسعى إلى مساعدتهم وعونهم.
لقد عرف بسلامة الصدر،وصفاء القلب والحلم والصفح،فما انتقم من مسيء ولا سعى في ضرر أحد قطّ،بل كان يُحسن إلى من أساء إليه،إذا استنجده نجد،وإذا استرفده رفد.وكان بعض أهل المكر والخبث يظنون أنهم يخدعونه بدهائهم ومكرهم،ولكن فراسته كانت تخترق صدورهم وتنفذ إلى سواد قلوبهم،ويقرأ في صحائف وجوههم ،ما ارتسم في صحائف قلوبهم،وإنما يقبل منهم ما أظهروا،ويتغابى عما أضمروا.
لم أره يوماً قبض يده عن معروف،ولابسط لسانه بأذى،ولاطوى صدره على ضغينة.
نعم، يُظهرون الجَفا وتُبدي الرضا…يطعنونكَ في الظهر والصدر،وتمدُّ لهم يدا…يُسرونَ لمعاناتك،وتشقى لما يلحق بهم من الأذى….فلله دَرُّكَ هل خُلقتَ من معدنِ الحبِّ أو سُقيتَ بماء الصفا؟!
كان الأستاذ نوراً وسلاماً،ومحبّةً ووئاماً،فإذا سيمَ الدنيّة في دينه أو أمته،وإذا تجهم الباطل لحقّه، وأما إذا أُنتهكت الأعراض،وأُبيحت الحرمات،وثار الباطل وفار،فإنّهُ يغضب لله غضبة تشعرها في كلِّ أنحاء جسمه،فإذا بهِ بركانٌ يثور،وزلزالٌ يُحطّمُ صروحَ الباطل وأركان الظلام.
وألفيت النور ناراً تلظى،والسلم حرباً تبدّى.
وإذا غضبتَ فإنّما هي غضبةٌ في الحقِّ لا ضِغنٌ ولا بغضاء
هو حرٌّ كريم لاتستعبده الأهواء ولا تذلّه المطامع.إذا ساق الناس التقليد أو قادهم،وإذا خيل إليهم الباطل حقاً والحق باطلاً،وقف دون ذلك يستوحي ربّه،ويستفتي قلبه،وثبت كالطود الأشمّ في البحر الخضم،وأوتي من عزّة الإسلام ماتخرُّ له الجبال،ومن أخلاق القرآن ما تنشقّ له الأهوال.
عاش يخدم هذه الأمة العربية المسلمة يُنبهها إلى حقائق وجودها ومقومات وحدتها،على حين كانت تعيش هي في ضلالات التقليد وأوهام التجديد،وهو ماض على سنته،سائر على نهجه،لا يُبالي أن يكون منزله بين الناس في موضع الرضا أو موضع السخط والغضب،ولا ينظر لغير الهدف الذي جعله لنفسه منذ أن نذر نفسه لخدمة أمته ودينه وعالمه،وكان ومازال حارساً وحامياً لهذا الدين،ويدفع عنه الزيغ والفتن والضلال.
وعرفت فيه الصبر والتحمل رغم جراحات لا تنتهي،وابتلاءات لا تنقضي،حياته سلسلة متصلّة الحلقات بشتّى أنواع الابتلاءات،وكان يُواجهها بسلسلة أشدّ إحكاماً،وعزيمةٍ أشدّ مضاءً من الصبر والاحتساب
لاتراه يتبرم أو يتسخط لشيء يناله،فهو يحاول أن يجعل من كل ألم يناله لذّة يشعر بها في نفسه،ومن كل فادحة تنزل به خيراً يترقبه ويتهيء له.
صبرٌ على الغربة والبعد عن الوطن والأمّ والأهلِ والأحباب
صبرٌ على مختلف صروف المنايا وضروب البلايا وأشكال الرزايا
صبرٌ على المرض والوهن والمعاناة السنين الطوال
صبرٌ على مُعاناة وآلام الأهل والأقارب والأحباب
صبرٌ على تَنكّرِ العارفين ،وتَنكّب رفاق الطريق
صبرٌ على فقد رفيقة العمر والكفاح،شريكة الحياة أم أيمن رحمها الله،الذي احتسب شهادتها عند الله تعالى وصبر لفراقها أعظم الصبر ولم يقل كما قال غيره:
يا دهرُ فيمَ فجعتني بحليلةٍ كانت خُلاصة عُدّتي وعَتادي
نعم، كانت الشهيدة أم أيمن رحمها الله وأسكنها فسيح جنانه وتَغمدّها برحمته،كانت عُدّته وعَتاده،كانت نبع حنان،وفيض عطاء وأمان،كانت زوجة ولا كالزوجات،وأماً ولا كالأمهات،مجاهدة في سبيل الله حقّ جهاده كأعظم المجاهدات،وعندما استشهدت بيد الغدر رحمها الله ،صبرَ واحتسب كأعظم مايكون الصبر والاحتساب.
كنت أرى الحزن في عينيك تنزحه آلام قلبك،ولكنّكَ كنت كأقوى الرجال تحبس الدمعة لتحتسبها عند ربِّ العالمين،وكنت أرى طيف الحزن من خلف هدوئك المعهود،ولكنّك كنت تحبس آلامك خلف ضلوعك حتى لايراها المُحبّون ويحزنون.
وقد يصبر الحرُّ الكريمُ على الأذى ولا يُظهرُ الشكوى وإن كان مُوجعا
عزيزٌ عليَّ أن تُرى بي كآبةٌ فيفرحَ واشٍ أو يُساءَ حبيبُ
ورغم الجراحات والمعاناة لم تكن تفتر لحظةً عن العطاء وإفناء الذات من أجل خدمة الإسلام والمسلمين،وخدمة الإنسان والإنسانية.
وفي الجسم نفسٌ تشيبُ بشيبهِ ولو أنّ ما في الوجه منه حرابُ
وكانت شكواك لله وحده،لأن الشكوى لغير الله أحياناً مذلة وانحناء،وأنتَ نبض الكبرياء،وكم سمعتك مراراً تشدو هذه الأبيات لأبي فراس الحمداني مناجياً ومخاطباً الله عز وجل:
فليتكَ تحلو والحياةُ مريرةٌ وليتكَ ترضى والأنامُ غِضابُ
وليتَ الذي بيني وبينكَ عامرٌ وبيني وبينَ العالمين خرابُ
إذا صحَّ منك الودُّ فالكلُّ هينٌ وكل الذي فوق التراب ترابُ
وكم رأيته يسعى إلى إخوانه يُشاركهم أفراحهم،ويُشاطرهم أتراحهم،يهدي البسمة والضحكة في أفراحهم،يُحييها معهم،وينشد وإياهم،ويضع بلسمه الشافي وترياقه المُعافي للجروح العميقة،والقلوب المريضة،والنفوس الكئيبة،يُعزّي مُصابهم في مصائبهم رغم جراحات قلبه الدامية المستمرة ورغم معاناته المتصلة القائمة.
أدعو إلى الدار بالسُّقيا وبي ظمأ أحقُّ بالريِّ لكنّي أخو كرمِ
وقلبه كما وصفه الشاعر:
ترعى الهمومُ بهِ حتى إذا عَرَضتْ لكَ الوجوهُ عرضتَ الوجه مُبتسماً
نعم، تُكفكف الدموعَ وغيرك يرقا
تُداوي الجروح وغيرك ينكأ
تَصِل الودَّ وغيرك يصرم
وتحفظُ العهدَ وغيرك يظلم
فأنتَ الضياء الذي يُرسل شعاعه الحاني ليبعث النور في دياجير هذا الظلام الدامس.
وأنت الأمل الذي يبعث الرجاء والأمن في غياهب ومتاهات هذا اليأس العابس
وأنت الواحة الخضراء التي تنشر الظلَّ والأفياء في صحراء العمر ليجد بها راحة وهناء كلّ مجاهد وفارس.
وعرفته عالماً عاملاً مُحباً للعلم وأهله،سعى إليه الناس وفتح لهم قلبه وداره،وأعطاهم من مَعينِ علمه،ونبع معرفته،وشجعّهم على تنمية مواهبهم ولم يبخل عليهم بنصحه وإرشاداته،ولم أعرف في حياتي أبداً إنساناً وافق علمه عمله،ولم أعرف في حياتي أبداً إنساناً انتفع بعلمه مثله وكم كنت أسمعه يردّد قول الشاعر أبي تمام:
ولم يحمدوا من عالمٍ غير عاملٍ ولم يحمدوا من عاملٍ غير عالمِ
ومع سَعة العلم أعطاه الله رجاحة في العقل،وصفاءً في الذهن،وأفاده علمه والتزامه بدينه صفاءً في قلبه ونوراً في وجهه،وقناعةً وطمأنينةً في نفسه،هَمّهُ الوحيد إسعاد البشر ومرضاة الله عز وجل.
يغسل الأنفس الجريحة بالدمع فيكسو تلك الجراح افترارا
يسكبُ النفس والبيان على الطرس فيطوي على الظلام النهارا
يرسل الفكرة النقيّة عذراء ويرخي الضحى عليها إزارا
ذلك الجدول الذي يملأ الوادي اخضراراً والضفتينِ أزهارا
تستحم النفوس فيه ولاتبرح إلا جوانحاً أطهارا
وعرفته حافظاً لكثير من جيد الشعر ورائق النثر قديمه وحديثه،باللغة العربية وباللغات الأخرى كالفرنسية والألمانية،وهو موسوعة معارف في مختلف الآداب والفنون والسياسة والاقتصاد والعلوم الإنسانية وخاصة علمي النفس والاجتماع..ولا ينقل الحديث إلا بتوثيق سند وتصحيح متن.وهو وإن كان لا يُقرّ بذلك واحدٌ من أبرز علماء العصر في علوم النحو واللغة والحديث،وعلوم الدين المختلفة والتفسير والفقه والحركة والدعوة…
وعرفته كاتباً،رائع البيان قويّ العبارات،صادق التعبير،حُجّةً في علوم اللسان،عليماً بأسرار اللغة،بصيراً بمواقع اللفظ،ويكتب في مواضيع مختلفة من السياسة والأدب والدعوة والحركة وعلوم الدين…وهو في الكتابة والخطابة طريقة وحده.أسلوبه يمتاز بالسلاسة والإيجاز والعمق،وكل ذلك باسلوب رصين مكين،وعبارة مشرقة مونقة،ولا تجد في كتابته معنىً نافراً أو فجّاً لم يتم نضجه،ولا تجد لفظاً نابياً عن موضعه،أو كلمة قلقة في مكانها،وإنما كلامه يجري هادئاً متسلسلاً مطمئناً كماء الجدول،ليس فيه الإيجاز المعيب،أو الإطالة المملة،
فأنت في كتاباته أمام بحر عجيب لجب،واسع عميق،يحوي كل نفيس من غالي الدرر واللألىء،أضف إلى ذلك أن الله حباه بالإضافة إلى جمال الكتابة جمال الخطِّ وحُسنه!!
وهو رغمَ المثبطات والإحباطات والمعيقات في الجو المحيط دائم النصح والترديد في أحاديثه وخطبه وكتاباته،بدون كلل ولا مَلل ويُشهد الله على ذلك،اللهم فاشهد.
وقد بذلتُ لكم نُصحي بلا دَخَلٍ فاستيقظوا إنّ خيرَ العلم ما نفعا
وعرفتهُ خطيباً فصيحاً لا يتلجلج،ولا يتفاصح،ولا يتفيقه،ولايتلكأ،ولايتكثر باللغو،ولايستعين بالتكرار.
كلماته دررٌوحكم،تؤثر في القلب والعقل والفهم،يتفاعل معها فيتفاعل لتفاعله السامعون،ويتأثر لتأثره المنصتون،وكأنما كانت الخطابة لطول ما زاولها تصدر عنه كما يصدر الفعل عن الطبع الملازم والعادة المستحكمة.وقد عدّه البعض ـ والحقُّ يقال ـ واحداً من أفضل خطباء الشرق في النصف الثاني من القرن العشرين،ولا أبالغ إذا قلت إن البحتري لو عاش في هذا الزمان لأهداه بيته:
فلو أنَّ مشتاقاً تكلّف فوق ما في وسعه لسعى إليكَ المنبرُ
ولو كان شوقي بيننا لَعَناهُ بقوله:
وإذا خطبتَ فللمنابر هِزّةٌ تعروا النّديَّ وللقلوبِ بكاء
وعرفته شاعراً،ذواقّةً للشعر،يُجيد الشعر قرضاً وإنشاداً،ويجيده روايةً وإسناداً،ويجيده معنىً ولفظاً،فهماً وحفظاً،موسوعي الثقافة الشعرية،أحسن الناس إلماماً بالشعر قديمه وحديثه،حافظاً مئات القصائد الشعرية لمختلف الشعراء في جميع العصور،يقولها بإنشادٍ رائع ولغة جميلة.
كما أنّه هو بحدِّ ذاته من أفضل شعراء هذا العصر ـ وإن كان تواضعه لا يُقرّ بذلك ـ وماذا أقول عن جميل الشعر الذي قاله وأنشده وكتبه،فوالله إني لأحتاج إلى كتاب كبير في التفصيل ولا أعطيه حقّه،ولكن اسمعه معي يقول هذه الأبيات في مختلف المناسبات التالية :
ـ يتحدث عن قلبه المعطاء الكبير الذي لا يعرف الحقد فيقول:
قلبي هوَ الحبُّ أزكاهُ وأطيبهُ كأنّهُ من أريجِ الحُبِّ نيسانُ
قلبي التسامحُ لا غِلٌّ يُكدره وإنّما هو غفرانٌ وإحسانُ
بالله عزَّ فكان العفو شيمتهُ لا يعرفُ العفو قومٌ إن هُمُ هانوا
ـ ويتكلم عن غربته ومعاناته وعزمه رغم مرضه في متابعة الطريق:
يا مُدنفاً في ديارِ الغربِ شرّدهُ عن أيكهِ في ديارِ الشرقِ أشرارُ
إن كان جسمُكَ قد هدّتهُ علتهُ فالعزمُ رغمَ صروفِ الدّهرِ بتارُ
أو سامكَ الجورُ خسفاً في جهالتهِ أجبتهُ شامخاً:الموتُ لا العارُ
تفنى الحياةُ ويبقى من كرامتنا ماليسَ يفنيه أسقامٌ وأعمارُ
ـ ويناجي ربّهُ أحلى المناجاة،مناجاة الصابر المحتسب طالباً رضاه:
يا ربّ عفوكَ إن ناديتُ مُبتهلاً وأرسلَ الصدرُ في نجواكَ شكواهُ
ياربّ قد خلصت في الحُبِّ أنفسنا فما رضيتَ لنا ياربُّ نرضاهُ
شكرٌ وصبرٌ ومافي القلب غيرهما إن آدت المدنف المحزون بلواهُ
ـ ويتكلم عمّا يُلاقيه في الغربة من “الأصدقاء”:
وسائلينَ من الأحبابِ ما صنعت أيدي الخطوب بنا في الغربِ نائينا
لقد نكأتم جراحاً في أضالعنا وقد أثرتُم دموعاً في مآقينا
نلقى على البُعدِ من أيدي”أصادقنا” ما نلاقيه من أعدى أعادينا
كانوا سيوفاً بأيدي الخصم مُرهفةً ولم يكونوا سيوفاً في أيادينا
وانظر إلى إباء نفسه وعزّة كرامته في مواجهة الباطل وغضبته للحق:
نفوسُنا السلسل الصافي فإن غضبتْ للحقِّ ثارت على الباغي براكينا
عشنا أبيين أحراراً فإن هلكت في الحقِّ أنفسنا متنا أبيينا
ـ ويتكلم عن شوقه للشام الحبيبة:
يا شامُ هذي تباريحُ البعيدينا يا شامُ هذي شجونُ المُستهامينا
يا شامُ هيّجت الذكرى لواعجنا وأرخصت دمعها الغالي مآقينا
يا شامُ قد عَظُمت قدراً مطالبنا يا شامُ قد بعُدت شأواً مرامينا
نمضي مع الله لا ندري أتدُنينا أقدارنا منك أم تأبى فتقُصينا
وهناك أشعار رائعة وجميلة جداً وخاصة في قصيدتي “رحيل”التي هي من أجمل قصائده،وقصيدة”ثورة الحقّ” أيضاً ولكن ليس الآن مجال للحديث عنهما.
أما مجلسهُ فهو كإسمهِ،يحمل من كلِّ زهرة شذاها،ومن كلِّ بستان أجمل أوراده،اجتمع فيه الشعر والأدب والفقه والسياسة ومختلف العلوم الإنسانية
وذَكّرني حُلوَ الزمانِ وطيبهُ مجالسُ قومٍ يملؤنَ المجالسا
حديثاً وأشعاراً وفقهاً وحكمةً وبراً ومعروفاً وإلفاً مؤانسا
إذا جلست إليه في ألفة أو كلفة غمرك منه شعاع لطيف يملك نفسك من غير سطوة،ويبسط شعورك من غير خفّة،ثم تحسُّ في تواضعه سمو الكبرياء،وفي وداعته أنفة العزّة،وفي بساطته جلالة النبل،وتنتهي إلى أن شخصيته الجذابة واحدة الطراز لما تهيأ لها من أثالة المنبت،وزكاوة العرق،وسعة الثقافة،وسلامة الفطرة،وجمال القدوة.
يجلس،بحيث ينظر إلى الجميع،ويُعطي كل جليس من جلسائه حقّه في كلامه والإنصات إليه،وحتى الأطفال لم يُحرموا إنسه ومداعباته.
حديثه حارُّ الصوت،صادق اللهجة،واضح العبارة،يُلقي إلى نفوس وقلوب سامعيه هدوءاً ووقاراً،فتُصغي إليه الآذان،وترنوا إليه العيون،إذا قاطعه أحد سكت وانتظر حتى يُتمّ حديثه،ثم يصلُّ ما انقطع من كلامه ،فَلنِعمَ المؤدب هو بلياقته وحسن تصرفه.يُقبل عليك وقد انبسطت أسارير وجهه،وانفرجت شفتاه عن ابتسامة نضرة عذبة،ويسلم تسليم البشاشة بيد مرتجفة،ويرحب بك ترحيب الكرم بصوت متهدج.
يزن الكلمة قبل أن ينطقها وزناً دقيقاً،وإذا تكلّم رأيتَ علماً غزيراً،ورأيت هيبةً وجلالاً،ورأيت نفوذاً لكلامه إلى قلوب سامعيه من قوّة يقينه،وصفاء روحه،وصدق حديثه.يلذُّ لك أن تسمع لتفهم عنه،ويُعجبك أنّه إذا تحدثت إليه أنصت إليك كلّ الإنصات ليفهم عنك في سهولة ورفق،ومن غير تكلف ولا مجاملة إلى أن تُنهي حديثك،ورًبما كان أعرفُ منكَ بهذا الحديث،ولكنه يحترم الآراء ويحترمُ كلام مُحدّثه مهما كان عمره أو مرتبته أو علمه.
إنسانٌ جمّ الأدب في نقاشه،مهذب العبارة،مشرق اللمحة،لبقاً في التخفيف من حدّة الجدل بالبسمة العذبة واللفتة الكريمة.
تقرأ في ملامحه عنوان الطيبة،وتعرف في حديثه لهجة العنفوان،وتذكر في نبرات صوته ولحظات عينه،ولفتات ذهنه ذلك الروح القوي.تراه باسماً للمتكلم ،مصغياً كالمتعلم،هادئاً كالشعاع الشاحب في شفق الخريف.
أنت في حضرته لا تشتهي الكلام لأن لذتك في أن تسمع،ولا تثير الجدال لأن همّك في أن تستفيد.
يُقبل على زائره بأنسه،ويُمكّن لجليسه من نفسه،ويزيل الفوارق بين محدثه وبين شخصه،حتى يصدر عنه الوارد عليه وفي ذهنه صورة من جلاله لا تحول ،وفي قلبه عاطفة من حبّه لا تزول.
إنه ـ ولا أبالغ ـ كما وصف الحسن بن سهل وزير المأمون أحدهم:”وازن العلم،واسع الحلم،إن حُدّث لم يكذب،وإن موُزح لم يغضب،كالغيث أين وقع نفع، وكالشمس حيث أولت أحيت ،وكالأرض ما حملّتها حملت،وكالماء طهورٌ لملتمسه،وناقعٌ لِغُلَّة مَن حرَّ إليه ،وكالهواء الذي تُقطف منه الحياة بالتنسم،وكانار التي يعيش بها المقرور،وكالسماء التي قد حسنت بأصناف النور”..
يا سيدي…أن تجمعَ بين خُلُقِ الأنبياء،وعلمِ العلماء،ونقاوة الأنقياء،وسماحة الكرماء….هذا لعمري ليس عهدنا بِطينِ الأرض،ولكن عهدنا بجند السماء…
تسمعه غالباً مايردد:”لقد تقدّمت السن وتأخرت الصحة وأوشك الماخر في عباب الحياة أن يباغ الساحل،وماذا تتوقع من فرس مجهود قارب نهاية الشوط”
معذرة اليراع….أيها الطودُ الاشمّ!
الذي بقي ثابتاً،راسخاً رسوخ الجبال،مُحافظاً على عهده ومبادئه رغم تقلبات الأنواء،والعواصف الهوجاء ورياح الفتنة العمياء.
ثبتٌ على كلِّ حالِ في مبادئه سيانَ منها لديه اليُسرُ والعدمُ
لم يُفل الزمن ولا المرض ولا جبروت الطواغيت من عزمه،بل بقي أشدّ مضاءً من السيف لا يخشع لصوت الباطل ولا يخضع لجبروت الظالم ولايخنع لقيود الحرير أو الحديد في زمن الشعارات الزائفة والأقلام المأجورة والأفكار الدخيلة.
انظر إليه من خلال شعره الرائع يبين ثباته ومضاء عزمه ومتابعته طريق الدعوة إلى الله وتحدي الطواغيت والجبابرة في كل زمان ومكان:
فالطواغيت لا تُرهبه ولا تُوهن عزيمته:
ما قيّد الفكر منا جور طاغيةٍ أو أوهن العزمَ بطشَ المُستبدينا
وهو يُتابع مسيرة الحقّ رائداً لثورة الحقّ وإن تغيّرت الدنيا وإن تنكّب رفاق الطريق
غرامنا الحقُّ لم نقبل به بَدلاً إن غَيّرت غِيَرُ الدنيا المُحبينا
ولايرغب في مطمع الدنيا الزائل ولا يخشى من عواقب الدعوة وما فيها من معاناة وحرمان وتشريد
في الخوفِ والأمنِ مازاغت مواقفنا والعُسرُ واليُسرُ قد كنا ميامينا
ويبقى رافعاً لواء الحقّ وإن سار في طريقه منفرداً وحيداً
سأوقدُ من دمي للحقِّ فجراً وأجعلُ ليلنا الداجي نهارا
لواءُ الحقِّ مرفوعٌ بِكفّي ودعوتهُ على شفتي جهارا
ويقول:
أمضي ولو سدّ دربي كلّ طغيان ولو تنكّرَ لي أهلي وإخواني
الله حسبي..له قلبي ووجداني ووحدهُ القصد في سرّي وإعلاني
معذرة اليراع…أيها الشيخ الحكيم!
لقد أطلت في الكلام،وإن كانَ كثيرُ الكلام فيك قليل،وأطلتُ الثناء وإن كانَ عظيمُ المديحِ فيك جليل،وأطلتُ الشكر،وإن كان شكرُ اللسان لايمكن أن يكون لحميد الفعال عديلا،ولكن عذري أنه ما أنطقَ القلم إلا مافاض في قلب صاحبه من محبّةٍ وتقدير،وإنّما هي عواطف جاشت،وأحاسيس فاضت،فكانت مداداً للقلم،لمن كان مداد قلمه دمه،ومن كانت آثار جروحه تظهر في سطوره!
نحن ياسيدي ويا أستاذي بضاعتنا الكلام!! وأنتم من وهبتم عمركم وشبابكم لخدمة المسلمين والإسلام.ومعاذ الله أن يكون هناك إذاً مجالٌ للقران.
لا خيل عندك تُهديها ولا مالُ فَليُسعدِ النُطقُ إن لم تُسعدِ الحالُ
ومثل أمثالي ـ والله ـ لايحقُّ له أن يتكلم عن أمثالكم،ولكنني ـ والله يشهد ـ ما أنطقني إلا الحب،وما شجعني إلا الودّ
وجائزةٌ دعوى المحبّة والهوى وإن كان لا يخفى كلام المنافق
إذا محاسنيَّ اللاتي أدلُّ بها كانت ذنوباً،فقل لي:كيف أعتذر؟
معذرة اليراع…أيها الأبُّ الحنون والأخُ الكريم!
وإن لم تكن قد جمعتنا رابطة الدم،فإنّهُ قد جمعنا ماهو أقوى منها:رابطة الإيمان ورابطة المحبّة في الله
إن نفترق نسباً يؤّلفُ بيننا أدبٌ أقمناهُ مقام الوالدِ
أو نختلف فالوصلُ منا ماؤهُ عذبٌ تَحدّرَ من غمامٍ واحدِ
معذرة اليراع….أيها القلبُ الحاني!
فلقد عرّضتك من خلال ثنائي للنقد،وحسبُكَ ما تلاقيه،وحسب جسمك ماتعاني،فما أكثر السهام والنصال التي تتوالى عليك بحيث تكّسرت النصال على النصال،ولكن ماذا يسعني أن أقول لقوم ألبسوا الحقد ثياب النقد!!والافتراء لسان النصحاء!!وماذا أقول لهؤلاء البسطاء الذين ظنوا أنفسهم مظنة الفقهاء!!يتصدّون للأحكام،ويُحرّمون الحلال ويُحلّلون الحرام!!
وما ذنب الأشجار المثمرة ياسيدي ،تهفو إليها الأنظار…ولكنها لاتسلم من رمي الحجار!!
أقول ياسيدي علينا نظم القوافي وليس علينا أن نُرضي هؤلاء البشر…ولن ترضى عنك هؤلاء البشر!!
ولا يحسب من كتب أو يكتب عنه أنهم قد صنعوا شيئاً إذا بذلوا لذلك الرجل العظيم قطرة من المداد،فإنه قد بذل حياته قطرة فقطرة من دم قلبه ،وجراح جوارحه من أجل خدمة الجميع بدون مقابل ولاشكر.
عُذري يا سيدي ويا أستاذي كما قال الأستاذ العظيم عباس محمود العقاد رحمه الله:
“العظماء ليس غضاضة عليهم أن يختلف فيهم المختلفون أو يتأوّل أعمالهم المتأوّلون،فكلُّ عظيم من عظماء الدنيا قيل له،وقيل عليه،وحَسنُت نيّات قوم نحوه وساءت نيّات آخرين،فهذه ليس بضّارة،والميزان العدل في الحكم هو دليل القائل وليس مقال القائل،وإنّما فضيلته أن قد ظفر بالثناء ممّن في ثناءه صدق،ولثنائه قيمة”.
وما أحبُّ أن يظن الأستاذ في القول مجاملة أو ملاطفة أو مبالغة،فأنا أبرأ إلى الله ثُمَّ إليه من هذا،إنّما هو ثناء صادق ينبع من ضمير مقتنع اقتناعاً صادقاً تاماً بأن هذا الأستاذ الجليل قد فرضَ على هذا الجيل لنفسه حقاً في الإكرام والإجلال والتقدير لما قدّمه ويُقدّمه لخدمة الإسلام والإنسانية جمعاء،وإنّما هي تحيّة ورمز متواضع يسير لما يشيع في النفس ويتغلغل في القلب من أفراد هذا الجيل من شكر وإعجاب ومحبة وتقدير،وإذا صحّت كل هذه الحقائق وهي صحيحة فليعذرني أستاذي .
مدحتُكَ بالحقِّ الذي أنتَ أهلهُ ومن مِدحِ الأقوام حقٌّ وباطلُ
لي فيك مدحٌ ليسَ فيه تكلّفٌ أملاهُ حبٌّ ليسَ فيهِ تملقُّ
ومهما يكن،فسوف تعتب علي فأقول:وإن تكُ ذا عُتبى فمثلُكَ يعتُبُ”.
إن يكتبوا لي ذنباً في مودتهم فإنّما الفخرُ في الذنب الذي كتبوا
نعم،هو رجلٌ بالمعنى الرفيع،وهو عظيمٌ بالمعنى الجامع.
تجد فيه من الخلال:الصدق والصراحة والإباء والشجاعة والإيمان وهذه هي الرجولة.وتجد فيه في الأعمال:العمق والشمول والإتقان والتفرد وهذه هي العظمة.
معذرة اليراع…أيها الشيخ الحكيم!
وبعد،فلكم عالجت القلم على أن يقول في توصيف هذا الشيخ الكبير فعصى،ولكم طلبت من اليراع أن يتحدث فتعذر وأبى.
فإنّ حكمتُكَ والله تُعلّمُ الملايين….ولكننا تلاميذٌ خائبون فاشلون!!
وقد يسأل البعض ويتساءل لقد ذكرت الأستاذ بما فيه من الخصال الجميلة والمحاسن الأصيلة،أوليس عليه بعض المآخذ؟أو ليس كل وردة جميلة شذية العطر لاتخلو من الشوك.
وأقول لهم إنه وإن كان خلقه يتصف بالملائكية،ولكنه بشر يخطيء ويصيب،وله أيضاً بعض المآخذ ومنها…
معذرة اليراع….لقد انكسر القلم.ومات العلم