بسم الله الرحمن الرحيم
معالم في طريق الدعوة إلى الله
الحمد لله رب العالمين،والعاقبة للمتقين،وأزكى صلوات الله وتسليمه على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد، الذي أرسله ربه بشيراً ونذيراً ورحمة للعالمين،وحجة على الناس أجمعين،رسولنا وقائدنا واسوتنا وحبيبنا وشفيعنا يوم الدين، وعلى آله وصحبه أفضل السلام والتسليم الذين{آمنوا به وعزّروه ونصروهُ واتبعوا النورَ الذي أنزل معه أولئك همُ المفلحون}[الأعراف 157]،ورضي الله عمن دعا بدعوته، واهتدى بسنته، وجاهد جهاده إلى يوم الدين.
لقد رسم القرآن الكريم دستوراً للدعوة إلى الله في آية من آيات القرآن المكي في سورة النحل وقد أوجزها القرآن بإعجازه البياني في كلمات معدودة موجهاً الخطاب فيها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ولكل من يتأتى خطابه من الأمة من بعده، إذ الدعوة إلى الله ومنهاجه القويم ليست خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل إن أمته مطالبة أيضاً بواجب التبليغ والدعوة إلى الله. يقول الله تعالى: {ادعُ إلى سبيلِ رَبِّكَ بالحِكمةِ والموعظةِ الحسنةِ وجَادِلهُم بالتي هي أحسنُ إنَّ رَبّكَ هُوَ أعلَمُ بمن ضَلَّ عن سبيلهِ وهُوَ أعلمُ بالمُهتدين} [النحل 125] .
الدعوة لغة: جاء في المصباح المنير:دعوت الله أدعوه دعاءً: ابتهلت إليه بالسؤال، ورغبت فيما عنده من الخير،ودعوت زيداً:ناديته وطلبت إقباله.ودعا المؤذن الناس إلى الصلاة، فهو داعي الله. والجمع دعاة وداعون.. والنبي داعي الخلق إلى التوحيد.
وجاء في المفردات للراغب الأصفهاني:والدعاء إلى الشئ: الحثّ على قصده.. قال تعالى{والله يدعو إلى دار السلام}[يونس25]وقال:{وياقومِ مالي أدعوكُم إلى النَّجاةِ وتَدعُونني إلى النار* تَدعُونني لأكفُرَ بالله وأُشرِكَ بهِ ماليسَ لي بهِ عِلم ٌوأنا أدعُوكُم إلى العزيزِ الغفّار} [غافر41 ـ 42]
وجوب التبليغ والدعوة إلى الله:
يقول الشيخ العلامة محمد أبو زهرة رحمه الله:
“كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم نورَ الله في الأرض،وهدايته للناس في كل الأجيال إلى أن يرث الله الارض ومن عليها:{وما أرسلناكَ إلا كافةً للنّاسِ بشيراً ونذيراً ولكنَّ أكثرَ النّاسِ لا يعلمون}[سبأ 28].وكانت رسالته رحمة الله بالعالمين،يرون فيها تراحم بني الإنسان،وتواصل أهل الأرض على اختلاف ألوانهم وأجناسهم وتباين اقاليمهم ومشاربهم:{وما أرسلناكَ إلا رحمةً للعالمين}[الأنبياء 107].{يا أيُّها النّاسُ إنّا خلقناكمْ من ذكرٍ وأنثى وجعلناكمْ شعوباً وقبائلَ لتعارفوا إنَّ أكرَمكُمْ عندَ الله أتقاكمْ إنَّ الله عليمٌ خبيرٌ}[الحجرات13ٍ.
لقد أرسل الله تعالى ومنذ بدء الخليقة على الأرض الرسل والأنبياء بدءاً بأبي البشر آدم عليه السلام، ومروراً بموكب الأنبياء والرسل الكرام مثل نوح وهود وصالح وشعيب وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، وخُتمت الرسالات بسيد الخلق والبشروالأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم.
وكانت دعوة الرسل إلى أقوامهم خاصة، ومن ثم على لسان خاتم النبيين والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم إلى قومه وإلى كل العالمين أن يعبدوا الله وحده، ويجتنبوا الطاغوت.
يقول تعالى:{قُلْ إنّي لن يُجيرَني منَ الله أحدٌ ولنْ أجِدَ من دُونهِ مُلتحدا}[الجن 22].
يقول سيد قطب رحمه الله:”وهذه هي القولة الرهيبة،التي تملأ القلب بجدّية هذا الأمر…أمر الرسالة والدعوة…والرسول صلى الله عليه وسلم يؤمر بإعلان هذه الحقيقة الكبيرة…إني لن يُجيرني من الله أحد،ولن أجد من دونه ملجأ أو حماية،إلا أن أبلغ هذا الأمر،وأودي هذه الأمانة،فهذا هو الملجأ الوحيد،وهذه هي الإجارة المأمونة.إن الأمر ليس أمري،وليس لي فيه شىء إلا التبليغ،ولا مفر لي من هذا التبليغ.فأنا مطلوب به من الله ولن يجيرني منه أحد،ولن أجد من دونه ملجأ يعصمني،إلا أن أبلّغ وأدّي.
يا للرهبة!ويا للروعة!وياللجدّ!
إنها ليست تطوعاً يتقدّم به صاحب الدعوة،إنّما هو التكليف.
التكليف الصارم الجازم،الذي لامفر من أدائه.فالله من ورائه.وإنها ليست اللذة الذاتية في حمل الهدى والخير للناس.إنما هو الأمرُ العلوي الذي لا يمكن التلفت عنه ولا التردد فيه.وهكذا يتبين أمر الدعوة ويتحدّد.إنها تكليف وواجب.وراءه الهول ووراءه الجد،ووراءه الكبير المُتعال”.
يقول الأستاذ عصام العطار حفظه الله في كتاب”من بقايا الأيام”:”وهذا المنهج الذي نهجه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو منهج الرسل جميعاً في الدعوة إلى الله وإقامة شرعه، وهو المنهج الذي يلائم فطرة الإنسان التي فطره الله عليها وما سنَّ في خلقه من السنن.يقول الله عز وجل: {ولقد بعثنا في كُلِّ أمّةٍ رَسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} [النحل 36].
ويفصّل لنا تعالى بعض ذلك فيقول: {ولقد أرسلنا نُوحاً إلى قومهِ فقالَ ياقومِ اعبدوا اللهَ مالَكُم من إلهٍ غيرُهُ أفلا تتقون}[ المؤمنون 23]، وقال تعالى: {ثُمَّ أنشأنا من بعدهم قرناً آخرين* فأرسلنا فيهم رسولاً منهم أن اعبدوا الله مالكم من إلهٍ غيره أفلا تتقون}[ المؤمنون 31 ـ 32]، {ثم أنشأنا من بعدهم قروناً آخرين}[ المؤمنون 42]، {ثم أرسلنا رُسُلنا تترا} [المؤمنون 44] ، يتتابعون على تبيان هذه الحقيقة الخالدة وعلى الدعوة إليها وتقريرها وترسيخها في القلوب والعقول رسولاً بعد رسول: {وما أرسلنا من قبلكَ من رسولٍ إلا نُوحي إليهِ أنَّهُ لا إلهَ إلا أنا فاعبدون} [الأنبياء25 ] ، إلى أن ختم الله تعالى رسله بمحمد صلى الله عليه وسلم فأمره أن يقول: {قل إنّما أنا بشرٌ مِثلُكُم يُوحى إليَّ أنما إلهُكُم إلهٌ واحدٌ فاستقيموا إليهِ واستغفروهُ وويلٌ للمشركين} [فصلت6 ].
ولقد قام الأنبياء والرسل جميعاً صلوات الله عليهم وسلامه بمهمة التبيلغ والدعوة إلى الله وترك عبادة الطاغوت بجميع أسمائه ومُسمياته من منطلق لا إكراه في الدين ،يقول تعالى{لا إكراهَ في الدِّين قد تبيَّنَ الرُشدُ من الغَيّ فمن يكفر بالطاغوت ويؤمنُ بالله فقد استمسكَ بالعروةِ الوثقى لا انفصامَ لها واللهُ سميعٌ عليم}[البقرة256].
وجاء في السيرة النبوية الشريفة”بعث أبو طالب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فجاءه فقال: ياابن أخي، هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا ليعطوك وليأخذوا منك.فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، كلمة واحدة تُعطونيها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم، فقال أبو جهل: نعم وابيك ، وعشر كلمات، قال: تقولون لا إله إلا الله، وتخلعون ماتعبدون من دونه”.
يقول الشيخ العلامة محمد أبو زهرة رحمه الله:
“وإن كانت الدعوة المحمدية قد سلكت الطريقة البشرية،مع أن شريعتها إلهية،فقد ابتدأها محمد صلى الله عليه وسلم بأمر ربه كما تبتدىء الدعوات الاجتماعية والخلقية والإصلاحية يتولى صاحبها الإقناع الفردي،حتى إذا تكونت جماعة اتحدت فيها الغاية،ووحدّها المنهج العملي،والوحدة النفسية،أعلن الداعي وجهر ونادى بها،وجادل وصاول وتعرض للابتلاء والإبلاء.
ولذلك دعا محمد صلى الله عليه وسلم إلى الهداية أقرب أقربائه،وأولى أوليائه،دعا زوجه ومولاه،وربيبه عليّاً،ثم صفيه المختار ووليه المجتبى،وصدِّيق الأمة أبا بكر،رضي الله عنهم جميعاً،ثم سارت الدعوة بين الأولياء في ذلك المسار النوراني حتى تكونت الجماعة الصالحة،فأمره ربه أن ينذر عشيرته،وقال له:{وأنذر عشيرتكَ الأقربينَ}[الشعراء 214].فأنذرهم وبشرّهم،ثم أمره بالدعوة العامة،وأن يصدع بأمر ربه،فقال:{فاصدعْ بما تؤمر وأعرض عن المشركين}]الحجر94].عندئذ تقدم الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم والداعي العظيم المؤيد من السماء،والمنصور بالعقل والوسائل الأرضية،فدعا الجموع وبلغهم رسالت ربهم،ولما كذبوا تحداهم بالمعجزة القاهرة،والآيات الباهرة،والحجج الدامغة،والبراهين القاطعة،وأخذ يجادلهم بالتي هي أحسن،ويدعوهم بالموعظة الحسنة،فقاوم أقواؤهم دعوته بالصد عن سبيل اللعه،والإعراض عن كلمة الحق،واتّبعه الضعفاء،وهم دائماً مجيبو دعوة الحق،لصفاء نفوسهم من أدران المادة،وعنفوان السلطان،وبُعدهم عن جفوة الطغيان،وعدم تمرس نفوسهم بالشر والعدوان.
ويقول الشيخ العلامة محمد الغزالي رحمه الله(مجلة لواء الإسلام العدد الثالث ـ ذي القعدة 1389 هجري(:
“فنحن العرب الأمة الوارثة للوحي الإلهي الأخير.كلفنا أن نعمل به وأن ندعو غيرنا إليه أو بتعبير آخر كلفنا أن نصوغ أنفسنا في قالبه صياغة جميلة معجبة.وأن نغرى الآخرين بإتباعنا واقتفاء آثارنا والنسج على منوالنا.وقد نجح آباؤنا الأوائل في ذلك المضمار فكانوا طليعة حضارية رائعة.ثم تسللت إلينا علل الامم البائدة.فطوت راياتنا بعدما ازدان بها الأفق دهراً طويلاً.وانسحبنا من الميدان بغير نظام.وخيم على العالم الإسلامي أجمع سكون البِلى والضياع.
وليس عجيباً أن تكثر العوائق أمام هذا النهوض الواجب.فإن عداوة الحق قديمة قدم الشيطان ومذ خلق الله آدم ومكّن في الارض ذريته “.
إلى ماذا ندعو؟
إذاً فالدعوة التي يتوجه بها الداعية إلى الناس هي الدعوة إلى الله تعالى وإلى سبيله المستقيم: { قُلْ هذهِ سبيلي أدعو إلى الله على بَصيرةٍ أنا ومن اتَّبعني وسبحانَ الله وما أنا من المشركين}[ يوسف 108].
وقد كانت دعوة الرسل إلى أقوامهم خاصة والرسول صلى الله عليه وسلم لقومه ولكل الناس بالدعوة إلى الله تعالى:
{ لقد أرسلنا نوحاً إلى قومهِ فقال ياقومِ اعبدوا الله مالكُم من إلهٍ غيره} [الأعراف 59]
{ وإلى عاد أخاهم هُوداً قال ياقوم اعبدوا الله مالكُم من إلهٍ غيره}[ هود 52]
{وإلى ثَمود أخاهم صالحاً قال ياقوم اعبدوا الله مالكُم من إلهٍ غيره}[الأعراف 73].
{وإلى مدين أخاهم شعيباُ قال ياقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره} [الأعراف 85]
{ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}[ النحل 36]
وختمت الرسالات بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، فكانت رسالته خاتمة الرسالات، وكان القرآن الكريم الذي أنزل عليه خاتم الكتب السماوية. ولقد كرّم الله عز وجل سيد الأنبياء والمرسلين بأن جعل دعوته لقومه وللناس أجمعين ولكافة العالمين: { وأرسلناك للناس بشيراً ونذيراً}.
والمقصود بالدعوة إلى الله: الدعوة إلى منهجه الحكيم وشرعه القويم وهو دين الإسلام: {إنَّ الدِّينَ عندَ الله الإسلام}[ آل عمران19 ]، فالإسلام هو موضع الدعوة وحقيقتها، وعلى الدعاة أن يعلموا أنه مامن نبي بعثه الله إلا بعثه بهذا الدين نفسه أي دين الإسلام.
فهو على لسان نوح عليه السلام: { فإن توَلَّيتم فما سألتُكم من أجرٍ إن أجريَ إلا على الله وأُمرتُ أن أكونَ من المسلمين}[يونس72]، وعلى لسان ابراهيم وإسماعيل عليهما السلام: { رَبّنا واجعلنا مُسلمِين ِلكَ ومن ذُرِّيتنا أُمّةً مُسلمةً لك} [البقرة128]،وعلى لسان موسى عليه السلام: {وقال موسى ياقومِ إن كُنتُم أمنتُم بالله فعليهِ توكَّلوا إن كنتم مسلمين}[يونس 84]، وعلى لسان يوسف عليه السلام: {رَبِّ قد آتيتني من المُلكِ وعلّمتني من تأويل الأحاديثِ فاطرَ السّمواتِ والأرض أنتَ وليِّ في الدنيا والآخرة تَوفَّني مُسلماً وألحقني بالصَّالحين}[ يوسف 101]، وعلى لسان الحواريين أتباع عيسى عليه السلام 111: { وإذ أوحيتُ إلى الحواريينَ أن أمنوا بي وبرسولي قالوا أمنّا واشهد بأنَّنا مسلمون}[المائدة 111]، وعلى لسان سليمان عليه السلام وملكة سبأ بلقيس: {قالت ربِّ إنّي ظلمتُ نفسي وأسلمتُ مع سُليمانَ لله ربِّ العالمين}[النمل 44].
يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله في قوله تعالى:{ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون}[العنكبوت 46]:
“إن دعوة الله التي حملها نوح عليه السلام والرسل من بعده حتى وصلت إلى خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم لهي دعوة واحدة من عند إله واحد،ذات هدف واحد،هي ردّ البشرية الضالة إلى ربّها،وهدايتها إلى طريقه،وتربيتها بمنهاجه.وإن المؤمنين بكل رسالة لأخوة للمؤمنين بسائر الرسالات:كلهم أمة واحدة،تعبد إلهاً واحداً،وإن البشرية في جميع أجيالها لصنفان اثنان:صنف المؤمنين وهم حزب الله.وصنف المشاقين لله وهم حزب الشيطان،بغض النظر عن تطاول الزمان وتباعد المكان.وكل جيل من أجيال المؤمنين هو حلقة في تلك السلسلة الطويلة الممتدة على مدار القرون”.
والذي حدث أنه بتعاقب الدهور وكرِّ العصور، ظهرت أممٌ في الأرض،دخلها الفساد والظلم والانحراف، وشاعت فيها المنكرات،ودخلت فيها البدع والمفاسد وابتعدت عن دين وشرع الله، واتجهت لعبادة الطواغيت وأرباب الهوى، فأرسل الله رسله تترا من أجل الإصلاح والتوجيه والتبيين، وكان الإسلام الذي أنزل على خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم على أكمل وجه وأصحّ صورة، ديناً شاملاً كاملاً متوازناً، يُناسب الفطرة، ويُحقق الكرامة، ويُكسب سعادة الدارين،أضف إلى ذلك أن الله تعالى ضمن لهذا الدين السلامة من أي تحريف أو تغيير أو تبديل أو تعديل: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}[الحجر 9].
وبالإضافة إلى هذه الدعوة الأصلية والأساسية، أي :الدعوة إلى دين الله، فإنه يجب على الداعية ـ وهذا من صلب الدعوة إلى الله ـ أن ينظر في مجتمعه وأن يحاول ما أمكن إصلاح مافيه من العلل والفساد التي قد تشوبه أو تعتريه، وهكذا كان حال الأنبياء والرسل، يدعون إلى الله وفي نفس الوقت وبلا انفصال يحاولون إصلاح أمراض المجتمع، وكشف علله وأخطائه،ولا أريد الإسهاب هنا والتفصيل، بل أكتفي بالإشارة إلى موقف نبيّ الله شُعيب عليه السلام والذي دعا قومه إلى عدم التلاعب بالميزان: {وإلى مَدينَ أخاهُم شُعيباً قالَ ياقومِ اعبُدوا اللهَ مالكُم من إلهٍ غَيرُهُ قد جاءتكُم بَيّنةٌ من رَّبِّكُم فأوفُوا الكَيلَ والمِيزانَ ولاتَبخَسوا الناسَ أشياءَهُم ولاتُفسدوا في الأرضِ بعدَ إصلاحِها ذَلِكُم خيرٌ لكُم إن كُنتُم مُؤمنين} [الأعراف 85] ،ونبي الله لوط عليه السلام الذي دعا قومه إلى عدم اتخاذ الذكور من دون الإناث: { كَذَّبت قومُ لُوط ٍالمُرسلين* إذ قالَ لَهُم أخُوهُم لوطٌ ألاتتَّقون*إنّي لكُم رسولٌ أمينٌ*فاتَّقوا اللهَ وأطيعون*وما أسألُكُم عليهِ من أجرٍ إن أجريَ إلا على ربِّ العالمين* أتأتُون الذُّكرانَ من العالمين* وتذرُونَ ماخلقَ لكُم رَبُّكُم من أزواجِكُم بل أنتم قومٌ عادون}[الشعراء 160 ـ 166].
من يدعو؟
إن الدعوة إلى الله أمرلازم وفرض على الإنسان المسلم الداعية، في كل زمان ومكان، والمسلم هو الوارث الحقيقي الوحيد للديانات السماوية عامة ورسالة الإسلام خاصة، وهي خاتمة الرسالات، ورسولها الكريم هو خاتم الأنبياء.فلايهود هذه الأيام يمثلون رسالة موسى وهارون عليهما السلام، ولانصارى اليوم يمثلون رسالة عيسى عليه السلام.
إن الإسلام والمسلمين هم المُمثل الوحيد لرسالة محمد عليه السلام وإخوته أنبياء الله من قبل، فنحن ـ أي المسلمين ـ نحمل هذه الرسالة إلى الدنيا جميعاً، ونحن من يتحمل تبعات وأعباء هذه الدعوة الكريمة. يقول تعالى: {وأنزَلنا إليكَ الكتابَ بالحَقِّ مُصدّقاً لما بينَ يديهِ من الكتابِ ومُهيمِناً عليه} [المائدة 48]، ويقول تعالى: {آمن الرسولُ بما أنزلَ إليهِ من رَّبِّهِ والمؤمنونَ كُلٌّ آمنَ بالله وملائكتهِ وكُتُبِهِ ورُسُلهِ لانُفرِّقُ بين أحدٍ من رُسله وقالوا سَمعنا وأطعنا غُفرانكَ رَبّنا وإليكَ المصير}[البقرة 285].
وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله عز وجل مايقارب الثلاثة وعشرين سنة، دعا في كل مكان، وفي كل زمان، ولم يتنازل عن دعوته الحق حتى توفاه الله إلى جواره الكريم.
يقول الشيخ العلامة محمد الغزالي رحمه الله(مجلة الرسالة العدد 1051 بتاريخ 5 آذار عام 1964):
“يتطلب تجديد اللإسلام نظرة أخرى إلى الرجال الذين يحملون علومه،وينصرون في الحياة مبادئه،فإن الطريقة التي يتكونون بها،والمستويات التي لا يجوزون حدها،تظلم الإسلام وتقف بنجاحه عند آفاق دانية.
إن الله اختار المُبلغين عنه من أكرم البشر عرقاً،وآلقهم فكراً،وأزكاهم معدناً وأرحبهم طاقة.واستنبتهم في بيئات تحفهم بالإكبار،وترمقهم بالتجلّة وربما عادتهم هذه البيئات بعد أن يبلغوا رسالت ربهم وكرهت أشدّ الكره ما يجيئون به من وحي.بيد أن أشدّ خصومهم لايستطيع أن يجرح أشخاصهم،ولا أن يغمز أخلاقهم،ولا أن يلمح في سيرتهم الماضية أو الحاضرة ما يخزيهم به…ولقد كان أبو سفيان حامل راية الحرب على محمد صلى الله عليه وسلم زماناً طويلاً،فلما علم أنه تزوج ابنته بعد إسلامها وممات رجلها لم يشعر قط بأثارة من غضاضة،بل أحسّ أنها صارت إلى الرجل الذي يشرفها وقال:هو الفحل لا يجدع أنفه.
وصدور الدعوة الدينية عن رجال تلك مكانتهم الشخصية وضع للأمور في مواضعها فإن العظائم كفؤها العظماء.
وتعريف الناس بالله وسياستهم بِهداه وفك آصارهم النفسية والاجتماعية بشرعه ذلك كله ينتقى له السادة من البشر.السادة بمواهبهم وكفايتهم.لا بالزعم والدعوى…ولذلك قال ابن مسعود:”لايزال الناس بخير ما أخذوا العلم من أكابرهم،فإذا أخذوه عن أصاغرهم وشرارهم هلكوا”.
والأكابر ليسوا أصحاب الجثث الضخمة ولا الأسنان المتأخرة ولا الثروات العريضة ولا الوظائف المهيبة…إن الأكابر في فهم ابن مسعود هم أصحاب الهمم البعيدة،والمروءات العالية،والعفة الظاهرة والأبصار السديدة والأفئدة الزاكية.
وقد يكونون أمراء أو لا يكونون.وقد يكونون أغنياء أو لا يكونون.فتلك أعراض لا تمس قيمهم الخاصة ولا تؤثر فيهم علواً أو هبوطاً.
وهناك فرق بين ذينك العنوانين:رجال الإسلام،وعلماء الإسلام.
فرجال الإسلام كل عامل في حقل من حقوله،كل قائم على ثغرة من ثغزره،كل مشتغل القلب واللبّ بخدمته ونصرته في أي ميدان وقفه القدر فيه وهيأته مواهبه له.وبديهي أن يكون لذى هؤلاء نصاب من المعرفة الدينية يكفيهم في مرضاة الله واتقاء محارمه ولا يعنيهم أن يتزيدوا من فنون الثقافات الدينية الكثيرة فذاك شأن له مجاله ورجاله.
أما علماء الإسلام فقوم مخصصون في العلوم الدينية ووسائل غرسها في المجتمعات مستبحرون في أصولها وأدلتها وطرق الدفاع عنها…
يقول الأديب الإسلامي العظيم عباس محمود العقاد في كتابه (عبقرية محمد ص71):
“اللهم هل بلغت” هذه هي اللازمة التي ردّدها النبي صلى الله عليه وسلم في أطول خطبه الأخيرة، وهي خطبة الوداع، وهي لازمة عظيمة الدلالة في مقامها، لأنها لخصّت حياة كاملة في ألفاظ معدودات، فما كانت حياة النبي كلها بعملها وقولها وحركتها وسكونها إلا حياة تبليغ وبلاغ، وما كان لها من فاصلة خاتمة أبلغ من قوله صلى الله عليه وسلم وهو يجود بنفسه” جلال ربي الرفيع فقد بلغت”.
ويقول الشيخ القرضاوي حفظه الله:
“أكرمنا الله بأن وضع لنا نموذجاً بشرياً تتمثل فيه الأسوة الحسنة ويتجسّد فيه الكمال البشري، اقصى الكمال البشري، الذي يمكن أن يرتقي إليه بشر، هذا النموذج هو محمد صلى الله عليه وسلم{لقد كان لكم في رسولِ الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كانَ يرجو اللهَ واليومَ الآخر وذكرَ الله كثيراً}[الأحزاب 21]، كان الناس في حاجة إلى نموذج تتجسد فيه الكمالات البشرية، الناس ليسوا فلاسفة، إنما الناس العادييون يحتاجون إلى شئ مَرئي مُحسّ مُجسّم فكان هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جسد فيه تعاليم وأخلاق القرآن كما قالت زوجه وألصق الناس به، عائشة رضي الله عنها حينما سئلت عن أخلاقه، فقالت: “كان خلقه القرآن“، القرآن مُفسراً ومُجسّماً في حياته صلى الله عليه وسلم”.ويقول أيضاً:”اختار محمداً وهو أفضل الخلق ليحمل الرسالة العامة الخالدة الخاتمة،واختار العرب ليكونوا قومه وصحابته، واختار لغة العرب لتكون اللغة التي ينزل بها القرآن العظيم{الله أعلمُ حيثُ يجعلُ رسالته} [الأنعام 124]، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يرسل إلى العرب وحدهم إنما أرسل إلى العالمين{تباركَ الذي نزلَ الفرقانَ على عبدهِ ليكونَ للعالمينَ نذيرا}[الفرقان1]، وقال تعالى{وما أرسلناكَ إلا رحمةً للعالمين} [الانبياء 107]، وقال تعالى{ وما أرسلناكَ إلا كافةً للناسِ بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لايعلمون}[سبأ 28]، وقال تعالى{ قُل يا أيُّها الناسُ إنّي رسولُ الله إليكم جميعاً}[الأعراف158]، {وأُوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ}[الأنعام 19].
وجاء في جزء من الحديث الصحيح الذي رواه البخاري: ” أعطيت خمساً لم يُعطهن أحد قبلي:كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة“، وفي رواية مسلم:” وبعثت إلى كل أحمر وأسود”، وفي رواية:” وبعثت إلى الخلق كافة“.
ويقول الجاحظ في دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلامه:”وهو الكلام الذي ألقى الله عليه المحبة وغشّاه بالقبول،وجمع له بين المهابة والحلاوة، وبين حسن الإفهام وقلة عدد الكلام،مع استغنائه عن إعادته، وقلة حاجة السامع إلى معاودته،لم تسقط له كلمة، ولا زلّت به قدم، ولابادت له حجة، ولم يقم له خصم، ولا أفحمه خطيب، بل يبذ الخطب الطوال بالكلم القصار، ولايلتمس إسكات الخصم إلا بمايعرفه الخصم، ولايحتج إلا بالصدق، ولا يطلب الفَلَج(الفوز والغلبة) إلا بالحق، ولايستعين بالخلابة(الخداع) ولايستعمل المواربة، ولايهمز ولايلمز، ولايُبطئ ولايُعجل ولايسهب ولايحصر”.
وقد كرّم الله عز وجل أمة الرسول الأمين بأن أشركها معه في مهمة الدعوة إلى الله عز وجل : { كُنتُم خيرَ أمّةٍ أخرجت للناس تأمرونَ بالمعروفِ وتَنهونَ عنِ المُنكرِ وتُؤمنون بالله}[آل عمران110]”.
يقول الشيخ محمود شلتوت رحمه الله(مجلة الرسالة العدد550):
“للرسالة المحمدية جانبان:جانب التلقي عن الله رب العالمين،وهو خاص بمحمد صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيه أحد من أمته،وجانب الفهم والبيان،والدعوة والإرشاد،والعمل على توسيع نطاق الإسلام ومد رواقه،وتنظيم الشئون بأحكامها،وإلى هذا الجانب ترجع عزة الإسلام وبقاؤه على الدهر فتياً لا تزعزعه العواصف ولا تنال منه الأحداث.ويشارك الرسول من أمته في هذا الجانب من آتاه الله العلم والحكمة،وقذف في قلبه النور والهداية،وكشف له عن سر تشريعه، وبصّره بمواقع الأمر والنهي، والتحليل والتحريم،ووهبه غيرة تحمله على الجهاد في ذلك كله، وعلى الصدق والإخلاص في هذا الجهاد!
يقول الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله:”
فالتعبير القرآني بقوله “أخرجت”يدل على أن هناك من أخرج هذه الأمة، وهو الله جل جلاله،فلم تنبت هذه الأمة من نفسها كنبات البريةن بل أنبتها منبت بذر بذرتها، وتولى رعايتها.وهي لم تخرج لنفسها، بل أخرجت للناس،لهداية الناس، ولنفع الناس، وإصلاح الناس،وإخراجهم من الظلمات إلى النور.فهي ـ في المقام الأول ـ أمة دعوة ورسالة مبعوثة مما بعث به رسولها إلى الناس، ولذا قال عليه الصلاة والسلام”إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين“.ويتابع الشيخ القرضاوي:”وأمة الإسلام مكلفة بحمل هذه الرسالة العالمية إلى العالم، فلايجوز لها أن تحتكر الخير والنور لنفسها، بل عليها بعد أن اهتدت بنور الله أن تهدي الآخرين إليه، وبعد أن صلحت بالإيمان والعمل الصالح أن تصلح الأمم وتدعوها إلى الخير الذي أكرمها الله به”.
ومن الصفات الأساسية للمؤمنين في القرآن{التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله}[التوبة 112].وكما مدح القرآن الكريم الآمرين الناهين، ذمّ الذين لا يأمرون بالمعروف ولايتناهون عن المنكر قال تعالى: {لُعِنَ الذين كفروا من بني إسرائيل على لسانِ داودَ وعيسى ابن مريم ذلك بما عَصوا وكانوا يعتدون*كانوا لايَتناهون عن منكرِ فعلوهُ لَبئسَ ماكانوا يفعلون} [المائدة78 ـ 79].
ولذلك فإن رسالة الإسلام والدعوة إليه لم تنته بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وانتقاله إلى الرفيق الأعلى، بل هي مُمتدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وذلك من خلال أمة الإسلام، خير الأمم..ماتمسكت بإيمانها ودينها وإسلامها.
يقول الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله:
“نحن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، قد أكرمنا الله عز وجل بكرامات عدّة، أكرمنا بهذه الرسالة العظيمة التي ختم الله بها الرسالات، رسالة الإسلام، الرسالة التي امتدت طولاً حتى شملت أبعاد الزمن وامتدت عرضاً حتى انتظمت آفاق الأمم، وامتدت عُمقاً حتى استوعبت شؤون الدنيا والآخرة، شؤون الفرد والجماعة، شؤون الجسم والروح، وصدق الله العظيم{ويومَ نبعثُ في كلِّ أمةٍ شهيداً عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيداً على هؤلاءِ ونزلنا عليك الكتابَ تِبياناً لكل شئٍ وهدىً ورحمةً وبُشرى للمسلمين}[النحل 89]، خصّنا الله بهذه الرسالة، وبحفظ مصادر هذه الرسالة، مصدرها الأول هو القرآن كتاب الله عز وجل فتكّفل الله بحفظ هذا الكتاب، لم يَكِل حفظه إلى الأمّة، كما وكّل حفظ التوراة إلى أصحابها، كما قال تعالى{ بما استحفظوا من كتاب}[المائدة 44]، أي بما طلب إليهم حفظه، الله هو الذي تولّى حفظ هذا الكتاب حينما قال ووعدَ وعداً مؤكّداً{إنا نحنُ نزلنا الذكر وإنا لهُ لحافظون}[ الحجر9]، فهيأ الله الوسائل والأسباب لحفظ هذا الكتاب وتواتر عبر أجيال الأمة،من جيل الصحابة إلى جيل التابعين إلى أتباع التابعين، إلى اليوم، يحفظه الآلاف وعشرات الآلاف، من أبناء هذه الأمة، وكما قرّر المُحققون من العلماء أن السّنة مُبينة للقرآن وضمان الله تعالى لحفظ القرآن يستلزم حفظ السنة، لأن حفظ المُبين يستلزم حفظ بيانه، ومن هنا هيأ الله الأسباب لحفظ السنة، حينما دفع العلماء وهيأهم لينخلوا الأحاديث ويَردوا ضعيفها ومكذوبها ويحفظوا صحيحها، وحسنها، فهذا مما أكرم الله به هذه الأمة، أن حفظ لها مصادر هذا الدين لاتوجد أمة حفظ كتابها كما حفظ كتاب هذه الأمة”.
ويقول الأستاذ العلامة محمود شلتوت رحمه الله(الرسالة العدد913):
يقاسي العالم اليوم ألواناً من الشرور والمفاسد،ويكابد أصنافاً من الآلام والمتاعب،تقض عليه مضاجع الأمن والاستقرار، وتزلزل كيان الطمأنينة والسعادة في الأفراد والجماعة.وما مثل الناس في هذا الزمان إلا كمثل قوم في سفينة أخذتها الأعاصير من كل جانب،واضطربت في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب،ظلمات بعضها فوق بعض،يكاد اليم يبتلعها بمن فيها،أو كمثل قوم حوصروا بالنار ذات الوقود في بيت مغلق النوافذ وقد تقطعت بهم الأسباب،وجمدوا في أماكنهم شاخصة أبصارهم يشهدون التهام النار لمتاعهم ونفائسهم وأموالهم وأبنائهم وأنفسهم،ثم لا يستطيعون أن يحركوا ساكناًنولا يلتمسوا طريقاً للخلاص،سوى الصياح والعويل والاستغاثة من الخطر الذي داهمهم وحلّ بدارهم!!
وليس لهذه النكبة فيما يرى عقلاء العالم من سر سوى انسياق الناس في حياتهم مع نظم وضعها الإنسان وأملتها عليه الشهوات والنزعات، لم تُبن على مصالح البشر ولم يلاحظ فيها مقتضى الطبيعة الإنسانية التي تفترض المساواة في الحقوق والواجبات،فجاءت مختلفة باختلاف بواعثها،مضطربة باضطراب ألوانها وغاياتها،متنازعة بالعصبية لها،والتناحر عليها،كل أمة تعمل جاهدة على أن يسود نظامها،وتعلو كلمتها،ويستقر في العالم سلطانها،وتصبح ذات السيادة المطلقة،والكلمة النافذة.
فمن الطبيعي وهذا شأنها وشأن واضعيها والمتعصبين لها أن تقضي بالعالم إلى هذا الشر المتفاقم،وأن توقد نيران الحروب في جميع أرجائه ،مابين حرب تصلى الشعوب نيرانها،وتدمر البلاد والديار أسلحتها،وحرب باردة تأتي على الهدوء والسكينة، فتزلزل الأمن والقرار من القلوب،وتثير الخوف والفزع في النفوس،وتهيج في المجتمع ألوان النفاق والأخلاق الفاسدة، وتحلّ عرى الجماعة،فيصبح الأخ عدواً لأخيه ،والأمة شيعاً وأحزاياً يتربص كلّ بالآخرين دوائر السوء، ويقدّر كل منهم أن خيره كله في نجاته هو،وشر الآخرين.وأنه ليس عليه لوطنه ،ولا لمواطنيه وبني جنسه شيء من الحقوق ينبعث بها الشعور من قلبه،ويتحقق بها معنى التعاطف والتراحم.
ولعمري أن العالم سيظل في هذه الحيرة،وهذا الاضطراب بل في هذا البحر اللجي من الشرور والمفاسد، ولا يجد راحة مادية، ولا يحسّ راحة روحية،ولا يتنسم شيئاً من النسيم الذي يبشر بالخلاص والنجاة،سيظل كذلك ما ظلّ متمسكاً بأهداب هذه النظم التي أنتجها الإنسان،واتخذها أساساً لحياته فما ذاق منها إلا الخوف والجوع، والظلم والطغيان.
ويتابع الاستاذ شلتوت رحمه الله:”وبحال أن تجد الإنسانية علاج هذا الطغيان فيما وضعه الإنسان أو يضعه بروح الآثرة والزهو والغرور،إنما العلاج الحق في الرجوع إلى ذلك العلاج الإلهي الخالد الذي يستند في صدوره وتنظيمه وإبداعه إلى العليم بخفيات النفوس، الخبير باتجاهات القلوب،وذلك هو الإسلام وحده الذي مهما تعددت مبادئه وتنوعت إرشادته يرجع إلى كلمتين اثنتين:إيمان،وعمل صالح{منْ عَملَ صالحاً من ذكرٍ أو أنثى وهو مُؤمنٌ فَلنحيينَّهُ حياةً طيبة ولنجزينَّهُم أجرَهُم بأحسنِ ما كانوا يعملونَ}[النحل97].{والعصر*إنَّ الإنسانَ لفي خُسر*إلا الذينَ أمنوا وعملوا الصّالحاتِ وتَواصوا بالحقِّ وتواصوا بالصّبر}.[العصر 1 ـ 3]
لقد مرّت على الإنسانية حقب انتبها فيها مثل ما انتابها في هذه الحقبة من شرور وآثام وطغيان،وما أنقذها من شر تلك الويلات إلا هذا العلاج الإلهي، زكاها وطهرها وعلمها الكتاب والحكمة، وحولها من مجاري الشر والشقاء إلى سبيل الخير والفلاح،والإنسانية هي الإنسانية، والويلات هي الويلات،والعلاج هو العلاج، فليكن علاج الآخرين هو علاج الأولين”.
ويقول الشيخ الأستاذ مصطفى السباعي رحمه الله:
“والإسلام كدين خالد يُمثل الحقّ في أروع صوره وأعظمها نقاء،يجد في كل جيل جُنوداً يبذلون في سبيله المُهج والأرواح،ويستلذّون في سبيل دعوته المرّ والصعب،لايعرف اليأس إلى قلوبهم سبيلاً،ولا الملل إلى عزائمهم طريقاً،وهذا تاريخ الإسلام منذ بزوغ فجره حتى اليوم مايزال تتلاحق فيه أفواج الدعاة جيلاً بعد جيل،كلما هلك منهم عَلم قام من بعده أعلام، وكلما هوى منهم في الطريق مُصلح تتالى من بعده مصلحون وكلما هزّتهم نكبة ارتفعت رؤوسهم من بعدها شرفاء صادقين لاتزيدهم النكبات إلا صدق عزيمة وشدة مِراس”.
ولقد كرّم الله عز وجل رجال الدعوة من المؤمنين، حيث قرن الإيمان بالله مع الدعوة إليه ، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي من صفات المؤمنين بخلاف المنافقين: {المُنافقونَ والمُنافقاتُ بَعضُهم من بعضٍ يأمُرُونَ بالمُنكَرِ ويَنهَونَ عن المعروف}[التوبة67] {والمُؤمِنُونَ والمؤمناتُ بَعضُهُم أولياءُ بعضٍ يأمُرُون بالمعروفِ ويَنهون عن المنكر}[التوبة 71].
وكل من يسمع نداء الدعوة عليه أن ينقلها إلى الآخرين، يقول تعالى: {الذينَ يُبَلِّغُونَ رسالاتِ الله ويَخشَونَهُ ولايَخشَونَ أحداً إلا الله وكَفى بالله حسيباً}[ الأحزاب 39].
وقال صلى الله عليه وسلم: “نَضّرَ الله امراً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلّغها، فَرُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه” [رواه الترمذي]، وفي رواية زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ” نَضّرَ الله امراً سمع مني حديثاً فحفظه حتى يُبلغه غيره، فإنه رُبَّ حامل فقهٍ ليس بفقيه، ورُبّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه” [أخرجه الحاكم وأحمد وغيرهما بسند صحيح].وفي حديث آخر رواه البخاري:”ليبلِّغ الشاهد منكم الغائب فإنّ الشاهد عسى أن يُبلّغ من هو أوعى له منه“.وجاء في الحديث الشريف الذي رواه الشيخان عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه:”مثل مابعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً:فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير. وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا.وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لاتمسك ماء ولاتنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه مابعثني الله به فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به”.
إن المؤمن الحق هو الذي لايكتفي بتطبيق الإسلام على نفسه وأسرته، وينعم بنعيم الإيمان وحلاوة الإسلام، وإنما هو من يسعى لحمل دعوة الله إلى كل النفوس الظامئة إلى مَعين الحق والهداية، والمتشوّقة إلى نور المعرفة والبعد عن ظلمات الغواية.
يقول الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله:
“إن الدعوة فرض على كل مسلم.وكل مسلم مأمور بالدعوة إلى دينه بصورة ما، وبطريقة ما،كل مافي الأمر أن صورة الدعوة تختلف من شخص لآخر، حسب الاستطاعة والإمكان.فهناك من يدعو إلى الله بتأليف كتاب أو كتب.وهناك من يدعو إلى الله بإلقاء محاضرة في جامعة أو في مركز ثقافي.وهناك من يدعو إلى الله بإلقاء خطبة جمعة في مسجد أو إلقاء درس ديني فيه.وهناك من يدعو بالكلمة الطيبة، والصحبة الجميلة، والأسوة الحسنة.وهناك من يدعو بالإنفاق على الدعاة، أو على نشر انتاجهم، أو على تأسيس مركز للدعوة، على نحو ماقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا“.[رواه الشيخان عن زيد بن خالد]، ونحن نقيس عليه فنقول: من جهز داعياً إلى الله فقد دعا”.انتهى كلام القرضاوي .
إننا عندما نتحدث في وجوب الدعوة إلى الله، ومن هو الداعية إلى الله، لابد أن ننتبه بشكل خاص إلى هذه النقاط الثلاثة الآتية:
1 ـ يظن البعض ـ وظنه خاطئ بالطبع ـ أنه عندما يقرأ قوله تعالى: {يا أيُّها الذين آمنوا عليكُم أنفُسَكُم لايَضُرُّكُم من ضَلَّ إذا اهتديتُم}[ المائدة 105] ، أن هذه الآية تُجيزله السكوت عن المنكر إذا رآه،وتبيح له الابتعاد عن تغيير الباطل إذا استطاع، مادام هو وأسرته في دائرة الإيمان،يواظبون على أداء شعائر الإسلام!! ولقد نبّه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وبيّن للناس خطأ فهمهم عند قراءة هذه الآية، وقال مُبيناً وموضحاً: “يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ” إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يَعمّهم الله بعقاب منه” [رواه أبو داود وغيره].
نعم، إن دعوة الناس ملزمة لكل مسلم، وواجب على كل من اعتنق هذا الدين، ولكنّ الله عز وجل يبيّن في الآية السابقة أنه إذا لم يهتدِ الضال بعد بيان طريق الهداية له، ولم يتبع المنحرف سبل السلام بعد إرشاده إليها، فإنه هو المسؤول عن ذلك، ولايجازى على الجرم بعدئذ سواه: {ولاتزر وازرةٌ وِزرَ أخرى}[فاطر18]، وأما من يظن أن هذه الآية تبرر له قعوده وتقاعسه وتخلصه من واجب الدعوة، مادام هو في نفسه صالحاً مهتدياً، فإنه الوهم بعينه!!
إن أمر الدعوة إلى الله ليس تطوعاً، وإنما هو التكليف الصارم الجازم الذي لامفر من أدائه وإن أمر الدعوة إلى الله ليس الشعور باللذّة الذاتية في حمل الخير والهدى إلى الناس فقط، ولكنه الاستجابة للأمر العلوي الذي لاتردد معه ولاهروب من تبعاته: {قُلْ إنِّي لن يُجِيرَني من الله أحدٌ ولن أجِدَ من دُونهِ مُلتَحَداً* إلا بلاغاً من الله ورسالاتهِ ومن يَعصِ اللهَ ورَسُولَهُ فإنَّ لهُ نارَجهنمَ خالدينَ فيها أبدا}[الجن22 ـ 23].
2 ـ يقول بعضهم: إن مهمة الدعوة إلى الله من الفروض الكفائية لا العينية، ويستندون إلى ذلك بقوله تعالى: {ولتَكُن مِنكُم أمَّةٌ يَدعُونَ إلى الخيرِ ويأمُرُونَ بالمعروفِ ويَنهَونَ عن المُنكَرِ وأُولئِكَ هُمُ المفلحون}[ آل عمران 104].ونجيبهم على ذلك قائلين: قد يكون لهذا الكلام صحة في حال وجود حكومات ومجتمعات إسلامية تطبق الإسلام، وتُربي الدعاة وتوجههم، وتساهم في إرشاد وهداية باقي الأمم والناس، ولكننا اليوم وفي عصرنا الحاضر، حيث تتعرّض الأمة الإسلامية لأقوى أنواع الضغوط، ويُتربص بها الدوائر من كل جانبن وحيث سلطّت قوى البغي والشر كل ماتملكه لمحاربة الإسلام والمسلمين، من خلال الافتراءات المتكررة، والشبهات المدمرة،والتشكيك المستمر الدائم في حقائق الإسلام ويقيناته، والسخرية من الدين وأتباعه سراً وعلناً، جهاراً نهاراً، وإطلاق نيران الشهوات والفتن والأهواء من خلال أبالسة الإنس أتباع إبليس الجن… إن كل هذا يفرض على كل مسلم صادق النفس مع الله، ومخلص القلب والنيّة، أن يتحوّل إلى جندي يقوم بواجب الدعوة إلى الله قدر الاستطاعة،وفي نطاق إمكانياته، من أجل أن يسد ثغرة… وما أكثر الثغرات؟! ومن أجل أن يدفع باطلاً…وما أكثر الباطل؟! ومن أجل أن يسترد حقاً… وما أكثر الحق المُضَيّع؟!
نعم، إننا في هذه الأيام بالذات بحاجة إلى كل فرد واع، ومسلم مخلص أمين صادق، وإلى كل جهد مثمر وكل طاقة ممكنة لمواجهة التحديات… وما أكثرها؟!
يقول الأستاذ عصام العطار حفظه الله: “إنّ التخلي عن العمل الإسلامي في هذه الأيام بالذات هو تخلٍ عن الإسلام نفسه، وإسهامٌ في هزيمته وانتصار أعدائه عليه، ولا يفعل ذلك مسلم صادق الإسلام،ولارجل عنده ذرة من الغيرة والمروءة والوفاء”.
3 ـ وهناك من يدّعي أن مهمة القيام بالدعوة إلى الله ونشرها تفرض على من يريد أن يتصدّى لها أن يكون على جانب كبير من العلم والمعرفة وأمور الشريعة والدين.ونقول لهم: إن المكلف بالدعوة إلى الله هو كل مسلم ومسلمة، لأن الأمة الإسلامية تتكوّن منهم،وأمر الدعوة لايختص بالعلماء فقط أو من يسمونهم خطأ ” رجال الدين” فهؤلاء يختصون بتبليغ تفاصيل الدين وأحكامه ومعانيه، نظراً لسعة علمهم ومعرفتهم بالكليات والجزئيات.
إن أكبر الدعاة إلى الله وأكثرهم تأثيراً وإرشاداً هو من يتمثّل الإسلام في حياته ، ويُطبقه في واقعه، ويعمل بتشريعاته وأحكامه، ويتادّب بأدابه، ويتجّمل بصفاته، وهذا واجب كل مسلم.وقد يكون هذا أعظم أثراً من محاضرات طويلة تُلقى، أو مواعظ عديدة تُتلى، وخاصة إذا لم يقترن الوعظ أو الخطاب بأخلاق القرآن وحلاوة الإيمان.
نعم، إن كل مسلم هو مُكلّف بالدعوة إلى الله على قدر استطاعته وإمكانياته. يقول تعالى: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرةٍ أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين}[يوسف 108].
وجاء في الحديث الشريف الذي أخرجه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” فليبلغ ـ العلم ـ الشاهد الغائب”.ويدخل في معنى الشاهد كل مسلم علم من أمر الإسلام شيئاً.
يقول الأستاذ محمد لطفي الصباغ حفظه الله في كتابه” قضايا في الدين والحياة والمجتمع” يقول حفظه الله: “إن على كل واحد من رجال الإسلام أن يُسهم في عرض مايعلم من حقائق هذا الدين، وألا يكلّ ولايملّ، وأن يستغل كل فرصة ويغتنم كل مناسبة، وذلك لأن للكلمة سلطاناً كبيراً، ولاسيما إن قيلت في الوقت المناسب والأسلوب المُحبّب”.
نعم، إن الاسلام لايتحَقّق في النفوس، ولاينتشر بين الناس إلا بوجود الرجال الدعاة وإلا بقي ـ كما يحاول البعض ـ تراثاً وكتباً تملأ المكتبات، ونظريات لاتشاهد طريقها في عالم الواقع والحياة، فلابد من وجود هؤلاء الرجال الدعاة ولابد من أن يُطّوروا أنفسهم وإمكانياتهم، لكي يواجهوا عالماً متغيراً مليئاً بالمطامع والأحقاد، غارقاً في السفاسف والإلحاد، بعيداً عن الإيمان والأخلاق، موسوماً بالكفر والنفاق.
يقول الشيخ العلامة محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله(مقال:عواقب سكوت علماء الدين عن الضلال في الدين ـ جريدة البصائر العدد 36 بتاريخ 17 أيار عام 1948):
“ولعلماء الإسلام سلطان على الأرواح ،مستمدّ من روحانية الدين الإسلامي وسهولة مدخله إلى النفوس:تخضع له العامة عن طواعية ورغبة،خضوعاً فطريّاً لا تكلف فيه،لشعورها بأنهم المرجع في بيان الدين،وبأنهم لسانه المعبر حقاً عن حقائقه،والمبين لشرائعه،وبأنهم حُراسه المؤتمنون على بقائه،وبأنهم الورثة الحقيقيون لمقام النبوة،وكان العلماء يجمعون بين وظيفة التبيين في التعبديات، وبين وظيفة التقنين في المعاملات،أما الخلفاء فلم تكن وظيفتهم ـ في الحقيقة ـ إلا التنفيذ لما يراه العلماء من مصلحة في المعاملات الفردية أو الاجتماعية.
بقي العلماء ظاهرين على الحق،يتولون القيادة الحقيقية للأمة في غير ما يمسّ السلطان المادي الزائف،وكانوا أيقاظاً لكل حدث يحدث في الإسلام،وكانوا كلّما رأوا شبح بدعة خفّوا إلى إزالتها:وكلّما أحسّوا بضلالة ومنكر في الدين بادروا إلى تغييره بالفعل والقول:يُجسم لهم الاحتياط الصغائر فيعاملونها معاملة الكبائر،لا يتساهلون ولا يترخّصون،سداً لذرائع الفتنة والضلال،وكانوا يصدرون في أعمالهم وأحكامهم عن الكتاب والسنّة،فيصدرون عن الدليل الذي لا يضلّ ،ويستندون إلى الحجة التي لا تُدحض،وكانت الأمة ترجع إليهم ،فترجع إلى وحدة متماسكة في الدين لا تتفرّق بها السبل،ولا تتشعّب الآراء،إلى أن فتنتهم المذاهب والخلافات الجدلية في أصول الدين وفروعه،وغطّت عليهم العصبيات المذهبية وجه الحق،فرأت منهم العامة غير ماكانت ترى من وحدة في الدين،عاصمة لوحدتها في الدنيا،ووحدة في العلم،عاصمة من تفرّقها في المصالح،وجرّوها إلى ماهم فيه من خلاف،فجرّتهم إلى ماهي فيه من فساد،وضعف لذلك سلطانهم عليها،فتوزّع أمرها أمراء السوء الظالمون،وقادة السوء الجاهلون،واجتمع هؤلاء على قصد واحد وهو استغلال العامة فاصطلحوا.
ويتابع رحمه الله:”ماظلم الله العلماءـولكن ظلموا أنفسهم،ولم يشكروا نعمة العلم،فسلبهم الله ثمراته من العزة والسيادة،والإمامة والقيادة،وكان لخلو ميدان السلطة والأمر منهم أثر فاتك في عقائد المسلمين وأخلاقهم،وكان من نتائجه إلقاء الأمة بالمقادة إلى من يُضلّ ولا يهدي من المشعوذين الدّجالين.فاضلوها عن سواء السبيل،ومكّنوا فيها للداء الوبيل”
ويقول الشيخ الإبراهيمي رحمه الله في مقال آخر(وظيفة علماء الدين ـ مجلة المنهل بتاريخ اكتوبر عام 1952):
“لا توجد في الإسلام “وظيفة” أشرف قدراً،وأسمى منزلة،وأرحب أفقاً، وأثقل تبعة،وأوثق عهدا،وأعظم أجراً عند الله ،من وظيفة العالم الديني!ذلك لأنه وارث لمقام النبوّة وآخذ بأهم تكاليفها وهو الدعوة إلى الله وتوجيه خلقه إليه وتزكيتهم وتعليمهم وترويضهم على الحق حتى يفهموه ويقبلوه،ثم يعملوا به ويعملوا له.
فالعالم،بمفهومه الديني في الإسلام،قائد ميدانه النفوس،وسلاحه الكتاب والسنّة وتفسيرهما العملي من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وفعل أصحابه،وعونه الأكبر على النتصار في هذا الميدان أن ينسى نفسه ويذوب في المعاني السامية التي جاء بها الإسلام،وأن يطرح حظوظها وشهواتها من الاعتبار،وأن يكون حظه من ميراث النبوة أن يزكي ويعلم وأن يقول الحق بلسانه ويحققه بجوارحه،وأن ينصره إذا خذله الناس،وأن يجاهد في سبيله بكل ما آتاه الله من قوّة.
أما الوسيلة الكبرى في نجاحه في هذه القيادة فهي أن يبدأ بنفسه في نقطة الأمر والنهي فلا يأمر بشيء مما أمر به الله ورسوله حتى يكون أول فاعل له،ولا ينهى عن شيء مما نهى الله ورسوله عنه حتى يكون أول تارك له..كل ذلك ليأخذ عنه الناس بالقدوة والتأسي أكثر مما يأخذون عنه بوساطة الأقوال المجرّدة والنصوص اللفظية،لأن تلاوة الأقوال والنصوص لاتعدو أن تكون تبليغاً،والتبليغ لا يستلزم الاتّباعنولا يثمر الاهتداء ضربة لازم ولا يعدو أن يكون تذكيراً للناسي وتبكيتاً للقاسي،وتنبيهاً للخامل،وتعليماً للجاهل وإيقاظاً للخامل وتحريكاً للجامد ودلالة للضال…أما جر الناس إلى الهداية بكيفية تشبه الإلزام فهو في التفسيرات العملية التي كان المرشد الأول يأتي بها في تربيته لأصحابه،فيعلمهم باعماله،أكثر مما يعلمهم بأقواله..لعلمه ـ وهو سيد المرسلين ـ بما للتربية العملية من الأثرفي النفوس،ومن الحفز إلى العمل بباعث فطري في الاقتداء”.
يقول سيد قطب رحمه الله في كتابه ” دراسات إسلامية” يقول: “إن النصوص وحدها لاتصنع شيئا ،وإن المصحف وحده لايعمل حتى يكون رجلاً،وإن المبادئ وحدها لاتعيش إلا أن تكون سلوكاً، وقد كان الهدف الأساسي الذي عمل له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصنع رجالاً لا أن يلقي مواعظاً فقط، وأن يَصوغ ضمائراً لا أن يُدبج خطباً، وأن يبني أمة لا أن يُقيم فلسفة.
أما الفكرة ذاتها فقد تكفل بها القرآن الكريم، وكان عمل سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم أن يُحوّل الفكرة المجردة إلى رجال تلمسهم الأيدي وتراهم العيون، فلما انطلق هؤلاء الرجال في مشارق الأرض ومغاربها، رأى الناس فيهم خلقاً جديداً لاعهد للبشرية به، لأنهم كانوا ترجمة حية لفكرة لاعهد للبشرية بها. عندئذ آمن الناس بالفكرة لأنهم أمنوا بالرجل الذي تتمثل فيه، واندفعوا يحققونها في ذواتهم بالقدوة، فيسلكون نفس الطريق” ويتابع رحمه الله وغفر له: ” ولقد انتصر محمد بن عبد الله يوم صاغ من فكرة الإسلام شخوصاً، وحوّل إيمانهم بالإسلام عملاً، وطبع من المصحف عشرات من النسخ ثم مئات وألوفاً، ولكنه لم يطبعها بالمداد على صحائف الورق، إنما طبعها بالنور على صحائف من القلوب”.
ولابد أن يُنمّي الداعية نفسه باستمرار: ثقافة وعلماً ووعياً، وأن يستكمل جوانب الإيمان في نفسه: خُلقاً وتَصرفاً وسلوكاً، وأن يتحلّى بالصفات الرّبانية ما أمكنه،لكي نشاهد مانتمناه في هذا الدين العظيم: رجالاً وصفهم الأستاذ عصام العطار فأحسن الوصف: ” إننا نحتاج رجالاً لهم روح الأنبياء وصدق الأنبياء، وأخلاق الأنبياء،وصبر الأنبياء، وبصيرة الأنبياء، وجهادهم الخالص وارتفاعهم على المخاوف والشدائد والمغريات، والصغائر والتفاهات والأهواء، وثقتهم المطلقة بوعد الله، وتوكلهم عليه وتضحيتهم في سبيله في مختلف الظروف… ليُلهبوا نفوس المسلمين ويبعثوهم من الرقاد واليأس والإحباط والاستسلام، ويقودوا خطاهم بثقة وعزم، وأمانة وحكمة ووعي، إلى التحرر والتقدم والنجاة وإلى الحياة الكريمة والمستقبل المأمول” .
نعم ، إن دعوة الإسلام تدعو من يحملها ويؤمن بها أن ينقلها إلى الناس، كل الناس، من الفرد إلى المجموع، ومن الجزء إلى الكل، ومن أمة التوحيد إلى سائر أمم العالمين: { يا أيُّها الرسولُ بَلِّغ ما أُنزِلَ إليكَ من رَبِّكَ وإن لم تفعل فما بَلَّغتَ رِسَالَته}[المائدة67]
يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله في أخر مؤلف له[مقومات التصور الإسلامي] يقول رحمه الله:
“إن طبيعة هذا الدين ترفض اختزال المعارف الباردة في ثلاجات الأذهان الجامدة! إن المعرفة في هذا الدين تحول لتوها إلى ” حركة” وإلا فهي ليست من جنس هذا الدين” ويتابع رحمه الله” إن المعرفة للمعرفة ليست منهجاً إسلامياً… في الإسلام المعرفة للحركة، والعلم للعمل، والعقيدة للحياة” ويتابع:” واليوم لاقيمة للمعرفة التي لاتتحول ـ لتوها ـ إلى حركة، لاقيمة للدراسات الإسلامية في شتى مناهجها وشتى معاهدها، لاقيمة لاكتظاظ رفوف المكتبات بالكتب الدينية، ولا باكتظاظ الأدمغة بمضمونات هذه الكتب. إن هذا ليس هو الإسلام وليس هو العلم الديني. العلم الديني شئ يزاول في الحياة ويطبق في المجتمع، ويعيش في الواقع، ويتمثل في نظام، والإسلام هو سيادة هذا النظام، وليس للإسلام من صورة أخرى يعرفها الإسلام ويرضاها الله”.
الدعوة إلى الله والحركات وسائل لاغايات، وحتمية العمل الجماعي:
يقول الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله:”يجب أن يوقن الداعية أنه يدعو إلى سبيل الله، أي طريق الله،أي منهج الله الذي رسمه لهداية الناس حتى يُحسنوا العبادة لله وحده، ويُحسنوا التعامل بعضهم مع بعض، وبذلك يسعدون في الدنيا ويفوزون بحسن المثوبة في الآخرة.إن الداعية المسلم هنا لايدعو الناس إلى نفسه أو إلى قومه، بل يدعوهم إلى ربه وحده{ما كانَ لِبَشرٍ أن يُؤتِيَهُ الله الكِتابَ والحُكمَ والنُّبوَّةَ ثُمَّ يَقولُ للنَّاسِ كُونُوا عِباداً لي من دُون الله ولَكِن كُونوا رَبَّانيينَ بما كُنتُم تُعَلِّمونَ الكتابَ وبما كُنتُم تدرسون}[آل عمران79] إنه لايدعو إلى نظام بشري ولا إلى فلسفة أرضية، ولا إلى قانون وضعي، بل يدعو إلى تحرير البشر من العبودية للبشر، وأن يتحرروا من عبودية بعضهم لبعض، وربوبية بعضهم لبعضن وأن يكونوا جميعاً عباداً لله وحده الذي خلقهم وسخر لهم مافي السماوات ومافي الأرض جميعاً منه، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة.ولهذا كانت رسائل محمد صلى الله عليه وسلم إلى ملوك أهل الكتاب مختومة بهذه الآية{قُل يا أهل الكِتابِ تَعالَوا إلى كَلمةٍ سَواء بَينَنا وبَينَكُم ألّا نَعبُدَ إلاّ الله ولانُشرِكَ بهِ شَيئاً ولايَتَّخِذَ بَعضُنا بَعضاً أرباباً من دون الله}[آل عمران64].انتهى كلام القرضاوي.
إن الدعوة إلى الله تعطي ثماراً أفضل ومردوداً أوسع، إذا ماتمت من خلال عمل جماعي منظم، تتناسق فيه الجهود وتتآزر فيه الإمكانيات، ولكننا نرتكب أفدح الأخطاء، وأشدّ الحماقات عندما ننجرف في التيار الأناني الذي يدعو إليه وللأسف بعض الدعاة، الذين يجعلون الهدف الرئيسي في مجال الدعوة، دعوة الناس إلى نظريات أو مذاهب أو أحزاب أو شخصيات معينة،ضاربين بعرض الحائط الهدف الرئيسي، وهو الدعوة إلى الله وإلى منهاجه السليم القويم، ويصبح هدف هؤلاء الدعاة وللأسف تجميع الناس بغض النظر عن ثقافتهم وسلوكهم الإسلامي، ليس من أجل الدعوة إلى الله، ولكن من أجل محاربة التنظيمات والجمعيات والأحزاب الأخرى والدخول معها في معارك طاحنة، تارة باللسان وطوراً بالسنان!!
إن من وراء هذه الدعوات التي لم يرد بها وجه الله أناساً حملوا شعارات الإسلام ورفعوا راياته،ولكنهم وللأسف يتخذون الإسلام سلماً للوصول إلى مصالحهم الدنيوية ومنافعهم المادية،ويساعدهم في انحرافهم هذا جهل الأفراد الذين ينضوون تحت لوائهم، وسذاجة الأتباع الذين يصدقون أقوالهم،إن أمثال هؤلاء الناس أقرب للجهل منهم للعلم، وللسذاجة أقرب منهم للوعي، ونسأل الله أن يشرح صدورهم لمعرفة الحق وإتبّاعه،وأن يهديهم وإيانا إلى الصراط المستقيم.
يقول الأستاذ العلامّة الشيخ محمد لطفي الصباغ حفظه الله في كتابه [ نداء إلى الدعاة]:
“إن الكارثة الكبرى في العمل الإسلامي أن تَتحوّل تنظيماتنا إلى غايات،يُقدم لها الولاء،وتضحي أحزاباً توجه إليها ضروب التبعية والاحترام دون وعي ولابصيرة،وأن يفكر الشباب بغير العقلية الإسلامية الرشيدة حتى يغدو الإنحراف شيئاً مألوفاً مستحسناً” ويتابع حفظه الله: “إن الإلحاح على موضوع الولاء للتنظيم بعيداً عن ذكر الكتاب والسنة يُبلّد في الأخ السامع الإحساس بالغلط، ويُصّم أذنيه عن سماع الحق، ويُعمي عينيه عن رؤية الخطأ، ويُشل تفكيره، فهو لايسمع إلا نغماً واحداً، ولايرى إلا بعين واحدة، ولاينظر إلا صفحة واحدة، ولايفكر إلا في مسار واحد…إنه ليس على استعداد لقبول أية كلمة مهما كانت هذه الكلمة مهذبة وموضوعية مادامت تتصل بشئ يفهم منه نقد الجماعة التي يعمل فيها”.
ويقول الأستاذ عصام العطار حفظه الله:
“إن الأصل في الدعوة أن تكون للإسلام،ولابد أن تعرف كل حركة من الحركات أو جماعة من الجماعات أو حزب من الأحزاب أنها وسيلة لخدمة الإسلام وإقامة نظامه وحكمه وهداية الناس إلى سواء السبيل،ولايجوز بحال من الأحوال أن نضع الوسيلة في مستوى الغاية أو نعطيها مكانها أو نُحِلّها مَحلها فهذا إن حصل انحراف خطير عن الإسلام نفسه وضلال يتسع مداه على الأيام”.ويقول أيضاً:”إنني عندما أفكر للإسلام والمسلمين لا أفكر لهم في حدود سني وصحتي وعُمري، فلا أحبسُ أهدافهم في حدود طاقتي وقدرتي وحياتي وموتي، وإنما أفكر لهم في حدود الإسلام وما يطلبه الإسلام في الحاضر والمستقبل. إن أهدافي البعيدة هي أهداف الإسلام والمسلمين جميعاً، وما لا أستطيع تحقيقه بنفسي يُحققّه غيري، أو تُحققّه الأجيال المقبلة من بعدي.. وحَسبي أن أؤدي بإخلاص دوري الذي أستطيع أداءه في العمل الإسلامي الشامل المنبسط في المكان ، والممتد في الزمان، الذي يجب أن تتكامل فيه الجهود كلها في العصر الواحد، وعبر سائر العصور،أما أن اجعل نفسي هي الأصل لا الإسلام، وأُحدّد بظروفي الخاصة أهداف الإسلام والمسلمين، وآمال الإنسان.. فأنانيةٌ وانتهازيةٌ واستغلال، وخيانة لله ولرسوله وللمسلمين، ولسائر الناس”.
نعم لابد من التقاء الجهود وتَوحد الرايات من أجل الهدف الأسمى والنبيل الذي التقى عليه جميع المخلصين من الدعاة بغض النظر عن اختلاف مشاربهم وتعدد اجتهاداتهم لأن الرب واحد والدين واحد والنبي واحد، وكذلك لأننا في مواجهة مجموعة من الأعداء المتشاكسين فيما بينهم ولكنهم التقوا على هدف واحد وهو القضاء على دعوة وروح وجوهر الإسلام في هذه الأمة.
يقول الأستاذ الدكتور محمد لطفي الصباغ حفظه الله:”تعيش أمتنا الإسلامية في هذه الحقبة من عمرها حياة مُضطربة قلقة.وتمتلكها الحيرة في اختيار الطريق.إنها على مفترق طرق في حياتها الفكرية والسياسية والاجتماعية ،وقد خُطط لها أن تحيا الحقبة الدقيقة، في ظل أنظمة هدّامة تكيد للإسلام ورجاله،وتُنكّل بدعاته وعلمائه،وتطارد آثاره في شتى جوانب الحياة. ذلك لأن هذا الدين هو الذي استطاعت الأمة بتمسكها بتعاليمه أن تقاوم كل مخططات الإبادة والعدوان التي تعرضت لها،وأن ترد كيد المعتدين إلى نحورهم،وأن تخرج من معظم المعارك ظافرة محتفظة بمقومات وجودها.
إن على دعاة الإسلام أينما كانوا، سواء أكانوا في بلادهم أم كانوا مشردين تحت كل كوكب، مُبعثرين في أرجاء المعمورة،أن يدركوا أهمية هذه الحقبة، وأن يَتعالوا على أنانياتهم، وأن يعلموا حق العلم أن نزاعهم بعضهم مع بعض سلاح في أيدي أعدائهم، وأن القضاء عليهم هدف اجتمعت عليه قوى الكفر واتجاهاته، وأنه قضاء حاسم لامراعاة فيه ولارحمة ولالين.إن أعداء الإسلام لايفرقون بين حركة وحركة ولابين اتجاه واتجاه..إن على الدعاة أن يعلموا أنهم بنزاعهم يُمكّنون لعدوهم من استئصالهم جميعاً”.
ويقول الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله في كتابه الحل الإسلامي…فريضة وضرورة:”العمل الجماعي ضرورة، لأن هذا مايفرضه الدين والواقع معاً:
ـ فالدين يأمرنا بالإتحاد والتعاون على البر والتقوى، وهذا من أخصّ أعمال البر والتقوى وأهمها وأشدها خطراً.
ـ والقرآن يطالبنا فيقول:{ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأؤلئك هم المفلحون}[آل عمران104].
والأمة ليست مجموعة أفراد متناثرين ولامجرد جماعة.
ـ والقاعدة الشرعية تقرر:”أن مالايتم الواجب إلا به فهو واجب” وإقامة مجتمع إسلامي تحكمه عقيدة الإسلام وشريعته، أمر واجب، ولاسبيل إلى تحقيق هذا الواجب إلا بجماعة وأمة.
ـ والواقع يرينا أن المرء قليل بنفسه كثير بإخوانه، وأن جهود الأفراد مهما توافر لها من إخلاص، لاتستطيع أن تؤثر التأثير المطلوب لتحقيق الهدف المنشود، لأنها ضعيفة الطاقة محدودة المدى،وقتية التأثير.
ـ وإذا نظرنا إلى القوى المناوئة للإسلام ـ على اختلاف أسمائهم وأهدافها ووسائلها ـ وجدناهم يعملون في صورة جماعات وتكتلات وأحزاب وجبهات، ولايُقبل ـ في ميزان الشرع ولا العقل ـ أن يقابل الجهد الجماعي المنظم، بجهود فردية مبعثرة، وإنما يقابل التكتل بتكتل مثله أو أقوى منه، ويقابل التنظيم بالتنظيم.وإلى هذا يشير قوله تعالى{والذينَ كَفروا بَعضُهُم أولياءُ بعض إلاّ تفعلوهُ تَكُنْ فتنةٌ في الأرضِ وفسادٌ كبير}[الأنفال 73]، أي: إن لم يُوالِ بعضكم بعضاً، وينصر بعضكم، كما يفعل الكفار، تحدث الفتنة والفساد، لأتحادهم وتفرقكم وتناصرهم وتخاذلكم”.
ويلخص الشيخ القرضاوي المعالم الرئيسية للعمل الإسلامي الراشد في مايسمى الخطوط العشرة لترشيد الصحوة وهي كما يلي:
1 ـ من الشكل والمظهر إلى الحقيقة والجوهر،فإن دين الله عقائد وأعمال وليست صوراً وأشكالاً”إن الله لاينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم”.[رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه].
2 ـ من الكلام والجدل إلى العطاء والعمل”فإن الله إذا أراد بأمة سوءاً فتح عليهم باب الجدل ومنع العمل” كما قال الإمام الأوزاعي.
3 ـ من العاطفية والغوغائية إلى العقلانية والعلمية، لأن الله لاينصر الأمم بالفوضى والجهل.
4 ـ من الفروع والذيول إلى الرؤوس والأصول، إذ من ضيع الأصول حرم الوصول.
5 ـ من التعسير والتنفير إلى التيسير والتبشير، لأن من قواعد دين الله رفع الحرج، وإن الرفق مادخل شيئاً إلا زانه وماخلا من شئ إلا شانه.
6 ـ من الجمود والتقليد، إلى الاجتهاد والتجديد، إذ كما قال جار الله الزمخشري” امش في دينك تحت راية السلطان، ولاتقنع بالرواية عن فلان وفلان، فما الأسد المحتجب في عرينه بأعز من الرجل المحتج على قرينه، وما العنز الجرباء تحت الشمأل البليل بأذل من المقلد عند صاحب الدليل”، وكما قال البشير الإبراهيمي” إن بهيمة تنقاد خير من مقلد ينقاد”.
7 ـ من التعصب والانغلاق، إلى التسامح والانطلاق، فإن سعة الصدر وسعة الأفق من شيم النفوس الكبيرة، وضيق العطن وضعف النظر، من شيم النفوس الحقيرة.
8 ـ من الغلو والانحلال إلى الوسطية والاعتدال،فإن دين الله بين الغالي فيه والجافي،وقد أثر من كلام علي رضي الله عنه”عليكم بالنمط الأوسط الذي يلحق به التالي ويرجع إليه الغالي”.
9 ـ من العنف والنقمة إلى الرفق والرحمة،فإن أهل السنة يعظمون الحق ويرحمون الخلق.
10 ـ من الاختلاف والتشاحن إلى الائتلاف والتضامن،لأن الله أمر المؤمنين بالاعتصام، وترك التنازع والاختلاف حيث قال سبحانه{ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}[الأنفال 46] وقد أثر من كلام السلف” كدرُ الجماعة خير من صفو الفرقة”، و” إن الاجتماع مع الضعف قوة،والافتراق مع القوة ضعف”.
الدعوة في كل زمان ومكان وفي كل الظروف والأحوال:
إن الدعوة إلى الله عزّ وجلّ، ليست عبادة مشروطة بزمان أو مكان معين كبعض العبادات مثل الصلاة والصيام والحج… وإنما هي عبادة يقوم بها كل مسلم قادر في كل الظروف وفي كل الأماكن.والدعوة إلى الله ودينه القيّم الحنيف واجب على كل مسلم ومسلمة حسب امكانياته وظروفه.ولنا في رسول الله وصحابته ومن تبعهم ووالاهم القدوة الحسنة والنبراس الذي يستضئ به الدعاة ويسلكون الصراط السوي المستقيم.
يقول الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله(مجلة المنار العدد117):
“ماقام دين من الأديان ولا انتشر مذهب من المذاهب ولاثبت مبدأ من المبادئ إلا بالدعوة.وما تداعت أركان ملة بعد قيامها ولا انتكث فتل شريعة بعد أحكامها ولادرست رسوم طريقة بعد ارتفاع أعلامها إلا بترك الدعوة.فالدعوة حياة كل أمر عام تدعى إليه الشعوب والأقوام سواء كان ذلك الأمر حقاً وغصلاحاً في نفسه أو كان باطلاً مموهاً بالحق وإفساداً مغشى بالإصلاح ومسمى باسمه.ومن راجع التاريخ يعلم أنه ماوجد أحد يدعو إلى شئ ولم يجد تابعاً وهانحن أولاء نرى المذاهب الباطلة تنمو بالدعوة ويعم انتشارها والمذاهب الحقة تتضاءل وتعفى آثارها.
وقد بدأ الإسلام يضعف منذ اقتنع أهله بالترف والنعيم وأهملوا العناية بالدعوة إليه وإنما طال زمن نموه وكثرة ماصرفه من الموانع لقوته وأصالته في الحق ولذلك ما أمكن لأهل دين آخر أن يردوا مسلماً يعرف الإسلام عن دينه بل صعب عليهم أن يردوا المقلدين فيه عنه لوضوح الفرق بينه وبين مايدعون إليه من الأديان الاخرى وغاية ما أمكنهم هو أن يفتنوا عدداً قليلاً ممن ليس لهم من الإسلام إلا أنهم من صنف يسمى أهله المسلمون ويسمى دينهم الإسلام “.
وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يترك فرصة للدعوة إلا استغلها، ولم يجد مجالاً وطريقاً للدعوة إلا سلكه، بدون أن يعيقه عائق أو حائل.دعا قومه ولم يأل في دعوته، وواجهه قومه وكفار قريش بكل مجالات التكذيب والافتراء والعناد والإعراض والأذى النفسي والجسدي حتى أنهم همّوا بقتله، ومع ذلك بقي ثابتاً كالطود، راسخاً كالجبال، لم يُقصّر ولم ينهار ولم يفقد العزيمة والصبر،وعندما وجد منهم كل ذلك لم يتوقف عن الدعوة لهم ولغيرهم حيث توجه إلى الطائف ،وعمد إلى نفر من ثقيف فدعاهم فلم يقبلوا دعوته، بل أغروا به سفهاءهم وعبيدهم ورموه بالحجارة وأمعنوا في أذاه، فلجأ إلى بستان ودعا ربه بهذا الدعاء الرائع، دعاء النبي الواثق بربه ودعوته مخافة أن يكون قد قَصّر في دعوته وحاشا لله أن يكون قد قصّر، فيقول مخاطباً ومناجياً الله عز وجل:” اللهُمَّ إليك اشكو ضَعف قُوتي، وقِلّة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، وأنت ربُّ المُستضعفين، وأنت ربي، إلى من تَكلني؟ إلى بعيدٍ يتجَهمني؟ أم إلى عدوٍ مَلكّته أمري؟ إن لم يكن بك عليَّ غضبٌ فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي،أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمرُ الدنيا والآخرة ،من أن تُنزل بي غَضبك، او يَحلّ عليّ سخطك، لك العُتبى حتى ترضى، ولاحول ولاقوة إلا بك“.ولم يقف به الأمر عند دعوة قومه والاتجاه للطائف، بل إنه كان أيضاً كان يعرض نفسه على قبائل العرب في المواسم يدعوهم إلى الله،وأنه رسوله المرسل، وكان أن استجاب له رهطُ من الخزرج حين دعاهم، وقال بعضهم لبعض:ياقوم، والله إنه للنبي الذي تتوعدكم به اليهود، فلا تسبقنكم إليه، فأجابوه وصدّقوه وقبلوا منه ماعرض عليهم من الإسلام، وانصرفوا إلى المدينة وذكروا لقومهم ماحدث لهم، ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم، فلم تبق دارٌ من دور الأنصار إلا وفيها ذكرٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً، وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما سمي “بيعة العقبة الأولى”.
يقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه:”كنت فيمن حضر العقبة الأولى على أن لانشرك بالله شيئاً، ولانسرق، ولانزني، ولانقتل أولادنا،ولانأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولانعصيه في معروف. فإن وفّيتم فلكم الجنة، وإن غَشيتم من ذلك شيئاً فأُخذتم بحَدّه في الدنيا فهو كفارة له، وإن سُترتم عليه إلى يوم القيامة فأمركم إلى الله عز وجل إن شاء عذّب، وإن شاء غفر”.
نعم، إذا أغلق في طريق الدعوة باب، فلاتيأس واطرق الأبواب الأخرى، وإذا سُدّ سبيل فاعلم أن الله سوف يفتح لك بجهادك وصبرك وعملك سبلاً أخرى {والَّذينَ جاهَدوا فينا لنهدينَّهُم سُبلنا وإنَّ اللهَ لَمعَ المُحسنينَ}[العنكبوت 69].
إن بعض الدعاة يحاول أن يجد لنفسه الأعذار والمبررات التي تزّين له أحياناً الامتناع عن القيام بهذا الواجب العظيم، ويظن نفسه أنه من خلال هذه الأعذار قد أعذر نفسه أمام الله.. ولكنه مخطئ.
ـ إن بعض الدعاة يمنعه من القيام بواجب الدعوة ـ كما يزعم ـ معارضة الأهل وخاصة الوالدين، وأنهم يناصبونه العداء، فنقول لأمثال هؤلاء عودوا إلى سيرة أبي الانبياء إبراهيم عليه السلام، فلقد كان يدعو قومه وأباه دون كَلل ولامَلل، وهم يناصبونه أشدّ العداء، بل أرادوا أن يحرقوه لولا رعاية الله له، ومع ذلك لم يبتعد عن واجب الدعوة، ولم يتوقف، وكان يدعو الله أن يغفر لقومه ويهدي أباه…فالدعوة إلى الله تبقى مستمرة رغم معارضة الأهل ،ورغم ممانعة الوالدين، ولكن على هؤلاء الدعاة أن يكونوا في علاقاتهم مع أبائهم وأمهاتهم حكماء، رحماء،رفقاء بهم، وأن يحملوا لهم في قلوبهم المحبة، وأن يسألوا الله لهم الهدى، وأن يطيعوهم في مالا معصية فيه، وأن يكون قدوتهم في ذلك مواقف بعض الصحابة أمثال سعد بن أبي وقاص، ومصعب بن عمير رضي الله عنهما.
ـ وبعض الدعاة يدعو الله إذا توفر” الأمن” و”الطمأنينة“، ويتوقف عن الدعوة إذا واجهه الطاغوت، أو جَبهته أرتال الجاهلية، وهؤلاء ينسون أو يتناسون أن أفضل النتائج وأحسن الثمار يحصل عليها الداعية وهو يواجه الموت والطاغوت، لأنه عندها يصدق في قوله وفعله، ولقد كان لموقف موسى عليه السلام من فرعون وهامان وتحديه لهما، كان لهذا الموقف أكبر الأثر في إسلام السحرة وتحملهم العذاب ودخول دين الله.
إن الاستعلاء على الطاغوت وتحدي الجبروت من قبل الداعية المخلص الصادق يكون لها من الأثر مالاتفعله مئات الكتب والرسائل، وقد تكون عاقبته الشهادة،وهذا أجمل مايتمنى المرء المسلم الصادق، وفي كل حال تكون ثمرته التحام الناس بالأفكار التي يحملها الداعية وتأثرهم بها عاجلاً أم آجلاً.
ـ وبعض الدعاة يبرّر الأعذار لتقصيره بمطاردة الطاغوت وأعوانه، وعدم استقراره مكانياً ونفسياً،ولايجد الوقت الكافي لكي ” يلم أنفاسه”.وهؤلاء نحيلهم إلى كتب السيرة الشريفة تقصّ عليهم مافعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق الهجرة إلى المدينة المنورة، فلقد كان مطارداً، ملاحقاً، وضعت قريش أكبر المكافآت لمن يأتي به ، ومع هذا فإن ذلك لم يمنعه أن يعرض الإسلام على بريدة بن الحصيب الأسلمي وركبه عندما التقاهم مابين مكة والمدينة،فأسلموا ودخل الإسلام قلوبهم. ولم تمنعه مطاردة أهل الطائف له، وأذاهم له وتسليط غلمانهم عليه بالأذى والشتم ، لم يمنعه ذلك من عرض دعوة الإسلام على ” عداس” الذي لقيه في إحدى ضواحي الطائف.
ـ وبعض الدعاة إذا أُدخل السجن، يظن أن هذا نهاية المطاف، ونهاية واجب الدعوة، فقد انتهت مهمته وقد أدى واجبه.وهؤلاء يغفلون أو يتغافلون عن أن السجن قد يكون مدرسة للدعوة أيضاً، يمكن أن يؤثر من خلالها الداعية ويكون له أعظم التأثير.إن يوسف الصديق عليه السلام ، الكريم ابن الكريم ابن الكريم، لم يمنعه السجن، والظلم الذي تعرض له من أن يدعو من معه في السجن إلى الله تعالى: {ياصاحبيَ السِّجنِ أأربابٌ مُتفرقونَ خيرٌ أمِ اللهُ الواحدُ القهَّارُ* ماتعبُدونَ من دونهِ إلا أسماءً سَمّيتُموها أنتم وآباؤُكم ما أنزلَ اللهُ بها من سلطانٍ إنِ الحُكمُ إلا لله أمرَ ألا تعبدوا إلا إيّاه ذلكَ الدِّينُ القَيِّمُ ولكنَّ أكثرَ النَّاسِ لايعلمون} .[يوسف 39 ـ 40].
وحتى ولو كان في السجن وحده يمكن أن يؤثر من خلال الكتابة والكلمة، فسيد قطب رحمه الله كتب أعظم مؤلفاته الإسلامية وخاصة كتاب “الظلال” وهو في سجنه يتحدى الطاغوت، وكان لشهادته في سبيل الله أكبر الأثر في نشر مؤلفاته وكتاباته، عندما ارتبط مداد القلم بدم الشهادة.
وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: ” أنا ماذا يصنع أعدائي بي، أنا جنتي في صدري، إن قتلي شهادة، ونفيي سياحة ، وسجني خلوة” .
ـ والمرض هو عذر شرعي قد يسقط عن الداعية بعض الفروض ولكن ليس منها فرض الدعوة،فهؤلاء نوجههم إلى سورة البقرة تقصّ علينا قصة سيدنا يعقوب عليه السلام وهو على فراش الموت لاينسى تذكير أبنائه بالدعوة إلى الله: {أم كُنتُم شُهداءَ إذ حضرَ يعقوبَ الموتُ إذ قال لبنيهِ ماتعبدونَ من بعدي قالوا نعبدُ إلهكَ وإلهَ آبائكَ إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ إلهاً واحداً ونحن له مسلمون}.[البقرة 133].
يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله في الظلال: “تلك كانت وصية إبراهيم لبنيه ووصية يعقوب لبنيه.. الوصية التي كرّرها يعقوب في أخر لحظة من لحظات حياته، والتي كانت شغله الشاغل الذي لم يصرفه عنه الموت وسكراته.ويتابع:” إن هذا المشهد بين يعقوب وبنيه في لحظة الموت والاحتضار لمشهد عظيم الدلالة،قوي الإيحاء، عميق التأثير… ميت يحتضر. فماهي القضية التي تشغل باله في ساعة الاحتضار؟ماهو الشاغل الذي يسيطر على خاطره وهو في سكرات الموت؟ ماهو الأمر الجلل الذي يريد أن يطمئن عليه ويستوثق منه؟ ماهي التركة التي يريد أن يخلفها لأبنائه ويحرص على سلامة وصولها إليهم فيسلمها لهم ،؟ إنها العقيدة…هي التركة، وهي الذخر، وهي القضية الكبرى، وهي الشغل الشاغل، وهي الأمر الجلل الذي لاتشغل عنه سكرات الموت”.
ويقول الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله(مجلة المنار العدد 200 بتاريخ الثالث من أذار عام 1904):
“ووصى بها” أي بالملة أو الخصلة (إبراهيم بنيه ويعقوب) غذ قال كل منهما لولده(يابنيّ إن الله اصطفى لكم الدين)أي اختاره لكم بهدايتكم إليه وجعل الوحي فيكم(فلاتموتن غلا وأنتم مسلمون) أي فحافظوا على الإسلام لله والإخلاص في الانقياد إليه بحيث لاتتركوا ذلك لحظة واحدة لئلا تموتوا فيها فتموتوا غير مسلمين فإن الإنسان لايضمن حياته بين الشهيق والزفير”.
ولقد أثرَّ في أشدّ التأثير ـ ولايزال ـ الداعية الكبير الأستاذ مصطفى السباعي رحمه الله والذي لم يمنعه المرض الشديد، والعجز المزمن عن ممارسة الدعوة إلى الله حتى آخر لحظة من لحظات حياته، فكان مثالاً حياً واقعياً، كيف يمكن من خلال الألم والمعاناة أن تكتب أحسن الكلمات، وأصدق العبارات، ومن خلال المرض أن تتحدى كل المثبطات وكل المعيقات.
ـ وقد يكون النفي والإبعاد نهاية طريق الدعوة بالنسبة لبعض الدعاة، ولكنه عذر مرفوض، فعلى الداعية أن يتحرك وإن فارق الأهل والوطن والأحباب، ففي كل مكان تجد فيه من يستمع إلى الحق ويتبعه فهو وطن لك،وكل أناس يمشون معك في هذا الطريق المستقيم هم أهلك وأحبابك.
لقد كان لبعض الدعاة في هذا الزمان الذي عشنا فيه ومنهم الاستاذ الحبيب عصام العطار حفظه الله، دور كبير في إقامة مراكزللدعوة ونشر رسالة الإسلام والحق، رغم النفي والتشرد والمرض وملاحقة الطاغوت، وأصبحت هذه المراكز منارات تنير الطريق لكثير من الضائعين والحائرين والشاردين وخاصة في ديار الغرب فجزاهم الله عن الإسلام وعنا خير الجزاء.
ـ وبعض الدعاة يظن أنه إذا دعا أياماً بل عدة أسابيع وأشهر، ولم يجد صدى لندائه فإنه يظن أنه قد أدى مهمته، وقد أعذر نفسه متبعاً قول القائل” قل كلمتك وامش” وينسى هؤلاء أن الدعوة مستمرة باستمرار الحياة لا انقطاع لها، ولعلّ قصة سيدنا نوح عليه السلام، الذي دعا قومه مئات السنين، سراً وعلانية، ليلاً ونهاراً،ولم يتوقف عن الدعوة حتى وقد بدأ الماء يفور ويطغى وهو يجادل ابنه علّه يستجيب، إنها قصة من أجمل القصص في الحرص على الدعوة وعدم استعجال النتائج، وإلا كان مصير الداعية من التعجل وعدم الصبر ما أصاب سيدنا يونس عليه السلام، حيث بين الله تعالى له بالعقوبة الدنيوية الطريق الصحيحة، فعاد إلى نفسه يلومها، وسبّح بحمد ربه وهو في بطن الحوت، حتى أخرجه الله تعالى منه وبعثه إلى قوم دعاهم ، فهداهم الله بدعوته.
نعم…إن الدعوة إلى الله واجب مستمر باستمرار الحياة، فإذا سُدّ في وجهك سبيل فعليك أن تبحث عن سبيل آخر، وإذا مافشل أسلوب فعليك بابتكار أسلوب جديد،وإذا فشلت هنا، فقد تنجح هناك، فعلى الداعية أن يسعى ويجاهد في طريق الدعوة والاستمرار به، لأن نهاية الطريق لوحة مكتوب عليها”الجنة” إن كان في دعوته مؤمناً، صادقاً، مخلصاً،والله مع الداعية لاينساه بل يكلؤه ويرعاه ويهديه سبيله: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}.
يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله(مقال بعنوان:هذا هو الطريق ـ مجلة الرسالة العدد983 بتاريخ الخامس من آيار عام 1952):
“كلما رأيت المتوجسين عن الجهر بكلمة الله،وهم يزعمون الإيمان بالله.كلما سمعتهم يجمجمون بهذه الكلمة ولا يصدعون خيفة أن يمسهم القرحنوأن تسلط عليهم قوى الشر والطغيان..كلما وجدتهم يلبسون هذا الضعف ثوب الكياسة واللباقة والمرونة والدهاء…كلما أبصرت هذا كله تمثلت لي تلك الآيات القدسية الكريمة ترسم الطريق:{ولا تحسبنَّ الذين قتُلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربهم يُرزقون}[آل عمران 169]..الطريق الذي لا طريق غيره إلى النصر والعزة والمنعة والتوفيق..وهتفت من أعماق ضميري:ألا إن هذا الدين لواحد،ألا وإنه لن يصلح آخره إلا بما صلح به أوله…ألا وإن هذا هو الطريق….
{الَّذينَ قالَ لهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قد جمعوا لَكُم فاخشوهُم فزادَهُم إيماناً وقالوا حَسبُنا الله ونِعمَ الوكيلُ}[آل عمران 173]إنهم لم يقولوا:نحن قلة ضعيفة في كثرة باغية،فلنصبر على الذل،ولنرض بالهوان،ولنجامل الشر،ولنتق الطغيان..
حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً..فالمؤمن يوقن:{إنَّ اللهَ لا يُغيّرُ ما بقومٍ حتّى يُغيّروا ما بأنفسهم}[الرعد11]وإن أمر الله إنما يتم بعباده الذين ينفذون أمره،وإن السماء لا تمطر على الناس عزاً ولا نصراً لإنما هم يصلون قلوبهم بجبار السماء فتهون عليهم قوى الأرض ،وتهون معها حياة الارض.وعندئذ ينقلبون بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء.وعندئذ يمكّن الله لهم في الأرض،لأنهم صدعوا بكلمة الله،ولم يخشوا غير الله.
وبعد فإن الإسلام الذي ندعو إليه عقيدة تنبثق منها شريعة،ويقوم على هذه الشريعة نظام اجتماعي،ونظام دولي،ونظام إنساني.ولا سبيل لفصل العقيدة عن الشريعة،ولا فصل الشريعة عن النظام الذي ننشئه وتحكمه.فهذه العقيدة لا تتم،بل لا توجد،إذا لم تنشأ معها آثارها الطبيعية التي لا فكاك منها.
إن الإسلام لا يعيش في الظلام،فهو نور يعيش في النور.وإن الإسلام لا يخادع ولا يُداور،فهو كلمة الحق التي تكره المداورة والخداع.وإن الإسلام حقيقة واقعة تعيش في الارض،لا سراً ولا مؤامرة تتوارى عن الأنظار”.
خذوا الإسلام جملة
إن الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله سبحانه وتعالى لخاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم وارتضاه للعالمين .{إنّ الدينَ عند الله الإسلام} [البقرة19]، {ومَن يبتغِ غيرَ الإسلامِ دِيناً فلن يُقبلَ منهُ وهو في الآخرة من الخاسرين} [آل عمران 85].
والإسلام هو دينٌ شاملٌ كاملٌ متوازن.
إنه دينٌ شاملٌ، يشمل جميع نواحي الحياة، ولايقتصر منها على جانب دون آخر، ولايختص بناحية دون أخرى،فهو دين النفس والروح والجسم، ودين الفرد والأسرة والمجتمع، وهو دين الحياة والعبادات والمعاملات، وهو دين الحكم والسياسة والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية…
جاء في مجموعة دائرة سفير للمعارف الإسلامية العدد17 ـ18:
“والمقصود بالشمول في الإسلام استيعابه لجوانب الحياة كلها، فهو الرسالة التي امتدت طويلاً حتى شملت آماد الزمن،وامتدت عرضاً حتى انتظمت آفاق الأمم،وامتدت عمقاً حتى استوعبت شئون الدنيا والآخرة.
فالإسلام دين شامل للأجيال كلها، ليس موقوتاً ولامخصوصاً بزمان،وللعالم كله ليس لأرض دون أخرى،أو لشعب دون الباقين،وللمجالات والملكات والأطوار الإنسانية جمعاء.وتعاليم الإسلام في جوانب العقيدة والعبادة والأخلاق والتشريع بعامة شاملة لكل الجوانب:
1 ـ فالعقيدة شاملة في تفسيرها لحقائق الكون وقضاياه الكبرى،كالهدف من خلق الإنسان، ووظيفته في الأرض، وعلاقته بالكون وبالله تعالى.
2 ـ والعبادة شاملة في استيعاب ملكات الإنسان وجوارحه، فهي تربط القلب باللسان،والروح بالبدن كله،والعقل بالروح والبدن.فالصلاة مثلاً تربط عبادة اللسان بالتلاوة والتكبير والتسبيح والدعاء، وعبادة الجسم بالقيام والقعود والركوع والسجود، وعبادة العقل بالتفكّر والتأمل في معاني القرآن وأسرار الصلاة، وعبادة القلب بالخشوع والحبّ لله والشعور بمراقبته.
3ـ والأخلاق شاملة لجوانب الحياة، من علاقة الإنسان بربه وبنفسه وبأهله وبأصدقائه وبسائر أفراد مجتمعه، وتحقق في ذلك درجات عالية من تزكية النفس والروح.ولم تقدم أي من الفلسفات ـ قديماً وحديثاً ـ جهداً يقارب ماوصل إليه النظام الأخلاقي الإسلامي.
4 ـ والتشريع شامل في استيعابه لجوانب الحياة كلها، فيشمل الأحكام الخاصة بالعبادات والمعاملات المالية وغير المالية والعقوبات على الجرائم والأحكام الخاصة بنظام الأسرة والحقوق والواجبات بين أفرادها، ونظام الدولة من حكومة وقضاء، وعلاقة الدولة المسلمة بغيرها من دول العالم..الخ.
والإسلام حين يُنفّذ نظاماً كاملاً متكاملاً تتحقق للإنسان من ورائه فوائد كثيرة،وتُحلُّ مشكلاته كلها. أما حين يؤخذ منه مايوافق الهوى الشخصي لبعض الناس فإن ذلك يجرُّ أسباب الفوضى والاضطراب، فضلاً عن التخلف والهزائم الحضارية.
وهو دين كامل، قد أكمله الله عز وجل، وأتمّ به علينا نعمته، وارتضاه لنا دينا{اليومَ أكملتُ لكُم دِينكُم وأتممتُ عليكُم نِعمتي ورضيتُ لكمُ الإسلامَ دِينا}.[المائدة3]
وهو دين الوسطية والتوازن، لايغلو في ناحية على حساب أخرى، ولايقصر في جانب على حساب جوانب أخرى.
جاء في دائرة السفير للمعارف(المرجع السابق):
“والوسطية هي : الاعتدال،وبالاعتدال يتحقق التوازن في الأهداف والمقاصد، التي تحقّق للإنسان خير الدنيا والآخرة.
فالإسلام وسط بين الروحية والمادية، فليس هو بالدِّين القائم على الاهتمام بالروح دون الجسد كالرهبانية المسيحية، وليس هو القائم على النظرة المادية المطلقة، كما هو الحال عند اليهود.ولذا جاء دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم:”اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر“.فهذا الدعاء يعكس نظرة المسلم إلى الدنيا والآخرة، ويفصح عن الاعتدال والوسطية في كليهما معاً.
وهو وسط بين الفردية والجماعية، يحقق للفرد والجماعة أهداف كل منهما، في معادلة مُيّسرة مانعة للصدام، الذي عجزت الفلسفات القديمة عن الفصل فيه،فلاهو يجنح إلى التحرير المطلق للفرد، القائم على تحقيق مصالحه الخاصة، دون النظر إلى الجماة، كما تفعل الرأسمالية،ولاهو يقتل الفرد في المجموع، ويذيب مصالحه من أجل مصلحة الجماعة، كما في بعض المذاهب الاشتراكية.فهو وسط في تشريعه، فلم يغال في التحريم ـ مثلاً ـ كما في اليهودية، التي أسرفت في التحريم، بسبب جنوحهم إلى الظلم والبغي والتشبّع المادي من الحياة بلا ضابط. قال تعالى{فَبِظُلمٍ من الذينَ هادوا حَرَّمنا عليهم طَيباتٍ اُحِلَّت لهم وبِصَدِّهم عن سبيلِ الله كثيراً*وأخذِهِمُ الربا وقد نُهوا عنهُ وأكلِهِم أموالَ الناسَ بالباطلِ}[النساء 170 ـ 161].كما أنه لم يسرف في التحليل كما في المسيحية، التي أباحت كل شئ محرّم في التوراة، مع زعم اصحابها أن رسالة المسيح كانت تتميماً لرسالة التوراة، وليست نقضاً لها.
وكان ضابط الإسلام في تحليله وتحريمه: أن يبيح الطَّيب النافع ويُحرّم الخبيث الضار، فقد جاء في وصف الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن{يَامرُهُم بالمعروفِ وينهاهم عن المُنكرِ ويُحِلّ لهمُ الطّيباتِ ويُحرّمُ عليهمُ الخبائثَ ويضعُ عنهم إصرَهُم والأغلالَ التي كانت عليهم}[المائدة 157].
وهو وسط في علاقة العبد بربه، بين ترسيخ معنى الخوف والرهبة،وبين الإحساس بالأمن والأنس بالله والتلذذ بمعايشة كلماته،ودعائه في الصلاة وخارجها.
وهو دين يتجاوب مع الكون الكبير، الذي أقيم على التوازن والاعتدال،فلايقاوم نواميسه،ولايخالف سننه.
والوسطية سبيل إلى البقاء والاستمرار، لأنها تعني العدل في مقابل الغلو،والاستقامة في مقابل الميل والانحراف، والخيرية في مقابل الرذيلة،التي تنبع من الميل إلى الهوى واتباع الشهوات، والقوة في مقابل ضعف المنطق وتهافت الحجّة عند أصحاب الاتجاهات المغالية.انتهى كلام السفير.
ويقول الدكتور العلامة يوسف القرضاوي حفظه الله(مقال:الوسطية ـ موقع القرضاوي):
“إن الوسطية تتجلى واضحة في كل جوانب الإسلام،نظرية وعملية،تربوية وتشريعية.
ـ وسطية الإسلام في العبادات والشعائر:
والإسلام وسط في عباداته،وشعائره بين الأديان والنِحل التي ألغت الجانب”الرباني”.جانب العبادة والتنسك والتأله.من فلسفتها وواجباتها،كالبوذية التي اقتصرت فروضها على الجانب الأخلاقي الإنساني وحده…وبين الأديان والنحل التي طلبت من أتباعها التفرغ للعبادة والانقطاع عن الحياة والانتاج،كالرهبانية المسيحية.
ولعل أوضح دليل نذكره هنا:الآيات الآمرة بصلاة الجمعة::{يا أيُّها الَّذينَ آمنُوا إذا نوديَ للصَّلاةِ من يومِ الجُمعةِ فاسعوا إلى ذِكرِ اللهِ وذَروا البيعَ ذلكم خيرٌ لكُم إن كنتُم تعلمونَ*فإذا قُضيتِ الصَّلاةُ فانتشروا في الارَِضِ وابتغوا من فضلِ الله واذكروا الله كثيراً لعلَّكُم تُفلحونَ}[الجمعة 9 ـ 10].
فهذا هو شأن المسلم مع الدين والحياة حتى في يوم الجمعة:بيع وعمل للدنيا قبل الصلاة،ثم سعي إلى ذكر الله وإلى الصلاة،وترك للبيع والشراء وما أشبهه من مشاغل الحياة،ثم انتشار في الأرض وابتغاء الرزق من جديد بعد انقضاء الصلاة،مع عدم الغفلة عن ذكر الله كثيراً في كل حال،فهو أساس الفلاح والنجاح.
ـ وسطية الإسلام في الأخلاق:
والإسلام وسط في الأخلاق بين غلاة المثاليين الذين تخيلوا الإنسان ملاكاً أو شبه ملاك،فوضعوا له من القيم والآداب ما لايمكن له،وبين غلاة الواقعيين الذين حسبوه حيواناً أو كالحيوان،فأرادوا له من السلوك ما لا يليق به فأولئك أحسنوا الظن بالفطرة الإنسانية فاعتبروها خيراً محضاًنوهؤلاء أساءوا بها الظن،فعدوها شراً خالصاً،وكانت نظرة الإسلام وسطاً بين أولئك وهؤلاء.
فالإنسان في نظر الإسلام مخلوق مركب فيه العقل،وفيه الشهوة،فيه غريزة الحيوان،وروحانية الملاك،قد هدى للنجدين،وتهيأ بفطرته لسلوك السبيلين،إما شاكراً وإما كفوراً.فيه استعداد للفجور واستعداد للتقوى.ومهمته جهاد نفسه ورياضتها حتى تتزكى:{ونفس وما سواها*فألهمها فجورها وتقواها*قد أفلح من زكاها*وقد خاب من دساها}[الشمس 7 ـ 10].
ـ وسطية الإسلام في التشريع:
والإسلام وسط كذلك في تشريعه ونظامه القانوني والاجتماعي،وأبرز ما تتجلى فيه الوسطية هنا:مجال الفردية والجماعية.
التوازن بين الفردية والجماعية:
وفي النظام الإسلامي تلتقي الفردية والجماعية في صورة متزنة رائعة،تتوازن فيها حرية الفرد ومصلحة الجماعة،وتتكافأ فيها الحقوق والواجبات،وتتوزع فيها المغانم والتبعات بالقسطاس المستقيم.
إن عالمنا اليوم يقوم فيه صراع ضخم بين المذهب الفردي،والمذهب الجماعي.فالرأسمالية تقوم على تقديس الفردية،واعتبار الفرد هو المحور الأساسي،وتعطيه الحقوق الكثيرة،التي تكاد تكون مطلقة،فله حرية التملك،وحرية القول،وحرية التصرف،وحرية التمتع،ولو أدت هذه الحريات إلى إضرار نفسه،وإضرار غيره،مادام يستعمل حقه في “الحرية الشخصية”،فهو يتملك المال بالاحتكار والحيل والربا،وينفقه في اللهو والخمر والفجور،ويمسكه عن الفقراء والمساكين والمعوزين،ولا سلطان لأحد عليه،لأنه هو “حر”.
والمذاهب الاشتراكية،وبخاصة المتطرفة منها كالماركسية تقوم على الحطّ من قيمة الفرد والتقليل من حقوقه،والإكثار من واجباته،واعتبار المجتمع هو الغاية،وهو الأصل. وما الأفراد إلا أجزاء أو تروس صغيرة في تلك”الآلة” الجبارة،التي هي المجتمع،والمجتمع في الحقيقة هو الدولة،والدولة في الحقيقة هي الحزب الحاكم،وإن شئت قلت:هي اللجنة العليل للحزب،وربما كانت هي زعيم الحزب فحسب،هي الدكتاتور!!
إن الفرد ليس له حق التملك إلا في بعض الأمتعة،والمنقولات،وليس له حق المعارضة،ولا حق التوجيه لسياسة بلده وأمته،وإذا حدثته نفسه بالنقد العلني أو الخفي،فإن السجون والمنافي وحبال المشانق له بالمرصاد!
أما الإسلام فقد كان موقفه فريد حقاً،لم يمل مع هؤلاء ولا هؤلاء،ولم يتطرف إلى اليمين ولا إلى اليسار.
إن شارع هذا الإسلام هو خالق هذا الإنسان،فمن المحال أن يشرع هذا الخالق من الأحكام والنظم ما يعطل فطرة الإنسان أو يصادمها.وقد خلقه سبحانه على طبيعة مزدوجة:فردية واجتماعية في آن واحد.فالفردية جزء أصيل من كيانه،ولهذا يحب ذاته،ويميل إلى إثباتها وإبرازها ويرغب في الاستقلال بشؤونه الخاصة.
ومع هذا نرى فيه نزعة فطرية إلى الاجتماع بغيره،ولهذا عُدَّ السجن الانفرادي عقوبة قاسية للإنسان،ولو كان يتمتع داخله بما لذّ وطاب من الطعام والشراب.
والنظام الصالح هو الذي يُراعي هذين الجانبين:الفردية والجماعية،ولا يطغى أحدهما على الآخر.فلا عجب أن جاء الإسلام وهو دين الفطرة نظاماً عدلاً،لا يجور على الفرد لحساب المجتمع،ولا يحيف على المجتمع من أجل الفرد،لا يدلل الفرد بكثرة الحقوق التي تمنح له،ولا يرهقه بكثرة الواجبات التي تلقى عليه،وإنما يكلفه من الواجبات في حدود وسعه،دون حرج ولا إعنات،ويقرر له من الحقوق ما يكافىء واجباته،ويُلبي حاجته،ويحفظ كرامته،ويصون إنسانيته.
ماقرره الإسلام لرعاية حقوق الفرد؟
من هنا قرر الإسلام حرمة الدم،فحفظ للفرد “حق الحياة”،وأعلن القرآن أن:{من قتلَ نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرضِ فكأنّما قتلَ النَّاسَ جميعاً ومن أحياها فكأنّما أحيا النَّاسَ جميعاً}[المائدة 32].وأوجبت الشريعة في قتل العمد القصاص،إلا أن يعفو أولياء المقتول،أو يقبلوا بدلاً،وأوجبت في قتل الخطأ الديّة والكفارة.
وقرر حرمة العرض،فصان للفرد “حق الكرامة” فلا يجوز أن يهان في حضرته،أو يؤذى في غيبته،بأي كلمة أو إشارة تسوؤه:{يا أيُّها الّّذينَ آمنوا لا يسخرْ قومٌ من قومٍ عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساءٌ من نساءٍ عسى أن يكُنَّ خيراً منهنَّ ولا تَلمزوا أنفُسَكم ولا تنابزوا بالألقابِ بئس الإسم الفُسوقُ بعد الإيمان}[الحجرات11]{ولا يغتب بعضكم بعضاً أيُحبُّ أحدُكم أن يأكلَ لحمَ أخيهِ ميتاً فكرهتموه}[الحجرات12].
وقرر حرمة المال،فصان للفرد “حق التملك”،فلا يحل أخذ ماله إلا بطيب نفس منه،ولا يجوز للدولة،ولا لفرد آخر نهب ماله وأخذه بغير حق.قال النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع:”إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام،كحرمة يومكم هذا،في شهركم هذا،في بلدكم هذا“.[متفق عليه عن أبي بكرة رضي الله عنه].
ـ وقرر حرمة البيت،فصان بذلك الفرد”حق الاستقلال الشخصي” فلا يجوز لأحد أن يتجسس عليه،أو يقتحم عليه بيته بغير إذنه،قال تعالى:{لا تدخلوا بيوتاً غيرَ بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها}[النور 27]،{ولا تجسسوا}[الحجرات 12].
ـ وقرر للفرد “حرية الاعتقاد“فلا يجوز أن يكره على ترك دينه،واعتناق دين آخر:{لا إكرهَ في الدِّينِ قد تبيّنَ الرُّشدُ من الغَيِّ}[البقرة 256]،{أفأنتَ تُكرهُ النَّاسَ حتَّى يكونوا مءمنينَ}[يونس 99].
ـ وقرر للفرد”حرية النقد: فمن حق كل فرد أن يعارض مايراه من عوج،وما يلاحظه من تقصير،بل من واجبه ذلك إذا لم يقم غيره به،وهو ماسماه الإسلام”الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”.
ـ وقرر “حرية الرأي والفكر” فمن حق كل إنسان،بل من واجبه أن يفكر وينظر.فقد أمر الإسلام الناس أن يتفكروا،ومادام التفكير حقاً أو واجباً لكل بشر فمن حقّ كل مفكر أن يخطىء ولا لوم عليه في ذلك.إن الإسلام لا يحرم المجتهد من المثوبة والأجر،وإن أخطأ إصابة الحقيقة.ففي الحديث الشريف:”اإذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم ثم أخطأ فله أجر “[رواه الشيخان عن عمرو بن العاص رضي الله عنه]
وليس في الدنيا دين ولا نظام يشجع على استعمال الفكر،ويرحب بنتائجه،أيا كانت مثل هذا الإسلام،الذي يثيب على الاجتهاد الخطأ.
ـ وقرر الإسلام”المسئولية الفردية”وأكدها تأكيداً بليغاً في كتابه فقال تعالى:{كل نفس بما كسبت رهينة}[المدثر 38]،{لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}[البقرة286]،{ولا تزر وازرة وزر أخرى}[فاطر 18].
ماقرره الإسلام لحماية حقوق المجتمع:
ومع هذه الحقوق والحريات التي منحها الإسلام للفرد،فقد فرض عليه للمجتمع واجبات تكافئها،وقيّد هذه الحقوق والحريات الفردية،بأن تكون في حدود مصلحة الجماعة،وألا يكون فيها مضرة للغير،وليس للفرد أن يستخدم حقه فيما يؤذي الجماعة ويضرها،إذ لاضرر ولاضرار في الإسلام،أي:لا يضر الإنسان نفسه ولا يضار غيره،كما أن حق الفرد إذا تعارض مع حقوق الجماعة،فإن حق الجماعة أولى بالتقديم.
ـ فالحياة التي صانها الإسلام للفرد،إذا اقتضى المجتمع المسلم بذلها لحمايته وجب عليه أن يقدمها راضي النفس،قرير العين،معتقداً أن الموت هنا هو عين الحياة،وكذلك إذا اعتدى على حق نفس أخرى كقاتل العمد،أو على حق المجتمع في الأمن والاستقرار،كقاطع الطريق،أو خرج على دينه وفارق الجماعة كالمرتد فقدت حياته مالها من عصمة.
ـ حق التملك مقيد بأن يأخذ المال من حله،وينفقه في محله،ولا يبخل به إذا طلبته الجماعة،فملكية الفرد للمال ليست مطلقة كما ينادي أنصار”المذهب الحر”بل هي مقيدة بحدود الله وحقوق المجتمع،حتى إن انتزع هذا الملك من صاحبه يجوز للمصلحة الاعمة،على أن يعوض عنه ثمن المثل،ذلك أن المال مال الله،وهو مستخلف فيه،وبعبارة أخرى:هو وكيل الجماعة في رعايته وتثميره وإنفاقه،فإذا أساء التصرف في المال،كان من حق الجماعة أن تغل يده،وتحجر عليه،كما أن للجماعة حقوقاً في هذا المال،بعضها دوري ثابت كالزكاة بأنواعها،وبعضها غير دوري،كما في الحديث الشريف:”إن في المال حقاً سوى الزكاة“[رواه الترمذي عن فاطمة بنت قيس وقال الألباني حديث ضعيف]،بعضها يفرضه ولي الأمر عند الحاجة.
ـ والحريات والحقوق كلها مقيدة برعاية أخلاق المجتمع وعقائده ومثله العليا،فليس معنى حرية الاعتقاد أو الرأي،إباحة الطعن على الإسلام وأهله،وإذاعة الكفر بالله ورسوله وكتابه،والتشكيك في القيم العليا،ونشر الخلاعة والفجور،فإن حرية الإفساد لا يقرها عقل ولا شرع.
ـ المسئولية الفردية التي أكدها الإسلام،نراه قد أكد مسئولية الفرد عن الجماعة،فكل فرد في المجتمع المسلم راع في مجال من المجالات،كما في الحديث الصحيح:”كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته“[متفق عليه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما]،فكما أن الإمام راع مسئول عن الأمة،فإن الرجل في بيته راع مسئول عن الأسرة،والمرأة راعية في بيت زوجها،والخادم راع في مال مخدومه،وكل على ثغر الإسلام،فلا يجوز له إهمالها…وفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تقتضي مسئولية المسلم عن المجتمع،وتوجب عليه مراقبة أحواله،وتقويم عوجه إن اعوج بكل ما استطاع،بيده أولاً،فإن لم يستطع فبلسانه،فإن لم يستطع فبقلبه:وذلك أضعف الإيمان.
وليس لمسلم أن يعتزل الحياة والناس ويقول:نفسي نفسي!ويدع نار الفساد تلتهم الأخضر واليابس من حوله،فإن هذه النار إذا تركت وشأنها،لم تلبث أن تحرقه هو،وتحرق كل ما يحرص عليه.ولهذا يقول القرآن الكريم:{واتَّقوا فِتنةً لا تُصيبَنَّ الَّذينَ ظلموا منكم خاصةً واعلموا أن الله شديدُ العقابِ}[الأنفال 25]،وفي الحديث الشريف:”إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه”[رواه الترمذي وأبو داود وصححه الألباني عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه].
ـ ومن معاني الجماعة في الإسلام ما عرف في الشريعة باسم”فروض الكفاية”فكل علم أو صناعة أو حرفة أو نظام أو مؤسسة،تحتاج إليها الجماعة المسلمة في دينها أو دنياها،فتحقيقها فرض كفاية على المسلمين،على معنى أنه إذا قام بها عدد كاف فقد ارتفع الحرج،وسقط الإثم عن باقي الجماعة،وإلا أثمت الجماعة كلها،واستحقت عقوبة الله .
ـ والمسلمون مسئولون مسئولية تضامنية عن تنفيذ شريعة الإسلام،وإقامة حدوده،ومن هنا كان خطاب التكليف في القرآن إلى الجماعة.وتكرر قوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا}،بهذه الصيغة الجماعية ليؤكد وجوب التكافل بين الجماعة كلها بمثل قوله تعالى:{والسَّارِقُ والسَّارقةُ فاقطعوا أيديهما}[المائدة38]،{الزَّانيةُ والزَّاني فاجلدوا كُلَّ واحدٍ منهُما مائةَ جلدةٍ}[النور 2]،وإن كان الذي يقوم على هذه الحدود هو الدولة والحكام،لأن الجماعة كلها مسئولة عن إقامتها،مؤاخذة بعقاب الله إذا عطلتها.
ـ حتى العبادة التي هي صلة بين العبد وربه،أبى الإسلام،إلا أن يضفي عليها روحاً جماعية،وصبغة جماعية،فدعا إلى صلاة الجماعة،ورغب فيها،حتى جعلها أفضل من صلاة المسلم وحده،بسبع وعشرين درجة،وكلما كان عدد الجماعة أكبر،كان ثواب الله عليها أعظم،بل هم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحرق على قوم بيوتهم،لتخلفهم عن الجماعة في المسجد،ولم يرخص لأعمى،يسمع الأذان،أن يصلي في بيته ويترك صلاة الجماعة،وقال:”لاصلاة لمنفرد خلف الصف“[رواه الإمام أحمد وابن ماجة عن علي بن شيبان رضي الله عنه وهو حديث حسن]كراهية منه للشذوذ والإنفراد،ولو في المظهر،وإذا صلى المسلم منفرداً في خلوة لم تزل الجماعة في وجدانه وضميره،فهو إذا ناجى الله ناجاه بصيغة الجمع،ولإذا دعاه دعاه باسم الجميع:{إياك نعبد وإياك نستعين*اهدنا الصراط المستقيم}[الفاتحة 5 ـ 6].
كما شرع صلاة الجمعة في كل اسبوع مرة،وصلاة العيد في كل عام مرتين،وفرض الحج في العمر مرة على كل مسلم،وكلها شعائر لا بد أن تؤدى في صورة جماعية.
ـ في مجال الآداب والتقاليد حث الإسلام على جملة من الآداب الاجتماعية،أراد بها أن يخرج المسلم من الفردية والانعزالية،التي قد تروق للانطوائيين من الناس،فتحية الإسلام،والمصافحة عند اللقاء،وتشميت العاطس ،والتزاور والتهادي،وعيادة المريض،وتعزية المصاب،وصلة الأرحام،وإحسان الجوار،وإكرام الضيف،وحسن الصحبة في السفر والحضر،والبر باليتامى والمساكين وابن السبيل،وغير ذلك من الآداب والواجبات،هي التي جعلت الشعور الجماعي،والتفكير الجماعي،والسلوك الجماعي،جزءاً لا يتجزأ من حياة المسلم.
ـ وفي مجال الأخلاق،حث الإسلام على المحبة والإخاء والإيثار،وأمر بالتعاون على البر والتقوى،ودعا إلى توحيد الكلمة وجمع الصف،كما دعا إلى التراحم والتسامح،وإلى البذل والتضحية،واحترام النظام،والطاعة لأولي الأمر في المعروف.
وبجوار ذلك حذر من الحسد والبغضاء والحقد،والفرقة والتنازع،وسائر الرذائل التي تنشأ من الأنانية والغلو في حب الذات وحب الشهوات”.
وجاء في مجلة المنار للشيخ العلامة محمد رشيد رضا رحمه الله(العدد203 بتاريخ 17 نيسان عام 1904):
“ذلك إن الناس كانوا قبل ظهور الإسلام على قسمين: قسم تقضي عليه تقاليده بالمادية المحضة فلا همّ له إلا الحظوظ الجسدية كاليهود والمشركين وقسم تحكم تقاليده بالروحانية الخالصة وترك الدنيا وما فيها من اللّذات الجسمانية كالنصارى والصابئين وطوائف من وثني الهند أصحاب الرياضات. وأما الأمة الإسلامية فقد جمع الله لها في دينها بين الحقين كحق الروح وحق الجسد فهي روحانية جثمانية وإن شئت قلت إنه أعطاها جميع حقوق الإنسانية فإن الإنسان جسم وروح، حيوان ومَلك.فكأنه قال جعلناكم أمو وسطاً تعرفون الحقين،وتبلغون الكمالين،{لتكونوا شهداء} بالحق(على الناس)الجسمانيين بما فرطوا في جنب الدين،وعلى الروحانيين إذ أفرطوا وكانوا من الغالين،فتشهدون على المفرطين بالتعطيل القائلين:{إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر}[الجاثية 24] بأنهم أخلوا إلى البهيمية،وقضوا على استعدادهم بالحرمان من المزايا الروحانية، وتشهدون على المفرطين بالغلو في الدين القائلين:إن هذا الوجود حبس للأرواح وعقوبة لها فعلينا أن نتخلص منه بالتخلي عن جميع اللذات الجسمانية وتعذيب الجسد وهضم حقوق النفس وحرمانها من جميع ما أعدّه الله لها في هذه الحياة: بأنهم خرجوا عن جادة الاعتدال وجنوا على أرواحهم بجنايتهم على أجسادهم وقواها الحيوية،تشهدون على هؤلاء وهؤلاء وتسبقون الأمم كلها باعتدالكم وتوسطكم في الأمور كلها،ذلك بأن ما هديتم إليه هو الكمال الإنساني الذي ليس بعده كمال لأن صاحبه يعطي كل ذي حق حقه ـ يؤدي حقوق ربه وحقوق نفسه وحقوق جسمه وحقوق ذوي القربى وحقوق سائر الناس”.
يقول الأستاذ والمفكر الكبير عباس محمود العقاد رحمه الله في مقال له بعنوان”عقيدة شاملة”:
“يبدو إلى الذهن أن الشمول الذي امتازت به العقيدة الإسلامية صفة خفية عميقة لا تظهر للناظر من قريب ولابد لإظهارها من بحث عويص في قواعد الدين وأسرار الكتاب وفرائض المعاملات،فليست هي مما يراه الناظر الوثني أو الناظر البدوي لأول وهلة قبل أن يطّلع على حقائق الديانة ويتعمّق في الإطلاع.
ومن المحقق أن إدراك الشمول من الوجهة العلمية لا يتأتى بغير الدراسة الوافية والمقارنة المتغلغلة في وجوه الأتفاق ووجوه الاختلاف بين الديانات،وبخاصة في شعائرها ومراسمها التي يتلاقى عليها المؤمنون في بيئاتهم الاجتماعية.
ولكن الناظر القريب قد يدرك شمول العقيدة الإسلامية من مراقبة أحوال المسلم في معيشته وعبادته،ويكفي أن يُرى المسلم مستقلاً بعبادته عن الهيكل والصنم والأيقونة والوثن ليعلم أنه وحدة كاملة في دينه ويعلم من ثم كل مايرغبه في ذلك الدين أيام أن كان الدين كله حكراً للكاهن ووقفاً على المعبد وعالة على الشعائر والمراسم مدى الحياة.
فلما ظهر المسلم في تلك الآونة ظهر الشمول في عقيدته من نظرة واحدة،ظهر أنه وحدة كاملة في أمر دينه يصلي حيث شاء ولا تتوقف له نجاة على مشيئة أحد الكهان،وهو مع الله في كل مكان{فأينما تُولّوا فَثَمّ وجهُ الله}[البقرة 115].
ويذهب المسلم إلى الحج فلا يذهب ليستتم من أحد بركة أو نعمة يضفيها عليه،ولكنه يذهب كما يذهب الألوف من إخوانه. ويشتركون جميعاً في شعائره على سنة المساواة،بغير حاجة إلى الكهانة والكهان.
كذلك لا ينقسم المسلم قسمين بين الدنيا والآخرة، أو بين الجسد والروح،ولا يعاني هذا الفصام الذي يشق على النفس احتماله ويحفزها في الواقع إلى طلب العقيدة ولا يكون هو في ذاته عقيدة تعتصم بها من الحيرة والانقسام.{وابتغِ فيما آتاكَ الله الدارَ الآخرة ولا تنسَ نصيبكَ من الدنيا}[القصص77].
فإذا كانت العقيدة التي تباعد المسافة بين الروح والجسد تعفينا من العمل حين يشق علينا العمل فالعقيدة التي توحد الإنسان وتجعله كلاً مستقلاً بدنياه وآخرته شفاء له من ذلك الفصام الذي لا تستريح إليه السريرة إلا حين تضطر إلى الهرب من عمل الإنسان الكامل في حياته،وحافز له إلى الخلاص من القهر كلما غُلب على أمره ووقع في قبضة سلطان غير سلطان ربه ودينه.
ومن هنا لم يذهب الإسلام مذهب التفرقة بين مالله وما لقيصر، لأن الأمر في الإسلام كله لله:{بل لله الأمرُ جميعاً}[الرعد31]،{ولله المشرق والمغرب}[البقرة 115]،{ربُّ المشرقِ والمغربِ ومابينهما إن كنتم تعقلون}[الشعراء28].
وإنما كانت التفرقة بين مالله وما لقيصر تفرقة الضرورة التي لايقبلها المتدين وهو قادر على تطويع قيصر لأمر الله وهذا التطويع هو الذي أوجبته العقيدة الشاملة وكان له الفضل في صمود الأمم الإسلامية لسطوة الاستعمار،وإيمانها الراسخ بأنها دولة دائلةنوحالة لابدّ لها من تحويل.
وقد أبت هذه العقيدة على الرجل أن يطيع الحاكم بجزء منه ويطيع الله بغيره،وأبت على المرأة أن تعطي بدنها في الزواج وتنأى عنه بروحها وسريرتها،وأبت على الإنسان جملة أن يستريح إلى الفصام الوجداني،ويحسبه حلاً لمشكلة الحكم والطاعة قابلاً للدوام.
إن هذا الشأن العظيم ـ شان العقيدة الشاملة التي تجعل المسلم”وحدة كاملة” ـ لا يتجلى واضحاً قوياً كما يتجلى من عمل الفرد في نشر العقيدة الإسلامية.فقد أسلم عشرات الملايين في الصحارى الافريقية على يدي تاجر فرد أو صاحب طريقة متفرد في خلوته لايعتصم بسلطان هيكل ولا بمراسم كهانة،وتصنع هنا قدرة الفرد الواحد مالم تصنعه جموع التبشير ولا سطوة الفتح والغلبة، فجملة من أسلموا في البلاد التي انتصرت فيها جيوش الدول الإسلامية هم الآن أربعون أو خمسون مليوناً بين الهلال الخصيب وشواطئ البحرين الأبيض والأحمر، فأما الذين أسلموا بالقدوة الفردية الصالحة، فهم فوق المائتين من الملايين،أو هم كل من أسلم في الهند والصين وجزائر جاوة وصحارى أفريقية وشواطئها إلا القليل الذي لا يزيد في بداءته على عشرات الألوف.
كذلك يخاطب الإسلام العقل ولا يقصر خطابه على الضمير أو الوجدان،وفي حكمه أن النظر بالعقل هو طريق الضمير إلى الحقيقة،وأن التفكير باب من أبواب الهداية التي يتحقق بها الإيمان.{قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا}[سبأ 46].
وتوصف العقيدة الإسلامية بالشمول لأنها تشمل الأمم الإنسانية جميعاً كما تشمل النفس الإنسانية بجملتها من عقل وروح وضمير.
فليس الإسلام دين أمة واحدة ولا هو دين طبقة واحدة، وليس هو للسادة المسلطين دون الضعفاء المسّخرين،ولا هو للضعفاء المسّخرين دون السادّة المسلّطين،ولكنه رسالة تشمل بني الإنسان من كل جنس وملّة وقبيل:{وما أرسلناكَ إلاّ كافةً للناسِ بشيراً ونذيراً}[سبأ28].
بهذه العقيدة الشاملة غلب المسلمون أقوياء الأرض ثم صمدوا لغلبة الأقوياء عليهم يوم دالت الدول وتبدلت المقادير وذاق المسلمون باس القوة مغلوبين مدافعين”.
ويقول الشيخ العلامة محمد الغزالي رحمه الله(مجلة الرسالة العدد 1041 بتاريخ 26 كانون الأول عام 1963):
“يجب أخذ الدين كله دون تفريط في نص من نصوصه أو قاعدة من قواعده.
فإن العدوان على الدين بالانتقاص من معالمه كالعدوان على الدين بالافتراء والتزيد وكلاهما بعد عن الحق وضلال عن الغاية.
وليس في المصحف سورة تؤثر وأخرى تهدر.أو آية نرضى حكمها وأخرى نسخطه.إن الوحي كله نظام إلهي متكامل يتسم بالقداسة والعصمة في جملته وتفصيله فلا مكان لإطراح جانب منه واصطحاب جانب آخر للاهتداء على درب الحياة والتغالب على وعورة الطريق.
وقد حكى الله عن بني إسرائيل ناعياً عليهم تلك التفرقة التي تجعلهم ينفذون جزءاً من ميثاق الله ويهملون جزءاً آخر:{وإذ أخذنا ميثاقَكُم لا تسفِكونَ دماءَكُم ولا تُخرجونَ أنفُسَكُم من دياركم ثم أقررتُم وأنتم تشهدون*ثم أنتم هؤلاء تقتلونَ أنفُسَكمُ وتُخرجونَ فريقاً منكم من ديارهم تَظاهرونَ عليهم بالإثم والعدوانِ وإن يأتُوكُم أسارى تُفادُوهم وهو مُحرَّمٌ عليكم أخراجُهُم أفتؤمنونَ ببعض الكتابِ وتكفرونَ ببعض فما جزاءُ من يفعلُ ذلكَ منكم إلا خزيٌ في الحياة الدنيا ويومَ القيامةِ يُردُّونَ إلى أشد العذاب وما الله بغافلٍ عما تعملونَ}[البقرة 84 ـ 85]
والواقع أن الفضيلة لاتتجزأ.فالصدق يكون في جميع الأمور.ومع جميع الناس،وكذلك العدالة والأمانة ولا يعد امرؤ ما فاضلاً إذا كان أميناً في بعض الأحوال وخائناً في البعض الآخر.
وكذلك لا يعد مؤمناً إذا قبل بعض الفروض وجحد بعضها الآخر،أو قرر أعمال جانب من الدين وإهمال الجانب الآخر.إن ذلك في منزلة الكفر بالدين كله.
وقد بُلي المسلمون بعد انهيار شخصيتهم الاجتماعية والسياسية في القرن الماضي بأناس يختلونهم عن تعاليم دينهم بحذر ودهاء.
فتراهم يتظاهرون باحترام النبوةزولا بأس أن يصفوا الإسلام بأنه دين الفطرة والتقدم.حتى إذا ووجهوا بأحكامه في الحلال والحرام ومطالبه في الصلاة والصيام انكمشوا وتقهقروا.إنهم يأخذون من الدين ما يحبون ويدعون ما لا يعجبهم وهواهم الخفي مع مبادىء أخرى مستوردة من الشرق أو الغرب هي التي يعجبون بها ويوفون لها ويقبلون من الإسلام ما يوافقها وينبذون ما يناقضها.
وإلى هذا الاسلوب في هدم الإسلام وإلى ذلك الفريق من الهدّامين أشار شيخ الإسلام الأسبق محمد الخضر حسين رحمه الله وأحسن جزاءه حين قال:”ترى أحدهم يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بأشد ما يؤذيه عدوه الكاشح ويضع على هذا الإيذاء نقاباً يخفيه كتسميته النبي ومجاراته المؤمنين في الصلاة والسلام عليه،ولا يتباطأ قلم الكاتب من هؤلاء أن يصف الدين بالسماحة والحكمة”.إلى أن يحدث عن شىء من أصوله أو أحكامه المفصلة فتراه ساعتئذ ينكرها متغالفلاً أنها من الدين،أو متأولاص لنصوص لا تقبل التأويل.
ويتابع الشيخ الغزالي رحمه الله:”وخير ما نتمسك به لإحباط تلك الدسائس الثقافية توكيد الحقيقة التي شرحناها آنفاً”أن الإسلام كلٌّ لا يتجزأ”.ونسيج عريض من التعاليم المتشابكة لا يمكن قصه ولا تمزيقه وأن الأخذ بهذه التعاليم كلها في العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات لبّ الإيمان وشرط بقائه.وأنه لا يؤذن لأحد أبداً باعتناق ما يهوى واجتناب ما يكره…
إن الإسلام روح وجسد،وإيمان ونظام،عقيدة باطنة تشبه الوقود الذي يحرك الآلات،ثم مجموعة الوصايا والأوامر والنواهي والحدود والشعائر التي تسير الحياة إلى وجهة معينة ووفق أسلوب خاص.
ويقول الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله:
“إن رسالة الإسلام الإصلاحية الاجتماعية،كنظام كامل شامل يكفل للإنسانية السعادة والاستقرار والطمأنينة والسلام ويحل ما بين يديها وما خلفها من مشكلات جسام،تمتاز عن كل ما عرفت البشرية إلى الآن من النظم والرسالات بأمور ثلاثة:
الأول:بشمول مبادئها النظرية التي ضمت كل خير جاء به غيرها مع تركها كل ما يعلق بذلك من أضرار،فأعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم في رسالته الخالدة:الإخاء الإنساني،والحرية والسلام،إذ حطم الفوارق العنصرية بين الشعوب،وقضى على كل نعرات الأجناس والألوان،وعلى روح الكراهية والحقد والتعصب الذميم بين أفراد الشعوب بمثل قوله تعالى:{يا أيُّها الناسُ إنّا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكمْ شعوباً وقبائلَ لتعارفوا إنَّ أكرمكم عندَ الله أتقاكم إنَّ الله عليمٌ خبيرٌ}[الحجرات 13].
وربى أتباعه على حب السلام فختام صلواتهم سلام،وتحيتهم في الأولى والآخرة سلام…
ومن المبادئى التي اشتمل عليها الإسلام كذلك: العدل الاجتماعي...فالإسلام يعلن في المجتمع مبادىء العدل المقرونة بالرحمة:{إنَّ الله يأمرُ بالعدلِ والإحسان}[النحل 90]،والعدل في الحكم:{وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل}[النساء 58]،والعدل مع الخصوم:{ولا يَجرِمنَّكم شنآنُ قومٍ على ألّا تعدلوا اعدلوا هوَ أقربُ للتقوى}[المائدة 9]، والعدل ولو على الاقارب والأصدقاء:{كونوا قوّامينَ بالقِسطِ شُهداءَ لله ولو على أنفُسكمْ أو الوالدينِ والأقربينَ إن يكنْ غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تّتبّعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تُعرضوا فإنَّ الله كان بما تعملونَ خبيراُ}[النساء 135].
وضمن حقوق الأسرة والمرأة وضمن الحياة الطيبة لأفراد المجتمع على السواء.
وأمّن حق الحياة والملك والعمل والحرية والعلم والأمن لكل فرد.
وحدد موارد الكسب فلا ضرر فيها ولا ضرار،مع الشدة في محاربة الجرائم والفساد.
وحل مشاكل المال.وقضى على نظام الطبقات.وطارد الرأسمالية القاسية.وقضى على سوء الاستغلال والنظام الربوي.وكفل حقوق العمال والأجراءزوضمن تعاون الحاكم والمحكوم على البر والتقى.
والأمر الثاني:الذي تمتاز به هذه الرسالة هو رسم الطرائق التطبيقية وتبسيطها وتحويلها إلى أعمال يومية،وما الصلاة والصوم والزكاة والحج وما وضع الإسلام من عبادات وقربات وأعمال إلا مظهر من مظاهر هذا التطبيق في ألطف صورة ,أجمل آثاره.
والأمر الثالث:اعتمادها على الضمير الإنساني الموصول برب العالمين،وتقريرها الجزاء في الحياة الآخرة للعاملين.
ويقول الشيخ العلامة محمد رشيد رضا رحمه الله(مجلة المنار العدد 505 بتاريخ الأول من تشرين الأول عام 1932م):
“إن دين الإسلام هو دين الفطرة،والعقل والفكر،والعلم والحكمة، والبرهان والحجة، والضمير والوجدان،والحرية والاستقلال.
1 ـ الإسلام دين الفطرة:
قال الله تعالى:{فأقِم وجهكَ للدِّينِ حنيفاً فطرةَ الله التي فطرَ النَّاسَ عليها لاتبديلَ لخلقِ الله ذلكَ الدِّينُ القيّمُ ولكنَّ أكثرَ النّاس لا يعلمون}[الروم30]، الحنيف وهو الميل عن المعوج إلى الاستقامة، وعن الضلالة إلى الهدى،وعن الباطل إلى الحق، ويقابله الزيغ وهو الميل من الحق إلى الباطل…
وفطرة الله التي فطر الناس عليها هي الجبلة الإنسانية،الجامعة بين الحياتين:الجسمانية الحيوانية، والروحانية الملكية،والاستعداد لمعرفة عالم الشهادة وعالم الغيب،وما أودع فيها من غريزة الدين المطلق الذي هو الشعور الوجداني بسلطان غيبي فوق الكون والسنن والأسباب .
2 ـ الإسلام دين العقل والفكر:
أما ذكر العقل بإسمه وأفعاله في القرآن الحكيم فيبلغ زهاء خمسين مرة،وأما ذكر أولي الألباب ففي بضع عشرة مرة،وأما كلمة أولي النهى أي العقول فقد جاءت مرة واحدة من آخر سورة طه .والآيات الدالة على الدعوة إلى التفكر والتدبر في خلق الله والكون و…
3 ـ ىالإسلام دين العلم والحكمة:
ذكر أسم العلم معرفة ونكرة في عشرات من آيات القرآن الحكيم،وذكرت مشتقاته أضعاف ذلك، وهو يطلق على علوم الدين والدنيا بأنواعها، فمن العلم المطلق قوله تعالى:{ولاتقف ما ليس لك به علم}[الإسراء 17]، وقال تعالى:{إنما يخشى الله من عباده العلماء}[فاطر 28][والآيات كثيرة.
4 ـ الإسلام دين الحجة والبرهان:
يقول تعالى:{يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم }وقال تعالى:{ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به عند ربه إنه لايفلح الكافرون}والآيات كثيرة…
5 ـ الإسلام دين القلب والوجدان والضمير:
يقول تعالى:{إنَّ في ذلك لذكرى لمن كانَ لهُ قلبٌ أو ألقى السّمعَ وهو شهيد}[ق 36]وفي سورة الشعراء{يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم}والآيات كثيرة..
6 ـ منع التقليد والجمود على اتباع الآباء والجدود:
ومن هذه الآيات:قال تعالى:{وإذا قيل اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لايعقلون شيئاً ولايهتدون}وقوله تعالى:{وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله مالاتعلمون} والآيات كثيرة..
7 ـ الحرية الشخصية للدين بمنع الإكراه والاضطهاد ورياسة السيطرة:
قال تعالى:{ولو شاءَ ربُّكَ لآمنَ من في الأرضِ كلُّهُم جميعاً أفأنتَ تُكرهُ النَّاسَ حتى يكونوا مؤمنينَ}[يونس 99].
يقول الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله:”علم الله تعالى رسوله أن من سننه في البشر أن تختلف عقولهم وأفكارهم في فهم الدين وتتفاوت أنظارهم في الآيات الدالة عليه فيؤمن بعض ويكفر بعض،فما كان يتمناه صلى الله عليه وسلم من إيمان جميع الناس مخالف لمقتضى مشيئته تعالى في اختلاف استعداد الناس للإيمان وهو منوط باستعمال عقولهم وأنظارهم في آيات الله في خلقه،والتمييز بين هداية الدين وضلالة الكفر”.
ويقول الأستاذ محمود شلتوت رحمه الله(مجلة الرسالة العدد913):
“ليس الإسلام ـ كما يظن الذين يجهلون حقيقته ـ دين نسك وعبادة فقط،تقتصر مهمته على تنظيم علاقة الإنسان بربه ،وإنما هو ـ كما ينطق كتابه ـ دين عملي، عام، خالد.ينظم علاقة الإنسان بربه، وعلاقته بمواطنيه وبني جنسه،ويرسم للجميع طريق السعادة في الدارين:الدنيا والآخرة{إنَّ هذا القرآنَ يهدي للّتي هيَ أقومُ ويُبشِّرُ المؤمنينَ الذينَ يعملونَ الصّالحاتِ أنَّ لهم أجراً كبيرا*وأن الذينَ لا يؤمنونَ بالآخرةِ أعتدنا لهم عذاباً أليما}[الإسراء9 ـ 10].{يا أيّها الذينَ أمنوا استجيبوا لله وللرسولِ إذا دعاكم لما يُحييكم}[الأنفال 24].{ولو أنَّهم أقاموا التوراةَ والإنجيلَ وما أُنزلَ إليهم من ربّهم لأكلوا من فوقهم ومن تحتِ أرجلهم}[المائدة 66].{فَمن اتّبعَ هُدايَ فلا يَضلُّ ولا يشقى*ومن أعرضَ عن ذكري فإنّ لهُ معيشةً ضَنكاً ونحشرهُ يوم القيامةِ أعمى*قالَ رَبِّ لِمَ حشرتني أعمى وقد كنتُ بصيرا*قالَ كذلكَ أتتكَ آياتُنا فنسيتها وكذلكَ اليوم تُنسى*وكذلكَ نجزي من أسرفَ ولم يؤمن بآياتِ ربّه ولعذابُ الآخرةِ اشدُّ وابقى}[طه 123 ـ 127].
ويتابع رحمه الله:”شرع الله الإسلام،وجعل منه نظاما يكفل سعادة الفرد والجماعة في الدنيا والآخرة، لم يترك عنصراً من عناصر الخير والفلاح،وعناصر الحياة الطيبة والسعادة الخالدة إلا أمر به ودعا إليه ،وحثّ عليه،ولم يترك عنصراً من عناصر الشرّ والفساد ،وعناصر الحياة الذليلة والشقاء المقيم إلا نهى عنه وحذر منه ونفر منه.
ذلك أن الإسلام بنى تنظيمه للعالم على الواقع وهو :إن الإنسان جسم وروح،وأن للجسم حظاً ومتعةنوأن للروح حظاً ومتعة، وأن للإنسان شخصية مستقلة عن بني جنسه،وشخصية يكون بها لبنة في المجتمع الوطني والإنساني،وأن له بكل من هاتين الشخصيتين حقوقاً وعليه واجبات.ولا تتحقق سعادة الإنسان إلا باستكماله حظ الجسم والروح ،وتنظيم حقوقه وواجباته في نفسه وفي مجتمعه دون إفراط ولا تفريط.وكل ما جاء به الإسلام من عقائد وعبادات وآداب وتشريعات لا يخرج عن هذه الدائرة،دائرة رعاية حظ الجسم وحظ الروح للإنسان منفرداً ومجتمعاً”.
ويقول العلامة الأستاذ محمود شلتوت رحمه الله(مجلة الرسالة العدد601):
“ولكن ماسر الصلاحية التي استحقت بها شريعة الإسلام أن تكون هي الشريعة الخالدة؟
ليس الباحث أن يستقصي جميع الأحكام التي جاءت بها الشريعة المحمدية حكما حكما، ويتتبع ذلك في كل جزئية من الجزئيات ليختبر مبدأ الصلاحية ويعرف مداه،فإن هذا شيء يطول ولا يكاد يقف عند حد.ولكن حسبه أن ينظر إلى مبدأ واحد هو المحور الذي تدور عليه سلئر الأحكام مهما تعددت وتنوعت،وبيان ذلك: أن من يتأمل حالة العالم في عصوره المتعاقبة وأطواره المتتابعة يعرف حق المعرفة أنه كان يتردد بين طرفين من إفراط وتفريط.وكان ذلك شأنه في كل شيء:في العقائد ، في الأخلاق، في صلة الإنسان بالحياة،في علاقة الفرد بالمجتمع،في علاقة الأمم بعضها ببعض،في طريقة التشريع،إلى غير ذلك من سائر الشئون، وقد جاء الإسلام فأدرك أن العالم لايصلح بواحدة من هاتين الخطتين،وإنهما منافيتان للفطرة الإنسانية والطبيعة البشرية،منافيتان لسنن الاجتماع التي تقضي بالوقوف عند الحد الوسط في كل شيء لضمان البقاء والصلاح،وعدم التعرض للانحلال والفساد.أدرك الإسلام ذلك فجاءت شريعته وسطاً لا إفراط فيها ولا تفريط،ووقعت أحكامها ومبادئها مهما تنوعت وتشعبت في هذه الدائرة التي رسمها الله في كتابه العزيز{وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس}،{وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}.
هي في العقيدة وسط بين الذين ينكرون الإله، ويزعمون أن هذه الحياة الدنيا ليست إلا وليدة المصادفات والتفاعلات المادية{إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر} وبين الذين يقولون بالتعدد، ويتخذون مع الله أندادا:تقرر في صراحة وجلاء أن الله إله واحد،وأنه المعبود الذي لا يعبد سواه{قل هو الله أحد*الله الصمد*لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد}، {وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون}،{قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}.
وهي في الأخلاق وسط بين الذين يتحللون من كل الفضائل وبين الذين يشتطون في تصور الفضيلة والتزام طرف التشديد فيها:تقر أن الفضيلة وسط بين رذيلتين: لا جبن ولاتهور،لابخل ولا تبذير،لا استكبار ولا استخذاء،لا جزع ولا استكانة.وأساس ذلك كله قوله تعالى:{ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسورا}،{والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما}.
وهي في صلة الإنسان بالحياة وسط بين المادية البحت التي لا تعرف شيئا وراء ما يقع عليه الحس من طعام وشراب ولذات وشهوات وغلبة وبطش وجمع للاموال وتكاثر وتفاخر،وبين الروحية البحت التي تزهد بالحياة وتعرض عنها إعراضا تاما، فلا زواج ولا سعي ولا عمل، ولكن تبتل مطلق وإهمال للأسباب!يقرر الإسلام في ذلك الوسط أيضاً فيقول:{وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا}،{فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله}،{قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق}.
وهي في طريقة التشريع ووضع قوانين الحياة وسط:لم تدع الناس يشرعون لأنفسهم في كلشيء ولم تقيدهم بتشريع من عندها في كل شيء بل نصت وفوضت:نصت فيما لا تستقل العقول بإدراكه، كالعبادات زمانا ومكانا وكيفية ونحو ذلك،وفيما لا تختلف المصلحة فيه باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، كالمواريث وأصول المعاملات، من بيع وشراء وتحريم لأكل أموال الناس بالباطل ونحو ذلك،وفوضت فيما يدرك العقل الخير فيه وتختلف المصلحة فيه بتغير الأزمنة والأمكنة والأشخاص، ومن هنا وجد الاجتهاد وكان ركنا من أركان الشريعة الإسلامية حفظ الله به للعقل الإنساني كرامته.
وهي في تحديد علاقة الفرد بالجماعة وسط أيضاً:لم يترك الفرد طليقاً يفعل ما يشاء ويترك ما يشاء ولم تدعه كالوحش في الفلاة يجري ويمرح ويعبث ويفترس ما يقدر عليه،ويتحكم فيه الأقوى منه، ولم تلغ شخصه،وتنس استقلاله، وتضيعه في غمار الجماعة لا يعمل إلا لها،ولا يفكر إلا فيها،ولا يعرف لنفسه وجوداً غير وجودها، كأنه جزء من آلة يتحرك بحركتها ويسكن بسكونها،ولكنها اعتبرته ذا شخصية مستقلة،وفي الوقت نفسه اعتبرته لبنة في بناء المجتمع،فأثبتت له، بالاعتبار الأول، حق الملكية لماله ودمه والهيمنة على نفسه وولده،ومنحته في هذه الدائرة حق التصرف بما يراه خيرا له وسبيلاً لسعادته في حياته،وأوجبت عليه بالاعتبار الثاني،حقا في نفسه بالخروج للغزو والجهاد في سبيل رد العدوان عن الوطن،وحقا في ماله في البذل والإنفاق في سبيل الله،وأوجبت عليه إرشاد الأمة وأمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر، وأوجبت عليه أن يعمل لإنجاب النسل الصالح وتكثير سواد الأمة به فيختار الولود ذات الدين والخلق، لتقوى بذلك الأمة ويعلو شأنها.
وفي مقابل هذه الحقوق التي قررتها الشريعة على الفرد للجماعة،أوجبت على الجماعة للفرد حقوقاً لا سعادة إلا بها:كفلت له دمه وماله وعرضه،وشرعت لحمايته حق القصاص وحق الحد والتعزير، وجعلت له حق في أن تعينه بمالها إذا افتقر، وبذلك تبادل الفرد مع المجتمع الحقوق والواجبات وجعلت سعادة الحياة منوطة بالتعادل بين الجانبين،وعدم طغيان أحدهما على الآخر.
وكذلك كان شأن الشريعة الإسلامية في تحديد علاقة الأمة بغيرها من الأمم:لم ترض للمسلمين بحياة الضعف والذلة وأن يكونوا عزلا من القوة ينتظرون حظهم،ويترقبون مصيرهم،وما تقرره الأمم الأخرى في شأنهم،ولم ترض لهم كذلك بحياة الظلم والاستبداد والفتك بالضعفاء والاعتداء على الآمنين في أوطانهم وأموالهم،ولكنها أمرت المسلمين بالاستعداد والتقوى بالعدة والعدد{وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم}،وأمرتهم أن يدعوا إلى الله بالحجة والبرهان لا باقهر والإكراه{لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي}،{افأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}.
هذا هو الصراط المستقيم، والمبدأ الوسط الذي تسير عليه الشريعة الإسلامية في جميع أحكامها، والذي صلحت به لكل زمان ومكان، واستحقت به الخلود إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
ويقول الشهيد سيد قطب رحمه الله(هذا الدين ـ تحت عنوان خطوط مستقرة):
“من العصبية القبلية،بل عصبية العشيرة، بل عصبية البيت،التي كانت تسود الجزيرة العربية…ومن عصبية البلد، وعصبية الوطن،وعصبية اللون، وعصبية الجنس…التي كانت تسود وجه الأرض كله..من هذه العصبيات الصغيرة التي لم تكن البشرية تتصور غيرها في ذلك الزمان،جاء الإسلام ليقول للناس:إن هناك إنسانية واحدة،ترجع إلى أصل واحد،وتتجه إلى إله واحد.وإن اختلاف الأجناس والألوان، واختلاف الرقعة والمكان،واختلاف العشائر والآباء…كل أولئك لم يكن، ليتفرق الناس ويختصموا، ويتحوصلوا وينعزلوا ولكن ليتعارفوا ويتآلفوا،وتتوزع بينهم وظائف الخلافة في الأرض ويرجعوا بعد ذلك إلى الله الذي ذرأهم في الأرض واستخلفهم فيها.وقال لهم الله سبحانه في القرآن الكريم:{يا أيُّها الناسُ إنّا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكُم شعوباً وقبائلَ لتعارفوا إنّ أكرمَكُم عند الله أتقاكم إنّ الله عليمٌ خبير}[الحجرات13] وقال تعالى:{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلقَ منها زوجها وبثَّ رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلونَ به والأرحام إنّ الله كان عليكم رقيباً}[النساء1]وقال تعالى:{ومن آياته خلقُ السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إنّ في ذلك لآياتٍ للعالمين}[الروم22].
ولم تكن هذه مبادئ نظرية،ولكنها كانت أوضاعاً عملية..لقد انساح الإسلام في رقعة من الأرض فسيحة، تكاد تضم جميع الأجناس وجميع الألوان…وذابت كلها في النظام الإسلامي. ولم تقف وراثة لون، ولا وراثة جنس، ولا وراثة طبقة،ولا وراثة بيت دون أن يعيش الجميع إخواناً،ودون أن يبلغ كل فرد منهم ماتؤهله له استعدادته الشخصية،وما تكفله له صفته الإنسانية.
ويقول الشهيد سيد قطب رحمه الله(الرسالة العدد 1013):
“وحين ننظر إلى مقامات الرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ من ناحية الاستعداد لإدراك الوحدة الكبرى،ومن ناحية شمول الرسالة لكل جوانبها،ومن ناحية محيطها وامتدادها نجد محمداً صلى الله عليه وسلم في القمة العليا فالإسلام هو أكمل تصوير لتلك الوحدة:وحدة الخالق الذي ليس كمثله أحد،ووحدة الإدارة التي يصدر عنها الوجود كله بكلمة:”كن”.ووحدة الوجود الصادر عن تلك الإدارة،ووحدة الناموس الذي يحكم هذا الوجود،ووحدة الحياة في الخلية الساذجة إلى الانسان الناطق،ووحدة البشرية من آدم إلى آخر أبنائه في الأرض،ووحدة الدين الصادر من الإله الواحد إلى البشرية الواحدة،ووحدة الرسل المبلغين لهذه الدعوة،ووحدة المؤمنين الذين لبوا دعوة الدعاة،ووحدة النفس البشرية جسماً وعقلاً وروحاً،غريزة وميلاً وشوقاً،ووحدة العمل والعبادة ما دام كلاهما متجهاً إلى الله،ووحدة الدنيا والآخرة داري العمل والجزاء”.
ويقول الأستاذ عصام العطار حفظه الله[من بقايا الأيام]:”إن الإسلام ـ كما يظهر ذلك لأدنى تأمل ـ يمحو من حياة الإنسان والمجتمع التناقض الموهوم،ويزيل الصراع المصطنع، ويزاوج بين الروح والمادة، والعقيدة والعقل، والضمير والسلوك، ويلائم بين المبادئ الثابتة والتطور السليم، وبين نشاط الفرد ومصلحة الجماعة”.
ولقد أمر الله عز وجل المسلمين بأخذ الإسلام بكل جوانبه وأبعاده دون إغفال جانب منه أو إهمال أخر{يا أيُّها الذين أمنوا ادخُلوا في السِّلمِ كافة ولاتتّبعوا خطواتِ الشيطانِ إنّهُ لكم عدوٌّ مبين} [البقرة208].
يقول الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله(مجلة المنار العدد 224 الموافق 20 شباط عام 1905):
“والسلم بكسر السين وفتحها :المسالمة والانقياد والتسليم فيطلق على الصلح والسلام وعلى دين الإسلام.قرأ ابن كثير ونافع والكسائي بفتح السين والباقون بكسرها.وقد فسره بعض المفسرين بالصلح وبعضهم بالإسلام وعليه الجلال وقال في تفسير(كافة): حال من السلم أي في جميع شرائعه:وهذه كلمة عظيمة وقاعدة لو بنى جميع علماء الدين مذاهبهم عليها لما تفاقم أمر الخلاف في الأمة ذلك أنها تفيد وجوب أخذ الإسلام بجملته بأن ننظر في جميع ماجاء به الشارع في كل مسألة من نص قولي وسنة متبعة ونفهم المراد من ذلك كله لا أن يأخذ كل واحد بكلمة أو سنة ويجعلها حجة على الآخروأن أدت إلى ترك كثير من النصوص والسنن وحملها على النسخ أو المسخ بالتأويل،أو تحكيم الاحتمال بلا حجة أو دليل،ولو أنك دعوت العلماء إلى العمل بالآية على هذا الوجه الذي عرفوه ولم ينكره على قائليه أحد منهم وأن رجح بعضهم في التفسير غيره عليه لولوا منك فراراً، وأعرضوا عنك استكباراً،وقالوا مكر مكراً كباراً،إذ دعا إلى ترك المذاهب،وحاول إقامة المسلمين على منهج واحد، ومن آيات العبرة في هذا المقام إننا نجد في كلام كثير من علمائنا هدى ونورا لو اتبعته الأمة في أزمنتهم لاستقامت على الطريقة،ووصلت إلى الحقيقة،بعد الخروج من مضيق الخلاف والشقاق، إلى بحبوحة الوحدة والاتفاق،والسبب في بقاء الغلب لسلطان الخلاف والنزاع فشو الجهل وتعصب اهل الجاه من العلماء لمذاهبهم التي إليها ينتسبون،وبجاهها يعيشون ويكرمون،وتأييد الأمراء والسلاطين لهم استعانة بهم على إخضاع العامة،وقطع طريق الاستقلال العقلي والنفسي على الأمة،لأن هذا أعون لهم على الاستبداد، وأشد تمكيناً لهم مما يهوون من الفساد والإفساد،إذ اتفاق كلمة علماء الأمة واجتماعها على أن الحق كذا بدليل كذا ملزم للحاكم بإتباعهم فيه لأن الخواص إذا اتحدوا تبعهم العوام،وهذه هي الوسيلة الفردة لإبطال استبداد الحكام،وهذا التفسير مؤيد بالنعي على الذين جعلوا القرآن عضين،والإنكار على الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض،أي يعملون ببعضه على أنه دين،ويتركون بعضاً بالتأويل أو غير التأويل،كشأن من لم يصدق بأنه من الله،فوجوب أخذ القرىن والدين بجملته، وفهم هدايته من مجموع ماثبت عمن جاء به،أمر مقرر في ذاته”.
ويقول الشهيد سيد قطب رحمه الله في مقال له بعنوان”خذوا الإسلام جملة أو دعوه” يقول:
“إن الإسلام كل لايتجزأ فإما أن يؤخذ جملة وإما أن يترك جملة.وأما أن يُستفتى الإسلام في صغار الشؤون، وأن يهمل في الأسس العامة التي تقوم عليها الحياة والمجتمع فهذا هو الصغار الذي لايجوز لمسلم ـ فضلاً على عالم الدين ـ أن يقبله للإسلام.
إن الإسلام يربي الناس تربية خاصة، ويحكمهم وفق شريعة خاصة، وينظم شؤونهم على أسس خاصة،ويخلق مقومات اجتماعية واقتصادية وشعورية خاصة.فأولاً طبقوا الإسلام جملة:في نظام الحكم، وفي أسس التشريع،وفي قواعد التربية.ثم انظروا هل تبقى هذه المشكلات التي تسألون عنها، أم تزول من تلقاء نفسها.
أوجدوا المجتمع الإسلامي، الذي تحكمه شريعة الإسلام ومبادئ الإسلام وربوا النساء والرجال تربية إسلامية في البيت والمدرسة والمجتمع.وأوجدوا ضمانات الحياة التي يكفلها الإسلام للجميع وحققوا عدالة الإسلام التي يفرضها للجميع”.
ويقول الشهيد سيد قطب رحمه الله(دراسات إسلامية ص 73 تحت عنوان كيف ندعو الناس إلى الإسلام):
“الإسلام عقيدة الضمير،ينبثق منها سلوك في المجتمع،ويقوم عليها نظام للحياة.نظام كامل يتناول نشاط الفرد في حياته العائلية،وحياته الإجتماعية، وحياته الدولية.ويحكم على علاقاته المتنوعة في تلك الميادين كلها،ويضع الشرائع التي تنظم هذه العلاقات.لذلك يستحيل الفصل في الحياة الإسلامية بين العقيدة الكامنة في ضمير الفرد،والشريعة التي تحكم حياته..إن هذه الشريعة لا تقوم إلا على أساس من تلك العقيدة. كما أن العقيدة حين توجد في الضمير فإنها تحاول أن تظهر في واقع الحياة في صورة شريعة،ولا انفصام بين هذه وتلك في طبيعة الإسلام.هذه الحقيقة كفيلة بأن ترسم لنا طريقنا في الدعوة إلى الإسلام،كما أنها قد رسمت من قبل خط سير الدعوة الإسلامية في واقعها التاريخي.
لقد بدأ محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم داعياً إلى الإسلام،فما أن استمع بعض الناس إليه،حتى أتم دعوته مشرعاً ومنظماًوحاكماً.إنه صلى الله عليه وسلم ـ لم يدع مالقيصر لقيصر وما لله لله،لأن الإسلام يعتبر كل شيء لله. ولايعرف قيصر إلا منفذاً لشريعة الله،منظماً لشريعة الله، منظماً للحياة بقانون الله.
ويتابع رحمه اله:”هذا الواقع التاريخي إلى جانب تلك الحقيقة الواضحة في طبيعة الإسلام، كلاهما يرسم لنا طريقنا في الدعوة إلى الإسلام.إن هذا الدين لا يصلح آخره إلا بما صلح به أوله: أن نسعى في تكوين الفرد المسلم، حتى إذا كان، انبعث هو انبعاثاً ذاتيا إلى تحقيق نظام الإسلام.غير أن خطواتنا اليوم في طريق الدعوة قد تحتاج إلى شيء من التعديل يناسب طبيعة العصر الذي نعيش فيه،والملابسات التي تحيط الآن بالحياة.
ويتابع رحمه الله:”وليس هنالك إلا اختلاف ظاهري بين أوضاعنا الحاضرة،والأوضاع التي كانت مع عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه الوجهة،وإن خُيّل إلى البعض أن الدعوة إلى تحرير البشر من عبودية الأرباب المتفرقة لا موضع لها اليوم ولا ضرورة. كلا! فإن عبادة الأرباب المتفرقة اليوم،لا تنقص عن عبادة الأرباب المتفرقة في الجاهلية.كل ما تغير هو نوع الأرباب، لا عبادة الأرباب! أمت عبادة الشهوات، وعبادة الخرافات، فهما هما على حالهما بغير استثناء!
أما التعديل الذي نحتاج إليه في خطواتنا اليوم،فهو ألا نبدأ بتكوين الفرد المسلم من الناحية الاعتقادية والسلوكية فحسب،بل أن نضم إلى هذا ـ وفي ذات الوقت ـ عرض برامج اجتماعية للحياة،قائمة على اصول الفكرة الإسلامية،ومستمدة من الشريعة الإسلامية.وألا ننظر بهذه البرامج حتى يتم تكوين الأفراد المسلمين،وألا نرسم هذه البرامج جزءاً جزءاً ويوماً بعد يوم،كما حدث في أيام الدعوة الأولى”.
ويقول الشهيد سيد قطب في قوله تعالى:{وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لاتخذوكَ خليلاً}[الإسراء 73]يقول رحمه الله:
“هذه المحاولات التي عصم الله منها رسوله هي محاولات أصحاب السلطان مع أصحاب الدعوات دائماً.محاولة إغرائهم لينحرفون ولو قليلاً عن استقامة الدعوة وصلابتها.ويرضوا بالحلول الوسط التي يغرونهم بها في مقابل مغانم كثيرة.
ومن حملة الدعوات من يفتن بهذا عن دعوته لأنه يرى الأمر هيناً،فأصحاب السلطان لا يطلبون إليه أن يترك دعوته كليا،إنما هم يطلبون تعديلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق.
وقد يدخل الشيطان على حامل الدعوة من هذه الثغرة،فيتصور أن خير الدعوة في كسب أصحاب السلطان إليها ولو بالتنازل عن جانب منها.
ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق.وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ولو يسير،وفي إغفال طرف منها ولو ضئيل،لا يملك أن يقف عند ما سلم به أول مرة لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء.
والمسألة مسألة إيمان بالدعوة كلها.فالذي ينزل عن جزء منها مهما صغر،والذي يسكت عن طرف منها مهما ضؤل،لا يمكن أن يكون مؤمناً بدعوته حق الإيمان.فكل جانب من جوانب الدعوة في نظر المؤمن هو حق كالآخر.وليس فيها فاضل ومفضول،وليس فيها ضروري ونافلة،وليس فيها ما يمكن الاستغناء عنه،وهي كلٌّ متكامل يفقد خصائصه كلها حين يفقد أحد أجزائه.كالمركب يفقد خواصه كلها إذا فقد أحد عناصره.
وأصحاب السلطان يستدرجون أصحاب الدعوات فإذا سلّموا في الجزء فقدوا هيبتهم وحصانتهم،وعرف المتسلطون أن استمرار المساومة،وارتفاع السعر ينتهيان إلى تسليم الصفقة كلها.
والتسليم في جانب ولو ضئيل من جوانب الدعوة لكسب أصحاب السلطان إلى صفها هو هزيمة روحية بالاعتماد على أصحاب السلطان في نصرة الدعوة.والله وحده هو الذي يعتمد عليه المؤمنون بدعوتهم،ومتى دبت الهزيمة في أعماق السريرة فلن تنقلب الهزيمة نصراً”.
يقول الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله(مجلة المنار العدد361 بتاريخ 12 حزيران عام 1915):
“إن الله سبحانه وتعالى قد أكمل دينه وأتمّ به نعمته على المؤمنين بما أنزله من القرآن على خاتم رسله، وبما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم أكمل القيام من بيان مراد الله تعالى من تنزيله،فهذه مسألة قطعية ثابتة بالنقل والعقل.
وإن هذا الدين يسر قد رفع الله تعالى منه الحرج كما نطق به النص في آية الوضوء وفي آيات الصيام من سورة البقرة.وقال تعالى في سورة الأعلى{ونيسرك لليسرى}أي الشريعة التي تفضل غيرها باليسر، ولذلك سماها الرسول صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة، ووصفها بقوله ليلها كنهارها، وجعل الدين عين اليسر مبالغة في يسره فقال:”إن هذا الدين يسر ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه“[رواه البخاري].
وإن القرآن الكريم هو أصل الدين وأساسه، وقد قال تعالى:{مافرطنا في الكتاب من شئ}وقال:{تبياناً لكل شئ}، وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فهو المبلغ له والمبين لمراد الله تعالى مما جاء فيه مجملاً، قال تعالى:{إن عليك إلا البلاغ}وقال:{وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس مانزل إليهم}وقال:{إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله}.
وإن الله تعالى جعل الإسلام صراطه المستقيم لتكميل البشر في أمورهم الروحية والجسدية، ليكون وسيلة للسعادة الدنيوية والأخروية، ولما كانت الأمور الروحية التي تنال بها سعادة الآخرة من العقائد والعبادات لاتختلف باختلاف الزمان والمكان أتمها الله تعالى وأكملها أصولاً وفروعاً.وقد أحاطت بها النصوص فليس لبشر بعد الرسول أن يزيد فيها ولا أن ينقص منها شيئاً.وأما الأمور الدنيوية من قضائية وسياسية فلما كانت تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة بيّن الإسلام أهم أصولها، وما مست إليه الحاجة في عصر التنزيل من فروعها،وكان من إعجاز هذا الدين وكماله أن ما جاءت به النصوص من ذلك يتفق مع مصالح البشر في كل زمان ومكان،ويهدي أولي الأمر إلى أقوم الطرق لإقامة الميزان.
وإن الإسلام دين توحيد واجتماع، وقد نهى أشدّ النهي عن التفرق والاختلاف،قال تعالى:{واعتصموا بحبل الله جميعاً ولاتفرقوا}وقال:{إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شئ}.انتهى كلام الشيخ رشيد رضا.
ويقول الأستاذ أحمد حسن الزيات رحمه الله(الرسالة العدد550):
“عبقرية الإسلام هي ذلك الإشراق الإلهي الذي انبثق من غار حراء فكشف للرسول صلى الله عليه وسلم عن أطوار النفس البشرية في طوايا الغيب فدعا دعوته الخالدة إلى تكريم الإنسان وتنظيم العمران وتعميم الخير وتحقيق السعادة،من طريق التوحيد والمؤاخاة،والمساواة،والحرية والسلام.فالتوحيد سبيل القوة،والمؤاخاة سبيل التعاون،والمساواة سبيل العدل،والحرية سبيل الكرامة،والسلام سبيل الرخاء.وتلك هي الغايات التي التي ترجو الإنسانية بلوغها عن طريق العلم والمدنية فلا تتكشف أماليها بعد طول السرى وفرط اللغوب إلا عن سحاب خلب وسراب خادع.
هذه المبادىء المثالية التي تضمنها دعوة الإسلام معلومة من القرآن بالنصوص الصريحة،فلا موضع لافيها لتأويل أو تحميل أو تعسف.فالتوحيد ركن من أركان الدين وعنوان من عناوينه وهو من الكلم الجوامع التي وعت جوهر الإصلاح وسر النجاح لكل مجتمع وأمة.
هو توحيد الله،وتوحيد العقيدة،وتوحيد الغاية،وتوحيد اللغة،وتوحيد الحكم،وتوحيد التشريعنوتوحيد الدين والدنيا.
وفكرة الوحدة الإنسانية هي مزية الدعوة المحمدية على كل دعوة.وفي سبيلها صدق الإسلام بكل دين أنزل ،وبكل نبي أرسل،ودعا الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً إلى خطة واحدة وكلمة سواء.ثم وصل الدين بالدنيا،وكانت اليهودية والنصرانية تفصل بينهما،فالأولى كان همها الصفق والاجتراح،والأخرى كان سبيلها الرهبانية والتنسك.ولكن الإسلام جعل الدين للدنيا كالروح للجسد،فلا تعمل إلا بوحيه،ولا تسير إلا بهديه.ثم آخى بين المؤمنين ليجتمعوا على صدق المودة،ويتعاونوا على لأواء العيش،فلا يبغي قوي،ولا يبخل غني،ولا يظلم متسلط.كذلك في سبيل الوحدة الإنسانية والأخوة الإسلامية فرض الإسلام الزكاة، وشرع الحج،وأمر بالإحسان والبر،ثم سوى بين الناس على اختلاف ألسنتهم وألوانهم في الحقوق والواجبات،بمحو العصبية الوطنية،وقتل النعرة الجنسية،وجعل التقديم والتكريم للتقوى،فقال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع:”إن ربكم واحد،وإن أباكم واحد.كلكم لآدم وآدم من تراب.إن أكرمكم عند الله أتقاكم.لافضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى”.
ويقول الأستاذ أحمد أمين رحمه الله(مجلة الثقافة ـ العدد18 بتاريخ 2 آيار عام 1939):
“وسبب خلود تعاليم الإسلام أنها إنسانية عامة،لم تخضع في جوهرها وأسسها الأولى لظروف الزمان ولا ظروف المكان،فلم ينظر فيها إلى العرب وحدهم،ولا إلى الروم وحدهم،ولا إلى الناس في زمنه،إنما نظر فيها إلى الإنسان من حيث هو إنسان،فبقيت ما بقي الإنسان،ولم يفرّق فيها بين عربي وغير عربي،ولم يتميز فيها غني عن فقير،ولا أبيض البشرة عن أسودها،ولا طبقة في الشعوب عن طبقة،ولا شرقي عن غربي،ولم يكن فيها نعرة جنسية،ولا نغمة أرستقراطية،ولكن فيها أن الإنسان أخو الإنسان،والأبيض أخو الأسود،والرجل أخو المرأة،والغني أخو الفقير،والملك أخو الرعية.وكانت كل رسالته وكل أقواله ترمي إلى غاية واحدة:ألا يفر الإنسان من هذا العالم بالعزلة،ولكن يكون قوة فعالة لاستئصال الشر وفعل الخير،وتمام الانسجام بينه وبين من يعيش معهم،وتحقيق العدل والإحسان له ولهم،وأن يعيش لخير نفسه وخير من معه وخير العالم.
ويتابع رحمه الله:“لقد كان كل نبي قبل محمد صلى الله عليه وسلم يحمل مصباحاً لقومه،فجاء محمد صلى الله عليه وسلم يحمل مصباحاً للعالم”
ويقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله(البواكير ـ مقال سيف الإسلام في أعناق أعدائه):
“إن الإسلام سلسلة متماسكة الأجزاء،لاسبيل لكم إلاّ إلى قبولها جملة أو رفضها جملة،أمّا أنكم تؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض،فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويومَ القيامة يُرَدّون إلى أشد العذاب،وما الله بغافل عما تعملون.
وليس الإسلام كالنصرانية،وليس يكفي صاحبه ما يكفي صاحبها من أن يحضر صلواتها ويعترف لقُسُسها وبطارقها،ثم يعيش في الحياة كالسائمة يُلقى حبلُها على غاربها فترعى ما ضرّها ونفعها وافادها وآذاها!بل الإسلام دين كامل يُنير لمتّبعيه كل خطوة من خطى الحياة،ويدّلهم على كل غاية فيها لهم صلاح وهدى،فهو دين،وهو قانون ،وهو كل شيء.
فهما ثنتان أيها القوم ولا ثالثة لهما،إما أن تكونوا مسلمين في سركم وجهركم،وجِدِّكم وهزلكم،وبيوتكم ومجامعكم،وفي كل أمر من أموركم ووقت من أوقاتكم،وإما أن تخرجوا من الإسلام وتخلعوا رِبقته من أعناقكم وتنفضوا منه أياديكم،ثم تقولوا للناس إنكم كافرون مرتدّون،وإذن تخسرون كل شيء إذ تخسرون الإسلام ولا يخسر الإسلام ـ وربّ محمد ـ إذ يخسركم شيئاً.وإن ديناً تعهّد الله بحفظه لا يضيره أن يخرج منه أقوام علم الله أنهم لم يدخلوا فيه أبداً!”.
ولقد فهم السلف الصالح رضوان الله عليه أجمعين هذا النداء الإلهي حقّ الفهم، فأخذوا الإسلام بكل نواحيه وأبعاده، فهماً وعملاً وتطبيقاً، وأما الخلف فإننا وللأسف نجد الكثيرين منهم وبسبب رواسب عصور الإنحطاط، قد أخذوا من الإسلام مُسمياته وأهملوا الكثير من معانيه ومفاهيمه،وأخذوا بالكثير من الشعارات والعناوين وأغفلوا ماتحمله بين ثناياها من المضامين،أخذوا بالمبنى وتركوا المعنى، وأخذوا بمظاهر الإسلام وتركوا روحه وجوهره.
إن هذا الانحراف الفكري والسلوكي عند هؤلاء المسلمين يمكن أن نجده في أربعة نماذج رئيسية:
الصنف الأول:
“أهلك الناس الأماني”
ـ هناك صنف من المسلمين يدّعي محبة الله ورسوله، وإتباع منهجه وشريعته، وأنه من أتباعه وأوليائه،ولكن الإسلام عندهم قولٌ بلاعمل، وتمنٍ كاذب وطولُ أمل،وعواطف جياشة ومشاعر فياضة،ورجاء غير مقرون بالخوف، وطمعٌ لاتصاحبه خشية.
هم أناسٌ يتمنون على الله الاماني، ويظنون أن لفظ الشهادة وحده كاف لفتح ابواب الجنة ووصد أبواب النار.
هم أناسٌ تراهم يأخذون طرفاً من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، وينسون أو يتناسون ويغفلون أو يتغافلون عن الآيات والأحاديث المكملة أو الشارحة لها، ويحسنون الظن بالله تعالى، وكذبوا والله، فلو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل، ونسوا في إدعائهم أن طريق الجنة محفوف بالمكاره، وأن سلعة الله غالية، ونسوا أو تناسوا أن طريق النار محفوف بالشهوات، وأنه لاينجو من النار إلا من أتى الله بالعمل الصالح والقلب السليم.
يقول الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله:”وقد هدمت عقيدة الله ذلك الطمع الأشعبي والأماني الفارغة التي جعلت صنفاً من الناس يحسبون الجنة حكراً لهم أو عقاراً يتوارثونه عن الآباء والأجداد يستحقونه بمجرد الانتساب إلى دين معين، أو الدخول تحت عنوان خاص.أبطل الإسلام هذه الدعاوى العريضة ورد الأمر كله إلى صدق الإيمان وحسن العمل{ وقالوا لن يَدخُلَ الجنّةَ إلا من كان هُوداً أو نصارى تلكَ أمَانِيُّهم قل هاتوا بُرهانَكُم إن كنتم صادقين* بلى من أسلمَ وجههُ لله وهو مُحسِنٌ فلهُ أجرُهُ عندَ رَبِّهِ ولاخوفٌ عليهم ولاهُم يحزنون}.[البقرة112]
وبهذا رسم الطريق إلى الجنة، إسلام الوجه وإحسان العمل، ولم يكن هذا موقفه من اليهود والنصارى فحسب، فلقد وقف نفس الموقف من الأشعبيين من المسلمين أنفسهم، أؤلئك الحمقى الذين يُتبعون أنفسهم هواها ويتمنون على الله الأماني، ويظنون أن النطق بكلمة الشهادة، والتسمي بأسماء المسلمين، يكفي ليفتح لهم أبواب الجنة فيدخلوها بسلام آمنين!!
ولكن القرآن الكريم بيّن لهم أن قانون الله في الجزاء عام لعباده قاطبة،لامحاباة عنده، ولافرق بين طائفة وطائفة{ليسَ بآمانِيِّكُم ولا أماني أهلِ الكتابِ مَن يَعمَل سُوءاً يُجزَ بهِ ولايجد لهُ من دُونِ الله ولياً ولانصيراً* ومن يعمل من الصّالحاتِ من ذَكرٍ أو أنثى وهُوَ مُؤمنٌ فأولئكَ يَدخلُونَ الجنَّةَ ولايُظلمونَ نقيراً}. [النساء123 ـ 124].(انتهى كلام القرضاوي).
نعم، هناك من يظن أنه إذا صلى الجمعة إلى الجمعة، وصلى عيدي الفطر والأضحى، وشارك بعد الصلاة وسماع الخطبة بما يسمونها كذباً حلقات الذكر، وأنه إذا قفز وعرق، وسقط على الأرض مغشياً عليه كمن أصابه نوبة الصرع،أو من لامس جسمه منبع كهرباء، وأنه إذا سمع القرآن يتلى وهو يشرب القهوة أو الشاي في حلقات النرد والورق، وأطلق بين الفينة والأخرى بعض الصرخات والنداءات التي تدل على استحسانه للآيات ولسماع صوت القارئ، وأنه إذا صام رمضان بالامتناع عن الطعام والشراب، فإنه قد قام بفرائض الإسلام وأنه لاحرج عليه مما يصنع بعد ذلك مادام كما يقول: القلب سليم والنية صافية، وانه محب لله ورسوله، فلاحرج عليه إن أهمل الصلوات المفروضة أو قصّر فيها، ولاحرج إن غش وقامر، وسكر وشرب، ولاحرج عليه إن قطع أواصر القربى ووشائج المحبة مع الأقارب والاصدقاء، ولاحرج عليه إن أكل أموال الناس بالظلم والخداع…
يقول حُجّة الإسلام أبو حامد الغزالي صاحب الإحياء رحمه الله:”وفرقة أخرى من عوام الخلق وأرباب الأموال والفقراء، اغتروا بحضور مجالس الذكر واعتقدوا أن ذلك يغنيهم ويكفيهم واتخذوا ذلك عادة، ويظنون أن لهم على مجرد سماع الوعظ دون العمل ودون الاتعاظ أجراً،وهم مغرورون، لأن فضل مجالس الذكر لكونه مرغباً في الخير، فإن لم يُهيّج الرغبة فلاخير منه.والرغبة محمودة لأنها تبعث على العمل، فإن ضعفت على الحمل على العمل فلاخير فيها، وربما يغتر بما يسمعه من الوعظ من فضل حضور المجلس وفضل البكاء، وربما تدخله رقّة كرقّة النساء فيبكي ولاغرم، وربما يسمع كلاماً مُخوّفاً فلايزيد على أن يصفق بيديه ويقول ياسلام سلّم،أو تعوّذ بالله أو سبحان الله، ويظن أنه قد أوتي الخير كله وهو مغرور”.
ويقول الشيخ العلامة محمد الغزالي رحمه الله(مقال بعنوان “يا للرجال بلا دين” من كتاب قذائف الحق):
“إن عرب اليوم لا يقدّرون محمدً قدره،ولا يخلفونه بأمانة في مبادئه وتعاليمه،ولا يحسون قبح الشبهات التي أثارها خصومه ضده بل هم ـ علماً وعملاً ـ مصدر متاعب للإسلام ولنبيه الكريم،وشاهد زور يجعل الحكم عليه لا له!
إنه حبٌّ غايته صلوات تفلت من الشفتين،مصحوبة بعواطف حارة أو باردة،وقلما تتحول إلى عمل كبير وجهاد خطير،والترجمة عن حبَّ محمد صلى الله عليه وسلم بهذا الأسلوب،في وقت يُنهب فيه تراثه أمر مرفوض،إن لم يكن ضرباً من النفاق!
أيُّ حبٍّ هذا…إن العرب لا يعرفون أيَّ شرف كُتب لجنسهم ولغتهم وأمسهم وغدهم عندما ابتعث الله محمداً منهم،وإنّ التقدير الحقَّ لهذا الشرف لا يكون بالسلوك المستغرب الذي يواقعونه الآن،ومنذ بدؤوا يعبثون برسالة الله بينهم.
ويتابع رحمه الله:”ما أشقى ديناً أنتم أتباعه،إنّ المسلمين بين ما ورثوا من جهل،وما نضح عليهم من ضلال العصر لا يزالون يهرفون بما لا يعرفون.
إنّ حبَّ محمد صلى الله عليه وسلم يوم يكون لقباً يضفيه عليه الكسالى الواهنون،فهو حبٌّ لا وزن له،ولاأثر!ويوم يكون أحفالاً رسمية وشعبية بيوم ميلاده،فهو حبٌّ لا وزن له ولا أثر!ويوم يكون قراءة للكتاب المنزل عليه في مواكب الموت ومجالس العزاء،فهو حبٌّ لا وزن له ولا أثر،ويوم يكون ادِّعاءً تستر به الشهوات الكامنة الطباع الغلاظ،هو حبٌّ لا وزن له ولا أثر…لأن محمداً هو الرسول الذي رسم للبشر طريق التسامي الحقيقي،ورسم للجماعات طريق التلاقي على الحقائقوالفضائل،فدينه عقل يأبى الخرافة،وقلب يعلو على الأهواء”.
ويقول الشيخ العلامة علي الطنطاوي رحمه الله(الرسالة العدد709):
“يا سيدي يا رسول الله،لقد أقمت الإسلام على خمسة أركان فما زال الشيطان يُغرينا بأركانه الخمسة،حتى هدمناها وأزلزلناها،فكان فينا من يقول كلمة الشهادة ولا يؤدي حقها،ومن يدعي الإسلام ولا يصلي،ومن يصلي بجوارحه ولسانه لا بقلبه وجنانه،يقوم إلى الصلاة ليستريح منها لا ليستريح بها،لا يجد فيها أنس نفسه ولا قرة عينه،فلا تنهاه صلاته عن فحشاء ولا منكر،فكأنه ما وقف بين يدي الله،ولا ناجى بلسانه مولاه،ومن يدعي الإسلام ولا يصوم ،ومن يصوم عن أكله وشربه ولا يصوم عن قول الزور والعمل به،ولا يسلم المسلمون من لسان صائماً ولا يده،فلا يرقق له الصوم قلباً فيعطف على جائع،أو يحسن إلى فقير ،ومن يدعي الإسلام ولا يزكي ولا يحج،ومن يحج ليسيح فيرى البلاد،ويتجر فيجمع المال،ويكسب من حجه الذكر والجاه ما طهر الحج قلبه،ولا غسل ذنبه،ولا أرضى ربه”.
إن محبة الله ليست دعوى باللسان، ولاهياماً في الوجدان، إن محبة الله ورسوله تعني إتباع منهجه والحرص على طاعته وأداء فرائضه، والقيام بأوامره، واجتناب مانهى عنه، يقول الله تعالى{قُل إن كنتم تُحِبُّونَ اللهَ فاتَّبعوني يُحبِبكُمُ اللهُ ويغفِر لكُم ذُنوبَكُم واللهُ غفورٌ رحيم*قُل أطيعوا اللهَ والرسولَ فإن تولّوا فإنّ اللهَ لايُحِبُّ الكافرين}[آل عمران31 ـ 32].
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره العظيم:”هذه الآية حاكمة على كل من ادّعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأعماله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:” من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد”.
ويقول الإمام العظيم ابن القيم رحمه الله [زاد المعاد]:”إن الإسلام ليس مجرد المعرفة فقط،ولا المعرفة والإقرار فقط، بل المعرفة والإقرار والانقياد والتزام طاعته ودينه ظاهراً وباطناً”.
ورحم الله سيد التابعين الإمام العظيم الحسن البصري الذي أوجز وأفاد حين عرف مكمن الداء وأشار إلى الدواء فقال:”هيهات، هيهات! أهلك الناس الأماني، قول بلاعمل، ومعرفة بغير صبر، وإيمان بلايقين.مالي أرى رجالاً ولا أرى عقولاً! وأسمع حسيساً ولا أرى أنيساً! دخل القوم والله ثم خرجوا، وعرفوا ثم أنكروا، وحرّموا ثم استحلّوا، إنما دين أحدكم لعقة على لسانه: إذا سئل أمؤمن أنت بيوم الحساب؟ قال: نعم! كذب ومالك يوم الدين. إن من أخلاق المؤمن قوة في دين، وإيماناً في يقين،وعلماً في حلم، وحلماً بعلم،وكَيساً في رفق، وتحملاً في فاقة،وقصداً في غنى، وشفقة في نفقة، ورحمة لمجهود،وعطاء في الحقوق،وإنصافاً في الاستقامة،لايحيف على من يبغض، ولايأثم في مساعدة من يحب، ولايهمز ولايغمز ولايلمز،ولايغلو ولايلهو ولايلعب،ولايمشي بالنميمة ولايتبع ماليس له، ولايجحد الحق الذي عليه”.
الصنف الثاني:
“عندما تصبح العبادة عادة”!
وهناك طائفة من المسلمين تواظب على أداء الصلوات في أوقاتها، وربما أدتها جميعاً جماعة في المسجد القريب،وهناك من يصوم رمضان،وربما صام السنن، ومنهم من يحج العام بعد العام،ومنهم من لايفارق الذكر لسانه، أو الاستغفار شفتيه،ولكن من جانب آخر تجدهم في معاملاتهم وتصرفاتهم وأخلاقهم بعيدين كل البعد عن روح الإسلام وتعاليمه.
نعم تراهم يصلون،ولكنها أطراف تتحرك، وشفاهٌ تتمتم،وأجسادٌ تتمايل، تراهم وقوفاً بين يدي الله عزوجل جثثاً لاقلوب لها،ولاحياة فيها،وعقولاً متعلقة بزخارف الدنيا وبهارجها،وقلوباً متقلبة بين المتاع الفاني والنعيم الباقي،ونفوساً تلهث وراء الحطام ولاتحصد إلا الركام…
وتراهم يصومون رمضان، لقد كفّوا أنفسهم عن الطعام والشراب،ولكنهم لم يكفّوا ألسنتهم وأيديهم عن أذى الناس وظلم العباد،وتراهم في شهر الصبر، أقل مايكونون صبراً وتحملاً،وأكثر مايكونون غضباً وضجراً ومللاً، يقضون فترة الصيام معطّلين أشغال الناس ومعاملاتهم بحجة التعب والإجهاد،صارفين جلّ أوقاتهم بين ألعاب النرد والورق والشطرنج… وماتبقى من الوقت فالنوم أولى به!!
نعم، رمضان عند بعض المسلمين ـ وللأسف ـ صوم ونوم، ضيق صدر وقلة صبر،كفٌّ وامتناعٌ عن الشراب والطعام، وإقبالٌ واستمتاعٌ بنهش لحوم الأنام،نهارهم فيه مللٌ وضجر، وليلهم نوم وسهر، ثم يرفعون الأيدي عقب كل إفطار وصلاة: اللهم تقبل منا، اللهم ولك صمنا!!!
وقد يحجون العام بعد العام،ويسعون ويرمون الجمار، ولكنهم عند كل منسك أو شعيرة لاتجد قلوبهم مربوطة بذكر الله وطلب الثواب والأجر،ولكنها موصولة مع أفواج الزوار الذين سيسعون إلى”الحاج” ويقدمون له التهنئة المباركة، والويل الويل بعد اليوم لمن يشاهد الحاج وينسى أن يناديه بلقبه الجديد!!!
وتراهم يسبحون، ويذكرون، ويستغفرون،ولكنه ذكر اللسان دون القلب،وحركات الشفاه لاخشوع الجوارح، ولكنها حلبات الرقص لاحلقات الذكر،تراهم يمشون منكسي الرؤوس ،وكأن الأعناق ربطت إلى الأقدام بالأغلال،وتجدهم يتخاشعون، ويظهرون السكينة والتماوت، ورحمة الله على عمر الفاروق الذي رأى أمثال هؤلاء فخفقه بالدرة، وقال له: “لاتُمت علينا ديننا أماتك الله”، وكان كلما رأى شاباً منكساً صاح به” ارفع رأسك فإن الخشوع لايزيد على مافي القلب، فمن أظهر خشوعاً فوق مافي قلبه، فإنما أظهر للناس نفاقاً إلى نفاق”.
نعم، إن الإسلام عند هؤلاء ليس إلا همهمة بالأدعية، وتمتمة بالتعاويذ،وطقطقة بالمسابح، والصلاة والصيام والحج كل هذا لايمنعهم من أكل مال اليتيم،أو الإمعان في ظلم مظلوم،ولاينهاهم عن غش أو خداعٍ إذا كان يحقق لهم مطمحاً أو كان وراءه مطمع،ولايردعهم عن ذكر الآخرين بالغيبة أو النميمة، ولايطهر قلوبهم من الحسد أو الحقد أو الضغينة.
وإذا حاولنا معرفة الأسباب الكامنة وراء ظاهرة الإنفصام بين مظاهر الإسلام وبين روحه وجوهره، التي يعيش فيها أمثال هؤلاء فإننا نجد أن الهوى وحب الشهوات قد طغى لديهم على كل شئ، أو أن الدين عندهم قد ورثوه عن الآباء والأجداد كما ورثوا المال والمتاع وليس نادراً اجتماع كل هذه الأسباب.
يقول الأستاذ الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله [هكذا علمتني الحياة]:”حين تضيع معاني الدين وتبقى مظاهره،تصبح العبادة عادة، والصلاة حركات، والصوم جوعاً،والذكر تمايلاً، والزهد تحايلاً،والخشوع تماوتاً،والعلم تجملاً، والجهاد تفاخراً،والورع سخفاً، والوقار بلادة،والفرائض مهملة، والسنن مشغلة”.
ويقول الأستاذ عصام العطار حفظه الله [من بقايا الأيام]:”وإذا خلا قلب المسلم من الإيمان بالله،انعدمت لوازمه عنده، ومات الإسلام في حياته،وانتهى عمله من أجله، كالشجرة التي أجتثت جذورها،ومصدر حياتها ونمائها، وأساس بقائها،فإنها تذبل وتموت، وتتحول إلى حطب يابس لايصلح إلا للحرق!! ويتابع:”وإذا نقص الإيمان في قلبه، وضعفت صلته بربه،ووهن ارتباطه به،وانصرفت نفسه إلى الدنيا،وآثرها بحبه وسعيه، ذبل الإسلام في حياته،وأصبح رسماً حائلاً لاحرارة فيه ولاروح له، وتراجع عنده إلى مرتبة متأخرة،ولم يعد يصدر عنه أو يقيس به أو يجد حلاوة العمل له والتضحية من أجله،بل إنه ليستكثر عليه كل جهد،ويستغلي كل بذل،ويحسه عبئاً ثقيلاً على كتفيه، وحاجزاً في وجهه دون مايشتهيه،فهو يتخّفف منه خطوة بعد خطوة،ويوماً بعد يوم، ولايستبقي إلا أشكالاً ميتةً لبعض أجزائه التي لاتتعارض في ظاهر الأمر، أو لايسمح لها بأن تتعارض مع أهوائه وشهواته ومصالحه الدينية غير المشروعة”.
والمصيبة الاعظم حين يدّعي امثال هؤلاء انهم حُماة الإسلام ورجالاته،وأنهم أولياؤه وأنصاره، وهم بسبب جهلهم وابتعادهم عن روح الإسلام وتعاليمه، وتمسكهم بالمظهردون اللب والجوهر، وبالمبنى دون المعنى، قد يكونون من أشد المحاربين لأوليائه ومن أشد المؤيدين لأعدائه.
يقول الأستاذ مصطفى السباعي رحمه الله[هكذا علمتني الحياة]:”وحينئذ يرى أدعياء الدين عسف الظالمين عدلاً، وباطلهم حقاً، وصراخ المستضعفين تمرداً، ومطالبتهم بحقهم ظلماً،ودعوة الإصلاح فتنة، والوقوف في وجه الظالمين شراً”.
ويقول الأستاذ عصام العطار حفظه الله في أمثال هؤلاء[من بقايا الأيام]:”وهو يُحكّم فيه هذه المصالح والشهوات والأهواء، فيقبل منها ويرفض،ويأخذ ويدع، ويغير ويبدل،ويطيع فيه الناس، ولايطيعه في الناس،ولايشعر نحوه بأي تبعة، ولايحب فيه أحداً ولايبغض أحداً، فإذا أحب فيه أحياناً أو أبغض في أمور لاتدخل فيها مصلحته أو هواه، لم يتجاوز ذلك قلبه إلى موالاة من يحب ومعاداة من يبغض، بل ربما وقف مع أعداء الإسلام يحارب معهم الإسلام إيثاراً للسلامة، أو طمعاً في الغنيمة أو مجاراة للتيار..”.
الصنف الثالث:
“عندما تصبح المتون حواشيا”!
وهناك صنف ثالث من المسلمين، يأخذ من الإسلام بعض جوانبه ويُغالي في عرضها وإبرازها، وقد تكون من فروع الفروع أو من بعض الجزئيات، ويأتي إلى جوانب أخرى ويُبالغ في تقليل شأنها،وعدم إظهارها وبيانها، وقد تكون من الأصول أو الكليات.
إننا نجد على سبيل المثال بعضاً من هؤلاء المسلمين يكاد يكون الإسلام مقصوراًعلى مهاجمة بعض الفرق الضالة والمنحرفة كالقاديانية أو البهائية..أو مهاجمة بعض أهل البدع… وهذا مطلوب.أو تجد الإسلام عندهم محصوراً في التفسير والتذكير بأحكام أهل الذمة، وآيات اللعان والظهار..وهذا أيضاً مطلوب..وإن كان قد كتب في هذه الأحكام مايملأ المكتبات قديماً وحديثاً.أوقد يكون الإسلام عندهم مقتصراً على مناقشة الآراء والاجتهادات المتعلقة بطول اللحية، وطبيعة اللباس الإسلامي للرجل المسلم،وآداب وسنن الطعام، وحكم ختان الأنثى،وماحكم ترك الرأس عارياً أثناء الصلاة!!!
بينما تجد أمثال هؤلاء وأولاء غافلين عمداً، أو ناسين قصداً، أو جاهلين علماً، بما يتعرض له المسلمون فوق كل أرض وتحت كل كوكب، من تنكيل وتذبيح وتشريد واستئصال على أيدي الملحدين من حكام المسلمين والصليبيين وأتباع الديانات الأخرى من الهندوس والبوذيين والصهاينة.وتجدهم لايتعرضون من قريب أو بعيد لمظاهر الظلم والتخلف والحرمان والفقر والفساد والاستغلال التي تسود معظم ديار وبلاد المسلمين، وتجدهم لايلمحون أو يصرحون بغياب مظاهر الحياة الإسلامية والحكم الإسلامي على كل مستوى وكل صعيد،بل الأنكى من كل هذا والأدهى أنهم أحياناً، وبإيعاز من بعض الحكام، قد يتعرضون لمن يتعرض لمثل هذه الأمور طوراً باللسان وتارة بالسنان،وقد يحاربونه أشد المحاربة، وتصبح عداوته وربما تكفيره هي قضية الإسلام والمسلمين.
إننا نجد وللأسف في عصرنا الحاضر وبسبب بعض الأفراد والجماعات والدول، كيف أصبح للإسلام صور مشوهة ومنفرة،وذلك بسبب المغالاة في عرض بعض جوانبه من جهة، والتقصير في عرض جوانب أخرى من جهة ثانية.
ومن الجماعات من يركز على أمور ويتجاهل أخرى،فيضخم صغيراً ويقزم كبيراً، فيخدع كثيراً من العامة عن الأصل المعتدل المتكامل المتوازن، ومن الحكام من تدعوه مصلحة أو غاية شخصية إلى اقتطاع أجزاء من الإسلام يطبقها تطبيقاً مشوهاً، ولربما عادى في نفس الوقت أصولاً اساسية وحاربها أشد محاربة،وقد تجد هؤلاء يرفعون شعارات الإسلام وراياته وهم في حقيقة أمرهم يحاربون مبادئه، ويقتلون أوليائه، ويطاردون أتباعه، ومن جهة أخرى فإن هذا التطبيق الناقص المشوه لبعض تعاليم الإسلام، يترك أمام أعداء المسلمين المجال مفتوحاً للطعن، ويتيح لهم الفرصة من أجل مهاجمته والتشديد على أتباعه والانتقاص من حرماته والتجني على رسله..
نعم، إن الإسلام أمر بقطع يد السارق، وأمر بتطبيق حد الزنا وشرب الخمر، ولكنه في نفس الوقت دعا إلى إقامة نظام عادل، ومجتمع صالح فاضل، وأمر بتحقيق العدل والمساواة، وتامين العمل، وتوفير السكن والغذاء والدواء،ومنع الظلم والاستغلال والتعدي على حقوق الناس والمسلمين.
يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله [دراسات إسلامية]:”إن الإسلام لايقطع يد السارق إلا بعد أن يوفر للجميع كل ضمانات الحياة المادية ويكفل لهم الكفاية من الطعام والشراب واللباس والسكنى وسائر الضروريات وبعد هذا لاقبله تقطع يد السارق”.
ويقول الاستاذ أحمد حسن الزيات رحمه الله(الرسالة العدد352 ـ تحت عنوان فقهاء بيزنطة ـ ):
“فقهاء بيزنطة هم الذين كانوا يجادلون في البيضة والدجاجة:أهذي أصل تلكنأم تلك أصل هذي،بينما كان محمد الفاتح يرسل الصواعق دراكاً على أسوار القسطنطينية،فلا يخرجهم من شدة الخلاف وحدة الجدل ما فوقهم من حمم المنايا،ولا ماحولهم من صرخات الفزع!
وفقهاء بيزنطة هم الذين يجادلون اليوم في محراب المسجد بعد ألف ومائتي عام:أهو سنة فيبقى،أم هو بدعة فيزول،وفي محمل شجرة الدر:أهو موافق للشرع فيسير،أم هو مخالف له فيقف!يجادلون في هذا وفي ذاك بين أعمدة الجرائد والمساجد،ويسرفون في الجدال حتى يتشعب الخلاف ويتمادى،ويتقسم الرأي ويتعادى،فيكون لكل شيخ شيعة،ولكل شيعة عصبية جاهلة تمزق ما وصل الدين به القلوب من وشائج الإخاء والمودة.
نعم يجادل فقهاء بيزنطة اليوم في المحراب والمحمل،ومن قبل كانوا يجادلون في زر العمامة أيبتر أم يضفي،وفي شعر الذقن أيحفى أم يعفى،وفي قبر الميت أيسوى بالأرض أم يقام،حتى أدخلوا في روع العامة من طول ما شغلوهم بهذه الصغائر أن الدين هو هذا وليس غير هذا.فلو تسنى لك أن تكشف عن عقيدة الإسلام في ذهن العامي أو شبهه لما رأيت إلا صورة مشوهة من رسوم العبادات وأوضاع العادات وألوان الأدعية.أما الإسلام الذي وضع الدساتير الخالدة لسعادة الفرد والأسرة والأمة والإنسانية في كل زمان وفي كل مكان،فذلك معنى لم يجر في شعوره ولم يدخل في علمه.والعوام وأشبته العوام هم جملة الأمة الإسلامية اليومنفما تسمعه من هذا تسمعه من ذاك،وما تراه هنا لابد أن تراه هناك.
ويتابع:”إي والله تزال فقهاء بيزنطة يفرقون بين الناس بصدعات الرأي والهوى في المحراب والمحمل،وهم يعلمون أن الأديان البشرية التي وضعها الطغاة تحدياً لله وتهجماً على دينه،تحاول بقوة الجيش وحجة المدفع ودعاية المذياع أن تخفت ذكر الله في كل أرض،وتطفيء نوره في كل سماء.وهذه المذاهب الأرضية إنما تجادل خصومها فيما تزعمه لنفسها من قتل البؤس ومحو الفروق ونشر العدالة،لا فيما تتخذه بشعائرها من بنىً،أو تبتدعه لمظاهرها من شكول.
ثم جعلوا غاية الدين أن يتزيوا بالورع،ويتفقهوا في علومه بتشقيق الجمل وتوليد الألفاظ وتعديد الفروض،فإذا زادوا على ذلك شيئاً فهو الوعظ الذي يميت الطموح ويخمد العزيمة ويحقر الدنيا ويهيئ النفوس المثقفة التي أعوزها النور الهادي والصوت المهيب لأن تصغي لما يتقوله المبشرون على الإسلام من الأباطيل ويزورونه عليه من الشبه”.
نعم، إن أمثال هؤلاء الذين يضخمون الصغير ويعظمونه، ويقزمون العظيم ويصغرون الجليل، إنهم يشوهون الإسلام، ويعطون عنه صوراً مشوهة ومنفرة، تذكرنا بالصور التي نشاهدها في المرايا المقعرة أو المحدبة، والتي تضخم أو تصغر ولكنها في الحالتين تنفر!!!
والأنكى من كل هذا أن بعض هؤلاء الناس لم يقف الأمر عندهم عند هذا فحسب،بل جعلوا كل من لايهتم بما يهتمون به، ولايشاركهم في آرائهم، منحرفاً وضالاً،وربما أخرجوه عن نطاق أخوّة الإسلام، وربما استباحوا حربه وتشويه سمعته ونالوا من أهله، وربما أدى الأمر إلى تكفيره وطلب استتابته، ولابأس أحياناً من التوقيع والموافقة على سجنه وتعذيبه وإعدامه!!!
لقد نسي هؤلاء في حربهم على إخوانهم في الدين والعقيدة مبادئ التناصح والمحبة في الله،والتعاون على البر والتقوى،وتراهم يدوسون على كثير من مبادئ الإسلام وأساسياته من أجل مصالح شخصية، أو منفعة دنيوية، أو من أجل خداع عامة الناس، أو ممالأة لحاكم أو لسلطان.
يقول الأستاذ أحمد حسن الزيات رحمه الله(الرسالة العدد352):
“ليس من البر بالدين ياورثة الأنبياء أن تخذلوا دعوة الله لتنصروا دعوة الإنسان.
إن الدعوات السياسية التي تتخذ شعار الإصلاح،أو تلبس مسوح الدين،تسلك إلى النفوس المؤمنة المطمئنة سبل الغرور والغي في غفوة من العقل أو سورة من الجهالة،فتزعزع إيمانها بالشكوك،وتذهب اطمئنانها بالفتن.”
إن الله أنزل الإسلام ديناً متوازناً…يُجّمل بعضه بعضاً، متناسقاً..يُتمّم بعضه بعضاً، مُتكاملاً..يُكمل بعضه بعضا، شاملاً…يُناسب بعضه بعضا، ولايجوز فيه الغلو في أمور والتقصير في أمور أخرى،ولايجوز فيه تقديم الفروع على الأصول، أو السنن على الفرائض،ولايجو فيه أن توضع الجزئيات في مرتبة الكليات،لئلا يفقد الإسلام توازنه واعتداله، ويفقد جماله وروعته،وعندها لايُعبّر تعبيراً حقيقياً عن الدين الذي أكمله الله وأتم به علينا نعمته وارتضاه لنا دينا{اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}
الصنف الرابع:
“ادخلوا في السلم كافة”
يقول الله تعالى في كتابه العزيز{يا ايُّها الذين آمنوا ادخلوا في السّلم كافةً ولاتتبّعوا خُطواتِ الشيطانِ إنّهُ لكم عَدوٌّ مبين} [البقرة 208]،قال العلماء في تفسيرها:يا أيها الذين أمنوا ادخلوا في الإسلام كافة، أي: في جميع شرائعه. يأمر الله تعالى عباده المؤمنين المصدقين برسوله صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا جميع عُرى الإسلام وشرائعه، وأن يعملوا بجميع أوامره مااستطاعوا، وان يتركوا جميع زواجره، فلاينبغي لمسلمٍ يريد امتثال شرع الله أن يعمل بركن ويترك الأركان الأخرى.
ولكن هناك وللأسف الصنف الرابع ويمثله العدد الغالب من حكام العرب والمسلمين، وبعض الجماعات والحركات الإسلامية، يأخذون من الإسلام أحكاماً ويتركون أحكاماً،ويطبقون تشريعات دون تشريعات، ويأخذون من الإسلام بعض الجوانب من العبادات والمعاملات ـ بالمعنى الفقهي ـ مثل أحكام المواريث والطلاق والزواج ـ أي مايسمى الأحوال الشخصية ـ وقد يشجعون ويشاركون في إحياء مالا أصل له، مثل إحياء ليلة النصف من شعبان والمولد النبوي!!
وقد يشارك بعضهم فيما يسمى” الحفلات الدينية” ويطرب لسماع المطربين والمغنيات وهم يرددون مديح النبي صلى الله عليه وسلم والإشادة به ـ وفي حفلات أخرى يرددون أغاني الخلاعة والميوعة!!وفي نفس الوقت تجد هؤلاء الحكام يتركون الجوانب الأخرى من الإسلام، وخاصة تلك التي تتعلق بتطبيق أحكام الإسلام في الأمور السياسية والاقتصدادية والاجتماعية والأخلاقية.
يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله[دراسات إسلامية]:”إن الإسلام يجوز أن يستفتى في منع الحمل،ويجوز أن يستفتى في دخول المرأة البرلمان، ويجوز أن يستفتى في نواقض الوضوء، ولكنه لايستفتى أبداً في الأمور الاجتماعية أو الاقتصادية أو نظامنا المالي،ولايستفتى أبداً في أوضاعنا السياسية والقومية وفيما يربطنا بالاستعمار من صلات”.ويتابع رحمه الله:”والبر في الإسلام، والعدل في الإسلام من الجائز أن يتناولها كتاب أو مقال، ولكن الحكم بالإسلام والتشريع بالإسلام والانتصار بالإسلام لايجوز أن يمسها قلم ولاحديث ولا استفتاء!!”.
ويقول الأستاذ عصام العطار حفظه الله[من بقايا الأيام]:”أود أن أقرر أن الإسلام يحدد علاقة الإنسان بالكون والحياة،ويبين غايته من الوجود، وأنه لايأخذ الأشياء منفصلاً بعضها عن بعض وإنما يأخذها كلاً شاملاً مترابطاً،فليست الناحية الاقتصادية فيه منفصلة عن الناحية الاجتماعية والسياسية ولا عن الأخلاق والعقيدة، وهو لايعالجها كشئ مستقل وإنما يعالجها كجزء من كل ويرسم معالمها في حدود مقاصده وقواعده ونظرته الشاملة إلى الكون والحياة والإنسان”.
نعم، إن روعة الإسلام وعظمته تظهر في شموله وتكامله، وارتباط أجزائه بعضها ببعض، أما ان نأخذ جزئاً ونترك أجزاءً، ونقتطع جانباً ونبقي جوانب أخرى، فإن هذا يشوه الإسلام ويشوه رسالته، لأن كل جزء من أجزاء الإسلام يؤدي دوره في الكل المتكامل الشامل، وإن انفصال أحد الأجزاء عن الكل يُفقد هذا الجزء وظيفته، ويشوه الكل المتكامل، كاليد إذا قطعت من الجسم فإنه لافائدة منها ولاوظيفة لها، وفي نفس الوقت ما أبشع الجسم إذا كان مقطوع اليد أو مجدوع الأنف أو مبتور الساق، كما أنه لافائدة من هذا الجسم إن نزع منه العقل أو القلب وأُبقي على الأطراف.!!
والأنكى من كل هذا والأدهى أن هذه المرقعيات تستخدم هنا، بينما رقع أخرى من النظم الوضعية والقوانين العلمانية تستخدم هناك، وهذا لايفقد الإسلام روعته وبهائه فقط، بل إنه يعطي الفرصة للمتشككين والمُداهنين والحاقدين من أجل أن يرموا بظلال الشك، وبشباك الفتنة، والتشكيك بصلاحية الإسلام ومحاولته تنحيته عن السلطان والحكم…ولابد من التذكير أن تنحية الإسلام تبدأ دوماً بالتنازلات الصغيرة، ثم تتبعها التنازلات الكبرى إلى أن يحدث في النهاية ماتوقعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:”لتنقضنّ عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولها نقضاً الحكم وآخرهن الصلاة”.
ومن جهة أخرى فإننا نجد وللأسف بعض الجماعات والحركات الإسلامية، التي تأخذ جانباً من الإسلام ولاتعترف بالجوانب الأخرى، بل قد تحاربها وتنكرها، فهي قد تنشط في أمورالبر وجمع الصدقات وإقامة بعض الحلقات التدريسية والتعليمية لحفظ القرآن وإنشاء بعض المراكز والمساجد، إلا أنها تنكر دور الإسلام في الحكم والسياسة،بل قد تكون أشد حرباً على الجماعات والحركات، التي تنادي بتحكيم الإسلام في كل شؤون الكون والحياة، وقد تكون عوناً للسلطان والحاكم في محاربة هذه الحركات بل وتكفيرها والمساعدة على الزج بأصحابها في سراديب الظلام وغياهب المعتقلات وتعليقهم على أعواد المشانق.وينسى هؤلاء أو يتناسون وعيد الله وشديد عذابه لمن يأخذ بجانب من الإسلام وينكر الجوانب الأخرى{افتؤمنونَ ببعضِ الكتابِ وتَكفرونَ ببعض فما جزاءُ من يفعل ذلك منكم إلا خزيٌ في الحياةِ الدُّنيا ويومَ القيامةِ يُرَدُونَ إلى أشدِّ العذابِ وما اللهُ بغافلٍ عمّا تعلمون}[البقرة58].
نعم، قد لاتستطيع إحدى الحركات أو الجماعات أن تحيط بكل جوانب الإسلام وأبعاده،أو قد لاتستطيع أن تقوم وحدها بحمل أعباء الإسلام ومتطلباته، وقد تنشط جماعة من الجماعات أو حركة من الحركات في مجالات التبليغ والدعوة،وأخرى في الردّ على المتشككين والملحدين، وثالثة في مجالات البر والأعمال الخيرية، ورابعة في تعليم الناس أحكام الحلال والحرام، وخامسة في تهذيب النفوس وتزكية القلوب وإصلاح العقول…وهذا لابأس به بشرط أن لاتنفي أي من هذه الحركات أو تنكر الجوانب الأخرى من الإسلام، ولابد قبل كل شئ من التعاون بينها جميعاً فيما يؤدي إلى خير الإسلام والمسلمين،ولابد من إقرار الجميع أن الإسلام كلٌّ متكامل لايجوز القبول بجزء منه على حساب ترك أجزاء أخرى،ويجب أن تكون الأولويات في عملنا ودعوتنا وجهادنا، هي الأولويات التي رسمها القرآن الكريم وبينتها السنة النبوية الشريفة.
يقول سيد قطب رحمه الله[دراسات إسلامية]:”إن الإسلام كلٌّ لايتجزا فإما أن يؤخذ جملة وإما أن يترك جملة،أما أن يستفتى الإسلام في صغار الشؤون، وأن يهمل في الأسس العامة التي تقوم عليها الحياة والمجتمع، فهذا هو الصغار الذي لايجوز لمسلم فضلاً عن عالم أن يقبله للإسلام”.
ويقول الأستاذ عصام العطار حفظه الله[من بقايا الأيام]:”نحن مصممون على أن ندخل في السلم كافة، فنكون مسلمين في كل جوانب حياتنا لا في جانب منها دون جانب، وعلى ان نأخذ بالإسلام كله، لانؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعضه،ولانكتفي من الإسلام ببعض أجزائه وفروعه التي يقبلها الطاغوت والتي نستطيع أن نعيش بها بأمن في ظل حكم جاهلي{وأن أحْكُم بَينهُم بما أنزلَ اللهُ ولاتتّبع أهواءّهُم واحذَرهُم أن يَفتِنوكَ عن بعضِ ما أنزلَ اللهُ إليكَ فإن تولّوا فاعلم أنّما يُريدُ اللهُ أن يُصيبَهُم ببعضِ ذُنوبهم وإنَّ كثيراً من الناسِ لفاسقون}.[المائدة49]
نعم، يجب على الداعية أن يضع الهدف السامي نصب عينيه، وأن لا يحيد عنه قيد أنملة، ولايقبل بالتنازلات، وأن يواجه التحديات ويتحمل مصاعب الطريق ومشاقه من أجل الوصول إلى الإسلام ـ كل الإسلام ـ غير مُجزأ، وغير مُقطّع، وغير مُشّوه، وأن لايهتم بما يلفقه حوله المشككون والانهزاميون، وأن لايخاف وعيد المبطلين والظالمين.
يقول الأستاذ عصام العطار حفظه الله[من بقايا الأيام]:”وأما المُشككون الذين يلقون في روع الشباب العاملين أن الإسلام لم يعد في مكانه أن ينتصر وأن يحكم هذا العصر، وأن عليهم أن يتخلوا عن هذا المطلب الكبير وأن يقتنعوا ببعض الجزئيات والفروع والرموز التي تدل عليه والعناوين التي لايندرج تحتها ماتقتضيه، أما هؤلاء فإننا نقول لهم:إن ثقتنا بانتصار الإسلام تنبع من إيماننا بالله عز وجل وبوعده الصادق في كتابه الكريم، وتنبثق من اعتقادنا بأن الإسلام هو مانحتاجه أمتنا وبلادنا والدنيا في هذا العصر لتنقذ نفسها مما تعانيه وتجد طريقها القويم، وقد أنزله الله عز وجل ليلبي حاجات البشر ويكون سبيلاً إلى خير الدنيا والآخرة في كل عصر وليبقى النور الهادي لهم على الدوام”.
إننا ونحن ندعو إلى الله بالتي هي أحسن، يجب علينا أن نتخلّق بأخلاق الإسلام، ونتأدب بأدابه، ونتجمل بفضائله، ونلتزم بمبادئه…وهذا يستدعي منا أيضاً عدم التنازل عن المبادئ الثابتة في الدعوة، وعدم اتخاذ المواقف المائعة تجاه القضايا المطروحة، وعدم القبول بأنصاف الحلول، والتنازل ولو قيد أنملة عن منهاج الله القويم وشرعه الحكيم.
إنه لمن المؤسف حقاً أن نجد بعض الدعاة يتصورون أو يظنون، أن من الحكمة والموعظة الحسنة السكوت على أخطاء الناس وانحرافاتهم، وعدم مواجهتهم بها، ويعللون ذلك بخشيتهم من أن ينفر الناس من دعوة الحق، ويبتعدوا عن الدعاة إليه..وإنه لمن المؤسف حقاً أن يخلط هؤلاء الدعاة بين التودد إلى الناس والتلطف بهم وإليهم، وبين التنازل عن مبادئ الدعوة بغية الحصول على رضا الناس وقبولهم وينسون أن الله أحق أن يخشوه ويرضوه!!
إنّ المتتبع لسيرة خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم ولسيرة الرسل من قبله، يستطيع أن يدرك كيف يسلك الطريق الصحيح في تبليغ دعوة الله، كما أمر الله بها من غير أن يتنازل عن مبادئ الإسلام ومن غير أن يخضع لظلم ظالم، أو يلجأ إلى مداهنة مداهن.
لقد أرسل الله عز وجل موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون الطاغية، وأمرهما أن يقابلاه بكل اللطف والأدب{فقولا له قولاً ليناً لعلّه يتذكر أو يخشى}[طه 44]، ولكن مع هذا اللطف واللين فقد بدآه بقول{والسلام على من اتبع الهدى}ولم يقولا له: السلام عليك. فهذا اللطف في القول كان مبطناً بالتحذير لفرعون من أنه على غير طريق الحق، وأنه غير متبع للهدى،ولكن كما ذكرنا بأسلوب رفيع ومؤدب وجميل.وعندما لم ينفع التحذير مع فرعون، وعندما رأى موسى تكبر فرعون وتجبره، لم تهن عزيمته، ولم تفترهمته،ولم يتزعزع إيمانه أو يتبلبل يقينه، بل أوضح له الحق كل الحق بلا مهادنة أو مساومة، وبكل وضوح وصراحة بدون خفاء أو مواربة، فعندما سأله فرعون المتكبر{قالَ فَمَن ربُّكُما يامُوسى}[طه49]، أجابه موسى الواثق من نفسه المؤمن بربه، إجابة العزّة والكرامة يلجم بها الطاغية:{ قالَ رَبُّنا الذَّي أعطى كُلَّ شئٍ خَلقَهُ ثُمَّ هَدى*قال فما بالُ القُرُونِ الأُولى*قالَ عِلمُها عِندَ ربي في كتابٍ لا يَضِلُّ ربي ولاينسى*الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرضَ مَهداً وسَلكَ لَكُم فيها سُبُلاً وأنزلَ من السّماءِ ماءً فأخرجنا بهِ أزواجاً من نباتٍ شَتّى*كُلُوا وارعوا أنعَامَكُم إنّ في ذلكَ لآياتٍ لأُولي النُّهى* منها خَلقناكُم وفيها نُعيدُكم ومنها نُخرجُكم تارةً أخرى} [طه 50 ـ 55].
إنك لاتجد قولاً مجملاً، أفصح وأكثر دلالة على تبيان الحق من هذه الكلمات يخاطب بها موسى فرعون الطاغية،الذي أدّعى الألوهية، لقد أفهمه كليم الله وبكل رفعة وعزّة بأنه ـ أي فرعون ـ ليس ربّاً وليس إلهاً، فهو مخلوق كغيره، وأن الله هو الذي خلق كل شئ وهدى،وأن الله عنده أسرار القرون الماضية واللاحقة، وأنه هو الذي خلق الأرض ومهدّها للناس، وأنه هو الذي يُميت ويبعث الموتى من جديد…كلمات قليلة، وجمل بسيطة التراكيب، غنية المعاني، تحمل الحق كلّ الحق بدون خوف من الباطل أو خشية من الظالم.
وانظر إلى موقف سحرة فرعون عندما تبيّن لهم الحق، كيف أذعنوا لسلطانه، وآمنوا به، ولم يرهبوا فرعون وعقابه، ولم يرضخوا لتهديده ووعيده،انظر إليهم عندما قال لهم الطاغية{قال آمنتُم لهُ قبلَ أن آذنَ لَكُم إنّهُ لَكبيرُكُمُ الذي عَلَّمكُمُ السِّحرَفلأُ قَطِّعَنَّ أيدِيكُم وأرجُلَكُم من خِلافٍ ولاُصَلِّبنَّكُم في جُذوعِ النخلِ ولَتَعلَمُنَّ أيُّنا أشدُّ عَذاباً وأبقى}[طه71]، إنه يهددهم بأبشع العذاب وأشده، إنه يهددهم بتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، والصلب على جذوع النخل، لكي تتشابك الأطراف المقطّعة التي يسيل منها الدم، والتي تتألم أشدّ الألم مع فروع النخل وأغصانه، لكي يزداد الألم ألماً ولكي يزداد العذاب قسوة،ومع ذلك أجابوه إجابة المؤمن الواثق الذي رأى برهان ربه، فصدع للحق ولم يخشى العذاب{قالوا لن نٌؤثِرَكَ على ماجاءَنا من البيناتِ والذي فطرنا فاقضِ ما أنتَ قاضٍ إنّما تَقضي هذه الحياةَ الدُّنيا*إنّا آمنا بِرَبِّنا لِيغفرَ لنا خطايانا وما أكرهتنا عليهِ من السِّحرِ واللهُ خيرٌ وأبقى}[طه72 ـ 73].
والرسول محمد صلى الله عليه وسلم، كان منذ بداية الدعوة، ورغم التهديدات والترهيب والوعيد، كان راسخاً كالطود في إيمانه، صامداً في دعوته لايهادن الباطل وأتباعه، ولايتملّق الظالم وأذنابه، ولايتنازل عن دعوة الحق.لقد هددته قريش بشتى أنواع التهديد، من الإبعاد والنفي والسجن والقتل، ولكنه مع ذلك لم يزدد إلا إيماناً وثباتاً ولم يتخلى عن ثوابت الدعوة ولم يتنازل عن مبادئها ولو قيد أنملة.
قال ابن اسحق: حدثني الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم نفسه ـ وذلك بعدما كذّبه قومه وتجهّمت الأرض له ـ، فقال له رجل منهم يُقال له بَيحرة بن فراس: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك أيكونُ لنا الأمرُ من بعدك؟ قال صلى الله عليه وسلم: الأمرُ إلى الله يضعه حيث يشاء. فقال له بَيحرة: أفَتُهدَفُ نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا، لاحاجة لنا بدينك فأبوا عليه”.
يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله:”إن هؤلاء قومٌ ينشدون الرياسة من وراء الإيمان الذي يساومونه عليه، فهم لايطلبون وجه الله ولايفكرون في ثواب الآخرة،والذين يُصّلون لغرض ويصومون لغرض ليسوا أصحاب صلاة ولاصيام، والذي يشترطون على الله لكي يؤمنوا به أن ياخذوا كذا وكذا ليسوا أهل إيمان.ويتابع رحمه الله:”ومن هنا انصرف نبي الله عنهم، لأنه لايعرف سياسة(خذ وهات)، ولايقود البشر عن طريق شهواتهم القريبة أو البعيدة ،إنما يقودهم عن طريق اليقين المحض والإخلاص المبرأ والعمل الصالح المبرور، والمسلم امرؤ يحيا وفق تعاليم دين، وهو ينتصر لدينه بالطرق التي يقرّها وحدها، وينأى عما عداها”.
وتزداد الأمور صعوبة على الداعية عندما يوجّه له الباطل أقرباءه وأحباءه يحاولون ان يثبطون من عزيمته ويحبطوا من سعيه وهمته، والداعية الحق هو الذي لايتأثر بتهديد غريب أو استعطاف قريب أو توسل حبيب.
قال ابن اسحق في السيرة:”ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ماهو عليه، يظهر دين الله ويدعو إليه، وأكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتذامروا فيه وحضّ بعضهم بعضاً عليهن ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى،فقالوا له: يا أبا طالب إن لك سناً وشرفاً ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك ـ أي قلنا لك: انه عنا ـ من ابن أخيك فلم تنهه عنا،وإنا والله لانصبرعلى هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعَيب آلهتنا حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين.فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: ياابن أخي، إن قومك قد جاؤوني، فقالوا لي كذا وكذا ـ للذي كانوا قالوا له ـ فأبق عليّ وعلى نفسك، ولاتحملني من الأمر مالا أطيق.فظنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه فيه بَداء ـ أي خطر له فيه رأي ـ أنه خاذله ومُسلمه، وأنه قد ضعف عن نصرته. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ياعم، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلِك فيه ماتركته“.
نعم، ما أروع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف العظيم إنه بقي على الحق ولو تخلى عنه الأقارب، ولو تخلى عن نصرته كل الناس، وحتى أقرب المقربين منه،ونحن كما يقول الأستاذ عصام العطار حفظه الله:”إننا لانفتقر إلى الذين لايقولون كلمة الحق إلا إذا ملكوا معها أسباب الوقاية والنصر، إنما نفتقر إلى الذين يقولون كلمة الحق وهم لايملكون لها ولايملكون بها إلا الموت.إن دماء هؤلاء الأحرار هي التي تحفظ بقايا العقيدة والعزيمة في القلوب والشعوب، وتُوقد شعلة الأمل والنضال في ظلمات اليأس والاستسلام، وتزلزل الأسوار الشاهقة في سجن الحاضر الرهيب، وتفتح المنافذ الواسعة وتشق الطريق الصعبة إلى المستقبل الكريم”.
وعندما لم ينفع الترهيب والوعيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حاول كفار مكة أن يثنوا الرسول عن عزمه وينحرفوا به عن طريقه، باللجوء إلى أساليب الترغيب والمغريات، وهذا ديدن وحال الظالمين في كل زمان ومكان وفي كل عصر ومصر، يلجأون في البداية إلى الترهيب والتعنيف وتشويه الحقائق، فإن لم ينفع كل هذا لجأووا إلى اسلوب الإغراء والترغيب.ففي السيرة أيضاً:” جاءه سيد قومه عتبة بن ربيعة وهو في مبدأ أمره، فقال له واعداً ملاطفاً بعد أن أعياهم تخويفه متوعدين: يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من خيارنا حسبا ونسباً،وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرّقت به جماعتهم، وسفّهت أحلامهم،وعِبت آلهتهم ودينهم، وكفرّت من مضى من آبائهم،فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلّك تقبل منا بعضها. فقال عليه السلام: قل يا أبا الوليد. فقال: يا ابن أخي، إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً،وإن كنت تريد شرفاً سوّدناك علينا حتى لانقطع أمراً دونك،وإن كنت تريد ملكاً ملكّناك علينا، وإن كان الذي يأتيك رئيا ـ مسّا ـ من الجن لاتستطيع ردّه عن نفسك، طلبنا الطبّ وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه. فما زاد عليه السلام من أجابه بآيات من القرآن ثم تركه يعود كما أتى.
يقول الاستاذ الدكتور محمد لطفي الصباغ حفظه الله:”لقد واجه رسول الله صلى الله عليه وسلم من القوم الذين دعاهم إصراراًعلى الكفر شديداً وعناداً عنيداً،وعزماً على محاربة هذه الدعوة واستئصالها،وكانوا قوة كبيرة، وكان صلى الله عليه وسلم والقلة التي كانت معه يعانون من الإيذاء والتكذيب مايعانون.ولكن هذا الواقع لم يضعف من عزيمة النبي صلى الله عليه وسلم، فلقد كان موقفه في مقابلة ذلك ثباتاً على الحق واستمراراً في طريقه وصبراً على الأذى حتى نصره الله تعالى نصراً مؤزراً.إنه ثبات على الحق الذي آمن به وتلقاه من الله تبارك وتعالى لامثيل له وتصميم على الاستمرار في الدعوة. وقد أكرمه الله وأعانه على هذا الثبات. قال تعالى{وإن كَادُوا لَيَفتِنُونكَ عن الذي أوحينا إليكَ لِتفتريَ علينا غَيرَهُ وإذاً لأتخذوكَ خليلاً* ولولا أن ثبّتناكَ لقد كِدتَّ تَركَنُ إليهم شيئاً قليلاً *إذاً لأذَقناكَ ضِعفَ الحياةِ وضِعفَ المماتِ ثُمّ لاتجِدُ لكَ علينا نصيراً}[الإسراء73 ـ75].
يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله في الظلال تعقيباً على هذه الآيات:” هذه المحاولات التي عصم الله منها رسوله هي محاولات أصحاب السلطان مع أصحاب الدعوات دائماً،محاولة إغرائهم لينحرفوا ـ ولو قليلاً ـ عن استقامة الدعوة وصلابتها، ويرضوا بالحلول الوسط التي يغرونهم بها في مقابل مغانم كثيرة، ومن حملة الدعوات من يفتن بهذا عن دعوته لأنه يرى الأمر هيناً،فأصحاب السلطان لايطلبون إليه أن يترك دعوته كلية،إنما هم يطلبون تعديلات طفيفة، ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق، وقد يدخل الشيطان على حامل الدعوة من هذه الثغرة، فيتصور أن خير الدعوة في كسب أصحاب السلطان إليها ولو بالتنازل عن جانب منها.ولكن الأنحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الإنحراف الكامل في نهاية الطريق.وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ولو يسير، وفي إغفال طرف منها ولو ضئيل، لايملك أن يقف عند ما سلم به أول مرة، لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء!والمسألة مسألة إيمان بالدعوة كلها،فالذي ينزل عن جزء منها مهما كان صغيراً، والذي يسكت عن طرف منها مهما ضؤل، لايمكن أن يكون مؤمناً بدعوته حق الإيمان، فكل جانب من جوانب الدعوة في نظر المؤمن هو حق كالآخر.وهي كل متكامل يفقد خصائصه كلها حين يفقد أحد أجزائه، كالمركب يفقد خواصه إذا فقد أحد عناصره!وأصحاب السلطان يستدرجون أصحاب الدعوات، فإذا سلموا في الجزء فقدوا هيبتهم وحصانتهم،وعرف المتسلطون أن استمرار المساومة وارتفاع السعر ينتهيان إلى تسليم الصفقة كلها.والتسليم في جانب ولو ضئيل من جوانب الدعوة لكسب أصحاب السلطان إلى صفها هو هزيمة روحية بالاعتماد على أصحاب السلطان في نصرة الدعوة، والله وحده هو الذي يعتمد عليه المؤمنون بدعوتهم، ومتى دبت الهزيمة في أعماق السريرة فلن تنقلب الهزيمة نصراً”.
إن الانحراف عن الحق، ومُداهنة الباطل وتزييف الحقائق، والتشويه على مستوى التصور أو السبل والغايات عند بعض الدعاة ممن يرفعون شعارات الإسلام عنواناً، ويشوهون حقائق الإسلام مضموناً، فإنه يأخذ صوراً عديدة، وإذا بحثنا عن أسباب هذا الانحراف، فإننا نجد أنه يعود إلى ضعف في شخصية الداعية، وعدم قدرته على مواجهة الباطل، أو لسبب قصور في تصوره، وهنا يلعب عاملا العلم والوعي دوراً كبيراً،أو لسبب الانهزام الداخلي أمام الخصوم، وغالباً مايكون سبب الإنحراف….اتباع الهوى!!
من أشكال الإنحراف:
1 ـ ترى بعض الدعاة، وباسم اللطف واللين مع الناس، يتنازلون عن كثير من مبادئ الدعوة والإسلام،ويسلكون بعض المسالك المنحرفة تأليفاً لقلوب من يريدون دعوته كما يدّعون ويزعمون!!وقد يقرون أحياناً بعض المخالفات الشرعية، والأسوأ من ذلك أن بعضهم قد يتملّقون العوام ويتزلّفون إلى سواد الناس على حساب دينهم ومبادئهم، ونحن ننصح هؤلاء بما قاله الأستاذ عصام العطار حفظه الله:”قل الحق بشجاعة يستجب لك أهل الحق عندما يتبينون فيك الصدق والإخلاص، أما أهل الباطل فالأفضل أن يبتعدوا عنك”.
نعم ما أسخف الداعية الذي يضحي بعلمه ويرائي العوام والدهماء، من أجل عرض زائل أو زخرف باطل من زخارف الدنيا ومتاعها، وما أحقره عند الله وعند المخلصين من الناس عندما يقول”لا” في موضع ” نعم” أو يقول ” نعم” في موضع ” لا”.
2 ـ وبعض هؤلاء الدعاة يرفعون شعار الإسلام، ولكنهم في حقيقتهم ـ جهلاً أو عمدا ـ يمالئون الطغيان، ونجدهم يُنزلون بعض الآيات غير منازلها،ويستشهدون ببعض الأحاديث في غير مناسباتها، من أجل أن يقدموا الإسلام للناس كما يريده أهل السلطان!!فإن أرادوه إسلاماً يسارياً نادوا بالإسلام الاشتراكي،وإن أرادوه رأسمالياً، قالوا برأسمالية الإسلام، وإن أرادوه بعيداً عن الحكم والسياسة، حصروه في الأخلاق وبعض الشعائر والعبادات وقالوا قولتهم: دع مالقيصر لقيصر ومالله لله!!وإن أرادوه إسلاماً خانعاً ذليلاً جرّدوا عنه الجهاد، وقالوا بإسلام السلام الذي يدعو إلى الصلح مع أعداء الله والإسلام، ويخضع لشروط الطاغوت وعبيد الظلام، وإن أرادوا محاربة الإسلام كدين وشرع ومنهج، قدموا لذلك بمحاربة أهل الدين والعلم بإسم محاربة التطرف والأصولية.
يقول الأستاذ عصام العطار حفظه الله:”لن تزال الدنيا بخير مادمت تستطيع أن تقول للباطل لا، ولو قالت له الدنيا كلها:نعم، وأن تقول للحق: نعم، ولو قالت له الدنيا كلها:لا،وأن تدفع ثمن هذا أو ذاك الحياة”.
3 ـ وبعض هؤلاء الدعاة يظن أنه من الحكمة والموعظة الحسنة، السكوت عن أخطاء الناس وانحرافاتهم وعدم مواجهتهم بها، خشية أن ينفروا من الدعوة ولايستجيبوا لها. يقول الأستاذ محمد قطب رحمه الله[مقدمة كتاب مقومات التصور الإسلامي لسيد قطب]:” إن التلطف واجب ولكن التلطف في إظهار الحق وليس التلطف في إخفاء الحق. فهذا هو الآخر الذي قال الله تعالى فيه لنبيه صلى الله عليه وسلم{ودُّوا لو تُدهنُ فيدهنُون}.[القلم9].
يقول سيد قطب رحمه الله في الآية التاسعة من سورة القلم”ودوا لو تدهن فيدهنون”:
“فهي المساومة إذن،والالتقاء في منتصف الطريق.كما يفعلوا في التجارة،وفرق بين الاعتقاد والتجارة كبير،فصاحب العقيدة لا يتخلى عن شىء منها،لأن الصغير منها كالكبير،بل ليس في العقيدة صغير وكبير.إنها حقيقة واحدة متكاملة الأجزاء.لا يطيع فيها صاحبها أحداً ولا يتخلى عن شيء منها أبداً.وما كان يمكن أن يلتقي الإسلام والجاهلية في منتصف الطريق،ولا أن يلتقيا في أي طريق.وذلك حال الإسلام مع الجاهلية في كل زمان ومكان.جاهلية الأمس وجاهلية اليوم،وجاهلية الغد كلها سواء،إنّ الهوة بينها وبين الإسلام لا تعبر،ولا تقام عليها قنطرة،ولا تقبل قسمة ولا صلة.وإنما هو النضال الكامل الذي ستحيل منه التوفيق!
ولقد وردت روايات شتى فيما كان يدهن به المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم ليدهن لهم ويلين،ويترك سبّ آلهتهم وتسفيه عبادتهم،أو يتابعهم في شيء مما هم عليه ليتابعوه في دينه،وهم حافظون ماء وجوههم أمام جماهير العرب!على عادة المساومين الباحثين عن أنصاف الحلول!ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان حاسماً في موقفه من دينه،لا يدهن فيه ولا يلين.وهو فيما عدا الدين ألين الخلق جانباً وأحسنهم معاملة وأبرّهم بعشيرة وأحرصهم على اليسر والتيسير.فأما الدين فهو الدين!وهو فيه عند توجيه ربه”فلا تطع المكذبين ودوا لو تدهن فيدهنون”.ولم يساوم صلى الله عليه وسلم في دينه وهو في أحرج المواقف العصيبة في مكة.وهو محاصر بدعوته.وأصحابه القلائل يُتخطفون ويُعذبون ويُؤذون في الله أشدّ الإيذاء وهم صابرون.ولم يسكت عن كلمة واحدة ينبغي أن تُقال في وجوه الأقوياء المتجبرين،تأليفاً لقلوبهم،أو دفعاً لأذاهم.ولم يسكت كذلك عن إيضاح حقيقة تمس العقيدة من قريب أو بعيد”.
يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله:”والمداهنة التي يودها المشركون لون من الهدنة على حساب المبادئ المقرّرة،والمثل المنشودة، وهي هدنة تقوم على تملّق المجتمع، أو الحرص على المنافع الخاصة، أو النكوص عن التضحيات اللازمة”.والأنبياء ومن تبعهم من الدعاة يرفضون رفضاً حاسماً هذا المسلك القريب من النفاق والآثرة،إنهم صورٌ حية لرسالاتهم، وحراسٌ منتصبون للدفاع عنها والحياة بها أو الموت دونها، لايميلون عنها يمنة أو يسرة قيد أنملة”.
4 ـ وبعض الدعاة ـ وخاصة على مستوى القيادات ـ تسوّل لهم نفوسهم التنازل الضئيل جداً، بحجة السياسة ومصلحة الدعوة، وقد يحالف باطلاً من أجل أن يهزم باطلاً آخر!!ونقول لهؤلاء: إن الانحراف يبدأ دوماً صغيراً، ولكنه ينتهي إلى انحراف كبير، وهو يؤدي في نهاية الأمر إلى كون الدعوة هي الضحية الرئيسية لسياسة التنازلات البسيطة، وأنه في النهاية سوف يكون الدعاة الحقيقيون المخلصون هم ضحايا القبول بالتنازلات من زعمائهم وقياداتهم، وأن العاقبة ستكون في النهاية للباطل وأن الحق سوف يُداس بالأقدام. ونُذكّر هؤلاء ونقول لهم: إن الباطل دوماً أهل للهزيمة، ولكنه لايجد دوماً من هو أهل للانتصار عليه من أهل الحق{وقُل جاءَ الحقُّ وزَهقَ الباطلُ إنَّ الباطلَ كانَ زَهُوقا} [الإسراء81]، ونقول لهم: ما أحقر أصحاب المبادئ والدعوات عندما يُضحون بها وينحرونها من أجل أتفه وأسخف الغايات، وخاصة إذا كانت دعوة الإسلام الخالصة وجند الإسلام هم ضحايا هذه السياسة.
يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله[مقومات التصور الإسلامي ص28]:”لايمكن أن يلتقي الإسلام مع الجاهلية لا في منتصف الطريق ولا في أول الطريق،إن طبيعته ليست من طبيعتها، ومن ثم فإن طريقه ليس عن طريقها.ليس هنالك طريق مشترك ولو في خطوة واحدة بين الإسلام والجاهلية، ولابين التصور الإسلامي والتصور الجاهلي”.ويتابع رحمه الله:”وفضلاً عن كون هذا الرأي وهمياً، فإن هزيمته بادية أول الطريق، والهزيمة لاتنشئ نصراً، لأنها عندئذ هي هزيمة الإيمان ذاته، هزيمة الثقة في أحقيّة الحق بأن يظهر وينتصر، وأحقيّة الباطل بأن يزهق ويندحر…وأولى للذين يريدون أن يتصالحوا مع الواقع الجاهلي أو مع التصور الجاهلي، وأن يلتقوا معه في منتصف الطريق كخطوة للوصول إلى النصر في النهاية أن يستسلموا للجاهلية منذ اللحظة الأولى، وأن يكفوا عن المحاولة أصلاً، وألايحسبوا على الإسلام محاولة فاشلة كهذه المحاولة.إننا نريد دعاة يؤمنون من أعماق قلوبهم بأنه: لالقاء بين الإسلام والجاهلية في مرحلة من مراحل الطريق، إنما هي المفاصلة الحاسمة عند مفرق الطريق، المفاصلة الحاسمة التي لاهزل فيها ولامواربة، هؤلاء هم المؤهلون لتدبر قول اله سبحانه وتعالى{فلاتَخشَوا النّاسَ واخشَونِ ولاتَشترُوا بآياتي ثَمناً قليلاً ومن لم يَحكُم بما أنزلَ اللهُ فأولئكَ هُمُ الكافرون}[المائدة 44]”.
ويقول الدكتور الأستاذ محمد لطفي الصباغ حفظه الله:”إن علينا في مسيرتنا الدعوية أن لانتنازل عن شئ من أمور ديننا لاسترضاء أعدائنا،ذلك لأن الله أيأسنا من رضاهم مهما قلنا ومهما فعلنا إلا أن نتبّع ملتهم وهذا المزلق الذي وقع فيه بعض الدعاة عن حسن نية، ووقع فيه آخرون عن سوء نية يريدون هدم الدعوة السليمة{ويأبى اللهُ إلاّ أن يُتِمَّ نُورَهُ ولو كَرِهَ الكافرون} [ التوبة32]. هذا وإن كتاب الله حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من إتبّاع أهواء الكفار أو التخلي عن بعض ما أنزل عليه،يقول تعالى :
{ولَئن اتَّبعتَ اهواءَهُم من بعدِ ماجاءَكَ من العِلمِ إنَّكَ إذاً لَّمِنَ الظالمين}[البقرة 145].
{ولاتَتَّبع أهواءَهُم عمّا جاءَكَ من الحق}[المائدة48]
{ولاتَتّبع اهواءَهُم واحذّرهُم أن يفتِنُوكَ عن بعضِ ما أنزلَ الله إليك}[المائدة 49]
{قُل لا أَتَّبعُ اهواءَكم قد ضَلَلتُ إذاً وما أنا من المهتدين} [الأنعام 56]
{ولَئِن اتَّبعتَ أهواءَهُم بعدَ ما جاءَكَ من العِلمِ مالَكَ من الله من وليٍّ ولاواق}[الرعد37]
من ندعو؟
إن الدعوة إلى الله موجهة للناس كافة، لأن رسالة الإسلام عامة إلى جميع البشر، غير مقصورة على عنصر أو جنس معين . يقول تعالى: { وما أرسلناكَ إلا كافَّةً للناسِ بشيراً ونذيراً}[سبأ28].
ولكن يجب أن تبدأ الدعوة في الإنسان ذاته حيث يقترن قوله مع عمله، ودعوته مع حسن خلقه، وتصرفه بالسلوك الحسن والخلق القويم.
وبعد أن يبدأ الإنسان في إصلاح نفسه وتهذيبها وتقويمها وحملها على أخلاق القرآن وتخلّقها بأخلاق الصالحين فإن عليه أن يتوجه إلى إصلاح أهله وعائلته وأقاربه وذوي القربى وخاصة من هو مسؤول عنهم. يقول تعالى: { يا أيُّها الذينَ أمنُوا قُوا أنفُسَكُم وأهلِيكُم ناراً وَقُودُها الناسُ والحجارةُ عليها ملائكةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لايعصُونَ اللهَ ما أمَرَهُم ويفعلونَ مايُؤمرون}[ التحريم 6]ويقول تعالى: {وأمُر أهلكَ بالصَّلاةِ واصطَبِر عليها}[ طه ]132 ، وقال تعالى : { وأنذِر عَشيرتَكَ الأقربين}[الشعراء214 ].
لما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بإظهار دينه، وبأن يصدع بما جاءه منه، وبأن يُبادي الناس بأمره، ويدعو إليه صعد الصفا ونادى: ” يامعشر قريش! قالت قريش: محمدٌ على الصفا يهتِف، وأقبلوا عليه يسألونه مالهُ، فكان مما قال:” يابني عبد المطلب، يابني عبد مناف، يابني زهرة، يابني تَيم، يابني مخزوم، يابني أسد،إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، وإني لا أملك لكم من الدنيا منفعة، ولا من الآخرة نصيباً إلا أن تقولوا : لا إله إلا الله”.
يقول الإمام العظيم ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد:”أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى أن يقرا باسم ربه الذي خلق، وذلك أول نبوّته،فأمره أن يقرأ في نفسه، ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ، ثم أنزل عليه {يا أيُّها المُدَّثرُ*قُم فانذِر}[المدثر1 ـ 2]فنبّأه بقوله {اقرأ}[العلق1]وأرسله ب{يا أيها المدثر}ثم أمره أن يُنذر عشيرته الأقربين، ثم أنذر قومه، ثم أنذر من حولهم من العرب قاطبةً،ثم أنذر العالمين، فأقام بِضعَ عشرة سنة بعد نبوّته يُنذر بالدعوة بغير قتال ولاجزية، ويؤمر بالكفّ والصبر والصفح.ثم أذن له في الهجرة، وأُذن له في القتال، ثم أمره أن يقاتل من قاتله، ويكُفَّ عمّن اعتزله ولم يقاتله، ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله”.
ولقد بلغ من حرص الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين في تعليم أهليهم أنه كان أحدهم يسمع الآية من القرآن الكريم فيرجع إلى أهله يعلّمهم إياها ويطبقها وإياهم، فكانوا يقرنون العلم بالعمل، والقراءة بالتطبيق.
تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ” والله مارأيت أفضل من نساء الأنصار، لقد أنزلت سورة النور، فانقلب رجالهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها ويتلوها الرجل على امرأته وابنته وأخته وعلى كل ذي قرابته”.
يقول الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله:”والغنسان لايجوز له أن يحمي نفسه من النار،ثم يترك اهله وأولاده تأكلهم النار،لابد أن يكون بهم رحيماً، وعليهم شفيقاً،فيحميهم من النار. احم نفسك أولاً، ثم احم أهلك، زوجتك وأولادك، ابنائك وبناتك،احمهم جميعاً من النار،{وأُمر أهلكَ بالصلاةِ واصطبر عليها لانسألكَ رِزقاً نحنُ نَرزُقكَ والعاقبةُ للتقوى} [طه 132]، لايجوز أن تترك امرأتك لاتصلي، تترك أولادك لايصلون، أنت مسؤول عنهم، جاء في الحديث النبوي الصحيح:”مُروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر،وفرّقوا بينهم في المضاجع“[رواه أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما وهو حديث صحيح]، من أجل ماذا؟ من أجل أن تحميهم من النار”.
ولكن من المؤسف والمحزن جداً أن كثيراً من الدعاة تراهم غافلين أو معرضين عن مراقبة بيوتهم والقيام بإصلاح أحوال زوجاتهم وأطفالهم، تراهم يعرضون عن هذا ناسين أو مُتناسين أن هذا هو لبّ الدعوة الإسلامية وعمودها الفقري.
ترى كثيراً منهم يقضون السهرات الطوال، ويقومون بالرحلات، ويقطعون الساعات والأيام في التحضير للخطب والمواعظ والمحاضرات، مُنقطعين عن بيوتهم، غير عارفين لأحوال زوجاتهم وأطفالهم، وعندما يعودون لبيوتهم بعد السفر ومشاق الطريق أو بعد أن ألقوا مواعظهم وخطبهم تجدهم يريدون راحتهم وراحة فكرهم وبالهم، ولايسألون زوجاتهم عن أحوالهم وأحوال أطفالهم، فمن لهذه الزوجة المسكينة؟ ومن لهؤلاء الأطفال المساكين؟
وليس هذا فحسب، بل إنهم يحاسبون زوجاتهم وأطفالهم أشدّ المحاسبة في حال تقصيرهم في أمر من أمور الدعوة والدين، وكيف لا؟ وهو الداعية الذي يجب أن يكون عند حسن ظن الناس به، فهو الداعية وهو القدوة، وهوالأسوة التي يتبعها الناس فلابد أن تكون عائلته على مستوى عالٍ من الإسلام ثقافة وتربية وعلماً ، وإن كان لايقدم لهم أبسط شئ من وقته وعلمه وفكره!!وتكون المصيبة أعظم للزوجة والأطفال إذا كانوا يعيشون في ديار الغربة، حيث تلتقي غربة الدار مع غربة الديار،حيث لاتجد هذه الزوجة المسكينة من يواسيها ويحنو عليها في مآسي ومشاق الغربتين، فتعيش أيامها ولياليها في حزن متصل ودمع منهمر وألم شديد قد يصل بها إلى الإنهيار النفسي وهذا شئ ليس نادر الحدوث. وأما الأطفال المساكين فإنهم يعيشون أيضاً مأساة عظيمة قد تصل بهم بعد سنوات من فقدان حنان الأب”الداعية” وعدم إعطائهم الوقت الكافي للإنحراف السلوكي وليس من النادر أن يصبحوا على هامش المجتمع الذي يعيشون فيه، وربما انقلبوا إلى أعدائه وانقلبوا عليه .
نعم، إنه لمن المحزن جداً أن نرى بعض الدعاة الناشطين في دعوة الناس، غافلين ومعرضين عن مراقبة بيوتهم وإصلاح أحوال اطفالهم وزوجاتهم، ويسهرون الليالي تلو الليالي ويقضون الساعات والأيام تلو الأيام، ويحضرون الجلسات تلو الجلسات من أجل إقامة المجتمع الإسلامي وتطبيق الحياة الإسلامية وهم أبعد مايكون في ذلك على مستوى أسرهم وعائلاتهم!!!
وعلى النقيض من ذلك ، قد يكون الداعية منشغلاً بنفسه وزوجته وأطفاله، تاركاً هموم ومشاكل ومآسي المسلمين وراء ظهره، ولايبدي أي اهتمام لما يحصل لأبناء دينه وإخوانه ومعارفه ، وهذا أيضاً لايجوز، فلابد من التوازن وأن يعطى كل ذي حق حقه، بدون إفراط ولاتفريط.
إن الإسلام ليس صلاة وصيام وزكاة وعبادات، بل هو أيضاً إعطاء كل ذي حق حقه، فالزوجة والأطفال لهم حقوقهم على الأب الداعية،والأقارب والمعارف وذوي القربى لهم حقهم ، وإخوة الدين والعقيدة في كل مكان لهم حقوقهم.ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك القدوة الصالحة والأسوة الحسنة. لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أتقى الناس وأعبد الناس، وأكثرهم قياماً بحق الله، لقد كان يقوم الليل حتى تتفطّر قدماه الشريفتان، ومع ذلك كان في بيته المعلم والمربي، وكان أيضاً الخادم لأسرته، يفيض على أهله وأسرته وزوجاته بالمحبة والعطف، يعطيهم مع العلم والتربية مايحتاجون إليه من كؤوس المحبة ويغدق عليهم من رحمته وعطفه، ويعطيهم من وقته مايحتاجون، لقد كان صلى الله عليه وسلم في خدمة أهله، ومع ذلك كان يقوم بحق المسلمين، ويقوم بحمل تكاليف وأعباء الدعوة وما يصاحبها من صبر وتحمل وأذى، وكان مع الدعوة إلى الله في أصحابه لايبخل عليهم من وقته فيعود المريض، ويواسي المحزون، ويفرج عن المكروب، ويعزي في الفقيد، ويخرج في جنازة الميت….فاتقوا الله أيها المسلمون الدعاة في أزواجكم وأطفالكم، وأدركوا الأمر قبل فوات الأوان، وانظروا إلى وصية إبراهيم الخليل إلى أولاده قبيل موته: {ووصّى بها إبراهيمُ بنيهِ ويعقوبُ يابَنيَّ إن الله اصطفى لكم الدينَ فلاتُموتُنَّ إلا وأنتم مسلمون}[ البقرة132].
صفات الداعية
عندما ينطلق الداعية إلى الناس ويحاورهم ويناقشهم عن الإسلام ويعرفهم بحقائقه، فإنه ينطلق من منطلق الرحمة بهم والشفقة عليهم،كي لايقعوا غداً في نيران الندامة،ويسلكوا سبيل السلامة، وهو عندما يدعوهم ويحاورهم فإنه يخفض جناح الذل من الرحمة لهم، وهو يتعامل معهم معاملة الشفيق الرحيم، ومن منطلق الإخلاص وحسن النية والطوية،وهو لايدعو الناس تعصباً لنفسه أو انتصاراً لذاته، أو من أجل بسط أنانيته وتغذية كبريائه، وإنما هدفه الظاهر والباطن، الدعوة للحق والانتصار للحق وقبوله ولو على حساب نفسه وحزبه،وهو في دعوته يجب أن لايكون فناناً هدفه إمتاع الناس وتسليتهم واستدرار عطفهم، ولكنه طبيباً يداوي عللهم برفق وتأن ، ولكن أيضاً مع استعمال الحزم في مواطن الحزم، وإلا ضاع الطبيب والمريض معاً.وعليه في دعوته أن يبتعد عن الكراهية والعداوة لهم وإن خالفوه الأمر ولم يستجيبوا لدعوته بادئ ذي بدء، وإنما يواجه كل ذلك بحبهم والدعاء لهم في العلانية وظهر الغيب{ والذينَ جاؤوا من بعدِهِم يَقُولونَ رَبَّنا اغفر لنا ولإخوانِنَا الذين سَبَقُونا بالإيمانِ ولاتَجعل في قُلُوبِنا غِلاًّ للذين آمنوا رَبّنا إنَّك رَؤوفٌ رحيم} [الحشر10].
إن أهم الصفات التي يجب أن يتحلى بها الداعية إلى الله:
1ـ الإخلاص والتجرد:
إن العمل الصالح الذي يتقبله الله عز وجل هو العمل الذي يستند إلى الإخلاص، وهو شرط رئيسي لقبول العمل، ويستند إلى وجود العلم والوعي بما يعمل، فالإخلاص والعلم صنوان لايفترقان، ولايمكن أن يتم العمل الصالح ويُرفع إلى السموات ويُقبل من صاحبه ويكافأ عليه إلا بتوفرهما معاً، يقول تعالى: {ومَا أُمِرُوا إلا لِيعبدُوا اللَه مُخلصينَ لهُ الدِّينَ حُنفاءَ ويُقيموا الصَلاةَ ويُؤتوا الزَّكاةَ وذلكَ دِينُ القَيِّمة}[ البينة 5].
إن العلم والعمل بدون إخلاص النيّة لله عز وجل وطلب ثوابه، قد تكون لهما ثمرتهما في الحياة الدنيا، ولكن هذا العمل مرفوض في ميزان وحساب الآخرة، يوم يوضع الميزان ويُنشر الكتاب ويتمّ الحساب.
وإن الإخلاص الذي لايقترن مع العلم في أي عمل من الأعمال، قد تكون له نتائجه الوخيمة في الدنيا والآخرة، وكم رأينا من مخلص قد تفانى في عمل من الأعمال بدون أن يكون عنده العلم والوعي بما يعمل، قد عاد عليه هذا العمل وعلى غيره من الناس بالمشكلات والمصائب وأوخم النتائج والعواقب.
وما أجمل مانقله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ” مجموع الفتاوى3/124″ عن الفضيل بع عياض رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {ليبلوكم أحسن عملاً}[ الملك2] ، قال: أخلصه وأصوبه، قالوا : يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إذا كان العمل خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل،وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص أن يكون لله، والصواب ما كان على السنة أي موافقاً للشرع.
يقول الشيخ العلامة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله:
“يقول الإمام ابن عطاء السكندري رحمه الله:”ربما فتح الله لك باب الطاعة،وما فتح لك باب القبول،وربما قدّر عليك المعصية فكانت سبباً في الوصول.معصية أورثت ذلاً وانكساراً،خير من طاعة أورثت عُجباً واستكباراً”.
يعني الذي يمشي معجباً بنفسه،لأنه يقوم الليل،أو لأنه يصوم الإثنين والخميس،ويريد أن يبين للناس أنه صائم اليوم،لأنه منذ عشر سنوات أو عشرين سنة لا أترك صيام الإثنين والخميس.يا أخي دع هذا لنفسك.
يقول ابن عطاء:”ربما فتح لك باب الطاعة،وما فتح لك باب القبول،لأن الطاعة إذا كان فيها رياء،أو فيها عُجب، لا تقبل.
وسيدنا علي رضي الله عنه يقول:”سيئة تسؤك خير عند الله من حسنة تعجبك.يعني السيئة التي تنكد عليك عيشك،وتجعلك تحزن وتندم أفضل عند الله من الحسنة التي تُعجب بها،وتُزهى بها،وتفخر بها على الناس.
ويتابع الشيخ القرضاوي:عاد أحد الصالحين طلابه وتلاميذه،وقد كان في مرض خُشي أن يكون مرض الموت،فوجدوه يبكي.
فقالوا له: أتبكي وأنت صاحب كذا وكذا،يعدون له بعض حسناته،فقال لهم: وما يدريني أن شيئاً من هذا قد تقبله الله مني ،والله تعالى يقول:{إنّما يتقبّلُ الله من المُتقينَ}[المائدة 27].
والتقوى ليست أعمالاً ظاهرة،وإنما أساس التقوى في القلب،أساسها الإخلاص لله،أساسها خشية الله عز وجل،ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:”التقوى ههنا” وأشار إلى صدره.
ولذلك الذي أقلق الصالحين،وأخافهم وأزعجهم،أن أعمالهم الصالحة ربما لا تكون مقبولة،ومن هنا قالت امرأة عمران:{فتقبّل مني إنّكَ أنتَ السميعُ العليمُ}[آل عمران].
أمر الله نبيه إبراهيم ببناء البيت،فظل هو وابنه إسماعيل عليهما السلام،يعملان،ويرفعان القواعد من البيت،ثم سالا ربهما القبول:{وإذ يرفعُ إبراهيمُ القواعدَ من البيتِ وإسماعيلُ ربّنا تقبّل منا إنّكَ أنتَ السّميعُ العليم}[البقرة 127]ز
ليس المهم أن تعمل الصالحات،ولكن المهم أن تُقبل منك الصالحات،فكن قلقاً دائماً على ما تعمل،واسأل الله أن يتقبلها منك”.
ويقول الشيخ العلامة القرضاوي في مقال آخر:
“الإخلاص تصفية العمل من كل شائبة،فلا يكون العمل إلا ابتغاء رضوان الله عز وجل،لم يعمل العمل لأي غرض من الأغراض،كأن يرضي الناس،بل يعمل العمل لا ليراه الناس ولا ليحمدوه،ولا للشهرة ولا للمال ولا للجاه ولا للمنصب،لا تدخل الدنيا بكل أعراضها،بكل زخارفها،بكل ما يحرص الناس عليه فيها،لا يدخل شىء من هذا في نيّته حينما عمل،وهذا هو الإخلاص”.
يقول الشيخ العلامة محمد الغزالي رحمه الله(مجلة اللواء العدد6 بتاريخ صفر 1390 هجري):
“أعجبني في اليمين التي حلف عليها أنس بن النضر أن الرجل كان يشهد الله وحده ،ويتشهد أولاً وآخراً رضاه.لقد أحزنه أن الله لم يره في ميدان القتال ببدر،فأقسم أن يُري الله نفسه في أول لقاء بالكافرين،وأن يضرب أعلى مثل في التفاني والاستبسال.
لم يدر بخلد أنس تطلع إلى جاه أو تشوق إلى شهرةزكان الرجل أزكى نية،وأشرف نفساً من أن يلمع بهذه الدنايا.
والعمل لا يوصف بالصلاح،ولا يرشح للقبول،إلا إذا أخلص لله وحده،وقصد به وجهه.روى أحمد بن حنبل عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:”إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الاصغر،قالوا:وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟قال: الرياء! يقول الله عز وجل لهم يوم القيامة إذا جُزي الناس بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا:هل تجدون عندهم جزاء؟”.[رواه أحمد والبيهقي وصححه الالباني].
والواقع أنه لا جزاء عندهم في الدنيا ولا في الآخرةنفماذا يرجو عبد من عبد إلا أن يزداد ذلاً؟وماذا يطلب فقير من فقير إلا أن يزداد عيلة!!
إن الإخلاص لله سياج العز وضابط الخير في الحياتين.وعندما تصدق النية فلا يخشى على العبد من مجاهرة بصلاة أو جهاد أو صدقة، إذ الأساس استهداف وجه الله تعالى،وليس على البال غيره.
ومن الحماقة أن يطلب الإنسان ثناء الخلق وهو يعلم أن الله قد ستر عليه ذنوباً لو كشفوها لسودوا وجهه!! الله تعالى أولى بالاتجاه والمودة وأحق بالحفاوة والالتفات.
ومن عظمة الإيمان اكتفاء المرء ينظر الله إليه ،وإيثاره أن يعمل في صمت أو يموت جندياً مجهولاًنوهذا الاكتفاء دلالة استغراق المرء في الشهود الإلهي،ورسوخ قدميه في مقام الإحسان،وتلك هي الولاية كما شرحها معاذ بن جبل رضوان الله عليه.روى ابن ماجة أن عمر بن الخطاب خرج إلى المسجد فوجد معاذاً عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي! فقال: ما يبكيك؟ قال: حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم:”اليسير من الرياء شرك،ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة،إن الله يحب الأبرار الأنقياء الأخفياء الذين إن غابوا لم يفتقدوا،وإن حضروا لم يعرفوا،قلوبهم مصابيح الهدى،يخرجون من كل غبراء مظلمة”.[رواه ابن ماجه والبيهقي في شعب الإيمان].
أجل إن الله تعالى يحب أولئك العاملين في صمت،الزاهدين في الشهرة والسلطة،المشغولين باللباب عن القشور،المتعلقة قلوبهم بالله،لا تحجبهم عنه فتنة،ولا تغريهم متعة وما أفقر أمتنا إلى هذا الصنفر المبارك،بهم ترزق وبهم تنصر.(انتهى كلام الغزالي رحمه الله).
إن الدعوة إلى الله هي أحد مجالات العمل الصالح بل تأتي في قمة الأعمال الصالحة، يقول تعالى: {ومن أحسنُ قولاً مِمَّن دعا إلى الله وعملَ صالحاً وقال إنّني من المسلمين}[ فصلت 33].والدعوة إلى الله شأنها شأن كل العبادات الأخرى لابدّ أن تكون خالية من المنّ، صافية من الرياء، مجردة من الجري وراء متاع الدنيا، بعيدةً عن طلب وكسب إعجاب الناس.
إن الشر الأعظم وداهية الدواهي وثالثة الأثافي التي يقع فيها الداعية هو أن يكون إلهه هواه الذي يعبده عن علم أو عن غفلة، ويتستر من وراء الدعوة بمختلف الشعارات التي يحاول من خلالها أن يتستر على هذا الهوى الإله: {أفرأيتَ من اتَّخذَ إلهَهُ هواهُ وأضَلَّهُ اللهُ على علمٍ وختمَ على سَمعِهِ وقلبهِ وجعلَ على بصرهِ غِشاوةً فمن يهديهِ من بعدِ الله أفلاتَذكَّرون}[الجاثية23 ].
وبعض الدعاة تجده قد غرف من منابع العلم غرفاً، ونهلَ من مَعين المعرفة نهلاً، وتعمّق في الأصول وفروع الفروع، ودرس السطور ومابين السطور وحتى الهوامش والحواشي،ولكنه لم يفعل ذلك من أجل إرضاء الله عز وجل، ولا من أجل خدمة دين الإسلام،وإنما فعل ذلك ليحتال وليحرف الكلم عن مواضعه، ومن أجل أن يجد المخارج والتأويلات والتفسيرات للفتاوى المغرضة والاجتهادات المنكرة، وليلوي أعناق الآيات من أجل مطمع شخصي عند ذوي السلطان، ومن أجل أن يبيع دينه بدنيا غيره، ترى أمثال هؤلاء مقبلين على عرض زائف، وعلى متاع زائل،علومهم في واد، وسلوكهم وتصرفاتهم في واد آخر.
إنّ هؤلاء هم آفة الأمّة،وهؤلاء أقرب لأحبار اليهود منهم إلى علماء المسلمين، وليحذر هؤلاء من قوله تعالى: {وقد كانَ فريقٌ مِنهُم يسمعونَ كلامَ الله ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ من بعدِ ماعَقلُوهُ وهم يعلمون}[ البقرة 75]، وقوله تعالى: {فويلٌ للذينَ يَكتُبونَ الكتابَ بأيديهم ثُمَّ يقولونَ هذا من عندِ الله لِيشتَروا به ثمناً قليلاً فويلٌ لهُم ممّا كتبت أيديِهم وويلٌ لهُم مما يكسبون}[ البقرة 79].
وكم رأينا من دعاة، قد هاجت مطامعهم أمام الإغراءات، وانساقوا وراء الشهوات، ونسوا عهدهم مع الله، وانهزموا أمام متاع الحياة، وغرور الدنيا، تراهم يعرضون الحق كلاماً في مجالسهم،وخطباً في محافلهم، ولكنهم عندما يُعرضون على المحك، ويخضعون للتجارب، يختلقون الحيل،ويجتهدون في تأويل الفتاوى ويجدون لأنفسهم المبررات والأعذار.وما أكثر الحيل عندما تلتوي القلب، وما أكثر الفتاوى الباطلة عندما تنعدم التقوى، وهؤلاء نسوا قول الله عز وجل: { وذَرُوا ظَاهِرَ الإثمِ وباطِنَهُ إنَّ الذين يَكسِبُونَ الإثمَ سَيُجزَونَ بما كانوا يَقترفون}[الأنعام120 ].وهؤلاء نسوا أن مايسعون إليه من غرور الدنيا وزخرف الحياة، إن هو إلا متاع الغرور، وإن مايسعون إليه ليس إلا غايات هيّنة رخيصة لاينبغي أن يكون حولها ازدحام، ولا أن يكون إليها تدافع، ولا أن تنقطع من أجلها الأعناق،ولا أن تتمزق في سبيلها القلوب.
وبعض هؤلاء الدعاة يعبدون الله على حرف،تراهم مقبلين على الطاعات، مؤدّين للعبادات،شديدين على المُقصرّين إذا قصّروا، مُعنّفين للغافلين إذا شردوا،آخذين بالإسلام مظهراً وسلوكاً خارجياً، إذا كان هذا يحقق لهم مصلحة، أو يجلب لهم منفعة، أما إذا كان وراء إتبّاع الإسلام ضرر، أو لاقوا من جرائه نصباً أو كدراً انقلبوا ضد الإسلام والمسلمين، وكانوا حرباً عليهم وعوناً للظالمين، هؤلاء ليس الدين عندهم إلا ترساً أو لثاماً يستر خبايا نفوسهم الدنيئة ومطامعهم الحقيرة، وهؤلاء يقول الله عز وجل في أمثالهم: {ومِنَ النَّاسِ من يَعبدُ اللهَ على حَرفٍ فإن أصابَهُ خَيرٌ أطمأنَّ بهِ وإن أصابَتهُ فِتنةٌ انقلبَ على وجههِ خَسِرَ الدُّنيا والآخرةَ ذلكَ هُوَ الخُسرانُ المبين}[ الحج11 ].
وبعض الدعاة تجد محور حديثه في مجالسه ومحافله يدور عمّا قدّم، ويقدّم للإسلام من تضحيات جلّى وأعمال لاتُحصى،وأنه رُبّما ضحى بدراسته أو بعمله وقدّم أمواله ووقته من أجل التفرغ للإسلام والدعوة، فهو يَمنُّ على الإسلام والمسلمين بخدماته الجلّى وأعماله الباهرة ناسياً قوله تعالى: {يَمُنُّونَ عليكَ أن أسلَمُوا قُل لاتَمُنُّوا عليَّ إسلامَكُم بلِ اللهُ يَمُنُّ عليكُم أن هَداكُم للإيمانِ إن كُنتُم صادقين}[الحجرات 17].
والأنكى من هذا والأدهى والأمرّ، أن بعضاً من هؤلاء الدعاة، وهذا مما يدل على أنه ليس مخلصاً في دعوته تجد منه التبرم من النقد الصحيح البناء، وضيق الصدر عند استعراض الأخطاء والهفوات، بل ربما أخذت بعضهم العزة بالإثم، فلايتوانى أن يُحلَّ حراماً أو يُحرّم حلالاً، إن كان في ذلك تحقيق بعض مطامع النفس ورغباتها، وتجده يبرر ذلك لنفسه أحياناً بأنه قد قدّم الكثير للدعوة وللإسلام، فلابأس أن يسترد بعض ماقدم، وله في ذلك تبريراته واجتهاداته!!
إن الدعوة إلى الله لابدّ أن تكون دعوة مجردة من حظوظ الدنيا، وبعيدة عن طلب شكر الناس والثناء منهم، والداعية يقوم بواجب الدعوة امتثالاً لأمر الله، طالباً ثوابه، طامعاً برحمته.
يقول الأستاذ الحبيب عصام العطار حفظه الله : ” لاتربطوا عملكم بالنتائج القريبة والمكاسب المادية والدنيوية، إن توقعتموها عملتم وإلا انصرفتم عن العمل، فهذا شأن المرتزقة لاشأن المؤمنين. أما المؤمنون الصادقون فحسبهم أن يكونوا مع الله ومع الحقّ الذي أنزله الله يجاهدون في سبيله ويموتون من أجله ويرون جزاء الله عز وجل خيراً من مكاسب الدنيا التي يتراكض إليها ويتهافت عليها الذين لايرجون الله واليوم الآخر”.
2 ـ العلم والبصيرة:
إن العلماء هم ورثة الأنبياء كما جاء في جزء من حديث نبوي شريف صحيح عن أبي الدرداء رضي الله عنه، ويقول الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله وشاهده في القرآن الكريم قوله تعالى{ثُمَّ أورثنا الكتابَ الذين اصطفينا من عبادنا}[فاطر32].وهؤلاء العلماء عليهم تسخير علمهم في مجالات الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
يجب على الداعية إلى الله أن يكون بصيراً:علماً وفهماً وتطبيقاً لما يدعو إليه، واعياً بظروف وأحوال وتغيرات المجتمع الذي يعيش فيه،مدركاً مُلّماً بآداب وأحكام الدعوة الإسلامية وباقي الدعوات، متجنباً العواطف المضطربة، والانفعالات المتأججة ما أمكن.
إن الدعوة المثمرة والناجحة تقوم أساساً على فهم ومعرفة أمور الدعوة أولاً،وعلى تطبيقها الصحيح في النفوس ثانياً، قال تعالى: {فاعلَم أنَّهُ لا إلهَ إلا اللهُ واستغفِر لذنبكَ وللمؤمنينَ والمؤمنات والله يَعلمُ مُتَقَلَّبُكم ومَثواكُم}[ محمد 19].فقدم الله تعالى العلم على العمل،فلابد من العلم الصحيح لتطبيق العمل الصحيح.
يقول صاحب التحرير والتنوير الشيخ ابن عاشور رحمه الله:”ومن اللطائف القرآنية أن أمر الله هنا بالعلم قبل الأمر بالعمل”. ولما سئل ابن عُيينة ـ أحد سادة التابعين ـ رحمه الله عن فضل العلم؟ قال: ألم تسمعوا قول الله تعالى: { فاعلم أنه لا إله إلا الله}…وذكر الآية. وقد رجحّ الإمام البخاري رحمه الله وقدّم العلم على العمل في صحيحه استناداً إلى هذه الآية الكريمة.
نعم إن الدعوة إلى الله تتطلّب الإلمام والعلم الكافي بأمور الدعوة والدين والممارسة والتطبيق العملي، وهذا مايتضمنه معنى الإيمان والعمل الصالح، ولابد من تجنب الجهل والحماسة الزائدة والانفعالات المريضة المفرطة في هذا المجال.
يقول الله تعالى: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرةٍ أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين}[ يوسف 108].
لقد بين الله تعالى في هذه الآية العظيمة أن الدعوة إلى الله في كل زمان ومكان، ابتداءً من الرسول العظيم محمد صلى الله عليه وسلم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها يجب أن تقوم على بصيرة من المسلم الداعية.والبصيرة تعني العلم والمعرفة والوعي، وهي أبعد ماتكون عن الجهل والانفعال والتواكل ورد الفعل.
كما يجب على الداعية أن يكون متمكناً من الأمور التي يدعو إليها ويتحدث عنها وأن يقدمها باسلوب واضح بسيط بدون استعمال مفردات وجمل مبهمة غير واضحة، لأن المرء عندما يكون عارفاً مستوعباً لما يقول يأتي كلامه واضحاً بسيطاً، وعلى العكس فإنه عندما يكون جاهلاً للموضوع الذي يتحدث فيه يأتي بكلام غير واضح وغير مفهوم لأنه هو بذاته لايفهم مايتحدث عنه!!شأنه شأن الطبيب الجاهل عندما يُسأل عن أحد المواضيع فانظر إليه في إجاباته وتحليله واستعماله المصطلحات الغامضة المبهمة التي لايفهمها أهل العلم والخاصة فكيف بالعامة!!
إن داهية الدواهي وفاقرة الفواقر التي قد يقع فيها بعض الدعاة أنهم ينطلقون في دعوتهم من مبدأ الحماس الديني، والعاطفة الدينية التي لايساندها العلم والعمل والوعي،وإن الداعية الذي ينطلق في دعوته من منطلق العاطفة المقترنة بالجهل،والحماس المشوب بالغفلة،يَضرمن حيث يظن أنه ينفع،ويهدم من حيث يظن أنه يبني،ويَضَل ويُضِل من حيث يظن أنه قد اهتدى وهدى وأرشد ورشد، وأمثال هؤلاء نُذكرهم بقوله تعالى: {ولاتَقفُ ماليسَ لكَ بهِ عِلمٌ إنَّ السَّمعَ والبَصرَ والفُؤادَ كُلُّ أولئكَ كانَ عنهُ مسؤولاً}[ الإسراء 36].
إن الدعوة التي تنطلق من العاطفة الدينية المشبوبة بنار الانفعالات، وتتوقد جذوتها بنار رد الفعل والحماسات، والتي لاتستند إلى علم ووعي ومعرفة،قد يفسد فيها الداعي أكثر مما يصلح، ويسيئ أكثر مما يحسن، وهي نار تحرق صاحبها، وتحرق دعوته بدون أن تنير الطريق وتوضح المعالم.
يقول الأستاذ عصام العطار حفظه الله : “الإخلاص والتجرد والحماسة دون معرفة ووعي، ودون خبرةٍ تتكامل من خلال العمل والزمن، ضياعٌ وانحرافٌ وهلاك”. ويقول أيضاً:”هل درى بعض من يدّعون حمل رسالة الإسلام أنهم بقِلّة علمهم، أو سوء فهمهم وتطبيقهم، أول من يصد عن سبيل الإسلام، وأن بعضهم يبلغ في ذلك ـ أحيانا ـ مالايبلغه جُلُّ الأعداء، وأن واجبهم الأول ـ إن كانوا صادقين في الدعوة إلى الله ـ أن يكملوا العلم ويصححوا الفهم والسلوك وأساليب البلاغ”.
يقول الشيخ الدكتور محمد لطفي الصباغ حفظه الله في كُتيب [تذكرة إلى الدعاة]:”إن الدعوة إلى الله يجب أن تكون مَبنية على أساس متين من العلم ولايجوز أن تبقى العاطفة المضطربة هي الدعامة الوحيدة التي تقوم عليها”.
وكذلك قال القدماء ونقول معهم:
وكل من بغير علم يعملُ أعمالهُ مردودةٌ لاتُقبلُ
والأنكى من ذلك بل والأدهى أن المجتمع والقانون يحاسبان من يُطَبّب الناس إذا لم يكن من أهل الطب والعلم والاختصاص، ولم يحصل على الشهادات اللازمة، وهذا صحيح وملزم شرعاً وعرفاً، ولكن أن يفتي في الدين من لم يُعرف عنه إلمام ومعرفة بعلوم الدين، وأن يتصدّى للفتوى والفقه من لايعرف من أمور الدين شيئاًـ اللهم إلا ما قد ورثه عادة وممارسة عن الآباء والأجداد ـ بل على العكس فبدلاً من أن يُمنع ويُنزل به العقاب الدنيوي، قد يجد التشجيع والتأييد في كل عصر ومِصر، ومن كل حاكم وقصر، فهذا العجب العُجاب!!ولكن أمثال هؤلاء وإن لم يلحق بهم العقاب الدنيوي فإن ماينتظرهم يوم الحساب هو أمرُّ العذاب وأشدّ العقاب.
يقول الإمام العظيم ابن القيم رحمه الله في قوله تعالى: {قُل إنَّما حَرَّمَ رَبيَّ الفواحشَ ماظهرَ منها ومابَطَن والإثمَ والبغيَ بغيرِ الحقِّ وأن تُشركوا بالله مالم يُنَزِّل بهِ سُلطاناً وأن تقُولوا على الله مالاتعلمون}[الأعراف 33]، يقول رحمه الله : “إن القول على الله بغير علم هو أعلى مراتب الإثم،ويستوجب أشدّ العذاب وهو أشد عند الله من الشرك بالله بحد ذاته،فمراتب الإثم والكفر درجات أشدها القول على الله بغير علم”.
وقد قال العلماء أيضاً: ” لايأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيهاً فيما يأمر فيه، فقيهاً بما ينهى عنه”.
إن الذين يدعون إلى الله من غير بصيرة كافية، ومعرفو وافية،ومن غير أن يكونوا أهلاً لحمل هذه المرتبة العظيمة، مرتبة الدعوة إلى الله: ” {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله}”، إن هؤلاء الناس بالإضافة إلى مايلحقونه بالإسلام والمسلمين من ضرر وإفساد، فإنهم من جهة أخرى ـ شاؤوا أم أبوا ، عرفوا أم جهلوا ـ يُستغلون من قبل أعداء الإسلام والحاقدين عليه من ملحدين ومُشككين ومضلين، ويُستعملون رأس حربة في طعن الإسلام في مقاتله وأركانه. إن هؤلاء الدعاة الجاهلين الغافلين أو المتغافلين المفسدين، والذين يظنون أنفسهم حماة الإسلام، هم أشد أعدائه وألدّ خصومه، لأنهم يرتدون عباءة الإسلام ويُخفون تحتها كل أنواع النتن والجهل والعفونة، ولأنهم يظنون أنهم من خلال الشعارات الفارغة والممارسات السطحية أنهم يخدمون الإسلام، وهم في الحقيقة يرمونه بأقوى السهام ويطعنونه بأشد الرماح.
هذا من جهة ومن جهة أخرى فإنه يجب على الداعية إذا أراد أن يتصدّى لدعاوى المُبطلين والمُشككين والمنحرفين أن يكون على علم ومعرفة بمبادئهم ومدارسهم وآرائهم المختلفة.إنه لايكفي أن تُظهر الجوانب النيّرة والوجوه المشرقة البيضاء الناصعة للإسلام، ولكن يجب عليك أيضاً أن تبين الجوانب المظلمة السوداء القاتمة للدعوات والمذاهب الوضعية التي تحارب الإسلام، وهذا لايمكن أن يتم إلا إذا كنت على بصيرة وعلم ومعرفة بمذاهبهم المختلفة، وما فيها من انحرافات وتضليلات وسلبيات. يقول تعالى: {وكَذلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ ولِتَستبينَ سبيلُ المجرمين}[ الأنعام 55].
فلابد إذن من أهل العلم والاختصاص الذين ينافحون عن دعوة الإسلام ويظهرون مافيها من وجوه الخير ـ والإسلام كله خير ـ ويكشفون الدعوات الباطلة ومافيها من شر ـ والباطل أصله شر ـ والضدُ يظهر حسنَهُ الضد، وإنما تتميز الأشياء بأضدادها،وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا” [رواه البخاري].وقديماً قال عمر الفاروق رضي الله عنه: ” إنما تُنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية”.
وإن التصدي لدعاوى وأباطيل المنحرفين والضالين من غير أهل العلم والاختصاص يمكن أن يكون له إحدى عاقبتين أحلاهما مرّة:
1 ـ أن يخفق الداعية في التصدي لأمثال هؤلاء، وذلك لقلة علمه ووعيه من جهة، ومن جهة أخرى لأن أهل الباطل وجنود الضلال وأبالسة الإنس غالباً مايُجندّون كل طاقاتهم وإمكانياتهم في أمثال هذه المواجهات، من أجل أن يكسبوا بعض الجولات في الصراع مع الحق وتحديه.وكم شهدنا وللأسف العديد من القضايا التي فشل فيها الحق مؤقتاً وهُزم أمام الباطل، مع أن الحقّ بيّن والباطل بيّن، ولكن لأن محامي الدفاع عن الحق هو الذي ألحق الهزيمة بموكله وأوصل النصر إلى خصمه!!
2 ـ وليس من النادر أيضاً أن يُستغل بعض الدعاة للإسلام بسبب قلة الوعي وضعف البصيرة،في محاورات ومنتديات للحوار حول الحق والباطل، وقد فعل ذلك المبطلون بوجوههم العديدة والمتنوعة وإن كانوا يلبسون أحياناً أقنعة مختلفة تُظهر الإسلام وتُبطن الضلال.
يقول الأستاذ الحبيب عصام العطار حفظه الله [من بقايا الأيام ج2 ص145]: “لقد رأينا بأعيننا خلال عشرات السنين من عملنا وتجاربنا على مختلف المستويات، كيف يُوضع الإسلام ورصيده العقيدي والعاطفي في النفوس، في خدمة عقائد ومذاهب أخرى،وخدمة عناصر وأحزاب ومجتمعات وقوى محلية ودولية تخالف الإسلام أو تحاربه،من قبل عناصر لها عنوان الإسلام، ولكنها جهلت دينها،أو آثرت دنياها،فانحرفت عن طريق الإسلام المستقل المتميز، وباعت ما استطاعت من رصيده الغالي لأعدائه ومستغليه بما طمعت فيه أو نالته من عرض الدنيا الزائل.ويتابع: “وكم رأيناعلى امتداد هذه السنين من ناس وضعوا أنفسهم في خدمة رجال المال والأعمال بإسم الإسلام، وخدمة الإقطاعيين الظالمين المستغلين بإسم الإسلام،وخدمة سياسيين علمانيين انتهازيين بإسم الإسلام،وخدمة أنظمة فاسدة، ودكتاتوريات طاغية، وسياسات منحرفة، وخدمة شرقٍ أو غرب، وحكومات مرتبطة بالشرق والغرب بإسم الإسلام. وبإسم الإسلام ووراء قناعه وستاره يعمل بعض أعدائه الماكرين للعلمانية أو يروجون لليبرالية أو الماركسية، أو يفرغونه من محتواه الحقيقي ليلبسوه بعد ذلك مايشاؤون من مضمون. ولقد ضلل هؤلاء وأمثالهم ـ على تباين بواعثهم وأغراضهم ووسائلهم ومجالاتهم ـ كثيراً من المسلمين وساقوهم على غير طريقهم إلى غير أهدافهم ومصالحهم الحقيقية، بل ساقوهم ومايزالون يسوقونهم إلى الخسارة والضياع والهلاك”.ويقول أيضاً:” وأما الانتهازيون الذين يتاجرون بالإسلام ويبيعونه بالمزاد هنا وهناك ويستغلونه لخدمة سواه ويستخدمونه ويضحون به لأحقر المنافع… فنحن نحذر منهم أشد تحذير. إن الإسلام في مثل ظروفنا الحاضرة يسهل استغلاله وتصعب خدمته.. ونحن بحاجة إلى من يخدمون الإسلام وعلى خطر ممن يستغلونه ويستخدمونه، ولايميز هؤلاء وهؤلاء إلا بالإخلاص والإدراك والمعرفة بالإسلام وبواقع المسلمين والعالم الذي نعيش فيه”.
نعم، يجب على الداعية أن يعلم ويعمل بما تعلّم، ولابد أن يَعي ويدرك مايدور حوله،وأن يتابع المستجدات والمتغيرات في عالمه ومحيطه، وأن يدرك تمام الإدراك أنه بغير الوعي والبصيرة قد تتوجه النيات الصالحة المخلصة إلى أعمال غير صحيحة وتتوجه غير الوجهة السليمة والمطلوبة، بل وقد تؤدي إلى نتائج عكسية.
إننا بحاجة إلى دعاة، لايأخذون الأمور على علاتها،بل يبحثون في ظواهرها ومسبباتها، ولايبقون على سطح الأحداث بل يغوصون في اللجج والأعماق، ولايأخذون بالهوامش بل يسبرون الأغوار، ولايكتفون بكتب الماضي وعلومه، بل يعايشون متغيرات الحاضر، ويستشرفون توقعات المستقبل، ويضعون الخطط والمناهج المرحلية القريبة والبعيدة.
إننا بحاجة إلى أهل العلم والاختصاص، إلى من يفهم الواقع ويتفاعل معه، ويضع من علمه وإمكانياته مايمكنه من تغيير هذا الواقع لما فيه مصلحة الإسلام والإنسان.وكفانا كفانا ما ابتلينا به حتى يومنا هذا وللأسف من الخطب الرنانة المشحونة بالإنفعالات، والتي تثير العواطف والمشاعر ولاتحرك الطاقات والإمكانيات.
وكفانا كفانا من الممارسات السطحية والشعارات الفارغة والاندفاعات المضرة، التي لم تُفد أبداً، بل عادت علينا وعلى الإسلام بكل ضرر.
وكفانا كفانا من الحناجر التي تتحكّم في العقول، بدلاً من أن تتحكّم بها العقول.
وأخيراً همسة ودّ وحبّ في إذن كل داعية: يقول الأستاذ الحبيب عصام العطار: “على الداعية أن يعلم أنه لايوجد في الدنيا من هو أكبر من أن يتعلم، أو أصغر من أن يُعلّم”.
3 ـ الرحمة والرفق واللين:
يجب أن يكون الداعية إلى الله رحيماً بمن معه، رفيقاً بمن يدعوه، ليّناً هشاً ، بشوشاً سمحاً، حليماً لايضيق صدره بجهلهم وابتعادهم وضعفهم ونقصهم، يحمل همومهم ولايتعبهم بها.وقد قيل:ما أحسن الإيمان يزينه العلم، وما أحسن العلم يَزينه العمل،وما أحسن العمل يَزينه الرفق.واللين يجلب المودة، والعنف يجلب العداوة،واللين يُقرّب القلوب والنفوس والعنف مُنّفرومُبعد لها.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:”من يُحرم الرّفق، يُحرم الخير كلَّه“[رواه مسلم عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه]، ويقول صلى الله عليه وسلم:”إنّ الله رفيقٌ يُحبُّ الرّفق في الأمر كله“[رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها]وفي رواية لمسلم:”إن الله يُحبّ الرّفق، ويُعطي على الرّفق مالايُعطي على العُنف، وما لا يُعطي على سواه“.
وإن المتدّبر في آيات القرآن الكريم وسيرة أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم ليجد المُعين على فهم هذه الأمور، ويجد المًعين الذي لاينضب في التزود لإطلاق الدعوة.يقول تعالى{ولاتستوي الحَسنةُ ولا السيئةُ ادفع بالتي هي أحسنُ فإذا الذي بينكَ وبينهُ عداوةٌ كأنّهُ وليٌّ حميم*وما يُلقّاها إلا الذين صبروا وما يُلقّاها إلا ذو حَظٍّ عظيم}[فصلت 34 ـ 35]
يذكر لنا القرآن الكريم ومن خلال عدة سور وآيات كريمة موقف أبي الأنبياء إبراهيم الخليل عليه صلاة الله وسلامه، ونشعر ونحن نقرأ هذه الآيات الفرق العظيم بين موقف الإبن المؤمن الصابر الودود المشفق الذي يريد الخير والسلامة لأبيه وقومه ، يقابل ذلك موقف الأب القاسي الضال الجاحد وموقف القوم المماثل لموقف الأب، ولنقرأ الآيات من سورة مريم:
{واذكُر في الكِتابِ إبراهيمَ إنّهُ كانَ صِدِّيقاً نبيَّاً*إذ قالَ لأبيهِ يا أبتِ لِمَ تَعبُدُ مالايَسمعُ ولايُبصرُ ولايُغني عنكَ شيئاً*ياأبتِ إنّي قد جاءني من العلمِ مالم يأتكَ فاتّبعني أهدِكَ صراطاً سويّاً*ياأبتِ لاتَعبُدِ الشَّيطانَ إنّ الشّيطانَ كانَ للرَّحمنِ عَصِيّاً*يا أبتِ إنّي أخافُ أن يَمَسّكَ عذابٌ من الرَّحمنِ فتكونَ للشّيطانِ وليّاً}[مريم41 ـ 45].
هذا هو موقف الإبن يحمل في طِيّاته الشفقة والحجّة والعلم والإيمان والخوف على أبيه أن يمسّه العذاب، ويخاطب أباه بهذا النداء الجميل ” يا أبت“، ليثير في نفسه مشاعرالحنان والأبوّة والعطف، ويُذكرّه بأواصر القربى ووشائج الرحم، إنه موقف جميل رائع لايمكن أن نعبر عنه بكلمات قليلة لأنه يعبر عن مشاعر من الودّ والعطف والرحمة والشفقة، بالإضافة إلى الحجّة والمعرفة والثبات على الحق بدون هوادة أو مهادنة.
ولنتابع قراءة باقي الآيات:
{ قالَ أراغِبٌ أنتَ عن آلهتي يا إبراهيمُ لئن لم تنتهِ لأرجُمَنَّكَ واهجُرني مَليّاً}[مريم 46].
إنه موقف الأب الضال القاسي الذي يُهدّد ابنه بالطرد والرجم وأقسى العذاب، وماهو ذنب الإبن المسكين؟ ذنبه أنه أراد الخير والإيمان لأبيه، وخاف أن يقع في أشدّ العذاب.
ولنتابع الآيات الكريمة:
{قال سَلامٌ عليكَ سأستغفِرُ لكَ ربي إنّه كانَ بي حَفيّاً*وأعتزِلُكُم وما تَدعونَ من دُونِ الله وأدعو رَبِّي عسى ألا أكونَ بِدُعاءِ رَبّي شَقيّاً}[مريم 47 ـ ]48.
نعم، رغم مالاقاه ابراهيم الخليل من صنوف الغلظة والقسوة والإعراض، بل التهديد بالقتل والرجم والإحراق والإبعاد، بقي محافظاً على لغة التلّطف، يسأل الله أن يهدي والده وأن يُجنبّه العذاب.
إن هذا الموقف العظيم من إبراهيم الخليل عليه السلام هومن أعظم المواقف التي يجب على الدعاة أن يتصفوا بها، وأن يتحلّوا بها وهم يدعون الناس إلى جادة الحقّ والصواب، ولكننا وللأسف نجد من بعض الدعاة مواقف تتسّم بالحقد والضغينة والإنفعال السريع تجاه من يدعونهم من الشاردين والمنحرفين والضالين إذا لم يجدوا لديهم الاستجابة السريعة والإصغاء المباشر إلى دعوة الحق، فليحذر هؤلاء الدعاة من هذه التصرفات لأنها تُنفّر من الإسلام ولاتعود إلا بالأذى والقطيعة والإعراض.
ولقد أرسل الله عز وجل موسى وهارون صلاة الله عليهما وسلامه إلى فرعون وخاطبهما: {فقُولا لهُ قولاً ليّناً لعلّهُ يَتذكَّرُ أو يخشى}[ طه44].
وفرعون وما أدراك مافرعون؟ الظالم الطاغية المستبد، الذي جعل من نفسه إلهاً، ومع ذلك فإن الله أمر كليمه موسى عليه السلام أن يقول له قولاً ليناً لعلّه يتعظ أو يعتبر،ولكن عندما وجد موسى من فرعون الإعراض والعناد والسخرية، وعندما قال فرعون لموسى: {إنّي لأظُنُّكَ يامُوسى مَسحوراً}[ الإسراء 101] ، عندها أجابه موسى وقد أخذه الغضب لله لا لنفسه، والغضب لدعوته لالشخصه، قال له موسى بعزّة المؤمن : {وإنّي لأظُنُّكَ يافرعونُ مَثبوراً}[ الإسراء 102 ].فلابد من الغضب لله إذا واجه أعداء الدعوة دعاة الله ودعوة الله بالسخرية والإعراض والهجوم الصريح.
ولقد أرسل الله عزوجل محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والرسل برسالة الحق لكل البشر، فكان أُسوةً تتُبع، وقدوةً تُحتذى، اجتمعت فيه مكارم الأخلاق، وأفضل الشمائل، وأحسن الصفات، كان ليناً رفيقاً، يعفو عمّن أساء إليه، ويًصِل من قطعه، ويحمل الكلّ، ويُعين على نوائب الدهر، كان كما أمره الله : {واخفض جناحك للمؤمنين}[ الحجر88]، {واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين}[ الشعراء215] ،مثالاً للتواضع وحسن المعاملة.
وصفه معاوية بن الحكم السلمي ـ عندما تكلم في الصلاة فأنكر الصحابة عليه ذلك أشد الإنكار ـ فقال: بأبي أنت وأمي،مارأيت معلماً قبله ولابعده أحسن تعليماً منه، فوالله مانهرني ولاضربني ولاشتمني، وقال: “إن هذه الصلاة لايصلح فيها شيئاً من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن” [رواه مسلم].
ومنها قصة الرسول صلى الله عليه وسلم مع ذلك الأعرابي الذي بال في المسجد، روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم مه مه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”لاتزرموه، دعوه“. فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه، فقال: ” إن هذه المساجد لاتصلح لشئٍ من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن”. قال: فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلوٍ من ماء فشنه عليه. [رواه مسلم].
أنظر إلى أسلوب المعاملة الرفيع الذي يندر أن تجد مثيلاً له من قِبل رسول الله صلى الله عليه وسلم تجاه هذا الأعرابي .
نعم لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم المثال الحي والأسوة الحسنة الصالحة للدعاة في سبيل الله، كان حريصاً على هداية قومه، ويحب لهم الخير،وصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه لم يُطلب منه الدعاء على أحد من الناس مسلماً كان أو كافراً، عموماً أو خصوصاً إلا عدل عنه بالدعاء له بالرحمة والهداية والمغفرة.
ومن الرفق واللين في الدعوة إتباع أسلوب التلميح لاالتصريح، فهذا أفعل في النفس،من أسلوب المواجهة المباشرة، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبه وأعماله لايخاطب إنساناً أذنب بعينه، بل كان يقول” مابال أقوام يفعلون كذا…”.
وموسى عندما خاطب فرعون لم يصرح له مباشرة بأنه إن لم يتبع سبيله سيكون مصيره النار، بل لجأ ألى اسلوب التلميح الذي لايخفى على أي لبيب: {إنَّا قد أُوحيَ إلينا أنَّ العذابَ على من كَذَّبَ وتولّى}[طه 48]،فهذا تحذير لطيف صادق، ولكنه مُبطّن لايحتاج إلى ذكاء خارق لفهمه، ونجد مثال ذلك في القرآن الكريم أيضاً في قوله تعالى: {قُل أرأيتُم إن أهلكنيَ اللهُ ومن معيَ أو رحِمنا فَمن يُجيرُ الكافرينَ من عذابٍ أليم}[الملك 28].
إننا وللأسف نجد بعض الدعاة يُنفرّون من الإسلام وإن كانوا يظنون أنهم يدعون إليه، بسبب أسلوب التصريح المباشر، وبسبب الغلظة والجفاء، بل ربما أحياناً بسبب الرعونة في تصرفاتهم، ناسين أن الله عز وجل خاطب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم قائلاً: { فبِما رَحمةٍ من الله لِنتَ لهم ولو كُنتَ فظّاً غليظَ القلبِ لأنفَضُّوا من حولك} [آل عمران 159].وقال فيه عز وجل {لقد جاءكُم رسولٌ من أنفسكم عزيزٌ عليه ماعنتُّم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوفٌ رحيم}[التوبة128].
فإذا كان المؤيد بالرسالة، المعصوم من الخطأ، والمبعوث بالرحمة للعالمين، يخاطبه الله عز وجل بهذه الكلمات فما أدراك بالإنسان العادي!
يقول الشيخ العلامة الدكتور يوسف القرضاوي رحمه الله:
“ولابد للداعية إلى الله أن يحمل مثل هذا القلب الحي،ومثل هذه العاطفة الدافقة بالحب والحنان والدفء والحرارة،يفيض منها على من حوله،فيحركهم من سكون،ويوقظهم من سبات،ويحييهم من مَوات.
وكلام أصحاب القلوب الحية له تأثير عظيم في سامعيه وقرائه،فإن الكلام إذا خرج من القلب دخل القلب،وإذا خرج من اللسان لم يتجاوز الآذان،ولهذا كان تأثير الحسن البصري في كل من يشهد درسه وحلقته،على خلاف حلقات الآخرين،ولهذا قيل:ليست النائحة كالثكلى.
هذا القلب الحي،يعيش مع الله في حب وشوق،راجياً خائفاً،راغباً راهباً،يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه،كما يعيش في هموم الأمة على اتساعها،ويحيا في آلامها وآمالها،لا يشغله همٌّ عن هَمّ،ولا بلد عن آخر،ولا فئة من المسلمين،عن الفئات الأخرى.
ويقول الأستاذ عصام العطار في مقال له بعنوان”مادتنا الحب” نشره في افتتاحية مجلة المسلمون العدد السادس عام 1955م:
“قال محدثي وهو رجل كبير مارس الدعوة إلى الله سنين طويلة:
يبدو لي أن أكثر دعاة الإسلام قد تخلفوا عن أداء مهمة هي أخص مهامهم،وأن تخلفهم عن أداء هذه المهمة هو السبب الأول وراء كل مشكلة تعترض ركب الدعوة وكل عثرة يقع فيها…هذه المهمة هي إشاعة الحب بين القلوب.إنه كما يختص كل أستاذ بمادة يحسنها ولا يضيره أن لا يحسن سواها، فكذلك الداعي إلى الله يختص بمادة الحب:حب الله وتوثيق عرى المحبة فيه بين القلوب…ولا يضيره كثيراً إن هو نجح في مادته أن يقصر فيما سواها،لأنه حينئذ يكون قد أرسى الأساس الراسخ في أعماق النفوس،وهيأ المنبت الصالح لكل الفضائل،وأقام الحصن المنيع دون أكثر الفتن.
هذا قول حق،ودعاة الإسلام جميعاً في حاجة أن يتدبروه ويطيلوا الوقوف عنده،وأن يحاسبوا أنفسهم!
إن كلمة”الحب”هذه،التي ظلمها الناس،هي الكلمة الكبيرة التي اتسمت بها مواكب الأنبياء وقامت عليها مجتمعاتهم،وهي”الإكسير” الذي جعل صلة أتباعهم بالخير صلة حقيقية تسنعذبفي سبيله العذاب،كما جعل آصرتهم فيما بينهم آصرة الروح من وراء العقل فلا تختلف باختلاف الرأي،وفوق المصالح المادية فلا تتأثر بهوى خاص.
وإنك لتقرأ القرآن فتطالع مصداق ذلك وتجد مكان هذا الحب أصيلاً..تجده في مقام الدعوة هو الوازع الذي تستثيره السماء والغاية التي تلفت إليها القلوب:{قل إن كنتم تحبون الله فانبعوني يحببكم الله}[آل عمران 31]،وتجده في وصف المؤمنين:{والذين آمنوا أشدّ حباً لله}[البقرة 165]،وتجده في وصف مابينهم وبين ربهم:{يحبهم ويحبونه}[المائدة 54]،وتجده في الحديث عن الخير والشر:{إن الله يحب المحسنين}[البقرة195]و{إن الله لا يحب المعتدين}[البقرة190]،وتجده في صلة المؤمن بالمؤمن نعمة مزجاة يمتن بها الله على عباده مرتين في آية واحدة:{واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا}[آل عمران 103]وهكذا حيثما تنقلت بين آيات الكتاب الكريم.
وتأتي سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يدي الكتاب مليئة بالحب في كل أيامها،بل إنك لتشهده دائماً كالزارع يتعهد بذور هذه العاطفة في منابتها بالري والرعاية،يدأب على ذلك بحاله ومقاله،أما حاله فحال الرجل الملىء بالحب يفيضه على من حوله ويـالف قلوبهم بكل سبيل،وحسبك أن تقرأ في ذلك المأثور عن أخلاقه صلى الله عليه وسلم،يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه:”كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها،وكان إذا كره شيئاً عرفناه في وجهه،وكان لطيف البشرة رقيق الظاهر لا يشافه أحداً بما يكرهه حياءً وكرم نفس”.
ويروي القاضي أبو الفضل:”كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤلف أصحابه ولاينفرهم،ويكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم،ويحذر الناس ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد منهم بشره ولا خلقه،يتعهد أصحابه ويعطي كل جلسائه نصيبه،لا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه،من جالسه أو قاربه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه،ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول،قد وسع الناس بسطه وخلقه فصار لهم أباً وصاروا عنده في الحق سواء،وكان دائم البشر سهل الخلق لين الجانب”.
ويقول جرير بن عبد الله:”ماحجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم قط منذ أسلمت،ولا رآني إلا تبسم،وكان يمازح أصحابه ويخالطهم ويحادثهم ويداعب صبيانهم ويجلسهم في حجره،ويجيب دعوة الحر والعبد والأمة والمسكين،ويعود المرضى في أقصى المدينة،ويقبل عذر المعتذر”.
ويقول أنس:”ما أخذ أحد بيده فيرسل يده حتى يرسلها الآخذ،ولم يمد ركبتيه بين يدي جليس له قط،وكان يبدأ من لقيه بالسلام،ويبدأ أصحابه بالمصافحة،ويكرم من دخل عليه وربما بسط له ثوبه ويؤثره بالوسادة التي تحته ويعزم عليه في الجلوس عليها إن أبى،ويكنى أصحابه ويدعوهم بأحب أسمائهم تكرمة لهم،ولا يقطع على أحد حديثه”.
أما مقاله صلى الله عليه وسلم فكثير وافر…قال صلى الله عليه وسلم:”إن حول العرش منابر من نور عليها قومٌ لباسهم نورٌ ووجوههم نورٌ ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء فقالوا: يا رسول الله صفهم لنا فقال:هم المتحابون في الله والمتجالسزن في الله والمتزاورون في الله“[رواه أبو هريرة رضي الله عنه وقال المحدث العراقي رجاله ثقات]،بل إنه صلى الله عليه وسلم ليجعل عاطفة القلب في أداء حقوق الأخوة أصلاً لا يتم الإيمان بدونه وليست فضلاً يتفضل به الأخ على أخيه،فيقول:”لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه[متفق عليه].
وأبلغ من ذلك أن يدفع الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى التنافس في هذا الحب ويؤسس عليه درجات المتحابين عند الله حين يقول:“ما تحاب اثنان في الله إلا كان أحبهما إلى الله أشدهما حباً لصاحبه”[أخرجه ابن حبان والحاكم من حديث أنس وقال صحيح الإسناد]
أرأيت يا أخي كيف كانت(مادة الحب)في مدرسة الإسلام الأولى،وفي أستاذها الأكبر صلوات الله وسلامه عليه؟
إن الحقائق الكبيرة التي بلغها رسول الله صلى الله عليه وسلم وربى عليها جيله الأول هي وحدها الركائز التي يجب أن يقوم عليها مجتمعنا الجديد،ولن يستقيم لنا بغيرها طريق…إن الحق هو الحق،والنفوس هي النفوس”.
يقول الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي رحمه الله:”إن القرآن الكريم لم يذكر الغلظة والشدة إلا في موضعين:
- ـ في قلب المعركة ومواجهة الأعداء،حيث توجب العسكرية الناجحة، الصلابة عند اللقاء، وعزل مشاعر اللين حتى تضع الحرب أوزارها، وفي هذا يقول تعالى{قاتلوا الذين يَلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة} [التوبة 123].
- 2 ـ في تنفيذ العقوبات الشرعية على مستحقيها، حيث لامجال لعواطف الرحمة في إقامة حدود الله في أرضه{ولاتأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر}[النور2] .
- أما في مجال الدعوة، فلامكان للعنف والخشونة،وقال صلى الله عليه وسلم:”إنّ الرفق لايكون في شئٍ إلا زانَه، ولايُنزع من شئ إلا شَانه“[رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها].ولاشئ يشينه العنف إذا دخله، مثل الدعوة إلى الله، فإنها تحاول أن تدخل إلى أعماق الإنسان، لتجعل منه شخصاً ربانياً في مفاهيمه ومشاعره وسلوكه، وتبدل كيانه كله وتنشئ منه خلقاً آخر،فكراً وشعوراً وإرادة، كما أنها تهز كيان الجماعة هزاً، لتغير عقائدها المتوارثة، وتقاليدها الراسخة، وأخلاقها المتعارفة، وأنظمتها السائدة.ويتابع حفظه الله:”وهذا كله لايمكن أن يتم إلا بالحكمة وحسن التأتي للأمور، والمعرفة بطبيعة الإنسان وعناده، وجموده على القديم،وأنه أكثر شئ جدلاً،فلابد من الترفق في الدخول إلى عقله، والتسلل إلى قلبه حتى نلين من شدته، ونكفكف من جموده، ونطامن من كبريائه”.
يروى أنه دخل رجل على الخليفة المأمون ذات يوم فوعظه، وأغلظ له القول، وأفحش في الخطاب، وهو يظن أنه يؤدي رسالته على الوجه الأكمل، حتى إذا طفح الكيل، استوقفه المأمون وقال له: ياهذا! إن الله قد أرسل من هو خير منك إلى من هو شر مني، أرسل موسى وهارون إلى فرعون، ومع ذلك أمرهما الله سبحانه أن يلينا له القول، فقال: {فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى}.
يقول الخليفة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه:”عجبت لمن يطلب أمراً بالغلبة وهو يقدر عليه بالحجّة، ولمن يطلبه بخرق وهو يقدر عليه برفق”.
إن أسلوب السخرية والتهكم والتجريح ليس من أخلاق الداعية إلى الإسلام، ولايمكن أن يكون إلا منفراً من الإسلام ودعاته، وقد قال أحدهم:”لاتكن كعلماء الهرج، إن وُعظوا أنفوا،وإن وَعظوا عنفوا”.وقال أحدهم:” إن من الكلام ماهو أشد من الحجر، وأنفذ من وخز الإبر، وأمرّ من الصبر، وأحرّ من الجمر. وإن القلوب مزارع، فازرع فيها طيب الكلام، فإن لم ينبت كله نبت بعضه”.
وقال لقمان الحكيم يعظ ابنه: “إياك والسؤال فإنه يذهب ماء الحياء من الوجه، وأعظم من هذا استخفاف الناس بك، واعلم أنه بالبرّ تستعبد الحر، والبر شئ هين: وجه طليق، ولسان لين.عجبت لمن يشتري العبد بدراهم ولايشتري الأحرار بلسانه وإحسانه”.
إننا بحاجة ماسة اليوم إلى دعاة لاقضاة، ينظرون بعين الشفقة والرحمة إلى الضالين والشاردين والغافلين،وأن عليهم أن لاينسوا بشكل خاص أن الجماهير المسلمة تعيش اليوم تحت مظلة من الجاهلية رغماً عنها، فهم مُكرهون على امور ليست من الإسلام، فهم مكرهون على رفع شعارات لايؤمنون بها، وحمل جوازات تُفرّق فيما بينهم، وهم مكرهون حتى في ملابسهم، وحلق لحاهم، وتغيير أسمائهم، وهجر أوطانهم، وترك أهلهم وأحبتهم.
إننا بحاجة إلى أطباء وأُساة رحماء حكماء، يُكفكفون الدموع عن العيون الحزينة، ويتجاوبون دماً للدموع المسكوبة، والماً للأسر المنكوبة، وحرقةً للأعراض المنهوبة.
إننا بحاجة إلى من يُضّمد الجراح لا إلى من يضع الملح على الجرح ليزداد ألماً على ألم،وإننا بحاجة إلى من يرقأ الجراح لا إلى من ينكأها.
إننا بحاجة إلى الواحة المُورقة في هذه الصحراء القاحلة المحرقة، يلجأ إليها الظمآن إلى مًعين الإسلام، ويلجأ إليها الشارد عن طريق الرحمة، والضال الذي حطمت نفسه وفكره ضلالات الكفر والجحود والنكران.
إننا بحاجة إلى قراءة القرآن مرات ومرات، بتدبر وتفكر، وقراءة سير الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه، فإن في قصصهم لعبرة وذكرى لأولي الألباب: { لقد كانَ في قَصَصهِم عِبرةٌ لأُولي الألباب}[ يوسف 111].
4 ـ اقتران القول بالعمل والقدوة الصالحة:
إن قضية الدعوة إلى الإسلام وتجاوب الناس معها، لاتكمن في الإسلام وتعاليمه وتشريعاته، فهي من عند الله لاتقبل نقصاً ولاتقصيراً، وهي موجهة إلى الفطرة الإنسانية السليمة، وخالق هذه الفطرة أدرى بما يتناسب معها ويتلائم مع طبيعتها: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}.[الملك 14]
إن مشكلة الدعوة إلى الإسلام تكمن في دعاته،وفيمن ينتسبون إليه، فهم وللأسف يحجبون بتصرفاتهم وسلوكهم نور الإسلام عن نفوس تحتاج إليه، وعقول ضلت باللجوء لغيره.
نعم، إن الإسلام محجوب بأهله، لأن دعاته ورجالاته ليسوا على قدره، أو على المستوى المطلوب لحمل رسالته.
لقد دخل الإسلام أندونيسيا وكثيراً من دول شرق آسيا عن طريق التجار المسلمين، الذين كانوا يمثلون الإسلام في معاملاتهم وأخلاقهم وسلوكهم وتصرفاتهم،فدخل الناس بالملايين في دين الله تأسياً بهؤلاء وتأثراً بهم.فماذا الذي حصل للمسلمين في العقود الأخيرة؟ولماذا يقف دعاة الإسلام اليوم ـ كما يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله ـ على آلاف المنابر المزخرفة في بلدان العالم الإسلامي، ويدعون الناس فلا يستجيب لهم أحد، والرسول صلى الله عليه وسلم وقف على منبر بسيط من الخشب مكّون من ثلاث درجات فنادى فلبّت نداءه الدنيا بأسرها. فلماذا هذا التغير؟!يقول الأستاذ عصام العطار حفظه الله: ” القدوة الصالحة تخاطب الناس بلا حروف، وتنفذ إلى قلوبهم بلا وسيط وتُحفزهم من داخل أنفسهم إلى أقوم الأخلاق وأفضل الأعمال”.
إن روح الاسلام لم تتغير، ولكن الدعاة إلى الإسلام هم الذين تغيروا. وإن عدم اقتران القول بالعمل لدى كثير من هؤلاء الدعاة كان من المصائب الكبرى، بل من أكبر المصائب في تحول الناس عن دعوة الإسلام، وإن مما يؤسف له أن ثلاثة أرباع سكان الكرة الأرضية أصبحوا ينظرون إلى الإسلام والمسلمين نظرة الاستخفاف والاستهزاء، ونظرة الخوف (اسلامفوبيا) ونظرة الحقد والكراهية.
إن الدعوة إلى الله تتطلب رجالاً تتمثل فيهم روح الإسلام وأخلاق الإسلام،وأن يكونوا كما كان رسولهم صلى الله عليه وسلم قرآناً يمشي على الأرض، مبتعدين عن المطامع الشخصية، وتسخير الدين لمأرب من المآرب أو منصب من المناصب، أو طلباً للثناء، أو مطمعاً في الزعامة أو سعياً وراء المصلحة.قال الله عز وجل ـ حاكياً مقولة شعيب عليه السلام لقومه ـ {وما أريدُ أن أخالِفَكُم إلى ما أنهاكُم عنه}[هود 88].
جاء في المصنف لابن أبي شيبة:” كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه إذا نهى الناس عن شئ جمع أهل بيته فقال: إني نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم كما ينظر الطير إلى اللحم، وأيم الله، لا أجد أحداً منكم فعله إلا أضعفت له العقوبة ضعفين”.
إن الإسلام بحاجة إلى رجال يعيشون الإسلام قولاً وعملاً، ويدعون الناس إليه صدقاً وإخلاصاً، متجردين عن مطامع الدنيا، متشوقين إلى جزاء الآخرة.وإن لسان الحال ابلغ من لسان المقال.
انظر إلى كلمات أم المؤمنين وسيدة نساء أهل الجنة خديجة رضي الله عنها عندما أخبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ماجاءه من الحق وقال لها: لقد خشيت على نفسي فقالت له: “كلا واللهِ لايُخزيكَ الله أبداً. إنك لَتصِلُ الرّحِم، وتَقري الضيفَ، وتَحمِلُ الكلَّ، وتكسِبُ المعدوم، وتُعينُ على نوائبِ الحق”.
يقول الأستاذ عباس محمود العقاد[عبقرية محمد ص 147]: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرص إنسان على جبر القلوب وتطييب الخواطر، وتوخي المؤاساة، واجتناب الإساءة. يتفقد أصحابه كباراً وصغاراً ويسأل عنهم، ويتحدث إلى ذوي الأقدار، وعامة الناس، فلايحسب صغيرهم إن أحداً اكرم عليه منه. ويتحدث إلى من شاء فلايقطع عليه حديثه وإن طال، وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس،ومن جالسه صابره حتى يكون هو المنصرف، وما أخذ أحد بيده فأرسلها حتى يكون الآخذ هو الذي يرسلها، وكان يجيب دعوة من دعاه، ولايرد دعوة عبد ولاخادم ولا أمة ولافقير… يبدأ من لقيه بالسلام ويمر بالصبيان فيقرئهم سلامه، وربما خفف من صلاته إذا جاءه أحد وهو يصلي ليسأله عن حاجته ويلقاه بالتحية”.
يقول ابن عبد ربه[ العقد الفريد ج3 ص76]:”إن الموعظة ثقيلة على السمع مُحرِّجة على النفس، بعيدة من القبول لاعتراضها الشهوة والهوى، الذي هو ربيع القلب ومراد الأرواح، ومربع اللهو، ومسرح الأماني، إلا من وعظه علمه وأرشده قلبه وأحكمته تجربته قال الشاعر:
لن ترجع الأنفسُ عن غَيّها حتى يُرى منها لها واعظ
وقال الحسن البصري عند انقضاء مجلسه وختم موعظة:” يالها من موعظة لو صادفت من القلوب حياة”. وقال ابن السماك:”أ لسنٌ تصِف،وقلوبٌ تعرف، وأعمالٌ تخالف”. ويتابع ابن عبد ربه:”والموعظة مانعة لك مما تشتهي، وحاملة لك على ماتكره، إلا أن تلقاها بسمع قد فتقته العِبرة، وقلبٍ قدحت فيه الفكرة، ونفس لها من علمها زاجر ومن عقلها رادع، فيفتح لك باب التوبة ويوضح لك سبيل الإنابة، وخير الموعظة ماكانت من قائلٍ مخلص إلى سامع منصف”.
ويقول عبد الله بن المقفع في الأدب الصغير:”ومن نصب نفسه للناس إماماً في الدين، فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه وتقويمها في السيرة والطعمةِ والرأي واللفظ والأخدانِ، فيكن تعليمهُ بسيرته أبلغَ من تعليمه بلسانه.فإنه كما أن كلام الحكمةِ يونقُ الأسماع، فكذلك عملُ الحكمة يروقُ العيونَ والقلوبَ.ومعلمُ نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال والتفضيل من معلم الناس ومؤدبهم”.
لقد خاطب الله عز وجل رسول الله صلى الله عليه وسلم في سورة المزمل: { يا أيُّها المُزَّمِلُ* قُمِ الليلَ إلا قليلا*نِصفَهُ أو انقُص منهُ قليلاً*أو زِد عليهِ ورَتِّلِ القرآنَ ترتيلا}[المزمل 1 ـ 4 ]، فلماذا سهر الليل؟ولم قراءة القرآن؟ ويأتي الجواب من الله عز وجل: { إنّا سَنُلقي عليكَ قولاً ثقيلا}[المزمل 5]،والثقل هنا ليس في ذات القول،فقد يسر الله القرآن للذكر، ولكن الثقل هنا في التبعة التي يلقيها هذا القول على من يؤمن به، وهذا يحتاج إلى التهيؤ له بقيام الليل والسهر الطويل وترتيل القرآن.
يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله في الظلال: “إن الله سبحانه حينما انتدب محمداً صلى الله عليه وسلم للدور الكبير الشاق الثقيل قال له: ” يا أيها المزمل….”فكان الإعداد للقول الثقيل، والتكليف الشاق، والدور العظيم هو قيام الليل وترتيل القرآن، إنها العبادة التي تفتح القلب وتوثق الصلة وتيسر الأمن وتشرق بالنور وتفيض بالعزاء والسلوى والراحة والاطمئنان”.
نعم، لابد أن يقترن القول بالعمل، وأن تكون كلماتنا تعبيراً صادقاً عن حياتنا، وحياتنا تجسيماً لكلماتنا على كل صعيد.
يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله:”ثم إن أولى ماينبغي أن يتحلى به الواعظ:أن يبدأ بنفسه فيعظها، وأن يخلص قوله لله وعمله، وأن يفرغ من شهوات نفسه، فلا تملكه شهوة الشهرة والجاه. ولاشهوة الغنى، ولاشهوة النساء.وأن يكون في فعله أوعظ منه في قوله، فلا يأمر الناس بالزهد ثم يخالفهم إلى مازهدهم فيه،فيزاحم المتكالبين عليه! ولايتظاهر بالدين ابتغاء الدنيا وتوصلاً إليها، فيجمع من حوله العاملين على الكسب الحلال والجادين في جمع المال ليأخذ من أموالهم مايتعالى به عليهم، وليذوق لذائذ العيش من عطاياهم، وليسلبهم فوق ذلك حريتهم وعقولهم وكرامة أنفسهم عليهم، فيصرفهم في مآربهن ويسيرهم حيثما شاء، ويذلهم بين يديه ليستكبر عليهم، ويجعل الدين وسيلة إلى ذلك، فيجعل طاعة نفسه من طاعة الله، بل ربما جعل نصيبها من هذا الشرك أكبر ـ والعياذ بالله ـ من ذلك”.
ويقول الأستاذ عصام العطار حفظه الله: “الإسلام في حياتنا غريب طريد، نهتف بعنوانه وشعاراته كل يوم،ولكننا ننحرهُ نحراً قاسياً دون رحمة أو شفقة أو خوف من الله أو حياء من الناس. في كل ساعة وفي كل ساحة وفي كل موقف.ويتابع : “إننا نرفع شعارات الإسلام العظيم ولكننا نعيش إلى حد كبير في بعض جوانب حياتنا الفردية، وعلاقاتنا الإجتماعية وتحركاتنا الجماعية، الجاهلية وبواعثها ومطالبها وأهدافها وأخلاقها.. ولانكاد نهملُ منها إلا شهامتها ورجولتها وكرمها وشجاعتها.. وهذا سرٌ من أسرار انحرافنا وانحطاطنا وفشلنا وهزائمنا المتكررة، وبلاء الإسلام بنا على كل صعيد.. إن عللنا الكبرى في أنفسنا، ومصائبنا الكبرى إنما تأتي بالدرجة الأولى من داخلنا قبل أن تأتي من أي مصدر خارجي”.وقال أيضاً حفظه الله: “إذا غدت المنارةُ الهادية في البحر أداة خداعٍ وتضليل فكيف تهتدي بها السفن المدلجة، وتنجو بها من الضلال والهلاك”.
ويقول الشيخ الدكتور القرضاوي حفظه الله:
“إن الداعية الحق هو الذي يؤثر بحاله أكثر مما يؤثر بمقاله،فلسان الحال أبلغ،وتأثيره أصدق وأقوى،وقد قيل:حال رجل في ألف رجل أبلغ من مقال ألف رجل في رجل.
وآفة كثير من الدعاة:أن أفعالهم تكذب أقوالهم،وأن سيرتهم تناقض دعوتهم،وأن سلوكهم في واد،ورسالتهم في واد آخر.وأن كثيراً منهم ينطبق عليه قوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون*كبر مقتاً عند الله أن تقولوا مالا تفعلون}[الصف 2 ـ 3].
إن الداعية الذي يعظ الناس قبل أن يبدأ بنفسه، تاجر خاسر، تجارته كلام يخرج من اللسان ولكنه لايجاوز الآذان.سأل عمر بن ذر أباه : مالك إذا تكلمت أبكيت الناس، فإذا تكلم غيرك لم يبكهم؟ فقال: يابني ليست النائحة الثكلى، مثل النائحة المستأجرة.
لقد توّعد الله عز وجل هؤلاء الدعاة الذين يتكلمون ولايفعلون، والذين ألسنتهم في واد من الدعاوى، ونفوسهم تائهة في وادٍ آخر من التنافس على الدنيا والتسابق على أهوائها بالمقت والعذاب: {{يا أيُّها الذينَ أمنوا لِمَ تقولونَ مالاتفعلون*كَبُرَ مَقتاً عندَ الله أن تقولوا مالاتفعلون} [الصف 2 ـ 3]، وقال تعالى: {أتأمُرُونَ النَّاسَ بالبِرِّ وتنسونَ أنفُسَكُم وأنتُم تَتلونَ الكتابَ أفلا تعقلون}” [البقرة 44].
يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله تعقيباً على الآية من سورة البقرة كما جاء في الظلال:”والدعوة إلى البر والمخالفة عنه في سلوك الداعين إليه ، هي الآفة التي تصيب النفوس بالشك لا في الدعاة وحدهم،ولكن في الدعوات ذاتها.وهي التي تبلبل قلوب الناس وأفكارهم، لأنهم يسمعون قولاً جميلاً، ويشهدون فعلاً قبيحاً، فتتملكهم الحيرة بين القول والفعل، وتخبو في أرواحهم الشعلى التي توقدها العقيدة، وينطفئ في قلوبهم النور الذي يشّعه الإيمان،ولايعودون يثقون في الدين بعدما فقدوا ثقتهم برجال الدين.إن الكلمة لتنبعث ميتة، وتصل هامدة، مهما تكن طنانة رنانة متحمسة،إذا هي لم تنبعث من قلب يؤمن بها، ولن يؤمن إنسان بما يقول حقاً إلا أن يستحيل هو ترجمة حيّة لما يقول، وتجسيماً واقعياً لما ينطق…عندئذ يؤمن الناس، ويثق الناس، ولو لم يكن في تلك الكلمة طنين ولابريق، إنها حينئذ تستّمد قوتها من واقعها لا من رنينها،وتستّمد جمالها من صدقها لامن بريقها، إنها تستحيل يومئذ دفعة حياة، لأنها منبعثة من حياة.ويتابع رحمه الله:”والمطابقة بين القول والفعل وبين العقيدة والسلوك، ليست مع هذا أمراً هيناً، ولاطريقاً معبداً، إنها في حاجة إلى رياضة وجهد ومحاولة، وإلى صلة بالله، واستمداد منه، واستعانة بهديه، فملابسات الحياة وضروراتها واضطرارتها كثيراً ماتنأى بالفرد في واقعه عمّا يعتقده في ضميره، أو عما يدعو إليه غيره، والفرد الفاني مالم يتصل بالقوة الخالدة ضعيف مهما كانت قوته،لأن قوى الشر والطغيان والإغواء أكبر منه، وقد يغالبها مرة، ومرة، ومرة،ولكن لحظة ضعف تنتابه فيتخاذل ويتهاوى ويخسر ماضيه وحاضره ومستقبله، فأما وهو يركن إلى قوة الأزل والأبد فهو قوي وقوي، أقوى من كل قوي، قوي على شهواته وضعفه، قوي على ضروراته واضطرارته، قوي على ذوي القوى الذين يواجهونه”.
وجاءت الأحاديث النبوية الشريفة تبين عقوبة أمثال هؤلاء الدعاة.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “اتيت ليلة أسري بي رجالاً تُقرض شِفاههم بمقاريض من نار، كلّما قُرضت وَفَت، فقلت: ياجبريل، من هؤلاء؟ قال :خطباء من أمّتك الذين يقولون مالايفعلون، ويقرؤون كتاب الله ولايعملون به“.[ رواه البيهقي في “شعب الإيمان” وصححه الألباني].
وفي الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان وأحمد عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ” يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه ـ أمعاؤه ـ فيدور بها كما يدور الحمار بالرّحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يافلان! مالك؟ ما أصابك؟ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى.قد كنت آمر بالمعروف ولاآتيه، وأنهى عن المنكر وأتيه”.
وقال عيسى عليه السلام: ” ويلكم ياعبيد الدنيا! كيف تُخالف فروعكم أصولكم وأهواءكم عقولكم. قولكم شفاء يُبرئُ الداء وفعلكم داءٌ لايقبل الدواء. لستم كالكرمة التي حَسُن وُرقها وطاب ثمرها، وسهل مرتقاها، ولكنكم كالسُمرة التي قل ورقها، وكثر شوكها، وصعب مرتقاها[الأدب الصغير لإبن المقفع ص 24]
وقد اتفق علماء الأمة قديماً وحديثاً على ذمّ عدم اقتران القول بالعمل:
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ” ياحملة القرآن اعملوا به فإنما العالم من علم ثم عمل بما علم ووافق علمه عمله، وسيكون أقواماً يحملون العلم لايجاوز تراقيهم، وتخالف سريرتهم علانيتهم، ويخالف عملهم علمهم، يجلسون فيبُاهي بعضهم بعضاً حتى إن الرجل يغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه، أولئك لاتصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله”. وقال أيضاً كرم الله وجهه: “قصم ظهري رجلان: عالم متهتك، وجاهل متنسك”.
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “تعلّموا، فإذا علمتم فاعملوا”.
وقال الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما أجمعين: “ما أحسن الرجل ناطقاً عالماً،ومستمعاً داعياً، وداعياً عاملاً”.
وقال سفيان الثوري أحد سادة التابعين رحمه الله: “يهتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل”.
وقال مالك بن دينار رحمه الله: “العالم إذا لم يعمل بعلمه زَلّت موعظته عن القلب، كما يزلُ الماء عن الصفا”.
وقال زُبيد اليامي: ” أسكتني كلمة ابن مسعود عشرين سنة: “من كلامه لايوافق فعله فإنما يُوبخ نفسه”.
وقال الإمام الشافعي رحمه الله في أمثال هؤلاء:
ياواعظ الناس عما أنت فاعله يامن يُعدّ عليه العمر بالنفس
كحامل لثياب الناس يغسلها وثوبه غارق في الرجس والنجس
تبغي النجاة ولم تسلك طريقتها إن السفينة لاتجري على اليبس
وقال أبو العتاهية:
وصفت التقى حتى كأنك ذو تقى وروح الخطايا من ثيابك يسطع
وقال ابو الأسود الدؤلي:
يا أيها الرجلُ المُعَلِّمُ غيرَهُ هلا لنفسكَ كانَ ذا التعليمُ
تصِفُ الدواءَ لذي السّقام وذي الضّنا كيما يصِحُّ بهِ وأنتَ سقيمُ
فابدأ بنفسكَ فانهها عن غَيّها فإذا انتهت عنهُ فأنتَ حكيمُ
فهناكَ تَعدِلُ إن وعظتَ ويُقتدى بالقولِ منك وينفعُ التعليمُ
لانه عن خُلُقٍ وتأتي مثلَهُ عارٌ عليكَ إن فعلتَ عظيمُ
ويقول الأستاذ عصام العطار حفظه الله:
نُجَسِّدُ الحقَّ في يُسرٍ وفي عُسُرٍ ونَنشرُ الحقَّ في قَولٍ وفي عملِ
إذا دَعوتَ لِحقٍّ لاتُجَسّدهُ فلستَ تلقى سِوى الإعراضِ والفشلِ
القولُ فِعلٌ ـ إذا قُلنا ، بلامَهَلٍ فالفعلُ لا القولُ مايُدني من الأملِ
والقولُ والفعلُ نورُ الوحي يُرشدهُ والعلمُ والفكرُ من جهلٍ ومن زَللِ
يرى الفؤادُ بعينٍ غيرِ كاذِبةٍ ماليسَ يُدركُ بالآذانِ والمُقلِ
ويقول أيضاً:
ويلَ الشِّعاراتِ إن جَلّت وإن جَمُلَتْ ولايُصاحبها فِعلٌ ولامَثلُ
وويلَ قومٍ غذا أقوالُهم بَهرت بلا فِعالٍ،فذاكَ الغِشُّ والدَّجلُ
ونِعمَ قومٌ إذا أقوالُهم صَدرت كانت فِعالَهُمُ أو زادَ مافعلوا
الفعلُ أبلغُ من قولٍ وإن سَحَرت بلاغةُ القولِ من أصغوا ومن نقلوا
والقولُ يَعظُمُ بالأفعالِ شامخةً ويصغُرُ القولُ إن لم يَعظُمِ العملُ
نعم، ماأحوج المسلمين اليوم ،وفي كل يوم إلى رجال يحملون الإسلام، لا إلى إسلام يحمل الرجال، ولكن حالنا وللأسف قلة قليلة تحمل الإسلام، وكثرة كثيرة يحملها الإسلام.
ما أحوج الإسلام إلى رجال تخلقوا بأخلاق الإسلام، وتحملوا في سبيله كل المشاق والصعاب.
رجال يدركون أن طريق الدعوة محفوف بالمكاره، وأن من يدعونهم إلى الإسلام سوف يكونون في أول الطريق، قلوب معهم، وسيوف عليهم، ولكن بصبرهم وعلمهم وعملهم وإخلاصهم وتقواهم سوف يصلون وينتصرون وسوف تكون السيوف معهم والقلوب عليهم.
الداعية الرباني:
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله :
“الجهاد أربع مراتب:جهاد النفس،وجهاد الشيطان،وجهاد الكفار ،وجهاد المنافقين.
وجهاد النفس أربع مراتب:
إحداها:أن يجاهدها على تعلم الهدى،ودين الحق الذي لا فلاح لها،ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به،ومتى فاتها علمه،شقيت في الدارين.
الثانية:أن يجاهدها على العمل به بعد علمه،وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها.
الثالثة:أن يجاهدها على الدعوة إليه،وتعليمه من لا يعلمه،وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات،ولا ينفعه علمه،ولا ينجيه من عذاب الله.
الرابعة:أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله،وأذى الخلق،ويتحمل ذلك كله.
فإذا استكمل هذه المراتب الأربع،صار من الربانيين،فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى (ربانياً) حتى يعرف الحق،ويعمل به،ويعلمه،فمن علم وعلّم،فذاك يدعى عظيماً في ملكوت السماوات.
ويقول الشيخ العلامة الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة بمقال له بعنوان”الإسلام ودعاته”نشره في مجلة حضارة الإسلام العدد الخامس بتاريخ تشرين الثاني عام 1961م:
“مايزال الإسلام العظيم يصارع الديانات الباطلة والمذاهب الضالة،ويقاوم المؤامرات التي تحاك ضده من هنا وهناك،ويقف في وجه الفساد والمفسدين،ويعلن للدنيا الغارقة في لجج من الخصومات،مبادئه النبيلة الكريمة في الأمن والسلام،ويدعو الناس جميعاً إلى التعاون على البر والتقوى،وينهاهم على التعاون على الإثم والعدوان،ويدعوهم إلى التعاون على البناء لا الهدم،وعلى الإصلاح لا الفساد،وعلى الهداية لا الضلال،وما يزال الناس غافلين عن دوره الكبير في إصلاح أمورهم،لو أصغوا إلى ندائه،واستجابوا لدعوته،ونزلوا عند أحكامه في أوامره ونواهيه.
والإسلام كدينٍ خالد يمثل الحق في أروع صوره وأعظمها نقاء،يجد في كل جيل جنوداً يبذلون في سبيله المهج والأرواح،ويستلذون في سبيل دعوته المرّ والصعب،لا يعرف اليأس إلى قلوبهم سبيلاً،ولا الملل إلى عزائمهم طريقاً.وهذا تاريخ الإسلام منذ بزوغ فجره حتى اليوم ما يزال تتلاحق فيه أفواج الدعاة جيلاً بعد جيل،كلما هلك منهم علم قام من بعده أعلام،وكلما هوى منهم في الطريق مصلح تتالى من بعده مصلحون وكلّما هزتهم نكبة ارتفعت رؤوسهم من بعدها شرفاء صادقين لا تزيدهم النكبات إلا صدق عزيمة وشدّة مراس.
ودعاة الإسلام اليوم مدعوون لمتابعة طريقهم الذي اختاروه لأنفسهم وهم عارفون بما يلحقهم من أذى وحرمان وهجوم وعدوان،متخذين من الأحداث التي عاصروها فرأوا فيها ما أهوى بالضربات على رؤوسهم أحياناً،وما أحاط بسمعتهم وكرامتهم من افتراء وتشويه أحياناً أخرى،عِبراً تجنبهم عثرات المستقبل،وتبصرهم الطريق الصحيح إلى نشر الإسلام السمح النيّر كما أنزله الله تعالى بين أبناء أمتهم والآخرين الذين لا يزالون يزورّون له ويكيدون له وتمتلىء نفوسهم حقداً عليه.
ولعل من أكبر تلك العظات أن يعرفوا كيف يحزمون أمرهم متعاونين غير مختلفين،قد حددوا أهدافهم ووسائلهم بدقة وإحكام،وقدّموا للناس ما جاء به الإسلام من حل لمشكلات المجتمع بتفصيل ووضوح،وميزوا بين أصدقائه وبين أعدائه بعلامات لا مجال فيها للهوى ولا للحب ولا لاللبغض ولا للمصلحة الذاتية،وإنما تستوحى من المقاييس الواضحة في كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم،ومبادىء الإسلام الثابتة وأهدافه العليا،فلا يلتبس عندهم الأمر بين الصديق والعدو،ولا بين المسالم والمحارب،ولا بين المحب والمبغض.
وقد يكون من تلك العظات أن لا يدلوا على الناس إن أحسنوا العمل،وبذلوا النصح،وصدقوا في الدعوة،فإن الإعجاب بالعمل محبط للأجر مجلبة للذم نوأن لا يتهربوا من علاج الأخطاء حين تتضح لهم،فإن الخطأ منار يهدي السالكين إلى الطريق الصحيح.
ومن أكبر تلك العظات أن يدركوا أن تبليغ رسالة الإسلام إلى الناس وإقناعهم بها ليس بالأمر السهل ولا بالمنال القريب كما كانوا يتصورون،فالأعداء كثر،والأهواء شتى،والغفلة عميقة،وحبائل الشيطان تمتد ذات اليمين وذات الشمال،ولم تكن الضالاة في عصر من العصور كما هي في عصرنا الحاضر،أشد سلطاناً وأكثر خداعاً وأقوى إغراءً وأبلغ فتنة.
إن الإسلام يخوض في عصرنا الحاضر معارك متلاحقة لا أغالي إذ قلت أنها أكثر معارك الإسلام عنفاً وكيداً وبعد مدى،ولسنا نشك في أن الله تبارك وتعالى ناصر دينه،ومعزّ كلمته،ومخزي أعدائه،فليشمر عن ساعده من أعد لهذه المعارك جلباباً من الصبر والتقوى والأمل ،وليثق بوعد الله من آمن بالله واليوم الآخر:{إنّا لننصرُ رُسلَنا والذين آمنوا في الحياةِ الدُّنيا ويومَ يقومُ الأشهادُ* يومَ لا ينفعُ الظَّالمينَ معذرتُهم ولهمُ اللَّعنةُ ولهم سوءُ الدَّارِ}[غافر 51 ـ 52].
ويقول الشيخ العلامة محمد صالح الفرفور رحمه الله:
“أنصح لإخواني من حملة العلم الشريف:
1 ـ يجب على العالم أن يُخلص في علمه لله،ويعلم أنه فريضة عليه ليعبد الله كما أمره،لا كما تهوى نفسه،ويعلم أن ليس له فضل في طلب العلم،بل الفضل لله الذي وفقه لذلك ليعلم كيف يعبده،ويؤدي فرائضه ويجتنب نواهيه.
2 ـ فإذا ذاع ذكره بين المؤمنين أنه من أهل العلم،وأذنه شيوخه وأجازوه حين حصول الأهلية فيه،وقصده الناس ليأخذوا عنه ما يحتاجون إليه من علمه،فعليه بالتواضع والسكينة للناس،فتزداد محبته في قلوب الخلق،فيحبون قربه،وتحنّ قلوبهم إليه،ويكثر الدعاء له في حضوره وغيابه،حتى أنهم ليشتاقون لرؤيته،ويأمنون بطلعته،ويتبركون بدعائه.
3 ـ أنه يجب عليه ألا يطلب بعلمه حظوة ولا منزلة عند الملوك والأمراء،ولا لايبتغي على علمه شيئاً من الدنيا إلا ما ساقه الله إليه من غير استشراف،وإذا قصد الملوك إنما يقصدهم لمهمات الأمة لا لمهمات نفسه،والله مُطلّعٌ على قلبه يعلم السر وأخفى،فإن الملوك والأمراء يريدون أن يكافئوا العلماء إذا جاؤوهم بما ينفعهم في دنياهم،وهنا زلة الأقدام عند حُبِّ الدنيا والميل إليها.
4 ـ أن يقصد من العلوم علماً أكثر نفعاً من غيره للأمّة،وأفضل العلم ما عُمل به وانتفع بثمرته.وقال:(إن أبعدهم من الله عالمٌ لا ينتفع بعلمه) فالعلم أولاً،ثم العمل،ثم الإخلاص،وهو المقصد الأسمى،والركن الأساسي لطلب العلم لما يرضي الله عز وجل.وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالمٌ لم ينفعه علمه”.
5 ـ أن يتحمل من العامة ويصبر عليهم،فإنهم قد لا يعلمون قدر العلماء،فليعاملهم بحسن الخلق،ولا يؤخذاهم في العثرات،وأن يكظم غيظه عند الغضب،وليعف وليصفح عمّن أساء إليه،ولا يجيب السفيه بالسفاهة،بل يجيبه بالصمت والإعراض عنه والحلم،ولا ينام إلا سليم القلب،وليسامح كل من أساء إليه وآذاه.
5 ـ الحكمة في الدعوة:
وتشمل العناصر التالية:
ـ التدرج في الدعوة
ـ البدء بالكليات لاالجزئيات
ـ عدم المغالاة والتشدد
ـ الإدراك لمواطن المحبة والضعف
يقول الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله:”والحكمة يراد بها مخاطبة العقول بالأدلة العلمية المقنعة،وبالبراهين العقلية الساطعة، التي ترد على الشبهات بالحجج والبينات، وترد المتشابهات إلى المحكمات، والظنيات إلى القطعيات، والجزئيات إلى الكليات، والفروع إلى الأصول.كما أن من الحكمة مخاطبة الناس بما يفهمون،وماتسيغه عقولهم،لابما يعجزون عن فهمه.ومن الحكمة ان نحسن ترتيب ما نأمر به وماننهى عنه، بحيث يأتي كل شئ في موضعه، وفي أوانه، وفي مرتبته”.
لقد أنزل الله عز وجل القرآن العظيم على الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم من أجل أن يُربي امّة، ويُنشئ مجتمعاً، ويقيم نظاماً.
وتربية الأمة هو الأساس الذي يقوم عليه نشوء المجتمع الصالح، وإقامة النظام العادل، وهذه التربية تحتاج إلى إعداد وتدريب وتهيئة، وهذا أيضاً يتطلب صبراً ووقتاً، حتى تستطيع العقول أن تتأثر بالأفكار،وتستطيع الأجساد أن تتحمل الصعاب والمشقات،وأن يتحول التأثر والانفعال النفسي والعاطفي إلى واقع وتطبيق عملي.
إن النفس البشرية تنفر مما لاتعرفه،وتنكر ماتجهله،وهي لايمكن أن تتحول تحولاً كاملاً وشاملاً بين ليلة وضحاها،من خلال سماع موعظة أو عدة مواعظ،أو من خلال قراءة كتاب أو عدة كتب،وإنما هي تتأثر يوماً بعد يوم بالمنهج الجديد وبما فيه، وتتدرج في مراقيه رويداً رويداً،وتعتاد حمل وتحملّ تكاليفه شيئاً فشيئاً، حتى تتآلف معه وتتعرّف إلى حكمته، وتصبح بعدها من أشد المنافحين عنه والمدافعين عن تعاليمه.
إن الإسلام لم يبدأ بالفروع بل بدأ بالأصول، ولم يبدأ بالجزئيات بل بالكليات،ولم يفرض تعاليمه دفعة واحدة بل بالتدريج.
فالإسلام لم يطلب من متبعيه من المسلمين أول ماطالب بالقتال أو الجهاد المسلح، ولابالزكاة أو الصوم، أو ترك الخمر، وإنما طالبهم أول ما طالبهم بالإيمان بالله وحده وتوحيد الالوهية، وخلع مايُعبد من دونه.
نعم، لقد بدأ الإسلام بالعقيدة، لأنها الأساس الذي تُبنى عليه كل الدعائم، ولأنها التكليف الذي تنبثق عنه كل التكاليف،وبدأ الإسلام بالباطن لابالظاهر، وبدأ بفكر الإنسان وقلبه ولم يبدأ بجسده، لأنه من هنا يبدأ التغيير، ومن هنا يكون الإنطلاق: { وما أرسَلنا من قَبلِكَ من رسولٍ إلا نُوحي إليهِ أنّهُ لا إلهَ إلا أنا فاعبدون}[ الأنبياء 25].
والقرآن المكي كانت تتنزّل فيه السور والآيات التي تُبين أصول العقيدة ومعانيها من الإيمان بالله وبوحدانيته، ومعاني العبودية والربوبية والألوهية، والإيمان بالغيب…وكل هذا استمر حتى بداية الهجرة إلى المدينة ومابعدها، ولم تفرض الصلاة إلا بعد حادثة الإسراء والمعراج ـ أي في السنة العاشرة للبعثة ـ وأما فروض الحج والصيام والزكاة فكل ذلك كان من اختصاص العهد المدني لا المكي.
عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها:”إنما نزل من القرآن أول مانزل منه سورة من المُفصّل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام ،نزل الحلال والحرام. ولو نزل أول شئ (لاتشربوا الخمر)، لقالوا: لاندعُ الخمر أبداً، ولو نزل: “لاتزنوا” لقالوا : لاندع الزنا أبدا“.[رواه البخاري].
وبعد سنوات قليلة وبعد أن ترسخت العقيدة في النفوس، وبعد أن حرّمت عليهم الخمر(بالتدريج)، استجاب المسلمون وانتهوا عن شربها وأهرقوا مافي دورهم منها.
يقول الشيخ العلامة علي الطنطاوي رحمه الله(مقال بعنوان:الدعوة إلى الأصول قبل الفروع):
“الإسلام يحتاج اليوم إلى الدعوة من جديد.لا أقصد دعوة الكفار المخالفين،فهي واجبة،ولكن أمامنا ما هو أوجب وما هو أقرب،وهو دعوة شبان المسلمين والشابات المسلمات إلى الإسلام.
أنا أعرف من الدعاة الصالحين من يأتيه الشاب من هؤلاء يرغب في التعليم والصلاح،فلا يبدؤه بما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من تصحيح العقيدة أولاً،ثم بتعريفه المحرَّمات والكبائر المُجمع عليها لتجنبها والفروض الأساسية المُمجمع عليها ليقوم بها،لا يصنع ذلك كله،بل يبدؤه بإطلاق لحيته!وأنا لا أعترض على إطلاق اللحية ولا أزيّن حلقها،ولكن أضرب مثلاً لمن يترك أركان الإسلام الأصلية ويبدأ بما وراءها،فيبذل جهداً في إقناع الشاب بإطلاق اللحية،لو بذله في تصحيح العقيدة وإقامة أركان الدين لحقق من ذلك ما يريد،ذلك لأن أصعب شيء على الشاب إطلاق لحيته،فإذاعرّفته بالله ولقّنته تعظيمه أطلق لحيته من نفسه بلا كلام،أما إذا بدأت بها فعملها على كره لها،ثم ثَقُل عليه أمرها فتركها فإنه يترك معها الدين كله،وقد شاهدنا هذا مراراً”.
ومن النواحي الهامة في التبليغ والدعوة التدرج والترتيب.
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شخصية رائعة فذّة، وكان المثال العظيم والحي للمسلمين في عهده ومن بعده.
يقول الأستاذ أبو الأعلى المودودي رحمه الله: ” انظروا قليلاً فيما تحرّى النبي صلى الله عليه وسلم من التدرج والترتيب، للبلوغ إلى هذه الغاية ـ تحقيق العبودية لله ـ فقد قام بدعوة الناس أولاً وقبل كل شئ إلى الإيمان وأحكمه في قلوبهم. ثم نشّأ في الذين آمنوا تعليمه وتربيته طبقاً لمقتضيات هذا الإيمان تدرجاً بالطاعة العملية أي الإسلام،والطهارة الخلقية أي التقوى وحب الله والولاء له اي الإحسان،ثم شرع بسعي هؤلاء المؤمنين المخلصين المنظم المتواصل في تحطيم النظام الفاسد للجاهلية القديمة،واستبدال نظام صالح به، قام على القواعد الخلقية والمدنية المقتبسة من القانون الإلهي المنزل من الله تعالى، ثم أصبح هؤلاء الذين آمنوا ولبّوا دعوته في كل وجهة بقلوبهم وأذهانهم وأخلاقهم وأفكارهم وأعمالهم مسلمين متقين محسنين بالمعنى الحقيقي. أخذ النبي صلى الله عليه وسلم يرشدهم إلى مايزّين حياة المتقين المحسنين من الآداب والعادات المهذبة في الهيئة والمجلس والمأكل والمشرب والمعيشة والقيام والجلوس، وما إلى ذلك من الشؤون الظاهرة،وكأنني به قد فَتنَ الذهب ونقاه من الأوساخ والأدران أولاً ثم طبع عليه بطابع الدنيا ..”.
ويقول الشيخ الأستاذ علي الطنطاوي رحمه الله[مع الناس ص134]:”وأن يكون الدعاة إلى الإسلام عالمين بالإسلام حقاً، بعيدين عن الغلظة في القول، وعن الجهل بالدنيا وعلومها وعاداتها، فليس من الضروري أن يكون الداعي إلى الله غريب اللهجة، مستنكر الهيئة، ولا أن يأكل بأصابعه إن أكل الناس بالملعقة والشوكة، ولا أن يُقعد ضيوفه على الطراريح وفي بيته الكراسي والمقاعد، ولا أن يتشدّق ويمضغ الكلام ويحرص على الإخفاء والإدغام، ولا أن يكلم الناس من فوق المآذن،بل أن يستن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، يلبس كما يلبس الناس، ويأكل كما يأكل الناس، إلا أن يكون في ذلك ممنوع في الشرع، وأن يتلطف بالأمر والنهي،وأن يبدأ بما بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم من تصحيح العقيدة، وتعلم الفرائض وبيان الكبائر، وأن يخاطب الناس على قدر عقولهم، وعلى مقتضى أحوالهم وألا يبدأ بفروع الفروع قبل أن يؤصل الاصول،فإذا وجد رجلاً يدخل المسجد أو يؤم مجلس أهل الدين أول مرة وهو لايدري ما الإسلام ورآه يشرب بشماله مثلاً أو يتجرّع الكأس أو لايسمي، لم يحسن به أن يصرخ في وجهه بأنه خالف السنة فيخجله في الملأ وإذا شاهده وقد عطس ولم يحمد الله فلاينبغي أن يقرعه أو يأمره بالحمد أمرأ ينفره،ولا أريد أن يكون العالم متساهلاً ولا أن يبالغ في الرّقة حتى يتخرّق ويتمزّق، بل أريد أن يكون الشرع هو الميزان، فما كان له في الشرع رخصة رخصنا فيه، وماكان له حكماً ألزمنا المبتدئ بأخفهما عليه رفقاً به وإبقاءً عليه، وما كان منكراً ظاهراً لاترخيص فيه ولا اجتهاد، أنكرناه “.
ويقول الأستاذ عصام العطار حفظه الله{من بقايا الأيام ج2 ص12 ـ 13]: “وعندما آمن المسلمون الأوّلون بالله وبالرسول وباليوم الآخر، انقادوا انقياداً طبيعياً لكلِ ماجاءهم به صلى الله عليه وسلم، في خَواصِ أنفسهم، وفي علاقاتهم بمجتمعهم، مؤتمرين بما أمر به، مُنتهين عما نهى عنه،ولم يحتجِ الأمرُ إلى إقناعٍ جديد بكل تكليف وإلى مشقة كبيرةٍ في إنفاذ كل حكم…عندما حصلت المقدمات أعقبتها النتائج وعندما ثبت الأصل الحيّ في الأرض امتدت الفروع إلى السماء، وعندما رسخ أساس البناء أمكن أن يقوم البناء السامق المتين…ولو لم يكن الإيمان أولاً لما كانت لوازِمهُ، لو لم يكن الاصل ماكانت الفروع، لو لم تكن العقيدة ماكانت الشريعة، وما كانت الأمة ، وما كانت الدولة”.
وهذا التدرج والترتيب في أمور الدعوة هو ماثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.جاء عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقال: “إنّكَ تأتي قوماً من أهلِ الكتابِ، فادعُهُم إلى شهادةِ أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله،فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلِمهُم أن الله افترضَ عليهم خمسَ صلواتٍ في كُلِّ يومٍ وليلةٍ، فإن هم أطاعوا لذلك، فإعلِمهُم أن الله افترضَ عليهم صَدقةً، تُؤخذُ من أغنيائهم فتُرَدُّ على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك ،فإياكَ وكرائِم أموالهِم، واتّقِ دعوةَ المظلومِ، فإنّه ُليسَ بينَها وبينَ الله حجابٌ” .[ متفق عليه].
إنه يجب علينا عندما ندعو إلى الله أن نبدأ بالأصول، لأن الاقتناع بها سهل، ولأن الإيمان غريزة في النفس البشرية، ومهما حاولت الظروف والوسائل تشويه هذه الغريزة والفطرة ومحوها فإنها تبقة متصلة في النفس البشرية، وهذا يظهر وبشكل خاص في الكوارث والنوائب والمصائب حيث يلجأ الناس إلى الله على مختلف أديانهم ونِحلهم ومللهم، وحتى فرعون موسى الطاغوت المتجبر عندما أدركه الغرق قال: آمنت بالذي آمن به بنو إسرائيل…وكم رأينا من شباب في بلاد الغرب، كانوا في البدء يأنفون حتى من ذكر الإسلام فلما عرفوا الحق وشهدوا شهادته وأقاموا الصلاة، خلق الإيمان منهم رجالاً، وكان البعض منهم قرآناً يمشي على الأرض، مُتبعين لسُنّة الرسول صلى الله عليه وسلم ومُهتدين بهديه.
والحذار، الحذار، أن تبدأ أيها الأخ الداعية بالفروع قبل تثبيت الأصول، وأن تبدأ بالجزئيات قبل إدراك الكليات، فإنك كمن يضع العربة أمام الحصان، فكم من شباب عرفناهم كانوا لايعلمون من أصول الإسلام شيئاً، فلما أتاهم بعض الدعاة وشغلوهم بالفروع وجزئياته أصبح بأسهم بينهم شديداً،وتحولت الدعوة عندهم إلى خلاف واختلاف، وجدال ونقاش بل ربما إلى حرب وعراك.فحذار أن نشغل أنفسنا بالأمور الفرعية قبل التمكن من الأصول والفرائض، فهذا مضيعة للوقت ومقتلة للجهد.
يقول الإمام ابن الجوزي رحمه الله [صيد الخواطر]: “رأيت كثيراً من الناس يتحرزون من رشاش النجاسة ولايتحاشون من الغيبة، ويكثرون من الصدقة ولايبالون بمعاملات الربا،ويتهجدون بالليل ويؤخرون الفريضة عن الوقت، وأشياء أخرى يطول عدّها من حفظ الفروع وتضييع الأصول. فبحثت عن سبب ذلك فوجدته في شيئين: أحدهما العادة، والثاني غلبة الهوى في تحصيل المطلوب فإنه قد يغلب فلايترك سمعاً ولابصراً”.
نعم، رحمة الله على الإمام ابن الجوزي فقد أوجز وأفاد،ووضع اليد على مكمن الداء وأصل البلاء،فإن هناك أناساً ودعاة ينكبّون على دراسة سنن السنن وإحيائها على حساب قتل الفرائض وإفنائها، واصبح همّ الكثيرين من هؤلاء أن يحاسبوا الناس ويشدّدوا عليهم في أمر تخضيب الشعر، وتكحيل العينين، وعدم قص جزء من اللحية أو تشذيبها، ومن جانب آخر لامانع عندهم أن يأكلوا لحم إخوانهم من المسلمين غيبة ونميمة، ولامانع عندهم من أن يسلموا أخاهم المسلم أو يخذلوه أو يحاربوه إن خالفهم الرأي ولم يوافق هواهم هواه.
إن الصلاة خلف الإمام سنة مستحبة ومأجور عليها، ولكنها تصبح مخالفة يعاقب عليها الشرع إذا كانت على حساب وطء الظهور وتجاوز الأعناق وإيذاء الآخرين!!
ولست أقصد من التفريق بين الأصول والفروع أن أقول: إن في الإسلام لبّاً وقشوراً،فالإسلام كل لايتجزأ، ولكن الذي أريد أن أبيّنه أن الدعوة إلى الإسلام تتطلب منهجاً ومراحل، وأن هناك سُلماً في الأولويات، وأن هناك درجات ومراتب، وأن هناك أصولاً وفروعاً، جزئيات وكُليات، وأن هناك مايمكن تقديمه وما يمكن تأخيره، وإن مطالبة الدعاة للناس بتطبيق السنن قبل أن يستوعبوا الفرائض بداية خاطئة غير موفقة وغيرناجحة.
يجب علينا أن ندرك أنه ليس من المهم في البدء أن نزيل الآثار المادية للواقع الجاهلي وأن نتخلص منها، فقد كانت الأصنام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرة،وكانت تحيط بالكعبة، وتلوث بيت الله الحرام، ولم يرفع الرسول صلى الله عليه وسلم يده في بدء الدعوة ليحطمها ولم يأمر أصحابه الكرام أن يحطموها، وإنما المهم هو تكسير أقفال القلوب حتى ينفذ إليها كلام الحق، وأن نزيل الغشاوة عن العيون من أجل أن ترى نور الحق، وأن نبعد الوساوس والريب والشكوك عن العقول من أجل أن تدرك مفهوم الحق، وعندها سوف تؤمن به وتتبناه، وعندها سوف نجد أنه من كان يعبد الوثن أو الصنم، سوف يكون أول من يسارع إلى تحطيمه وإزالة آثاره.
ومن مظاهر الحكمة في الدعوة معرفة المفاتيح التي يمكن أن تدخل من خلالها إلى الناس على تعدد مشاربهم واختلاف صفاتهم.وأن يخاطب الناس حسب مستواهم الفكري والعلمي والثقافي وباللغة التي يمكن أن يفهموها.
قال سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه:” حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله”. يعني قوله صلى الله عليه وسلم:” أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم“.وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:”ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة”.
يقول علامة الشام الشيخ محمد بهجة البيطار رحمه الله:
“الواعظ الحكيم هو الذي يخاطب الناس بلسانهم،ويتحرى من أساليب القول ما يرى أنه أدنى إلى إقناعهم،وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل الناس منازلهم،ويخاطبهم على قدر عقولهم،ويقول: كلموا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟فالمذكّر أو الواعظ أو المرشد هو كما وصفه بعض الأجلاء ملخصاً:حافظ لحدود الله،قائم على إرشاد العقول،وتهذيب النفوس،وتصحيح المعتقدات،وإبانة سر العبادات وإماطة ما غشي الأفهام القاصرة من غياهب الجهالة،وتراث الضلالة،واقف على مقاصد التشريع وحكمته،عالم مواضع الخلاف والوفاق،سائس لسمعيه بما يلائمهم من الأحكام،بل هو العامل الأكبر في إخراج الناس من ظلمات الجهالة إلى نور العلم،وتحريرهم من رق الخرافات والوهم،فالعالم كالسراج إن لم ينتفع بضوئه فلا فائدة من وجوده،بل لا يكون العالم عالماً حتى يظهر أثر علمه في قومه إذ ليس مسؤولاً عن نفسه وحدها،بل عن عشيرته وأمته”.
ويقول الدكتور يوسف القرضاوى حفظه الله معقباً على الآية الكريمة{وما أرسلنا من رسولٍ إلا بلسان قومهِ ليبين لهم}[إبراهيم 4]
يقول: “أنا أفهمها ـ أي كلمة اللسان ـ أن على الرسول أو الداعية في عصرنا، على ورثة الرسل والأنبياء: أن يكلموا كل قومٍ بلسانهم، العامة لهم لسان، والخاصة لهم لسان،البدو لهم لسان، والحضر لهم لسان، أهل المدن لهم لسان،وأهل الريف والقرى لهم لسان، أهل الشرق لهم لسان، وأهل الغرب لهم لسان،في القرن الحادي والعشرين لهم لسان، وقبل قرنين مضيا لهم لسان آخر.لابد أن تحدث الناس بلسانهم، كثيرٌ من الدعاة يُخطئون هذا المنهج، ويتحدثون بلسان غير اللسان المطلوب، يذهبون إلى العوام ويحدثونهم بلسان الخواص، فيشكلوا الأمر عليهم، ولايستطيعون أن يصلوا إليهم أو العكس… نريد من ورثة الأنبياء والرسل أن يبينوا لقومهم بلسانهم، يكلم كل جماعة بلسانها حتى يصلوا إلى الحق”.
إن من طبيعة الدعوة إلى الله أنها موجهة للناس كل الناس على اختلاف أعمارهم وطبقاتهم وثقافتهم وبيئاتهم وميولهم واتجاهاتهم، وهذا يفرض على الداعية أن يكون حكيماً بارعاً في نقل الأراء ومفاهيمها، والداعية الموفق الناجح هو الذي يعطي كل إنسان مايلزمه من أفكار وتوجيهات بأسلوب مؤثر ، يقول تعالى: { ومَن يُؤتَ الحِكمةَ فقد أُوتيَ خيراً كثيرا}[البقرة269].وقال تعالى في داود عليه السلام{وشَدَدنا مُلكَهُ وآتيناهُ الحِكمةَ وفَصلَ الخطاب}[ص 20]
إن المفاتيح التي يمكن بها لفت الناس إلى الإسلام كمقدمة لإقناعهم به كثيرة ومتعددة لايمكن حصرها أو إحصائها. فقد يكون مفتاح ذلك حلاً يقدمه الداعية لمشكلة معيشية أو قضية يتبناها، وقد يكون مفتاح ذلك زيارة هادفة لصديق أو حديثاً في مسجد أو حواراً في ندوة، أو من خلال العمل المشترك…وعلى الداعية النظر في أحوال المخاطبين وظروفهم، فهناك أوقات وظروف معينة قد تنفع معها الدعوة، وهناك أوقات قد تكون ذات تأثير سلبي إذا ما دعا فيها، فلابد من ترصد مواسم الخير لأن الشيطان وأعوانه يترصدون بها ليحرموا الناس من نعمة الخير في هذه المواسم.
والناس ليسوا سواء في الاستجابة للحق وقبول الدعوة، فمنهم السريع جداً في الاستجابة ومنهم البطئ جداً، وبين هذين توجد درجات متفاوتة.فمن الناس من يؤمن حالاً وبدون تردد أو تلكؤ أو تعثر وكأنه ينتظر سماع الدعوة ليؤمن بها بسرعة كما هو الحال في إيمان أبي بكر الصديق وإيمان السحرة. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ” مادعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت فيه عنده كبوة ونظر وتردد إلا ماكان من أبي بكر بن أبي قحافة“.ويقول تعالى في إيمان السحرة: { فألقى مُوسى عَصاهُ فإذا هيَ تَلقَفُ ما يأفِكُون* فأُلقيَ السَّحرةُ ساجدين* قالوا آمنّا برَبِّ العالمين* رَبِّ مُوسى وهارون}[الشعراء45 ـ 48]
ومن مظاهر الحكمة في الدعوة علاج المقدمات التي تؤدي للنتائج وليس الخوض في النتائج بدون أن تسبقها حلولاً للمقدمات.
يقول الأستاذ أحمد أمين رحمه الله[فيض الخاطر ج2 ص29]:”كم وعظ يذهب هباءً، وكم نصيحة تضيع سدى، لأن الواعظ أو الناصح واجه النتائج وترك المقدمات، وتعرض لحاصل الجمع او الضرب وترك المفردات، فكان مثله كمثل من ظن أنه بوعظه وإرشاده يستطيع أن يمنع القط أن يؤذي فاراً،أو الذئب أن يمسّ حملاً. إن منهج الإصلاح الحديث أن يسير وراء المرض يتعرف علله، ثم يجتهد أن يزيل العلل فيزول المرض. يرى المصلح الحديث أن الجريمة أو سوء الحال لم يأت عفواً فلا يعالج عفواً، إنما أتى من عوامل متعددة، فما بقيت العوامل بقي الإجرام، وبقي سوء الحال فإذا تغيرت الظروف والبيئة انقطع الإجرام وسوء الحال.كان النمط القديم في الإصلاح يقول: أطعم الجائع، والنمط الحديث يقول: لايكن جائع، والنمط القديم يقول: تصدّق على الفقير، والنمط الحديث يقول:امح الفقر، والنمط القديم يقول: احبس المجرم، والحديث يقول: اجتث عوامل الإجرام.نمط الإصلاح القديم يعتمد على البلاغة والخطابة ونمط الإصلاح الحديث يعتمد على ” معامل” كمعامل الطبيعة والكيمياء، فيه تحليل للظواهر الاجتماعية حتى نعرف أسبابها، وفيه درس عميق وإحصاء دقيق، وفيه تشخيص للمرض، وإجراء التجارب للعلاج وتعرف النتائج، وعلى الجملة فالنمط القديم ينظر إلى ثمرة الشجرة والنمط الحديث إلى جذور الشجرة”.
ومن مظاهر الحكمة في الدعوة ترك التشدد والتنطع والمغالاة.
يقول الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله:”التطرف في الإسلام يقع تحت جملة عناوين:
أولها: عنوان(الغلو) وفيه حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم:”إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين“.[رواه أحمد في المسند والنسائي وابن ماجه وهو صحيح على شرط مسلم].
ثانيها:عنوان(التنطع) وفيه جاء حديث ابن مسعود رضي الله عنه في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:”ألا هلك المتنطعون” قالها ثلاثاً.[رواه مسلم وأحمد وأبو داود].والمتنطعون هم: المتعمقون المبالغونن الخارجون عن حد الوسط.
ثالثها:(التشديد) كما جاء في حديث انس مرفوعاً عند ابي يعلى:” ولاتشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم، فإن قوماً شددوا على أنفسهم، فشدد عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات:رهبانية ابتدعوها ماكتبناها عليهم”.[رواه أبو داود وأبو يعلى في مسنده ،وقال الهيثمي في مجمع الزوائد:رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح غير سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء وهو ثقة، وضعفه الألباني].وفي حديث أبو هريرة رضي الله عنه الذي أخرجه البخاري:”لن يشاد الدين أحد إلا غلبه”.
رابعها:(التعسير):فقد روى الشيخان عن أنس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال:”يسروا ولاتعسروا، وبشروا ولاتنفروا”،وروى الشيخان أيضاً أن رسول الله صلة الله عليه وسلم أرسل أبا موسى الأشعري ومعاذاً إلى اليمن، وأوصاهما بهذه الوصية الجامعة:”يسرا ولاتعسرا، وبشرا ولاتنفرا، وتطاوعا“أي لاتختلفا.
خامسها:(التنفير) كما جاء في الحديثين السابقين، والغالب أن يكون التعسير في مجال الفقه والفتوى، والتنفير في مجال التبليغ والدعوة.انتهى كلام الشيخ القرضاوي.
وهناك دعاة ذكرهم لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفهم فأحسن الوصف، قد يكونون على جانبٍ من العلم،
وقد يكثرون من العبادة فروضاً ونوافل، ولكنهم لم يفهموا الإسلام حق فهمه، ولم يعرفوا جوهره وروحه، وقنعوا بالقشور والمظاهر، باطنهم خراباً من الإيمان الصادق،وقلوبهم من الحجارة أو أشد قسوة،وهذا ماصّحت به الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مُحذرةً منهم ومن تنطعهم ومغالاتهم.
وهو ماجاء في حديث علي وأبي سعيد الخدري وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ـ ذكر الخوارج ـ فقال:” يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم،وقراءته إلى قراءتهم، يقرؤون القرآن لايجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية“[متفق عليه].
يقول الشيخ الدكتور القرضاوي حفظه الله:”وقد ابتليت أمتنا من قديم بالغلاة من الخوارج، الذين استحلوا دماء المسلمين الآخرين وأموالهم، من كل لايرى رأيهمن حتى كفروا ابن الإسلام البكر: علي بن أبي طالب، وقاتلوه، ثم قتلوه غيلة وغدراً، متقربين إلى الله بسفك دمه الطاهر رضي الله عنه، حتى قال شاعرهم في مدح قاتله، ويالشناعة ماقال:
ياضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يوماً فأحسبه أوفى البرية عند الله ميزانا
ويتابع القرضاوي:”كان هؤلاء من المتعبدين المكثرين للصيام والقيام وتلاوة القرآن،وبيّن الحديث الشريف السابق“يحقر أحدكم…”أن آفة هؤلاء ليست في ضمائرهم، إنما آفتهم في عقولهم،فهم يقرؤن القرآن، ولكنها قراءة لاتتجاوز الحناجر،لتدخل إلى العقول لتفهم، والقلوب لتستبصر، وفي حديث آخر وصفهم بأنهم”يدعون أهل الأوثان، ويقتلون أهل الإسلام”!!
ويتابع الشيخ القرضاوي:”وفي عصرنا ابتليت أمتنا بأصناف من الغلاة ورثوا غلو الخوارج القديم، ربما كان لدى بعضهم إخلاص الخوارج، مع سوء فقههم، وربما لم يكن عند آخرين منهم إلا الدعاوى العريضة ولافقه ولا إخلاص، ولايحملون عقلاً ذكياً، ولاقلباً نقياً.إنما هم مغرورون غرّتهم أنفسهم، وغرّتهم الأماني،وغرّهم بالله الغرور، وإذا اجتمع الجهل والغرور كانت فتنة في الأرض وفساد كبير”.انتهى كلام القرضاوي.
إن التشدد والمغالاة من مظاهر الانحراف التي نجدها عند بعض الدعاة إلى الإسلام. تجد أحدهم يطلّع على مسألة من مسائل الشرع فيها وجوه اختلاف متعددة وأقوال واجتهادات متغايرة، وقد تجد في مسألة من المسائل خمسة أقوال تقول بالتساهل والتيسير وقول يأخذ بالتشديد، فهو يأخذ بالتشديد على نفسه وعلى الناس، وهذا غلط كبير، فالمرجعية عندنا للكتاب والسنة، فما يؤيده الدليل يُؤخذ به وإن كان فيه التسهيل والتيسير، ويجب أن لانغالي في الأمور وأن يكون لنا في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة.
يقول الله عز وجل: {قُل يا أهلَ الكتابِ لاتَغلُوا في دِينِكُم غيرَ الحقِّ ولاتَتّبعوا أهواءَ قومٍ قد ضَلُّوا من قَبلُ وأضَلُّوا كثيراً وضَلُّوا عن سواء السَّبيل}[ المائدة 77]، ويقول تعالى: { يريد الله بكم اليُسر ولايريد بكم العسر}[ البقرة 185]، ويقول تعالى: {ونيسرك لليسرى}[ الأعلى 8].
وهناك مجموعة من الأحاديث النبوية الشريفة التي تنهى عن التشدد والتنطع والمغالاة في الدين وتدعو إلى التيسير نذكر منها:
في الحديث الشريف المتفق عليه: ” يسروا ولاتعسروا، وبشروا ولاتنفروا”.ويقول صلى الله عليه وسلم: ” إنما بُعثتم مُبشرين ولم تُبعثوا مُعسّرين” [أخرجه البخاري]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ” إياكم والغلو، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين“.قال الإمام ابن حجر العسقلاني رحمه الله: “الغلو: المبالغة في الشئ والتشديد فيه بتجاوز الحد”.
وفي الحديث الذي رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “هلك المُتنطّعون، قالها ثلاثا” [رواه مسلم].قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم: ” المتنطعون: المغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم”.
يقول الأستاذ محمد لطفي الصباغ حفظه الله[قضايا في الدين والحياة والمجتمع ص153]:”إن هؤلاء المغالين المتعمقين في الكلام والأفعال هالكون، وهلاكهم أمر مُحقّق لاشك فيه، وقد رأينا النصارى وكيف انتهى بهم تنطعهم وغلوهم في حبّ المسيح عليه السلام إلى الشرك، وكذلك رأينا بعض الفرق الضالة التي خرجت عن المسلمين كيف ضلّت عندما أحبوا رجلاً من الصحابة فرفعوه فوق رتبة البشر فضلوا وأضلوا، وقريب منهم حال بعض الجهلة الذين يرفعون نبينا صلى الله عليه وسلم فوق درجة النبوة بدعوى محبته صلى الله عليه وسلم إلى درجة لايرضاها، روى البخاري وأحمد عن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” لاتطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد الله ورسوله“.
وقال صلى الله عليه وسلم: ” لاتشدّدوا على أنفسكم فيُشدد عليكم، فإن قوماً شدّدوا على أنفسهم فَشُدّد عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديار رهبانية ابتدعوها ماكتبناها عليهم” [أخرجه أبو داود].
ودعا رسول الله في مجموعة من الأحداديث الشريفة إلى اليسر والتيسير على النفوس والعباد:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الدين يسر، ولن يُشادّ الدينَ أحد إلا غلبه، فسدّدوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والرّوحة وشئٍ من الدُّلجة” [رواه البخاري].
(الغدوة، سير أول النهار، الروحة: آخر النهار،الدلجة: آخر الليل).
وجاء في حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: ماخُيّر النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما مالم يكن إثما”[أخرجه الشيخان والإمام مالك].وجاء في الحديث الشريف الذي أخرجه الشيخان: ” عليكم من الأعمال ماتطيقون فإن الله لايمل حتى تملوا“.
هذا من السنة القولية، وجاء في السنة العملية عدة حوادث وأمثلة تدعو إلى التيسير وعدم التشديد في العبادات على النفس وعلى عباد الله المؤمنين.
كان أحد ائمة المساجد يُطيل في الصلاة، حتى جعل ذلك بعض الناس يتأخرون عن صلاة الصبح، فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بفعل ذلك الإمام غضب غضباً شديداً فقال : ” يا أيها الناس إنّ منكم مُنّفرين، فأيّكم أمَّ الناس فليوجز، فإن من ورائه الكبير والصغير وذا الحاجة”. [متفق عليه].وجاء في حديث آخر: ” إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف، فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول مايشاء“[رواه الشيخان]
يقول الأستاذ محمد لطفي الصباغ حفظه الله[قضايا في الدين والحياة والمجتمع ص175]: “وهذا الحديث العظيم الذي يبين يسر الإسلام ورفعه الحرج عن أمته، وينهى عن تطويل الإمام في الصلاة، ويعدّه تنفيراً من الدين”
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراً فترخصّ فيه، فبلغ ذلك ناساً من الصحابة، فكأنهم كرهوه وتنزهوا عنه، فبلغه ذلك فغضب حتى بان الغضب في وجهه فقام خطيباً، فحمد الله ثم قال: مابال رجال بلغهم عني أمر ترخصت فيه فكرهوه، فوالله لأ نا أعلمهم بالله، وأشدهم له خشية” [رواه مسلم] وقال صلى الله عليه وسلم: ” إن الله بعثني بالحنيفية السمحاء ولم يبعثني بالرهبانية المبتدعة، سُنتي الصلاة والنوم، والإفطار والصوم، فمن رغب عن سنتي فليس مني“.
يقول الأستاذ محي الدين القضماني[كلمات ومواقف ص61]:”أرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحاء، رحمة للعالمين،يضع عن الناس إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، {هًو اجتَباكُم وما جَعلَ عليكُم في الدِّينِ من حَرجٍ مِلَّةَ أبيكم إبراهيم} [الحج 78]، ولكن بعض الناس تحملهم طباعهم الخشنة على ركوب أصعب المراكب وسلوك أوعر المسالك، ويميلون إلى التنطع والتكلّف، ظناً منهم ان هذا دليل الإيمان القوي والعزيمة الصادقة والجدّ في تنفيذ أوامر الله سبحانه، ويقسون على أنفسهم أو على من يرشدونه من الناس، مع أن الإسلام دين اليسر، والمؤمن هيّن ليّن،يرفق بنفسه ويرّغبها في الخير ويحملها من الأعمال ماتطيق و” إنّ المنبت لا أرضاً قطع ولاظهراً أبقى” يراد به ذمّ الغلو، فعل من أغذّ السير حتى عطبت الدابة فانقطع عن أصحابه “.
وجاءت أقوا الصحابة والسلف الصالح تنهى أيضاً عن التشدد والغلو:
الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “خيرُ هذه الأمة النَّمَطُ الأوسط، يرجع إليهم الغالي ويلحق بهم التالي[العقد الفريد ج2 ص186]
سلمان الفارسي رضي الله عنه: ” القصدَ والدّوام وأنت الجوادُ السابق.
مُطرّف بن عبد الله الشخير لإبنه: ” يابُنيّ إن الحسنة بين السيئتين (يعني الإفراط والتقصير) وخيرُ الأمور أوسطها”.
إن من أهم أسباب التشدّد والمغالاة والغلو:
1 ـ هي ردة فعل من بعض الشباب لما يشاهدونه من مظاهر التسّيب والتساهل من قبل بعض العلماء وكثير من الناس في مايتعلق بأمور الدين والعبادات والشريعة ومايتعلق بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر…فكانت ردة الفعل لديهم اللجوء إلى النقيض بإظهار التشدد والغلو وهذا خطأ كبير ومن الخطأ أن نواجه الأخطاء الموجودة بأخطاء اكبر منها لعلاجها.
2 ـالجهل: وهو من أهم الأسباب، والجهل لايقاوم إلا بالتعلم، وإن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون عنه دينكم.وهناك بعض الدعاة يظن أنه يستطيع الإفتاء والحكم بمجرد الرجوع إلى بعض الكتب ويظن أنه بإمكانه بعد قراءتها أن يحكم ويفتي حسب مافهم من قراءة السطور والصفحات، وإن كان كثير منهم غير ضليع باللغة العربية والعلوم الشرعية وأصول الفقه والعلوم الدينية المختلفة، والعجيب أن المريض عندما يمرض لايعالج نفسه ولايقرأ في الكتب الطبية المتوفرة، بل يذهب إلى الطبيب المختص ويطلب منه المعالجة والمداواة،ولكن بعض الدعاة من أرباع ـ ولا أقول أنصاف ـ العلماء يُفتون ويقررون في شؤون الحلال والحرام وأمور الشرع والعقيدة وهم ليس عندهم العلم الكافي والوعي المطلوب ، ويظن أحدهم أن من قرأ كتاباً أو حضر بعض الجلسات وسمع بعض المحاضرات أن لديه القدرة على مداواة علل الامة وعلاجها، وغالباً مايكون هؤلاء في أحكامهم من أكثر الناس تشدداً لأن الناس أعداء ماجهلوا.
يقول الأستاذ عباس محمود العقاد[عبقرية المسيح ص123]:”الجمود يقف بصاحبه عند الكلمات والنصوص، يخيل إليه أنها مقصودة لذاتها فتصبح شغلاً شاغلاً له يمعن في تأويلها وتوجيهها واستخراج العقد والألغاز منها، وينتهي الأمر به إلى اعتبارها مسألة براعة وفطنة واعتبار الأحكام والعقوبات فرض للشارع لايجوز أن تفلت من بين يديه وإلا كان ذلك مطعناً في براعته وفطنته وهزيمة له أمام غرمائه المقصودين بتلك الأحكام والعقوبات”.
3 ـ العقد النفسية: إن بعض هؤلاء المتشددين لديهم عقد نفسية باطنة، وهم غير أسوياء من الناحية النفسية، وكثير منهم من الفاشلين على مستوى الدراسة والأعمال فيحاولون أن يعوضوا عقدة النقص لديهم أمام معارفهم ومن حولهم بأن يظهروا أنفسهم بأنهم على مستوى من التقوى والعلم والمعرفة ويلجؤون إلى التشدد في المسائل المختلف فيها فقهياً وتحتمل عدة وجوه ، ويظنون أنهم بذلك يظهرون أمام الناس على أنهم على درجة عالية من العلم والتقوى والزهد والورع.
إن التشدد يحسنه كل أحد ممن ضاقت معارفهم أو ضاقت صدورهم، فمن السهل الجنوح إلى المبالغة، والتشدد باسم الحذر والحيطة، والمبادرة إلى الرفض والتحريم أخذاً بالشبهات، واحتجاجاً بسد الذرائع، وهؤلاء ينسون قوله تعالى: {مايُريدُ اللهُ لِيجعلَ عليكُم من حرج}[المائدة6]، وقوله تعالى{ فقل لهم قولاً ميسوراً} [الإسراء 28]، وقوله تعالى: {يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً} [النساء 28].
ومن جهة أخرى تجد أن غالبية هؤلاء المتشددين في أحكامهم على الناس من أكثر الناس تسّيباً في أمور دينهم وشريعتهم، يقول الشيخ عبد العزيز جاويش صاحب كتاب ” الإسلام دين الفطرة والحرية” يقول: ” واعلم أن المتغالين في دينهم أقرب الناس إلى العجز في القيام به واحتمال تكاليفه”.
كما أنهم في معاملاتهم مع أهلهم ومعارفهم ومع الناس يغلب على خلقهم الفظاظة وجلافة الطبع وقسوة القلب والقول، والميل لقهر الغير والاستهزاء من الناس والتلفظ معهم بأشد العبارات وأقسى الكلمات.
يقول الأستاذ عباس محمود العقاد رحمه الله[عبقرية محمد ص134]:”إن أناساً يُشدّدون على أنفسهم عن كزازة في الطبع (انقباض ويبس ) وضيق في الحظيرة وعجز عن ملابسة الدنيا، وهذه نقائص تعاب في مقياس الفكر والأخلاق”.ويقول الأستاذ أحمد أمين رحمه الله [فيض الخاطر ج3 ص68]: “واستكشف علماء النفس أن مثل هؤلاء الملتزمين المدمنين على الجد كانوا أقرب إلى القسوة على الناس، وأقلهم بهم رحمة، وأبعدهم عن التسامح، وعلى يد أمثال هؤلاء قامت محاكم التفتيش في أوروبا، وعُذب الناس على يد زياد بن أبيه والحجاج، وأبي مسلم الخراساني وأمثالهم من المسرفين في الجد”.
ورحم الله سيد الخلق والمرسلين الذي يقول: ” من يُحرم الرفق يُحرم الخير كله“.[ رواه مسلم].
والأخطر من كل ذلك وهذا ماشاهدناه في القديم على يد الخوارج وحديثاً على يد الكثير من الفرق الضالة هي إصدار الأحكام بقتل الناس وتكفيرهم والحكم عليه بالردة والقتل واستعمال أشد أنواع التعذيب والقسوة في معاملة الناس سواء من المسلمين أو أصحاب الديانات الأخرى.
يقول الأستاذ عباس محمود العقاد رحمه الله [ موسوعة العقاد المجلد السادس ص344]:”وليس الخطر كله من الأعداء، وليس الأمان كله من الأصدقاء، فقد يجئ الخطر على الإيمان من غلاة التجديد، وقد يجئ الخطر على المعرفة من غلاة الجمود، وقد يتقابل هؤلاء وهؤلاء على قوة واحدة، فيسري إلى الأمة شلل لاتنفع معه معرفة ولا إيمان”.
والسؤال كيف علينا أن نواجه أمثال هؤلاء من المتشددين والمغالين؟
يقول الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله موجهاً كلامه لأمثال هؤلاء[كتاب الصحوة الإسلامية بين الجمود والتطرف]: “يجب أن يتخلوا عن التشدد والغلو ويلزموا جانب الاعتدال واليسر، خصوصاً مع عموم الناس الذين لايطيقون مايطيقه الخواص من أهل الورع والتقوى،ولابأس بأن ياخذ المسلم في مسألة أو جملة مسائل بالأحوط والأسلم ولكن إذا ترك دائماً الايسر واتبع دوماً الأحوط أصبح الدين في النهاية مجموعة أحوطيات لاتمثل إلا الشدة والعسرة، والله يريد بعباده السعة واليسر، ويضيف حفظه الله: “ولئن كان التيسير مطلوباً في كل زمان، فإنه في زماننا ألزم وأكثر تطلباً، نظراً لما نراه ونلمسه من رقة الدين وضعف اليقين، وغلبة الحياة المادية على الناس، وعموم البلوى لكثير من المشكلات، حتى أصبحت كأنها القاعدة في الحياة وماعداها هو الشواذ، وأصبح القابض على دينه كالقابض على الجمر،وكل هذا يقتضي التسهيل والتيسير، ويضيف: ” وهنا نذكر أن التيسير المطلوب لايكون بتطويع الأحكام البشرية لتكون في خدمة الواقع بحيث يتم قبول كل ماهو قائم أو تبريره، وإضفاء غطاء أو رداء شرعي له، ذلك أمر مرفوض طبعاً لأنه يفتح الباب للإنخلاع من الشريعة تدريجياً، ولكن المقصود هو الاعتدال في فهم النصوص، وتناولها بصورة لاتشق على الناس ولاتحملهم حرجاً ولاتلزمهم بما فوق طاقتهم”.
ويقول الإمام الشاطبي رحمه الله[الموافقات]:”إن المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور فلايميل بهم مذهب الشدة، ولايميل بهم إلى طرف الإنحلال،فذلك هو الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة، من حيث أن مقصد الشارع حمل الناس على المتوسط من غير إفراط ولاتفريط، وخروج المفتي عن تلك الحدود خروج عن مقصد الشرع.
نعم، إننا بحاجة في هذا الزمان وكل زمان إلى العلماء الصالحين الأتقياء الذين يقفون في وجه هؤلاء المُغالين المُنحرفين ، يبُينّون أخطائهم ويحاولون أن يهدوهم، فإن أبوا، فأن عليهم أن يبينوا حكم الإسلام فيهم وفي انحرافاتهم، وأن يبينوا لعامة المسلمين ولكل الناس جوهر الإسلام الحقيقي دين الوسطية والاعتدال، دين الرحمة والمحبة، دين التيسير والتسهيل.
روى معاذ بن رفاعة عن ابراهيم بن عبد الرحمن العدوي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” يحمل هذا العلم من كل خَلَف عُدُوله، يُنفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين[كتاب أدب الدنيا والدين للماوردي فصل العلم ص44ـ 45]
(عدول: ج عدل : اهل التقوى والورع، الغالين:المتشددين الذين جاوزوا الحد وأدخلوا في الدين ماليس منه تشددا،انتحال المبطلين:ادعاء المبطلين بعض مافي الدين،تأويل الجاهلين: العدول بنصوص الدين عن ظواهرها المفهومة إلى مايتفق مع اهوائهم وجهالتهم من غير أصل يبنى عليه ذلك التأويل ويقاس)
6 ـ الموعظة الحسنة:
من أهم العناصر في الدعوة إلى الله أن يخاطب الداعية الناس على قدر عقولهم وأفهامهم،وأن لايطيل عليهم في حديثه وخطبه ومواعظه، وأن يستعمل من وسائل الدعوة الكثيرة المتاحة له مايفيد الدعوة بحسب الظروف الزمانية والمكانية واستعداد الناس للتلقي والإستيعاب.
يقول عباس محمود العقاد رحمه الله(عبقرية محمد ص 74 ـ 75): “فمحمد العربي القرش الناشئ في بني سعد، العالم بلهجات القبائل حتى ماتفوته لهجة قبيلة نائية في أطراف الجزيرة، لم يكن في كلامه كله غريب يجهله السامع أو يحتاج تبيانه إلى مراجعة، وسر ذلك أنه يريد أن يبلغ أو يريد أن يصل إلى سامعه، ولايريد أن يقيم بينه وبين السامع حاجزاً من اللفظ الغريب أو المعنى الغريب، ومن ذلك ماروي عنه صلى الله عليه وسلم: ” أنه كان يعيد الكلمة ثلاثاً لتعقل عنه، وأنه كان يبغض التكلف والاغترار بالبلاغة”.
ومن النواحي الهامة التي يجب على الداعية الانتباه إليها: الابتعاد عن الإطالة على الناس في حديثه أو خطبه، لأن طول الحديث والإسهاب فيه يدعوان إلى الملل والضجر،وهذا قد يؤدي بدوره إلى نتائج عكسية على الدعوة والداعية، وقد قال عمر الفاروق رضي الله عنه: من كثر كلامه كثرسقطه.
تكلم ربيعة الرأي يوماً بكلام في العلم فأكثر، فكأنما العُجب داخله، فالتفت إلى أعرابي إلى جنبه فقال: ماتُعدّون البلاغة يا أعرابي؟ قال: قلة الكلام وإيجاز الصواب. قال: فما تعُدّون العيّ؟ قال: ماكنت فيه منذ اليوم. فكأنما ألقمه حجراً!
وإذا عدنا إلى سيرة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم وأخبار الصحابة والتابعين والصالحين نجد أنهم قد استوعبوا هذا الدرس وأدركوا مدى أهمية إيصال الدعوة إلى الناس، ولكن بكلام موجز مفيد.
تخبرنا كتب السيرة النبوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي اختصّه الله بجوامع الكلم، كان لايُطيل الكلام وخاصة في الخطب ـ إلا في حالات نادرة ـ وإذا عدنا إلة خطبة حجة الوداع والتي جمعت كل ماتحتاج إليه الأمة، فإننا نجد أنها لاتتجاوز بضعة عشرة سطراٍ.
وقد عمل الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه الكريم. روى الشيخان عن أبي وائل شقيق أبي سلمة قال:” كان ابن مسعود رضي الله عنه يذكرنا في كل خميس مرة، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن لودَدَتُ أنك ذكرتنا كل يوم. فقال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم ، وإني أتخَوّلكم بالموعظة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَتَخَوّلنا بها مخافة السآمة علينا”.
ومما يُروى عنه أيضاً رضي الله عنه: ” حدّث الناس ماحدّجوك بأسماعهم، ولحظوك بأبصارهم، فإذا رأيت منهم فتوراً فأمسك”.
وجاء في صحيح البخاري عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهم قال:”حدّث الناس كُلَّ جمعةٍ مرّةً، فإن أبيت فمرتين فإن أكثرت فثلاث مرات،ولاتُملَّ الناس هذا القرآن، ولاألفينّك تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم فتقصُّ عليهم، فتقطع عليهم حديثهم فتملّهم، ولكن أنصت، فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه. فانظر السجع من الدعاء فاجتنبه، فإني عهدت رسول الله وأصحابه لايفعلون إلا ذلك الاجتناب”.
يقول الشيخ الدكتور محمد لطفي الصباغ حفظه الله في كتابه [قضايا في الدين والحياة والمجتمع ص55]: ” إنها كلمات رائعات نافعات، قالهنّ ابن عباس وهنّ خلاصة تجربته في مخاطبة الناس ودعوتهم إلى الخير، وعصارة فهمه لأدب الكلام كما يقضي بذلك الكتاب الكريم والسنة المطهرة، يوصي بهذه الكلمات من يتصدّى لدعوة الخلق إلى الإسلام. كلمات تزخر بالحكمة وتزدان بالصواب ،وهي مع ذلك كله قد صيغت بأسلوب جميل محكم”. ويتابع حفظه الله: “إن هذه الكلمات درس للدعاة إلى الله جميعاً ولاسيما للدعاة الذين يكثرون الكلام عن حسن قصد، ويسرفون في الوعظ.وهذا الإكثار والإسراف نتيجة لغلط في تصور الدعوة، ليست الدعوة كلاماً فقط، كما يظن كثير من الناس، إن الكلام لون من ألوان الدعوة إلى الله نافع وضروري، ولكنه ليس وحده الدعوة” .
نعم،إن العبرة ليست بطول الكلام، وكثرة مايُقال، ولكن العبرة بمقدار مايصل من الكلمات إلى القلوب وتأثيرها فيها.
كان سيد التابعين الإمام الحسن البصري رحمه الله يحضر خطبة الجمعة، وأخذ الخطيب يجلجل ويتكلم فأطال، وبعد الانتهاء من الصلاة قال له الحسن: ياهذا، إن بقلبك شراً أو بقلبي.
وقد أوصى أبو بكر الصديق رضي الله عنه أحد عماله فقال له: ” إذا وعظتهم فأوجز، فإن كثير الكلام يُنسي بعضه بعضاً..وقال أحدهم: ” أقِل من الكلام فإنما لك ما وُعيَ عنك”.
كما أن كثرة الكلام تعرض الداعية للوقوع في الغلط، وقد يخوض في تفاصيل ليس عنده اطلاع كاف عليها، أو لايوفيها حقها فتُفهم خطأ، وقد قيل: من يتكلم كثيرأ يغلط كثيراً. وقال الجاحظ: ” للكلام غاية، ولنشاط السامعين نهاية، مافضل عن مقدار الاحتمال، ودعا إلى الاستثقال والكلال فذلك هو الفضال(المبتذل من قول أو غيره) والهذر والخطل والإسهاب الذي سمعت الخطباء يعيبونه. وقال الحسن البصري: “لسان العاقل من وراء قلبه، فإذا أراد الكلام يفكر، فإن كان له قال، وإن كان عليه سكت، وقلب الجاهل من وراء لسانه، فإذا همّ بالكلام تكلم به له أو عليه”.
والكلام الكثير المُمل يُسئ إلى كرامة الداعية وقد يعرضه إلى ألوان من الحرج والمهانة، ومنها: أن ينفضّ الناس عن مجلسه، أو قد يعمد بعضهم إلى مقاطعته والتشويش عليه، وقد يتطور الأمر إلى السباب والشتائم والضرب.سمعت من أحد الأساتذة الفضلاء هذه القصة: أطال أحد الخطباء في يوم الجمعة من خطبته وحديثه، وأخذ الناس يتململون ويضجرون، وظهر ذلك في وجوههم وتصرفاتهم وحركاتهم، فما كان من والد هذا الخطيب ـ الذي كان يستمع معهم ـ إلا أن أنزله من على المنبر!!
والأقبح من كل هذا أنه يوجد من الدعاة الذين لايتركون أنفسهم على سجيتها، بل يتكلّفون الكلام ويتكلمون بملء أشداقهم تفاصحاً وتعاظماً واستعلاء، فيأتي كلامهم مملولاً وتفاصحهم مرذولاً.
روى البخاري رضي الله عنه عن أنس رضي الله عنه قال: ” نُهينا عن التكلف“.وروى جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” إنّ أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون“أخرجه أحمد والترمذي].وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلّل بلسانه كما تتخلّل البقرة” [ رواه الترمذي] فهؤلاء أناس وخطباء يتكلمون كثيراً ويتشدقون في كلامهم وترى ألسنتهم تمسح شفاههم التي جفت من كثرة الكلام كالبقرة تتخلل بلسانها.
ومن وسائل الدعوة والموعظة الحسنة: الخطبة والمقال والكتاب والحوار بمختلف أشكاله….
إن الخطبة من وسائل الدعوة الهامة، ولقد فرض الله تعالى خطبة الجمعة على المسلمين للوعظ والإرشاد، وتقديم الحلول للمشاكل الطارئة. وهنا لابد من الانتباه إلى حسن أداء الخطبة وعدم الإطالة كما ذكرنا،ولابد من وضوح الفكرة في ذهن الخطيب لتصل إلى المستمع بشكل واضح، وأن يتجنب الخطيب فيها التكلف والفظاظة، وأن يتجنب الغلظة والقساوة على المستمعين.
يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله:”ولو سألت من شئت من المصلين عن هذه الخطب لسمعت منه طرفاً من عيوبها:
فمن عيوبها: هذا التطويل وهذا الإسهاب حتى لتزيد الخطبة الواحدة ـ أحياناً إلى نصف ساعة، مع أن السنة تقصير الخطبة وتطويل الصلاة، وألاتزيد الخطبة على سورة من أوساط المفصل، أي على صفحتين إثنتين فقط.وهذه خطب الرسول المأثورة وخطب الصحابة منها ماهو صفحة واحدة أو أقل من ذلك.
ومن عيوبها: أنه ليس للخطبة موضوع واحد معين، بل تجد الخطيب يخوض في الخطبة الواحدة في كل شئ، وينتقل من موضوع إلى موضوع، فلايوفي موضوعاً منها حقه من البحث،ولايخرج السامع له بنتيجة عملية.ولو أن الخطيب اقتصر على موضوع واحد فتكلم فيه ولم يجاوزه إلى غيره،لأخذ السامع منه عبرة، وحصل من الخطبة على فائدة.
ومن عيوبها: أن الخطيب ـ أعني بعض من يخطب ـ يحاول أن يصلح الدنيا كلها بخطبة واحدة، فلا يخاطب الناس قدر عقولهم ولايكلمهم على مقتضى أحوالهم، ولايسير بهم في طريق الصلاح خطوة خطوة بل يريد أن يبلغوا الكمال بقفزة واحدة، مع أن الطفرة في رأي علمائنا محال.
ومن عيوبها: هذا التكلف في الإلقاء، وهذا التشدق في اللفظ، وهذه اللهجة الغريبة. وخير الإلقاء ماكان طبيعياً لاتكلف فيه، والرسول صلى الله عليه وسلم قد كره المتشدقين وذمهم.
ومن عيوبها: أن من الخطباء من يأتي بأحكام غير محققة ولامسلمة عند أهل العلم يفتي بها على المنبر ويأمر الناس بها، ولو اقتصر على المسائل المتفق عليها وأمر بها العامة وترك الخلافيات لمجالس العلماء لكان أحسن.
ومنهم ـ وهذا كثير ـ من يأتي بالأحاديث الموضوعة أو الضعيفة المتروكة، مع أنه لايجوز لأحد أن يسند حديثاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يتوثق من صحته”.
إن عدم استعاب الخطباء إلى هذه الأمور في الخطبة يكون لها التأثير والصدى السلبيان على الخطيب والمستمعين:
ذكر الأستاذ الشيخ محمد لطفي الصباغ حفظه الله أن إمام جامع أطال في خطبته، فبدأ الناس يتململون ويشتكون حتى أن البعض منهم غادر المسجد، فما كان من هذا الإمام إلا أن خاطبهم بهذا القول الجارح: ” {فمالَهُم عن التَّذكرةِ مُعرضين* كأنَّهُم حُمُرٌ مُستَنفرةٌ* فرَّت من قَسورة}[المدثر 49 ـ 51] يقول الأستاذ الصباغ:” فقل لي كيف يستجيب الناس لمن يخاطبهم بهذا الكلام، وكيف نطلب من الناس أن يطيقوا سماع هذا الكلام الطويل الممل، والموعظة القاسية والشتيمة المنكرة. إن العجب ليس في أنهم غادروا المسجد ولكن العجب كل العجب أنه لم يقم أحد لهذا الخطيب وأدّبه!!ويتابع حفظه الله :”إننا نقول لأمثال هؤلاء المنفرين إنكم لستم أغير من الله على دين الله، ولاأحكم من الله في وضع الأشياء مواضعها من شريعة الله فلاتتنطعوا ولاتغلوا في دينكم غير الحق، ولاتسيئوا بمواقفكم الجاهلية أو الغالية إلى الإسلام، ولتعلموا أن من شدّد نفّر، ومن تراخى تآلف”.ويقول أيضاً حفظه الله[ تذكرة الدعاة ص9]:”والمؤلم أن الواعظ الناجح العالم قليلٌ جداً في أكثر بقاع المسلمين، ونظرة متأملة لخطباء الجمعة تدل على هذه القلة التي نشير إليها، فما أكثر ماتسمع صراخ هؤلاء الجهلة الذين يرتقون منابر المسلمين وهم لايقيمون ألسنتهم في قراءة آية من كتاب الله وقلما يوردون حديثاً صحيحاً، وتراهم يطيلون خطبهم وهي غثاء ويتكلمون فيما لايعلمون ونصيبهم من العلم قليل”.
ويقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله(الرسالة العدد432):
“إن أولى ما ينبغي أن يتحلى به الواعظ أن يبدأ بنفسه فيعظها،وأن يخلص قوله لله وعمله،وأن يفرغ من شهوات نفسه،فلا تملكه شهوة الشهرة والجاه ولا شهوة الغنى ولا شهوة النساء،وأن يكون في فعله أوعظ منه في قوله،فلا يأمر الناس بالزهد ثم يخالفهم إلى ما زهدهم فيه فيزاحم المتكالبين عليه،ولا يتظاهر بالدين ابتغاء الدنيا وتوصلاً إليها،فيجمع من حوله العاملين على الكسب الحلال،والجادين في جمع المال من حله،ليأخذ من أموالهم ما يتعالى به عليهم،وليذوق لذائذ العيش من عطاياهم،وليسلبهم فوق ذلك حريتهم وعقولهم وكرامة أنفسهم عليهم،فيصرفهم في مآربه،ويسيرهم حيثما شاء،ويذلهم بين يديه ليستكبر عليهم،ويجعل الدين وسيلة إلى ذلك،فيجعل طاعة نفسه من طاعة الله،بل ربما جعل نصيبها من هذا الشرك أكبر،والعياذ بالله من ذلك.
ويتابع الشيخ الطنطاوي:”إن أول شرط للواعظ أو الخطيب أن يكون مخلصاً في وعظه لله،والشرط الثاني أن يكون عالماً بالعربية،عارفاً بالتفسير والحديث روايته ودرايته،والفقه اصوله وفروعه،وإلا كان وبالاً على الدين وأهله.ولقد أدركت من العامة من كان يكور العمامة،ويطيل اللحيةنثم يعقد للتدريس في مسجد دمشق الجامع فيقول ماشاء له الجهل والهوى ويجعله ديناً،والمفتي والقاضي والعلماء يمرون عليه أو يعلمون به فلا ينكرون عليه،ولو اعتدى هذا الرجل على جبة أحدهم لأقام عليه الدنيا.أفكان الدين أهون على أحدهم من جبته؟والشرط الثالث حسن الأسلوب في الوعظ،ومخاطبة الناس على قدر عقولهم،وابتغاء طريق اللين واللطف.والشرط الرابع هو أن يعلم الواعظون أنه ليس في الإسلام طبقة هي أولى بالله من طبقة،وليس بين العبد وربه وسيطنوأن الإسلام ليس فيه(رجال إكليروس)،فغذا علموا ذلك اقتصدوا في تكفير الناس لأتفه الأسباب،وراجعوا الآثار الواردة ليعلموا حقيقة الكفر والإيمان،فلا يرمون بالكفر كل من خالفهم في رأي أو ناقشهم في مسألة قد يكون لها وجوه…”
ولابأس في مجال الدعوة من اللجوء إلى أسلوب القصة، فهذا يسهل الفهم والحفظ{لقد كانَ في قَصَصهِم عِبرةٌ لأُولي الألبابِ ماكانَ حديثاً يُفترى ولكن تصديقَ الذي بين يديهِ وتفصيلَ كُلِ شئٍ وهُدى ورحمةً لقوم يؤمنون}[ يوسف111]، وقال تعالى : {فاقصُصِ القَصَصَ لعلّهُم يتفكّرون}[ الأعراف 176].
إن في القصة عبرة وموعظة دون أدنى شك، ويعظم تأثير الناس بالعبرة بمقدار مايكون المتحدث موهوباً في عرض القصة وصياغتها وحبك عقدتها وتشويق السامعين إلى متابعتها، والتركيز على النواحي الواقعية، وتجنب الأقاصيص الكاذبة، والأكاذيب المفضوحة، والأسانيد الباطلة الضعيفة.
يقول الأستاذ محمد لطفي الصباغ حفظه الله: “للقصة سحر آخاذ وتأثير نفاذ، وللنفس تعلق بها كبير. يشترك في ذلك الكبير والصغير، والعالم والأمي، والحضري والبدوي.وإن الدعاة إلى الله يحتاجون أول مايحتاجون إلى الاسلوب الحسن، وأنهم مدعوون أن يجددوا في أساليبهم، وأن يختاروا أكثرها قرباً إلى النفوس ويتابع:” إننا نريد من الداعية أن يكون ناجحاً في دعوته، ومن أهم أساليب نجاحه أن يكون حديثه حديثاً ممتعاً مفيداً مشوقاً، فلايجوز أن يُغرق نفسه وسامعيه بالكلام المجرد النظري لأنه لو فعل ذلك أملَّ السامعين ونفرّهم، ويمكن أن يدرأ عن حديثه ذلك الملل بأن يُضّمن حديثه قصة من قصص القرآن أو السنة أو السيرة، ويعلّق عليها أو قصة من القصص الواقعية “.
ومن وسائل الدعوة اللجوء إلى وسائل الاعلام المتاحة المرئية والسمعية والصحف والمجلات.. فهي تساعد كثيراً في نشر الدعوة ولكننا وللأسف مازلنا مقصرين في الاستفادة منها والاستعانة بها في مجال دعوتنا.
يقول الأستاذ محمد لطفي الصباغ حفظه الله: “وكلما ذكرت قضية الدعوة ثار شجني وعظم حزني لحال المسلمين الذين يملكون بدينهم كل الحلول النافعة والأدوية الناجعة لأمراض الإنسانية ومشكلاتها، وعلى الرغم من ذلك فهم لايدعون إلى دينهم بواقع عملي يحيونه ولابوسائل الإعلام والدعاية المعاصرة من خطابة وكتابة وإذاعة وما إلى ذلك”.
إن الدعوة إلى الله ليست مجرد الكلام والوعظ كما يظن البعض، إن الدعوة إلى الله كما يقول الأستاذ الحبيب محمد لطفي الصباغ حفظه الله: “سلوك حسن، وعاطفة صادقة، ولهفة جارة لملهوف، وإغاثة جادة لمستغيث، ومعونة مجدية لمحتاج، وإجارة قوية لمستجير، ومواساة رقيقة دافئة لمحزون، وكتابة عميقة لمؤلف، وتخطيط واع مدرك للعمل،وأمور أخرى كثيرة جداً تكون وفق ماتقتضي حال المدعويين، وقد تختلف هذه الأمور من قوم إلى قوم، ومن بيئة إلى بيئة، ومن عصر إلى عصر”.
7 ـ حسن المجادلة:
الجدل لغة:ترجع إلى جادل، مجادلة، وجدالا، أي ناقش وخاصم.والجدل:مقابلة الحجة بالحجة. والمجادلة: أي المناظرة والمخاصمة.
والجدل الذي يكون لإظهار الحق محمود،يقول تعالى{وجادلهم بالتي هي أحسن}[النحل125].وأما الجدل على الباطل وطلب المغالبة فهو مذموم، يقول تعالى{ويُجادِلُ الذين كفروا بالباطلِ لِيدحضوا به الحق}[الكهف 56].
والمراء:قيل هو الجدال(فتح القدير)، وقال الإمام الطبري رحمه الله :ماريت فلاناً:إذا جادلته. وقيل: هو طعن في كلام الغير لإظهار خلل فيه من غير أن يرتبط به غرض سوى تحقير الغير.وقيل: إن المراء لإثبات قول باطل، والجدال: لإثبات قول قد يكون باطلاً وقد لايكون.
والفرق بين الجدال والمراء:قيل هما بمعنى واحد غير أن المراء مذموم لأنه مخاصمة في الحق بعد ظهوره،وليس كذلك الجدال.وفي الحديث الشريف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”المراء في القرآن كفر“[رواه أبو داود وصححه الألباني].ومعنى المراء في القرآن: أي الشك فيه وهذا كفر.
يقول الأستاذ ناجي الطنطاوي(كلمات نافعة ص67):
“وقد عرف العلماء المجادلة بأنها دفع القول على طريق الحجة،فأنت تسمع مايقوله خصمك وتستوعبه ثم تدفع قوله بحجةٍ علميةٍ منطقيةٍ مقبولة.وفرقوا بين الجدل والجدال فقالوا إن الجدل في الدين محمودٌ لأنه يكشف ماغمض من أمور الدين ويظهر الأدلة العلمية التي تميز الحق من الباطل،أما الجدال فقد قالوا عنه إنه مذمومٌ لأنه يكون في الغالب لإظهار الباطل في صورة الحق،قال تعالى:{وإن جادلوكَ فقلِ الله أعلمُ بما تعملون} وفي هذه الآية أدبٌ حسنٌ علمه الله عباده في الرد على من جادل تعنتاً ومراءً ومعاندةً فمن واجبك أن تسكت عن جوابه وأن تمتنع عن مناظرته.
أما المراء فهو الجدال بالباطل.قال الإمام الغزالي رحمه الله:المراء طعنك في كلامٍ لإظهار خللٍ فيه لغير غرضٍ سوى تحقير قائله وإظهار مزيتك عليه.وقال الإمام النووي رحمه الله:اعلم أن الجدال قد يكون بحقٍ وقد يكون بباطلٍ قال تعالى:{وجادلهم بالتي هي أحسن}وقال تعالى:{مايجادلُ في آياتِ الله إلا الذين كفروا}.قال:فإن كان الجدال للوقوف على الحق وتقريره كان محموداً وإن كان في مدافعة الحق أو كان جدالاً بغير علمٍ كان مذموماً.وعن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:”ماضل قومٌ بعد هدىً كانوا عليه إلا أُوتوا الجدال”.
يقول الأستاذ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني(الأخلاق الإسلامية ج1 ص370):
“وصف الله الإنسان بأنه أكثر شئٍ جدلاً، وهذا يدل على مبلغ قدلاته على الحيلة الفكرية، التي تمكنه من أن يجادل بالحق أو بالباطل، ويكر ويفر ويراوغ في المجادلة. قال الله تعالى:{ولقد صَرّفنا في هذا القرآنِ للناس من كُلِّ مَثَلٍ وكانَ الإنسانُ أكثرَ شئٍ جدلا}[الكهف 54].
فهذه الآية تدل على أن الله تبارك وتعالى قد صرّف في القرآن الكريم لهداية الناس إلى الحق والخير من كل مثل،لئلا يدع لأي جدالٍ هو فيه أقدر كائن خلقه الله.إنسان مهرباً جدلياً ينسل منه إلى الباطل الذي يجد لديه هوى نفسه، إذ يحاور ويداور في جدالٍ هو فيه أقدر كائن خلقه الله.
والسبب في كون الإنسان أكثر شئٍ جدلاً أن القدرات الفكرية التي زود الله الإنسان بها، قد مكنته من استخدام حيل كثيرة، تعتمد على الإظهار والإخفاء،والمراوغة والمخادعة بمكر عظيم،فهو بذلك قادر على أن يكون طويل النفس في المجادلة بالحق أو الباطل.يضاف إلى ذلك قدرات النطق والتعبير التي زوده الخالق بها، والتي يستطيع بها تصريف كلامه في كل باب من أبواب القول بالحق أو الباطل.
ونلاحظ أن في تاريخ الإنسان أنه مامن رسول أرسله الله إلى قوم إلا جادلوه بالباطل جدالاً عنيفاً،يقول تعالى:{وما نرسلُ المرسلينَ إلاّ مُبشرين ومنذرين ويُجادلُ الذين كفروا بالباطلِ لِيدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أُنذروا هُزُواً}[الكهف18].
ويقول تعالى:{مايُجادِلُ في آياتِ الله إلاّ الذين كفروا فلا يغرُركَ تَقَلُّبهم في البلاد* كذّبت قبلَهُم قومُ نوحٍ والأحزابُ من بعدهم وهَمّت كلُّ أُمّةٍ برسولهم ليأخذوهُ وجادلوا بالباطلِ لِيدحضوا بهِ الحقَّ فاخذتهم فكيفَ كانَ عقاب}[غافر 4 ـ 5].فدل هذا النص على أن كل أمة همت برسولهم ليأخذوه، وأن كل أمة جادلوا رسولهم بالباطل ليدحضوا به الحق”.
إن الدعوة إلى الله تتطلب من الداعية أن يكون على علم بما يدعو إليه، وعلى معرفة بأحوال وأوضاع من يدعوهم، وأن يلتزم آداب الإسلام في حسن المجادلة وخاصة منها:سعة الصدر، ورحابة الأفق، واللين في الخطاب، والرفق في الكلام،، وأن يكون موضوعياً في جداله وعرض دعوته بعيداً عن الانفعال والحماسة المفرطة، ونائياً عن النرفزة والعصبية الزائدة، مؤيداً دعوته وعرضه بالحجج القوية البينة والأدلة القويمة السليمة
إن ارتكاس وتجاوب الناس مع دعوة الحق يتجلى في واحد من الأصناف الخمسة التالية:
ـ الصنف الأول:يتميز بالتجاوب السريع والانصياع لدعوة الحق بدون مماراة أو مماطلة،وبدون لجاجة أو مكابرة، والقبول التام بها عن اقتناع وتَيقُّن وتثبت، والرضوخ لأدلة العقل والحجج القوية والبراهين العلمية.
نجد مثالاً لما ذكرنا عندما نطالع كتب السيرة والأعلام في إسلام العمرين: أبي بكر الصديق عبد الله بن أبي قحافة وعمر الفاروق رضي الله عنهما وأرضاهما،يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:”مادعوت أحداً إلا كانت فيه عنده كبوة ونظر وتردد إلا ماكان من أبي بكر بن أبي قحافة”.[سيرة ابن اسحق].
وإذا رجعنا إلى السيرة نقرأ إسلام سيدنا عمر الفاروق كما ذكره ابن اسحاق.
“أن عمر خرج يوماً متوشحاً بسيفه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورهطاً من أصحابه… قد اجتمعوا في بيت عند الصفا وهم قريب من أربعين بين رجال ونساء، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه حمزة بن عبد المطلب وأبو بكر بن أبي قحافة الصديق وعلي بن أبي طالب في رجال من المسلمين رضي الله عنهم… فلقيه نعيم بن عبد الله فقال له: أين تريد ياعمر؟فقال: أريد محمداً هذا الصابئ الذي فرّق أمر قريش وسّفه أحلامها، وعاب دينها، وسب آلهتها، فأقتله.فقال نعيم:والله لقد غرّتك نفسك ياعمر! أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمداً..أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم…قال: وأي أهل بيتي؟ قال ختنك(صهرك) وابن عمك سعيد بن زيد ابن عمرو، وأختك فاطمة بنت الخطاب، فقد والله أسلما وتابعا محمداً على دينه… فعليك بهما… قال.. فرجع عمر عامداً إلى أخته وختنه، وعندهما خباب في مخدع لهم أو في بعض البيت، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها، وقد سمع عمر حين دنا من البيت قراءة خباب عليهما،فلما دخل قال: ماهذه الهينمة(الصوت الخفي) التي سمعت؟قالا له:ماسمعت شيئاً! قال: بلى والله، لقد أخبرت أنكما تابعتما محمداً على دينه، وبطش بختنه سعيد بن زيد فقامت إليه أخته فاطمة لتكفّه عن زوجها،فضربها فشّجها فلما فعل ذلك قالت له أخته: نعم قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله فاصنع مابدا لك، فلما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ماصنع فارعوى، وقال لأخته: اعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرؤون آنفاً، أنظر ماهذا الذي جاء به محمد..وقرأ سورة طه، فلما قرأ منها صدراً قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه،فلما سمع خباب خرج إليه فقال له : ياعمر، والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصّك بدعوة نبيه، فإني سمعته أمس وهو يقول: اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب، فاللهَ اللهَ ياعمر.فقال له عند ذلك عمر: دلني ياخباب على محمد حتى آتيه فأسلم”.
نعم، إن عمر الفاروق رضي الله عنه كان ممتلئاً حقداً وغيظاً وغضباً، وكان ينوي إيقاع الشر بأخته وزوجها وبالرسول صلى الله عليه وسلم، وأراد أن يبطش بهم جميعاً، ولكنه بمجرد سماع كلام الله عزوجل يُتلى عليه ـ وهو العلامة في الجاهلية بأمور اللغة والشعر والبيان ـ تراه وكأنه مسّته صعقة كهربية غيّرت من كيانه، وكيف لا؟وكلمات الله عز وجل قد لامست قلبه بل وصلت حتى الشغاف، بعد أن كان مغطى بكنان وران من أوضار الجاهلية، وأزالت الغشاوة عن بصره، والتي كانت تعميه عن رؤية الحق، وأزاحت الغمامة عن بصيرته، والتي كانت تحجب عنه نورالهدى والإيمان،فإذا بهذا البركان من الغضب المشحون بالحقد والذي كان يغلي ويريد أن ينفث سمومه وحميمه ولهيبه فيمن حوله، يتحول بعد سماع آيات الله الكريمة إلى ينبوع حنان وأمان، وإذا بهذا السيف الذي كان مصلتاً على الإسلام وأهله، يتحول بقدرة الله عز وجل إلى سيف يحمي ذمار الإسلام ويدفع عنه البلايا وأهل الخصام والكفر.
إن عمراً رضي الله عنه وأمثاله هم أناسٌ قد جُبلوا على حبِّ الحق وأهله، ولكن يوجد بينهم وبين الحق والوصول إليه مسافات تقصر أوتبعد، ولكن ما أن يلاقوه أو يسمعوا به حتى يفعل بهم فعل الدواء المناسب الشافي، الذي أصاب جسماً عليلاً أضناه الداء، واحتار به الأطباء،فبمجرد أن يتناول الدواء يحصل الشفاء بإذن الله تعالى، وإذا بهذا الجسم المُضنى المُعنّى المُنهك أصبح أقوى مما كان عليه وأنشط، وإذا بنا نرى عمر الفاروق رضي الله عنه وكيف تحوّل إلى الإسلام عن قناعة واعتقاد ويقين، كيف تحوّل بالإسلام من إنسان مغمور في الجاهلية إلى إنسان من أعظم من عرفت البشرية عدلاً وحكماً ومساواةً وتحكيماً لشرع الله والغيرة الصادقة على دينه، والدفاع عن أهله..
يقول الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد رحمه الله في كتابه القيّم [عبقرية عمر]:”وأسلم الجاهلي الشريف كما كان ينبغي أن يسلم،وكما كان يقيناً سيسلم في مناسبة من المناسبات، فإذا العالم الإسلامي قد فُتحت فيه صفحة جديدة، صفحة يقرأ فيها القارئ قبل كل شئ ماذا يصنع الإسلام بالنفوس،ويعلم منها أن هذا الدين كان قدرة بانية منشئة من لدن المقادير التي تسيطر على هذا الوجود: كان قدرة تلابس الضعيف فيقوى،وتلابس القوي فتنمى قوته وتجري به في وجهته،وكان يداً خالقة حاذقة تأخذ الحجارة المبعثرة في التيه فإذا هي صرح له أساس وأركان، وفيه مأوى للضمائر والأذهان ويتابع رحمه الله:”رأت كيف يصبح العدل والحق طبيعة حياة، وكيف يصبح مخلوق من اللحم والدم وكأنه لايأكل طعامه ولايروي ظمأه إلا ليعدل ويعرف الحق، وكأنه لايصحو ولاينام إلا ليعدل ويعرف الحق، وكأنه لايتنفس الهواء إلا ليمتنع الظلم عن الناس وتدول دولة الباطل بين الناس، وكأنما العدل والحق دينٌ عليه يطالبه به ألف غريم، وهو وحده أقوى في المطالبة بهما من ألف غريم”.
ومثال آخر على سرعة الاستجابة لدعوة الحق في سيرة سعد بن معاذ رضي الله عنه.
حين علم سعد بن معاذ أن ابن خالته أسعد بن زرارة يجمع الناس في بيته ويأتي إليهم مصعب بن عمير ويدعوهم إلى الإسلام،ويدخلون في هذا الدين الجديد غضب،وقال ما هذا الذي يجري بين ظهرانينا،يفتن الضعفاء منا ويخرجهم من دينهم ودين آبائهم؟وأخذ حربته وذهب إلى ابن خاته أسعد بن زرارة ليقفا وجها لوجه أمام مصعب بن عمير..وحينما وقف أمام أسعد ومصعب،متشتما يتكلم بكلام شديد وعنيف،وكان رجلاً فيه شيء من الحدة قال:اتركوا ديارنا،قال مصعب:أو غير ذلك؟قال: وما غير ذلك؟قال: تجلس فتسمع منا فإن أعجبك ما قلناه وقبلته فالحمد لله،وإن كان غير ذلك عجلنا عنك ما تكره،قال سعد بن معاذ:أنصفت،فجلس،وتلا عليه القرآن،وعرض عليه الإسلام،قال أسعد ومصعب:فعرفنا الإسلام في وجهه قبل أن يعلنه،فانفرجت أساريره،وظهر التأثر،فقال ما الذي يطلب من الإنسان إذا أراد أن يدخل دينكم هذا،قال له تذهب فتغتسل وتتطهر وتطهر ثوبك وتصلي ركعتين وتشهد شهادة الحق…ففعل ذلك وشهد ألا لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.وعاد سعد بن معاذ إلى قومه الذين خرج من عندهم مغضباً،فحينما رأوه من بعيد قالوا لقد عاد سعد بغير الوجه الذي ذهب به،فجمع قومه في داره وقال لهم:يا بني عبد الأشهل تعلمون ما أمري فيكم،قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيا،وأيمننا نقيبا،قال: إن كلامكم عليّ حرام،رجالكم ونسائكم،حتى تؤمونوا بالله ورسوله،فقالوا جميعاً:آمنا بالله ورسوله،فلم يكن رجل أيمن ولا أبرك على قومه من سعد بن معاذ،فلم يبق في بني عبد الأشهل من رجل أو امرأة إلا دخل في الإسلام”.
هكذا يفعل الإيمان فعله في النفوس،ينقلها من حضيض الدنيا ووضاعة الثرى، إلى سنا المجد وسنام الذرى، ومن عمق الوهاد إلى أعالي النجاد، ومن إيثار الحياة، وقيد الشهوات، وتحكّم اللذات، إلى حرية الروح والفكر والذات.
إنه الإيمان الذي جعل من عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه ، وكان حديث مجتمعه في ملابسه وعطره ومشيته التي كانت تسمى المشية العمرية حديث الدنيا كلها في زهده وعدله وورعه وخلافته الراشدة.
وهو الإيمان الذي حوّل الإبن البار بأبيه الكافر،عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه ولعن أباه، إلى المسلم البار بدينه الجديد، يدفع ثمن بره استشهاده يوم موقعة اليرموك.
وهو الإيمان الذي حوّل قاطع الطريق والذي كان يخافه الناس ويخشون منه الفضيل بن عياض والذي كان لايرعوى بإهراق الدماء وسفك أرواح العباد، إلى أحد سادة التابعين والذين كانوا بعلمهم وخشيتهم وتقواهم يبعثون الروح من جديد في الأجساد، وذلك بعد أن استمع لقوله تعالى{ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله} [الحديد 16]
وهو الإيمان الذي حوّل الكاتب والشاعر المغمور سيد قطب رحمه الله، والذي كان في بداية الطريق لايعرف هدفه وغايته من هذه الحياة إلى إنسان يرسم معالم الطريق ويوضح الأهداف لأجيال وأجيال من بعده.
إنه الإيمان عندما يفعل فعله في النفوس، عندها تتحوّل الآكام والتلال إلى مرتفعات وجبال،وتتحوّل الصحارى والفيافي إلى واحات وارفة الظلال، وتتحوّل النفوس المغرقة في اليأس والإحباط، إلى عزائم وإرادات تنكر المستحيل ولاتعرف المحال.
إنه الإيمان الذي يحوّل أتباع الشيطان من بني الإنسان إلى عبيد للخالق الرحمن.
ـ الصنف الثاني:هم أناس يسعون إلى الحق قبل أن يسعى إليهم، ويترصدّون أتباعه، ويتحرّقون شوقاً لمعرفتهم واللقاء بهم.
هم أناسٌ من أصحاب الفطرة السليمة التي تأبى منكرات الواقع، وإن كان القوم قد تعاهدوها وتآلفوها.
هم أناسٌ من أصحاب العقول الراجحة التي تفكر بذاتها لذاتها ولغيرها، وترفض أن يُفكر الآخرون عنها ولها، ويطمسون نور معرفتها.
إنها نفوسٌ على معرفة غزيرة واتساع أفق ونقاء سريرة، وعمق بحث وسلامة منطق ونصوع حجة، وإيمان قلب، وإنصاف رأي، واستقامة سيرة.
ومن أبرز الأمثلة على هؤلاء الناس العظماء سيد الخلق والمرسلين وخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم.
تذكر لنا السيرة النبوية الشريفة أنه قد حُبّب إليه قبل البعثة بسنوات أن يخرج إلى غار حراء في مكة يخلو فيها لنفسه مقدار شهر ـ وكان ذلك في شهر رمضان ـ يتفكّر في خلق السموات والأرض، ويتدبر أمور الكون واستمر على ذلك إلى أن جاءه الوحي وأنزل عليه القرآن الكريم.
يقول العالم الجليل الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في كتابه [فقه السيرة]: “في هذا الغار المَهيب المُحجب، كانت نفس كبيرة تطل من عليائها على ماتموج به الدنيا من فتن ومغارم واعتداء وانكسار، ثم تتلّوى حسرة وحيرة لأنها لاتدري من ذلك مخرجاً ولاتعرف له علاجاً” ويتابع رحمه الله :”في غار حراء كان محمد عليه الصلاة والسلام يتعبّد، ويصقل قلبه وينُقّي روحه ويقترب من الحق جهده، ويبتعد عن الباطل وسعه،حتى وصل من الصفاء إلى مرتبة عالية انعكست فيها أشعة الغيوب على صفحته المجلوة، فأمسى لايرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح.في هذا الغار اتصل محمد صلى الله عليه وسلم بالملأ الأعلى”.
نعم، إنها النفس الكريمة، والفطرة السليمة، التي انفصلت عن حمأة الأرض ورنت إلى السماء، ونأت عن القوم ومايعبدون، وسمت إلى العلياء، وبرئت من واقع ملؤه الزيف والأوهام، ونشدت واقعاً من الصفاء والنقاء.
ومثال آخر من هذه الفئة العظيمة ” الباحثة عن الحق” يتمثل في قصة أبي الأنبياء خليل الرحمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام.حيث يقص علينا القرآن الكريم رحلة إيمانه ومعاناته، إلى أن ظهر شعاع الحق فسطع في قلبه وبصيرته وازاح عنها غياهب الغسق، وصفت روحه لمعرفته فانزاحت عنها ستائر المعاناة والقلق.
يقول الله عز وجل في كتابه العزيز{وكذلك نُري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين*فلما جنّ عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين*فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفل قال ياقوم إني برئ مما تشركون*إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين} [الأنعام 75 ـ 79].
يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله في الظلال: “إنه مشهد رائع باهر هذا الذي يرسمه السياق القرآني في هذه الآيات،مشهد الفطرة وهي للوهلة الأولى تنكر تصورات الجاهلية وتستنكرها، وهي تنطلق بعد إذ نفضت عنها هذه الخرافة في شوق عميق دافق تبحث عن إلهها الحق،الذي تجده في ضميرها، ولكنها لاتتبيّنه في وعيها وإدراكها، وهي تتعلق في لهفتها المكنونة لكل مايلوح أنه يمكن أن يكون هذا الإله، حتى إذا اختبرته وجدته زائفاً، ولم تجد فيه المطابقة لما هو مكنون فيها من حقيقة الإله وصفته،ثم وهي تجد الحقيقة تشرق فيها وتتجلى لها، وهي تنطلق بالفرحة الكبرى والامتلاء الجياش بهذه الحقيقة،وهي تعلن في جيشان اللقاء عن يقينها الذي وجدته من مطابقة الحقيقة التي انتهت إليها بوعيها للحقيقة التي كانت كامنة من قبل فيها”.
نعم، إنها الفطرة السليمة النقية تتحدى الفطرة المريضة الشوهاء،والمعرفة المتجردة المتجددة المتفجرة، تتصدى للعقول المتحجرة والعادات الحمقاء، والنفس الأبية الكريمة يتبدى لها بصيص النور من خلال غياهب ودياجير الظلماء.
إنه الحق يتجلّى لأبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام يرسل بألوان من الحكمة ينبلج بها الحالك، ويهتدي بدليلها السالك…إنه الحق يظهر شعاعه في النفس وكأنه الغرّة في الجواد الأدهم، والبدر في الظلام الأبهم.
ومثال ثالث رائع وجميل، يوضح لنا وبشكل باهر جميل خلاب، قصة هذه الفئة العظيمة من “الباحثين عن الحق” يتجلى في إسلام الصحابي الجليل سلمان الفارسي رضي الله عنه، والتي أنقلها بإيجاز من كتاب تهذيب الأسماء واللغات للعلامة الفقيه الحافظ الإمام النووي رضي الله عنه يقول: “وسبب إسلامه مشهور، وأنه هرب من أبيه وكان مجوسياً، فلحق براهب ثم جماعة من الرهبان واحد بعد واحد يصحبهم إلى وفاتهم، إلى أن دلّه الأخير على الذهاب إلى الحجاز وأخبره بظهور النبي صلى الله عليه وسلم، فقصده مع عرب فغدروا به وباعوه في وادي القرى ليهودي ثم اشتراه منه يهودي من قريظة فقدم به المدينة فأقام بها مدة حتى قدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه بصدقة فلم يأكل منها ثم بعد مدة أتاه بهدية فاكل منها ثم رأى خاتم النبوة، وكان الراهب الأخير وصف له هذه العلامات الثلاث للنبي صلى الله عليه ةوسلم. قال سلمان: فرأيت الخاتم فقبلته وبكيت”.
إنها قصة البحث عن الحقيقة وماتحمله في طياتها وثناياها من معاناة ومكابدة ومشاق، وقد يصل الأمر إلى استرقاق الجسم من أجل أن يتحرر الفكر وتنطلق الروح، وإلى بذل النفس والنفيس من أجل الوصول إلى راحة النفس والضمير.
نعم، إنها رحلة البحث عن الحق،والتي قد تحمل معها من المعاناة ماتحمله أشدّ الأمراض وأفتكها،لأن النفس تعاني وتشتد معاناتها، والضمير ممزق حائر بين نوازع الفطرة السليمة وبين نوازع الواقع السقيم،ومابين سلطان الارض وسلطان السماء..
إن الباحثين عن الحق، يعيشون وأيمّ الله عذاباً مُضنياً، وشقاءً متواصلاً، إلى أن يصلوا إلى نور الحق، وإشراقة الحقيقة، فإذا بالروح قد رُدّت إلى الجسم الفاني،وإذا بالماء يروي ذا الغلة الصادي، مَثلهم كمثل الذي حرّق جوفه لهيب الظمأ،وألهب جلده حريق ووهج الشمس، في صحراء قاحلة جرداء موحشة،أوشك على الهلاك، فإذا به أمام واحة وارفة الظلال غزيرة الينابيع من الماء النمير الصافي العذب، أو كالتائه في متاهات التيه التي لاتحدها الحدود، ولاتقوم فيها الأعلام، قد تشعبت فيها المسالك، وأحاطت بها المهالك، وضاقت السبل، وأعيت الحيل، قد قتله اليأس أو كاد،واشتد به القنوط أو كاد، فإذا به بعد بعد المسير أمام إشارة أو علامة تدله على الإتجاه الصحيح والطريق القويم.
وعندما تصل النفس إلى نور الحق، تُضحي الشقاوة سعادةً، والضيق سعةً، والبؤس نعيماً،والظلمة نوراً،ويشعر الباحث عن الحق بلذّة الشبع بعد صرير الجوع، والاستمتاع بنقيع الري بعد غليل الظما،وبراحة الجسم بعد سكينة الضمير وهدأة النفس، وعندها يتحول من لهيب الشك إلى برد اليقين،ومن انفعال الجوارح إلى هدوء القلب والجوانح،ومن ثورة التفكير إلى راحة البال والضمير.وإذا بالمثل الجديدة العليا قد استقرت وأخذت تبسط سلطانها على الأجساد،وإذا بالنفس تثوب إلى رشدها وتعود إليها ثقتها بذاتها، وإذا بالباحث عن الحق إنساناً جديداً، نافراً من الحياة القديمة، منصرفاً عنها، متأذياً بهاً، منصرفاً إلى الحياة الجديدة، متشبثاً بها، متلبساً لمبادئها، طالباً المزيد منها.
وتنتهي رحلة البحث عن الحق ومافيها من معاناة، لتبدأ رحلة الثبات على الحق والدعوة إليه، ومافيها من معاناة، ولكنها معاناة دون معاناة!!
الصنف الثالث:هم أناسٌ يقبلون على دعوة الحق بعد أن تعرض لهم أو يتعرضوا لها، وينقادون لها طوعاً، ويصبحون لها تبعاً، بعد فترة تَقصر أو تطول.
إنهم اناسٌ قد ارتبطوا بعقائد أوأديان، هي في حقيقتها مُحرّفة أو مزيفة، ولكنها في الحالتين مُضللة، وقد ارتبطوا بها بدءاً قناعة واعتقاداً، لأنهم لم يجدوا البديل لها، أو الأفضل منها، ولكن بدون أن تطمئن السرائر إليها،وبدون أن ترضى الضمائر عنها، وتظل القلوب منفتحة للبدائل الأخرى، وتبقى العقول مشغولة بالبحث عنها.
وعندما تعرض لهم دعوة الحق، فإن نفوسهم وإدراكاتهم وعقولهم وأحاسيسهم تُجري المقارنة تلو المقارنة، والمفاضلة بعد المفاضلة، بين ماينتسبون إليه، وبين مايُدعون للإيمان به،ويعيشون في نفوسهم وضمائرهم صراعاً بين تيارات عدة تتجاذبهم وتتقاذفهم.
ولكن تيار الحق ينتصر في النهاية، وتخضع له النفوس قبل الأجسام،والأرواح قبل الأبدان، ويصبحون من دعاته ويتحملون الأذى والعنت والمشقة من أعدائه.
ولعل أجمل مثال يجسد هؤلاء قصة الصحابي الجليل عبد الله بن سلام رضي الله عنه، والذي أنزل الله فيه وفي أمثاله من أصحاب الديانتين آيات قرانية{من أهلِ الكتابِ أُمَّةٌ قائمةٌ يتلون آياتِ الله آناءَ الليلِ وهم يسجدون*يؤمنونَ بالله واليومِ الآخر ويأمرونَ بالمعروف وينهونَ عن المُنكرِ ويُسارعونَ في الخيراتِ وأولئكَ من الصالحين*ومايفعلوا من خيرِ فلن يكفروهُ واللهُ عليمٌ بالمتقين}[ آل عمران 113 ـ 115]
وأنقل بإيجاز ماذكره عنه الدكتور عبد الرحمن عميرة في كتابه [ رجال أنزل الله فيهم قرآنا] يقول: “كان حبراً من أحبار اليهود وعالماً من علمائهم،يكنى أبا يوسف، وهو من ولد يوسف بن يعقوب صلوات الله عليهما،وكان حليفاً للأنصار، كان اسمه في الجاهلية الحُصين،فلما اسلم سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله،وكان يعلم كما تعلم يهود أن نبياً سيُبعث في آخر الزمان،وكانوا يترقبون بعثته وينتظرون ظهوره،وتسامعت الجزيرة العربية كلها بالرسول صلى الله عليه وسلم الذي يرفض الأصنام ويدعو إلى عبادة الواحد الأحد،ومنذ ذلك التاريخ وابن سلام يتنسم أخبار محمد صلى الله عليه وسلم ويترقب وصوله إلى يثرب مع المتلهفين،بعد أن جاءتهم الأخبار تترى بقرب وصوله إلى المدينة.ويصور لنا ابن سلام قصة إسلامه فيقول: لما سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم عرفت صفته واسمه وزمانه الذي كنا نتوكف(نترقب ونتوقع). فكنت مُسراً لذلك صامتاً عليه حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما نزل في بني عمرو بن عوف أقبل رجل حتى أخبر بقدومه،وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها وعمتي خالدة بنت الحارث تحتي جالسة،فلما سمعت الخبر بقدومه صلى الله عليه وسلم كبّرت، فقالت لي عمتي حين سمعت تكبيري: والله لو كنت سمعت بموسى بن عمران قادماً مازدت!فقلت لها: اي عمة، هو والله أخو موسى بن عمران وعلى دينه، بُعث بما بُعث به.فقالت: أي ابن أخي أهو الذي كنا نُخبر أنه يُبعث مع نفس الساعة؟فقلت لها : نعم، فقالت: فذاك إذاً.قال: ثم خرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأملت وجهه، فقلت: إنه ليس بوجه كذاب.وكان أول شئ سمعت منه: “أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام“[رواه الترمذي عن عبد الله بن سلام وقال حديث حسن صحيح]. فاسلمت،ثم رجعت إلى أهل بيتي فأمرتهم فأسلموا،قال: وكتمت إسلامي عن اليهود، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: يارسول الله، إن يهود قوم بهت، وإني أحب أن تدخلني في بعض بيوتك وتُغيبني عنهم،ثم تسألهم عني حتى يخبروك كيف أنا فيهم، قبل أن يعلموا بإسلامي،فإنهم إن علموا به بهتوني وعابوني. قال: فأدخلني رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض بيوته، ودخلوا عليه فكلموه وساءلوه،ثم قال لهم: أي رجل الحصين بن سلام فيكم؟قالوا: سيدنا وابن سيدنا وحَبرنا وعالمنا.فلما فرغوا من قولهم خرجت عليهم فقلت لهم: يامعشر اليهود، اتقوا الله واقبلوا ماجاءكم به، فوالله إنكم لتعلمون إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة باسمه وصفته،فإني أشهد أنه رسول الله وأؤمن به وأصدقه وأعرفه.فقالوا: كذبت، ثم وقعوا بي. وقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهم قوم بهت، أهل غدر وكذب وفجور. ثم أظهرت إسلامي وإسلام أهل بيتي، وأسلمت عمتي خالدة بنت الحارث فحسن إسلامها”.
نعم، إن العقيدة لاتهزم إلا بعقيدة أقوى منها، لا أقول بقوة السلاح، ولارهبة الجانب، ولاطغيان السلطان، ولكنها قوة الحق ينفذ إلى العقول كما يتفذ السهم في الجسم، وقوة البرهان والدلالات تبرز من خلال وضوح الكلمات وصدق النبرات،وهكذا بزَّ الإسلام العقائد الأخرى شمولاً وكمالاً وجمالاً، وتناسباً مع الفطرة، وتوازناً لمتطلبات الروح والجسد.
وإن من أهم مايساعد على قبول دعوة الحق عند عرضها على أصحاب العقائد والأديان الأخرى، أن تعرض بشكل واضح وجلي بدون انفعال أو تجريح وبدون مغالاة أو مواربة،وبدون مهادنة أو مداجاة.
ولعل من أجمل الأمثلة التي تؤثر في النفس موقف الصحابي الجليل جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه أمام النجاشي ملك الحبشة والذي استطاع من خلال صدقه وقدرته على الإقناع ورد حجج الخصوم بقوة البيان واللسان والجَنان أن يُبكي الملك ومن معه من البطارقة بعد أن كانت البداية توحي أنه سوف يتعرض وأصحابه للطرد والإبعاد وهو من خلال عرضه لدعوته لايُقر المعتقدات الأخرى الباطلة، ولايعترف بصحتها، وكيف وهي باطلة من الأساس أو محرّفة عن دين الله كما نزله على رسله، وهو أيضاً لاينافق ولايداهن ولايميع التميز العقيدي.
يقول الأستاذ الجليل محمد الغزالي رحمه الله في كتابه فقه السيرة: “عزَّ على المشركين أن يجد المهاجرون مأمناً لأنفسهم ودينهم، وأغرتهم كراهيتهم للإسلام أن يبعثوا إلى النجاشي وفداً محملاً بالهدايا والتحف،كي يحرم المسلمين وده، ويطوي عنهم بشره. وكان الوفد من عمرو بن العاص وعبد الله ابن أبي ربيعة ـ قبل أن يسلما ـ واستعان الوفد على النجاشي برجال حاشيته بعد أن ساقوا إليهم الهدايا، وزودوهم بالحجج التي يطرد بها أولئك المسلمون.قالوا : إن ناساً من سفهائنا فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دين الملك، وجاءوا بدين مبتدع لانعرفه نحن ولا أنتم…واتفقوا معهم أن يشيروا على النجاشي بإقصائهم. فلما فُوتح النجاشي في الأمر وأشير عليه بإبعاد القوم رأى أنه لابد من تمحيص القضية وسماع أطرافها جميعاً.ثم أرسل إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فدعاهم فحضروا وقد أجمعوا على صدقه، فيما ساءه وسره،وكان المتكلم عنهم جعفر بن أبي طالب .فقال لهم النجاشي:ماهذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا به في ديني ولا في دين أحد من الناس؟فقال جعفر:أيها الملك، كنا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونُسئ الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف،حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه،فدعانا لتوحيد الله وأن لانشرك به شيئاً، ونخلع ماكنا نعبد من الأصنام، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحمن وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء،ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وأمرنا بالصلاة والصيام… وعدد عليه أمور الإسلام. قال جعفر: فآمنا به وصدقناه وحرّمنا ماحرّمه علينا، وحللّنا ما أحل لنا، فتعدى علينا قومنا،فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان. فلما قهرونا وظلمونا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك، وأخترناك على من سواك، ورجونا أن لانظلم عندك.فقال النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله شئ؟قال: نعم. فقرأ عليه شطراً من {كهيعص}، فبكى النجاشي وأساقفته، وقال النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى يخرج من مشكاة واحدة. انطلقا والله لا أسلمهم إليكما أبداً”يخاطب عمرو بن العاص وصاحبه”. فخرجا، وقال عمرو لعبد الله بن أبي ربيعة: والله لآتينه غداً بما يبيد خضراءهم. فلما كان الغد قال للنجاشي:إن هؤلاء يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً. فأرسل النجاشي يسألهم عن قولهم في المسيح؟ فقال جعفر : نقول فيه الذي جاءنا به نبينا، هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.فأخذ النجاشي عوداً من الأرض وقال: ماعدا عيسى ماقلت قدر هذا العود.فنخرت بطارقته. فقال: وإن نخرتم. وقال للمسلمين: اذهبوا فأنتم آمنون،وما أحب أن لي جبلاً من ذهب وأنني آذيت رجلاً منكم، ورد هدية قريش وقال: ما اخذ الله الرشوة مني حتى آخذها منكم، ولا أطاع الناس فيّ حتى أطيعهم فيه. وأقام المسلمون عنده بخير”.
وانظر معي إلى النعمان بن مُقَرِّن المُزني رسول سعد بن أبي وقاص إلى كسرى فارس يزدجرد كيف يخاطبه ويدعوه إلى الإسلام:
“إن الله رحمنا فأرسل إلينا رسولاً يَدُلنا على الخير ويأمرنا به، ويُعرّفنا الشر وينهانا عنه،ووعدنا ـ إن أجبناه إلى مادعانا إليه ـ أن يعطينا الله خيري الدنيا والآخرة. فما هو إلا قليلٌ حتى بدّل الله ضيقنا سَعَةً وذِلّتنا عِزّةً، وعداوتنا إخاءً ورحمةً. وقد أمرنا أن ندعو الناس إلى مافيه خيرهم وأن نبدأ بمن يجاورنا. فنحن ندعوكم إلى الدخول في ديننا وهو دِينٌ حَسّنَ الحَسَن كُلّهُ وحضّ عليه،وقَبّحَ القبيح كله وحذّر منه، وهو ينقل معتنقيه من ظلام الكفر وجَورهِ إلى نور الإيمان وعدله.فإن أجبتمونا إلى الإسلام خَلّفنا فيكم كتاب الله وأقمناكم عليه، على أن تحكموا بأحكامه ورجعنا عنكم وتركناكم وشأنكم. فإن أبيتم الدخول في دين الله أخذنا منكم الجزية وحميناكم، فإن أبيتم إعطاء الجزية حاربناكم”.
نعم، إن هذا الحوار الهادئ المتزن الموضوعي، المستند إلى العلم والإقناع والحجة والأدلة الواضحة والبراهين الدامغة، والبعيد عن التعصب والذم، هو أحد الأسس الهامة في الحوار، وخاصة مع أصحاب المعتقدات والأديان الأخرى،ولقد كان لهذا الحوار العظيم جانبه وتأثيره الكبير حيث أسلم النجاشي، كما ذكرت كثير من الروايات، وقد صلى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم عندما أنبأه جبريل بموته.فقال لأصحابه: ” اخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم. فقالوا: ومن هو؟ فقال: النجاشي. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البقيع وكشف له من المدينة إلى أرض الحبشة، فأبصر سرير النجاشي وصلى الرسول صلى الله عليه وسلم أربع تكبيرات واستغفر له وقال لأصحابه استغفروا له ” [الروض الأنف ج3 ص262].
وربما أثر هذا الحوار في نفس الصحابي الجليل عمرو بن العاص رضي الله عنه والذي كان على رأس وفد المشركين إلى الحبشة، واستطاع أن يغير موقفه ويتحول إلى دعوة الحق قبل فتح مكة.
يقول الأستاذ عباس محمود العقاد رحمه الله في كتاب [عبقرية عمرو بن العاص]: “ومن دأب اصحاب هذه العقول أنهم يستنفدون أسباب الحيطة أولاً، ثم يتأملون ويفكرون، فلايمنعهم مانع أن ينفدوا إلى اللباب، وأن يدركوا ماهم أقدر على إدراكه من الآخرين، لولا ماكان يعوقهم من طبيعة التربص والانتظار، وإذا أدركوا فهم ذلك إنما يدركون على ديدن الحيطة والموازنة بين الأمور والمقابلة بين طريق وطريق”.
وفي العصر الحديث فإن هناك عديد من الأمثلة على اعتناق دعوة الحق من قبل كثير من علماء وساسة وأقطاب الغرب ومنهم المستشرق النمساوي محمد أسد”ليوبولد فايس” صاحب الكتاب المشهور ” الإسلام على مفترق الطرق، والزعيم السياسي الكبير روجيه غارودي والذي كان رئيساً للحزب الشيوعي الفرنسي والذي له كتابات عديدة في خدمة وعرض الدين الإسلامي والقضية الفلسطينية، ومنهم الطبيب الفرنسي المشهور الدكتور موريس بوكاي والذي ألف كتاباً رائعاً في المقارنة بين الأديان السماوية الثلاث ، وغيرهم وغيرهم…
إن التحول من إحدى العقائد أو الديانات الكتابية أو الوضعية إلى عقيدة الإسلام والتوحيد، ليس بالأمر السهل أبداً،بل هو في حكم أصعب الصعب،وإن اتخاذ القرار المُفضي إلى هذا التحول تسبقه شهور بل ربما سنوات من المعاناة والمكابدة،إنها معاناة الجسم والنفس والعقل، ومكابدة الجوانح قبل الجوارح قبل اتخاذ القرار وبعده.
إنها نفوسٌ مرتبطة واقعياً وحسيّاً بإحدى العقائد او الديانات،ولكنها ضمنياً وشعورياً تتطلع إلى عقيدة أخرى، إنه الصراع الداخلي مابين الارتباط الوهمي بالواقع الموجود ـ وما يجره على النفس من تبعات ومايحمله من تعقيدات ـ ومابين التطلع الشعوري إلى الواقع المنشود ومايمكن أن تتبعه من عقبات وتبعات.
إن هؤلاء الناس يعيشون حقاً غُمّة مُطبقة، وهماً متواصلاً،يودُّ المُبتلى بها لو تنفض لساعتها،لكنه غير قادر على التخلص منها،لأن هناك قوة خفية يحسها ويُذعن لها تصدر إليه أمرها، قد ملكت عليه حسّه وشعوره، فهو لايستطيع عنها انصرافاً، ولايملك لها خلافاً.
إنها نفوسٌ تعيش هذه المعاناة جبراً واختياراً،حتى تصل في قرارة نفسها وأعماق وجدانها إلى استبيان ملامح الطريق المستقيم، وحتى تصل إليه تعيش عراكاً لاتهدأ ثورته، وتعاني صراعاً لاتهنأ بالغلبة فيه، لأن النفس والروح في كل الأحوال هما الغالب والمغلوب!!!
ويستمر هذا الصراع في تلك النفوس العظيمة أيامأ وشهوراً، والأغلب أن يستمر سنيناً، وتعيش النفس هذا الصراع المرير المستمر الذي لاهوادة فيه ولامهادنة، تحاول الهروب منه حيناً من خلال إقناع الذات بالموجود دون المنشود، وبالمألوف دون المطلوب،وإن كان المألوف يقصر عن الغرض المطلوب.
فإذا غفت تلك النفوس كانت غفوة بسيطة، تتبعها يقظة طويلة من المعاناة والإرهاق تلازمها ملازمة الروح للجسد،وتتبعها كما يتبع الظل صاحبه،وحتى أثناء النوم والهجوع تُسلط عليها أحلاماً لاترحم، وهواجس لاتهدأ،ويُضحي صاحب هذه الحيرة مفرق النفس، مُشتت البال،مُضنى الفؤاد،الأفكار تلاحقه، والهواجس تطارده، لايجد لذّة في ساعات النهار، ولاراحة في سويعات النوم،وإذا هوأرق بالليل وقلق بالنهار،يعاني نزاعاً كأنما ينزع نفس صاحبه من نفسه، فيضيق به ذرعاً حيناً وتستولي عليه الحيرة حيناً آخر.والأمر يتفاقم ويتراكم، ويتجمع ويتوسع، حتى لامفر من اتخاذ القرار وإنهاء طريق المعاناة، لأن ثقالات الضمير قد أوجعت الجسم والنفس فأصبح مكللاً بالأغلال التي تثقل الرأس قبل أن تثقل الأقدام.
ولأن النفس أدركت ما في طريق الحق من مشاق وصعاب، وعرفت أن الوصول إلى الحق وقطف ثماره مسبوق دوماً بالآلام والعناء،وملحوق دوماً بالآمال والصعود والارتقاء،ومع ذلك فهي تسعى إليه على جناحين، جناح من العقل يعضده جناح من الشعور، وكل جناح تحركه وتغذيه وتقويه دوافع من الإحساس وبواعث من الضمير، وروافد من التفكير، تطير به من قرارة العجز والجمود في بحر لاساحل له ولاقرار ولاحدود، إلى بر من الأمن والأطمئنان،وعندها تعتنق النفس الحق وتعانقه،وتتقابل أشواق الباطن والأعماق مع ظواهر الواقع بدون حجاب، وتمتزج الآمال المنشودة مع الأماني المطلوبة بدون ضلالات الأفكار، أو اعوجاج الأهواء.وإذا بالعقل الواعي الرشيد قد أجج الرغبة، وأيقظ من الغفلة وألهب الخيال، فجاء بالقرار الأخير كالخادم الأجير، يحقق ماصبت إليه النفس وتاق إليه الخيال وانتهت إليه الرغبات.
نعم، إن اتخاذ القرار السليم ليقع في النفس المحزونة المكلومة، موقع المياه العذبة من الأرض المجدبة،وموقع قطرة الندى تلامس الزهرة المتعطشة، عند أوج الفجر وقبيل بزوغ الشمس، فإذا بالنفس وقد عاد إليها ابتسام الثغر، وإشراق الوجه، وتهلل الأسارير، وإذا بالآمال تحيا، وبالنشاط يتجدد، فكأنه المنهل الشافي لذي الغلّة الصادي.
إنها حقاً نفوس عظيمة، نبذت الهوى وانجذبت لأوامر العقل والنهى،وتجرّعت مرارة الحزم، وأنكرت ظني الفهم، وأخذت بيقين العلم.
إنها نفوسٌ تركت حيرة التردد وآفة الترقب، وامتشقت سيف الحق، وفوّقت نبال الإرادة استعداداً للمرحلة المقبلة، التي لن يكون الصراع فيها مع النفس المترددة، ولكنه صراع النفس الهادئة المطمئنة مع النفوس الأخرى المضللة،وصراع عقيدة التوحيد مع عقائد الزيف والتضليل.
نعم، إن أصعب ساعات العمر وأيامه هي ماقبل اتخاذ القرار،بل إن أجمل ساعات العمر وأيامه هي عند اتخاذ القرار، لأن النفس تنتقل عندها من مرحلة الطفولة المتعلقة بحبال الآخرين، إلى مرحلة الرجولة التي تتعلق بها حبال الآخرين.
وتبدأ مرحلة أخرى من مراحل الحياة، مرحلة الصراع مع رفاق الأمس أعداء اليوم، ومرحلة الصراع مع مجتمع الأهواء والضلالات، ومرحلة الصراع مع بعض ذوي القربى وأصحاب الوشائج، حيث تموت الروابط وتنقطع أواصر الرحم، وحيث تموت الأبوة والأمومة والأخوة أحياناً، وحيث تُسلط أبشع وسائل المحاربة والمقاطعة، وتستخدم أحقر الأساليب في التشويه والتسخيف والتضليل،وحيث تركب النفوسَ الأهواءُ،وتمتطي الرؤوسَ الاقدامُ، ويضيع الضمير، وينعدم التفكير.
ولكن صاحب الحق يمضي في هذا الطريق كأنه السهم لايلتفت يمنة ولايسرى،ولايظهر ارتياعاً لما ودّع ولا التياعاً لما فارق،قد وطّن النفس على احتمال الصعاب واقتحام العقاب، يستعذب آلام المرحلة القادمة ويستلذ تبعاتها، يقابل كل الصعوبات والتحديات برحابة الصدر، وسعة الأفق وصدق الإيمان وإخلاص الضمير، ويسعى بعد أن ارتاحت نفسه وهدأت روعته أن ينقل الجنة التي يحملها في صدره وينثر بذورها في صدور الآخرين.شعاره إذا تخلى عنه القريب، وجافاه الحبيب، وآذاه الغريب أن يقول” رضينا بالله وبرسوله وبالمؤمنين أولياء”.
الصنف الرابع:
هم اناسٌ بان لهم الحقُّ فبانوا عنه، وظهرت لهم دلائله فتظاهروا عليها!!استيقنته أنفسهم وجحدته أهواؤهم، وأدركته مداركهم ولفظته مشاعرهم، وابصرته بصائرهم وتعامت عنه أبصارهم،أدركوا أن فيه البرء والشفاء وتنكبوا سبيله وتبرؤوا منه كل البراء.والمثال الواضح على أمثال هؤلاء الوليد بن المغيرة المخزومي، ويمكن الرجوع إلى الموضوع بالتفصيل في مقالي” أفرأيت من اتخذ إله هواه”.
الصنف الخامس:
هم أناسٌ قد ألغوا عقولهم، وعطلوا مداركهم وافهامهم،وسدّوا منافذ قلوبهم وأبصارهم، اختاروا عبودية العقل والضمير للآباء والأجداد، ورفضوا نداء العقل وصدق الإحساس، وخضعوا لاستعباد الواقع المألوف، والعرف المعروف، وإن كان يسلب الإنسان إهم خصائصه ومقوماته، وخاصة حرية التفكير والتدبر.يعيشون مع افكار توارثها الأعقاب عن الأسلاف، والاحفاد عن الأجداد، وكأنها وحي سماوي منزل!!يعيشونها بضمير ميت وعقل معطل. ويمكن الرجوع إلى الموضوع بالتفصيل في مقالي” حسبنا ماوجدنا عليه آباءنا“.
أداب الحوار والمجادلة
يقول الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله:”إن القرآن الكريم كتاب حوار من الطراز الأول:
حوار بين الرسل وأقوامهم:{قالوا يانوحُ قد جادلتنا فأكثرتَ جِدالنا فأتنا بما تَعِدُنا إن كنتَ من الصادقين}[هود32].
حوار سيدنا موسى مع فرعون، في سورة طه وفي سورة الشعراء:{فأتيا فرعونَ فَقولا إنّا رسولُ رَبِّ العالمين*أن أرسل معنا بني إسرائيل*قال ألم نُرَبِّكَ فينا وليداً ولبثتَ فينا من عُمُركَ سنين}[الشعراء 15 ـ 17]والحوار طويل حتى الأية50.
والأنبياء يحاورون الله سبحانه:{ونادى نوحٌ رَبّهُ فقال رَبِّ إنّ ابني من أهلي وإنّ وَعدكَ الحقُّ وأنتَ أحكمُ الحاكمين* قال يانوحُ إنّهُ ليسَ من أهلك} [هود45 ـ 47]
والله عز وجل يحاور الملائكة:{وإذ قالَ رَبُّكَ للِملائكةِ إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً قالوا أتجعلُ فيها من يُفسدُ فيها ويسفكُ الدماءَ ونحنُ نُسبِّحُ بحمدكَ ونُقدّسُ لك قال إنّي أعلمُ مالاتعلمون}[البقرة30].
وأخيراً نرى حوار الله لأشرِّ خلقه إبليس :{قال انا خيرٌ منهُ خلقتني من نارٍ وخلقتهُ من طين}[الأعراف12، وص 76]،{قال فاخرج منها فإنّكَ رجيم* وإنّ عليكَ اللعنة إلى يوم الدين}.
فهذا يدلنا على أن الحوار في هذا الدين ليس أمراً غريباً،بل هو فريضة في هذا الدين، وأنا مأمورون أن نحاور مخالفينا{ادعُ إلى سبيل ربك..}الموعظة الحسنة مع الموافقين،والجدال بالتي هي أحسن مع المخالفين ،{ولاتجادلوا أهلَ الكتابِ إلا بالتي هي أحسن} فهذا مايعلمنا إياه القرآن العظيم”.
صفات الحوار الناجح وحسن المجادلة:
ـ الإصغاء وحسن الفهم
ـ اللين والرفق في الحوار
ـ عدم الانفعال والحدّة
ـ سعة الصدر وعدم التشّفي
ـ العلم بموضوع الحوار
ـ الموضوعية
ـ الإقناع والحجة
معوقات الحوار الناجح:
ـ عدم الاهتمام بالحديث
ـ الجهل
ـ اللجاجة
ـ الخصام واللدّد
ـ العصبية والحزبية
1 ـ الإصغاء وحسن الفهم:
رأس الأدب كله: حسن الفهم والتّفهم والإصغاء للمتكلم، ولذا قالت العرب قديماً” أساء َ سمعاً فأساءَ إجابة”، أي أن من يُخطئ السمع يُسئ الإجابة.
ومن حسن الآداب والإصغاء والفهم أن لاتغالب من تحاوره على الكلام، وإذا سئل غيرك فلا تجب عنه، وتقحم نفسك، وإذا حدّث أحد بحديث ألا تنازعه إياه ولاتُرهِ أنك تعلمه.
يقول الإمام الشعبي عن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان: ” والله ماعلمته إلا آخذاً بثلاث، تاركاً لثلاث: آخذاً بحسن الحديث إذا حدّث، وبحسن الاستماع إذا حُدِّث،وبأيسر المؤونة إذا خُولف، تاركاً لمجاوبة اللئيم، ومماراة السفيه، ومنازعة اللجوج.
وجاء في العقد الفريد[ج2 ص 236]:”قال أحدهم لإبنه: يابني! تعلّم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الحديث، وليعلم الناس أنك أحرص على أن تسمع منك على أن تقول، فاحذر أن تسرع في القول فيما يجب عنه الرجوع بالفعل، حتى يعلم الناس أنك على فعل مالم تقل، أقرب منك إلى قول مالم تفعل”.
ويقول عبد الله بن المقفع: ” من الأخلاق التي أنت جدير بتركها إذا حدّث الرجل حديثاً تعرفه ألا تسابقه إليه وتقتحمه عليه وتشاركه فيه، حتى كأنك تظهر للناس بأنك تريد أن يعلموا أنك تعلم ومثل الذي يعلم”.
ويقول عبد الحميد الكاتب[ أمراء البيان محمد كرد علي ص63]:”ولكن أنصت لمحدثك وأرعِهِ سمعك، حتى يعلم أن قد فهمت حديثه وأحطت معرفة بقوله، فإذا أردت الإجابة فعن معرفة بحاجته، وبعد علم بطلبته، وإلا كنت عند انقضاء كلامه كالمتعجب من حديثه بالتبسم والإغضاء فأجزى عنك الجواب وقطع عنك ألسن العتب”.ويقول أيضاً[نفس المرجع]:”وإذا كنت في مجلس مَلئِك، حيث حضور العامة مجلسك، فإياك والرمي بنظرك إلى خاص من قوادك،أو ذي أثرة عندك من حشمك، وليكن نظرك مقسوماً في الجميع، وإراعتك سمعك ذا الحديث، بدعة هادئة، ووقار حسن، وحضور فهم، وقلّة تضّجر بالمتحدث، واعلم أن تصفحك وجوه جلسائك وتفقدّك مجانسة قوادك من قوة التدبير وشهامة القلب وذكاء الفطنة، فتقعد عارفاً بمن حضرك وغاب عنك،عالماً بمواضعهم في مجلسك، ثم اغدُ بهم من ذلك سائلاً لهم عن أشغالهم التي منعتهم من حضور مجلسك، وعاقهم بالتخلف عنك”.
ويقول الأستاذ عصام العطار: “تعلم كيف تستمع إلى غيرك، وتستفيد من علمه وتجربته ورأيه، فالذين يتكلمون ولايستمعون، يفوتهم خيرٌ كثير، ويتصفون ببعض مايتصف به الجهلاء السفهاء السخفاء من قلة العقل والأدب والذوق”. وقال أيضاً: “إنك لاتكتسب الناس بالكلام بمقدار ماتكتسبهم بحسن الإصغاء، والاهتمام الصادق بما يقولون، وخيرٌ من الكلام أو الإصغاء وحده الحوار النزيه الأمين الذي تتكامل به المعارف وتتلاقح الأفكار ويُتوّصل من خلاله إلى مستوى أفضل من العلم والفهم والصواب والإبداع”.
وانظر معي إلى السنة النبوية الطاهرة تعطيك المثال الواقعي والحيّ لحسن الإصغاء والفهم عن المتحدث مهما كان معارضاً، مجافياً أو متحدياً.
جاء في السيرة: أتى عتبة بن ربيعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى جلس إليه فقال: يا ابن أخي.إنك منا حيث علمت من البسطة في العشيرة والمكانة في النسب وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرّقت به جماعتهم، وسفّهت به أحلامهم، وعِبت آلهتهم ودينهم، وكفّرت به من مضى من آبائهم، فاسمع عني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلّك تقبل منها بعضها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل يا أبا الوليد، أسمع.قال: يا ابن أخي: إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً،وإن كنت تريد به شرفاً سوّدناك علينا حتى لانقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً ملكّناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه لاتستطيع ردّه عن نفسك طلبنا لك الأطباء وبذلنا فيها أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه… حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه، قال: أفرغت يا أبا الوليد، قال: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستمع مني، قال : افعل. قال النبي صلى الله عليه وسلم:{بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم }[فصلت 1 ـ 2].
فداك أبي وأمي يارسول الله، نعم الرسول أنت، ونعم المحاور أنت، ونعم القدوة والأسوة أنت.
وإذا شعرت من محاورك أو محدّثك عدم الإصغاء، وقلة الإهتمام بالحديث فدعه، ودع محاورته ونقاشه، يقول الإمام علي رضي الله عنه: “من لم ينشط لحديثك فارفع عنه مؤونة الاستماع منك”. وقال ايضاً:” إذا كنت في مجلس ولم تكن المُحدّث ولا المُحدَّث فقم”.
وقال الحسن بن علي رضي الله عنهما:” حدّثوا الناس ما أقبلوا عليكم بوجوهكم”.
2 ـ الرفق واللين في القول:
يقول ابن عبد ربه[ العقد الفريد ج2 ص20]:”والكلام الرقيق مصايدُ القلوب، وإن منه لما يستعطف المستشيط غيظاً والمندِملَ حقداً، حتى يطفئ جرة غيظه، ويَسُل دفائن حقده، وإن منه لما يستميلُ قلبَ اللئيم ويأخذ بسمع الكريم وبصره،وقد جعله الله بينه وبين خلقه وسيلة ناقعة، وشافعاً مقبولاً،قال تبارك وتعالى{ فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم}، وأرسل الله محمداً خاتم الأنبياء وكان مما وصفه به{ لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيزٌ عليه ماعَنِتُم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوفٌ رحيم} [ التوبة 128].
يقول الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه:” من لانت كلمته وجبت محبته”.وقالوا :”يُدرك بالرفق مالايُدرك بالعنف، ألا ترى أن الماء على لينه يقطع الحجر على شدّته”.وقالوا: ” جرّبتُ اللِّين والسيف فوجدتُ اللِّين أقطع”.ويقول موفق الدين البغدادي: ” إياك والغلظة في الخطاب، والجفاء في المناظرة، فإن ذلك يذهب ببهجة الكلام ويُسقط فائدته ويُعدم حلاوته، ويجلب الضغائن، ويمحق المودات”.
ولابد من التواضع في النفس والخطاب، وعدم الاستعلاء والتعالي ،وإن من أبشع ألوان التكبر هو تكبر الدعاة على من يخاطبونهم ،فترى البعض يكلمون المدعوين أو المحاورين الآخرين وكانهم يتكلمون مع تلامذة صغار، وينظرون إليهم نظرة امتهان واحتقار، وقد يلجأ البعض منهم إلى الشتيمة والتجريح والتعريض!!وهؤلاء الأشخاص الذين يتصفون بهذه الصفات لديهم كثير من عقد النقص التي يحاولون إخفائها وراء قناع من “الأستاذية”و”الاستعلاء”و”التعالي” ليستروا نقصهم، وماهم ببالغيه.يقول صلى الله عليه وسلم:”وما تواضع أحد لله إلا رفعه“[رواه مسلم].
يقول سيد قطب رحمه الله في الظلال:”ومن الجدال بالتي هي أحسن أن يكون الحوار رقيقاً بلاتحامل على المخالف ولاترذيل له وتقبيح،حتى يطمئن إلى الداعي ويشعر أن ليس هدفه هو الغلبة على الجدل، ولكن الإقناع والوصول إلى الحق. فالنفس البشرية لها كبرياؤها وعنادها، وهي لاتنزل عن الرأي الذي تدافع عنه إلا بالرفق، حتى لاتشعر بالهزيمة. وسرعان ماتختلط على النفس قيمة الرأي وقيمتها هي عند الناس فتعتبر التنازل عن الرأي تنازلاً عن هيبتها واحترامها وكيانها.والجدل بالحسنى هو الذي يطامن هذه الكبرياء الحساسة ويشعر المجادل أن ذاته مصونة وقيمته كريمة، وأن الداعي لايقصد إلا كشف الحقيقة في ذاتها والاهتداء إليها. في سبيل الله، لا في سبيل ذاته ونصرة رأيه وهزيمة الرأي الآخر.
ويمكن الرجوع إلى موضوع صفات الداعية ومنها اللين في الخطاب والدعوة.
- ـ عدم الانفعال والغضب والحدّة في الخطاب:
تقول العرب: ” أوّلُ العِيِّ الإختلاط”، وهو الغضب،ومعناه أن الرجل إذا عجز عن دفع خصومه بحجة قاطعة أظهر الغضب ليجعله سبباً إلى التخلص منه، وله وجه آخر: وهو أنه إذا غضب عيَّ عن الجواب وامتنع عليه الخطاب، وأحضرُ الناس جواباً من لم يغضب.
وقالوا: ” وأحزم الفريقين الرُّكين”، والعاجز عن الجواب أيضاً ربما تعلّل بالضحك، وقالوا:” من عجزَ عن الجوابِ ضَحك من غير عُجاب كما جاء في جمهرة الأمثال للعسكري.
ويقول عبد الله بن المقفع: ” إذا حاججت فلا تغضب، فإن الغضب يدفع عنك الحجة، ويُظهر عليك الخصم”.
4 ـ العلم بما يُحدث ومن يُحدث:
يقول عبد الله بن المقفع: “إياك أن تبتدئ في مجلس لم تسبر عقول أصحابه”. ويقول أيضاً:”مما يدلُّ على علم العالم معرفته بما يدرك من الأمور، وإمساكه عما لايُدرك، وتزييّنه نفسه بالمكارم، وظهور علمه للناس من غير أن يظهر منه فخرٌ ولاعُجب، ومعرفته بزمانه الذي هو فيه، وبصره بالناس وأخذه بالقسط وإرشاد المسترشد، وحسن مخالفته خلطاؤه، وتسويته بين قلبه ولسانه، وتحريه العدل في كل أمر ورحب ذرعه فيما نابه، واحتجاجه بالحجة فيما عمل وحسن تبصره”.
وقالوا: ” إذا أردت أن تُفحمَ عالماً فأحضره جاهلاً“.سأل رجل الإمام مالك بن انس رحمه الله عن قوله تعالى{الرحمن على العرش استوى}، كيف هو الاستواء؟ فسكت الإمام ملياً حتى علاه الرّحضاء(أي تصبب منه العرق) ثم سُرّي عنه فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجبن والسؤال عنه بدعة، وإني لأظنك ضالاً ثم أمر به فأخرج من مجلسه”.
وهنا لابد من الانتباه إلى الأمور التالية فيما يتعلق بهذه النقطة:
1ـ إن الجاهل ليس كفؤاً للعالم، ومن لايعلم لايجوز له أن يجادل من يعلم وإلا كان الأمر قلباً للموازين يقول تعالى{ يا أبتِ إني قد جاءني من العلم مالم يأتك فاتبعني}[ مريم 43]، يقول العلامة الألوسي:” ولم يَسم أباه بالجهل المفرط وإن كان في مقتضاه، ولانفسه بالعلم الفائق وإن كان كذلك، بل أبرز نفسه في صورة رفيق له يكون أعرف بأحوال ماسلكاه من الطريق مع استعمال الرفق”.وقال الإمام الشافعي رحمه الله:” ماجادلت عالماً إلا وغلبته، وما جادلني جاهلاً إلا وغلبني”.
2 ـ الإحاطة بجزئيات وحيثيات وملابسات وأهداف القضية المطروحة للنقاش إحاطة تجعل المرء متمكناً مما يقول ومدركاً لأبعاد ومواقف الطرف الآخر، وكونه عالماً بما يجوز فيه الخلاف ومالايجوز فيه الاختلاف.
3 ـ إن من الخطأ الفادح أن يتصدى كل إنسان للدفاع عن الحق إن كان هو نفسه مع الباطل، وأن يتصدى للدفاع عن الحق وهو لايعرف الحق، وأن يتصدى للدفاع عن الحق وهو لايدرك مسالك الباطل وتلبساته، ففي هذه الحالة تقع الواقعة وتكون الطامة حيث ينتصر الباطل ويظهر الحق بمظهر المغيب، أو يستدرج حامل لواء الحق إلى طريق لايرضيه ومواقف لم يرتضيها”.
ويقول عبد الله بن المقفع:”إن سمعت من صاحبك كلاماً أو رأياً يعجبك، فلا تنتحله تَزييناً به عند الناس،واكتف من التزين بأن تجتني الصواب إذا سمعته وتنسبه إلى صاحبه، واعلم أن انتحالك ذاك سخطة لصاحبك، وأن فيه مع ذلك عاراً، فإن بلغ ذلك بك أن تشير برأي الرجل وتتكلم بكلامه وهو يسمع، جمعت مع الظلم قلة الحياء، وهذا من سوء الأدب الفاشي في الناس، ومن تمام حسن الخلق والأدب أن تسخو نفسك لأخيك بما انتحل من كلامك ورأيك، وتنسب إليه رأيه وكلامه، وتزبنه مع ذلك ما استطعت”.ويقول أيضاً:” فأكثر الناس من يحدث بما سمع ولايبالي ممن سمع،وذلك مفسدة للصدق ومَرزئة بالرأي،فإن استطعت ألا تخبر بشئ إلا وأنت به مصدق، وألا يكون تصديقك إلا ببرهان فافعل،ولاتقل كما يقول السفهاء، أُخبّر بما سمعت،فإن الكذب أكثر ما أنت سامع، وإن السفهاء أكثر من هو قائل”.
5 ـ الموضوعية في الحوار والإقناع ومقارعة الحجة بالحجة:
من المعروف أن تطويل المقدمات دليل على سقم النتائج، ولذا عند المحاورة والجدال لابد من الانتباه للأمور التالية:
ـ الإيجاز وعدم الإطالة
ـ الدخول في لب الموضوع وعدم الخروج عن مضمونه
ـ عدم التكرير في القول والأفكار وتجنب الاستطراد واللعب بالألفاظ.
ولابد قبل الدخول في الحوار أن يُحدّد الموضوع وجوهر المادة التي تناقش، وإلا وقعنا في مجادلة عمياء ليس لها هدف يُبتغى، وقد تجر إلى عواقب لاتحمد عليها، ولابد من الإيجاز وعدم الاسترسال، ولابد من ترتيب الأهميات فلا يُضحى بالأهم لما هو دونه من الأهمية، ولابد من التعريف بالأصوليات والكليات وعدم الخوض في الاختلافات والاجتهادات في المسائل الفرعية.ولابد من التزام آداب الحوار واللطف والرفق في الكلام مع الأدب الجم والتواضع والهدوء، وعدم إغاظة المحاور والاستهزاء به، وتجنب أسلوب التحدي ولو كان بالحجة الدامغة لأن الأصل هو كسب القلوب لا اكتساب المواقف، وعدم اللجاجة والعناد ، فإذا أصر المحاور على ذلك وأصر على عناده وولج في باطله وأصبح الكلام معه عبثاً فليقطع الجدال والحوار متذكراً قوله تعالى{ قُل يا أيُّها النّاسُ قد جَاءكُمُ الحَقُّ من رَبِّكُم فمن اهتدى فإنَّما يهتدي لنفسهِ ومن ضَلَّ فإنّما يَضِلُّ عليها وما أنا عليكُم بوكيل} [يونس 108]وقوله تعالى{ وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}.
إن جوهر الحوار والنقاش يقوم على تقديم البيّنة والحجّة القوية بدون تحدي ولا استهزاءولاتسفيه يقول تعالى{ لَم يَكُنِ الذينَ كَفروا من أهل الكتابِ والمُشركينَ مُنفَكِّينَ حتّى تَأتيَهُمُ البيَنة} [البينة 1] أي الحجة الظاهرة على تبيان الحق.جاء في التفسير:”إن أهل الكتاب والمشركين لم يكونوا ليتحولوا عما هم عليه من ضلال بغير بيّنة أي دليل واضح وبرهان ساطع على ضلالهم، وقد تمثلت هذه البينة في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم بكتاب من عند الله فيه الهدى والنور لمن آمن به واتبعه{ رَسولٌ من الله يَتلُوا صُحُفاً مُطَهَّرة* فيها كُتبٌ قَيِّمة}[البينة 2 ـ3]، وتذم الآيات علماء السوء الذين يختلفون اختلاف العداء ويتفرقون تفرّق التناحر من بعد ماجاءهم العلم والبينات{ وما تَفَرَّقَ الذينَ أُوتوا الكتابَ إلا من بعد ماجاءتهُمُ البيّنة} [البينة4 ].
وهناك مثال لآخر على الإتيان بالبينة والحجة الدامغة والبرهان الساطع، بلغة من ألادب والتلطف في البيان والقول وعدم التعنيف أو الاستفزاز، ومع ذلك وقف العناد والاستكبار دون القبول به يقول تعالى{ قُل من يَرزُقُكُم منَ السّمواتِ والأرضِ قُلِ الله وإنَّا أوإيَّاكُم لعلى هُدىً أو في ضلالٍ مبين} [سبأ 24].
يبدأ بأن يسألهم عمّن يرزقهم من السموات والأرض وهذا الأمر يلمسون لمساً، ويأمره أن يتولى هو الجواب ويقرر بأنه الله، ثم يأمره تعالى أن يقول لهم نحن وأنتم بين أمرين فإما أن نكون على هدى وإما أن نكون على ضلال مبين، ويبهم الحال ولايبين الذين على هدى ومن الذي في ضلال مبين، وإن في هذا الإبهام تلطفاً بهم لعله يفسح المجال أمام هؤلاء المنحرفين أن يراجعوا أنفسهم وأن يتبينوا الأمر على وجهته وحقيقته وأنهم إذا فعلوا ذلك بإنصاف سيصلون إلى الحقيقة، وتتابع الآيات{قُل لا تُسألونَ عمّا أجرمنا ولا نُسألُ عمّا تعملون} [سبأ 25] فالإجرام لاينسبه إلى المجرمين، وإنما يأمره أن يقول لهؤلاء الكافرين إن جرائمنا ـ لو كانت ـ لا تسألون أنتم عنها، ولانسأل عما تعلمون، ولم يقل عما تجرمون، وإنما يسند العمل إليه مطلقاً.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله:”الطرق الحكمية في السياسة الشرعية: البينة والدلالة والحجة والبرهان والتبصرة والعلامة والأمارة متقاربة في المعنى”.
ويقول عبد الله بن المقفع:” ثلاثة إن أقدموا على ثلاث من غير ثلاث فرأوا ماكرهوا فلايلومنّ إلا أنفسهم:من خاصم من غير حجة فَخُصم، أو صارع من غير قوة فَصُرع، أو حارب بغير عدة فَهُزم”.
وانظر معي إلى حادثة تحطيم الأصنام التي قام بها أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، حيث فيها الحجة القاطعة والموضوعية والإقناع مع الإيجاز بدون تطويل أوإسهاب، فهو قد حطم الأصنام إلا أحدها{فَجَعَلهُم جُذاذاً إلا كبيراً لهم لعلّهم إليه يَرجِعُون} [الأنبياء 58]، وعندما سألوه عمن فعل هذا أحالهم على هذا الكبير فاستنكروا ذلك منه وقالوا كلاماً كان يريد هو أن يقرره لهم{ قالوا أانتَ فعلتَ هذا بآلهتِنا يا إبراهيم* قالَ بل فَعلَهُ كبيرُهُم هذا فاسألُوهُم إن كانوا يَنطقون *فَرَجَعوا إلى أنفُسِهم فقالوا إنَّكُم أنتُمُ الظَّالمون *ثُمَّ نُكِسُوا على رُؤوسِهم لقد عَلمتَ ماهؤلاءِ يَنطقون* قالَ أفَتعبُدُونَ من دُونِ الله مالايَنفَعُكُم شيئاً ولايَضُرُّكُم *أُفٍ لكُم ولِما تَعبُدُونَ من دُونِ الله أفلا تعقلون}[الأنبياء 62 ـ 67]،وإنها الحجة المقنعة الملزمة وقِس عليها أيضاً ماذكره القرآن الكريم في آيان كثيرة ومنها قوله تعالى{ألم تَرَ إلى الذي حاجَّ إبراهيمَ في رَبّهِ أن آتاهُ اللهُ لمُلكَ إذ قالَ إبراهيمُ رَبِّيَ الذي يُحي ويُميتُ قالَ أنا أُحي وأُميتُ قال إبراهيمُ فإنَّ اللهَ يأتي بالشَّمسِ من المَشرقِ فأتِ بها من المَغربِ فَبُهِتَ الذي كفرَ والله لايهدي القومَ الظّالمين} [البقرة 258].
وفي السنة النبوية الشريفة لعل من أجمل الأمثلة وأروع العبر حول هذا الموضوع نستسقيها من غزوة حنين وتوزيع الغنائم وماجرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنصار.
يقول الأستاذ محمد أديب صالح حفظه الله[على الطريق ص145]:”حين وقعت غزوة حنين وكان من أمر الغنائم ماكان حيث رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لايقسم للأنصار، وجدَ البعض في أنفسهم من ذلك، وكان أن جمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطب فيهم وكان مما قاله ـ وهو سيد الحكماء ـ يومئذاك:” يامعشر الأنصار: ألم تكونوا ضُلالاً فهداكم الله، وعالةً فأغناكم الله، وأعداءً فالفّ بين قلوبكم! قالوا: بلى، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا تجيبون يامعشر الأنصار؟ قالوا: ومانقول يارسول الله وبماذا نجيبك؟ المَنُّ لله ولرسوله. قال: والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصُدقتم:جئتنا طريداً فآويناك، وعائلاً فواسيناك،وخائفاً فآمناك، ومخذولاً فنصرناك، فقالوا: المَنُّ لله ولرسوله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوجدتم في نفوسكم يامعشر الأنصار في لعاعة من الدنيا، تآلفت بها قوماً اسلموا،ووكلتكم إلى ماقسم الله لكم من الإسلام؟ أفلا ترضون يامعشر الأنصار أن يذهب الناس إلى رحالهم بالشاء والبعير وتذهبون برسول الله إلى رحالكم! فوالذي نفسي بيده لو أن الناس سلكوا شِعباً لسلكت شِعب الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار. اللهم ارحم الأنصار وابناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار… يقول راوي الحديث: فبكى القوزم حتى أخضلوا لحاهم. وقالوا : رضينا بالله رباً ورسوله قسماً ثم انصرف وتفرقوا”.
وانظر إلى هذه القصة من السيرة النبوية الطاهرة. روى الإمام أحمد بسنده عن أبي أمامة رضي الله عنه أن فتىً شاباً أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أئذن لي بالزنا يارسول الله.فأقبل الناس عليه فزجروه وقالوا مه مه. قال صلى الله عليه وسلم: ادن، فدنا منه قريباً. قال: فجلس. قال: أتحبه لأمك؟. قال: لا والله جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم. ثم قال: أتحبه لبنتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم. ثم قال: أتحبه لأختك؟ قال: لا والله جعلني فداك. قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم. ثم قال: أتحبه لعمتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم. ثم قال: أتحبه لخالتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداك قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم. قال: فوضع يده عليه وقال: اللهم اغفر ذنبه وطهّر قلبه وحصّن فرجه. ثم قال: فلم يكن الفتى بعد ذلك يلتفت إلى شئ”.
وكذلك يمكن الرجوع إلى قصة الصحابي الجليل الطيار ذو الجناحين جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه مع ملك الحبشة النجاشي فإن فيها الكثير من العبر والموعظة في كيفية استمالة قلوب الناس بالحكمة والموعظة الحسنة والإقناع والحجة والبرهان والدلائل الساطعة.
6 ـ الانتصار للحق لا للنفس:
إن من أهم مقومات وعوامل نجاح الحوار الإيجابي المنتج الفعال هو الوصول إلى الحق رغم كل العوائق والصعوبات، والانتصار للحق رغم كل المثبطات والمغريات، وخاصة منها مايتعلق بالإعجاب بالنفس، أو التعصب الذميم سواء منه الشخصي أو الحزبي أو لحركة من الحركات… والابتعاد كل البعد عن هوى النفس وماتوسوسه أحياناً من بطر الحق وغمط الناس، وما يغلف ذلك كله أحياناً من أغشية واقنعة ظاهرها صالح الإسلام والمسلمين، وباطنها أدواء وأمراض تختلف شدة ونوعية، كماً وكيفاً، من شخص لآخر، ومن جماعة لأخرى، ومن زمان إلى زمان.ويجب أن يكون رضى الله نية وعملاً في إحقاق الحق هو الهدف الأسمى والنبيل الذي نسعى إليه من خلال سلوك الطريق الصحيح المستقيم في الحوار والمجادلة بالتي هي أحسن.يقول الإمام الشافعي رحمه الله:”ماناظرت أحداً إلا دعوت الله أن يظهر الحق على يديه”.
والوصول إلى الحق يستدعي منك السماع إلى الخصم المحاور بكل تجرد وموضوعية، وفتح قنوات الحوار بدون خلفيات حزبية أو شخصية، فالهدف من الحوار وحسن المجادلة السعي الحثيث من خلال الحجة والإقناع والعلم والموضوعية للوصول إلى الحق، تفرح به وتسعى إليه ولو جاء على لسان خصمك، ولاتنتشي به وتُظهر الإعجاب بنفسك ومقدرتك وتجهل على خصمك إن جاء على لسانك.يقول الإمام الشافعي رحمه الله: ” ماناظرت أحداً فأنكر الحجة إلا سقط من عيني، ولاقبلها إلا هبته، وما ناظرت أحداً فماباليت مع من كانت الحجة إن كانت معه صرت إليه”. ويقول أيضاً:”ماناظرت أحداً قط إلا أحببت أن يُوفق ويُسّد ويُعان، وتكون عليه رعاية من الله وحفظه، وما ناظرت أحداً إلا ولم أُبال بين الله الحق على لساني أو لسانه”.وقال الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان رحمه الله لابنه:” يابني، كنا نتكلم وكل واحد منا كأن الطير على رأسه مخافة أن يزل صاحبه، وأنتم اليوم تتكلمون وكل واحد يريد أن يزل صاحبه”.
وقال الإمام الذهبي رحمه الله:”إن كان الجدال للوقوف على الحق وتقريره كان محموداً،ولإن كان في مدافعة الحق، أو كان جدالاً بغير علم كان مذموما(كتاب الكبائر).
وإذا كان الحق معك وأظهره الله على لسانك فالحذار الحذار أن تُبدي الإعجاب بنفسك والتشّفي بخصمك، فإن هذا قد يؤدي في بعض المواطن إلى رفض القبول بالحق والعزة بالإثم. سئل حاتم بن يوسف يوماً كيف تُقيم الحجة على كل من يُحاجّك في أي أمر؟قال: لأنني أفرح لمن يحاجّني إذا أصاب وأحزن إذا أخطأ ولا أجهل عليه”.وقالوا قديماً: ” إذا كلمت صاحبك فأخذته بحجّتك فَحّسن مخرج ذلك عليه ولاتظهر الظفر به”.
يقول الشيخ العلامة علي الطنطاوي رحمه الله في “البواكير”في مقال نشر عام 1932 تحت عنوان”نريد خصومة موضوعية لا شخصية:
“أعني بالخصومة الموضوعية:الخصومة في الرأي والمذهب،وأن تكره من خصمك رأيه أو تحارب هذا الرأي.وأعني بالخصومة الشخصية:أن يمتد هذا الكره من رأي خصمك الذي تراه أنت مخطئاً أو باطلاً إلى شخص هذا الخصم،فتعاديه وتبغضه.فنحن نريد أن تكون خصوماتنا الدينية أو السياسية أو العلمية خصومات موضوعية،الخلاف فيها على موضوع من الموضوعات:سواء أكان ذلك الموضوع مذهباً في السياسة أم اجتهاداً في الدين أم رأياً في العلم،نتجادل فيه ونتخاصم،فإذا التقينا مع صاحب هذا المذهب الذي نحاربه أو الاجتهاد الذي نخالفه أو الراي الذي ندفعه لم يكن بيننا عداوة ولا بغض،لأننا لا نحارب شخصاً وإنما نحارب رأياً.هذه مسألة مفروغ منها،قد يكون من الخطأ أن ندوّنها في مقالة وننشرها في الناس لولا أن الناس عندنا لايريدون أن يفهموها ولا أن يعملوا بها،على الرغم من صحتها ووضوحها.فنحن لا نفرق بين ال{اي وصاحب الرأي،ونحن لم نتعلم بعدُ حريّة النشر ولم نتعلم فن النقد الأدبي،بل إن لدينا كثيراً من الناس إذا هم عجزوا عن الجدال بالمنطق والحجة لا يعجزون عن الجدال بالسباب والعداوة،وإذا هم أرادوا الرد بالقلم لا باللسان والكف ـ وقلّما يريدون ذلك ـ فلا يردّون على الرأي الذي ساءهم،وإنما يتخذون ردهم وسيلة إلى نشر ترجمة مَن نقدهم ترجمة مشوَّهة مكذوبة،وإلى تحليله تحليلاً نفسياً أحمق يخلقونه فيه كما يريدون لا كما خلقه الله!وكل هذا بعيد عن هذه الخصومة الموضوعية التي ندعو إليها..
هذا مثال من الخصومة الموضوعية وأساسها أن تفرق بين الرأي وصاحبه،وأن تقتصر في دفاعك عن رأيك ومحاربتك لرأي خصمك على الحجّة التي تزيّف هذا الرأي من غير أن تتصل بصاحبهنوأن تحترم الرأي المصيب وإن كان صاحبه أسخف الناس،وأن تزدري الرأي الفائل ولو كان صاحبه أعقل الناس”.
يقول العلامة الشيخ محمد الخضر حسين(مقال الإنصاف الأدبي ـ):
“قلّة الإنصاف بحرٌ إلى التقاطع،والإنصاف يدعو إلى الألفة،ويؤكد صلة الصداقة،فإذا كنت في مجلس،فقرر الرجل رأياً واضح الحجة،فغلبك ما في نفسك،وحاولت أن تصوره للناس خطأً فقد ألقيت بينك وبينه عداوة،فإن خضعت لحجته،وأعربت له عن استحسان رأيه ،فقد مددت بينك وبينه سبباً من أسباب الالفة،إذ يشعر من إنصافك أنك لا تحمل له ضغناً،ولا تكره له أن ينال حمداً،فإن سبق هذا الإنصاف خصومة شعر بأنك خصم شريف،فيسعى لأن تنقلب الخصومة سلماً،ويتبدل التقاطع ولاءً.
وقلة الإنصاف تسقط احترامك من العيون،فإن من يراك تهاجم الآراء المؤيّدة بالحجة قد يحمل هذا الهجوم على قصر نظرك،وعجزك عن تمييز الباطل من الحق،فإن حمله على أنك تهاجمها،كراهة أن تكسب صاحبها حمداً وقع في نفسه أنك تتمنى لغيرك زوال النعمة،أو أنك حريص على الانفراد بخصال الحمد،فإن ذهب في تأويل أبائك لقبول الحق إلىة أنك تموه على الناس،حتى لا ينسبوا إليك نقيصة الخطأ،علم ما لم يكن يعلم من إيثارك النفس على الحق.
ولا احترام لمن لا يدرك الآراء المؤيدة بالحجة،أو يتألم من أن يرى غيره في نعمة،أو من يعمل للانفراد بالحمد من طريق التعسف والعناد،أو من يدافع عن نفسه نقص الخطأ بمحاولة قتل الحق.
قلة الإنصاف تُسقط احترامك من القلوب،والإنصاف يزيد احترامك في القلوب مكانة،ذلك لأن إنصافك للرجال يدل على صفاء سريرتك،ونقائها من أن تكون حملت شيئاً من دنس الحسد،أو حام بها الغلوُّ في حُبِّ الذات.
وقلة الإنصاف تحدث في العلم فساداً كبيراً،ذلك بأن من لم يقدر الإنصاف قدره،قد يرى بعض الآراء العلمية الصحيحة قد صدرت من شخص لا يرتاح هو لأن تكون قد صدرت منه،فيقابلها بالرد والإنكار،وقد تكون له براعة بيان،فيصرفها في تشويه وجه الحق وهو يعلم أنه حق،فيظهر الجهل على العلم ولو في فئة قليلة،أو دائرة صغيرة.
قلة الإنصاف تخذل العلم،وتطمس شيئاً من معالمه،والإنصاف يؤيد العلم،ويجعل موارده صافية سائغة.
ولو أخذ الإنصاف حظّه من نفوس جميع الباحثين عن الحقائق لقلّت مسائل الخلاف في كل علم،فيكون حفظ العلوم أيسر،ومدة دراستها والرسوخ فيها أقصر.
يقول عبد الله بن المقفع: “لاتلتمس غلبة صاحبك والظفر به عند كل كلمة، ولاتستطيلن عليه بظهور حجتك، فإن قوماً قد يحملهم حبّ الغلبة أن يتعقبوا الكلمة بعد ماتُنسى يلتمسون بذلك الغلبة والاستطالة على الأصحاب، وذلك في العقل ضعف وفي الأخلاق لؤم”.
وإذا كنت ياصاحبي لاتستطيع أن تفرح لخصمك إذا أظهر الله الحق على لسانه، ولا أن تكتم نصرك وإعجابك بنفسك إذا أظهر الله الحق على لسانك فدع الحوار ودع المجادلة وافعل كما فعل الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان رحمه الله حيث روي عنه كما جاء في كتاب إمام الأزهر محمد أبو زهرة رحمه الله قال: ” روي أن الإمام أبا حنيفة رضي الله عنه رأى ولده حماداً يناظر في المسجد فنهاه. فقال الولد: أما كنت تناظر؟ فال: بلى، ولكن كُنا كأنّ على رؤوسنا الطير من أن يخرج الباطل على لسان الخصم، بل كُنا نود أن يخرج الحق على لسانه فنتبعه، فإذا كنتم كذلك فافعلوا”.
ويجب أن تكون قنوات الحوار مفتوحة بدون خلفيات أو آراء مسبقة شخصية أو حزبية، وهنالك وللأسف الشديد بعض الدعاة يجادلون الآخرين لا من أجل الوصول إلى الحق بل من أجل إقناعهم برأيه، ويكون مُوّطناً نفسه على ذلك بدون أن يصغي للآخرين وبدون أن يستمع إلى أرائهم ويدرس مواقفهم ويتفهم شروحهم، بل تجده أثناء الحوار أو الجدال كالأسد المتوثب المتأهب تمام التأهب للوثوب والدفاع عن رأيه، لا لأنه حق وصواب، بل لأنه رأيه الشخصي وقناعته الذاتية ناسياً الحديث الشريف الصحيح: ” اللهم أرني الحق حقاً وارزقني اتباعه وأمتني عليه وأرني الباطل باطلاً وألهمني اجتنابه وكرّهني فيه“.
وقد يكون التعصب لشيخ أو زعيم أو قائد حركة أو جماعة…مايمنع من الانتصار للحق رغم معرفته به إذا جاء على لسان الخصم المحاور، وهذا إن دلّ على شئ فإنما يدل على الجهل الذي مابعده جهل، والتعصب الذميم الممقوت. يقول الإمام الماوردي في كتابه أدب الدنيا والدين:”ولقد رأيت من هذه الطبقة رجلاً يناظر في مجلس حَفْل، وقد استدل عليه الخصم بدلالة صحيحة فكان جوابه عنها أنه قال: هذه دلالة فاسدة، ووجه فسادها أن شيخي لم يذكرها!!!ومالم يذكره الشيخ لاخير فيه، فأمسك عنه المستدل تعجباً!!
وهناك التعصب لفئة معينة أو جماعة أو حركة من الحركات وهذا قد شوهد قديماً ونراه حديثاً في واقعنا المعاصر،حيث أن بعض من يدخل ساحة الحوار بقوالب فكرية معدّة سابقة وانتماءات حزبية مقررة سلفاً، وهو يدخل الحوار من أجل تقرير رأيه والأخذ به، والمدافعة عنه والتعصب له، وليس عنده الاستعداد أبداً أن يتنازل عن رأيه حتى وإن تبين له خطؤه.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:”كثير من المنتسبين إلى طائفة في العلم أو الدين أو إلى رئيس معظّم عندهم، فإنهم لايقبلون من الدين ـ لافقهاً ولارواية ـ إلا ماجاءت به طائفتهم”.ويقول الإمام الشاطبي رحمه الله في ” الاعتصام” :أكثر الجهالات إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جماعة من جُهال الحق، أظهروا الحق في معرض التحدي والإدلال، ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والإزدراء،فثارت في بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة، ورسخت في قلوبهم الاعتقادات الباطلة، وتعذر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهورفسادها”.ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين: “إذا وجدوا آية من كتاب الله توافق رأيهم أظهروا أنهم يأخذون بها، وإذا وجدوا آية نظيرها تخالف قولهم لم يأخذوا بها وطلبوا لها وجوه التأويل وإخراجها عن ظاهرها حيث توافق رأيهم، وهكذا يفعلون في نصوص السنة سواء إذا وجدوا حديثاً صحيحاً يوافق قولهم أخذوا به، وقالوا: لنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيت وكيت، وإذا وجدوا مائة حديث صحيح بل وأكثر تخالف قولهم لم يلتفتوا إلى حديث منها”.وجاء في بهجة المجالس لإبن عبد البر[ج1 ص97]: قال أبو الزناد لإبن شِبرمة في مناظرته له: من عندنا خرج العلم، فأجابه ابن شبرمة : ثم لم يعد إليكم!!”.
إن الحوار الحقيقي الناجح لابد أن يكون غايته الرئيسية وهدفه الأسمى الوصول إلى الحق بغض النظر عمّن يصدر عنه الحق، صغيراً أو كبيراً،عالماً أو متعلماً،تلميذاً أو استاذاً.أما أن يظن بعض الدعاة أنه الوحيد على الحق، وأنه يجب على الآخرين الالتزام بأرائه وافكاره، وأنه المعصوم وغيره على خطأ، فقد أخطأ وانحرف .وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”الكبر بَطر الحق وغمطَ الناس“[أخرجه أبو داود]، ويقول ابن عطاء الله السّكندري رحمه الله:” رُبّ معصية أورثت ذلاً وانكساراً خيرٌ من طاعةٍ أورثت عزاً واستكبارا”.
ومن جهة أخرى فإن كراهية المحاور للطرف الآخر، ورفض ماعنده ولو كان صواباً، قد يصل الأمر بين الإثنين إلى الصراخ والشتائم ووصم كل واحد منهما لللآخر بأقبح الألفاظ وأحطِّ العبارات، وربما وصل الأمر بينهما إلى التشابك بالأيدي والعراك.بينما القاعدة الشرعية تقول” الخلاف في الرأي لايُفسد للود قضية”.وقالوا أيضاً ” رُبّ كلمة قالت لصاحبها دعني”.
فلابد إذاً من الجدال بالتي هي أحسن،بلا تحامل على المخالف، ولاترذيل له، وعدم استعمال الألفاظ النابية معه،حتى يشعر المحاور الآخر أن من يحاوره لايسعى إلى الغلبة في الجدال، ولكنه يسعى للوصول إلى الحق، فالنفس البشرية لها كبرياؤها وأحياناً عِنادها، وهي لاتتنازل عن آرائها ومواقفها التي تعتنقها إلا باستعمال اللين والرفق في الكلام حتى لاتشعر بالهزيمة، وحتى لاتعتبر التنازل عن الرأي هو تنازلاً عن هيبتها واحترامها وكبرياؤها.
يقول الاستاذ عصام العطار حفظه الله:”كيف تسمعني وتفهمني وتستجيب لدعوتي وبيني وبينك سدود من الأهواء والشهوات وشواغل الدنيا؟ ليتني أستطيع أن أخترق هذه السدود الكثيفة إلى قلبك وفكرك ، فلابد أن تسمعني ولابد أن أسمعك إذا أردنا لأنفسنا النجاة”.
وأخيراً فإن غاية الأمر كله أن يكون الوصول إلى الحق والعمل به إرضاءً لله نية وعملاً هو الأصل والغاية والهدف المنشود،وإلا وقع الداعية في محذور قوله صلى الله عليه وسلم:”إن من يطلب العلم ليجادل به العلماء أو يماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه لم يجد رائحة الجنة” [أخرجه الترمذي]. وقال صلى الله عليه وسلم:” إذا رأيت شُحاً مطاعاً وهوىً متبعاً،ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع العوام“.[رواه أبو داود والترمذي].
وأخيراً انظر معي إلى هذا المثال الواقعي لأدب الحوار عند الاختلاف مابين الإمام مالك والإمام الليث بن سعد رحمهما الله[مجموعة السفير ج9 ـ 10 ص644]:”ومن أعظم مايروى عن الأئمة من أدب المحاورات في المسائل الأختلافية مادار بين الليث بن سعد ومالك رحمهما الله تعالى. فقد أرسل الليث إلى مالك رسالة يناقشه فيها في بعض ماخالفه من أراء ويظهر في رسالته الأدب الجم والذوق الرفيع والتواضع للحق.يقول الليث في رسالته:”سلام عليك، فإني أحمد الله الذي لاإله إلا هو، أما بعد، عافانا الله وإياك، وأحسن لنا العاقبة في الدنيا والأخرة،قد بلغني كتابك تذكر فيه من صلاح حالكم الذي يسرني، فأدام الله ذلك عليكم وأتمّه بالعون على شكره والزيادة من إحسانه،ثم قال: وإنه بلغك أني أفتي الناس بأشياء مخالفة لما عليه الناس عندكم، وإني يحقُّ عليَّ الخوف على نفسي لاعتماد من قبلي ما أفتيهم به وأن الناس تبع لأهل المدينة التي كانت إليها الهجرة وبها نزل القرآن،وقد أصبت بالذي كتبت به من ذلك ـ إن شاء الله تعالى ـ ووقع مني بالموقع الذي تحب، وما أجد أحدا ينسب إليه العلم أكره لشواذ الفتيا ولااشدّ تفضيلاً لعلماء أهل المدينة الذين مضوا،ولا آخذ لفتياهم فيما اتفقوا عليه مني،والحمد لله رب العالمين لاشريك له.ثم يذكر الليث طرفاً من الاختلاف مع بعض الأئمة في الرأي ومنهم ربيعة بن أبي عبد الرحمن إلا أنه على ما أخذ عليه، يقول في حقه:” ومع ذلك ـ نحمد الله ـ عند ربيعة خير كثير وعقل أصيل ولسان بليغ وفضل مستبين وطريقة حسنة في الإسلام، ومودة صادقة لإخوانه عامة، ولنا خاصة، رحمه الله وغفر له وجزاه بأحسن ماعمله.ويعود فيذكر طرفاً من المسائل الخلافية بينه وبين مالك ويناقشه فيها ويرد عليه رأيه إلا أنه يقول له بعد ذلك:” وقد تركت أشياء كثيرة من أشباه هذا، وأنا أحب توفيق الله إياك، وطول بقائك، لما أرجو للناس في ذلك من المنفعة،وما أخاف من الضيعة إذا ذهب مثلك، مع استئناس بمكانك وإن نأت الدار، فهذه منزلتك عندي ورأي فيك،ولاتترك الكتاب إليَّ بخبرك وحالك وحال ولدك واهلك ،كتبت إليك ونحن معافون والحمد لله ونسأل الله أن يرزقنا وإياكم شكر ما أولانا وتمام ما أنعمه به علينا، والسلام عليكم ورحمة الله”.
ويعجبني في نهاية هذه الفقرة أن أنقل ما ذكر أديب العربية الأستاذ مصطفى لطفي المنفلوطي رحمه الله(الأعمال الكاملة المجلد الأول ص132 تحت عنوان”أدب الماظرة”):
“إن لإخلاص المتكلم تأثيراً عظيماً في قوة حجته وحلول كلامه المحل الأعظم في القلوب والأفهام،والشاتم يعلم عنه الناس جميعاً أنه غير مختص فيما يقول،فعبثاً يحاول أن يحمل الناس على رأيه، أو يقنعهم بصدقه،وإن كان أصدق الصادقين.أتدري لم يسب الإنسان مناظره؟لأنه جاهل وعاجز معاً، أما جهله فلأنه يذهب في واد غير وادي مناظره وهو يظن أنه في واديه ولأنه ينتقل من موضوع المناظرة إلى البحث في شؤون المناظر وأطواره وصفاته وطبائعه، كأن كل مبحث عنده مبحث”فسيولوجي”،وما أعجزه فلأنه لو عرف إلى مناظره سبيلاً غير هذا السبيل لسلكه،وكفى نفسه مؤونة ازدراء الناس إياه وحماها الدخول في مأزق هو فيه من الخاسرين،محقاً كان أم مبطلاً.
لايجوز بحال من الأحوال أن يكون الغرض من المناظرة شيئاً غير خدمة الحقيقة وتأييدها،وأحسب أن لو سلك التاب هذا المسلك في مباحثهم لاتفقوا على مسائل كثيرة هم لايزالون مختلفين فيها حتى اليوم، وما اختلفوا فيها إلا لأنهم فيما بينهم مختلفون.يسمع أحدهم الكلمة من صاحبه ويعتقد أنها كلمة حق لاريب فيها،ولكنه يبغضه فيبغض الحق من أجله فينهض للرد عليه بحجج واهية واساليب ضعيفة وإن كان هو قوياً في ذاته،لأن القلم لايقوى إلا إذا استمد قوته من القلب،فإذا جئ بالحجج والبراهين لجأ إلى المراوغة والمهاترة،فيقول لمناظره مثلاً:إنك جاهل لا يعتد برأيك أو إنك مضطرب الرأي لا ثبات لك،تقول اليوم غير ما قلت بالأمس،وهنالك يقول له الناس: رويداً، لاتخلط في كلامك، ولا تراوغ في مناظرتك،ولا شأن لك بعلم صاحبك أو جهله،فإنه يقول شيئاً، فإن كان صحيحاً فسّلم به،أو باطلاً فبّين لنا وجه بطلانه،وهبه قولاً لا تعلم قائله،ولا شأن لك باضطراب صاحبه وثباته، فربما كان بالأمس على رأي تبيّن له خطؤه اليوم،والمرء يخطئ مرة ويصيب،فإذا ضاق بمناظره وبالناس ذرعاً فرّ إلى أضعف الوسائل وأوهنها،فسبّ مناظره وشتمه وذهب في التمثيل به كل مذهب، فيسجل على نفسه الفرار من تلك المعركة والخذلان في ذلك الميدان”.
معوقات الحوار
إن أهم هذه المعوقات هي:
ـ الخصام واللدّد
ـ اللجاجة والمعاندة والمكابرة
ـ العصبية والحزبية
1ـ الخصام واللدّد:
جاء في الحديث الشريف عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”إن أبغض الرجال إلى الله الألدُّ الخَصِم“[رواه الشيخان والنسائي].والالدّ: شديد الخصومة.
يقول الأستاذ مصطفى صادق الرافعي رحمه الله[تحت راية القرآن ص160]:”إن معنى الخصام واللدّد أنهم سفهاء أهل تكذيب وعناد ومكابرة على من يريد هدايتهم وإرشادهم، لايمكن صرفهم عن رأي يكون فيه الهوى كما لايمكن مثل ذلك في الجاهل الأحمق المُصّر المُبتلى بالاستهتار والشك، فإن أصل الألدّ في اللغة: الشديد اللدد أي صفحة العنق، فلايلوي عنقه في الصراع، وذلك من أكبر الأدلة على وثاقة تركيبه الجسماني، فإن عنق المصارع ثلث المصارع”.
ولعل من أوضح الأمثلة القرآنية حول هذا التعنت واللدد هم أهل قريش عندما طلبوا من النبي العربي محمد صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم ـ وهم اهل اللغة العربية ـ أن ينزل عليهم قرآناً اعجمياً، كيف ينزل عليهم كتاباً بغير لغتهم؟لايفهمه ولايفهمونه!!يقولون له:{ائت بقرآن غير هذا أو بدِّله}[يونس 15] فيجيبهم الله عز وجل{ولو جعلناهُ قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فُصِّلت آياتهُ أأعجميٌّ وعربيٌّ [فصلت 44]كيف يكون القرآن أعجمي والمنزل عليه عربي؟!ويقول لهم تعالى مفنداً حججهم وتعنتهم ولجاجاتهم{وما أرسلنا من رسولٍ إلاّ بلسانِ قومهِ لِيبينَ لهم} [ابراهيم4] وقال تعالى{ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين}[الأنعام7]
2 ـ اللجاجة والمعاندة والمراء والمكابرة:
جاء في الحديث الشريف: ” أنا زعيم ببيت في ربض الجنة وبيت في وسط الجنة وبيت في أعلى الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً“[رواه أبو داود عن معاذ بن جبل ]وقال الألباني رحمه الله: للحديث شواهد يرتقي بها إلى درجة الحسن. ومعنى الحديث: أي رغم ثبوت الحق لايكون إثباته عن طريق الجدال والمراء.
يقول الأستاذ عباس محمود العقاد رحمه الله [التفكير فريضة إسلامية المجلد الخامس ص306]:”الجدل: بحث عن الغلبة والإلزام بالحجة، وقد يرمي إلى الكسب والدفاع عن مصلحة مطلوبة، وقد يتحرى مجرد المسابقة للفوز على الخصم وإفحامه في مجال المناقضة واللجاج، ويتابع:” هذه الصناعة ـ صناعة الجدل ـ ليست في شئ من المنطق القويم للبحث عن الحقيقة، ولكنها صناعة يتعلمها طالبها وهو عالم أنه ينشد الغلبة على خصومه في المناقشة بالحق أو بالباطل، فإن لم يتعلمها عامداً هذا العمد فقد ينساق إليها بطبيعة الجدل وشهوة المغالبة، فيؤثر المغالطة على المصارحة، ويصر على المكابرة لجهله بالحقيقة أو مكابرة فيها، ويتابع العقاد:”وقد ضرب المثل “بالجدل البيزنطي” في طول اللجاجة وسوء العاقبة وقلة الجدوى لطلاب الحقيقة والصلاح، ولكن البيزنطيين لم يكونوا بدعاً في هذه الآفة ولم ينفردوا بالجدل على غير طائل كلما فتحت أبوابه على مصطلحات المنطق أو على غير مصطلح مفهوم غير اللدد والعناد، فإن بني اسرائيل قد سبقوا البيزنطيين إلى أمثال هذه المجادلات الخاوية إلا من الباطل والشحناء… ويتابع:”فلايزال الجدل حيث كان مقترناً بأعراضه الوبيلة وأشهرها وأوبلها ثلاثة:
ـ إغراء الناس بالمماحكة بالقشور دون الجوهر واللباب من حقائق الأمور
ـإثارة البغضاء والشحناء على غير طائل ولعاً بالغلبة والاستعلاء بدعوى العلم والصواب
إشاعة الخلاف بين الآراء جماعة بعد جماعة إلى غير نهاية يقف عندها ذلك الخلاف فتنقسم الأمة إلى شيع وتنقسم الشيعة إلى فرق، وتنقسم الفرقة إلى شعب وفروع حتى لاتبقى فئة واحدة على رأي واحد وإن قلت في العدد وصفرت في منزلة الفكر”. انتهى كلام العقاد رحمه الله.
نعم، وهكذا يطول الجدال وتقرع الحجة لابأختها ولكن ببنت عمها، ويتم الاستطراد من موضوع إلى موضوع لأقل مناسبة أو بدونها،وتثار مسائل كثيرة لا ارتباط بينها ولا اتصال تعالج معالجة سطحية تلامس القشور دون اللباب، ويكرر كل من التحاورين ماقال وقيل‘ وتتشعب الآراء حتى يصعب حصرها وحتى ينسى المتحاورون في نهاية الأمر على ماذا كان اجتماعهم وعلى ماذا كان اختلافهم!!
إن أصحاب الرأي والجدال هؤلاء تراهم غالباً يبتعدون أثناء الجدال عن المنهج الصحيح وعدم الاهتمام بأمور العقيدة والأصول،وإنما ترى الواحد منهم يهوى الخوض فيما يهواه الناس أو تهواه النفس، وبعضهم قد يناقش في مسائل عقيمة لاجدوى منها وهمّه فقط المناظرة والجدال والكلام من أجل الكلام، وترى البعض منهم يصرف همه ووقته وعمره في مثل هذه المسائل والمباحث ويترك ما هو أهم منها للمجتمع والبشرية.
وهؤلاء القوم تجدهم غالباً يدخلون في توافه الجزئيات ويتركون الأصول، ويتكلمون في فروع الفروع تاركين الكليات والجذور، فتراهم يتكلمون مثلاً في كيفية وضع اليد أثناء الصلا’ أو مدى طول شعر اللحية أو قصرها، أو الالزام أو عدمه بلبس الملابس العربية في الدول الأوروبية، وهل يجوز الأكل بالملعقة والسكين والشوكة أو لايجوز، والجلوس على الكرس والطاولات أثناء الطعام أو على الأرض فقط… وينسى هؤلاء أن الخلاف الفقهي في هذه المسائل الفرعية لايفسد للود قضية.
يقول الأستاذ أحمد أمين[فيض الخاطر ج7 ص323]:”أما السر في هذه الفوضى كلها، وهذا الجدل الطويل كله؟سره: في قلة العقل فأقل الناس عقلاً أكثرهم كلاماً، ومن لم يحاسب نفسه على مايقول قال مايشتهي.وسره:في عدم ضبط النفس، فالنفس إذا لم يكن لها ضابط من عقل وحكمة شردت وذهبت كل مذهب.وسره:في الراي العام الذي لايحتقر الجَدِل الخصم بل هو يطري طول لسانه وكثرة لجاجه وشدة إمعانه.وسره: في عدم تقويم الزمان، فلابأس عند الناس أن تضيع الساعات في كلام فارغ وجدل تافه، فهم يتفكهون بهذا كمايتفكهون بلعب النرد والشطرنج. وسره: في تشتت العقلية، فالتفاهم إنما يكون حين تتقارب العقلية، ولكنك تنظر فترى أميين بجانب متعلمين، وهؤلاء المتعلمون لاوحدة بينهم”.ويقول أيضاً رحمه الله[فيض الخاطر ج1 ص2 ـ 3]:”الناس إنما يخضعون لذي العقيدة وليس ذوو الرأي إلا ثرثارين، عُنوا بظواهر الحجج أكثر مما عُنوا بالواقع،ولايزالون يتجادلون في أرائهم حتى يأتي ذو العقيدة فيسكتهم، قد يجود الراي وقد ينفع وقد ينير الظلام وقد يظهر الصواب، ولكن لاقيمة لذلك كله مالم تدعمه العقيدة،وقلّ أن تُؤتى أمة من نقص في الرأي ولكن أكثر ماتؤتى من ضعف في العقيدة، بل قد تؤتى من قبل كثرة الأراء أكثر من أن تؤتى من قلتها”.
إنه من العبث والحماقة أن يتصدى الداعية المخلص الذي يطلب الحق ويسعى لإيصاله إلى الناس من محاورة وجدال أمثال هؤلاء من الناس، يقول الأستاذ أحمد أمين رحمه الله[فيض الخاطر ج7 ص319]:”في الناس قوم لاينفع فيهم الجدل والمناقشة، فمن الحمق أن نضيع وقتنا وجهدنا في جدلهم ومناقشتهم. إن الجدل الناجح والمناقشة التي تؤدي إلى نتيجة معناها أن هناك شيئاً من الأساس متفقاً عليه، ومن المبادئ مسلماً به،فإذا لم يكن أساس ولامبادئ، فالجدل ضرب من العبث.إذا كان خصمك يريد الغلبة بالحق والباطل، وأداته في ذلك طول اللسان وقوة الحنجرة، فما معنى مناقشته!إنك في مناقشته تحتكم إلى المنطق وهو لايؤمن بمنطق،وتحتكم إلى وقائع، وهو يكذبها، وإن صدقها فسّرها تفسيراً يخدم أغراضه ويوفي بغايته، وإن سلكت مسلكاً سلك غيره عناداً فكيف تناقشه؟ ولم تناقشه؟ كيف تلتقيان إذا كان يريد الغلبة وتريد الحق، ويسلك مسلك التهويش، وتسلك طريق المنطق، وتلتزم أنت صحة الواقع ولايلتزم هو شيئاً، ففيم الجدل؟!وإذا كان خصمك قد وضع نصب عينيه في جدله أن يصل إلى منفعته الشخصية، ووضعت نصب عينيك أن تصل إلى الحق حيث كان، فكيف تلتقيان؟ثم هناك من يتحجر عقله على عقائد اعتقدها، أو مبادئ اعتنقها، فكيف تليّنه بعد هذا التحجر؟ أو تكسبه المرونة بعد هذا التصلب؟إنما ينفع الجدل قوماً يبرهنون فيعتقدون، لاقوماً يعتقدون ثم يبرهنون”.
ويقول الأستاذ عبد الرحمن شكري(مجلة الرسالة العدد313):
“وإنما شرّ الحديث ما كان لجاجة وحباً للظهور بالعظمة وأثرة ورغبة في الانتصار وفي إرغام الناس على إجلال فكر.فإن بعض الناس ـ حتى بعض أفاضلهم وعلمائهم ـ يرتاد المجلس كي يزهى بعلمه وينتصر بالجدل.وبعض الذين لم ينالوا قسطاً كبيراً من التعليم يشعر بنقص إذا جالس الناس فيعمد إلى إخفاء ما يشعر به من نقص بما يظهر ذلك النقص،فتراه يحوّل الحديث من الموضوعات الشائعة المبتذلة إلى الأمور العلمية ويحاول أن يسيطر على الحديث باللجاجة وإدعاء العلم والإصرار على التهجم على مخالفه،وقد ينفعل انفعالاً نفسياً شديداً،وليس انفعاله من شدّة انتصاره للحق ولا من ذعره أن يسود الباطل العالم،وإنما انفعاله من غيظه إذا لم يُمكن من الانتصار في الحديث ومن إسكات مجادله كي يوهم نفسه وكي يوهم جلساءه أنه لا يشعر بنقص علمه،وقد يفطن جلساءه إلى أن باعثه على اللجاجة والانفعال شعوره بنقص تعلمه ولا يفطن هو إلى فطنتهم لنقصه فيضع نفسه في منزلة الخزي من غير داع.
ويتابع الأستاذ عبد الرحمن شكري:”وتشبث المرء بالحق في المجالس واجب،أما إعلان هذا التشبث بالجدل الذي يؤدي إلى الخصومة والعداوة والبغضاء والتضارب أو التقاتل فمن الضعف وقلة كبح النفس والعجز عن ضبط اللسان.وهذا العجز ليس من الحكمة في شيء بل هو من الطيش الذي قد يندم المجادل عليه ولو كان الحق في جانبه،فإن أحاديث الناس في مجالسهم ليس فيها ما يزكي اللجاجة التي تدعو إلى الخصومات.ويستطيع الجليس إذا خشي أن يُعدّ سكوته عن الجدل واللجاجة مشاركة في خطل الرأي أو إثم الغيبة أن يترك ذلك المجلس وأن ينصرف عنه إلى غيره بعد إعلان رأيه في رفق وتؤدة وحلم.
وبعض الناس قد طبع على أن يجادل لنصرة مايراه حقاً حتى ولو أدت المجادلة إلى المهاترة أو المضاربة،وكأنّما يشعر شعوراً غامضاً أن مصير الدنيا وبقاء الكون موقوف على انتصاره لما يراه حقاً،وقد يكون هذا المجادل اللجوج صادق النية مخلصاً في شعوره كأنه لم ير كيف أن العلماء والفلاسفة يأتون كل جيل أو كل عصر بآراء تخالف ما أتى به أسلافهم،والحياة قائمة بالرغم من خطأ السابقين أو اللاحقين،والسماء لم تنهد ولم تسقط على الأرض والدنيا على حالها يخالطها كثير من الخطأ، فلأي أمر إذاً يتضارب الناس في مجالسهم أو يتخاصمون من أجل اللجاجة والجدل.
ويتابع:”على أن في الناس من يحترف الجدل مكراً ودهاء كي يكون اعترافه بأصالة رأي مجادله أوقع وكي كي يكون انهزامه في الجدل أحب إلى جليسه الذي يجادله،وكي يفهم ذلك الجليس أن قوة بيانه ورجاحة حجته وفرط ذكائه هي الصفات العالية والهبات النفسية النادرة التي مكنته من إقناع ذلك المجادل الذي إنما يجادل كي ينهزم وكي يمدح صفات جليسه العقلية تقرباً إليه لحاجة في نفسه، وهذه وسيلة من وسائل الدنيويين الذين يريدون النجاح في الحياة.
وهناك نوع آخر من الجدل يثيره خبيث يعرف أن جليسه عصبي المزاج ينفعل إذا جادل فيحب أن يعبث به وأن يضحك من انفعاله، وأن يتخذه لهواً وقد يكون رأيه في الأمر الذي يجادل فيه مثل رأي ذلك العصبي المزاج ولكنه يخالفه كي يتفكه بضجيجه وصراخه وحركاته حتى إذا نال بغيته من الفكاهة أقرّ برجحان رأي ذلك العصبي المزاج فينال نوعاً آخر من الفكاهة إذا رأى عظم سروره وخمود ثورة أعصابه.
ويتابع:”واللجاجة في الجدل عند بعض الناس مرض يظهر خبث النفوس فترى بعض الناس يحقد على من يجادله ويسعى في أذاه إما سعياً ظاهراً وإما في الخفاء”.
ويقول الأستاذ الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله:”تغيير الرأي كتغيير الرأس عند الجاهلين المعاندين، فلا تحاول أن تقنع جاهلاً معانداً بتغيير رأيه، فيضيع وقتك وتتلف أعصابك”.قال لقمان لإبنه يعظه[بهجة المجالس ج2 ص432]:”يابني لاتُمارين حكيماً، ولاتُجادلن لجوجاً ولاتُعاشرن ظلوماً ولاتصاحبن متهماً”.وقال بلال بن سعيد:” إذا رأيت الرجل لجوجاً مُمارياً فقد تمت خسارته”.
ويقول الإمام الأوزاعي رحمه الله:”فما يصيب قوماً من الأقوام خطبٌ افدح عليهم من اشتغالهم بالجدل وتركهم العمل”.وقالوا: “أحقّ الناس بالمقت: الفقير المحتال،والضعيف الصّوال، والعيُّ القوال”.وقال الأصمعي:”من لاحى الرجال وماراهم قلّت كرامته”.
نعم لقد كره الإسلام الإمعان في الجدل وذمّ قوماً فقال{ ماضربوهُ لكَ إلاّ جَدلاً بل هم قوم خصمون} [الزخرف58]، وقال صلى الله عليه وسلم:”ماضلّ قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل“[رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال:حسن صحيح]
إنهم قوم خصمون لايقفون عند منطق ولايقتنعون ببرهان.
3 ـ العصبية والحزبية:
وهذه من أهم معوقات الحوار، والمانعة للوصول إلى الحق، وهي تصدر عن أناس قد اصيبوا بضيق الصدر وقلة النظر، حيث لايرى أحدهم إلا مااعتقده، أو لُقّن به، أو ألقي في روعه.أما ماعدا ذلك من معارضيه فهم على خطأ، وهم أحق بكراهيته لهم، سواء من جهة أشخاصهم أو من جهة أفكارهم. هم أناسٌ يرون الرأي ثم يتلمسون البراهين لتأييده ودعمه،وهم ينفرون من الآراء الأخرى وإن كانت مدعومة بالكتاب والسنة ودلائل الحق وبراهين العقل والحجج اليقينية .
يقول الشيخ العلامة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله:
“إن المتعصب إنسان لا يرى إلا ذاته،ولا يسمع إلا قول نفسه،ولا يؤمن بأحد غيره،أو غير فرقته وجماعته التي ينتمي إليها،فمنها يبدأ ومنها ينتهي،فهو مغلق الذهن والنفس عن الغير،وكل الناس غير،ما عداه وفرقته التي منحها عقله وشعوره وولاءه،فهي التي تفكر له وتحدد له من يحب ومن يكره،وعمن يرضى وعمن يسخط،دون أن يُعطي نفسه حق التأمل في هذه المقولات أو الامتحان لها أو مناقشتها فهذا كفر”.
(وقد تطرقنا إلى هذا الموضوع وبالتفصيل في مواضيع إحقاق الحق ويمكن الرجوع إليها).
8 ـ الصبر وعِظم الهمة من أهم أخلاق الداعية:
يقول الأستاذ الدكتور محمد لطفي الصباغ رحمه الله:
“إن هناك نوعين من الصبر لابد للداعية أن يتحلّى بهما،وهما الصبر على الإعراض،والصبر على الأذى.
وإننا لنجد مثالاً رائعاً للصبر بنوعيه هذين في كتاب الله…يبدو لنا في عرضٍ موجزٍ سريعٍ لقصة رسلٍ كرامٍ جاؤوا قومهم بالبينات،فقابلوهم بالإعراض والتكذيب…فناقشوهم بالحجة والبرهان،ولم ييأسوا من متابعة الطريق:طريق الدعوة إلى الله،مع شدة إعراض هؤلاء المكذبين…ثم قالوا لهم:{وعلى الله فليتوكلِ المؤمنون*ومالنا ألّا نتوكّل على الله وقد هدانا سُبُلنا ولَنَصْبِرَنَّ على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكلِ المتوَكِّلون}[إبراهيم 11 ـ 12].
والتوكل على الله المرحلة الأولى في الصبر،وهكذا قالوا:{ولنصبرن} بهذا التأكيد الحازم…لن نترك أمر الدعوة إلى الله بالأسلوب الحسن،والقول اللين،والموعظة الرفيقة،وسنتابع طريقنا وفق ما أمر الله.
لا يدفعهم إلى موقفهم إلا الرغبة في رضوان الله وإنقاذ قومهم وأهليهم من نار الله الموقدة…لا يدفعهم إلى دعوتهم إلا أنهم يريدون لأنفسهم وأهليهم سعادةً في الدنيا وارفة الظلال،وسعادةً في الآخرة…سعادةً أبدية.
وكأنهم يقولون لهم:فإن قابلتمونا وقابلتم دعوتنا بالإيذاء فلن نتوانى ولن نترك الدعوة…لن نتخلى عن عملية الإنقاذ لكم ولكل من تبلغه دعوتنا…سنتوكل على الله وسنصبر على إيذائكم {ولنصبرنّ على ما آذيتمونا}ودراسة خبر هؤلاء كما ورد في سورة إبراهيم(من الآية 9 وحتى الآية 15) من خلال هذا الحوار الحيّ المعبر ينتهي بالدارس إلى أن هذين النوعين من الصبر كانا واضحين عند هؤلاء الأنبياء الكرام:صبر على الإعراض،وصبر على الإيذاء.
وإننا لنجد كذلك في قصة نوح عليه السلام دروساً في الصبر العظيم،فهذا نوح يلبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما:{ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومهِ فلبثَ فيهم ألفَ سنةٍ إلا خمسينَ عاماً فأخذهم الطّوفان وهم ظالمون}[العنكبوت 14].
لبث فيهم يدعوهم كما جاء في القرآن الكريم على لسانه يخاطب ربه:{قالَ ربِّ إنّي دعوتُ قومي ليلاً ونهاراً*فلم يزدْهُمْ دعائي إلا فِرارا*وإنّي كُلّما دعوتُهُمْ لِتغفر لهم جعلوا أصابِعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا*ثُمَّ إنّي دعوتُهم جِهاراً*ثُمَّ إنّي أعلنتُ لهم وأسررتُ لهم إسراراً}[نوح 5 ـ 9] فلم يستجب له قومه إلا قليل،كما قال:{قالَ نوحٌ ربِّ إنّهم عصوني واتَبعوا من لم يَزدْهُ مالهُ وولدهُ إلّا خسارا*ومكروا مَكراً كُبّارا}[نوح 21 ـ 22]وعلى الرغم من ذلك فقد تابع نوح تبليغ الدعوة في وسط ٍ مُصرٍ على الكفر،مُغرقٍ في العناد والإعراض،قْرناً بعد قرن،بصبرٍ يفوق الخيال،حتى أوحى الله إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن:{وأُوحيَ إلى نوحٍ أنّهُ لن يؤمنَ من قومكَ إلّا من قد آمن فلا تبتئسْ بما كانوا يفعلون*واصنع الفُلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنّهم مغرقون}[هود 36ـ 37]”.
يقول تعالى:{فاصبرْ لِحكمِ رَبِّكَ ولا تكنْ كصاحبِ الحوتِ إذ نادى وهو مكظومٌ}[القلم 48].
يقول سيد قطب رحمه الله:”إن مشقة الدعوة الحقيقية هي مشقة الصبر لحكم الله،حتى يأتي موعده ،في الوقت الذي يريد بحكمته.وفي الطريق مشقاتٌ كثيرة.مشقات التكذيب والتعذيب،ومشقات الالتواء والعناد.ومشقات انتفاش الباطل وانتفاضه.ومشقات افتتان الناس بالباطل المزهو المنتصر فيما تراه العيون.ثم مشقات إمساك النفس على هذا كله راضية مستقرة مطمئنة إلى وعد الله الحقّ،لا ترتاب ولا تتردد في قطع الطريق.مهما تكن مشقات الطريق.وهو جهد ضخم مرهق يحتاج إلى عزم وصبر ومدد من الله وتوفيق.أما المعركة ذاتها فقد قضى الله فيها.وقدر أنه هو الذي يتولاها،كما قدّر أنه يملي ويستدرج لحكمة يراها.كذلك وعد نبيه الكريم.فصدقه الوعد بعد حين”.
ويقول تعالى:{وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقد عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين*فاستجبنا له ونجيناهُ من الغم وكذلك ننجي المؤمنين}[الأنبياء 87 ـ 88].
يقول سيد قطب رحمه الله:”إن يونس لم يصبر على تكاليف الرسالة،فضاق صدراً بالقوم،وألقى عبء الدعوة،وذهب مغاضباًنضيق الصدر،حرج النفس،فأوقعه الله في الضيق الذي تهون إلى جانبه مضايقات المكذبين.ولولا أن ثاب إلى ربه،واعترف بظلمه لنفسه ودعوته وواجبه لما فرّج الله عنه هذا الضيق،ولكنها القدرة حفظته ونجته من الغمّ الذي يعانيه.
وأصحاب الدعوات لا بد أن يحتملوا تكاليفها ،وأن يصبروا على التكذيب بها،والإيذاء من أجلها.وتكذيب الصادق الواثق مرير على النفس حقاً.ولكنه بعض تكاليف الرسالة.فلا بد لمن يكلفون حمل الدعوات أن يصبروا ويحتملوا ،ولا بد أن يثابروا ويثبتوا.ولابد أن يكرروا الدعوة ويبدئوا فيها ويعيدوا.
إنهم لا يجوز لهم أن ييأسوا من صلاح النفوس واستجابة القلوب،مهما واجهوا من إنكار وتكذيب،ومن عتو وجحود.فإذا كانت المرة المائة لم تصل إلى القلوب،فقد تصل المرة الواحدة بعد المائة.وقد تصل المرة الواحدة بعد الألف…ولو صبروا هذه المرة وحاولوا ولم يقنطوا لتفتحت لهم أرصاد القلوب.
إن طريق الدعوات ليس هيناً ليناً…واستجابة النفوس للدعوات ليست قريبة يسيرة.فهناك ركام من الباطل والضلال والتقاليد والعادات،والنظم والأوضاع،يجثم على القلوب،ولابد من إزالة هذا الركام.ولابد من استحياء القلوب بكل وسيلة.ولا بد من لمس جميع المراكز الحساسة،ومن محاولة العثور على العصب الموصل…وإحدى اللمسات ستصادف مع المثابرة والصبر والرجاء.ولمسة واحدة قد تحول الكائن البشري تحويلاً تاماً في لحظة متى أصابت اللمسة موضعها…وإن الإنسان ليدهش أحياناً وهو يحاول ألف محاولة،ثم إذا لمسة عابرة تصيب موضعها في الجهاز البشري فينتفض كله بأيسر مجهود،وقد أعيا من قبل على كل الجهود”.
ويلخص لنا العلامة محمد أبو زهرة الصبر والاحتمال الذي واجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم والرعيل الأول في بدايات الدعوة قيقول:
“وكانت مغالبة بين الحق في محجته وبرهانه،والباطل في عدوانه،ومصارعة بين الضعف قوّاه الإيمان،والعنف حَطمه البيان،استشرى ذئب المشركين فآذوا المؤمنين،حتى اضطروهم في أول أمرهم إلى الاختفاء بعبادتهم،ولكنها نور ساطع،وضوء لامع،جذب إليه الأبصار،وقوة إلهية،ودعوة ربانية تنفذ إلى القلوب،ولذلك لم يطفىء نورها الاختفاء،ولم يحجبها عن الناس الانزواء،حتى انضم إلى الضعفاء بعض الأقوياء،فجهر المؤمنون بالعبادة بعد أن أخفوها،ونادوا بها جهاراً بعد أن تضرعوا بها إسراراً،وخرجوا من دار الأرقم صفوفاً جاهرة بكلمة الله مدوية بالتوحيد،فتزلولت الوثنية وعبّاد الأوثان،وطاشت أحلامهمنوبالغوا في الإعنات والكيد،ودبروا المكايد تتلوها مكايد،وأنزلوا الشدائد تتلوها شدائد،فالأرحام قطعوهانوالمكارم ديثوها بالصغار،واستهانوا بمآثرهم الباقية،وحركوا كل النزاعات الباغية،ومحمد صلى الله عليه وسلم ثابتٌ كالطود يدعو في رفق وأناة،وهو يسمع كلمات الشر والأذى تتدحرج من حوله حتى تصل إلى موطىء نعله،والمؤمنون يُؤذون فيحتمي أقوياؤهم بعصبياتهم،وينزل بالضعفاء أشد العذاب،حتى لكأنهم أصحاب الأخدود،وأولئك قُدّت قلوبهم من جلمود.
يقول تعالى :{فاصبر صبراً جميلاً}.[المعارج5].
يقول سيد قطب رحمه الله:”والدعوة إلى الصبر والتوجيه إليه صاحبت كل دعوة،وتكررت لكل رسول،ولكل مؤمن يتبع الرسول.وهي ضرورية لثقل العبء ومشقة الطريق،ولحفظ هذه النفوس متماسكة راضية،موصولة بالهدف البعيد،متطلعة كذلك إلى الافق البعيد..
والصبر الجميل هو الصبر المطمئن،الذي لا يصاحبه السخط ولا القلق ولا الشك في صدق الوعد.صبر الواثق من العاقبة الراضي بقدر الله،الشاعر بحكمته من وراء الابتلاء،الموصول بالله المحتسب كل شىء عنده بما يقع به.
وهذا اللون من الصبر هو الجدير بصاحب الدعوة.فهي دعوة الله،وهي دعوة إلى الله.ليس له هو منها شىء وليس له من وراءها غاية.فكل ما يلقاه فيها فهو في سبيل الله،وكل ما يقع في شأنها هو من أمر الله.فالصبر الجميل إذن ينبعث متناسقاً مع هذه الحقيقة ومع الشعور بها في أعماق الضمير”.
في الحديث الشريف عن جابرٍ رضي الله عنه قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرِضُ نفسه بالموقف،فيقول:”ألا رجلٌ يحملني إلى قومه،فإنَّ قريشاً منعوني أن أُبلِّغ كلام ربي”[رواه أبو داود والترمذي]؟
يقول الدكتور محمد عبد الله دراز رحمه الله(المختار من كنوز السنة النبوية):
“يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته للناس مخاطباً إياهم بصيغة الطلب الليّن الرفيق”ألا رجل يحملني إلى قومه”:أليس منكم رجلٌ يذهب معي فيعرّفني منازل قومه ورحالهم لأبلغهم رسالة ربي عسى أن يؤمنوا بما أرسلت به،أو عسى أن يُجيروني ويحموني من أذى قومي حتى أُبلغ تلك الرسالة،فإن قريشاً منعوني من أن أُبلغ كلام ربي أي:”القرآن” الذي هو كلام الله تعالى فضلاً عن سماع كلامي.
ويتابع الدكتور دراز رحمه الله:”وهكذا الجهل إذا غلب،والهوى إذا استحكم،والقوّة إذا بطشت كتمت أنفاسَ الحقِّ فلا تترك له مجالاً ولا مقالاً حتى يأذن الله.
أتدرون ماذا كان جواب هؤلاء القبائل بعد هذا العرض الجميل؟!لعلّكم تحسبون أنّ غيرَ “قريشٍ” كانوا أمثل منهم طريقةً في تلقي هذه الدعوة وأنّه كان من تلك القبائل من لبّى داعي الله فآمن به أو داعي النخوة العربية فأمنّه وأجاره.كلا إنهم كانوا في الشرِّ سواسيةً.ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يكتفي بعرض نفسه عليهم في موسم الحج بل كان يلتمس مجتمعاتهم وأسواقهم ومواسمهم كلّها،وما زالت تلك حاله وحالهم عشر سنين فما وهن لما أصابه في سبيل الله وما ضعف وما استكان،ولكنه صبرَ وصابر،وضرب في التضحية مثلاً عالياً،وأعطى من نفسه قدوةً صالحة لتلك الفئة القليلة التي آمنت به في “مكة” وأُذيت أكثر منه في سبيل عقيدتها فاحتملت أنواع الأذى عن طيب نفس،حتى بدّل الله عسره يُسراً وقيض له من أهل “المدينة” من آمنوا به وبايعوه وهاجر إليهم فنصروه”.
يقول الشيخ محمد الخضر حسين رحمه الله في مقال بعنوان”عظم الهمة”:
“في سبيل الدفاع عن الحق،أو الدعوة إلا الإصلاح لا يقتحمها إلا ذوو الهمم الكبيرة،فإن في طوائف المبطلين أو المفسدين نفوساً طاغية،وأحلاماً طائشة،وألسنة مقذعة،وربما كانت فيهم أيدٍ باطشة،وأرجل في غير الخير ساعية.
فأنصار الحقيقة ينصبون أنفسهم أمام هذه الشرور كلها،وإنما تعظم هممهم على قدر ما يتوقعونه من فقد محبوب،أو لقاء مكروه،فالذي ينكر على الحاكم خرقاً في السياسة،أو حيفاً في القضاء،يكون أعظم همة ممن لا يحمي الحقيقة إلا إذا عبثت بها أيدي الضعفاء،والذين لا يجدون ما ينفقون.
وإذا كانت الدعوة من معالي الأمورنفنهايتها التي يبلغها الداعي المصلح أن يرشد إلى ما يراه حقاً،ويحذر مما يراه منكرا،غير حافل بما يحفل به ضعيف الإيمان،أو قليل الإخلاص من رضا الملأ الذين استكبروا”.
الشخصية الإسلامية المتميزة
جاء في محاضرة للأستاذ عصام العطار حفظه الله بعنوان “خصائص الشخصية الإسلامية”[المنتدى العاشر في مدينة كولونيا في ألمانيا]:
“إن هذا الطريق والمنهج إلى المستقبل الإسلامي المنشود له ارتباط كبير بمن يسلكون هذا الطريق، وبمن يتبعون هذا المنهج. فلابد عند رسم طريق المستقبل هذا من إلقاء النظرة على الناس الذين يسلكون هذا الطريق، إن كانوا ملائمين له أم لا.لإننا نحن المسلمين في واقعنا الحالي، وكثير من العاملين للإسلام حالياً غير مرشحين بواقعهم الحالي لسلوك الطريق الجاد لتحقيق هذا المستقبل المنشود.
إننا نفتقد الشخصية الإسلامية بملامحها الإسلامية افتقاداً كبيراً،وإننا عندما نرسم المنهج المطلوب لهذا المستقبل المنشود ونشير لبعض معالمه نجد الإنسان المدعو والمرشح لسلوك هذا الطريق في حالة فزع من ضخامة هذه الواجبات، ونجد المسلم عاجز عن تحقيق هذا المنشود والمنهج المطلوب، بل يريد اتخاذ مناهج ثانوية لاتوصله إلى مستقبل عظيم أو مشرق على الإطلاق.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف الصحيح:”يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الآكلة إلى قصعتها. فقال قائل :ومن قلة نحن يومئذ؟قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل،ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم،وليقذفن في قلوبكم الوهن.فقال قائل:يا رسول الله وما الوهن؟قال:”حب الدنيا،وكراهية الموت“.[أخرجه أبو داود عن ثوبان رضي الله عنه وهو حديث صحيح]
نعم إننا أصبحنا اليوم فريسة سهلة وطعام طيب لكل راغب ومن كل جهة من الجهات، ونحن اليوم وقد تجاوزنا المليار مسلم ولكننا كالغثاء أي الرغوة التي يحملها السيل على ظهره يجري يها في كل اتجاه ولاتحمل إلا فتات الأشياء.
هذا الغثاء هو نحن المسلمين بواقعنا الحالي، لأنه لايوجد هؤلاء الرجال المسلمون الحقيقيون،بل نحن بحاجة إلى إعادة بناء هذا المسلم بناءً إسلامياً حقيقياً،ونحن بحاجة لبعض السمات والخصائص التي تميز الشخصية الإسلامية الحقيقية.
ماهي أهم الملامح أو السمات التي تميز الشخصية الإسلامية الحقيقية، التي تحمل أمانة الإسلام وتحقيق الإسلام في هذا العالم والعصر؟
أهم السمات والخصائص:
1 ـ الشعور بالامتداد والسعة والخلود:
إن صاحب هذه الشخصية يحسّ إحساساً حقيقياً بالامتداد والسعة والخلود.
امتداده في الزمان: ولهذا نتائجه الهامة في تكوين الإنسان النفسي والفكري وفي سلوكه ومواقفه .
إن الكافر الذي لايؤمن بالله وبالبعث والحساب والثواب والعقاب يفتقد هذه الخاصية وهذا الشعور بالامتداد والسعة والخلود.قال تعالى في هؤلاء الكفار الذين ينكرون البعث بعد الموت{ وقَالواماهيَ إلاّ حَياتُنا الدُّنيا نَموتُ ونَحيا ومايُهلكنا إلا الدَّهر}[الجاثية24] ، وقال تعالى عن الملأ من قوم هود الذين كفروا{إن هيَ إلا حَياتُنَا الدُّنيا نَموتُ ونَحيا ومانَحنُ بِمبعُوثين}[المؤمنون37].
إن الكافر بالله وبالدار الآخرة ذو وجود ضيق محدود بمرحلة عمره وحياته الدنيا، فهو لايشعر بهذا الامتداد والسعة والخلود كما يشعر به المسلم المؤمن،يقول الله تعالى في هؤلاء المؤمنين{والسّابِقونَ الأوّلُونَ من المهاجرينَ والأنصارِ والذينَ اتّبعوهم بإحسانٍ رضيَ اللهُ عنهم ورضوا عَنهُ وأعدَّ لهم جَناتٍ تجري تحتها الأنهارُ خالدينَ فيها أبداً ذلكَ الفوزُ العظيم}[التوبة 100]،وقال تعالى{إنّ الذينَ آمنوا وعملوا الصالحاتِ أولئكَ هُم خَيرُ البَريّة*جزاؤُهم عندَ رَبّهم جَناتُ عَدنٍ تجري من تحتها الأنهارُ خالدينَ فيها أبداً رضيَ اللهُ عنهم ورَضوا عنهُ ذلك لِمن خشيَ رَبّه}[البينة 7 ـ 8]، فالمؤمن يحس أن الدنيا مرحلة من مراحل وجوده الممتد إلى مابعد الموت، فهو يشعر بالخلود، أما الكافر فإنه يشعر أن حياته محدودة بوجوده الدنيوي، والفرق بينهما كبير.
وإذا مددنا أبصارنا في الزمان،في الماضي وفي الحاضر نستطيع ان ندرك كم هي ضيقة وقصيرة هذه الحياة الدنيا، لقد قرأنا عن الأكاسرة والقياصرة، وقدماء المصريين،أين هم الآن؟كأنهم لم يوجدوا قط في هذه الحياة الدنيا، أين الأكاسرة الذين تجبروا وطغوا وظنوا أنهم أمسكوا بمقاليد وبمصائر الكون والبشر، أين هم الآن؟يقول المتنبي:
أين الأكاسرة والجبابرة الأُلى كنزوا الكنوز فمابقينَ ومابقوا
من كلِّ من ضاقَ الفضاءُ بجيشهِ حتى ثوى فحواهُ لحد ضيق
ويقول أيضاً:
أين الذي الهرمان من بنيانه ما قومهُ؟مايومهُ؟ مالمصرعُ
تتخلّفُ الآثارُ عن اصحابها طوراً ويدركها الفناءُ فتتبعُ
ويقول تعالى{ قال كَم لَبِثتُم في الأرضِ عَددَ سِنين*قالوا لَبثنا يوماً أو بعضَ يومٍ فاسأل العادِّين* قالَ إن لَبِثتُم إلاّ قليلاً لو أنّكُم كُنتُم تعلمون* أفاحَسِبتُم انّما خلقناكُم عَبثاً وأنّكُم إلينا لاتُرجَعون* فتعالى اللهُ المَلِكُ الحَقُّ لا إلهَ إلاّ هُوَ رَبُّ العرشِ الكريم} [المؤمنون 112 ـ 116].وقال تعالى{كُلُّ نَفسٍ ذائِقةُ الموتِ وإنّما تُوَفّونَ اُجورَكُم يوم القيامة فَمن زُحزِحَ عن النّارِ وأُدِخلَ الجَنّة فقد فاز وماالحياةُ الدُّنيا إلا متاعُ الغُرور}[آل عمران 185].
هذا المتاع الزائل الخادع هو كل وجود الكافر، أما المؤمن فوجوده أكثر امتداداً وأوسع واخلد، حيث يعانق الخلود.
إن هذا الإحساس بالامتداد والسعة والخلود كان في نفوس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان له آثاره البعيدة في نفوسهم وتفكيرهم ومواقفهم.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: نام رسول الله صلى الله عليه سلم على حصير، فقام وقد آثر في جنبيه، فقلت له: لو اتخذنا لك وطاءً يارسول الله ، فقال: مالي وللدنيا يابن مسعود، ما أنا فيها إلا كراكب استظلّ تحت شجرة ، ثم راح وتركها“.
2 ـ الشعور بالسمو والارتفاع
إن المؤمن الصالح يرتفع فوق هذه الدنيا التي يحياها، ويشعر أنه أكبر منها، فلايكون عبداً لطواغيتها وشهواتها ومطامعها،وهو بهذا الشعور والارتفاع فوق هذه الدنيا فإنه يمتلك مفاتيح التغيير.
إن المؤمن الحق هو الذي عنده هذا الشعور والفهم والعلم بحقيقة هذه الدنيا،وأما من كان يظن أن حياته ووجوده منحصراً ومحدوداً في هذه الحياة فإنه يصبح عبداً لها،متمسكاً بها، متمسكاً بلذاتها ومنافعها ومطامعها،وليس عنده استعداد للتضحية بها في سبيل طريق وهدف عظيم.
إن الشعور بالضخامة والارتفاع والاستعلاء على الدنيا ومافيها هو الذي يؤدي إلى التغيير. ولقد فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام هذا الأمر وكان لذلك التأثير الكبير في إحداث التغيير الجذري.
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وحيداً وهو يحمل دعوة الحق، وأمانة الحق، والدنيا كلها كفر في كفر، وكان له عم يحميه وعندما شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم في لحظة من اللحظات أن عمه قد يخذله، وقد يتركه، فإنه ارتفع فوق هذه الدنيا وشعر أن دعوة الحق أكبر منها، وقال كلمته الخالدة العظيمة لعمه:”ياعم، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ماتركته”.
والأمر ليس مقتصراً على الرسل والأنبياء بل إنه أيضاً يضم المؤمنون الصادقون الذين فهموا دعوة الحق وفهموا هذا الكون وهذه الحياة، وانظر إلى موقف السحرة الذين واجهوا موسى بأمر فرعون، ولكن عندما تبين لهم الأمر وقامت لهم الدلائل على صدق دعوة موسى، وأنه نبي وليس بساحر، إذا بهم وقلوبهم مليئة بالإيمان قد سجدوا لله {فأُلقيَ السّحرةُ سُجّداً قالوا آمنّا بربِّ هارونَ وموسى*قال أمنتم لهُ قبل أن آذنَ لكُم إنّهُ لَكبيرُكم الذي عَلَّمكُم السّحرَفلأُ قَطّعنَّ أيديَكُم وأرجُلَكُم من خِلافٍ ولاُصَلِّبنّكُم في جذوعِ النخلِ ولَتعلَمُنَّ أينّا أشدُّ عذاباً وأبقى}[طه70 ـ 71]، فماذا كان جواب السحرة على هذا التهديد والوعيد؟{قالوا لن نؤثِرُكَ على ماجاءَنا من البَيّناتِ والذي فطرنا فاقضِ ما أنتَ قاضٍ إنّما تقضي هذه الحياةُ الدُّنيا*إنّا آمنّا بربّنا لِيغفِر لنا خَطايانا وما أكرهتنا عليهِ من السِحّرَ واللهُ خَيرٌ وأبقى}طه 72 ـ 73].
إن الإنسان عندما ينحصر تفكيره في الحياة الدنيا فقط فإنه يتشبث بهذه الدنيا وينطلق من شهواته ومنافعه ومطامعه، فيمنع ويخضع ويذل لهذه الشهوات والمطامع من أجل الاحتفاظ بهذه الحياة، وهو إن انطلق من مصالحه ومنافعه فقط فإنه لايستطيع أن يحمل رسالة الله، رسالة الحق والعدل والخير للدنيا، ولايكون مؤهلاً للقيام بعملية التغيير.
أما المؤمن الذي يشعر أن وجوده أبقى من الدنيا، وشعر بالضخامة والارتفاع على هذه الدنيا فإنه لاينطلق من شهواته ومنافعه، وإنما ينطلق من الحق الذي آمن به،ويضحي من أجله بالدنيا ومافيها،لأن ارتباطه بالحق يفتح له أبواب الخلود والسعادة الأبدية التي لاتزول.
هذه هي الشخصية الإسلامية الحقيقية التي ترشح صاحبها للإنطلاق من الحق لا من الأهواء والمنافع الزائلة، وهي عندها من أكبر الميزات في استبانة الأهداف الحقيقية ورسم الطرق الموصلة إلى النصر ومرضات الله عز وجل.
3 الصفات الأخرى
ومن الصفات الأخرى التي يجب على المؤمن أن يتصف بها ويحتاج إليها عند سلوكه طريق التغيير الصعب العسير نحو الأهداف الكبيرة نذكر منها:الشجاعة، والإقدام، والتضحية، والثقة، والتصميم ،والإخلاص..
الشجاعة:إن المؤمن الحق جدير بأت يكون شجاعاً مقداماً يضحي في سبيل الله، وواثق من نصر الله وبأن المستقبل له سواء ظفر بالنصر أو الشهادة{قل لن يُصيبنا إلاّ ماكتبَ اللهُ لنا هُوَ مَولانا وعلى الله فليتوكَّلِ المؤمنون*قُل هَل تَرَبَّصونَ بنا إلاّ إحدى الحُسنيينِ ونحنُ نتَرَبَّصُ بِكُم أن يُصيبَكُم اللهُ بعذابٍ من عِندهِأو بأيدينا فَتَرَبّصوا إنّا معكم مُتَرَبِّصون}[التوبة51 ـ 52]،وقال تعالى{ولاتَحسَبنَّ الذينَ قُتلوا في سبيلِ اللهِ أمواتاً بل أحياءٌ عِندَ رَبِهم يُرزقون*فَرحينَ بما آتاهم اللهُ من فَضلهِ ويَستبشرونَ بالذينَ لم يَلحقوا بِهم من خَلفِهم الاّ خَوفٌ عليهم ولاهُم يحزنون*يستبشرونَ بِنعمةٍ من الله وفضلٍ وأنّ الله لايُضيعُ أجرَ المؤمنين}[آل عمران 169 ـ 171].
إن هذا الشعور بالشجاعة والإقدام والانتصار بالغلبة على العدو أو الشهادة يعطي المسلم قوة معنوية لانظير لها‘ فإن مات فإن حياته لاتنتهي وإنما ينتقل إلى حياة أفضل، حيث يعانق الخلود في جنات النعيم.
ولنأخذ هذه القصة التي توضح لنا هذا الشئ: كان هناك في الجاهلية رجلاً جباراً يسمى جبار بن سلمة وكان من الشجعان والفتاك، وقد حضر بئر معونة حين غدر عامر بن الطفيل بالمسلمين. يقول جبار بن سلمة: عمدت إلى أحد المسلمين فجعلت سنان رمحي بين كتفيه ثم نظرت إلى سنان الرمح يخرج من صدره، يتقاطر منه الدم، فإذا به يصيح “فزت والله، فزت والله”، قلت: بما فاز؟ ألست قد قتلت الرجل، ثم علمت بعدئذ أنه قد فاز بجنة الخلد.
هذه هي الروح المعنوية التي نحن بحاجة إليها، وروح التضحية، وهذا الشعور باننا عندما نسقط في سبيل الله فإننا نرتفع إلى جنة الخلد وأن لنا الفوز الذي لايزول والسعادة التي لاتتحول بحال من الاحوال.
ولنأخذ مثالاً آخر:
أمسك رستم قائد الفرس بأحد الاعراب المسلمين وهو في طريقه إلى القادسية، وقال لترجمانه اسأله ماجاء بكم وماتطلبون؟قال الأعرابي المسلم :جئنا نطلب موعود الله بملك أرضكم إن أبيتم أن تسلموا.قال رستم: فإن قتلتم قبل ذلك؟ قال الأعرابي: من قتل منا دخل الجنة، ومن بقي منا أنجزه الله ماوعده، فنحن على يقين.قال رستم: فقد وضعنا إذاً بين أيديكم(قالها ساخراً)، قال الأعرابي: أعمالكم وضعتكم فاسلمكم الله بها ، فلايغرنك من ترى حولك،فإنك لست تصاول البشر ولكن تصاول القضاء والقدر.
إن المسلم المُستعلي على الدنيا وزخارفها، يرى نفسه في مواجهة اعتى الطواغيت قدراً من أقدار الله لايُصدّ ولايُرد،وكان يثق اعظم الثقة بنصر الله في الحياة الدنيا.انتهى كلام الأستاذ العطار.
الصبر وعدم استعجال النتائج
إن الداعية ليس عليه أن يبعث الموتى، فذلك من شأن الله عز وجل، وإنما عليه التبليغ والمضي في طريق الحق والدعوة إلى الله والصبرعلى مشاق الطريق وعقباته.وإن تبليغ رسالة الإسلام سوف يواجه بالكثير من الصعاب والمشاق ولاسيما أن شياطين الإنس والجن يتربصون بدعوة الحق ورجال الدعوة.
يقول تعالى:{فاصبر كما صبرَ أولو العزمِ من الرُّسُلِ ولا تَستعجل لهُم}[الأحقاف35].
يقول سيد قطب رحمه الله:”توجيه يقال لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو الذي احتمل ما احتمل،وعانى من قومه ما عانى.وهو الذي نشأ يتيماً وجُرد من الولي والحامي ومن كل أسباب الأرض واحداً بعد واحد.الأب والأم والجد والعم والزوج الوفية الحنون.وخلص لله ولدعوته مجرداً من كل شاغل.كما هو مجرد من كل سند أو ظهير.وهو الذي لقي من أقاربه المشركين أشدّ مما لاقى من الأبعدين.وهو الذي خرج مرة يستنصر القبائل والأفراد وفي كل مرة بلا نصرة.وفي بعض المرات بالاستهزاء من السفهاء ورجمهم له بالحجارة حتى تدمى قدماه الطاهرتان،فما يزيد على أن يتوجه إلى ربه بذلك الابتهال الخاشع النبيل.وبعد ذلك كله يحتاج إلى توجيه ربه”فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل”…
ألا إنه لطريق شاق طريق هذه الدعوة،وطريق مرير.حتى لتحتاج نفس كنفس محمد صلى الله عليه وسلم في تجردها وانقطاعها للدعوة،وفي ثباتها وصلابتها،وفي صفائها وشفافيتها،تحتاج إلى التوجيه الرباني بالصبر وعدم الاستعجال على خصوم الدعوة المتعنتين.
نعم،وإن مشقة هذا الطريق لتحتاج إلى مواساة،وإن صعوبته لتحتاج إلى صبر،وإن مرارته لتحتاج إلى جرعة حلوة من رحيق العطف الإلهي المختوم،”فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل”.تشجيع وتصبير وتأسية وتسلية”.
يقول تعالى:{قُلْ ما كنتُ بِدعاً من الرُّسُل ِوما أدري ما يُفعلُ بي ولابِكُم إن أتَّبِعُ إلا ما يُوحى إليَّ وما أنا إلا نذيرٌ مُبينٌ}[الأحقاف 9].يقول سيد قطب رحمه الله:
“وإنه لأدب الواصلين،وإنها لطمأنينة العارفين،يتأسون فيها برسول الله صلى الله عليه وسلم فيمضون في دعوتهم لله.لا لأنهم يعرفون مآلها،أو يعلمون مستقبلها.أو يملكون فيها قليلاً أو كثيراً.ولكن لأن هذا واجبهم وكفى .وما يطلبون من ربهم برهاناً فبرهانهم في قلوبهم ،وما يطلبون لأنفسهم خصوصية فخصوصيتهم أنه اختارهم.وما يتجاوزون الخط الدقيق الذي خطّه لهم ورسم لهم فيه مواقع أقدامهم على طول الطريق”.
يقول الأستاذ مصطفى السباعي رحمه الله:”إن تبليغ رسالة الإسلام إلى الناس وإقناعهم بها ليس بالأمر السهل ولا بالمنال القريب كما يتصورون، فالأعداء كثر، والأهواء شتى، والغفلة عميقة،وحبائل الشيطان تمتد ذات اليمين وذات الشمال، ولم تكن الضلالة في عصر من العصور كما هي في عصرنا الحاضر، أشد سلطاناً وأكثر خداعاً وأقوى إغراءً وأبلغ فتنة”.
ويقول الأستاذ محمد قطب رحمه الله(من قبسات الرسول ص30):
“إن المصلحين لايتعاملون مع المادة ولكن مع”النفوس”والنفوس أعصى من المادة،وأقدر على المقاومة والزيغ والانحراف.
والسم الذي يأكل قلوب الدعاة هو انصراف الناس عن دعوتهم،وعدم الإيمان بما فيها من الحق،بل مقاومتها في كثير من الأحيان بقدر مافيها من الحق،وعصيانها بقدر مافيها من الصلاح!عندئذ ييأس الدعاة…ويتهاوون في الطريق.إلا من قبست روحه قبسة من الأفق الأعلى المشرق الطليق.إلا من أطاقت روحه أن يغرس الفسيلة ولو كانت القيامة تقوم اللحظة عن يقين!
الدعاة أحوج الناس إلى هذا الدرس.أحوج الناس أن يتعلموا عن الرسول صلى الله عليه وسلم هذا التوجيه العجيب .هم أحوج الناس أن يقبسوا من قبسات الرسول هذه اللمحة المضيئة الكاشفة الدافعة الموحية،فتنير في قلوبهم ظلمة اليأس،وتغرس في نفوسهم نبتة الأمل،كما تغرس الفسيلة في الأرض لتثمر بعد حين.
إنه يقول لهم:ليس عليكم ثمرة الجهد،ولكن عليكم الجهد وحده،ابذلوه ولاتتطلعوا إلى نتائجه!
ابذلوه بإيمان كامل ،إن هذا واجبكم وهذه مهمتكم،وأن واجبكم ومهمتكم ينتهيان بكم هناك،عند غرس الفسيلة في الأرض،لا في التقاط الثمار!
وهو إذ يقول لهم ذلك لايغرر بهم ولايضحك عليهم! إنما يقول لهم الشيء الواحد الصواب.
فحين تسأل نفسك:متى تثمر الفسيلة وكيف تثمر،وحولها الرياح والأعاصير والشر من كل جانب؟
وحين يصل بك التفكير إلى أن تطرح الفسيلة جانباً وتنفض منها يديك..حينئذ كيف تثمر؟وأنّى لها أن تعيش؟ألست قتلتها أنت حين أفلتها من يديك؟
ولكنك حين تغرسها في الأرض وترفع يديك لله بالدعاء…حينئذ تكون أودعتها مكانها الحق،وعهدت بها إلى الحق الذي يرعاها ويرعاك.ولايشغلك أن تسأل:متى تكون الثمار…ليس هذا من عملك أنت.لست مهيمناً على الأقدار.وليس لك علم الغيب.ولا في طوقك ـ لو علمته ـ أن تمسك نفسك من الدوار!ومن تكون أنت في ملك الله الواسع الفسيح الذي لاحد له ولا انتهاء؟!
ليست إذن دعوة في الخيال حين يقول الرسول صلى الله عليه وسلم للناس:إن كان في يد أحدكم فسيلة فليغرسها.
وإنما هي صميم دعوة الحق.الحق الواقع في الأرض،المشهود على مدار التاريخ.والدعاة في كل الأرض أحوج الناس إليها حين تضيق بهم السبل ويصل إلى قلوبهم سم اليأس القتال.
وهم أولى الناس أن يتدبروا سيرة الرسول نفسه.لقد كان يغرس الفسيلة وهو مايدري مايكون بعد لحظات!
قد تأتمر به قريش فتقتله.قد يهلك جوعاً في الشِعب هو ومن معه من المؤمنين.قد يلحق به الكفار وهو في طريقه إلى الغار فلا يكون ثمة غد..أو تكون القيامة بعد لحظة…ومع ذلك يغرس الفسيلة،ويتعهدها بالرعاية حتى يؤذن الله بالثمار،وهو مطمئن دائماً إلى الله مادام يؤدي الواجب المطلوب”.انتهى كلام محمد قطب رحمه الله.
إن هدى الناس وضلالهم فإن هذا يتبع سنة إلهية ثابتة لاتتبدل ولاتتحول ولاتتغير، وهذا خارج عن حدود الداعية وطاقاته.
إن على الداعية أن يؤدي الواجب الملقى عليه في شأن الدعوة ويترك النتائج لله تعالى، ويفوّض له الأمر ولايرهق نفسه ويحزنها ويحملها مالاتطاق في حال عدم حصول الاستجابة ممن دعاهم.يقول تعالى{فَذَكِّر إنّما أنتَ مُذَكِّرٌ* لستَ عليهم بِمُسيطر} [الغاشية 21 ـ 22]ويقول تعالى{فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ}[الشورى48] ويقول تعالى{ليسَ عليكَ هُداهُم ولكنَّ الله يهدي من يشاء}[البقرة272]وقال تعالى{وما أنتَ عليهم بِجبّار}[ق 45] وقال تعالى{ قُل أطيعُوا اللهَ وأطيعُوا الرَّسُولَ فإن تَولَّوا فإنَّما عَليهِ ماحُمِّلَ وعليكُم ماحُمّلتُم وإن تُطيعوهُ تهتَدُوا وما على الرَّسُولِ إلا البلاغُ المُبين}[النور 54].
وجاء في الحديث الشريف:” إن مَثلي ومثل أمتي، كمثل رجل استوقد ناراً فجعل الفراش والدواب يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويَغلبنه ويتقحمن فيها، فهذا مَثلي ومثلكم، فأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تقحّمون فيها“[رواه الشيخان].
يقول الأستاذ عباس محمود العقاد رحمه الله[عبقرية المسيح ص137]:”هذه آية كريمة لها مرجع من تاريخ كل دعوة ولاسيما الدعوات الدينية الكبرى، وما من شئ هو أدعى إلى التدبر الطويل من المقابلة بين مقاصد أصحاب الدعوات وبين الغايات التي تنتهي إليها دعواتهم على غير قصد منهم، بل على خلاف ماقصدوا إليه، ثم يمضي الزمن وتنطوي المقاصد والغايات فيبدو أن طريق الدعوات كان اهدى من طريق أصحابها، كأنما الدعوات والدعاة معاً وسيلة مسخرة تسير في عنان الحكمة الأبدية دون أن يعلم الدعاة أو يعلم المستجيبون لهم إلى أين تسير وإلى أين يسيرون”.
نعم، ما أكثر المسلمين الذين لاينتبهون حيال هذه النقطة فيُحمّلون أنفسهم وأعصابهم وشعورهم مالم يكلفهم الله تعالى ولا أذن لهم فيه حين لايجدون تجاوباً سريعاً عاجلاً ممن يدعون . يقول تعالى{وإن مّا نُرِيَنّكَ بعضَ الذي نَعِدُهُم أو نَتَوفَّينَّكَ فإنّما عليكَ البلاغُ وعَلينا الحِساب}.[الرعد40].
ويقول الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله:”الإنسان عليه البلاغ، ولكن ليس عليه الهداية، إنما عليك الدعوة إلى الله وعلى الله الهداية،عليك البلاغ وعلى الله الحساب، عليك أن تبذر الحبّ وترجو الثمار من الربّ، ابذر بذور الدعوة، قل كلمة الحق، ولكن النتيجة ليست بيدك. سيدنا نوح ظل ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعو الناس وما قصّر وما ضعف{قالَ ربي إنّي دَعوتُ قومي ليلاً ونهاراً*فلم يزدهم دعائي إلا فِراراً*وإنّي كُلّما دَعوتُهُم لِتغفر لهم جعلوا اصابِعَهُم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصرّوا واستكبروا استكبارا}[نوح5 ـ 7]، وضعوا أصابعهم في آذانهم، وقالوا: لانريد أن نسمع صوتك،{واستغشوا ثيابهم} وضعوا ثيابهم على وجوههم وعلى أعينهم، وقالوا: لانريد أن نرى وجهك، ولانحب رؤيتك ولاسماعك.ماقصرّ نوح عليه السلام، بل قال:{ثُمَّ إنّي دَعوتُهم جِهاراً*ثُمَّ إنّي اعلنتُ لهم وأسررتُ لهُم إسراراً*فقلت استغفروا رَبّكم إنه كان غَفارا* يُرسِلِ السّماءَ عليكُم مِدراراً*ويُمدِدكم بأموالٍ وبنينَ ويجعل لكم جَناتٍ ويجعل لكم أنهاراً}[نوح 8 ـ 12]. وعظهم ورغبّهم في أمور الدنيا وأمور الآخرة ولم يُقصّر”.
وربما قفز هؤلاء الدعاة في غمار تطلعاتهم هذه فوق كثير من الوسائل والأسباب التي ألزمهم الله تعالى بها مما يدخل تحت امكانياتهم ويخضع لطاقاتهم، وحصروا كل نظراتهم واتجهوا بوجوههم إلى النتائج التي هي من شأن الله عز وجل ولم يحمل أحداً من عباده أو يرهقه في شأنها إذا أدى ماعليه من واجب الدعوة على أحسن وجه.يقول الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه:”خذوا الناس بالبينة وماجرت عليه السنة، فإن لم يصلحهم الحق فلا أصلحهم الله”.
وهناك آيات كثيرة تصف حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يستجيب الناس لدعوته وحزنه الشديد لإعراضهم وتكذيبهم حتى إنه ليكاد يهلك نفسه من أجل ذلك.
ولقد خاطب الله عز وجل سيد الخلق والمرسلين الذي بلّغ الأمانة وأدّى حق الدعوة إلى الله على أحسن وجه خاطبه داعياً إياه أن لايحزن ولاتذهب نفسه حسرات على من دعاهم ،ولاتهلك نفسك غيظاً وحزناً إن لم يستجيبوا لكن يقول تعالى{فَلعلَّكَ بَاخِعٌ نَّفسَكَ على أثارِهِم إن لم يُؤمنوا بهذا الحديثِ أسَفا}.[الكهف6]، ويقول تعالى{أفمن زُيّنَ لهُ سُوءُ عملهِ فرآهُ حَسَناً فإنَّ الله يُضِلُّ من يشاءُ ويهدي من يشاءُ فلا تَذهب نَفسُكَ عليهم حسراتٍ إن الله عليمٌ بما يصنعون}[فاطر8] إن هؤلاء القوم الذين زُين لهم سوء أعمالهم فكذبوك وأعرضوا عن دعوتك قوم لايستحقون أن تذهب نفسك عليهم حسرات باغتمامك أن لايؤمنوا.ويقول تعالى{ولايَحزُنكَ الذين يُسارعونَ في الكفرِ إنَّهُم لن يَضُرّوا الله شيئاً يريدُ الله ألا يَجعلَ لهم حَظّاً في الآخرة ولهم عذابٌ عظيم}[آل عمران 176]لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزن لمسارعة القوم في الكفر،فجاءت هذه المواساة من الله والإخبار بأنهم لايضرون الله شيئاً، بل يضرون أنفسهم، وينتظرهم العذاب الأليم العظيم.
يقول الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله(مجلة المنار العدد 373 بتاريخ 25 كانون الأول عام 1916):
“يقول الله تعالى مخاطباً رسوله الكريم:{قد نعلمُ إنّهُ ليحزنكَ الذي يقولون فإنّهم لايُكّذبونكَ ولكنّ الظالمينَ بآياتِ الله يجحدون}.
“الحزن ألم يلم بالنفس هند فقد محبوب، أو امتناع مرغوب، أو حدوث مكروه وتجب معالجته بالتسلي والتأسي وأن كان بالحق للحق، كحزن الكاملين على إصرار الكافرين على الكفر، وقد أثبت تعالى لرسوله هذا الحزن إثباتاً مؤكداً بتعليق علمه التنجيزي به في بعض الأحيان.وقد نهاه تعالى عن هذا النوع من الحزن بقوله تعالى:{ولايحزنك قولهم إنّ العزة لله جميعاً إنه هو السميع العليم}[يونس65]وفي قوله تعالى:{فلا يحزنك قولهم إنا نعلم مايسرون وما يعلنون}[يس57]، كما نهاه عن الحزن عليهم لعدم إيمانهمفي سورة الحجر الآية 88، وسورة النحل الآية 127، والنمل في الآية72.
والمراد بالقول الذي يحزنه منهم ما كانوا يقولونه فيه وفي دعوته ونبوته من تكذيب وطعن وتنفير للعرب.
يقول تعالى مسلياً لنبيه صلى الله عليه وسلم في تكذيب قومه له ومخالفتهم إياه{قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون} أي قد أحطنا علماً بتكذيبهم لك وحزنك وتأسفك عليهم كقوله{فلا تذهب نفسك عليهم حسرات}وقوله تعالى{لعلك باخع نفسك أن يكونوا مؤمنين}.
إنهم لايتهمونك بالكذب في نفس الأمر ولكن الظالمين بآيلت الله يجحدون، أي إنهم يعاندون الحق ويدفعونه بصدورهم، كما قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لانكذبك ولكن نكذب ما جئت به”.
يقول الأستاذ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني(الأخلاق الإسلامية ج1 ص479):
“وفي تأديب الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، حتى يكون في حالة نفسية رضية مطمئنة، متوازنة خلقياً بين مختلف المثيرات والمهيجات الانفعالية العاطفية، أنزل الله عليه قوله:{طه* ما أنزلنا عليكَ القُرآنَ لِتشقى}[طه 1 ـ 2].
ثم أنزل عليه قوله:{ولاتحزن عليهم ولاتَكُن في ضَيقٍ ممّا يمكرون}[النمل70].
ثم أنزل عليه قوله:{واصبر وما صَبرُكَ إلاّ بالله ولاتحزن عليهم ولاتكُ في ضَيقٍ ممّا يمكرون* إنّ الله مع الذين اتّقوا والذينَ هُم مُحسنون}[النحل 127 ـ 128].
فكرر عليه هذا التوجيه التربوي مرتين،وأضاف في المرة الثانية قوله{إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون}.أي معهم بتأييده ونصره ومعونته، ومعهم بنفحات قدسه التي تؤنسهم وتسعدهم وتشرح صدورهم.
والتوازن الخلقي النفسي الذي يربي الله رسوله عليه في هذين النصين إضافة إلى خلق الصبر، يشتمل على عنصرين:
العنصر الأول:أن يجعل لرحمته بقومه حدوداً، وعليه أن لايتجاوز هذه الحدود، فهو يرحمهم رحمة عظيمة، فيدعوهم إلى هدايتهم ورشادهم وسعادتهم، ويكون حريصاً عليهم، عزيزاً عليه عنتهم،لكنهم إذا اختاروا لأنفسهم سُبل ضلالتهم وتعاستهم وشقائهم،فلهم شأنهم، وعليهم أن يتحملوا نتائج اختيارهم، وإذا كان الأمر كذلك فيجب عليه أن لايحزن عليهم، فشفقته عليهم لاينبغي أن تصل إلى منطقة تتعارض فيها مع حكمة ابتلائهم، القائم على اختيارهم، والمستلزم لعقابهم، فالشفقة عليهم عندئذ في غير محلها، والحزن عليهم عندئذ في غير محله.ويجب عندئذ أن تأتي عاطفة الرضا بالعدل الرباني،والتسليم التام لحكمة الله في خلقه.
ويتابع :”ولما كانت رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم بقومه عظيمة جداً،ورأفته بهم عاطفةً سائدةً،كان بحاجة إلى جرعات متعددة من التاديب الرباني،لشد لجام عاطفة الرأفة والرحمة،حتى تقف عند الحدود التي يحسن في ميزان الخلق السوي الفاضل أن لاتتجاوزها، فأنزل الله عليه قوله:{أفَمَن زُيّنَ لهُ سُوءُ عَملهِ فرآهُ حَسناً فإنّ الله يُضِلُّ من يشاء ويهدي من يشاء فلاتذهب نَفسُكَ عليهم حسراتٍ إنّ الله عليمٌ بما يصنعون}[فاطر8].
ثم أنزل الله عليه قوله:{لَعلَّكَ باخِعٌ نَفسَكَ ألاّ يكونوا مؤمنين*إن نشأ نُنَزِّل عليهم من السماءِ آيةً فَظَلّت أعناقُهم لها خاضعين}[الشعراء 3 ـ 4].
ثم أنزل الله عليه قوله:{لاتَمُدَّنَ عينيكَ إلى مامتعنا بهِ أزواجاً منهم ولاتحزن عليهم}[الحجر15].
ثم أنزل عليه قوله:{ومن كفرَ فلا يَحزُنكَ كُفرهُ إلينا مرجِعُهُم فَنُنَبئُهُم بما عملوا إنّ الله عليمٌ بذاتِ الصدور*نُمَتِّعُهُم قليلاً ثمّ نَضطَرُّهم إلى عذابٍ غليظ}[لقمان 23 ـ 24].
العنصر الثاني:أن لايكون الرسول صلى الله عليه وسلم في ضَيق مما يمكر الكافرون أي أن لايكون في غمّ يشدّ على نفسه وقلبه ويضيّق عليهما،ويذهب بانشراح الصدر.
ومثل الرسول صلى الله عليه وسلم يكفيه للإقناع أن يقول الله له:{ولاتك في ضيق مما يمكرون} ومع ذلك فقد زاده الله إقناعاً بأنه معه ينصره ويؤيده{إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون}.
ثم زاده إقناعاً بأنه تعالى يفسد مكرهم السئ بمكر من عنده هو في الخير لا في الشر، لأنه عمل خفيّ يبطل شرهم، ويرد عليهم سوء عملهم، ويوقعهم في الحفر التي يحفرونها للرسول والمؤمنين معه، فأنزل عليه قوله:{وإذ يمكرُ بكَ الذين كفروا لِيثبتُوكَ أو يقتلوكَ أو يُخرجوكَ ويمكرون ويمكرُ الله والله خيرُ الماكرين}[الأنفال 30].
ومع هذا الإقناع أعطى الله رسوله الدواء الذي يمسح عن صدره الضيق، وهو التسبيح بحمد الله، وكثرة الصلاة والسجود لله، والقيام بعبادة الربّ مع الاستمرار في ذلك، فقال تعالى:{ولقد نعلمُ أنّكَ يضيقُ صَدرُكَ بما يقولون*فَسَبِّح بحمدِ رَبّكَ وكُن من الساجدين*واعبد رَبّكَ حتى يأتيكَ اليقين}[الحجر 97ـ 99].
عدم الاستجابة للدعوة:
إن عدم الاستجابة للدعوة وعدم تفاعل الناس مع الدعاة والالتفاف حولهم والسير على خطاهم يجب أن يقابله الدعاة:
1 ـ بالصبر الجميل: يقول تعالى:{فاصبر صبراً جميلاً}[المعارج5] أي بدون شكوى.
2 ـ بالصفح الجميل:يقول تعالى:{فاصفح الصفح الجميل} [ الحجر85] ، والصفح:ترك العقاب واللوم، وهو أبلغ من مجرد العفو،أي الحسن اللطيف بدون عتاب أو انتقام، يقول تعالى:{فاصفح عنهم وقل سلامٌ فسوفَ يعلمون}[الزخرف89]وتعامل مع الناس بالخلق الحسن بدون تبرم أو ضجر أو حنق أو حقد أو يأس.وقد كان في مقدور رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو عليهم وأن يطلب لهم العذاب والعقاب، كما فعل غيره من الدعاة أو الأنبياء، ولكنه لم يفعل بل دعا لهم ولم يدعو عليهم، وهذا يتطلب من الدعاة الحلم والتأني والمغفرة للناس واحتمال جفوتهم وغلظتهم وابتعادهم ، ويقول تعالى أيضاً{فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره}[البقرة109].
يقول الأستاذ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني(كتاب الأخلاق الإسلامية ج1 ص474):
“ومما أدّب الله به رسوله أن يتحلى بخلق الصفح، وهو الإعراض عن مواجهة السيئة بمثلها،وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمل الناس صفحاً، يتلقى من قومه الأذى المؤلم فيعرض عن تلويمهم أو تعنيفهم أو مقابلتهم بمثل عملهم،ثم يعود إلى دعوتهم ونصحهم كأنما لم يلق منهم شيئاً.
وفي تأديب الله لرسوله بهذا الأدب أنزل الله عليه في المرحلة المكية قوله تعالى:{فاصفحِ الصفحَ الجميل*إنَّ رِبّكَ هو الخلاّقُ العليم}[الحجر 85 ـ 86].
ثم أنزل عليه قوله تعالى:{فاصفح عنهم وقُل سلامٌ فسوفَ يعلمون}[الزخرف89].
فكان يقابل أذى أهل الشرك بالصفح الجميل،وهو الصفح الذي لايكون مقروناً بغضب أو كبر أو تذمر من المواقف المؤلمة وكان كما أدبه الله تعالى.
ثم كان يقابل أذاهم بالصفح الجميل، ويعرض قائلاً:سلام.
وفي العهد المدني لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود أهل المدينة أنواعاً من الخيانة، فأنزل الله عليه قوله:{ ولا تزالُ تَطَّلعُ على خائنةٍ منهم إلاّ قليلاً منهم فاعفُ عنهم واصفح إنَّ الله يحبُ المحسنين}لاتزالُ [المائدة 13].
فصبر الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم وعفا وصفح، حتى جاء الإذن الرباني بإجلائهم، ومعاقبة ناقضي العهد منهم”.
3 ـ الهجر الجميل:{ واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً}[المزمل10]الذي لاإيذاء معه.
يقول سيد قطب رحمه الله:”والهجرُ الجميل مع التطاول والتكذيب،يحتاج إلى الصبر بعد الذكر.والصبر هو الوصية من الله لكل رسول من رسله،مرة ومرة ومرة،ولعباده المؤمنين برسله.وما يمكن أن يقوم على هذه الدعوة أحد إلا والصبر زاده وعتاده،والصبر جنته وسلاحه،والصبر ملجؤه وملاذه…فهي جهاد…جهاد مع النفس وشهواتها وانحرافاتها وضعفها وشرودها وعجلتها وقنوطها…وجهاد مع أعداء الدعوة ووسائلهم وتدبيرهم وكيدهم وأذاهم.ومع النفوس عامة وهي تتغضى من تكاليف هذه الدعوة،وتتفلّت،وتتخفّى في أزياء كثيرة،وهي تخالف عنها ولا تستقيم عليها.والداعية لازاد له إلا الصبر أمام هذا كله.والذكر وهو قرين الصبر في كل موضع تقريباً”.
ومن جانب آخر فإن عدم الاستجابة لايعني أن يكون الداعية يائساً مثبطاً محبطاً، ينعزل عن الناس ويبتعد عنهم ويميل إلى الانعزالية في تصرفاته وسلوكه تجاههم.
يقول الأستاذ أحمد أمين رحمه الله[فيض الخاطر ج1 ص53]:”مما يدعو إلى الأسف أن صوتاً في الشرق علا كل صوت، وهو ليس خير الأصوات وأحبّها إلى النفس، هو صوت اليأس والتثبيط، يتغنى به كل أصناف الدعاة، فخطيب المسجد تدور خطبته دائماً على أن من يخطبهم ليسوا مؤمنين حقاً، فقد ارتكبوا الأوزار واجترموا من الآثام ما أخرجهم عن الإيمان الحق وأبعدهم عن الدين الصحيح، ولو أخذهم الله بأعمالهم لأمطرهم حجارة من السماء أو خسف بهم الأرض، ثم يصب هذا المعنى كل اسبوع في قالب، وكل القوالب متشابهة متقاربة، ويخرج السامع دائماً وقد ملأه اليأس وانقطع منه الرجاء إلا أن يتداركه الله بعفوٍ ليس جزاءً على عمل، ويتابع رحمه الله:”أيها الدعاة اكسروا قيثارتكم هذه التي لاتوقع إلا نغمة واحدة بغيضة واستبدلوا بها قيثارة ذات ألحان صنعها طَبٌّ بأدواء النفوس عليم، وأكثروا من ألحان تبعث الأمل وتدعو إلى العمل، وتزيد الحياة قوة ولاتشهروا برذيلة إلا إذا أشدتم بفضيلة ولاتسمعون صوت المعاول إلا إذا أريتمونا حجر البناء”.
يقول الأستاذ الدكتور محمد لطفي الصباغ حفظه الله:إن تدبر سيرة الرسول العظيم وقاية للدعاة من اليأس، واليأس قتّال،إنه يقعد بالدعاة عن الاستمرار في الدعوة، وقد يقود بعضهم إلى التغير والسقوط في مهاوي الانحراف والضلال.إن يأس الدعاة يعني انتهاءهم، وقد ينفي بعضهم اليأس عن نفسه باللسان ولكنه يكون في حقيقة الأمر يائساً أعظم اليأس، إن ذلك النفي لايغير من حقيقة الأمر شيئاً، إذ الأمور بواقعها لابدعاوى المدّعين.
جاء في الحديث الشريف الذي أخرجه البخاري عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو متوسدٌ بردة في ظل الكعبة ـ فقلنا: الاتستنصر لنا؟ ألاتدعو لنا؟ فقال:”قد كان من قبلكم يُخذ الرجل فيُحفر له في الأرض حفرة فيُجعل فيها، فيُجاء بالمنشار، فيُوضع على رأسه فيُجعل نصفين، ويُمشط بأمشاط الحديد من دون لحمهِ وعظمهِ، فما يصده ذلك عن دينه،والله ليتمنّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لايخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون”.ويتابع الدكتور الصباغ حفظه الله:”إن الأمور لاتأتي دائماً على مراد الإنسان، سواءفي أموره الدنيوية أم في أموره الدّعوية،والمؤمن مبتلى، فعلى المرء العاقل المؤمن أن يصبر، وأن يواجه الحياة بأمل،وأن يستبعد من طريقه اليأس، ولله دَرُّ القائل:
أَخلِق بذي الصبر أن يحظى بحاجتهِ ومُدمنِ القرعِ للأبوابِ ان يلجا
ومما يطرد اليأس التوكل على الله والصبر، والاستمرار على السير في طريق الدعوة، وليطمئن المؤمنون بأن العاقبة لهم، قال تعالى:{ وكان حقاً علينا نصرُ المؤمنين}[الروم47].
ويقول الأستاذ مصطفى لطفي المنفلوطي رحمه الله(الأعمال الكاملة المجلد الاول ص185 تحت عنوان الدعوة):
“ما من قائم يقوم في مجتمع من هذه المجتمعات البشرية داعياً إلى ترك ضلالة من الضلالات أو بدعة من البدع، إلا وقد آذن نفسه بحرب لاتخمد نارها،ولايخبو أوراها حتى تهلك، أو يهلك دونها.ليس موقف الجندي في معترك الحرب بأحرج من موقف المرشد في معترك الدعوة،وليس سلب الأجسام أرواحها،بأقرب منالاً من سلب النفوس غرائزها وميولها..ولا يضن الإنسان بشئ مما تملك يمينه ضنه بما تنطوي عليه جوانحه من المعتقدات،وأنه ليبذل دمه صيانة لعقيدته،ولا يبذل عقيدته صيانة لدمه،وما سالت الدماء ولا تمزقت الأشلاء في موقف الحروب البشرية من عهد آدم إلى اليوم إلا حماية للمذاهب وذوداً عن العقائد.
لذلك كان الدعاة في كل أمة أعداءها وخصومها، لأنهم يحاولون أن يرزؤوها في ذخائر نفوسها،ويفجعونها في أعلاق قلوبها.
الدعاة أحوج الناس إلى عزائم ثابتة،وقلوب صابرة على احتمال المصائب والمحن التي يلاقونها في سبيل الدعوة،حتى يبلغوا الغاية التي يريدونها أو يموتوا في طريقها.
الدعاة الصادقون لا يبالون أن يسميهم الناس خونة أو جهلة أو زنادقة أو ملحدين، أو ضالين، أو كافرين، لأن ذلك ما لابد أن يكون.
الدعاة الصادقون يعلمون أن محمداً صلى الله عليه وسلم عاش بين أعدائه ساحراً كذاباًن ومات سيد المرسلين، وأن الإمام الغزالي عاش بالكفر والإلحاد ومات حجة الإسلام،وأن ابن رشد عاش ذليلاً مهاناً حتى كان الناس يبصقون عليه إذا رأوه، ومات فيلسوف الشرق،فهم يحبون أن يكونوا أمثال هؤلاء العظماء أحياءً وأمواتاً.
سيقول كثير من الناس:وما يغني الداعي دعاؤه في أمة لاتحسن به ظناً،ولا تسمع له قولاً،إنه يضر نفسه من حيث لا ينفع أمته،فيكون أجهل الناس وأحمق الناس.
هذا ما يوسوس به الشيطان للعاجزين الجاهلين،وهذا هو الداء الذي ألمّ بنفوس كثير من العلماء فأمسك ألسنتهم عن قول الحق،وحبس نفوسهم عن الانطلاق في سبيل الهداية والإرشاد،فأصبحوا لا عمل لهم إلا أن يكرروا للناس ما يعلمون،ويعيدوا عليهم ما يحفظون،فجمدت الأذهان،وتبلدت المدارك،وأصبحت العقول في سجن مظلم لا تطلع عليه الشمس،ولا ينفذ إليه الهواء.
الجهلاء مرضى والعلماء أطباء،ولا يجمل بالطبيب أن يحجم عن العمل الجراحي فراراً من إزعاج المريض،أو خوفاً من صياحه وعويله،أو اتقاء لسبه وشتمه،فإنه سيكون غداً أصدق أصدقائه وأحبّ الناس إليه.
ويتابع رحمه الله:”رأيت الدعاة في هذه الامة أربعة:رجلاً يعرف الحق ويكتمه عجزاً وجبناً، فهو ساكت طول حياته لاينطق بخير ولاشر،ورجلاً يعرف الحق وينطق به ولكنه يجهل طريق الحكمة والسياسة في دعوته،فيهجم على النفوس بما يزعجها وينفرها،وكان خيراً له لو صنع ما يصنعه الطبيب الماهر الذي يضع الدواء المر في “برشامة” ليسهل تناوله وازدراده، ورجلاً لا يعرف حقاً ولا باطلاً، فهو يخبط في دعوته خبط الناقة العشواء في بيدائها،فيدعو إلى الخير والشر والحق والباطل،والضار والنافع،في موقف واحد.ورجلاً يعرف الحق ويدعو الأمة إلى الباطل دعوة المجد المجتهد، وهو أخبث الأربعة وأكثرهم غائلة، لأنه صاحب هوى يرى أنه لا يبلغ غايته منه إلا إذا أهلك الأمة في سبيله،فهو عدوها في ثياب صديقها،لأنه يوردها موارد التلف والهلاك باسم الهداية والإرشاد.فليت شعري من أي واحد من هؤلاء تستفيد الأمة رشدها وهداها؟!
ما أعظم شقاء هذه الأمة وأشد بلاءها،فقد أصبح دعاتها في حاجة إلى دعاة، ينيرون لهم طريق الدعوة، ويعلمونهم كيف يكون الصبر والاحتمال في سبيلها. فليت شعري متى يتعلمون، ثم يرشدون.انتهى كلام المنفلوطي.
ومن السلبيات الأخرى التي قد يلجأ إليها بعض الدعاة إن لم تحصل استجابة لدعوته الانعزال وعدم الاختلاط بالمجتمع، وربما معاداته ومحاربته وربما تكفيره، وقد يفهمون بعض الآيات فهماً خاطئاً أو يضعونها في غير مواضعها، ومنها قوله تعالى{وإذ اعتزلتُموهُم وما يَعبدونَ إلا الله فأووا إلى الكهفِ يَنشر لكم رَبُّكم من رحمتهِ ويُهيئ لكم من أمرِكُم مِرفقا}[الكهف16]، وقوله تعالى{وأعتَزِلُكُم وما تدعونَ من دُونِ الله وأدعوا رَبّي عسى ألا أكونَ بِدُعاءِ رَبّي شقياً}[مريم48]، وقوله تعالى{وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون}[الدخان21].
يقول الأستاذ مصطفى صادق الرافعي رحمه الله[من وحي القلم ج2 ص90]:”إن الزاهد المنقطع في الجبل ينظر من صومعته إلى الدنيا، ليس بأحكم ولا أبصر ممن ينظر من آلامه إلى الدنيا.إن الزاهد يحسب أنه قد فر من الرذائل إلى فضائله، ولكن فراره من مجاهدة الرذيلة هو في نفسه رذيلة لكل فضائله،وماذا تكون العفة والأمانة والصدق والوفاء والبرُّ والإحسان وغيرها، إذا كانت فيمن انقطع في صحراء أو على رأس جبل؟ أيزعم أحدٌ أن الصدق فضيلة في إنسان ليس حواليه إلا عشرة أحجار؟ وأيم الله إن الخالي من مجاهدة الرذائل جميعاً، لهو الخالي من الفضائل جميعاً”.
إن الانعزال والبعد عن المجتمع ومحاربته والانفصال الشعوري والحسي عنه من الأخطاء الكبيرة التي يقع بها بعض الدعاة، وإن عدم صبرهم على من يدعونه وهجرتهم قد تلحق بهم أشد الضرر وكذلك على دعوتهم ولعلّ في قصة سيدنا يونس الذي لم يصبر على دعوة قومه وهجرانهم وابتعاده عنهم وما حدث له من بعد ذلك والتقام الحوت له ثم توبته وعودته مجدداً إلى قومه الذين أمنوا به والتحقوا بركب الدعوة من الأمثلة القرآنية الواضحة حول هذا الموضوع.
يقول الأستاذ عصام العطار حفظه الله:”لاتبالغوا في إساءة الظن بالإنسان،ولاتقطعوا الأمل في استجابة الناس للحق مهما بدا في أول الأمر من الصدِّ والإعراض، فقد يكون من وراء صخور القلوب البادية للعين ينابيعُ كامنةٌ للإيمان والخير، ولكن أين من يُفجّر بإيمانه وصدقه وصبره ومثابرته ووعيه واقتداره هذه الينابيع الكامنة،ليكون لنا من بعض هؤلاء المعرضين الآن بعض ماكان في الماضي من عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وأمثالهما على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم والسابقين الكرام من أصحابه إلى الإسلام”.
إن بعض الدعاة يظنون أنه يكفي لإقناع الناس بصحة دعواهم أن تكون الحجة جلية واضحة، والبيان فصيحاً بليغاً، فإذا لم يستجب الناس لهم ولدعوتهم يلقون التبعة على أكتافهم ظانين أنهم أدوا ماعليهم ولسان حالهم يقول”وما على الرسول إلا البلاغ”، وهؤلاء ينسون أن الأمر يحتاج إلى صبر ومعايشة ومثابرة، ولعل في قصة سيدنا يوسف عليه السلام في السجن تبين لنا كيف أنهم أحبوه ووصفوه من المحسنين بعد الخبرة والتجربة والقدوة الحسنة، فلابد من التعامل مع الناس والالتقاء بهم والصبر عليهم والإحسان لهم.
يقول الأستاذ محمد لطفي الصباغ حفظه الله[خواطر في الدعوة إلى الله]:”ومن العقبات التي تعد من سلبيات الدعوة هذا الاستعجال الذي تلقاه عند نفر طيب من الدعاة الذين يحاولون اختصار الطريق، فينقطعون في منتصف الدرب، ويسيئون، وما أجمل هذا المثل الذي يُروى مرفوعاً ولكنه بسند ضعيف:” إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق،فإنَّ المنبتَّ لا أرضاً قطع ولاظهراً أبقى“.إن الذي يستعجل في سيره فيحمل دابته على الجري المستمر، هذا الإنسان لايقطع مسافة قصيرة حتى تموت هذه الدابة وينقطع في الطريق، فلاهو قطع أرضاً ولاابقى لنفسه ظهراً يركبه،ويتابع:” إن المطلوب من الدعاة هو البلاغ وليس عليهم إدراك النتائج، قال تعالى مخاطباً رسوله{فإن أعرضوا فما أرسلناكَ عليهم حفيظاً إن عليكَ إلا البلاغ}[الشورى48]،وقال تعالى {ليسَ عليكَ هُداهُم ولكِنَّ اللهَ يهدي من يشاء}[البقرة 272].انتهى كلام الأستاذ الصباغ.
وهناك فرق كبير بين”الغرباء” الذين ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم و”الانعزاليين” الذين يتركون الدعوة والناس .
الحديث الشريف الصحيح:”بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدا فطوبى للغرباء” [رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه]، وفي رواية أخرى:”فطوبى للغرباء قيل: ومن الغرباء يارسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس“. وفي رواية:” الذين يحيون سنتي ويعلمونها الناس“.
يقول الأستاذ محي الدين القضماني(كلمات ومواقف ص42 تحت عنوان غربة المسلم):
“تكون الغربة عادة في البعد والنزوح عن الوطن،ويصحبه شعور بالوحشة والانقباض،حين لايرى الغريب من حوله إخواناً وأعواناً، فيحن إلى أهله الذين تطيب له الحياة في كنفهم.
وقد يحسّ الإنسان بالغربة وهو في بلده إذا فقد الأمن والأنس ولم يجد أخاً يركن إليه وصديقاً يوافقه.
فغربة المسلم ليست بعداً عن الأهل والوطن،ولكنها تركه لما عليه أهل الجاهلية وابتعاده عن مسايرتهم في باطلهم،وشعور بالوحشة والانقباض من أعمالهم وسلوكهم،وحنين وشوق إلى مجتمع مسلم وحياة كريمة يرجوها ويسعى إليها ويرى فيها الأمنوالأنس والخير.
والمؤمن الذي عرف الله سبحانه وآمن برسوله،فعَلت همّته وصلح حاله واستقام على أوامر الدين،كثيراً مايعيش غريباً في قومه وبلده.وكيف لا يكون غريباً وهو يرى نفسه وحيداً في طريق الهداية والناس من حوله تائهون سادرون في الغواية مخالفون له في فكره ومشاعره وسلوكه؟وهو لايجد بينهم على الحق نصيراً ومعيناً.
لذلك عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون الأولون غرباء في بلدهم وبين أهليهم،لايلقون منهم إلا الإعراض والتكذيب والأذى.
ولكن الغربة لا تعني هنا الذل والضعف والمسكنة، ولكنها تعني قلة العدد مع الصلابة في الحق وعدم الانسياق مع الباطل وأهله.
إن الإنسان إذا عرف الحق وجبن عن التزامه مسايرة لأهل الباطل المنحرفين من حوله عاش إمعة، ولم يكن له شرف المؤمنين الغرباء الذين آثروا رضى الله والأنس به على رضى الناس والأنس بهم،وكانوا غالباً قليلاً في أهل زمانهم،كما قال تعالى:{فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم}[هود116]، فهؤلاء هم الناجون عند الله تعالى الذين قال عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:”فطوبى للغرباء“.وقد جاء وصف هؤلاء الغرباء في بعض روايات الحديث”..فطوبى للغرباء.قيل: ومن الغرباء يارسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس“وفي حديث آخر”قيل: ومن الغرباء يارسول الله؟قال: الذين يحيون سنتي ويعلمونها الناس”.
ويتابع الأستاذ القضماني:”وإن شعور الغربة هو الذي يحفظ على المؤمن تمسكه بدينه وعقيدته حين يعود الإسلام غريباً كما بدأ،حين يقل المؤمنون به الملتزمون لحدوده.وحين ينصرف السواد الأعظم من البشر عن تعاليمه ويعمون عن هديه، وحين يصير المسلم ـ كما يقول الإمام ابن القيم(مدارج السالكين) ـ غريباً في أمور دنياه وآخرته،لايجد من العامة مساعداً ولا معيناً،فهو عالم بين جهال،صاحب سنة بين أهل بدع،داع إلى الله ورسوله بين دعاة إلى الأهواء والبدع،آمر بالمعروف ناه عن المنكر بين قوم المعروف لديهم منكر والمنكر معروف.
إن شعور الغربة بالحق بين أهل الباطل يمنع المرء من أن يخالط الناس ويغشى منازلهم راضياً بما يرى منهم من كفر واستهزاء بآيات الله،طمعاً في رضاهم ورغبة في العزة بهم،فيسقط بذلك في زمرة المنافقين الذين يقول الله تعالى فيهم:{بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً*الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعاً*وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا}[النساء 138 ـ 140].
إن مجالسة المستهزئين بآيات الله مع السكوت عن انحرافهم واتخاذهم دينهم هزواً ولعباً هي أول مراتب النفاق الذي يفقد القلب حميته لله واعتزازه بدينه ونفوره من الاجتراء على محارمه.
والفهم الصحيح للغربة وهجر اهل الباطل لايعني الكسل واعتزال الناس والاستراحة من مجاهدتهم ودعوتهم إلى الله وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر،فسيد الغرباء يدعونا إلى أن نخالط الناس ونصبر على أذاهم، ويعلمنا أن الغربة تكون في عدم الانسياق معهم في باطلهم وفي تجنب إساءتهم إن أساءوا.انتهى كلام الاستاذ القضماني.
نعم، هؤلاء”الغرباء” يبقون على دعوتهم ولقائهم بالناس رغم العوائق والتضحيات والمشاق، قد يحاربهم الجميع وقد يلقون أشد أنواع الأذى والعنت والمكروه ولكنهم باقون في الدعوة إلى الناس لايتخلون عن الدعوة ولايتخلون عن واجبهم .
نعم إن طريق الدعوة إلى الله سوف يواجه بكثير من الصعاب والعقبات، وسوف يكون محفوفاً بالمكاره والأشواك، فأعداء الدعوة وأنصار الباطل كثر، وسوف يتصدون للدعاة ويحاربونهم بكل شتى وسائل الكيد والخداع والمكر والبغي .
يقول الأستاذ حسن البنا رحمه الله مخبراً الدعاة عن العقبات التي سوف تواجههم وتؤخر من قبول الناس لدعوتهم، فيقول لهم :إن العقبات المتوقعة أن تجدوها في طريق الدعوة تتمثل:
1 ـ جهل الشعب بدعوتكم
2 ـ استغراب أهل التدين فهمكم وإنكار العلماء الرسميين جهادكم
3 ـ حقد الرؤوساء والزعماء وأصحاب الجاه والسلطان
4 ـ وقوف كل الحكومات على السواء في وجوهكم والحد من نشاطكم.
5 ـ تذرع الغاصبين بكل طريق لمناهضتكم ولإطفاء نور دعوتكم
6 ـ إثارة غبار الشبهات وظلم الإتهامات.
انتهى كلام البنا رحمه الله.
نعم ،هؤلاء هم الغرباء الذين مدحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إنهم يدعون إلى الحق ويستمرون في دعوتهم مع أنه لا أنصار لهم ولامُعين، فهم يشعرون أنهم كالغرباء في مجتمعاتهم يتحملون الأذى والمعاناة ولكنهم لايستنكفون عن الدعوة ويستمرون بها.
يقول الأستاذ محي الدين القضاني[كلمات ومواقف ص43]:”تكون الغربة عادة في البعد والنزوح عن الوطن،ويصحبه شعور بالوحشة والانقباض حتى لايرى الغريب من حوله إخواناً وأعواناً، فيحن إلى أهله الذين تطيب له الحياة في كنفهم، وقد يحس الإنسان بالغربة وهو في بلده إذا فقد الأمن والأنس ولم يجد أحداً يركن إليه وصديقاً يوافقه، فغربة المسلم ليست بعداً عن الأهل والوطن، ولكنها تركه لما عليه أهل الجاهلية وابتعاده عن مسايرتهم في باطلهم، وشعوره بالوحشة والانقباض من أعمالهم وسلوكهم، وحنين وشوق إلى مجتمع مسلم وحياة كريمة يرجوها ويسعى إليها ويرى فيها الأمن والأنس والخير، ويتابع:”والمؤمن الذي عرف الله سبحانه وآمن برسوله، فعلت همته، وصلح حاله، واستقام على أوامر الدين كثيراً مايعيش غريباً في قومه وبلده، وكيف لايكون غريباً وهو يرى نفسه وحيداً في طريق الهداية والناس من حوله تائهون سادرون في الغواية مخالفون له في فكره ومشاعره وسلوكه. وهو لايجد بينهم على الحق نصيراً ومعيناً، لذلك عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون الأولون غرباء في بلادهم وبين أهليهم لايلقون منهم إلا الإعراض والتكذيب والأذى، ولكن الغربة لاتعني هنا الذل والضعف والمسكنة، ولكنها تعني قلة العدد مع الصلابة في الحق، وعدم الإنسياق مع الباطل وأهله”.
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين:”وحين يصير المسلم غريباً في أمور دنياه وآخرته لايجد من العامة مساعداً ولامعيناً، فهو عالم بين جهال، صاحب سنة بين أهل بدع، داع إلى الله ورسوله بين دعاة الأهواء والبدع، آمر بالمعروف، ناهٍ عن المنكر بين قوم المعروف لديهم منكر، والمنكر معروف”.
هذا هو المعنى الصحيح والحقيقي للغربة، وليس معناها البعد عن الناس، وتكفيرهم وتحقيرهم، وهو لايعني أيضاً الذل والضعف والمسكنة، بل المسلم الصادق عزيزٌ في نفسه، مُستعلٍ على الطاغوت والجبروت ولو كان وحده.يقول الأستاذ عصام العطار حفظه الله:” يجب أن تكون في نفسك أكبر من الواقع الفاسد لتغير الواقع الفاسد،أما إذا شعرت بأنك أصغر منه فهو الذي سيغيرك”.{ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}.
أجر الداعية:
الدعوة إلى الله واجبٌ على كل داعية،وهي شرفٌ له،راجياً من الله ثوابه، خائفاً عقابه،ممتثلاً لأوامره،مجتنباً لنواهيه، عاملاً بأحكامه.
والأجر يناله الداعية من الله ربّ العالمين،فلايطلب من العالمين أجراً ولامالاً ولاثناءً ولاجاهاً.وقد جاء هذا المعنى العظيم في القرآن الكريم على لسان كثيرٍ من الأنبياء والرسل والدعاة:
نوح عليه السلام:{وياقوم لا أسألكم عليه مالاً إن أجري إلا على الله}
هود عليه السلام:{ياقوم لا أسألكم عليه أجراً إن أجري إلا على الذي فطرني}
محمد صلى الله عليه وسلم:{ قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى}.
وفي سورة الشعراء تتكرر الآية الكريمة{وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين}، تتكرر خمس مرات على ألسنة خمسة من الأنبياء تأكيداً للقاعدة أن نربط الأجر على قول الحق والدعوة إلى الله بالله رب العالمين، وأن نقطع كل صلة ترتبط بأجر على الدعوة ممن ندعوهم إلى الله.
وفي سورة يس على لسان صاحب القرية{وجاءَ من أقصا المدينةِ رجلٌ يسعى قالَ ياقومِ اتّبعوا المُرسلين*اتّبعوا من لايسألُكُم أجراً وهم مُهتُدون} [يس20 ـ 21].
وقد جاءت الآيات القرآنية تبين عظيم أجر الدعاة إلى الله:
{ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين}
{الذين يُبلّغونَ رِسالاتِ الله ويخَشَونهُ ولايَخشونَ أحداً إلا الله وكفى بالله حسيباً}[الأحزاب 39]
{قل إني لن يُجيرني من الله أحدٌ ولن أجد من دونه مُلتحدا إلا بلاغاً من الله ورسالاته}[الجن 22 ـ 23]
وقد جاءت الأحاديث النبوية الشريفة تبين عظيم الأجر عند الله للدعاة في سبيله:
“من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه،من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً“[رواه مسلم والترمذي وأبو داود].
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه:
“فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمر النّعم” وفي رواية” خير لك مما طلعت عليه الشمس” [متفق عليه]
“من دلّ على خير فله أجر فاعله”.
“إن الله وملائكته يصلون على معلمي الناس الخير”.
“إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قوماً فقال:يا قوم إني رأيت الجيش بعيني وإني أنا النذير العريان فالنجاء النجاء.فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا فانطلقوا على مهلهم فنجوا.وكذبت طائفة منهم فاصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم.فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من الحق”.
“مثل ما بعثني الله به من الهدىوالعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً.فكانت طائفة منها طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير.وكانت منها طائفة أخاذات أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا. وكانت منها طائفة قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ،فذلك من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم.ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به”.
وجاءت أقوال السلف والخلف تبين على هذا المعنى:
يقول الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله لشباب الدعوة:”إن الله قد أعزّكم بالنسبة إليه والإيمان به والتنشئة على دينه، وكتب لكم بذلك مرتبة الصدارة من الدنيا ،ومنزلة الزعامة من العالمين،وكرامة الأستاذ بين تلامذته{كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}[آل عمران 110].فأول مايدعوكم إليه أن تؤمنوا بأنفسكم وأن تعتقدوا أنكم سادة الدنيا وإن أراد لكم خصومكم الذل،وأنكم اساتذة العالمين وإن ظهر عليكم غيركم بظاهر من الحياة الدنيا والعاقبة للمتقين”.ويقول لهم أيضاً:”أريد بالإخلاص أن يقصد الأخ المسلم بقوله وعمله وجهاده كله وجه الله وابتغاء مرضاته وحسن مثوبته من غير نظر إلى مغنم أو مظهر أو جاه أو لقب أو تقدم أو تأخر، وبذلك تكون جندي فكرة وعقيدة لاجندي غرض ومنفعة{قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لاشريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}.
ويقول الأستاذ عصام العطار حفظه الله محذراً هؤلاء الذين يعملون لمصلحتهم ومنافعهم المادية ولايرجون ثواب الله وأجره:”لاتربطوا أعمالكم بالنتائج القريبة والمكاسب المادية والدنيوية، إن توقعتموها عملتم وإلا انصرفتم عن العمل فهذا شأن المرتزقة لا شأن المؤمنين. أما المؤمنون الصادقون فحسبهم أن يكونوا مع الله، ومع الحق الذي انزله الله يجاهدون في سبيله ويموتون من أجله ويرون جزاء الله عز وجل خير من مكاسب الدنيا التي يتراكض إليها ويتهافت عليها الذين لايرجون الله واليوم الآخر{ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون* ولئن متم أو قتلتم لا إلى الله تحشرون}[آل عمران 157 ـ 158].
ويقول الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله:”لو عمل العاملون انتظاراً للجزاء في الدنيا لماتوا همّاً وكَمدا”.
وهناك من يحصل على ثواب الله في الآخرة وينال الأجر أيضاً في الدنيا بالتمكين وظهور دعوته وقطف ثمار عمله ودعوته فلنعم الجزاء في الدارين.
يقول الأستاذ أحمد أمين رحمه الله[فيض الخاطر ج2 ص227] يتكلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :”ففي عشرين عاماً استطاع بتأييد الله أن يغير كل هذه الفوضى، وأن يغيّر كل هذه المظاهر، وفوق ذلك أن يغيّر هذا الروح، فجعل من القبائل واشباه القبائل أمة عربية واحدة،ورد الأصنام إلى أماكنها في الأرض وساوى بينها وبين أخواتها من الحجارة،وحوّل عبادتهم إلى إله واحد فوق الأرض وفوق السماء وفوق المادة كلها.هو وحده الصمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤ أحد،فرفع من نفوسهم المرتبطة بالحجارة، والمتصلة بالأرض لتحّلق فوق السماء ولتنظر إلى العالم كله نظرة سامية عميقة، ولتحتقر عرض الدنيا في سبيل نصرة الحق”.
ويقول الأستاذ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني(الأخلاق الإسلامية ج1 ص484):
“ومما أدّب الله به رسوله أن يكون عمله في تأدية رسالته خالصاً لوجه الله تعالى، لايبتغي به أجراً من الناس.
وبدأ هذا التأديب للرسول مع أول مراحل الرسالة،ومع وصف الله له بأنه لعلى خلق عظيم:{ن والقلم ومايسطرون*ما أنت بنعمةِ رَبِّكَ بمجنون*وإنَّ لكَ لأجراً غيرَ ممنون*وإنّكَ لعلى خُلُقٍ عظيم}[القلم 1 ـ 4].
فأبان الله له من طرف خفيّ أن عليه أن يخلص لله في تأدية الرسالة،وأن له أجراً على ذلك لاينقطع عند الله تعالى.ثم أبان له في السورة نفسها، أن الداعي إلى الله من شأنه أن لايطالب الناس بأجر على هدايته لهم،وإرشاده إياهم إلى منهج سعادتهم، حتى يكون أكثر تأثيراً فيهم،إذ يشعرون أنه لاغرض له عندهم، وإلا اتهموه بالغرض فضعف تأثيره في نفوسهم، يقول تعالى:{أم تسألهم أجراً فهم من مَغرمٍ مُثقلون}[القلم46].وجاء هذا على صيغة استنكار تكذيبهم له، مع أنه صلوات الله عليه لم يسألهم أجراً.
ثم أمره الله تعالى بأن يواجههم بقوله لهم: ما أسألكم عليه من أجر،حتى يقطع ظنونهم وأوهامهم، التي قد تصور لهم أنه طالب دنيا،مُلكٍ أو مالٍ،أو زعامة، أو غير ذلك من متاع الحياة الدنيا، فأنزل الله عليه:{قل ما أسألكم عليهِ من أجرٍ وما أنا من المُتكلّفين*إن هو إلا ذكرٌ للعالمين*ولَتعلَمُنَّ نبأهُ بعدَ حين}[ص 86ـ 88].
ثم أنزل عليه قوله:{وما أرسلناكَ إلاّ مُبشراً ونذيرا*قل ما أسألكم عليهِ من أجرٍ إلاّ من شاءَ أن يتخذَ إلى رَبِّهِ سبيلا}[الفرقان 56 ـ 57].فأمره الله أن يؤكد للناس أنه لايسألهم على الأمر الذي يقوم به لخيرهم وسعادتهم أي أجر، إلا رضا قلبه وسعادة نفسه بهداية من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا يكون فيها من الناجين.
ثم أنزل الله عليه :{وما أكثرُ النّاسِ ولو حَرصتَ بمؤمنين*وما تسألهم عليهِ من أجرٍ إن هوَ إلاّ ذكرٌ للعالمين}[يوسف 103 ـ 104].فأبان الله له أن أكثر الناس لايؤمنون ولو حرص على إيمانهم وهدايتهم، هذا مع أنه لايسألهم على الأمر الذي يقوم به لخيرهم وسعادتهم من أجر.
ثم أنزل عليه قوله:{أم تسألهم أجراً فهم من مَغرمٍ مُثقلون}[الطور40]. أي إنك لم تسألهم ولاتسألهم أجراً حتى يجدوا هذا الأجر مغرماً يستثقلونه، فيصدون من أجل استثقاله عن الاستجابة لك، والإيمان برسالتك، وتصديقك فيما تبلغهم عن ربك.
وكل ماسبق كان في العهد المكي. ثم أنزل الله على رسوله في العهد المدني:{قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّةَ في القربى}[الشورى42]”.
وهناك وللاسف دعاة عن غفلةٍ أو علم يرجون ويبتغون منفعة الدنيا وثواب الخلق لا الخالق،وثناء البشر لارب البشر.
يقول حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله:”وأشدّ الخلق تعرضاً لهذه الفتنة العلماء، فإن الباعث للأكثرين على نشر العلم لذة الاستعلاء والفرح والاستتباع، والاستبشار بالحمد والثناء، والشيطان يُلبس عليهم ذلك ويقول:غرضكم نشر الدين، والنضال عن الشرع الذي شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم،وترى الواعظ يَمُنّ على الله تعالى بنصيحة الخلق، ووعظه للسلاطين،ويفرح بقبول الناس قوله وإقبالهم عليه، وهو يدّعي أنه يفرح بما يُسِّر له من نصرة الدين،ولو ظهر من أقرانه من هو أحسن منه وعظاً، وانصرف الناس عنه، وأقبلوا عليه ساءه ذلك وغَمّه، ولو كان باعثه الدين لشكر الله تعالى إذ كفاه الله تعالى هذا المُهِمّ بغيره،ثم الشيطان مع ذلك لايخليه ويقول: إنما غَمّك لانقطاع الثواب عنك، لا لإنصراف وجوه الناس عنك إلى غيرك، إذ لو اتعظوا بقولك لكنت أنت المُثاب، واغتمامك لفوات الثواب محمود،ولايدري المسكين أن انقياده للحق وتسليمه الأمر أفضل وأجزل ثواباً وأعود عليه في الآخرة من انفراده”.
ويقول الأستاذ أحمد أمين رحمه الله في أمثال هؤلاء[فيض الخاطر ج2 ص163]:”وهذا يرى أنه قطب أهل العلم وعميدهم وإمامهم،رأيه مَقطع الحق ومَفصِل الصواب، قد استبطن دخائل العلم واستجلى غوامضه، وخَصّه العلم بأسراره فلم يمنحها إلا له،ولم يقفها إلا عليه، وهو في جيله نسيجُ وحدِه،وإمام عصره،لولاه لغاب نجم العلم وخبا ضؤوه، وهو وحده نصير الحق ورافع راية الصواب،ولولاه لعاش الناس في ظلام دامس، وضلال مطبق، وويل للناس إذا هدأ صوته أو خرج روحه”.
ويقول الشيخ العلّامة علي الطنطاوي رحمه الله واسكنه الفردوس الأعلى[في سبيل الإصلاح ص98]:”فصار التقي اليوم من يُكّبر عمامته،ويُطوّل لحيته، ويُوّسع كُمّه، ولاتفارق يده سبحته، ولايقف لسانه عن ذكرويطيل المكث في المساجد، وهذا كله حسن لا اعتراض عليه،غير أن حسنه ينقلب قبحاً أبشع القبح إذا اتخذه صاحبه أحبولة يصطاد بها الدنيا”.
ويقول الأستاذ عصام العطار حفظه الله:”لن يفهمنا أبداً أؤلئك الذين يقيسون الأمور بمقاييس المنافع المادية، والمطالب الدنيوية، والعصبيات العائلية والإقليمية والحزبية،لن يفهمنا إلا أولئك الذين أمنوا بحقائقهم لابمجرد شعاراتهم، وأخلصوا وصدقوا كلّ الصدق في إيمانهم، فأحبوا لله، وأبغضوا لله،وأعطوا لله، ومنعوا لله،واتخذوا الإسلام وحده مقياساً يقيسون به الأمور ويحكمون به على الأشياء، هؤلاء هم الذين يفهمونا ونفهمهم، ويلتقون بنا، ونلتقي بهم على طريق الجهاد…أما الذين لايتجاوز الإسلام عندهم أن يكون شعاراً أو ستاراً فهم في وادٍ ونحن في واد، وهيهات أن يكون هناك لقاء”.ويقول أيضاً:”ما أبشع أن يتحول الإسلام إلى أداة لاصطياد الدنيا واستغلال الناس وخدمة المفسدين في الارض مهما اختلف ذلك في درجاته وصفاته باختلاف الناس والمواقع والظروف”.ويقول أيضاً:”ويلٌ لمن لايطلب من الدنيا إلا الوجاهة والكسب”.ويقول أيضاً:”ما أصعب المسير في طريق الحق والواجب والصبر على آلامه ومىسيه وتبعاتهِ الثقال لمن كان لايرجو الله واليوم الآخر ولايذكر الله كثيرا”.
يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله(فصول إسلامية ص9 تحت عنوان دعوة الإسلام) موجزاً عناصر الموضوع قائلاً:
“إن دعوتنا هي دعوة الكمال،فكلما تردد الإنسان بين طريقين دعونا إلى خير الطريقين.
إن تردد العقل بين حق وباطل، كانت دعوتنا هي دعوة الحق،وإن تردد الطبع بين فضيلة ورزيلة، كانت دعوتنا هي دعوة الفضيلة،وإن تردد المرء بين لذة وواجب، كانت دعوتنا هي دعوة الواجب.
ونحن نعترف أنها دعوة لأصعب الطريقين،وأشقّ الأمرين.
ذلك لأن النحدار مع الهوى سهل، ولكن الصعود إلى المثل الأعلى صعب.والماء ينزل وحده حتى يستقر في قرارة الوادي، ولكنه لا يصعد إلا بالمضخّات.
والذي يدعو إلى الإثم يغري الناس بكل لذيذ ممتع،يهواه القلب،ويعشقه الطبع،من لذّة النظر، ولذّة اللمس،واللذّة الأخرى التي ركبها الله في كل نفس، فما الذي يغري به الناسَ داعي الصلاح؟
ليس له مايغريهم به إلا رضا الله، والعمل للآخرة،وترك عاجل محقّقن لآجل هو عند ضعاف الإيمان غير محقّق، لذلك أثنى الله على المؤمنين بالغيب،ووعدهم أعلى المراتب في الجنة،ولذلك يجتمع على حرب دعوتنا، اولياء النفس والشيطان،واللّاهون العابثون الذين لايفكرون بشئ، ولايهتمون لشئ.
ودعوتنا واضحة صريحة، وطريقنا مستقيم بيّننلا حجب لدينا ولا أستار،ولا خفايا ولا أسرار.
إننا نعلن مبادئنا كل يوم خمس مرات:”أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح،الله أكبر” فهل رأيتم أو سمعتم بدعوة يكررها قانونها الأساسي خمس مرات كل يوم، يصاح به على المآذن؟
ونحن ثابتون على دعوتنا،لا نستطيع أن نساوم فيها،أو ننقص منها،لأنها ليست دعوة وضعية، نحن وضعناها، فنحن نملك التصرف فيها، بل هي دعوة إلهية، ألقاها ربنا من فوق سبع سماوات على رسول منا، فمن شاء فليتبعها ليكون معنا،ومن شاء فليخالفها.ومن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر. إنما نحن دعاة، وعلى الله الحساب.
وهذه الدعوة أقوى من أن يردها شئ لأنها ذكر الله،{إنا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون}.
إن دعوتنا هي دعوة الإيمان بالله وحده لاشريك له،لانقيم أصناماً من حجر ولا أصناماً من لحم ودم،وأنه هو الذي يقسم الأرزاق، ويقدر الاعمار،فلا نخاف في الحق أحداً،ولا نطيع في معصية الخالق مخلوقاً،ولا ندع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
هي دعوة الصدق والاستقامة فلا يكون المسلم غشاشاً،ولا كذاباً،ولا سرّاقاً،ولا دجالاً ولا(شحادا) ولا بطالا، ولا فظاً غليظاً،ولا رخواً ذليلاً.
هي دعوة المحبة والأخوة، المسلم أخو المسلم، لايؤذيه بيد ولا لسان،ولا يظلمه ولا يعدو عليه. والخلق كلهم عيال الله، فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله.وفي “كل كبد حرّى أجر” حتى في الإحسان للحيوانات العجماوات.
هي دعوة القوة والعزة والجهاد: جهاد النفس، وجهاد العدو، الجهاد باللسان، والجهاد بالمال،والجهاد بالنفس، وأن يعمل المسلم للدنيا كأنه يعيش فيها أبداً، وأن يعمل للآخرة كأنه يموت غداً.
وإن الإسلام دين النظام، فلا فوضى في الإسلام.
وأن من إقامة الإسلام، نشر العدالة الاجتماعية بين الناس،ومنع الظلم، وألا يتخذ بعض الناس بعضاً أرباباً من دون الله،وألا يستعبد أحد أحداً.
ولسنا ندعو إلى الطفرة ولا إلى الثورة،لاخوفاً من أحد، فإن المسلم لا يخاف إلا الله،ولكن اعتقادنا أن الذي يأتي بالطفرة، يذهب بالطفرة، وأن التدرج سنّة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلا”.
ويقول الأستاذ العلامة محمود شلتوت رحمه الله(مجلة الرسالة العدد601):
“إنما شرعت الأديان لتصفية الأرواح، وتخليص العقول من شوائب العقائد الفاسدة،لتؤمن بالله خالق الكون ومدبره،وتذعن لعظمته،وتعترف بوحدانيته،وتسلم من الخضوع والعبودية لكل ماسواه،وتتبع هداه وتسلك صراطه السوي فلا تضل ولا تشقى.
هذا هو الجوهر الذي قامت عليه سائر الأديان منذ عرفت الأرض هداية السماء،وهذا هو (الإسلام) الذي دعا إليه جميع الأنبياء،وهذا هو الوحي الذي أوحى به إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
ويتابع رحمه الله:”بهذا تقرر، وأصبح من العقائد الإسلامية، أن هذا الدين خالد،وأنه بعقيدته وشريعته طريق الصلاح والنجاة للناس في دنياهم وأخراهم،وأن العالم مهما طال بهم الزمن وامتدت به الحياة لا يحتاج في صلاحه إلى شيء وراء الاستظلال بظل هذا الدين،والعمل بمبادئه،ومن هنا استقر في الأذهان أن شريعة الإسلام صالحة لكل زمان ومكان”.
وأخيرأً فإنه كما قال الأخ ماجد رسلان في[ أحد أعداد مجلة الرائد التي كانت تصدر في ألمانيا]:”إن ركب دعوة الخير ينتظر رجالاً يلازمون الحق ويحرسونه،وينصرونه ويفتدونه، وينهضون بالواجب ويحمونه. سيماهم الصلاح، وأخلاقهم التقوى، وقلوبهم الصفاء، وسلوكهم الوفاء.تحركهم راشدي يُوّحد ولايُفّرق،يجمع ولايبدد،يحترمون الرأي الآخر بلاتشنج، ويستمعونه بإصغاء وقور،فما وافق الحق عضّوا عليه بالنواجذ، وما خالفه نصحوا بالمعروف وادب أهل الإيمان والإحسان،يقفون مع الكبير باحترام، ومع الصغير برحمة، ومن العالم بإفادة وتوقير، ومن العامل بإكبار وتقدير، ومن الضعيف بمساعدة، ومن المظلوم بمساندة.
إن ركب دعوة الخير يعتقد رجالاً يعتقدون الاتفاق في الأصول أصل الدين وجوهر الدعوة وركيزة العقيدة، والاختلاف في الفروع ـ فيما لايعارض ماعرف من الدين بالضرورة ـ إغناء للحركة، وإنماء للعقل وإثراء للدعوة.
إن ركب دعوة الخير يتطّلع إلى رجال ديدنهم الإصلاح بكل وسيلة،وهمهم رأب الصدع بكل طريقة، وشغلهم رتق الفتق بكل حيلة، مهما بلغت شدّة المعاناة وضخامة التضحيات”.
ويقول الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله تحت عنوان”أحباء الله” يقول:”إنّ لله عباداً قطعوا علائق الشهوات،وأسرجوا مراكب الجدّ بصدق العزمات وامتطوا جياد الأمل،واتجهوا إلى الله على وَجَل،وتزودوا إليه بصالح العمل، مع إخلاص النيّة وتوسلوا إليه بصفاء القلب وصدق الطوية،فمروا بالخضرة الفاتنة مُسّبحين،وبالحطب اللاهب مُستعيذين،ولم يعبؤوا بالعقبات، ولم يلتفتوا إلى المغريات،قد صانوا وجوههم عن الابتذال،وطهروا أقدامهم من الأوحال،استعانوا بالله على مشّقة الطريق فذلّل لهم صعابه،وعلى بعد المدى فلَملم لهم رحابه،فلما اجتازوا الصعاب، سألوا الله ففتح لهم بابه،فلما دخلوه استضافوه فقرّبهم ورفع دونهم حجابه،فلما استطابوا المقام بعد طول السرى قالوا:”الحمد لله الذي صدقنا وعده، وأورثنا الارض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العالمين“أؤلئك أحباء الله، صدقوه العهد فصدقهم الوعد، ومحضوه الحب فمنحهم القرب”.
العاقبة للمتقين:
يقول الشيخ العلامة محمد أبو زهرة رحمه الله(مجلة لواء الإسلام العدد الخامس من السنة الرابعة 1950 ميلادي):
“إن الدعوة المحمدية كان انتصارها بسبب مما يقوى عليه البشر ويستطيعه التدبير الإنساني،فالرسالة المحمدية،وإن كانت من السماء،قد انتصرت بأسباب من الارض،لأن النصر لو كان من السماء لانتهت الدعوة بانتهاء من ينصره ربه بأسباب ليست أرضية،أي بإنهاء النبوة،ولكن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم إلى الحق الذي نزل عليه كانت ابتداء وليس له انتهاء،لأن أمته من بعده عليها أن تتولى نشر رسالته،والصّدع بين العالمين بدعوته،سالكين المسالك البشرية التي سنّها،ومهايع الحق التي سلكهانمتخذين من شخصه الأسوة الحسنة ومن طريقته الطريقة المثلى.
ويتابع رحمه الله:”أيها المسلمون في مشارق الارض ومغاربها،هذه دعوة نبيكم فأقيموها،وهذه وحدة الإسلام في مهده الأول فوثقوها،وهذه دولته في ماضيه فكونوها وأعيدوها،فإن لم تفعلوا فقد سلط الله عليكم ما باءت به الأمم من قبلكم،وذهبت به الجماعات،وهو الوهن،ثم ابحثا من بعد عن نسبتكم للإسلام العزيز الغالب..ولمحمد القويِّ المغالب،أهي نسبة صحيحة تسوِّغ شرف الانتماء،أم هي كذب الانتساب ،وحقيقة الاغتراب وإلى الله ترجع الأمور”.
ويقول الشيخ العلامة محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله في مقال بعنوان”الصراع بين الإسلام وأعدائه نشر عام 1373هجري:
“الصراع بين الحق والباطل قديم،كان منذ خلق الله البشر،وجعل للأهواء حظاً من السلطان على نفوسهم.ومن فروع هذا الصراع،الصراع بين الإسلام والكفر،فقد صرع الإسلام في عنفوان قوته السماوية الأولى كلّ ما كان قائماً من الأديان والنحل الباطلة،ومزّق بنوره وبرهانه الضلالات التي كانت مغطية على العقول،حتى استقر في قراره من النفوس والأقطار،وضرب بجرانه في القطعة العامرة من أرض الله.
وأصبح برهانه لائحاً،وبيناته واضحة،وقوته غالبة،فإما مسلم وإما مُلقٍ بالسَّلَم،ومن كلمته العالية أنه جعل فريضة الدعوة إليه كلمة باقية في أهله،تتوجّه إلى الضال ليهتدي،وإلى المهتدي كي لا يضلّ.
فلما ضعفت الدعوة إلى الإسلام في المسلمين بما شاب هدايتهم من ضلال،وما خالط عزائمهم من وهن،ثم تلاشت بتفرقهم فيه،واشتغالهم بالجدل الداخلي،وغفلتهم عن فوائد الدعوة فيهم وفي غيرهم،وبعدهم عن منبع هدايته الأولى،هاجت عليهم دعايات الأديان الأخرى،وما تفرّع عنها من مذاهب مادية،تغري بالمادة وتؤلهها،ومن مذاهب فكرية تغري الفكر المسلم بالمروق من الدين،وخلع رِبقته،ثم تشعبت هذه المذاهب الفكرية إلى شعبتين:
واحدة تسعى سعيها،وتبذل وسائلها لفتنة المسلم عن دينه،وإدخاله في دين آخر،وهذه الشعبة تجعل هدفها أطفال المسلمين الأحداث.
والأخرى تريد المسلم أن يخرج من الإسلام إلى الإلحاد المحض الذي يكفر بالأديان كلها،وهذه الشعبة تجعل هدفها شباب المسلمين،لما يصحب الشباب من قوة الإحساس،وسرعة التأثر،وتأجج العاطفة،والميل إلى الانطلاق.
والشعبتان معاً تلتقيان عند غاية واحدة هي فصل المسلمين ـ وهم قوة في العدد ـ عن دينهم،وهو مناط قوتهم الروحية،ليتمّ للقائمين على الشعبتين استعباد أبدان المسلمين،واستغلال خيرات أوطانهم.ومن ظنّ من عقلاء المسلمين وعلمائهم أن هذه الحملة عليهم وعلى دينهم ليست مدبرة،وليست منظمة،وليست متعاونة متساندة،وليست مرصدة لوقتها،ورامية إلى هذا الهدف،من ظنّ هذا فأقل درجته أنه مغفّل جاهل مغرور.
ولو حافظ المسلمون على فريضة الدعوة في دينهم،وكانت لهم دعاية منظمة يمدّها الأغنياء بالمال،والعقلاء بالرأي،والعلماء بالبرهان المثبت للحقائق الإسلامية،وبالتوجيه لغاية الغايات فيه،وهي إسعاد الإنسانية،وتحقيق السلام بين البشر،والقضاء على الطغيان والعدوان والظلم،وإقامة العدل بين الناس،ونشر المحبة بينهم،لو فعلوا ذلك،وحافظوا عليه في كل أطوار الزمن/لكانوا اليوم فيصلاً بين الكتلتين المتطاحنتين،وحاجزاً حصيناً بين البشرية وبين الكارثة المتوقعة،التي لا تُبقي على برٍّ ولا فاجر،ولا مؤمن ولا كافر،بل إنني أعتقد اعتقاداً جازماً أنه لو كان للإسلام دعاة فاهمون لحقيقة الإسلام،محسنون للإبانة عنها،ولعرضها على العقول،لرجعت إليه هذه الأمم الحائرة في هذا العصر،الثائرة على أديانه وقوانينه وأوضاعه،لأن أديانه لم تحفظ لهم الاستقرار النفسي،والطمأنينة الروحية،ولأن قوانينه الوضعية لم تضمن لهم المصالح المادية،ولم تُقم الموازين القسط بين طبقاتهم،ولأن الأوضاع العامة لم تحقن دماءهم،ولم تغرس المحبة بينهم،فهم لذلك تائهون،متطلعون إلى حال تُغير هذه الأحوال،وفي الإسلام ما يقول بذلك كله،ويرجع بالناس إليه،وإلى اختياره حكماً تُرضى حكومته،لو وجد من يدعو إليه على بصيرة،ويبين حقائقه،ويحسن عرضها على العقول ببرهان الواقع والمعقول.
ولم يمض على المسلمين في تاريخهم الطويل عهد كهذا العهد،في قعودهم عن الدعوة إلى دينهم،وفي هجوم الدعاية الأجنبية عليهم.
والقضيتان متلازمتان في الطباع البشرية الغالبة،وفي طبيعة الاجتماع الذي هو أملك لأحوالهم.
فمن سننه أن من لم يدافع دُوفع،وأن من لم يهاجن هُوجم،وأن من سكت على الحق أنطق غيره بالباطل،ولم يمض عليهم زمن تألبت فيه قوى الشرّ عليهم،وتألفت جنوده على مابينها من دعوات ومناقضات،كما تألبت في هذا الزمن،فالأديان كاليهودية والمسيحية الغربية الاستعمارية،والبوذية والوثنية بجميع ألوانها،والمذاهب الاجتماعية المادية كلها أصبحت ألْباً على المسلمين والإسلام،متداعية إلى ذلك عن قصد واتفاق،صادرة في ذلك عن عهد وميثاق،يسند بعضها بعضاص،ويقرض بعضها بعضاً العون والتأييد،وأن العقلاء من هذه الأمم،المتعاونة على حرب الإسلام،مسوقون بأيدي الساسة الطامعين،والقساوسة المتعصبين،والملاحدة المستهترين،حتى أصبح باطن أمرهم كظاهره،وهو أنهم قوة متحدة لحرب الإسلام،يشارك فيها ذو الدين بدينه،وذو المال بماله،وذو العقل بعقله.ويشارك فيها الساكت بسكوته.لا نلوم هؤلاء الأقوام على مايسرون من عداوة الإسلام وما يعلنون،ولا على ماصنعوا بأهله وما يصنعون،فما اللوم برادِّهم على ما هم ماضون فيه،بعد أن ابتلوا سرائرنا،وامتحنوا ضمائرنا،فوجدوها عورات ومنافذ خالية من الحراسة التي يعرفونها عنا،ومن المناعة التي يتوقعونها منا،فسددوا الغارة على ديارنا فاكتسحوها،وشدّدوا الحملة على خيرات أوطاننا فاستباحوها،ثم شنوا غارة أفجر وأنكر على عقولنا ليمسخوها،إذ بذلك وحده يضمنون التمتع بخيراتنا،والتلذذ باستعبادنا.
لا نلومهم على ذلك،فما منهم إلا موتور من هذا الإسلام في ماضيه،وأحد أطوار تاريخه،فهو حاقد عليه،يتخيّل في شبحه مفوتاً للعز والسلطان،ومقيداً للشهوات في أتباع الشيطان،أو مانعاً من الانطلاق الحيواني في بغي الإنسان على الإنسان،وما ينقمون من الإسلام إلا أنه يقيد الغريزة الحيوانية عن الظلم والتسلط والشهوة،ويفيض عليها من النور السماوي مايرفعها إلى أفق أسمى،وهم بعد ذلك عمون عما وراء ذلك الذي ينقمونه من خير في الإسلام ونفع،ولا نملك لهم أن يهتدوا إلى مافي الإسلام من عزّ بالله،وعدل في أحكامه بين عباده،رحمة بهم وإحساناً،وإلى مافيه من انطلاق،ولكن إلى الآفاق العليا الملكية.
إنما نلوم أنفسنا،ونلوم قومنا على التفريط والإضاعة،وعلى إهمال الدعوة لدينهم،والعرض لجماله ومحاسنه،وعلى التخاذل في وجه هذه القوة المتألبة المتكالبة عليهم وعلى دينهم،حتى أصبح سكوتنا وإهمالنا عوناً لهم على هدم ديننا،ومحو فضائلنا،والقضاء على مقوماتنا،فأغنياؤنا ممسكون عن البذل في سبيل الدعوة إلى دينهم،وكأن الأمر لا يعنيهم،وكأن الدين ليس دينهم،وكأنهم لا يعلمون أن هذا التكالب إن استمر لايبقي لهم عرضاً ولا مالاً ولا متاعاً،وقد بلغت الغفلة ببعضهم أن يُعين الجمعيات التبشيرية المسيحية بماله،وكأنه يقلّد عدوه سلاحاً قتّالاً،يقتل به دينه وقومه،ولم يبق عليه من فضائح الجهل إلا أن يقول لعدوه:اقتلني به.إننا لا نكون مسلمين حقاً،ولا نستطيع أن ندفع هذه الجيوش المغيرة علينا وعلى ديننا،تارة باسم العلم،وتارة باسم الخير والإحسان،وأخرى باسم الرحمة بالإنسان،إلا إذا علمنا مايراد بنا،وفقهنا الغايات لهذه الغارات،وتحديناها بجميع قوانا المعنوية والمادية،وحشدها في ميدان واحد،هو ميدان الدفاع عن حياتنا الروحية والمادية،ولا يتم لهذا الشأن تمام إلا إذا أقمنا الدعوة إلى الله،وإلى دينه الإسلام،على أساس قوي من أحجار العالم الرباني،والخطيب الذي يتكلم بقلبه لا بلسانه،والكاتب الذي يكتب بقلمه مايمليه عقله،والغني المستهين بماله في سبيل دينه،ثم وجهنا هذه الدعوة إلى القريب قبل الغريب،إلى المسلم الضال قبل الأجنبي،فإذا فعلت الدعوة فعلها في نفوس المسلمين،وأرجعتهم إلى ربهم،فاتصلوا به،فتمسكوا بكتابه،وهدي نبيه،وتمجدوا بتاريخح وأمجاده وفضائله ولسانه،كنا قلدناهم سلاحاً لا يفلّ،وأسبغنا عليهم حصانة روحية،لا تؤثر عليها هذه الدعايات المضللة،وحصانة أخرى مادية ملازمة لها،لا تهزمها الجموع المجمعة،ولو كان بعضها لبعض ظهيرا.
المسلمون في حاجة أكيدة إلى دعاية داخلية،تهدي ضالهم،وتصلح فاسدهم،تبتدىء من البيت،وتجاوزه إلى الجار والقرية،حتى تنتظم المجتمع كله.فإذا عمرت القلوب والبيوت والمجتمعات بمعاني الإسلام الصحيحة،أعطت ثمراتها الصحيحة،وجاء نصر الله والفتح،ربطاً للوعد بالإنجاز،ووصولاً إلى الحقيقة على المجاز،ويومئذ تزول هذه الفوارق البغيضة من تلقاء نفسها،فلا مذهب إلا مذهب الحق،ولا طريقة إلى طريق القرآن،ولا نزعة إلا نزعة المجد والسمو،ولا عاطفة إلا عاطفة المحبة والخير،ولا غاية إلا نشر السلام والطمأنينة في هذا العالم المضطرب.
لا يأس من روح الله.فهذه مخايل نصر،وهذه مبشرات القطر،وهذه طلائع الزحوف الحاملة لراية الدعوة الإسلامية،وهؤلاء عصب من علماء الإسلام قائمون بإحياء هذه الفريضة بصدق وإخلاص وتضحية،ومن ورائهم كتائب من شباب الإسلام،تفتحت بصائرهم على نوره،يحملون ألسنة قوالة للحق،وعقولاً جوالة في ميدان الحق،وإن عددهم كل يوم لفي ازدياد،وإن نجاحهم فيما يمارسونه من الدعوة إلى الله لفي اطراد،فما على القاعدين إلا أن ينضموا،وما على الغافلين إلا أن يهتموا،ولا على المستيئسين إلا أن يستبشروا ويؤيدوا،وما على الغافلين عن ذاك الشرّ المستطير إلا أن ينتبهوا إلى هذا الخير،فيعملوا على نمائه وبقائه،وإن أثمن هدية يقدمها المسلم إلى هؤلاء الدعاة هي الاهتداء إلى الحق،والاقتداء بأهل الحق”.
يقول الشاعر المصري الكبير محمود حسن إسماعيل في قصيدته”المسلمون”:
من هؤلاء التائهون الخابطون على التخوم؟
أعشى خُطا أبصارهم رَهَجُ الزوابعِ والغيوم
والليل ينفضُ فوقهم من يأسهِ قلقَ النجوم
ويسوقهم زُمراً إلى حفرٍ مُولولةِ الرُّجوم
السوط يُرفِل حولها والموتُ انسُرُه تحوم
والقيدُ يَخصِفُ من صدو رهمُ المذّلة والهموم
ويسومهُم من عَسفهِ ولظاهُ أبشعَ مايَسُوم
فإذا غفوا…فغلى موا طئ كل جلادٍ غَشوم
وإذا صحوا فعلى خُطاً للذّ لِّ خاشعةِ الرُّسوم
من هؤلاء الضائعون؟ أفهؤلاء المسلمون؟
أبداً!! تُكذّبني، وتر جُمني الحقائقُ والظنون
أبداً..وكيف؟ وفي يمينهمُ كتابٌ لايهون
ابداً..وكيف ودون سط وتهِ وتنتحرُ القرون
ويَبيد، طغيانُ العُتا ةِ، ويهلكُ المتجبرون
ويَخِرُّ بين يديه من وهج الضياء الغاشمون
الفاسدون،المُفسدون الظالمون ،المُظلمون
الشّاربون الدّمعَ ممن في المجازر يصرخون
السائقون الخلق كا لقُطعان ساجدةَ العيون
مبهورةً، منهورةً بالسوطِ، تجهلُ مايكون
بلهاءَ،روّعها الصدّى واجتاح قينتها الجُنون
وأحالها عَدماً يُكبّر للرّدى…لو تسمعون
من هؤلاء الخانعون أفهؤلاء المُسلمون؟!
أبداً!! تُكذبني، وتر جُمني الحقائقُ والظنون
أنا منهُمُ..لكنني نغمٌ بسَمعهم شريد
ربضت به الأصفادُ..بل طحنته غمغمة العبيد
وجؤار شرق مبدئٍ بأنين أمّتهِ مُعيد
أبكي عليهم..أم على غلٍّ يكبلني شديد!
إنا هجرنا الله هِجرتنا لشيطانٍ مَريد
عادت تروِّضنا حضا رته لكل هوى مُبيد
ولكل من يُحيى لنا الإسلامَ في كفنٍ جديد
نسجته أخيلة العصورِ السّودِ مذ زمنٍ بعيد
لِتُحيلَ دِينَ “محمدٍ” وَهماً على نعشٍ مجيد
وإذا الجنازةُ لوعةٌ حرّى مُشيِّعها سعيد
من هؤلاء الهالكون أفهؤلاء المسلمون؟!
أبداً تُكذبني وتر جمني الحقائقُ والظنون
من كان للإسلام، فليضربْ بمعولِهِ الفساد
فيصيحُ باللصِّ العتيِّ: كفاكَ من شِبع وزاد
ويصيحُ بالفُسّاقِ: إياكم وأعراضَ العباد
ويصيحُ بالطاغين: أسرفتم، لِكُلِّ مَدىً نفاد
ويصيحُ بالباغين: ويحكم، لقد ذهبَ الرُّقاد
وطواكم حدُّ المناجل بين أذرُعهِ الشِّداد
ونظرتم…فإذا الظلامُ عليكمُ حَنِقُ السّواد
ريحٌ مُصرصِرةُ الزئيرِ كأختها قي يوم “عاد”
تسقيكم من ويلها وخرابها حُمَمَ الرَّشاد
من هؤلاء الصّاغرون أفهؤلاء المسلمون؟!
التائبون، العابدون، الراكعون، الساجدون!!!
ويقول الأستاذ عصام العطار في قصيدة”المسلم الحق:
إن أظلمَ الليلُ كانَ النجمَ مُؤتَلِقاً أو خَيّمَ اليأسث كانَ الرَّوحَ والأملا
أو اخلفَ العزمث لم تُخلِفْ عَزائمُهُ أوكَلَّ ذو الجِدِّ كانَ الجِدَّ والعملا
أو أرهبَ الموتُ لمْ يَرهبْ نَوازِلهُ وتابعَ الدّربَ لايثنيهِ مانزلا
وإن تَزَيّنتِ الدنيا لِفِتنتهِ خابتْ،فما آثرَ الدُّنيا ولاشُغِلا
إيمانهُ حِصنهُ، والوحيُ مُرشِدهُ واللهُ غايتهث إن قالَ أو فَعلا
وقلبهُ رَحمةٌ للِخلقِ شامِلةٌ ونبعُ حُبٍّ وإخلاصٍ لمن نَهلا
ومِشعَلُ الحقِّ إن غابت مشَاعِلُهُ ومَوئِلُ العدلِ في الدنيا إذا خُذلا
والعلمُ والفكرُ رُكنٌ من عقيدتهِ قد ضلّ عن منهجِ الإسلامِ من جَهِلا
وكيفَ يَحمِلُ دينَ الله عن ثِقةٍ من فاتَهُ دِينهُ عِلماً وما عَقَلا
لاتتركوا الدينَ للِجهالِ تُفسِدهُ فالجهلُ يُفسِدُ منهُ كُلَّ ما جَمُلا