بسم الله الرحمن الرحيم
التواصي بالحقّ
بعد معرفة الحقّ والوصول إليه،لا بد من الإلتزام به سلوكاً وعقيدة، والتواصي به سراً وعلانية، والدعوة إليه علماً وتطبيقا.
والإلتزام بالحق سلوكاً وعقيدة ومنهاجاً هو من أهم عناصر التواصي به والدعوة إليه،ففاقد الشئ لا يعطيه،فإذا تمّثل الحق في الداعي إليه،سهل الإستجابة إليه والأخذ بما عنده،وعلى النقيض من ذلك فإنّ من يدعو إلى الحقِّ ولايَتمثّل به،وينادي به ولايعمل به،يعتبر من أكبر أعدائه،وإن ظهر أنّه من دُعاته.
يقول عبد الله بن المقفع(الأدب الصغير والكبير):
“أحق الناس بالسلطان أهل المعرفة،وأحقهم بالتدبير العلماء،وأحقهم بالفضل أعودهم على الناس بفضله،وأحقهم بالعلم أحسنهم تأديباً،وأحقهم بالغنى أهل الجود،وأقرب الناس إلى الله أنفذهم في الحقِّ علماً وأكملهم فيه عملاً”.
والحقُّ يُبحث عنه في مصادره ومنابعه وليس فقط في دُعاته، يقول تعالى{فَبِهُداهمُ اقتدِه}[الأنعام 90]،فالحق هو الذي يقتدي به الإنسان ويدافع عنه،وليس الداعية هو الأصل وإنما مايدعو إليه ويطبقه علماً وعملاً ولذلك قالوا: “اعرف الحقّ تعرف أهله“.،ولم يقولوا عكس ذلك،وإنّ من يأخذ الحقّ من دعاته فقط ولا يبحث عنه من مصادره وينابيعه فقد ضَلَّ وأَضّلّ. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (بهجة المجالس ج2 ص584): “تكلموا بالحق تُعرفوا به،واعملوا به تكونوا أهله”.
قال الشيخ محمد عبده لمصطفى صادق الرافعي رحمهما الله:”اسأل الله أن يجعل للحق من لسانك سيفاً يمحق به الباطل”.
يقول الأستاذ أحمد امين رحمه الله(فيض الخاطر ج7 ص159):
“الحق لا ينظر إليه في المدنية الحديثة على أنه حقّ في ذاته،ولا الباطل باطل في ذاته،وإنّما الحق والباطل يقوم باعتبار من صدر عنه،مثلهم في ذلك مثل البدوي البدائي الذي سئل عن العدل والظلم فقال:إذا أخذتُ جملاً من قبيلة غير قبيلتي فعدل،وإذا اخذ رجل من غير قبيلتي جملاً من قبيلتي فظلم!!”فإذا قبلنا بكلام هذا البدوي عن الحقِّ ضللنا ولم نهتدي،وإذا جعلنا دستور قبيلته ورؤيتها للحقّ نبراساً لنا فقد ضاع الهادي والمهتدي!!”.
ويقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله(جدد حياتك ص50):
“وقد يضل المرء عن الحقيقة لأنطوائه مع عرف سائد أولإسترساله مع نظرة سابقة لا أساس لها”.
وليس كل عالم عارف بالحقّ ملتزم به،أوداعية إليه، فقد يكون هناك أحياناً وليس نادراً انفصام شديد بين العلم بالحقِّ وعدم الإلتزام به،يقول الإمام العظيم ابن القيّم رضي الله عنه:
” انقسم الناس بحسب معرفة الحق والعمل به ثلاثة أقسام،لأن العبد إما أن يكون عالماً بالحقِّ أو جاهلاً به،والعالم بالحقِّ إما أن يكون عاملاً بموجبه أو مخالفاً له،فهذه أقسام المكلفين لا يخرجون عنها البتة”.
اما العالم بالحقِّ العامل به فيظهر آثاره على سلوكه وتصرفاته،وتنطق عنه جوارحه وافعاله.و يقول الشيخ العالم العامل مصطفى السباعي رحمه الله :
“كم ساكت عن الحقّ بفمه،متكلم عنه بوجهه وجوارحه،وقد كان الأعرابي يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما يراه فما يلبث أن يعلن إسلامه وهو يقول: اشهد أن هذا الوجه ليس بوجه كذاب”
.ويقول ابو مسلم الخولاني(بهجة المجالس ج2 ص 428): “اتقّوا ظنّ المؤمن فإنّ الله جعل الحق على لسانه وقلبه”.
ولعلّ من أجمل ما قرأت عن صفات أهل الحق الملتزمين به الداعين إليه ما قاله الاستاذ العلّامة أحمد امين رحمه الله في كتابه فيض الخاطر:
“عقيدته هو الحق لا محالة،هي الحق اليوم وهي الحق غداً،خرجت عن أن تكون مجالاً للدليل،وسَمت عن معترك الشكوك والظنون،وذو العقيدة حار متحمسٌ لايهدأ إلا إذا حقّق عقيدته،هو حرج الصدر،لهيف القلب،تتناجى في صدره الهموم،أرق جفنه، وأطال ليله تفكيره في عقيدته،كيف يعمل لها ويدعو إليها،وهو طلق المحيا،مشرق الجبين إذا أدرك غايته أو قارب بغيته…
ويتابع رحمه الله “وذو العقيدة يأبى الضيم،ويمقت الظلم،لأنه يؤمن ان ما يعتقده عدل وإباء.. هو الحق.. ولا حق غيره..
ويتابع” من العقيدة ينبثق نور باطني يضئ جوانب النفس،ويبعث فيها القوة والحياة،يستعذب صاحبها العذاب ويستصغر العظائم، ويستخف بالأهوال،وما المصلحون الصادقون في كل أمة إلا أصحاب العقائد فيها”.
وبعد المعرفة والعلم،والالتزام بالحق سلوكاً وعقيدةً ويقيناً ومنهاجاً،لابد من الخطوة التالية وهي التواصي بالحق والدعوة إليه{والعصر* إنّ الإنسان لفي خسر* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} .[العصر 1 ـ 3]
وهذه خطوة لا تقل أهمية عن البحث عن الحق والالتزام به،بل هي أهم الخطوات على الإطلاق،يقول الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه: “أيها الناس إني أوصيكم بتقوى الله العظيم في كل أمر وعلى كل حال،ولزوم الحق فيما أحببتم وكرهتم”.
وكتب عمر الفاروق إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما(بهجة المجالس ج2 583): “أن الزم الحق،ينزلك الحق في منازل أهل الحق يوم لا يقضى إلا بالحق”،وسأل سليمان بن عبد الملك أبي حازم(سلمة بن دينار) : أي القول أعدل؟ فقال:” قول الحق عند من تخافه أو ترجاه”.
يقول الشيخ العلّامة محمد الغزالي رحمه الله(جدّد حياتك ص54):
“فإذا عرف الإنسان الحقائق المتصلة به،وسبر غورها جميعاً دون دهشة أو روع،بقيت أمامه الخطوة الأخيرة وهي أن يتصرف بحزم وقوة،وأن ينفذ القرار الذي انتهى إليه بعزم صادق” ويتابع رحمه الله:أعرف كثيراً من الناس لا يعوزهم الرأي الصائب،فلهم من الفطنة ما يكشف أمامهم خوافي الأمور،بيد أنهم لا يستفيدون شيئاً من هذه الفطنة،لأنهم محرومون من قوة الإقدام،فيبقون في مكانهم محسورين بين مشاعر الحيرة والإرتباك”.وقد قال الشاعر قديماً:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة فإنّ فساد الرأي أن تترددا
ويقول الشيخ العلّامة علي الطنطاوي رحمه الله (فصول إسلامية ص61):
“وتواصوا بالحق: أوصوا به نفوسهم ووصّوا به غيرهم،وتحروه في أمورهم، فكان الحق إمامهم ودليلهم ورفيقهم وقائدهم،ولم يكونوا أنصار الباطل ابداً،فلا يقبلون من المبادئ والعلوم والفنون إلا ما هو حقّ لا باطل فيه”.
ويقول الشهيد سيد قطب رحمه الله(الرسالة العدد691):
“قال لي صاحبي:أما تفتأ هكذا ساخطاً على جميع المظاهر والأوضاع؟أرِحْ أعصابك يا أخي،ودع الخلق للخالق،إنه لا فائدة.لا فائدة من كل هذه الصرخات!!!
قلت لصاحبي:أما أنا فسأظل ساخطاً،أعلن سخطي على كل شائه من المظاهر والأوضاع.ولن أدع الخلق للخالق،لأن الخالق هو الذي يقول:{ولتكن منكم أمةٌ يدعون إلى الخيرِ ويأمرونَ بالمعروفِ وينهونَ عن المنكرِ وأولئكَ همُ المفلحون}[آل عمران 104].ويصف قوماً ضعفوا واضمحلوا فيقول عن سبب الاضمحلال:{كانوا لا يتناهونَ عن منكرٍ فعلوهُ لبئسَ ما كانوا يفعلون}[المائدة 79]،وأما أنه لا فائدة هناك،فأنا لست يائساً ولا متشائماً،واعتقادي الكامل إن هذا الكون الوسيع لا يضيع صوتاً واحداً ينطلق فيه بدعوة الحق،ولا بد أن يردد صدى هذا الصوت في يوم من الأيام،طالت أو قصرت به الأعوام”.
والداعية إلى الحق يجب أن لا ينسى أبداً أن ما يدعو إليه قد يكون أحياناً مُرّ المذاق لا تستسيغه كل النفوس،كريه الطعم لا تتقبله كل المشارب،وقد يكون مدعاة أحياناً للغضب والجفاء وربما العداوة والشحناء.يقول تعالى: {لقد جِئناكُم بالحَقِّ ولكنَّ أكثرَكُم للحقِّ كارِهُون} [الزخرف 78]، ويقول تعالى: {وأكثرهم للحقّ كارهون}” [المؤمنون 70].
يقول الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه: “إنّ الحقّ يبدو كريهاً وله تكون العاقبة،والعاقبة للتقوى(بهجة المجالس ج2 ص581).
فالحق مُرّ وقعه على النفوس،تنفر منه القلوب مع اعتقادهم به وتصديقه. يقول الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري رضي الله عنه : “أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحُبّ المساكين،وأدنو منهم،وأنظر إلى من هو دوني،ولاأنظر لمن هو فوقي،ولا أسأل احداً شيئاً،وأن أصِل الرحم،وأن أقول الحقّ وإن كان مراً،وألا أخاف في الله لومة لائم”.
ويقول الأستاذ عصام العطار حفظه الله :
“إنني أمزّق كثيراً مما أكتب لأن من الحقائق ما هو أشدّ مرارةً وهولاً من أن يُنشر على الناس”.
ويقول الشاعر:
حلوٌ حلاوةَ وصلٍ عاد فائتُه مرٌ مرارة حقٍ حلَّ واجبُه
والحقّ مغضبة كما تقول العرب، فأنت تقول للرجل تصدقه على الأمر فيغضب،يقول الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله:
“الحق جميل في أعين محبيه،قبيح في نظر مبغضيه،وهذا هو سرّ تعلق أولئك به ونفرة هؤلاء منه”.
وقال لقمان الحكيم لإبنه يعظه(بهجة المجالس ج2 ص432): “يا بني قل الحق ولو على نفسك،ولا تُبال من غضب”.
وقال عبد الله بن خُبيق:”وحشة العباد عن الحقّ،أوحشت منهم القلوب،ولو أنسوا بربهم ولزموا الحق لاستأنس بهم كل أحد”.
والحقّ ثقيل، يقول الفاروق عمر رضي الله عنه: “إنّ هذا الحق ثقيل مري،وإنّ الباطل خفيف وبي”، ويقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه: “أوصيكم بتقوى الله العظيم في كلِّ أمر،وعلى كل حال، ولزوم الحق فيما أحببتم وكرهتم”، ويقول الصديق أيضاً رضي الله عنه(العقد الفريد ج3 ص83 ، وبهجة المجالس ج2 ص 583): ” لما احتضر ابو بكر الصديق أرسل إلى عمر،فقال : ياعمر! إن وُلّيت على الناس فاتق الله والزم الحق،فإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينهم يوم القيامة بإتباعهم الحق في الدنيا وثقله عليهم،وحقّ لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلاً،وإنما خفّت موازين من خفّت موازينه يوم القيامة بإتباعهم الباطل في الدنيا وخفّته عليهم،وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يكون خفيفاً”.
ويقول مجاشع النهشلي: “الحق ثقيل، فمن قصّر عنه عجز،ومن جاوزه ظلم،ومن انتهى إليه فقد اكتفى”.
وجاء في كتاب البصائر والذخائر للتوحيدي(ج1 ص113): “كتب عاملٌ إلى الخليفة المأمون: “قلَّ من سارع في بذلِ الحقِّ من نفسه إذا كان الحقُّ مُضرّاً به،وقلَّ من ترك الاستعانة بالباطل إذا كان فيه صلاحُ معاشه،وإذا تفرّقَ الحقُّ في أيدي جماعةٍ فَطُلِبَ به تشابهت في الكرهِ لبذله،وتعاونت على دفعه ومنعه بالحيِل والشُّبه قولاً وفعلاً،واحتاج المبُتلى باستخراج ذلك الحق من أيدي إلى مجاهدتها ومُصابرتها”.
ويقول الشيخ محمد عبده لتلميذه الشيخ محمد رشيد رضا رحمهما الله أجمعين عندما رآه ينكر على المبتدعين بشدّة : “إنك كثيرأ ما تذر الحق عرياناً ليس عليه حلة ولا حلي يزيّنه للناظرين،ويهون قبوله على المبطلين،فينبغي أن تتذكّر أنَ الحق ثقيل وقلّما يكون للداعي إليه صديق،وأنه لابد من مراعاة شعور من يُعرض عليهم كي لا يزداد إعراضهم عنه”.
ولذا على الداعية إلى الحق أن يستعمل أفضل الأساليب من أجل إيصال كلمة الحقّ وخاصة منها التدرج في الخطاب،واللين في الكلام،وتجّنب الفظاظة والغلظة،وان يستمر في دعوته بدون كلل ولا ملل ولا يأس من عدم استجابة الآخرين.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: العلم قبله، والرفق معه، والصبر بعده”. وقال لقمان الحكيم لإبنه(بهجة المجالس ج2 ص441): “يا بنيَّ تواضع للحق تكن أعقل الناس”، ويقول ابو الدرداء رضي الله عنه: “ليس الذي يقول الحق ويفعله بأفضل من الذي يسمعه فيقبله”.
فلا بد من التدرج في الخطاب،وعدم حمل الناس على قبول الحق جملة واحدة.جاء في العقد الفريد لإبن عبد ربه(ج5 ص173): “قال عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز: يا أبت،مالك لا تنفذ الأمور،فوالله ما أبالي،لو أن القدور غلت بي وبك في الحق! قال له عمر: لا تعجل يا بني،فإنّ الله ذم الخمر مرتين وحرّمها في الثالثة،وانا أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة واحدة فيدفعونه جملة وتكون من أجل ذلكم فتنة”.
ولا بد من اللين في الخطاب،وعدم تجريح الآخرين،وتجّنب السباب والشتم،يقول الله تعالى مخاطباً رسوله الكريم المتصف بأحسن الأخلاق، والمُتأدّب بأحسن الآداب {ولو كنتَ فظاً غليظَ القلبِ لأنفضُّوا من حولك} [آل عمران 159].
يقول الأستاذ أحمد أمين رحمه الله(فيض الخاطر ج9 ص197):
“إنّ المدافع عن الحق لا بدّ ان ينال يوماً جزاءه،فقد يُعذّب وقد يُهان،وقد يُنتقم منه،ولكن أخيراً يُعترف بفضله ويُمجد لموقفه على شرط واحد هو أن يكون معتدلاً في طلبه للحق،وأن يطلبه من غير تجريح لخصومه،وأن يطلبه في لباقة ومهارة،فإن أخلّ بهذا الشرط فالذنب ذنبه،وليس ذنب الحق،وذنب وسائله لا ذنب غايته”، ويقول أيضاً في بعض الدعاة الذين يسيئون إلى الحق ظناً منهم انهم يحسنون إليه باستعمال الوسائط والأساليب القاسية والمتطرفة(فيض الخاطر ج1 ص13):
“إنّ هذه الطريقة لا تخدم الحق كما يزعم اصحابها،فلسنا نطلب منهم أن يسكتوا على باطل،وان يغمضوا على خطأ،بل نحمد منهم جدّهم في خدمة الحقّ وسهرهم في كشف الصواب،ولكنهم يسيئون إلى الحقّ إذا ظنوا أنه لا يؤدى إلا بهجر،ولا يُكشف إلا بسباب،والحق إذا عُرض في أدب كان أجمل وأجدى على رواده،وإذا عُرض في سفه حمل المعاند أن يصّر على عناده،وحمل الخجول أن يكتم آراءه في نفسه حتى لا يُنهش عرضه،ولا تُبتذل كرامته”.
وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما(بهجة المجالس ج2 ص584):”لا تتكّلمنّ فيما لايعنيك حتى ترى له موضعاً،فَرُبَّ متكلم بالحق في غير موضعه قد عِيب،ولا تمارين سفيهاً ولا حليماً فإن السفيه يؤذيك،والحليم يقليك”.
ويقول رحمه الله في رسالة إلى ولده ناصحاً:
“أهم ما جربت في حياتي أني رأيت قول الحق والتزامه،وتحري العدل وعمله،يكسب الإنسان من المزايا مالا يقدر،لقد احتملت في سبيل ذلك بعض الآلام،وأغضبت بعض الأنام ،وضاعت عليَّ من أجله بعض المصالح،ولكني برغم ذلك كله قد استفدت منه أكثر مما خسرت،لقد استفدت منه راحة الضمير،واستفدت منه ثقة الناس بما أقول وما أعمل،واستفدت منه حسن ظنهم بما يصدر عني ولو لم يفهموا سببه،ومع هذا فقد استفدت منه أيضاً مادياً أكثر مما استفاد غيري،ممن لم يلتزموا الحق ولم يراعوا الصدق والعدل”.
ولا بدّ من الإستمرار في الدعوة إلى الحق بدون كَلل ولا مَلل،وإن لم تحصل الإستجابة عاجلاً فقد تحصل آجلاً، وقصة ذو النون سيدنا يونس عليه السلام في القرآن الكريم معروفة وواضحة لكل ذي عينين،وحيث أنه عندما استعجل النتائج،عُجّل له بالعقاب، فاستغفر الله { وذا النون إذ ذهبَ مُغاضباً فظنَّ ؤأن لن نقدرَ عليه فنادى في الظلماتِ أن لا إله إلا أنتَ سبحانكَ إني كنتُ من الظالمين}[الأنبياء 87] فغفر له وأعاده لقومه الذين أمنوا به واهتدوا بهديه، واستجابوا لندائه ودعوته.
يقول الأستاذ العلّامة الدكتورمحمد لطفي الصباغ رحمه الله:
“هذا وينبغي أن لا نزهد في قول كلمة الحق،فما تدري متى تكون القلوب مُتفّتحة للخير،مستعدة لقبول النصح،وينبغي أن لا نهوِّن من شأن الكلمة،فكل الرسالات والدعوات كانت كلمات”. ويقول الأستاذ الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله: “لا تتأخر عن كلمة الحق بحجة انها لا تُسمع،فما من بذرة طيبة إلا ولها أرض خصبة”.
ويجب أن يكون شعار الداعية إلى الحق في كل ذلك قوله تعالى : {ربّنا افتح بيننا وبينَ قومِنا بالحقّ وأنتَ خيرُ الفاتحين}.[الأعراف 89]
إنّ التواصي بالحقّ والدعوة إليه قد يُعرّضك لسخط الناس وهجران الأصدقاء،وقد يُعرّضك لسخط وأذى الحكام،وخاصة بدافع وتشجيع من علماء السوء هنا وهناك.
فالداعية إلى الحق قد يتعرّض لهجر الأصدقاء،وجفائهم وربما معاداتهم،لأنه يتبّع في معاملتهم ما قاله أحدهم لصديقه:”لا يطمعنّك برّك بي أن أسرّك بباطل،ولا تؤيسّك معرفتي بك أن أقول فيك غير الحق”، وقد قال الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري رضي الله عنه” تركني الحق وما لي من صديق”،وقال أكثم بن صيفي: “إن قول الحق لم يدع لي صديقا”.
والدعوة إلى الحق قد تُعرّضك لسخط العوام وربما أذاهم،وأن تعيش غريباً عنهم،وقد يكون علماء السوء من زبانية السلطان،أو أتباع الهوى ومن أضلّهم الله على علم،هم العامل المُحرّك لهم،والمحرّض لثورتهم وسخطهم،وقصة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وما واجهه في زمانه من علماء السوء،ومن السواد الرعاع الدهماء معروفة ويمكن الرجوع إليها،وقد ألقي به من جراء ذلك في غياهب السجون.
يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله(جدّد حياتك ص266):
“أما الذين يقتنعون الحق المجرّد ولو أثخنته الهزائم،ويغالون بنفاسته،ولو مرّغ في التراب فهؤلاء غرباء في العالم،إن العامة وللأسف مع صاحب الدنيا ولو كان زنيماً،والألسنة في إعلاء شأنه قلّما تفتر،رغبة أو رهبة،ولذلك قيل:إذا أقبلت الدنيا على أحد أعارته محاسن غيره،وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه”.
والدعوة إلى الحق تعرّضك لسخط وجهاء القوم وحكامه،وربما لاتفلت من أذاهم،والذي قد يكون بأشكال كثيرة وليس من المستبعد أن تصل لحد القتل والشهادة،وما بين أذى اللسان والسنان صنوف وأشكال من الإبتلاء،ومنها السجن والنفي والتعذيب…
جاء في العقد الفريد لإبن عبد ربه(ج5 ص673): “قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لبني مروان: “أدّوا ما في يديكم من حقوق الناس،ولا تلجئوني إلى ما أكره فأحملكم على ما تكرهون! فلم يجبه أحد منهم، فقال: أجيبوني.فقال رجل منهم: والله لا نخرج من أموالنا التي صارت إلينا من آباءنا،ونكفر آباءنا حتى تزايل رؤسنا. فقال عمر: اما والله لولا أن تستعينوا علي بمن أطلب هذا الحق له،لأضرعت خدودكم عاجلاً،ولكنني أخاف الفتنة، ولئن أبقاني الله لأردّن إلى كل ذي حق حقه إن شاء الله “.
والداعية إلى الحق يصبر على غربة الدنيا،وسخط الناس،وأذى الحكام،لا تلهيه عن نداء الواجب زهرة الحياة،ومتاع الغرور،ولا تردّه عن طلب الحق كشرة الموت،وإرهاب الطغاة،إنه يقدّس الحقيقة صادفت هوى الناس أو أثارت سخطهم،جلبت مالاً أو حرمته منه،غيّرت حالاً أو بدّلت معيشة،لا يتردد في قول الحق وإن أهين،على أن ينطق بالباطل وإن أكرم .يقول الشاعر:
يلومون من يأبى سوى الحق هادياً ويرمون بالكفر مرأً ما به كفر
يقول العلامة الشيخ محمد أبو زهرة شيخ الأزهر رحمه الله(مجلة لواء الإسلام العدد السابع بتاريخ حزيران عام 1965):
“يأتي على الناس زمان يلجُّ فيه الباطل،ويسود أتباع الهوى،ويضن الزند بقدحه،فيسكت أهل الحق،ويتكلم الذين لا يؤمنون بحقيقة،ولا ينادون إلا بما تهوى الأنفس،ويتوهم الذين يجول الخير في نفوسهم أنهم إن تكلموا أوذوا،وإن نطقوا سلط عليهم السفهاء،فعندئذ يسكتون إيثاراً للعافية،واتقاءً للشر،ومنهم من تدنو نفوسهم إلى الدنية، فيجارون السفهاء في أقوالهم ،ومنهم من يكتفون من نصرة الحق بعدم ذكر الناطقين به بخير ولا بشر،ومنهم من يرتفع مستواه فيذكرهم بالخير مُجمجماً غير موضح ،وخفية دون جهد”.
والناطقون بالحق معرضون دائماً لسخرية بعض الذين يظنون أنفسهم عقلاء،ولتسخير من لا مقام لهم في الاعتبار لينالوا من كرامتهم،يحطوا من أقدارهم،ويمضغوا بأفواههم النجسة أستار أمورهم،ومع هؤلاء نظارة من السخفاء يستضحكون،ويتندرون،ويتعابثون وهم على الأرائك في المقاهي والنوادي العامة والخاصة قاعدون،كأن من ينطق بالحق قد أتى أمراً إدّاً،يخوض فيه الخائضون،ويلعب بكرامته اللاعبون،ويهزأ به المستهزئون.
هذه أزمان تسود فيها فتنة القول،فهل يسكت المؤمنون،فلا تسمع لهم ركزاً،ولا تحسّ منه من أحد؟
إنه لابد من أن يكون من ينطق بالحق،ولو ناله مايناله ،فإنه إذا كان بذلك ينقص قدره عند الناس،فلن ينقص قدره عند الله تعالى بل إنه سيكون عند الله وجيهاً،وإن الاستقراء والتتبع يثبتان أنه يزيد قدره في نظر المخلصين الذين يطلبون الحق،وإن لم يؤتوا القدرة على بيانه،وسيذكره الشاهدون بالخير،فيكون وجيهاً في الدنيا والآخرة ويزداد رفعة بمقدار إغراء السفهاء به،وسخرية الساخرين منه،وعبث العابثين معه،وكلما اشتدت لجاجتهم في النيل منه،ارتفع درجات،ورجحت موازينه،ونظر الناس إليه على أنه رائد الحق وحامله،وهل يسكت عن النطق بالحق إن لم ينل تلك الدرجات الرفيعة،ولا يكون ذلك إلا إذا طمست كل القلوب وعمّت الضلالة العمياء،وصار الناس في دياجير الظلام،وهل يكون السكوت في هذه الحال أولى من الكلام،ويكون الاتجاه إلى السلامة والعافية أجدر؟ونقول في الجواب عن ذلك أنه كلما تكاثفت الظلمات اشتد الوجوب على أهل الحق أن يقولوه،وأن يصدعوا بما يأمر به ويعلنوه،وأنه كلما قلّ الدعاة إلى الحق اشتد الوجوب عليهم،وقد ينتقل من الوجوب الكفائي عليهم إلى الوجوب العيني ،كلما ندر عددهم،ولا يصح أن يقول قائلهم،ما أنا صانع إذا فسد الناس؟وماذا أفعل إذا لم يستجيبوا؟ونقول أن كلمة الحق لُهبة صغيرة كلما توالت أنارت،وكلما تكاثرت أشعلت.
ويتابع الشيخ أبو زهرة رحمه الله:”ولنا في الأنبياء قدوة حسنة إذ لو صمتوا أمام ظلم الناس وطغيانهم ما أقاموا دعوة،ولا رفعوا ذكر الله تعالى في وسط طغيان الوثنية،وظلمات الجاهلية،ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة لقد نادى بأمر ربه،وسط استهزاء المستهزئين وسخرية الساخرين،ولقد استعان بثقيف ليؤمنوا به ويؤيدوه،فكفروا به،وأغروا به سفهاءهم،كما يغري المفسدون هذه الأيام السفهاء بمن ينطق بالحق أو يدعوا إليه ،أو حتى يخالف ما عليه الشرذمة الغاوية،فهل سكت محمد صلى الله عليه وسلم لسخرية الساخرين،كلا..بل استجاب لأمر ربه إذ يقول:{ونذرهم في طغيانهم يعمهون}[الأنعام110].واستمر في دعوته غير وان ولا مقصر،ولا مستكين ولا مستضعف.
ولننزل من درجات النبيين والصديقين والشهداء والصالحين إلى منازل أهل الدنيا،ونتعرف ما يقوله ذوو الأخلاق والاجتماع،إنهم يقولون إنه كلما طمّ سيل الرذائل تعاظم الواجب على أهل الفضائل،فلا يكون الواجب مقصوراً عليهم في ذات أنفسهم،بل يتعدى إلى إصلاح غيرهم،وبيان السلوك المستقيم ليسلكه من التوى به الطريق،وضل عن القصد،وتنكب السبيل إلى الغاية،ويصيرون مسؤولين عن غيرهم،إذ يجب عليهم أن يبينوا،فإن العالم مسؤول عن الجاهل،حتى يعلمه،والفاضل مسؤول عن المرذول حتى يكلمه،بل إنه لا يكمل فضل الفاضل إلا إذا حث على الفضيلة ودعا إليها،وحمّل نفسه عبء الإرشاد والتوجيه.
ولذلك كان وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي شدّد في وجوبه الإسلام،واعتبره القرآن الكريم مناط الخير في الأمة،كما قال سبحانه وتعالى:{كنتم خيرَ أمةٍ أُخرجت للناسِ تأمرونَ بالمعروفِ وتنهونَ عن المنكر وتؤمنونَ بالله}[آل عمران 110].وقرر النبي صلى الله عليه وسلم أن الإهمال فيه سبيل التقاطع في الأمة وذهاب وحدتها،فقد قال عليه الصلاة والسلام:”لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر،ولتأخذن على يدي الظالم،ولتأطرُنّه على الحق أطرا،أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض،ثم تدعون فلا يستجاب لكم”[الترمذي وأحمد].وإذا سكت الفاضل عن الدعوة إلى الفضيلة عمّ الفساد في الأرض،وتقطّعت الأواصر التي يجب أن توصل،وذهبت الوحدة،وضاعت بين الأمة،وصار بأسها شديداً:{تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قومٌ لا يعقلون}[الحشر 14].
ويتابع رحمه الله:”تلك كلمات نتقدم بها لأننا سنعرض لأمر ساد عصرنا،أو بعبارة أدق شاع وذاع،وملأ البقاع،حتى ظن الناس أنه قد ساد،لما اكتنفه من لجاجة،ولأنه علت رغوته،واشتدّ زبده،وصار يقذف بنا هنا وهناك،كأنه هو الموجود ولا موجود سواه،والقلوب في الحقيقة عامرة بالإيمان مذعنة للحق راغبة في إتباعه وسماعه،تستأنس به إن قيل،وتستجيب له إن نودي به.
لقد رأينا أناساً يحاربون الإسلام باسم الواقع المستقر،ويكذبون الحقائق باسم المصالح الموهومة،والأهواء المتبعة،والشهوات المستحكمة،فإذا بيّن الأمر الإسلامي كما هو برموا به،وبقائله،وتململوا من سماعه والدعوة إليه،ولما تحرجوا من أن يقولوا في الإسلام ما يكشف مرض صدورهم وعمى قلوبهم،ولم يكن ثمة رادع يردعهم،ولا وازع يزعهم وقد صار صوتهم المرفوع،وكلامهم المسموع،يتبادلون كلامهم في نواديهم،وتطفح الصحف السيّارة بصديدهم والمجلات المستهينة بكل القيم الإنسانية مملوءة بدم الفضيلة التي انتهكت حرماتها،واستبيحت محارمها،والصور التي تثير الغرائز الحيوانية صارخة بدعايتها،والإذاعة المرئية تساند وتعاضد،حتى ظن الناس بالفضيلة الظنون،وحسبوها اختفت من الوجود،وحسبوا أن الإسلام قد صار نسياً منسياً،وما هي إلا غشاوة من فساد القول،وترهات الباطل.
ولقد وجدنا بعض الذين يتسمون بسمة علماء المسلمين يدنون إليهم،ويدهنون في القول معهم ويقربون ـ في زعمهم ـ الإسلام من واقعهم حاسبين أن ذلك نصر للإسلام،ودفع لعداوتهم،وظنوا لجاجتهم قوة،وزبدهم حقيقة،وأن النافع قد اختفى،ونسوا قوله تعالى:{فأمَّا الزَّبدُ فيذهبُ جُفاءً وأما ما ينفعُ النَّاسَ فيمكُثُ في الأرضِ كذلكَ يضربُ الله الأمثال * للذين استجابوا لربهم الحُسنى والذينَ لم يستجيبوا له لو أنَّ لهم ما في الأرضِ جميعاً ومثلَهُ معهُ لافتدوا بهِ أؤلئكَ لهم سوءُ الحسابِ ومأواهم جهنمُ وبئسَ المهاد}[الرعد 17 ـ 18].وإنهم إذ يفعلون ذلك التقريب ينزلون الإسلام من عليائه إلى حضيض الأهواء والشهوات .
ونسي أؤلئك الذين يحملون شعار العلم الإسلامي أنهم كلما نزلوا بالإسلام عمّا جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إلى مايريده الذين لا يهمهم أمره،أحلّ أو حرّم،فكوا عُرا الإسلام عروة،عروة،حتى إذا أدمجوه في تلك المدنية المادية لم يبق منه شيء،وإن بقي فهو فان في غيره،قد سيطر عليه،ولم تكن له المبادئ المقررة الحاكمة،وذلك لأن الإسلام كل لا يقبل التجزئة،وتهدم جزء منه، يجعل البناء كله يتداعى لبنة بعد لبنة،حتى يكون الباقي ركاماً غير متماسك وقطعاً غير مترابطة،إن التساهل في ناحية من النواحي يحسبه بعض الذين لا حريجة للدين في قلوبهم أمراً هيناً ليناً،وهو عند الله عظيم، وهو يؤدي إلى سقوط بناء الإسلام الشامخ الذي عبرَ القرون كلها،وهو قائم ثابت الدعائم لم يعره التغيير ولا التبديل،حتى إنه في العصور التي غُلِبَ فيها، فلم يُحرف بتأويل فاسد،ولا بتقييد لم يرد به نص صريح،ولا قياس صحيح ،ولم يكن فيه إتجاه إلى المقصد العام الذي جاء به القرآن الكريم.
لقد فتح باب التأويل بعض الذين حملوا شعار الإسلام ،ونفوسهم ممتلئة بغيره،وبعضهم انطفأ نوره في قلوبهم، فذهبت عنهم حكمته،ولم تشرق بالإخلاص له ولم تشعر بجلاله ،لأنه من عند ذي الجلال والإكرام،بل إن ألسنتهم تتلوى بظاهر الألفاظ التي لم تجيء بها تعاليمه مقدّرة لمعانيها،متقربين لقائليها،مزدلفين إليهم بإدعاء المعرفة لها ،فإذا جاءوا إلى ألفاظ القرآن حاولوا التأويل بل حاولوا تغيير المعاني وتبديلها،لتوطئ أكنافها لما يقوله الماديون وتكون لها خانعة خاضعة،وإذا محلَ بهم الدليل،ووهن بين أيديهم قالوا إن هذا الحكم القرآني الصريح خاص بزمن الرسول والشريعة تتغير بتغير الزمان والمكان{كَبُرت كلمةً تخرجُ من أفواههم إن يقولونَ إلا كذبا}[الكهف5].إنّ الشريعة خالدة باقية إلى يوم القيامة،وإذا تنزلنا فقلنا إنها قابلة للتغيير فمغيرها هو منزلها، فكل قانون من قوانين البشر تغيره السلطة التي سنّته، فهلا طبق هؤلاء الذين أصابت الآفة قلوبهم وعقولهم ومشاعرهم ـ ذلك المبدا ـ على شريعة القرآن، وهو يطبق على قوانين الإنسان.
إن هؤلاء الذين ضلوا أضلوا يحاطون بالتكريم،ويقال عنهم الأئمة المجتهدون، والعلماء المجددون،وأهل الفكر الحي المتطور إلى أخر ما يقال عنهم ممن اتخذوهم سبيلا لهدم المبادئ الإسلامية،ويقولون عن الذين استمسكوا بالقرآن وسنة محمد صلى الله عليه وسلم،واعتصموا بحبل الله المتين،واعتبروه الحجة وشريعة الحق أنهم الجامدون الواقفون حيث تسير القافلة،ويجودون عليهم بعبارات السخرية والاستهزاء،ويفتحون عليهم أفواههم بأرجاسها في المجالس العامة والخاصة، فهل يجوز لهؤلاء الذين استمسكوا بالعروة الوثقى أن يسكتوا،أو يستكينوا،ويقولوا لأنفسهم:النجاء،النجاء؟لا، لا، ودون ذلك دقّ الأعناق،ودون ذلك خرط القتاد،ودون ذلك جدع الأنوف، وحزّ الرقاب.
إن أقصى ما وصل إليه المفسدون أن يثيروا السخرية على الذين يقولون الحق،ويدعون إليه فهل تنقص السخرية من أقدارهم عند من يرجى الخير فيهم؟وهل ينقص الاستهزاء من مكانتهم عند أهل الفضل والاعتبار الذين يكون كلامهم لسان صدق في الآخرين؟هل يذكر أحد فضلاً للذين يحركون السفهاء،وغلمان الصحافة، حتى يقال إن لهم مقاماً يعلون به،حيث تخفض السخرية من مقام دعاة الحق؟إن الناس لايعرفون عنهم شيئاً إلا وهم في مناصب يتولونها،أو يتركونها،فأقدارهم مشتقة من الخشب والأرائك ،لا من المعالي والحقائق ،وإنا لا نسترسل في القول عن بعض الذين يدفعون السفهاء للنيل من الذين حملوا لواء الدفاع عن المبادئ، لا نسترسل في ذلك لأننا نعف عن ذكر الذين لا يؤبه لهم،ولا مكانة لهم إلا ما يتسلقون به على الأشجار الباسقة،ويرتعون فيما بين أيديهم،فإن أمسك الأمناء بأيديهم وما فيها لجئوا إلى الذين يتسلقون به ممن دون الرؤوساء، والله من ورائهم محيط”.
يقول الأستاذ عصام العطار حفظه الله:
“ألا ما أحوجنا إلى الرجال الذين يرون الحق نفسه ويرون الجهاد به ومن أجله والتضحية في سبيله أعظم كسب يظفر به الإنسان في رحلة الحياة “.
قال الشاعر:
يريدون ان يُخفي الجريح أنينه ويسكت أهل الحق عن طلب الحق
ولكنني أبقى لحقي مطالباً إلى أن يسد الموت في ساعة حلقي
ويقول الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله:
“والشجاعة الحقيقية أن تقول الحق ليس وأنت آمن،بل الشجاعة أن تقول الحق وأنت تستثقل رأسك”.
ويقول الصحابي الجليل عبادة بن الصامت رضي الله عنه: “بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم”. وقال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “خض الغمرات إلى الحق ولا تخف لومة لائم”، وقال الحسن بن علي رضي الله عنهما بعدما مات أبيه(بهجة المجالس ج2 ص501): “نِعْمَ أخو الإسلام كُنت يا أبي، جواداً بالحق، بخيلاً بالباطل عن جميع الخلق،تغضب حين الغضب وترضى حين الرِّضا”.
ويقول الإمام العظيم العز بن عبد السلام رحمه الله:
“ينبغي لكل عالم إذا أذل الحق وأهل الصواب أن يبذل جهده في نصرهما،ومن آثر الله على نفسه أثره الله،ومن طلب رضى الله بما يسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس،ومن طلب رضى الناس بما يسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس”، ويقول عبد الرحمن الكواكبي في طبائع الاستبداد: “مجد النبالة هذا أعلى المجد وهو بذل النفس والتعرض للمشقات والأخطار في سبيل نصرة الحق”.
ومن عرف الحق ياصاحبي لذّت عنده التضحيات،ومن ذاق طعم الحق استسهل في سبيله الصعاب، وسوف ينالك الأذى، وربما أكرمت بالشهادة في سبيل نصرة الله والحق،ولكن عذرك أنك قد أديت الأمانة،وبلّغت الرسالة،والأجر عند الله مابعده أجر، إنه أجر الشهداء وعَظُمَ هؤلاء أجرأ وثواباً وصحبة للأنبياء والصالحين ،وإحساناً ما بعده إحسان وهو رؤية ربِّ العالمين في جنات النعيم .
ومن مات دون الحق، والحق واضحُ إذا لم ينل فخراً فقد ربح العذرا
ويقول الأستاذ عصام العطار حفظه الله :
“لن تزال الدنيا بخير ما دمت تستطيع أن تقول للباطل لا،ولو قالت له الدنيا كلها نعم،وأن تقول للحق نعم،ولو قالت له الدنيا كلها لا،وأن تدفع ثمن هذا أو ذاك الحياة”، ويقول أيضاً” :سأقول لك الحق وأدفع ثمنه الحياة، فلا أقل ان تفهم عني ما أقوله،وتبلغ عني ما فهمت وتقف معي إن استطعت بشجاعة وإخلاص”.
ويقول الأستاذ عصام العطار أيضاً:
“إذا سلكت طريق الحق فلا تنظر إلى كثرة الأنصار فيه أوقلة الأنصار، فليس لك إن صدق إيمانك بالله من طريق سواه،وماذا بعد الحق إلا الباطل والضلال” .
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “من كان على الحق،فهو جماعة وأن كان وحده”. وقال الأستاذ عصام العطار: “بئست العزلة عن الحق وإن كان معك الدنيا،ونِعمتِ العزلة مع الحق وإن كنت وحدك على الطريق”.
وما أندر من يثبت على طريق الحق في زمن صال الباطل فيه وجال،وما أقلّ من يستعذب الموت في هذا الزمان بعد أن تكالب معظم من فيه من البشر على متاع الدنيا وغرورها،واستمسكوا بكل أسباب الحياة وإن كان مقروناً بكل أشكال الهوان،وما أقلّ من يروّي بدمه زهرة الحق في زمن العناكب والطحالب وآسن المستنقعات،وما أنبلّ من يضئ بشعلة حياته نور العتمة ودياجير الظلمات،في زمن السراديب والظلمات.
يقول عصام العطار حفظه الله:
ويُشرقُ الحقُّ في قلبي فلا ظُلَمٌ ويصدقُ العزمُ لا وهنٌ ولا سأمُ
دربٌ سلكناهُ والرحمنُ غايتنا ما مَسَّنا قط في لاوائهِ ندمُ
نمضي ونمضي وإن طال الطريقُ بنا وسالَ دمعٌ على أطرافهِ ودَمُ
يحلو العذابُ وعينُ الله تلحظُنا ويعذبُ الموتُ والتشريدُ والألمُ