ولكنّي أستبطىء الحجارة

بسم الله الرحمن الرحيم

ولكنّي أستبطيء الحجارة

لقد تغيّرت المقاييس،وتبدّلت المعايير في دول الغرب،وخاصة في السنوات الثلاثين الأخيرة،فما كان عندهم قبل سنوات منكراً،أصبح عُرفاً!!وما كان عندهم عُرفاُ اصبح منكراً!وما كان في الماضي خُلُقاً،أصبح الآن يسمى تقاليد بالية وسخيفة،وما كان عند الجدات،بل ربما الأمهات متعارفاً عليه على أنه من صميم الأخلاق والعادات وكانوا يعضون عليه بالنواجذ،أصبح عند البنات والحفيدات رجعية وبلاهة ومنكراً يهربن منه{كأنَّهُم حُمُرٌ مُستَنفِرةٌ* فَرَّتْ من قَسوَرةٍ}[المدثر 50 ـ 51].

إن الفطرة الإنسانية لدى إنسان الغرب تعرّضت ـ ولاتزال ـ لتشويه ومسخ،وتبديل من أجل الوصول إلى فطرة أخرى،مريضة،مشوهة،منسلخة تماماً عن الفطرة السليمة،وكل ذلك يتم تحت شعارات مختلفة من العلم،والتقدم،والعصرانية،وكل ذلك يقع تحت رعاية وحماية القوانين والمؤسسات.

لقد كان موضوع العفّة،والحياء،والاحتشام من الأعراف التي كانت حتى الماضي القريب من الأمور المتعارف عليها،ولكننا في السنوات الأخيرة وجدنا أنها قد رحلت إلى غير عودة،وحلّ محلها مفاهيم أخرى بعيدة كل البعد عنها.فإظهار العورة عند الرجل والمرأة أصبح أمراً طبيعياً وكيف لا!! فما العورة حسب زعمهم إلا جزء من هذا الجسم فلماذا نعطيه كل هذه”القدسية”.وما الفرق مثلاً بين هذا الجزء من الجسم وأجزاء أخرى كالوجه أو العنق أو اليد!!!

والعري الكامل الشامل أمر مألوف،وغير مستهجن،ولم لا،فالجسم العاري هو ما ينادي به أصحاب مذهب”الجمالية”،فلا بد من إظهار جمال الجسم بكل تقاطيعه وثناياه،ولماذا إخفاء هذا الجمال وراء أستار من الثياب والتقاليد البالية.

وأصبح العري مظهراً حضارياً فكلّما تقدّمت الدولة حضارياً كلّما قلّت الثياب عن أجساد سكانها وازداد عُري الأفراد وسفورهم!!

وممارسة الجنس الرخيص والزنا،أصبحا من لوازم هذه المدنية الحديثة،فعلى كل إنسان أن ينهلّ من مناهل اللذّة،وأن يُشبع العمر والجسم بكل مايروق له،ولو كان عن طريق الزنا،فالزواج ليس وراءه إلا المشاكل والتعقيدات والقيود.

والشذوذ الجنسي كاللواط،والسحاق،اصبح من الأمور الجنسية الطبيعية،وأصبحت هناك نواد لممارسة هذا الشذوذ،وتجد العون والتأييد،وعلى أفراد هذا المجتمع القبول بذلك وإلا اعتبروا متخلفين،رجعيين!!

لقد شاهدت في التلفزيون الألماني قبل شهور برنامجاً يبحث في موضوع اللواط،وسئل أحد الآباء عن ابنه الذي يمارس فعل قوم لوط مع صديق له عن رأيه في هذا الموضوع فأجاب الأب:نعم،نعم إنه أمر طبيعي،طبيعي تماماً.قال ذلك وهو يتلعثم في جوابه،ويمسح عرقاً تفصّد عن جبينه!!

نعم،ماكان قديماً عرفاً وأخلاقاً كالحياء،والعفّة،ورابطة الزواج،ذهب إلى غير رجعة وحلّ محله أعراف جديدة من الإباحية،والبهيمية الجنسية،والشذوذ الجنسي والعري الشامل.

والمرأة كانت قديماً ربّة منزل،يُعهد إليها بصورة رئيسية بتربية الأطفال،وإنشاء الأسرة،وأما الآن وبعد سنوات من “الكفاح”و”النضال”أصبحت شريكة الرجل في كل الأعمال تقريباً وبدون استثناء،فهي ليست طبيبة،ومحامية،ومدرسة،بل هي أيضاً شرطية،وجندية،وسياسية،وحاكمة،وهي أيضاً تشاركه في كل هواياته ومنها الملاكمة،والمصارعة،وكرة القدم،والجمال الجسماني،وتربية العضلات!!

أما الأسرة والأطفال فأمرها متروك للحاضنات والمربيات،ثم استعيض عن هذا إلى حد كبير بتربية القطط والكلاب والجرذان”الأليفة” والفئران بدلاً من الأطفال!!وكيف لا؟ فتربية الطفل لها متاعبها ومشاغلها ومتطلباتها المادية،كما أنه عندما يبلغ سن البلوغ يترك الأسرة ولا يسأل عنها،أما الكلاب فهي تُسلي في أوقات الفراغ،ولا تحتاج إلى مسؤولية،ولا تحتاج إلى”حمل وولادة”وما يترتب على ذلك من “ترهل البطن والجسم”وضعف”رشاقة البدن” وللكلب منافع أخرى!!

نعم، كانت المرأة في الماضي عماد الأسرة،وكانت رمز الاستقرار،ومنبع الطمأنينة،فحلّ محل ذلك التفكك الأسري،والقضاء على رابطة الأسرة،والأبعد من ذلك القضاء على فطرة الأمومة في المرأة،وخلق كيان جديد منها،محكوم عليه عاجلاً أم آجلاً بالضياع.

وقديماً كان هناك ـ ولحد ما ـ علاقات الجوار،وصلة الأهل والأقارب،وهذه حلّ محلها بالتدريج الأنانية وحبُّ الذات و”الأنا”.وأصبح كل مشغول بنفسه عن غيره،وحتى عن أقرب الناس إليه.

شاهدت قبل فترة قريبة برنامجاً تحت عنوان”الكاميرا الخفية”.وهو يصوّر حادثة وقعت في إحدى الحافلات في ألمانيا،حيث تتعرض إحدى الفتيات للإعتداء الجسدي والتحرش الجنسي من قبل مجموعة من الشباب،وصوّرت الكاميرا ملامح وجه الفتاة وهي تصرخ وتستغيث،والاحافلة ملأى بالناس والركاب وكل منهم يشاغل نفسه عما يقع تحت سمعه وبصره إما بقراءة الجريدة أو النظر من نافذة الحافلة!!

نعم، لقد استطاع شياطين الإنس وأبالسة البشر ومن حذا حذوهم، واتبع هواهم ،استطاعوا أن يمسخوا هذه الفطرة السليمة في عالم الغرب ـ وإن كانت شظاياها وصلت إلى عالم المسلمين أيضاً ـ واستطاع هؤلاء الأبالسة وتلاميذ إبليس وإن كانوا أحياناً يتفوقوا عليه مكراً وخبثاً ودهاءً،أن يحولوا الإنسان إلى كتلة جنس محترقة  لايطفؤ لهيبها إلا بممارسة الجنس من غير قيد أوشرط(عالم النفس النمساوي سيغموند فرويد)،وأن يجعلوا المادة والمادة وحدها هي المحرك الوحيد للإنسان وليس الأخلاق(كارل ماركس الشيوعي)،وأن الفرد هو”الأصل” في المجتمع  الحديث الغربي وليست الأسرة(عالم الاجتماع الانكليزي دوركهايم)،وأن الإنسان يجب عليه أن ينهلّ من لذات الحياة قبل موته ولا يفكر إلا بذاته(نظرية الوجودية جان بول سارتر)،والأبعد من ذلك أن بعضهم مازال مصراً على أن الإنسان أصله قرد من أجل أن يحطموا كل معنى للإنسانية في هذا الإنسان والقضاء على مافيه من كرامة وكل ذرة صلاح.

 

لقد ظهرت في البداية صرخات استنكار وإصلاح ولكنها خمدت وماتت في مهدها فالمجتمع أصبح يتبنى هذه الفلسفات الجديدة،وأصبح حاميها،وكيف يمكن للنباتات الجميلة الطيبة أن تعيش  في مستنقعات آسنة،وكيف يمكن أن يجد الخنزير اللذة إلا من خلال التمرغ في الوحل والأقذار.

نعم،لقد عمَّ البلاء واستشرى الداء،فأصبح المعروف منكراً،والمنكر معروفاً،وأصبح الإنسان في عالم الغرب يعيش بنظرة جديدة أودت به وتودي به إلى الانحدار والهاوية،وما الاحصائيات الحديثة عن الأرقام العالية من حوادث الانتحار،وإدمام المخدرات والحبوب والخمر،وارتفاع عدد حالات الأمراض النفسية والقلق والجنون وارتفاع حوادث الجريمة والقتل والاغتصاب إلا مشعرات على ذلك.

لقد عمّت الرذيلة،وشاع الفساد،فحقّ العذاب،فهذه سنّة الله في الكون،وما ظهور الطاعون الجديد أي الإيدز،وارتفاع حالات السرطان وانتشار الكوارث كالزلازل والإعصارات والعواصف والفيضانات والقحط والمجاعات والجفاف،وما ظهور الحروب والاقتتال في كل مكان إلا بوار غضب الله ونقمته على هذا العالم الفاسد.

سئل قديماً أحد الصالحين بعد أن عانوا جفافاً وقحطاً..إننا نستبطيء المطر،فنظر إليهم بمرارة وقال لهم:”ولكنّي واللهأستبطيء الحجارة! فماذا يقول هذا الصالح إذا بُعث في هذا الزمان؟ماذا يقول؟!

(نشر هذا الموضوع في مجلة الرائد العدد 146 بتاريخ تشرين الأول عام 1992)

ملاحظة:ماذكرته في الموضوع لايقتصر على عالم الغرب وحده،فقد انتشرت هذه السلبيات وللأسف في مجتمعاتنا الشرقية،وعلى العكس قد تجاوزنا الغرب في هذه السلبيات،ولم نأخذ عن الغرب إيجابياته،ومنها النظام وحب العمل والتكافل الاجتماعي والديمقراطية في الحكم ….بل أخذنا هذه السلبيات وأضفنا إليها سلبيات أخرى لاتوجد عند الغرب ومنها الرشوة والفساد والظلم والحكم الاستبدادي والتناحر والاقتتال….وحسبي الله ونعم الوكيل.