بسم الله الرحمن الرحيم
خلقُّ الجنين بين الطبِّ والدين
المقدمة:
{وقُلْ ربِّ أدخِلني مُدخلَ صِدقٍ وأخرجني مُخرجَ صِدقٍ واجعل لي من لَّدُنكَ سُلطاناً نصيراً}[الإسراء80]
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره،ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مُضِلَ له ومن يُضلِل فلا هادي له،وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وإمام المرسلين وشفيعنا يوم الدين وسلّم تسليماً كثيرا.
الحمد لله الذي خلقنا من العدم،وعلمنا مالم نكن نعلم. وهبنا الفطرة السليمة والصورة الكريمة. وجعل لنا السمع والأبصار والأفئدة،وكان فضل الله عظيماً.
أما بعد:
لم يتناول أحد مسألة تكوّن الجنين في رحم الأم قبل القرآن وبعد نزوله بفترة طويلة.ولقد تناول القرآن الكريم هذا الموضوع بشكل مفصل وموضوعي يدعو للإعجاز،ابتداءً من عناصر تشكل الجنين الأولى وأعني بها النطفة (أي الحيوان المنوي المذكر) والبويضة عند الأنثى،ومروراً بعناصر التخلق الأخرى وهي النطفة الأمشاج(أي البويضة الملقحة) والعلقة ومن ثم المضغة المُخلّقة وغير المُخلّقة ومن ثم طور الجنين وتشكل الأنسجة الأخرى،ومن ثم تطور الخلق بمراحله المختلفة طوراً بعد طور،ومن ثم خروج الجنين من الرحم ومرحلة الوليد والإرضاع.
آياتٌ قليلةٌ مُحكمة و كلمات بسيطة رائعة،ولكنها ذات معنى كبير وإعجاز أكبر،عبرّت عن خلق الجنين الإنساني بصورة علمية رائعة،وبأسلوب القرآن الكريم المعجز دائماً لغوياً وعلمياً .وإن قصة خلق الإنسان بمراحله وأطواره المختلفة آية من آيات الله الكبرى،ودليل على قدرته الحكيمة العظيمة.
وقد أمرنا الله تعالى وحضّنا على التفكّر والتدبر في قصة هذا الخلق {فلينظُرِ الإنسانُ مِمَّ خُلق}[الطارق5]،كما أمرنا الله عز وجل أن نتفكر في نِعمه علينا ومافي هذا الإنسان وتركيبه وما أودع الله فيه من نِعمه وآياته دليلاً على عظمته وإعجازه{وفي أنفسِكُمْ أفلا تُبصرونَ}[الذاريات 21] .
لقد تطورت العلوم الفيزيائية والبيولوجية والكيميائية وعلوم الفلك والرياضيات وغيرها من العلوم وأخذت تتقدم ابتداءً من القرن السابع عشر الميلادي،ولكن أحداً من العلماء الأوروبيين لم يستطع أن يتطرق إلى موضوع كيف تتشكل الأجنة في الأرحام والتي تكلم عنها القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة قبل مئات السنين من قبل وبشكل يدعو للإعجاز.
وبعد أن تم اختراع المجهر الضوئي من قبل لوفنهوك وأمكن رؤية الحيوانات المنوية وهي تسبح فقد ظن العلماء في ذلك الوقت أنها ليست إلا بقايا أو رواسب لعمليات تعفن في الغدد الجنسية،وقال آخرون أنها قد تكون ميكروبات أو طفيليات،ولم يذكر أحد منهم أنها أصل الحياة وبذور تشكل الجنين.
وكانت النظرية السائدة ولعدة قرون في أوروبا والغرب أن الإنسان يوجد بشكل مُصغّر داخل الحيوان المنوي أي أن النطفة تحوي الجنين بشكل مصغر وأنه داخل الرحم ينمو ويتطور بعد أن يتغذى داخل الرحم.والعجيب أن بعضهم تخيل وقال أنه قد رأى معالم هذا الجنين المصور بأعضائه وأنسجته داخل الحيوان المنوي!!
وأما القرآن الكريم فقد ذكر مراحل تطور الجنين منذ البداية وحتى الولادة بشكل علمي وموضوعي وبشكل يدعو للإعجاز ويُثبت ويدل على أنه كتاب من عند الله،لا هو من صنع بشر ولا من تأليف الإنس والجن، ولا مُشتق من الأساطير وعلم الأقدمين.
إن الكتابة في علم تطور الجنين وخلق الإنسان من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية،هو بحث هام ورائع،و يساعد على إظهار هذا الإعجاز الرباني والذي قد يمكن بعض الناس من معرفة الدين الإسلامي والدخول فيه من خلال الأسلوب العلمي الموضوعي،والذي يتعاون فيه علماء الطب والدين واللغة،والذين تقع عليهم مسؤولية إظهار الإعجاز القرآني من كل جوانبه ونواحيه،وقد سمعنا من خلال المؤتمرات العلمية التي تكلمت عن هذا الموضوع وكيف أثرت في بعض علماء الغرب ودخل بعضهم في دين الله عن قناعة واقتناع مصداقاً لقوله تعالى{سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق}[فصلت53]وقوله تعالى{شهد الله أنه لا إله إلاهو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلاهو العزيزالحكيم}[آل عمران 18].
إنني عندما أكتب في هذا الموضوع فإنني لا أفسر آيات الله ـ معاذ الله ـ وإنما ألقي بعض الأضواء والشروح الطبية المُوثقة العلمية والمتطورة حول موضوع الجنين بين الطب والدين.
إننا نقدم المعلومات الحديثة والمتوفرة ونضعها أمام المُهتمين من العلماء والباحثين الذين نذروا أعمارهم ووقتهم لخدمة علوم القرآن ونترك لهم بعد أن يقرأوا،أن يقبلوا أو يرفضوا ،أن يناقشوا أو أن يُتمموا ،أن يصححوا أو أن ينقدوا.
اللهم اغفر لنا الخطأ وقيّض لنا من يُصححه وأجرنا على عملنا وتقبّل منا الصواب.
اللهم اجعل كتابي هذا خالصاً لوجهك الكريم،وإن كان فيه خطأ أو أخطاء فاغفر لي واهدني وسدّدني،وإن كان فيه شئ مما تُؤجِرعليه فبفضلك ورحمتك ،فأنت الذي أعنتني عليه، ويسّرت لي كتابته،وشرحت صدري له،فسبحانك ما أكرمك،وسبحانك ما أعظمك،ياذا الجلال والإكرام وياذا المنّ والفضل،ويا أرحم الراحمين.
سبحانك لاعلم لنا إلا ماعلمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
اسأل الله تعالى وهو الوهاب الكريم البرّ الرحيم،أن ينفع به وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وله الحمد في الأولى والآخرة.اللهم وفقني..وأوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ. إني لما أنزلت إليّ من خير فقير.
وأختم هذه المقدمة بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم:” اللهم لكَ الحمد أنت ربُّ السّمواتِ والأرضِ ومن فيهنَّ ،ولك الحمد أنت قيُّومُ السّمواتِ والأرض ومن فيهنَّ،ولكَ الحمدُ أنت نورُ السّموات والأرض ومن فيهنَّ،أنتَ الحقُّ، وقولُكَ الحقُّ،ووعدُكَ حقُّ، والجنةُ حقُّ،والنارُ حقُّ،والنبيونَ حقُّ،ومحمدٌ حقُّ،.اللهم لك أسلمتُ، وبك آمنتُ،وعليكَ توكلتُ، وإليك أنبتُ، وبكَ خاصمتُ، وإليك حاكمتُ، فاغفر لي ماقدَّمت وما آخَّرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ أنت إلهي لا إله إلا أنت“.[أخرجه الشيخان عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما].
الجهاز التناسلي عند الذكر
يتألف الجهاز التناسلي عند الذكر من الأعضاء التالية:
1 ـ الخصيتان :Testes
الخصية أحد أعضاء الجهاز التناسلي الظاهر عند الذكر،وتعتبر أيضاً أحد أعضاء جهاز الغدد الصماء.
تزن الخصية عند الذكر البالغ حوالي 20 غراما،وبطول 4سم،وبقطر أمامي خلفي حوالي3سم،وقطر معترض حوالي2سم،وتتشكل الخصية في طور حياة الجنين إلى جانب العمود الفقري والأضلاع السفلى،ثم تنزل تدريجياً أثناء الحمل باتجاه الحوض حيث تبلغه في الاسبوع العاشر بعد تلقيح البيضة،وفي الشهر التاسع من الحمل وقبيل الولادة تُهاجر الخصية إلى كيس الصفن خارج البطن،والسبب في ذلك أن النطاف التي تُولّدها الخصية تتأثر بحرارة الجسم الداخلية،ويكون إفرازها أفضل إذا كانت الحرارة (2 ـ 4 )درجات أقل من حرارة الجسم الداخلية،وهذا يتوفر بشكل جيد ومناسب في كيس الصفن خارج تجويف الجسم حيث تصل درجة الحرارة حوالي 34 ـ 35 درجة مئوية،وإن عدم هجرة الخصية إلى كيس الصفن ـ ويسمى طبياً الخصية الهاجرة ـ له تأثيرات سلبية وقد يُسبب العقم كما سنذكر ذلك بالتفصيل لاحقاً،وتعتبر الخصية الهاجرة أكثر تعرضاً للتشكلات الورمية من الخصية الطبيعية.
وإن هبوط الخصية من جانب العمود الفقري إلى كيس الصفن خارج البطن قد يتوقف أثناء هجرتها وهبوطها في عدة مناطق: البطن،أو القناة الإربية،أو المنطقة الإربية.
ولذا لابد من الانتباه عند الولادة للمواليد الذكور إذا كانت الخصية في كيس الصفن أو غير موجودة فيه.
ومن الناحية الوظيفية:
تعتبر الخصية عند الذكر البالغ من أكثر اعضاء الجسم نشاطاً وإنتاجاً ،وتعتبر الخصية غدة داخلية وغدة خارجية الإفراز وذلك يتم عن طريقين رئيسين:
1ـ تحتوي الخصية على عدد من الفُصيصات،وكل فصيص يحتوي على مجموعة من الأنابيب المنوية، وهي شديدة التعرج والالتواء،ويقدر عددها بحوالي الألف انبوب،والأنبوب أدق من خيط الحرير الرقيق،ويبلغ طول الأنبوب الواحد حوالي30 ـ 60 سم.وتحتوي الأنابيب المنوية على خلايا تسمى خلايا سرتولي تفرز سائلاً يعمل على تغذية الحيوانات المنوية.ويعتقد أيضاً أن لها وظيفة مناعية.كما أن هذه الخلايا تحافظ على البيئة الضرورية للتطور والنضد للنطاف من خلال الحاجز الدموي الخصيوي،وتفرز مواداً تحرض بدء الانقسام الخلوي المنصف،كما أنها تفرز السائل الخصيوي الداعم،وتفرز البروتين الرابط للأندروجين والذي يقوم بتركيز التستوستيرون بالقرب من الأعراس النامية،وتقوم هذه الخلايا المسماة سيرتولي أيضاً بحماية الأرومات النطفية من الجهاز المناعي للذكور من خلال الحاجز الدموي الخصيوي.
ويقال أنه لو مُدت هذه الأنابيب بجانب بعضها لكوّنت طريقاً طوله لايقل عن 500 متر، وتحتوي هذه الأنابيب على الخلايا المولدة للنطاف،ويقدر معدل الإفراز اليومي للنطاف عند الذكر البالغ حوالي 100 مليون نطفة أي بمعدل 1000 نطفة في الثانية،ويقال أن الرجل الواحد يستطيع خلال شهرين أن ينتج مايكفي لإنجاب ذرية تملأ الأرض كلها!!
وهذه الأنابيب المنوية تجتمع في مجموعة من الأقنية المنوية عددها 12 ـ 20 في شبكة تسمى شبكة هيللر،وهذه تصب في غدة البربخ التي تقع في القسم العلوي من الخصية.
يتم تشكيل الحيوانات المنوية في الخصية وذلك في الأنابيب المنوية للخصية.تبدأ هذه العملية بالانقسام الخيطي لخلايا جذعية تقع بالقرب من الغشاء القاعدي للأنابيب المنوية،وتدعى هذه الخلايا بالخلايا الجذعية المولدة للنطاف.وينتج عن الانقسام الخيطي نوعان من الخلايا:الخلايا من النمط A والخلايا من النمط B وهذه تتحول إلى خلايا نطفية.
وتستغرق كامل عملية تكون النطاف عند الذكور حوالي 74 يوماً،وتنتج الخصية حوالي 200 ـ 300 مليون حيوان منوي يومياً.
تشكل الخصية الخلايا المولدة للنطاف،وهي خلايا سريعة التحسس،وإن انسداد الشريان المنوي يسبب تلفها السريع.وأما خلايا سرتولي فإنها أكثر مقاومة وتقوم حينئذ بدور الخلايا البالعة.وإن عملية تشكل النطاف هي عملية مستمرة سواء كان هناك قذف أم لا،وإن النطف غير المقذوفة تمتص من قبل قناة الأسهر.وعند الجماع فإن هناك قذفاً قدره 2 ـ 4 مل من السائل المنوي الذي يدخل المهبل،وهذا السائل المنويSemenيحتوي على عدة ملايين من النطاف وإن الحد الأدنى للإخصاب يبلغ حوالي 20 مليون نطفة في كل مل من السائل.ويحتوي كل سائل منوي على نسبة محدودة من النطف غير المتحركة أو قليلة الحركة أو مضاعفة الرأس أي مشوهة.
إن النطاف تجتمع عند الفوهة المجلية من قناة الأسهر إلى أن تختلط بالسائل الآتي من الحويصلين المنويين ومن ثم يتم عملية القذف.وإن أقل من 10 % من السائل المنوي يحتوي النطاف والباقي عبارة عن السائل بحد ذاته.
وإن السائل المنوي يتخثر بسرعة بعد القذف ولكنه سرعان ما يكتسب سيولته بعد فترة قصيرة لوجود الخمائر الحالة للبروتين،ومن ثم تستطيع النطاف الناضجة أن تتحرك بسهولة.
إن درجة حموضة السائل المنوي حوالي7،4 ويحتوي على نسب معينة من حمض الليمون والفركتوز والسوربيتول،وخمائر عديدة.
وإن افراز البروستاتة يشكل حوالي 20% من كمية السائل المنوي .وأما الحويصلان المنويان فيشكلان بإفرازهما حوالي 60% من كمية السائل المنوي.وإن الحويصلين المنويين يحتويان على نسبة عالية من البروستاغلاندين.
إن النطاف تستطيع البقاء لمدة شهر أو أكثر داخل البربخ أو الحويصل المنوي،ولكنها تموت بسرعة بعد خروجها من الجسم،ويمكن الحفاظ عليها لعدة سنوات في حالات التبريد لها بدرجة 79 تحت الصفر وهذا ما يسمى زرع النطاف.
وإن من أهم أسباب العقم عند الذكور عدم تشكل النطاف أو وجود تشوهات كبيرة في النطاف من حيث الشكل أو الحركة أو نقص العدد الشديد وهذا ما نبحثه لاحقاً إن شاء الله عند الحديث عن العقم.
2ـ والخصية هي أيضاً غدة صماء،أي أنها تفرز بعض الهرمونات التي تنطلق إلى الدورة الدموية مباشرة، وهذا الإفراز الهرموني يتم بواسطة خلايا تدعى الخلايا الهامشية وتسمى أيضاً خلايا ليديغ،وأهم الهرمونات التي تُفرزها الخصية هرمون التستوستيرون، وهذا الإفراز تشرف عليه الغدة النخامية.
تنمو الخصية بصورة ضئيلة خلال السنين الأولى من الحياة،ولكن بعد سن الحادية عشر تنمو نمواً سريعاً وتصل إلى وزن 15 غراماً في السنة السابعة عشرة من العمر.والموثة وباقي الغدد الجنسية الملحقة تسايرها في النمو.
إن أول العلامات الجنسية الثانوية(الخارجية) ظهوراً عند الطفل البالغ هي سرعة نمو القضيب وهذا يظهر في سن الحادية عشر،ومن ثم تبدأ أشعار العانة بالظهور والانتشار وأخذ اللون الاسود،ومن ثم تظهر أشعار الإبط وظهور الشاربين ومن ثم تنتشر أشعار العانة باتجاه السرة،وتأخذ أشعار الوجه والذقن بالقساوة.
ومن ثم تضخم الحنجرة ويصبح الصوت خشناً،ويترافق النمو الجنسي والنمو الجسدي ويترافق ذلك مع تبدا المزاج والحالة النفسية.
وإذا ما أجري الخصاء قبل سن البلوغ فإن المخصي يمتاز بطول القامة وذلك بسبب عدم الالتحام المبكر لغضاريف النمو والالتحام في العظام،ويبقى محتفظاً بصوت ناعم غير أجش،ويبقى القضيب صغير الحجم،ولا تظهر أشعار الوجه أو البطن بالنمط الذكوري.ويندر حدوث الصلع عند المخصيين،ويلاحظ نقص في افراز الغدد الدهنية في الجلد،كما لوحظ أن التعرض للشمس لا يسبب تغير لون الجلد أي حدوث السفع،ويكون مصاباً بالعنة والعجز الجنسي والعقم.
أما إذا حدث الإخصاء بعد سن البلوغ فإنه يسبب الوهن العضلي،وضمور البروستاتة والحويصلين المنويين،وتراجع الرغبة الجنسية.
إن هرمون التستوستيرون مسؤول عن الصفات الجنسية الأولية:
مثل ضخامة وحجم القضيب،وضخامة الموثة(البروستات) والبربخ والحويصلين المنويين، بالإضافة إلى الإشراف على إفرازاتهم ووظائفهم,كما أن هذا الهرمون مسؤول عن الوظائف الجنسية الثانوية:
مثل خشونة الصوت عند البلوغ،ونمو شعر اللحية،وتوزع الأشعار، وظهور شعر العانة كما يلعب دوراً في نمو الهيكل العظمي والعضلات،وله علاقة مع استقلاب البروتينات،ونمو الجسم، ونضج الخلايا المُولدّة للنطاف.
وقد اكتشف التستوستيرون عام 1935م،وقد أمكن استحضاره طبياً ويعطى علاجياً بشكل زرقات عضلية،لأنه إذا أعطي عن طريق الفم وامتص من الأمعاء ودخل الدوران البابي الكبدي يتم استقلابه لشكل أقل فعالية.
الصفن:Scrotum
هو الكيس المحيط بالخصية ويحميها من العوامل الخارجية،ويوجد على الخط المتوسط منه مايسمى الخياطة المتوسطة والتي تشير إلى أن الصفن كان يتألف من قسمين أو نصفين في الحياة الجنينية، وهذا الكيس يحتوي على طبقة من الألياف العضلية المُلس والتي تسمى العضلات المُغضّنة للصفن،وذلك لأنها بتقلصها واسترخائها تسبب انكماش أو استرخاء الصفن،وهذا يلعب دوراً هاماً في بقاء الحرارة داخل الصفن ثابتة مهما كانت تبدلات الحرارة الخارجية،وهذا ذو أهمية كبرى لكي لايتأثر توليد النطاف بالتذبذبات الحرارية الخارجية.ولقد لوحظ أن بعض العوامل والظواهر قد تؤثر سلباً في انتاج النطاف في الخصية ولها علاقة مع التبدلات الحرارية الخارجية،ومنها أن لبس الملابس الضيقة جداً يمكن أن يمنع هبوط الحرارة المطلوبة في الصفن فيؤثر في جودة النطاف،وكذلك اجراء الحمامات الساخنة بانتظام.
2 ـ البربخ: Epididumis
العضو الثاني في الجهاز التناسلي عند الذكور، وهو عبارة عن غدة تحتوي عدة قنوات مُتعرجة بطول 5 ـ 20 متر،وتقع في القطب العلوي من الخصية،تنتقل إليه النطاف عن طريق الأنابيب المنوية،ومنه تنتقل إلى القناة الناقلة للنطاف (والتي تسمى الأسهر)، والحويصلين المنويين.
إن البربخ ذو وظائف هامة جداً بالنسبة للنطاف تتمثل في ثلاثة وظائف هامة:
1 ـ إنه يُكسب النطاف القدرة على الحركة (لأنها عندما تخرج من الخصية تكون غير متحركة بذاتها)
2 ـ يساعد على إتمام عملية إنضاج النطاف،ومنها تغيير السطح الخارجي للنطاف مما يمكنها أن تخترق البيضة عند حدوث الإلقاح.
3 ـ يعتبر البربخ مستودعاً للنطاف،وذلك في القسم السفلي منه،ويمكن أن تبقى النطاف حية داخل البربخ لعدة أسابيع.ويقال أنها تبقى فيه حوالي ثلاثة شهور وهذا يساعد في عملية إنضاج النطاف.وتساعد الكريات البيضاء على تنظيف البربخ من الحيوانات المنوية الميتة وبقاياها.
3 ـ القناة الناقلة للنطاف(قناة الأسهر):Ductus deferens
وتسمى أيضاً الحبل المنوي، وهي قناة طويلة (حوالي 40 ـ 50 سم)، وذات قطر لايتجاوز 4مم،تمتد من البربخ وحتى عنق الحويصل المنوي، وفي بعض البلدان مثل الهند يتم تعقيم الذكور من خلال ربط الحبل المنوي جراحياً من أجل منع الإنجاب وتحديد النسل.
4 ـ الحويصلان المنويان:
يتركب الحويصل المنوي من أنبوب شديد الالتواء والتعرج بطول 12 ـ 20 سم،وهما يقعان تشريحياً خلف غدة الموثة(البروستات) . والحويصل المنوي ذو وظائف هامة عديدة:
! ـ إفراز سكر الفركتوز: وهذا ذو أهمية خاصة جداً لحركة النطاف
2 ـ إفراز سائل قلوي مُغذي للنطاف،وهذا السائل يقلل لزوجة السائل المنوي
3 ـ يعتبر الحويصل المنوي مدخراً ومستودعاً للنطاف.
4 ـ عند الجماع يحدث تقلص في الحويصلين المنويين وهذا يؤدي لحدوث الدفق والإنزال، ولولا الحويصل المنوي لتقّطر السائل المنوي في الإحليل قطرة قطرة.ويتم مزج سوائل الموثة والبربخ والحويصلان المنويان قبل عملية القذف.
5 ـ الأقنية الدافقة:
هذه الأقنية تمتد بين الحويصلين المنويين والإحليل عبر غدة البروستات،ويبلغ طول القناة 2سم وبقطر حوالي 1ـ 2مم.
6 ـ غدة الموثة(البروستات):
غدة ليفية ـ عضلية، شبيهة بحبة الكستناء، وزنها في الحالات الطبيعية 14 ـ 20 غراماً،تقع خلف المثانة وتحيط بعنق المثانة،،وتحتوي على مجموعة من الغدد الصغيرة التي تصب في الإحليل عبر القناتين الدافقتين.تفرز الموثة سائلاً حليبياً مغذياً للنطاف وهو يشكل القسم الأعظم من تركيب السائل المنوي،وهو سائل قاعدي التفاعل،يحتوي على دهون فوسفورية تكسبه اللون الحليبي،وهو يعمل على تخفيف لزوجة السائل المنوي ليسهل حركة الحيوانات المنوية.
كما أنها تحتوي على ألياف عضلية ملس تتقلص أثناء الجماع، وتفرز محتويات الموثة إلى الإحليل.
إن أمراض الغدة ليست نادرة وخاصة عند المسنين، وتسبب اضطرابات بولية،كما أن سرطان الغدة هو أكثر سرطانات الجهاز التناسلي مشاهدة عند الذكور،واستئصال الغدة يؤثر على القدرة الجنسية(العنانة) كما أنه يؤثر في القدرة على الإنجاب(العقم).
7 ـ القضيب:Penis
عضو التناسل والجماع،يصل طوله تقريباً 6 ـ 10 سم،وعند الانتصاب يبلغ 13 ـ 18 سم.
يتكون القضيب من ثلاثة أجسام اسطوانية الشكل وهما الجسمان الكهفيان في أعلى القضيب،وجسم ثالث أسفل القضيب ويسمى الجسم الإسفنجي،وتسمى هذه الأقسام الثلاثة بمجموعها بإسم أعضاء النعوظ، وهي غنية جداً بالعروق الدموية والتي تكّون مايسمى اشباه الجيوب الوريدية الدموية،ويحصل انتصاب القضيب من جراء امتلاء هذه الجيوب بالدم واحتباسه المؤقت فيها،وذلك بتقلص الألياف العضلية الملس التي تمنع الدم الوريدي من العودة ،ويتم هذا تحت إشراف الجملة العصبية المركزية،والعصب الودي من خلال مايسمى المنعكس البصيلي ـ الكهفي،والذي تنطلق التنبيهات الحسية من القسم الأمامي من القضيب والمسمى بالحشفة(Prepuce) والذي يغطى عند غير المختونين بقطعة جلدية تسمى القلفة.
كما يحتوي القضيب على قناة الإحليل(مجرى البول) والذي يمر خلال الجسم الإسفنجي، والإحليل هو في نفس الوقت مجرى البول والسائل المنوي معاً،وتوجد داخله غدد صغيرة تسمى الغدد البصلية الإحليلية(غدد كوبر)، وهي تفرز سائلاً وظيفته ترطيب الحشفة عند الجماع والإنتصاب.
وبعد أن تكلمنا عن أعضاء الجهاز التناسلي الذكري، لابأس ان نذكر وباختصار المراحل التي تمر بها العملية الجنسية عند الذكر،لأن أي اضطراب في أي مرحلة من المراحل قد يؤدي لإضطرابات جنسية عند الذكر أي العنانة(الضعف الجنسي).
الجماع:
ويسمى أيضاً المُضاجعة،أو الوطء،أو المواقعة:وهو العملية الجنسية التي تقوم أساساً على ادخال القضيب منتصباً إلى داخل المهبل بهدف الحصول على المتعة الجنسية أو للتكاثر أو كليهما.
تمر العملية الجنسية عند الذكر(الجماع) بخمسة مراحل متتالية:
1 ـ مرحلة التحضير أو الرغبة،أو الإثارة الجنسية أو مايسمى مرحلة الشبق: وهذه العملية تسبق النعوظ وتقع لإشراف المراكز العصبية العليا.,وتحدث الإثارة بسبب بعض المؤثرات السمعية أو البصرية،أو تنبيه وإثارة بعض أعضاء الجهاز التناسلي كالقضيب أو المهبل أو حلمة الثي عند الجنسين،ويمكن أن تحدث بسبب التحفيز العقلي مثل الخيالات والقراءات ذات الفحوى الجنسية.وعند الأنثى تترافق مع زيادة الإفرازات المهبلية والتي تؤدي إلى ترطيب المهبل وهذا يساعد على الإيلاج عند الذكر.
2 ـ مرحلة النعوظ أو الإنتصاب:وهذا يحدث بسبب وجود المنعكس البصيلي ـ الكهفي،وهذا المنعكس يخضع لإشراف الجملة العصبية الذاتية وألياف العصب نظير الودي(الباراسيمباتيكوس)والذي يتلوه الإيلاج.
3 ـ مرحلة الدفق أو الإنزال:وهي تنجم عن تقلص الحويصلين المنويين بشكل خاص وهذا يقع تحت إشراف الجملة العصبية الذاتية،وخاصة ألياف العصب الودي.
4 ـ مرحلة الذروة أو النشوة:وهذه المرحلة كالأولى تخضع لتأثير المراكز القشرية الدماغية العليا.
5 ـ مرحلة الأسترخاء وزوال الاحتقان.
وتمر جميع هذه المراحل بصورة منتظمة ومتتابعة،وتفصل بينها فترات زمنية محددة،قد تطول او تقصر تبعاً لطبيعة الشخص وبنيته وعاداته وسنه.
فإذا ماتم الدفق والإنزال قبل الإيلاج ودخول العضو الجنسي للذكر أو حتى بعد ثوان قليلة من الإيلاج فهذا مايسمى سرعة الدفق أو الدفق السريع، وهي ظاهرة مرضية كثيرة الانتشار،وتشاهد في مختلف الطبقات من المجتمع ولها أسباب عديدة، ولها نتائجها السلبية على الفرد وعائلته في حال لم تعالج.
وإذا تم افراغ النطاف بصورة مستمرة ومتلاحقة كما يحدث عند الإفراط في ممارسة الجنس والعادة السرية عدة مرات في اليوم ولعدة أيام متتالية فإن هذا يحول دون نضج النطاف وبالتالي تكون غير صالحة للإخصاب وهذا يسبب حدوث نضوب كامل في النطاف وقد يحتاج الأمر عدة أسابيع حتى يعود العدد والنضج للشكل الطبيعي.
إن الحيوانات لها مواسم وأوقات معينة يحدث فيها الإلقاح والتناسل والميل الجنسي للجنس الأخر،وهذه المدة قد تكون بضعة شهور كما هو الحال عند القطط والكلاب، وقد تكون بضعة أيام في السنة كما هو الحال عند الضفادع، أما عند الإنسان فإن الميل الجنسي والقدرة على الإخصاب والإنجاب تكون عند الذكر منذ سن البلوغ وحتى الوفاة، وأما عند الأنثى فهي منذ البلوغ وحتى سن الضهي (الإياس)، وتفتر القوة الجنسية عند الجنسين بعد بلوغ سن الشيخوخة.
فوائد الجماع والنشوة الجنسية:
1ـ انخفاض خطر الوفاة المبكرة
2 ـ انخفاض خطر الإصابة بسرطان البروستات
3 ـ الحماية من أمراض القلب والسرطان:وخاصة من خلال الهرمونات التي تصاحب العملية الجنسية
4 ـ تحسن حاسة الشم،والإقلال من التوتر العصبي،وخفض ضغط الدم ويقال أيضاً زيادة المناعة وزيادة انتاج الأجسام المضادة.
فيزلوجية الدفق الطبيعي:
يحدث الدفق بسبب تقلص الحويصلين المنويين،اللذان يتوضعان في الحوض عند جذر العضو بين المثانة والبروستاتة،وبسبب التقلص ينفرغ مايحتويانه من السائل المنوي إلى الإحليل الخلفي فالصماخ البولي .وهذا السائل عبارة عن مفرزات متجمعة في الحويصلين المنويين وآتية من الخصيتين والبروستات.
يحدث الدفق بواسطة عمل عصبي انعكاسي،مركزه في المنطقة الأولى والثانية من القسم القطني للنخاع الشوكي،أي فوق العصعص ببضعة سنتمرات.
يتنبه مركز الدفق بواسطة تأثرات عصبية واردة إليه من رأس العضو الذكري ومن الإحليل الخلفي ومن المراكز العصبية المجاورة لمركز الدفق في النخاع الشوكي،كمركز النعوظ والانتصاب الذي يقع قريباً منه.
وتزداد هذه التأثيرات العصبية الواردة تدريجيا بزيادة الاحتكاك للعضو أثناء ممارسة الجنس، وكذلك بزيادة التأثيرات الواردة إليه من المراكز الدماغية العليا،فيزداد التوتر العصبي في مركز الدفق شيئاً فشيئاً بازدياد السيالات العصبية الواردة إليه حتى يبلغ هذا التوتر درجة معينة من القوة وحينئذ تصدر مراكز عصبية فجائية إلى الحويصلين المنويين فيحدث الدفق والإنزال.
أسباب الدفق السريع أو سرعة الدفق:أو سرعة الإنزال أو القذف المبكر:Premature ejaculation
مشكلة جنسية شائعة عند الرجال تصيب حوالي 30 ـ 40% منهم،وهو يعني انعدام الرقابة الطوعية على عملية القذف.
1 ـ نقص قوة الإرادة: وخاصة عند الذين يمارسون الجنس بصورة مبكرة من الحياة.
2 ـ التنبيهات العصبية الكثيرة المتوالية وذات القوة المنخفضة: وهذا يشاهد في حالات التهيجات المستمرة والإفراط في ممارسة الجنس أو العادة السرية،وبسبب الإحتقان المستمر في المجاري التناسلية الخلفية كما في حالات التهاب البروستات المزمن والتهاب الحويصلين المنويين والتهاب الإحليل الخلفي.
3 ـ الحساسية المفرطة والزائدة في رأس العضو الذكري(القضيب):والذي يشاهد خاصة عند غير المختونين،ولذا ينصح بإجراء الختان.
4 ـ نقص افراز الهرمونات المذكرة،ولوحظ أيضاً نقص في مادة السيرتونين في مراكز القذف في المخيخ أو خلل في المستقبلات العصبية المعتمدة على هذه المادة.
5 ـ العوامل النفسية: وخاصة عند المصابين بسلس البول في الطفولة،وأسباب نفسية أخرى.
6 ـ بعض الأسباب العضوية:وخاصة في أمراض النخاع الشوكي،والتهابات الأعصاب المحيطية واستخدام المنشطات العصبية وخاصة حبوب تنقيص الوزن والتي تحتوي مادة الأمفيتامين،واستعمال أدوية الإدمان.وكذلك بعض العوامل الوراثية،وضعف الانتصاب.
العجز الجنسي أو العنانة أو العنة:
وهو يعني ضعف الإنتصاب لدى الرجل،أو عدم قدرة القضيب على الانتصاب لفترات طويلة،أو عدم الإحساس بالرغبة الجنسية،وهو يختلف عن العجز الجنسي،فالعجز الجنسي هو مرحلة متطورة من الضعف الجنسي والمقصود به عدم القدرة نهائياً على انتصاب العضو الذكري للرجل،وعدم الإحساس بالرغبة الجنسية تجاه الزوجة نهائيا،أو عدم احتمال ممارسة الجنس.
والعنة:أحد الأمراض التي أصبحت شائعة الانتشار،وأهم الأسباب:
1 ـ الأسباب النفسية:وهذه من أهم الأسباب عند الشباب وسببه غالباً الخوف في ليلة الزفاف،أو الإفراط في ممارسة العادة السرية أو البرود الجنسي وعدم الرغبة الجنسية،أو الوهن والتوتر العصبي،أو الجهل الجنسي.. وهذا يعالج عند أطباء علم النفس.
2 ـ الأسباب العضوية: وذلك بسبب وجود بعض الأمراض العضوية وخاصة داء السكري أو تشمع الكبد وسوء التغذية الشديد.. أو بعض الأمراض العصبية العضوية كالشلل والفالج..أو بسبب بعض الأمراض الغدية مثل أمراض الغدة النخامية أو الكظر أو الدرق..،أو بسبب وجود أمراض في الجهاز التناسلي عند الذكر وخاصة القيلة المائية الكبيرة،والفتوق الشديدة، والتشوهات الخلقية،أو بسبب تناول بعض المركبات الدوائية وخاصة خافضات الضغط الشرياني ومنها حاصرات بيتا،أو بسبب الإدمان على الغول والمخدرات والإفراط في التدخين،أو المعالجة بهرمونات الأنوثة مثل الاستروجين كما هو الحال في سرطان البروستات..
الجهاز التناسلي عند الأنثى
ويتألف من الأعضاء الجنسية التالية:
1 ـ المبيضان:Ovar
يقع المبيض داخل الحوض،جانب الرحم،ويشبه حبة اللوز أو الكستناء الصغيرة،طوله 3 ـ5 سم، وعرضه 2 ـ 3 سم،وسماكته 1 ـ 2سم. ويتألف المبيض من الناحية النسيجية من قسمين:
1ـ اللب
2ـ القشر : وهذا هو القسم الهام وظيفياً في المبيض،حيث يحتوي على أجربة مختلفة الحجم والأعمار،وهذه الأجربة عبارة عن تشكلات تنشأ داخل المبيض في طور الحياة الجنينية،وهذه الأجربة تنضج في فترة البلوغ عند الأنثى،وتنضج بشكل خاص في فترة الإباضة وتسمى عندها الأجربة الناضجة أو مايسمى أجربة دوغراف.
يتألف الجراب الإبتدائي من خلية مركزية هي البيضة غير الناضجة،يحيط بها صف واحد من الخلايا الجرابية،وهي توصل الغذاء اللازم لنمو البيضة،ولذا تسمى الخلايا المغذية،ويبلغ قطر البيضة غير الناضجة حوالي 50 ـ 70 مكرون(المكرون 1/1000مم).
وأما الجراب الناضج أو مايسمى جراب دوغراف: فهو الذي يشاهد في سن البلوغ عند الأنثى،ويشاهد مرة واحدة في كل شهر قمري،ويتطور كما يلي:
مع ظهور الدورة الشهرية عند الأنثى يتبارز أحد الأجربة الابتدائية ويقترب من سطح المبيض ويبدو بشكل حبة الكرز،ويكون عبارة عن حويصل مملوء بسائل،وهذا الحويصل تحدّه الخلايا الجرابية،وتسكن فيه البيضة الناضجة التي أصبحت بقطر 200 مكرون(فهي هنا أكبر خلية من خلايا الجسم)،وهي الخلية الوحيدة التي يمكن رؤيتها بالعين المجردة، ويحيط بهذه البويضة غشاء شفاف يفصلها عما يجاورها.
وأما الخلايا المحيطة بالبويضة وتسمى الخلايا الجرابية فإنها تُكوّن حول البويضة مايسمى الإكليل المشع،وعند حدوث الإباضة في منتصف الدورة الشهرية عادة،تزداد كمية السائل الجرابي ويتمزق الجراب وتنطلق منه البويضة الناضجة مع قليل من السائل الجرابي الأصفر اللون،وتحيط بهذه البويضة مجموعة من الخلايا الجرابية(الإكليل المشع)،وكأنها أي البيضة أميرة ترافقها الوصيفات اللاتي يوفرن لها الرعاية والحماية اللازمتين.وقلما تعيش البيضة بعد الإباضة أكثر من 36 ساعة .
ويقذف الجراب المتمزق في الأحوال العادية بيضة واحدة،ولكن في بعض الحالات قد تنطلق بيضتان أو أكثر وهذا نادر،وقد تبين أن المبيضين يتناوبان غالباً في كل دورة شهرية بإعطاء الأجربة الناضجة.
ولقد وجد أنه يصل عدد البيوض لدى الأنثى المولودة حوالي 1 ـ 2 مليون بيضة،ولكن مع مرور الزمان فإن قسماً كبيراً منها يتلف ويتعرض للتنكس والاستحالة،وحين تصل الأنثى إلى سن البلوغ فإن العدد الباقي يصل فقط إلى حوالي 40 ألف بيضة،ولما كان سن الخصوبة عند الأنثى محدوداً ـ على عكس الذكر الذي يستمر حتى مراحل الشيخوخة ـ وهذا السن ـ أي سن الخصوبة ـ يبدأ من سن البلوغ وينتهي عند سن اليأس،ولما كانت الإباضة تحدث مرة واحدة في كل شهر ولبيضة واحدة غالباً،فإنه لاينضج بالحساب إلا حوالي 400 بيضة فقط أثناء طور الخصوبة الجنسية.
هذا هو الدور الرئيسي للمبيض اي إنضاج البيوض وعملية الإباضة،ولكن توجد وظيفة أخرى أيضاً للمبيض،وذلك باعتباره غدة صماء تفرز بعض الهرمونات وتطلقها إلى الدوران الدموي، وهذا الإفراز الهرموني يخضع لإشراف الجملة العصبية المركزية وخاصة منطقة تحت المهاد، وكذلك يقع تحت إشراف الغدة النخامية،وهذه الهرمونات المبيضية وتسمى الهرمونات الجنسية المؤنثة وأهمها:الاستروجين والبروجسترون.
أما الاستروجين فإنه يفرز من الخلايا الجرابية والتي تحيط بالبويضة،وأهم وظائف الاستروجين:
1 ـ تكاثر ونمو بشرة المهبل
2 ـ تضخم وتوسع الرحم وخاصة في دور الطمث
3 ـ الحض على إفراز المخاط من غشاء باطن عنق الرحم
4 ـ تكاثر ونمو بطانة غشاء الرحم
5 بالإضافة لذلك فإن الاستروجينات تساعد في إظهار الصفات الجنسية الثانوية عند الأنثى:
وخاصة شعر الإبط والعانة،وضخامة الشفرين،ونضوج المهبل والرحم ،والتحام نهايات العظام الطويلة،ويتحول تفاعل المهبل من قلوي إلى حامض،وتتوسع هالة الثدي ومن ثم تضخم الغدة الثديية..ولايشاهد الطمث غالباً إلا بعد ظهور أشعار الإبطين وضخامة الثديين أي مابين 11 ـ 15 سنة،وقد يسبقه وجود بعض الافرازات المهبلية الرائقة،وغالباً مايكون الطمث غير منتظم في السنة الأولى من ظهوره ثم ينتظم.
6 ـ كما أن للأستروجين تأثيراً على الاستقلاب والعظام،حيث يزداد الطول عند الإناث في سن البلوغ ويزداد بشكل واضح وتستمر هجمة الطول عاماً أو عامين،ثم تبطؤ بعد ذلك مع زيادة مستمرة في الوزن،وإن النمو العظمي يكون متقدماً إجمالاً في الإناث أكثر منه عند الذكور في نفس العمر عند البلوغ، ويكون هناك صلة بين النمو العظمي والصفات الجنسية الثانوية،فمثلاً يحدث الطمث غالباً بعد ستة أشهر من التحام المشاشة بجسم العظم في السلامة النهائية من الاصبع الثانية في اليد،وإن تأثيرات الاستروجين على العظام هي تأثيرات مُرمّمة للعظام ،ولذا يشاهد حدوث تثقب العظام عند الإناث بعد سن اليأس وذلك بسبب نقص هذا الهرمون ،ويعتبر إعطائه في هذه الحالات من أفضل الأدوية لمنع تطور المرض نحو الأسوأ وخاصة حدوث الكسور العظمية التي قد ترافق مرض تثقب العظام.
7 ـ كما أن الاستروجين يقلل من حدوث التصلب الشرياني عند الإناث، وازدياد حدوث هذا المرض بعد سن اليأس لنقص تركيز الهرمون في الدم.
8 ـ كما أن الاستروجين يعاكس عمل هرمونات الذكورة(الأندروجينات) ولذا يُعطى علاجياً في معالجة سرطان البروستات.
ويعطى الاستروجين في معالجة منع الحمل كما أنه يعطى لتخفيف عوارض سن اليأس عند الإناث ولكن يجب أن ينتبه أن المعالجة الدائمة به قد يكون لها عواقب خطيرة ومنها زيادة نسبة حدوث الخثرات الوعائية وخاصة في الساقين والتي قد تسبب حدوث الصمامات الرئوية والتي قد تكون أحياناً مهددة للحياة،كما لوحظ زيادة نسبة حدوث سرطان الرحم عند النساء اللاتي يعالجن بالاستروجينات وخاصة لمكافحة أعراض سن اليأس.كما لوحظ أيضاً أن الاستروجينات تزيد من احتمال حدوث فرط التوتر الشرياني،كما لوحظ زيادة ارتفاع نسبة الحصيات المرارية وخاصة عند البدينات اللاتي يعالجن بهذا الهرمون.
وأما البروجسترون: فإنه يفرز من الجسم الأصفر،وهو الجسم الذي يتشكل من الجراب المتمزق والذي انطلقت منه البيضة الناضجة،ولما كانت الأحداث الطارئة على الأجربة المبيضية هي على التوالي، النمو ثم الإباضة ثم تشكل الجسم الأصفر، فإن تأثير الهرمون يأتي متتاليا ويتناسب مع الأحداث ويؤثر في طبيعة التبدلات المتعاقبة والتي تشاهد في الجهاز التناسلي وبشكل خاص في الغشاء المخاطي لجسم وعنق الرحم.
إن البروجسترون يفرز من الجسم الأصفر بعد الإباضة وهو يُهيئ بطانة الرحم لإستقبال البيضة الملقحة،وإن تأثيره يكون مباشرة على بطانة الرحم والتي تكون قد هُيئت مسبقاً بواسطة هرمون الأستروجين،فيحرض هذه البطانة على إفراز المخاط الذي هو ضروري لتعشيش البيضة،فإذا وقع الحمل فإن البروجسترون يستمر إفرازه طيلة فترة الحمل،في البداية من الجسم الأصفر ولاحقاً من المشيمة وقشر الغدة الكظرية.
والبروجسترون يساعد أيضاً على نمو الثديين،وقد لوحظ أن البروجسترون لايؤثر على مخاطية بطانة الرحم إلا إذا هيئت سلفاً بواسطة الاستروجين.ويتم طرح البروجسترون في بول الحامل بشكل غير فعال بعد استقلابه في الكبد ويطرح مع البول باسم البريغنانديول.
وهناك هرمونات أخرى تؤثر على الحالة الجنسية عند الأنثى وهي تفرز من الفص الأمامي للغدة النخامية وتسمى الحاثات الجنسية وتشمل:
ـ الحاثة الجرابية:FSH:وهي حاثة تسبب نمو الأجربة في المبيض مع ازدياد طفيف في توليد هرمون الاستروجين.
ـ الحاثة الأصفرية LH:وهي حاثة تساعد على نضج الأجربة في المبيض وتسهل عملية الإباضة وتشكيل الجسم الأصفر.
2 ـ النفير (نفير فاللوب):أو البوقFallopian tube
نسبة إلى المكتشف الإيطالي غابريللي فاللوبيو (1523 ـ 1562م)، ويمتد النفير مابين المبيض وقرن الرحم المناسب داخل الحوض،وهو انبوب عضلي طوله 12 ـ 15 سم،وقطره سم واحد، ويتألف من ثلاثة أقسام:
القسم الخلالي أو الإنسي: وهو الذي تنفتح نهايته على جوف الرحم.
القسم المتوسط: ويسمى جسم النفير
القسم الوحشي: ويسمى الصيوان،وذلك لإتساعه ولأنه يأخذ شكل القمع،وهذا يكون قريباً من المبيض،ويتلقف البيضة عند انطلاقها،وفي هذا القسم من النفير يحدث إلقاح البيضة مع النطفة.
ويوجد في باطن النفير غشاء مخاطي يُبطّنه ويحتوي على أهداب ذات حركة منتظمة تكون باتجاه الرحم،وهذا يساعد البيضة على الحركة باتجاه الرحم لأن البيضة بحد ذاتها لاتتحرك، وعلى العكس من ذلك فإن النطفة ذات حركة سريعة جداً،ويساعد البيضة على الحركة أيضاً وجود التقلصلات العضلية المنتظمة للعضلات الملس في جدار النفير.ويتم إخصاب البويضة من قبل الحيوانات المنوية في قناة فاللوب عند النهاية المبيضية،ومن ثم تهاجر البيضة الملقحة باتجاه الرحم،فإذا تأخرت عملية النقل أو المرور فإن البيضة تستقر داخل النفير وتعشش في جداره وهذا يؤدي لما يسمى ا“الحمل النفيري“وهذه حالة خطرة جداً تسبب تمزق النفير مع حدوث نزيف شديد داخل البريطوان وهي من الحالات الخطرة التي تهدد حياة الحامل.ويتم هذا غالباً في الشهر الثالث من الحمل وهذا ما يسمى الحمل الهاجر Ectopic gestation
3 ـ الرحم:Uterus
عضو حوضي،عضلي سميك ومجوف،يشبه شكلاً الكمثرى،ويتكون من قسمين رئيسين: جسم الرحم،وعنق الرحم.
يقع الرحم فوق المهبل وخلف المثانة وأمام القسم النهائي من الأمعاء الغليظة المُسمى بالمستقيم.يبلغ طول الرحم حوالي 7 ـ 8 سم.
جسم الرحم:
يتألف من غشاء مخاطي باطن،ونسيج عضلي متوسط، وقميص خارجي مصلي.ويتألف جسم الرحم من القاعFundus,والذي يبلغ عرضه 5سم وبسماكة 2 ـ 3سم،وقسم البرزخ Isthmus والذي يفصل جسم الرحم عن العنق في الأسفل.
إن البرزخ يشاهد فقط عند المرأة الخروس أي قبل الحمل الأول،وبعد الحمل فإنه يختفي .
يتعرض الغشاء الباطن لجسم الرحم ومنذ سن البلوغ وحتى سن اليأس إلى تبدلات نسيجية دورية،وهذا مايعرف بالدورة الشهرية،وتنتهي كل دورة إذا لم يحصل الحمل بنزيف رحمي وظيفي يسمى الطمث.
وأما النسيج العضلي للرحم فإنه يشكل طبقة سميكة بثخانة 15مم،ويتألف من ألياف عضلية طولانية ودائرية،ويزداد هذا النسيج العضلي أثناء الحمل زيادة كبيرة،ولا تكون الزيادة على حساب عدد الألياف العضلية وإنما على حساب ازدياد حجم هذه الألياف بحيث تصل في المراحل الأخيرة من الحمل إلى حجم يزيد 500 ضعف عن الحجم الاصلي.
إن الرحم يستقر في القسم الخلفي من القسم العلوي من قاعدة المثانة.فعندما تكون المثانة فارغة فإن الرحم ينحني نحو الأمام صانعاً زاوية قائمة مع المهبل،والرحم عضو متحرك وعند امتلاء المثانة فإن الرحم يرتفع نحو الاعلى والخلف بحيث يمكن أن يقع مع المهبل على خط واحد.
عنق الرحم:Cervix uteri
يشكل قسماً بسيطاً من تركيب الرحم ككل،وله شكل اسطواني،وهو بقطر وطول حوالي 2 ـ 3 سم،وينغمس نصف العنق في المهبل.وإن المنطقة المهبلية من عنق الرحم أو البشرة الظاهرة لعنق الرحم تحتوي على طبقة مخاطية ذات بشرة رصفية مطبقة مخاطية.أما البشرة الباطنة لعنق الرحم فهي بشرة اسطوانية بسيطة.
و له وظائف هامة جدا.وهو يحتوي على ألياف عضلية قليلة،بحيث يقال أنه عبارة عن نسيج ضام تتخلله ألياف عضلية ملس،والأهمية الكبرى في عنق الرحم تبرز في الغشاء المخاطي الذي يبطنه من الداخل،فلقد تبين ن هذا الغشاء المخاطي يلعب دوراً هاماً في عملية الإخصاب،فلقد وجد أن الغدد المخاطية في عنق الرحم وتحت تأثير هرمون الاستروجين الذي يفرز من المبيض تزيد من إفرازها المخاطي حتى وقت الإباضة حيث يشاهد تشكل شلال مخاطي يسيل ويتدلى من عنق الرحم إلى المهبل”كمخاط الطفل حين يسيل أنفه” وهذا المخاط ذو تفاعل قلوي”وهو الوسط المناسب والمثالي لحياة النطاف” وهو الذي ينقذ النطاف من جو المهبل الحمضي التفاعل والذي يقتلها ويشل حركتها،ويحملها هذا المخاط إلى باطن جوف الرحم لتتوجه إلى النفير حيث تنتظر البيضة،فإذا ما ماتت البيضة أو في حال حدوث الإلقاح يأخذ المبيض بإفراز هرمون البروجسترون وهذا يسبب جفاف وقلة هذا المخاط في عنق الرحم لأنه لم يعد هناك لزوماً للنطاف.وقد تبين أن النطاف المنوية تبقى في ثنايا عنق الرحم والتي تشكل مستودعاً،وتنطلق الحيوانات المنوية على مدى ساعات ليعظم فترة الإخصاب،وتبين الدراسات أن تقلصات الرحم وعنق الرحم أثناء الجماع تدفع السائل المنوي إلى الرحم.
ولقد وجد أنه في حالات غير قليلة يحدث العقم عند النساء لإضطرابات وظيفية في عنق الرحم،وهذا يكون إما بسبب نقص كمية المخاط المتشكل بسبب نقص الغدد المخاطية المفرزة أو بسبب نقص نشاطها وفعاليتها،وهذا قد يكون لأسباب هرمونية أو التهابية أو دوائية،ووجد أيضاً في بعض الحالات وجود اضطرابات مناعية موضعية وذلك بسبب تشكل أضداد ذاتية أو مثلية تفرز من نسيج عنق الرحم وتكون موجهة ضد النطاف.
4 ـ المهبل:Vagina
هو مجرى تناسلي طويل ومتسع،يحتوي في نهايته السفلى على غشاء البكارة عند العذارى،ويتألف من قميص مخاطي وعضلي ومصلي.يقع تشريحياً خلف المثانة والإحليل.وأمام المستقيم.والمهبل هو القناة التي يخرج عن طريقها المولود لدى الولادة،كما أنه مجرى دم الطمث والحيض.يبلغ طول المهبل حوالي 10 سم،
والغشاء المخاطي للمهبل لايحتوي على غدد مفرزة،وإنما يتألف من بشرة رصفية تشبه بشرة الجلد،وتأتي المفرزات للمهبل من عنق الرحم،وهي مفرزات حمضية التفاعل وذلك بسبب تخمير الجراثيم المهبلية لمادة الغليكوجين والموجودة في خلايا بشرة المهبل، وهذه البيئة الحمضية وإن كانت تثبط حركة النطاف ولكنها تحمي الجهاز التناسلي للأنثى من الجراثيم والعوامل الممرضة في الأحوال العادية.وقبل البلوغ وبعد سن اليأس يحدث ضمور في الغشاء المبطن للمهبل وبالتالي تزداد فرص العدوى والالتهابات.
كما توجد طبقة الياف عضلية في جدار المهبل وهي تتقلص أثناء الجماع تقلصاً منتظما بحيث تفيد في تقدم النطاف باتجاه عنق الرحم،وتوجد قرب نهاية المهبل السفلى طبقة من الالياف العضلية المخططة الإرادية والتي تشكل مايشبه المصرّة الإرادية.ً
عند الإثارة الجنسية والجماع تتمدد جدران المهبل،وتقوم غدد بارتولان بإفراز مادة لزجة تسهل الإيلاج.
5 ـ الأعضاء التناسلية الظاهرة:
الفرج:Vulva
الفرج عبارة عن حفرة شبه بيضوية،ويتركب من الأقسام التالية:
1ـ الشفران الكبيران والشفران الصغيران:Labia major
وهي عبارة عن التواءات وثنيات جلدية،اثنان في كل جانب.
2ـ الدهليز: مسافة متوسطية توجد بها فتحة صماخ البول،والفتحة الظاهرة للمهبل والمسدودة عند البكر بغشاء البكارة.
3ـ الأعضاء الناعظة: وهي البظر(Clitoris) والبصلات الدهليزية:
يعتبر البظر عند الأنثى مثالاً مصغراً للقضيب عند الذكر،وهو يتركب من جسمين كهفيين صغيرين،وهو غني جداً بالألياف العصبية الحسية والجسيمات اللمسية،وهو يلعب دوراً هاماً في عملية الإثارة الجنسية عند الجماع.
ويلحق بهذه الأعضاء التناسلية الظاهرة غدداً تسمى الغدد الدهليزية الصغرى والكبرى، وتسمى الأخيرة أيضاً غدة بارتولان،وهذه الغدة تقع جانبي الدهليز في القسم الخلفي من الفرج، وهي تفرز مواداً مرطبّة أثناء الإتصال الجنسي وتساعد على سهولة الإيلاج.
التبدلات الجنسية التي تصيب الأنثى في سن البلوغ:
البلوغ:
هي مجموعة من التغييرات الجسدية ينضج فيها جسم الطفل من الجنسين ليصبح بالغاً قادراً على التكاثر الجنسي.وتبدأ هذه العملية بفعل إشارات هرمونية من الدماغ إلى الغدد التناسلية،وهي الخصيتان عند الذكر، والمبيضان عند الأنثى،مسببة حدوث تغيرات في العظام والعضلات والبشرة والأشعار والأعضاء الجنسية والثديين عند الأنثى.
عند الفتيات فإن النزف المهبلي الدوري يحدث ما بين سن العاشرة وحتى الثامنة عشر من العمر،وهو مايسمى طور البلوغ Menarche.وهذا النزف ويسمى في البدء الإحاضة وهو العلامة الرئيسية في البلوغ عند الأنثى يقابلها القذف والاحتلام عند الذكر.
ولقد انخفض سن البلوغ عند الجنسين في القرن الحادي والعشرين مقارنة مع القرن التاسع عشر،ويعزى ذلك لعوامل غذائية،والعوامل المناخية…
إن الطمث الأول يحدث عند الفتيات في منصف طور البلوغ حيث أن الأجربة المبيضية تتشكل ويفرز الاستروجين بغزارة ولكن لا تحدث إباضة.
وإن الكميات الكبيرة من الاستروجين تسبب حدوث نزوف طمثية مديدة غير إباضية،أي عدم حدوث الصفحة اللوتينية(تشكل الجسم الأصفر) من الدارة الطمثية.وإن دم الطمث الأول يكون غزيراً جداً كما أن الاستروجين يفرز بكميات كبيرة جداً بحيث يشكل تثبيطاً للغدة النخامية يؤدي بعدها لانقطاع الطمث لعدة شهور ومن ثم يحدث الطمث الطبيعي ذو الصفحتين.ومن العوامل التي تلعب دوراً هاماً في تحديد سن البلوغ التغذية والطقس وخاصة الحار.وينمو الثديان قبل الطمث بحوالي السنتين،كما يشاهد سرعة النمو في الطول،وتسمى هذه المرحلة مرحلة البلوغ الأولي.وبعد حدوث الطمث لا يحدث نمواً سريعاً في الطول،وقد يشاهد ما يسمى “حب الشباب أو العد أو حب الصبا أو الزيوان) في هذه المرحلة وذلك بسبب افراز الغدد الدهنية الجلدية الذي له علاقة بالهرمونات الجنسية.
إن البلوغ عند الأنثى يترافق مع تبدلات ظاهرة في الأعضاء التناسلية بصورة خاصة وفي الجسم بشكل عام،ويشمل هذا نمو الهيكل العظمي وذلك من أجل التلاؤم في انتقال الفتاة إلى امرأة قادرة على الحمل،كما يتوسع الرحم،وينمو الفرج،وتظهر أشعار الإبط والعانة،ويزداد حجم الثديين بسبب توضع الشحوم بصورة رئيسية،وينمو نسيج الثدي بصورة جزئية.وينمو الحوض بسرعة وخاصة عند منطقة المفاصل الحرقفية ـ العجزية بحيث يزداد قطر الحوض العرضاني ليتناسب مع نمو القطر الأماي الخلفي،وإن تبدل شكل الحوض يتم في خلال سنتين تقريباً.
الدورة الطمثية:
منذ البلوغ عند الأنثى فإن القميص المخاطي لبطانة الرحم يتعرض لتبدلات دورية والتي تنتهي في كل دورة بحدوث النزيف(الإحاضة) أو الطمث.وإن الطمث يستمر عادة 4 ـ 6 أيام،وتستمر الدورات الطمثية عادة 28 يوماً تقريباً.وتمتاز الدورة الطمثية بحدوث طورين:
1 ـ خلال النصف الأول أو الطور الجرابي:Follicular Phase أو طور النمو:
فإن الأجربة المبيضية تتضخم وتصبح قريبة أكثر من سطح المبيض وتحدث الإباضة في اليوم الرابع عشر.
2 ـ خلال النصف الثاني أو الطور اللوتينيLuteine أو الطور الإفرازي:
فإنه يتميز بنمو الجسم الأصفر والذي يستحيل قبل حدوث الطمث.
خلال الأيام الثلاثة عشرة الاولى من الدورة فإن القميص المخاطي لبطانة غشاء الرحم يزداد سماكة وثخناً،فقد كان في البدء حوالي 1 مم ولكنه في نهاية الطور الجرابي يصبح حوالي 2 مم.
وفي الطور اللوتيني فإن سماكة الغشاء المخاطي تزداد،وتبلغ حوالي 4 ـ 5مم،ويعود ذلك لوذمة في النسيج الضام للغشاء المخاطي وضخامة الخلايا الغدية.
وإن دم الطمث يحتوي مزيجاً من الدم مع المخاط.وفي البدء يحتوي عدداً كبيراً من الكريات البيضاء.وإن دم الطمث هو دم غير متخثر،ويعتقد أن هناك بعض المواد المضادة للتخثر تصنعها بطانة غشاء الرحم بحيث تحافظ على سيولة دم الطمث.
تعادل كمية دم الطمث حوالي 6 ـ 50 مل وذلك حسب النساء الطامثات،ويضيع حوالي 3 ـ 24 مغ من الحديد وهذا قد يؤهب عند بعض النساء لحدوث فقر الدم بعوز الحديد.
سن الإياس(الضهي):Menopause
بعد أن أصبح معدل الحياة عالياً،أصبح لزمن أو فترة الإياس أو الضهي دوراً هاماً أيضاً.وعندما نتكلم عن هذه الفترة المجدبة جنسياً في حياة الأنثى،والحافلة بالبوار ألا تناسلي،والمترعة باضطراب التوازن الهرموني ـ العصبي،وما قد يسببه من اختلاطات وأعراض،وانعكاسات قد تؤثر على المرأة جنسياً وجسدياً.
إن سن اليأس يتميز في حياة المرأة باستسلام المبايض عن العمل والكف عن الوظيفة،وبالتالي تنهار الرغبة،وتقع الرهبة.
وكما ذكرنا فإن البلوغ عند الإناث يتظاهر بحدوث دورات طمثية لا إباضية في الفترة الأولى،وكذلك فإن الدورات الطمثية عند النساء في سن الضهي تتميز بحدوث نزوف طمثية لا إباضية أي أنها فقط تقتصر على الدور الجرابي الاستروجيني بدون الطور الإباضي المرافق لتشكل الجسم الأصفر.
وبعد ذلك تتوالى أعراض سن الضهي بنقص الاستروجين أيضاً لنقص تشكل الأجربة الناضجة وضمورها ومن ثم انقطاع الطمث تماماً.
وبالتالي يحدث سن الإياس عند توقف المبيضين عن العمل وافراز الهرمونات الجنسية،فاستئصال الرحم عند امرأة شابة يؤدي لانقطاع الدورة الشهرية ولكن لا تصل لأعراض سن اليأس لأن المبايض تفرز هرموناتها بشكل طبيعي،وبالتالي تبقى لها الرغبة والميل الجنسي ولكنها تصبح عقيمة.وعلى العكس من ذلك لو جرى استئصال المبيضين لأنثى لسبب ما فإنها تصاب بأعراض سن اليأس وهذا ما يسمى طبياً”الإياس الجراحي”.
وبالتالي هناك أربعة أنواع لسن اليأس:
1 ـالطبيعي:وهو يشاهد بصورة طبيعية وتلقائية حيث يتوقف عمل المبيض الوظيفي الهرموني.
2 ـ الإياس المبكر:وهو ما يشير إلى توقف وظيفة المبيض قبل سن الاريعين.ومن أسبابه اضطرابات المناعة الذاتية،وأمراض الغدة الدرقية،وداء السكري،والمعالجة الكيماوية،والمعالجة الشعاعية، والادمان على التدخين…وغالباً لا نعرف السبب.
3 ـ سن اليأس المتأخر:وهو ما يشير إلى توقف الدورة الشهرية بعد سن الخمسين.
4 ـ سن اليأس الاصطناعي:بسبب استئصال المبيضين أو نتيجة المعالجة الشعاعية.
والطمث ينقطع أثناء الحمل وكذلك أثناء فترة الإرضاع،ويتوقف نهائياً في سن اليأس.وهو غالباً عند النساء ما بين سن 45 ـ 55 .
وبعد توقف الدورات الطمثية عند الأنثى في سن اليأس فإنه يحصل الضمور في غدة الثدي وفي الأعضاء التناسلية الظاهرة،والرحم تأخذ في الضمور ومن ثم تتناقص الرغبة الجنسية.
وفي سن الإياس أو الضهي تظهر ظواهر الانقباض الوعائي واحمرار الجلد وسخونته،والدوار،وفرط التعرق،واضطرابات نفسية وعاطفية.وقد يترافق مع حدوث هشاشة العظام وضخامة الغدة الدرقية.
وأهم الأعراض أو الإضطرابات المصاحبة لسن الإياس هي:
1 ـ الاضطرابات الذاتية:
ونذكر منها هبّات الحرارة Flushes،وتشوش الإحساسات،والتعرق الليلي،وخفقان القلب(الوجيب)والميل للإمساك،…وهذه الاضطرابات تنجم عن نقص الأستروجينات،والاستروجين يعتبر من الهرمونات المقلدة في وظيفتها للجملة نظير الوديةParasympathicus،وإن نقص الأستروجينات يؤدي إلى اضطراب في المراكز الذاتية في منطقة تحت المهاد في الجملة العصبية المركزية،وهذا يؤدي إلى ازدياد مقوية الجملة الوديةSympathicus.وهبات الحرارة من أهم الأعراض المشاهدة في سن الإياس،وهي تتجلى بالشعور المفاجىء بضيق النفس أو حس انقباض صدري مع الشعور بالحرارة،وخاصة في منطقة الرأس،ويرافق ذلك التعرق.
الاضطرابات الفيزيائية:
ونذكر منها النرفزة وازدياد قابلية الاستثارة،والقلق،ووهن المزاج والشعور بالاكتئاب،…وهذه الاضطرابات لا تشترك في تحقيقها الاضطرابات الغدية فقط،بل تساهم الحالة العقلية والاجتماعية والعائلية للمرأة الآيس في حدوثها.
3 ـ الاضطرابات العضوية:
وتشاهد في الأعضاء المتحسسة لنقص الهرمونات المبيضية،حيث يشاهد ضمور الرحم،والمهبل،والفرج،والثديين،وهناك اضطرابات أخرى لازالت مجهولة السبب كلياً ومنها اعتلال المفاصل،والميل للبدانة،وحدوث اضطرابات وظيفية في الغدد كالدرق وقشر الكظر ،مع الميل لحدوث تثقب العظام،وارتفاع الإصابة بالتصلب الإكليلي.
خلق الإنسان من ماء
الآيات الكريمة:
{واللهُ خلقَ كُلِّ دابةٍ من ماء}[ النور45 ]
{وجَعلنَا من الماءِ كُلَّ شئٍ حيّ أفلا يؤمنون}[ الأنبياء30 ]
{وهو الذي خلقَ من الماءِ بَشراً فجعَلَهُ نَسَباً وصِهراً وكان ربُّكَ قديرا} الفرقان 54] .
التفاسير:
جاء في “الظلال” لسيد قطب رحمه الله معقباً على آية سورة النور:
“وهذه الحقيقة الضخمة التي يعرضها القرآن بهذه البساطة،حقيقة أن كل دابة خلقت من ماء،قد تعني وحدة العنصر الأساسي في تركيب الأحياء جميعاً،وهو الماء،وقد تعني مايحاول العلم الحديث أن يثبته من أن الحياة خرجت من البحر ونشأت أصلاً في الماء،ثم تنوعت الأنواع،وتفرّعت الأجناس..ولكننا نحن على طريقنا في عدم تعليق الحقائق القرآنية الثابتة على النظريات العلمية القابلة للتعديل والتبديل لانزيد على هذه الإشارة شيئاً،مكتفين بإثبات الحقيقة القرآنية وهي أن الله خلق الأحياء كلها من الماء،فهي ذات أصل واحد،ثم هي ـ كما ترى العين ـ متنوعة الأشكال: منها الزواحف تمشي على بطنها،ومنها الإنسان والطير يمشي على قدمين،ومنها الحيوان يدب على أربع،كل أولئك وفق سنة الله ومشيئته لا عن فلتة ولا مصادفة {يخلق الله مايشاء}غير مقيد بشكل ولاهيئة.
وجاء في تفسير آية سورة الفرقان:
“فمن هذا الماء يتخّلق الجنين: ذكراً فهو نسب،وأنثى فهو صهر،بما أنها موضع للصهر. وهذه الحياة البشرية الناشئة من هذا الماء أعجب واضخم من تلك الحياة الناشئة من ماء السماء،فمن خلية واحدة “من عشرات الألوف الكامنة في نقطة واحدة من ماء الرجل” تتحد ببويضة المرأة في الرحم،ينشأ ذلك الخلق المعقد المركب..الإنسان.. أعجب الكائنات الحية على الإطلاق”.
ويقول سيد قطب رحمه الله في قوله تعالى:{وأنزل من السّماءِ ماءً فأخرجَ بهِ من الثمراتِ رزقاً لكم}[إبراهيم 32]:
“وذكر إنزال الماء من السماء وإخراج الثمرات به،ما يفتأ يتردد في مواضع شتى من القرآن في معرض التذكير بقدرة الله،والتذكير بنعمته كذلك،والماء النازل من السماء هو مادة الحياة الرئيسية للأحياء في الأرض جميعاً.فمنه تنشأ الحياة بكل أشكالها ودرجاتها{وجعلنا من الماءِ كلَّ شىءٍ حيِّ}[الأنبياء 30]…سواء أنبت الزرع مباشرة حين يختلط بالأرض،أو كوّن الأنهار والبحيرات العذبة،أو انساح في طبقات الأرض فتألفت منه المياه الجوفية،التي تتفجر عيوناً أو تحفر آباراً،أو تجذب بالآلات إلى السطح مرة أخرى.وقصة الماء في الأرض،ودوره في حياة الناس،وتوقف الحياة عليه في كل صورها وأشكالها…كل هذا أمر لا يقبل المماحكة،فتكفي الإشارة إليه،والتذكير به،في معرض الدعوة إلى عبادة الخالق الرازق الوهاب”.
ومن الناحية العلمية:
إن الماء سائل لاطعم له ولا لون ولا رائحة، وهو المادة الوحيدة التي توجد في الطبيعة بحالاتها الثلاث: الصلبة والسائلة والغازية،ينجم عن اتحاد ذرتي هيدروجين مع ذرة أوكسجين.
والماء له من الخصائص الطبيعية والكيميائية ما لايتوفر لغيره من العناصر أو السوائل.فالماء ذو درجة ذوبان مرتفعة،ويبقى سائلاً فترة طويلة من الزمن وله حرارة تصعيد مرتفعة جداً، وهو بذلك يساعد على بقاء درجة الحرارة فوق سطح الأرض عند معدل ثابت ويصونها من التقلبات الشديدة.
والماء هو أصل وسر الحياة،وهو يدخل في تركيب الكائنات الحية من إنسان أو حيوان أو نبات،والإنسان كائن مخلوق من الماء ابتداء،ويعتمد على الماء لإستمرار حياته،واستخلاص غذائه،وطرح فضلاته،ويشكل الماء القسم الأكبر من وزن الجسم،والماء ضروري من أجل التركيب النسيجي والعمل الوظيفي للأنسجة في جسم الإنسان،وإن الصوم عن الماء يسرع وفاة الإنسان بأكثر من الصوم عن الطعام.وإن معظم الأنسجة تحتوي أكثر من 70% من تركيبها ماء،وحتى النسيج العظمي فإنه يحتوي نسبة 30% من الماء،وكذلك النسيج الشحمي حيث يتوضع الماء بين خلاياه،وإن نصف ماء الجسم يوجد في العضلات والتي تشكل ثلث كتلة الجسم.
ولقد بدأت الحياة في الماء،وظلت فيه مئات من السنين.فقبل خلق السموات والأرض كان عرش الرحمن على الماء، يقول تعالى:{وهو الذي خلقَ السَّمواتِ والأرضَ في ستة أيامٍ وكانَ عَرشهُ على الماء}[هود11].
ويغطي الماء حالياً ثلاثة أرباع سطح الكرة الأرضية،والحياة على الأرض مرتبطة بوجود مصادر الماء.تشكل البحار والمحيطات نسبة 97 بالمائة من نسبة المياه على الأرض،غير أنه لايمكن الاستفادة منها لملوحتها،ويوجد الماء بنسبة 2 بالمائة بشكل الجبال الثلجية كمخزون إضافي للأرض،وتشكل المياه العذبة أقل من نصف بالمائة من مجموع المياه على الأرض والتي توجد بشكل مياه جوفية وأنهار،ولكن رحمة المولى اقتضت تعويض ذلك بمايسمى دورة المطر.وفي كل ثانية يهطل من السماء إلى الأرض ستة عشر مليون طن من الماء: {أنا صَببنا الماء صباً} [عبس25],ولو أن هذا الماء سقط دفعة واحدة لأتلف كل شئ على الأرض،ولكنه ينزل بشكل قطرات صغيرة فيها لطف ورحمة وحكمة،فتجلّى الله اللطيف الحكيم الرحيم العليم الخبير.
ويقدر علماء الجيولوجيا كمية الماء الموجودة على الا{ض بستة عشر بليون كيلومتر مكعب،أو مايساوي ستة عشر بليون بليون طن أي أن نسبة كتلته إلى كتلة الا{ض تبلغ خمسة وعشرون بالألف.ويوجد القسم الأكبر من هذه الكمية والتي تقدر بثلاثة عشر بليون كيلومتر مكعب في طبقات الأرض الواقعة تحت القشرة الأرضية وهي موجودة على شكل بخار ماء مضغوط وذلك بسبب الحرارة العالية لباطن الأرض.أما الكمية المتبقية والتي تقدر بثلاثة بلايين كيلومتر مكعب فإن نصفها يدخل في تركيب الصخور والمعادن الموجودة في القشرة الأرضية بينما يوجد النصف الآخر في المحيطات والبحار والأنهار.ويتجمع معظم الماء الموجود على سطح الأرض في محيطات وبحار الارض إلا أن هتاك ما يقرب من مائة كيلومتر مكعب من الماء موجودة على اليابسة في تجاويف القشرة الأرضية وفي البحيرات والأنهار والتربة على شكل سائل وفي المناطق الجبلية والجليدية على شكل جليد.ويعتقد العلماء أن الماء الموجود على سطح الا{ض قد خرج من باطنها فبعد أن تكونت القشرة الارضية الصلبة بدأ الماء يخرج من باطن الارض على شكل بخار مع الحمم التي تقذفها البراكين من باطن الأرض إلى سطحها وذلك مصداقاً لقوله تعالى:{والارض بعد ذلك دحاها *أخرج منها مائها ومرعاها}[النازعات 30 ـ 31].ويقدر علماء الجيولوجيا كمية الماء الذي يخرج من باطن الا{ض في السنة الواحدة بحوالي كيلومتر مكعب واحد أو ما يعادل ألف مليون طن ويعتقدون أن هذه الكمية كافية لتشكيل الإحتياطي الإجمالي للماء على سطح الأرض بمرور بلايين السنين على نشأة الأرض.
يدخل الماء في تركيب خلايا وأنسجة الجسم البشري،حيث تبلغ نسبة الماء في تكوين جسم الجنين 94بالمائة،وعند الكبار تختلف نسبة تركيب الجسم من الماء حسب الجنس والوزن والصحة وتعادل 65 ـ 70 بالمائة من مجمل وزن الجسم.ويستطيع الإنسان أن يعيش عدة أسابيع بدون طعام ولكنه لايستطيع العيش اسبوعاً واحداً بدون الماء.
والماء لا غنى عنه في تركيب خلايا الجسم، فهو المُحِلّ الرئيسي لكثير من المواد، ولا يمكن أن تقوم التفاعلات الخلوية الحيوية بدون وجود الماء.
والماء يدخل بصورة رئيسية في تركيب إفرازات الجسم كالدموع والمخاط والعرق والبول والعصارات المعدية والمعوية والصفراء،كما أنه يدخل في تركيب حليب الأم ودماء الطمث.
كما يدخل الماء في تركيب السوائل الجسمية الهامة كالدم،والسائل الدماغي الشوكي، والسائل المصلي في غشاء الجنب والتأمور والمفاصل،والسائل السلوي(الصائي) عند الجنين،كما يدخل في تركيب السائل في الأذن الداخلية.
وإن معظم ماء الجسم يأتي من الطعام والشراب،ولكن هناك قسماً أيضاً يأتي من التشكل الداخلي للماء في أنسجة الجسم وذلك بفعل أكسدة الهيدروجين.وهذا الماء المتشكل داخل أنسجة الجسم ذو أهمية كبيرة لأنه لايتأثر مع الضغط الحلولي الذي نجده عند تناول كميات كبيرة من السوائل.
وفي خلال 24 ساعة فإن جسم الإنسان يفرغ:
حوالي لتر ونصف من اللعاب،وحوالي 1 ـ 2 لتر من عصارة المعدة،وحوالي نصف إلى لتر من عصارة الصفراء الكبدية،وحوالي نصف لتر من العصارة البنكرياسية،وحوالي 3 لتر من العصارة المعوية.وإن جميع هذه السوائل يعاد امتصاصها في الأمعاء إلا حوالي 100 مل تطرح مع البراز.
وإن الماء في الجسم يوجد بشكلين:
الماء الخلوي:أي داخل خلايا الجسم
ـ الماء الخلالي:الذي يوجد خارج الخلايا ويسمى القسم منه داخل الأوعية بالسائل الوعائي كما هو الحال في الدم والسائل اللمفاوي.
ويلعب الماء دوراً هاماً في كثير من الوظائف الحيوية للجسم وخاصة تنظيم الحرارة،والضغط الحلولي،والتعرق، وتنظيم التفاعل الحمضي ـ القلوي.
ويؤكد العلماء على أن الحياة ظهرت على الأرض بسبب الخصائص الفريدة والعجيبة للماء فبدون هذه الخصائص لا يمكن للحياة أن تظهر أبداً.ومما أثار استغراب العلماء أن جميع خصائص الماء الفيزيائية والكيميائية هي خواص شاذة أي أنها تختلف عن خواص مركبات متشابهة لها في التركيب مما حدا بعالم الكيمياء الفيزيائية الروسي”إيغور بتريانوف” بأن يصفه بأنه أغرب مادة في هذا الكون وذلك في كتابه”الماء تلك المادة العجيبة”.
ومن الناحية الفيزيائية والكيميائية فإن صفات الماء تلعب دوراً هاماً كونه من أهم مصادر الحياة واستمرارها ومن ذلك:
1 ـ إن درجة تجمد الماء مثالية لايمكن ان تصل إليها الحرارة في المحيط غالباً،وهذا يقي أنسجة الجسم من التجمد.
إن درجة تجمد الماء تقل عن الصفر المئوي في حالة وجود مواد ذائبة فيه وهذه خاصية بالغة الأهمية لحياة الكائنات الحية حيث أنها تتعرض في المناطق الباردة إلى درجات حرارة تقل عن الصفر في كثير من الاحيان.ولكن الماء في أجسام هذه الكائنات لا يتجمد بسبب المواد الذائبة فيه ولو كان الحال غير ذلك لماتت الكائنات الحية بمجرد تعرضها لدرجات حرارة تقل عن الصفر لفترة قصيرة من الزمن.
2 ـ إن درجة تبخر الماء أي درجة الغليان هي 100 سنتغراد وهي عالية تقريباً،وعلى ذلك فإن تبخر كمية صغيرة من ماء التعرق تحتاج إلى كميات كبيرة من الحرارة.ولذا فإن الماء يلعب دوراً هاماً في الضياع الحروري.
إن إمكانية تحول الماء إلى بخار الماء عند درجات حرارة أقل بكثير من درجة الغليان وبكميات كبيرة من خلال عملية التبخر المعروفة.وهذه الخاصية تقوم عليها حياة جميع الكائنات الحية التي تعيش على بر الأرض فبخار الماء المتكون على سطوح المحيطات تحمله تيارات الحمل إلى طبقات الجو الباردة فتحوله إلى غيوم تسوقها الرياح إلى اليابسة فتسقط أمطاراً توفر الماء الذي يلزم لحياة الكائنات الحية البرية.
والماء يتمتع بحرارة نوعية عالية،حيث يمتلك أعلى حرارة نوعية من بين جميع العناصر والمركبات الموجودة على الأرض وقد تصل الحرارة النوعية للماء إلى مائة ضعف الحرارة النوعية لكثير من المعادن.
والحرارة النوعية هي كمية الحرارة التي يجب اعطاؤها لغرام واحد الماء لترتفع درجة حرارته درجة مئوية واحدة ،أي أنها مقياس لكمية الطاقة التي تختزنها كمية محددة من المادة عندما ترتفع درجة حرارتها بمقدار درجة مئوية واحدة،فعندما يتم تسخين المواد فإن كمية الطاقة التي تختزنها تتناسب مع كتلتها ومقدار الزيادة في درجة حرارتها وكذلك حرارتها النوعية.وعندما تبرد هذه المواد فإنها تشع جميع الطاقة التي اختزنتها إلى الجو المحيط بها إذا ما هبطت درجة حرارتها إلى نفس الدرجة التي كانت عليها قبل تسخينها.
وبهذه الخاصية يقوم الماء بوظيفة ا المعدل للحرارة بين الليل والنهار.أي أن الحرارة النوعية العالية للماء هي التي وفرت للكائنات الحية درجات الحرارة المناسبة لعيشها على سطح الأرض فلولا وجود الماء بهذه الكميات الكبيرة على سطح الارض لهبطت درجة حرارة سطح الارض إلى درجات متدنية جداً بسبب تدني الحرارة النوعية للمواد المكونة للقشرة الارضية.ولكن مياه المحيطات التي تغطي 70% من مساحة الارض تقوم بامتصاص كميات كبيرة من الطاقة الشمسية خلال النهار ومن ثم تقوم أثناء الليل بإشعاع هذه الحرارة إلى جو الأرض لكي يحافظ على درجة حرارة سطح الأرض ضمن الحدود المسموح بها.
وإن ارتفاع درجة تبخر الماء هو المسؤول عن تلطيف الجو عند تبخره،ويخفف من حرارة اليابسة، ومن هذا التبخر تتشكل الغيوم التي تقوم بنقل الماء إلى الأرض القفر،ولتشكل الأجواف والينابيع، وتشيع الحياة في الأرض الجدباء.
3 ـ ظاهرة الجليد:أو ظاهرة كثافة الماء:
من المعروف أن كل جسم صلب يغوص في سائله المصهور إلا الجليد فإنه يطفو على سطح الماء،والسبب هو أن كثافة جسم ما تزداد كلما انخفضت درجة الحرارة، وهذا ينطبق على الماء حتى درجة 3،92 مئوية، فإذا سُخن الماء من درجة التجمد تزداد كثافته وتصل الكثافة ذروتها عند درجة زائد 4، ومع متابعة التسخين بعد هذه الدرجة تنخفض كثافة الماء، وعند تحويل الماء من الشكل السائل إلى الجامد يحدث بسبب زيادة حجمه نقص في كثافته، ولذا فإن الجليد يطفو على سطح الماء. وإن ازدياد حجم الماء بمقدار9 بالمائة عند تجمده تؤدي إلى تحطم الوعاء الزجاجي الذي يحتوي الماء عند تجمده،وهذه الخاصية الشاذة التي يتمتع بها الماء ولحكمة إلهية شاءت أن لاتتجمد مياه البحار والأنهار إلا سطحها في الشتاء القارس،بينما يظل القاع ماءً سائلاً حتى لاتهلك الحيوانات المائية.كما أن ملوحة مياه الأبحار تؤخر من تجمد الماء،كما أن هذه الملوحة تقي مياه الأبحار والمحيطات من العفن والفساد.
والجليد يتمتع بحرارة انصهار عالية، وتعرف حرارة الانصهار للجليد بأنها كمية الحرارة اللازمة لنقل غرام واحد من الجليد إلى ماء في نفس درجة الحرارة وهي الصفر.وتعادل حرارة انصهار الجليد 80 حريرة وهذا مقدار كبير، وبهذه الخاصية يقوم الجليد الموجود في القطبين بامتصاص الفائض من الحرارة الواردة على الأرض فيلّطف من حرارة الجو، ويوفر الحرارة المعتدلة الملائمة للحياة.
4 ـ ظاهرة الخاصية الشعرية:
وهي أن الماء يرتفع في الأنابيب الضيقة،وكلما ضاق الانبوب ازداد ارتفاع الماء فيه، والخاصية الشعرية هذه لها أهميتها البالغة في تغذية النبات حيث يرتفع الماء من الجذور إلى السيقان والأوراق.
وهذه الخاصية أي الخاصية الشعرية تنجم عن التوتر السطحي العالي للماء وتساعد هذه الخاصية الماء على الارتفاع في الأنابيب الشعرية بدون الحاجة لقوة تضخه إلى أعلى رغم وجود الجاذبية الأرضية وبهذه الخاصية يصل الماء من جذور الأشجار إلى معظم أجزاءها رغم ارتفاعها الكبير عن سطح الارض.بل إن هذه الخاصية هي التي تعمل على حفظ الماء في خلايا جميع الكائنات الحية بنفس النسبة رغم تفاوت مواقعها في جسم الكائن ولولا هذه الخاصية لتجمع الماء في الأجزاء السفلى من جسم الكائن بسبب فعل الجاذبية الأرضية.
5 ـ ظاهرة التوتر السطحي:
وهي أن كلاً من الماء العذب والملح نظراً لاختلاف كثافتهما لايتحد أحدهما مع الأخر ولايختلط به، وإنما تنزع جزيئات الماء في كل منهما إلى الإنكماش والتجاذب محدثة توتراً في سطح كل منهما،ولايبغي أحدهما على الآخر،وفي الخليج العربي تندفع الأنهار والمياه الجوفية العذبة قرب البحرين وقطر في مياه الخليج المالحة دون اختلاط أحدهما بالأخر،وهذا يشاهد أيضاً عند لقاء نهر النيل مع البحر الابيض المتوسط، قال تعالى: {مرجَ البحرينِ يلتقيان* بينهما برزخٌ لايبغيان}”[الرحمن 19 ـ 20]، وقال تعالى{وهوالذي مرجَ البحرينِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وهذا مِلحٌ أُجاجٌ وجعلَ بينهما َبرزخاً وحِجراً محجورا} [ الفرقان53].
لقد جعل الله تعالى في منطقة مصبات الأنهار العذبة في البحار المالحة حاجزاً منيعاً وحجراً محجوراً،مما يمنع امتزاجهما وطغيان أحدهما على الأخر.وإن هناك كائنات حية تعيش في الماء العذب ولكنها لاتستطيع الحياة في الماء المالح وبالعكس,وهذا يدل على أن منطقة البرزخ حيث يلتقي الماءان العذب والمالح هي منطقة محجورة ومحفوظة برعاية الله تعالى وعنايته.
6 ـ والماء يمتص كميات كبيرة من الأوكسجين عند انخفاض درجة حرارته،والأحياء المائية تتنفس الأوكسجين الذائب فيه،وحين يتجمد الماء تنطلق منه كميات كبيرة من الحرارة تساعد الأحياء المائية على البقاء، ومن المعروف أن الأوكسجين أقل توافراً في البيئات المائية بالمقارنة مع اليابسة.والأوكسجين في البيئات المائية له مصدران: الجو الذي يعلو سطح الماء،وعملية التركيب الضوئي التي تقوم بها النباتات المائية،وإن كمية الأوكسجين تتناقص كلما اتجهنا نحو الأعماق،والتركيب الضوئي يقع فقط في المناطق المائية التي تأخذ كفايتها من أشعة الشمس، وهي مناطق صغيرة إذا قيست بحجم الكتلة المائية الضخمة.
7 ـ ظاهرة قطبية الماء:
كما ذكرنا فإن الماء يتكون من اتحاد ذرة أوكسجين(تحتوي على ست الكترونات في مدارها الأخير) مع ذرتين هيدروجين0تمتلك كل منهما الكتروناً واحدا) برابطة تسمى الرابطة التساهمية،وتعتبر هذه الرابطة من أقوى الروابط على الإطلاق، ولذا فليس من السهل كسرها واستعادة الأوكسجين والهيدروجين من الماء.
8 ـ الماء أفضل المذيبات:
أثبت العلماء أن الماء هو السائل الوحيد من بين جميع السوائل الطبيعية الذي يصلح لأن يكون وسطاً مناسباً لحدوث التفاعلات الكيميائية التي تلزم لتصنيع المواد التي تحتاجها أجسام الكائنات الحية.فقد وجد العلماء أن الماء هو أفضل المذيبات على الإطلاق بسبب ارتفاع ثابت عزله الكهربائي وهذه الخاصية بالغة الاهمية للحياة،حيث أن الكائنات الحية تحتاج لآلاف الأنواع من الجزيئات التي يجب أن تصنع في داخل هذا الماء وهذا لا يمكن أن يتم إلا إذا كانت هذه الجزيئات قابلة للذوبان في الماء.ويستطيع الماء إذابة مختلف أنواع العناصر والمركبات العضويثة وغير العضوية وسواء أكانت هذه المواد في حالتها الصلبة أو السائلة أو الغازية.
9 ـ القدرة على التأين:
وهي تعني: أن الماء له القدرة على تأيين أنواع مختلفة من الجزيئات الضرورية للحياة أي أن الجزىء يتفكك إلى أيونات موجبة وأخرى سالبة وهذا شرط ضروري لحدوث التفاعلات الكيميائية بين المواد المختلفة.
بل الاعجب من ذلك أن الماء له القدرة على تأيين بعض جزيئاته وهذه الظاهرة ضرورية لإتمام كثير من التفاعلات الكيميائية التي تجري في داخل الخلايا الحية.فجزىء الماء المتأين ينتج أيون(شاردة) الهيدروجين الموجب والمسؤول عن ظاهرة الحموضة وأيون الهيدروكسايد السالب المسؤول عن ظاهرة القاعدية.وقد وجد العلماء أن بعض الخمائر لا تعمل إلا عند درجات محددة من الحموضة أو القاعدية(القلوية) في الماء.
10 ـ القدرة على الاتصاق بالأشياء التي يلامسها:
وهذه الخاصية تساعد في انتشار الماء بكل سهولة في أجسام الكائنات الحية بحيث يمكنه الوصول لكل خلية من خلايا أجسامها التي لا يمكن أن تعيش بدونه.ـ وبما أن الماء لا يقوم بدوره هذا إلا وهو في الحالة السائلة فهذا يتطلب أن يكون الماء في هذه الحالة السائلة على مدى نطاق واسع من درجات الحرارة.وقد وجد العلماء أن الماء يتميز على جميع المركبات السائلة الاخرى في وجود فرق كبير بين درجة تجمده ودرجة غليانه،فهو يتجمد عند درجة الصفر ويغلي عند درجة مائة درجة مئوية أي بفارق مائة درجة.
وبهذه الخاصية فإن الماء يشذ شذوذاً كبيراً عن بقية العناصر الأخرى،فدرجة تجمده كان يجب أن تكون مائة درجة تحت الصفر ودرجة غليانه كان يجب أن تكون ثمانين درجة تحت الصفر إذا ما قورن مع مركبات مشابهة له في التركيب.
11 ـ شفافيته للضوء:
وهذه خاصية هامة حيث أن الماء يسمح بمرور الضوء المنبعث من الشمس من خلاله بأقل فقد ممكن وهذه خاصية بالغة الأهمية لدوام حياة الكائنات في بحار ومحيطات الأرض ،فحياة جميع الكائنات البحرية تقوم على ما تنتجه الطحالب من مواد عضوية.وهذه الطحالب تقوم بتصنيع المواد العضوية من العناصر والمركبات الذائبة في الماء بوجود الطاقة الشمسية من خلال عملية التركيب الضوئي.ولو لم يكن الماء شفافاً للضوء لما تمكنت أشعة الشمس من الوصول إلى الطحالب التي تعيش في الطبقات العليا من مياه المحيطات ولتوقفت عملية تصنيع المواد العضوية التي تتغذى عليها جميع الكائنات البحرية.
وتساعد شفافية الماء الكائنات الحية البحرية على رؤية الأشياء من حولها من خلال نظام الإبصار التي زودها الله بها وتساعد كذلك الإنسان والحيوان على كشف وجود شوائب ضارة في الماء قبل أن يقوم بشربه.
12 ـ الماء لا لون له ولارائحة:
ولاطعم ولو كان الحال غير هذا لطغى طعمه ورائحته على طعم ورائحة جميه المواد التي يدخل في تركيبها وخاصة تلك الموجودة في أجسام الكائنات الحية كثمار وأزهار النباتات ولحوم وألبان الحيوانات.
هذه بعض الصفات الخاصة والمتميزة للماء والتي تجعله مصدراً هاماً للحياة على الأرض،أضف إلى ذلك أن زيادة الماء كقلته يمكن أن تكون خطراً على الحياة،يقول تعالى: {وأنزلنا من السَّماءِ ماء بقدرٍ فأسكنَّاهُ في الأرضِ وإنّا على ذهاب به لقادرون} [المؤمنون18] ، ويقول تعالى: {ومانُنزِّلُهُ إلا بقدرٍ معلوم} [الحجر21 ]،وإن كلمة ” بقدر” تشير إلى ضبط كمية الماء بما يتفق مع صالح البشر،والله قد أسكن الماء في الأرض بفضل ماجعل فيها من المنخفضات والتعاريج،وبفضل التسرب الجزئي في باطن الارض،فلو تخيلنا الأرض كرة ملساء لاتعاريج فيها ولامنخفضات لغطاها الماء في البحار والمحيطات بنحو 60 متراً،ولغطى البحر مدناً كثيرة آهلة بالسكان.
نعم، لقد كرم الله سبحانه وتعالى الإنسان وجعل من الماء كل شئٍ حي،وجعل عرشه على الماء {وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكانَ عرشُهُ على الماءِ لِيبلُوكُم ايُّكم أحسنُ عملاً}” [هود7]
وجاء في صحيح البخاري في كتاب بدء الخلق”كان الله ولم يكن شئ غيره، وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شئ وخلق السموات والأرض” ، وفي رواية”ثم خلق السموات والأرض“.يقول الإمام ابن حجر العسقلاني” معناه أن الله خلق الماء سابقاً ثم خلق العرش على الماء.فالماء أول المخلوقات.
حاسة العطش:
هي الشعور الذي ينبه الكائن الحي من إنسان أو حيوان إلى أنه بحاجة إلى الماء.ذلك أن الماء يشكل النسبة العظمى من تكوين الكائن الحي.
ويفقد الجسم الحي الماء باستمرار عن طريق التنفس والتبول والتعرق والتبرز،ويمكن أن يؤدي فقدان الكائن الحي لكميات كبيرة من الماء عبر القيء أو الإسهالات أو التبخر الشديد بسبب الحرارة المرتفعة دون تعويض الكميات المفقودة إلى حدوث التجفاف والوهط الدوراني والسبات والوفاة.
إن نقص الماء أو عدم تناول الماء لفترة وجيزة،يسبب اضطرابات شديدة وسريعة أكثر مما يسببها نقص الغذاء.وإن الشخص المحروم من الماء يشعر بعد فترة قصيرة بجفاف الفم،ويشكو من العطش والرغبة الملحة في تناول الماء أو الشراب.وكلما ازداد جفاف الفم،فإن افراز اللعاب يتناقص ويصبح بلع الطعام عملاً متعذراً.ومن ثم يحدث الهذيان والسبات والموت.
وقد لوحظ أن قلة الماء في الجسم يضعف من نشاط خلايا الدماغ،ويؤثر على مستوى الذكاء عند الإنسان.
في الحالات الطبيعية يحدث توازن مابين تناول السوائل مع الطعام أو الشراب وكمية السوائل التي يخسرها الإنسان عن طريق البول أو الغائط أو اللعاب أو التعرق،أو عن طريق التنفس.
وأما حس العطش فيمكن أن نعبر عنه أنه حاجة الجسم من أجل الحصول على الماء.وإن هذا الحس يحدث بسبب جفاف الفم،لأن الحرمان من الماء يسبب حس العطش قبل فترة طويلة من جفاف الفم،وعلى العكس من ذلك فإن كثيراً من الأمراض التي تترافق مع جفاف الفم بسبب دوائي أو مرضي لا يشكون من العطش.وإن حقن مادة الأتروبين يسبب توقف الافراز اللعابي وبالتالي جفاف الفم ولكن لا يصحبه حس العطش.ومن جهة ثانية فإن الحقن الوريدي لمحاليل مفرطة التوتر وليكن 5% من كلور الصوديوم يسبب الشعور بالعطش،وإن كل المحاليل التي تسبب ازدياد الضغط الحلولي في السائل خارج الخلوي(البراني)وتسبب نزوح الماء من الخلايا إلى خارجها،يؤدي للعطش.
وعلى هذا فإن حس العطش يحدث عن ازدياد الضغط الحلولي في السائل الخلوي،وأنه ينجم عن انزياح السوائل من القطاع الخلوي الجواني إلى القطاع خارج الخلوي البراني.
وإن مراكز العطش في الدماغ تتنبه بارتفاع توتر السوائل الخلالية والوعائية.
خلق الإنسان من سُلالةٍ من ماء
لغوياً:
جاء في لسان العرب لإبن منظور:سلالة الشئ:ما استُلَّ منه، والنطفة سلالة الإنسان، ومنه قول الشماخ:
طَوَتْ أحشاءَ مُرتِجةٍ لوقتٍ على مَشَجٍ، سلالتهُ مَهين
وقال حسان بن ثابت:
فجاءت به عَضْبَ الأديمِ غضنفراً سُلالةُ فَرْجٍ كان غير حصين
وجاء في المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني:سَلّ الشئ من الشئ: نزعه كسلِّ السيف من الغمد، وسلّ الولد من الأب ومنه قيل للولد سليل.
الآيات القرآنية والحديث الشريف:
قال تعالى: {الذي أحسنَ كلَّ شئٍ خَلَقه وبدأ خَلْقَ الإنسانِ من طين * ثُمَّ جعلَ نَسلَهُ من سُلالةٍ من ماءٍ مهين} [السجدة 7 ـ8 ]
وقال تعالى: {ولقد خلقنا الإنسانَ من سُلالةٍ من طين} [المؤمنون12]
وجاء في الحديث الشريف الذي أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ مامن كل الماء يكون الولد، وإذا أراد الله خلق شئ لم يمنعه شئ” .
التفسيرات الدينية:
يقول الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله:
“السلالة:هي أجود ما في الشىء،وقد خلق الله الإنسان الأول من أجود عناصر الطين وأنواعه،وهي زُبد الطين،فلو أخذت قبضة من الطين وضغطت عليها بين أصابعك يتفلت منها الزبد،وهو أجود مافي الطين ويبقى في قبضتك بقايا رمال وأشياء خشنة.
ولما أحب سيدنا حسان بن ثابت أن يهجو قريشاً لمعاداتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال:إئذن لي يا رسول الله أن أهجوهم من على المنبر.فقال صلى الله عليه وسلم:”أتهجوهم وأنا منهم؟ فقال حسان:أسلُكَ منهم كما تُسلُّ الشعرة من العجين.[أخرجه البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها].
وتُطلق السلالة على الشىء الجيد فيقولون:فلان من سلالة كذا،وفلان سليل المجد.يعني:في مقام المدح،حتى في الخيل يحتفظون لها بسلالات معروفة أصيلة ويسجلون لها شهادات ميلاد تثبت أصالة سلالتها،ومن هنا جاءت شهرة الخيول العربية الاصيلة.
وقد أثبت العلم الحديث صدق هذه الآية،فبالتحليل المعملي التجريبي أثبتوا أن العناصر المكونة لللإنسان هي نفسها عناصر الطين،وهي ستة عشر عنصراً،تبدأ بالأوكسجين،وتنتهي بالمننجنيز،والمراد هنا التربة الطينية الخصبة الصالحة للزراعة،لأن الارض عامة بها عناصر كثيرة قالوا: مائة وثلاثة عشر عنصراً.
ومن الناحية العلمية:
يحدث اصطفاء وانتقاء على مستوى الحيوانات المنوية”النطاف” عند الذكر، وعلى مستوى البويضات عند الأنثى،وهذا مايجعلنا نقف امام إعجاز القرآن الكريم حيث اختار الله تعالى كلمة”سلالة”، وهي الخلاصة التي تستخلص بعد الأنتقاء والاصطفاء .
فعلى مستوى النطاف يحدث مايلي:
يبلغ عدد النطاف في كل دفقة من دفقات السائل المنوي عند الجماع حوالي 300 إلى 500 مليون نطفة في كل دفقة،ومن هذه الملايين العديدة يتم اختيار نطفة واحدة فقط تصل إلى البيضة وتلقحها،ويحدث الإخصاب والحمل،وهذا الإختيار والاصطفاء يتم من خلال عدة عمليات واختبارات تتعرض لها هذه النطاف بحيث لايبقى في النهاية إلا نطفة واحدة تتمكن من الوصول إلى هدفها، وأما باقي النطاف فيتعرض للتلف والهلاك.
ولنفصل في هذا الموضوع:
1 ـ إنَّ 20 بالمائة من النطاف التي تخرج أثناء الجماع والدفق يكون غير صالح للتلقيح ويموت في المهبل وعنق الرحم.
2 ـ تسافر هذه النطاف من المهبل إلى عنق الرحم،ومن ثم تذهب مجموعة منها إلى قناة الرحم اليمنى”نفير فاللوب” ومجموعة إلى قناة الرحم اليسرى،وهي لاتدري أين تكون البيضة المُهيئة للإلقاح، هل هي في قناة النفير اليمنى أو اليسرى؟وبالتالي فإن تحركت في الإتجاه الخاطئ حُكم عليها بالهلاك والتلف.
3 ـ وجد العلماء أن الغشاء المخاطي لنفير الرحم قد جُهّز بأهداب تفترش الغشاء المخاطي للنفير من الداخل(مايسمى البطانة الداخلية للنفير)، وهذه الأهداب الدقيقة تتحرك بحركة مُعاكسة لحركة الحيوانات المنوية، وبالتالي فإنها تثبطها وتعيقها عن التقدم والوصول إلى البيضة،وهذا يعني أنها تمنع الحيوانات المنوية الضعيفة من الوصول للبيضة ويسمح للحيوانات القوية ذات الصفات الوراثية الجيدة من الوصول إليها.
4 ـ إن الحيوانات المنوية تشقُّ طريقها من الإحليل (مجرى البول عند الذكر) وهو ذو تفاعل حمضي، ومن ثم تصل إلى المهبل عند الأنثى وهذا ذو تفاعل حمضي شديد أيضاً،بينما تفاعل السائل المنوي قلوي،وكذلك فإن إفراز غدة البروستات هو أيضاً قلوي وهذا يُعرّض الحيوانات المنوية لتبدلات في الحموضة والقلوية، ومن جهة أخرى فإن السفر في الإحليل يتم عن طريق قناة ضيقة وطويلة،ومن ثم قناة المهبل الواسعة العريضة،ومن ثم عنق الرحم وهي قناة ضيقة ،فالرحم وهي قناة واسعة وعريضة،ومن ثم قناة النفير الطويلة والضيقة. إن هذه التبدلات التشريحية المتعددة والتبدلات الحمضية القلوية المختلفة يلعب دوراً هاماً أيضاً في إعاقة حركة الحيوانات المنوية الضعيفة ويمنع سهولة حركتها.
5 ـ ولقد لوحظ أيضا أنه بمجرد وصول الحيوان المنوي إلى البيضة واختراقها وتلقيحها،فإن الحيوانات المنوية الأخرى تبتعد تلقائياً عن هذه البيضة الملقحة، ويظن أن ذلك يتم بإفراز خمائر معينة تؤثر في هذه الحيوانات المنوية وتبعدها عن البيضة بعد إلقاحها،كما تبين أيضاَ أن البيضة تفرز مادة معينة تجذب النطفة الأولى إليها كما بينت ذلك بعض التجارب.
نعم،يالروعة البيان القرآني ويالعظمة إعجازه: ملايين الملايين من النطاف تسافر في رحلة طويلة شاقة وعسيرة، وتعبر أقنية متصلة تضيق تارة وتتسع أخرى،وتتعرض أثناء سفرها للعديد من التيارات بما تحمله معها من إفرازات،ورياح معاكسة وتجديف بعكس الرياح،وبيئات حمضية وقلوية متبدلة تتلف الملايين من النطاف ولاتسمح إلا بالحيوان القوي النشيط من الوصول إلى العروس المكللة بالإكليل المشع وبعد أن يتم الإمتزاج والانصهار تتلف باقي الحيوانات المنوية، فسبحان الله أعظم الخالقين.
وعلى مستوى البيضات يحدث أيضاً الانتقاء والإصطفاء:
من المعروف علمياً أنه يبلغ عدد البيوض في مبيض الأنثى وهي لاتزال جنيناً في رحم أمها حوالي ستة ملايين بيضة،ولكن كثيراً منها يموت قبل أن تلد الأم الجنين الأنثى، ويستمر هذا الاندثار حتى تبلغ الأنثى سن الطمث والبلوغ، ولايبقى في المبيض عند الأنثى البالغة إلا حوالي 40 ألف بيضة فقط،وفي كل شهر من الدورة الطمثية تنمو مجموعة من هذه البيوض ولكن لايكتمل نمو إلا واحدة فقط، ونادراً اثنتان أو أكثر(إذا تم الإلقاح هنا لأكثر من بيضة حصل مايسمى بالتوائم غير الحقيقية)، أي أنه في كل فترة إباضية شهرية تنمو مجموعة من البيوض ولكن لاتنضج منها غالباً إلا واحدة، وأما الباقي فيتعرض للتلف والهلاك، وفي سن الخصوبة عند المرأة والذي يمتد من سن البلوغ وحتى سن الضهي(الإياس)وهو وسطياً حوالي الثلاثين سنة فإنه لايزيد ماتفرزه الأنثى من هذه البيوض التي تصل لمرحلة النضج في كل دورة شهرية عن 400 بيضة فقط، بينما العدد الكلي في بداية البلوغ وبداية المرحلة الخصبة التناسلية يكون العدد حوالي 30 ألف،وهذا يعني أنه يحدث اصطفاء وانتقاء على مستوى البيضات أيضاً كما هو الحال على مستوى النطاف.
وتبين الأبحاث أيضاً أنه يحدث اصطفاء أيضاً بعد الإلقاح، وأنه تبين أن 78 بالمائة من جميع حالات الحمل تسقط طبيعياً، وأن 50 بالمائة منها يحدث الإسقاط بدون أن تعلم الأم أنها حامل،وذلك لأن الرحم يلفظ العلقة بعد علوقها مباشرة، وخاصة إذا كانت البيضة الملقحة مريضة،فتظن المرأة أن الذي جاءها النزيف الطمثي في موعد الإحاضة أو بعدها بقليل ولاتعلم أنه دم إسقاط،وهذا من رحمة رب العالمين لمنع تخلق أجنة مشوهة أو مريضة.
الإباضة Ovulation
كما ذكرنا عندما تكلمنا عن المبيض فإن الإباضة تحدث بعد تمزق الجراب الناضج وانطلاق البويضة منه حيث يتلقفها النفير وتتحرك فيه بإتجاه الرحم.وتتم هذه العملية في منتصف الدورة الشهرية .ويتحكم تحت المهاد في الدماغ في عملية الإباضة وذلك عن طريق التأثير في إفراز كل من الهرمون الملوتن(LH)Luteinzing Hormone،والهرمون المنبه للجراب FSH واللذان يفرزا من الفص الأمامي للغدة النخامية.
ومن أهم أعراض الإباضة التي تشاهد لدى الأنثى:حدوث تبدلاتى في مخاط عنق الرحم،وارتفاع في درجة حرارة الجسم الأساسية(حوالي نصف درجة)،وكثير من الإناث يشكون من ألم الإباضة وهو مايسمى ألم منتصف الدورة،وهو ألم في أسفل البطن والحوض،وهو ألم مفاجىء ويستمر لعدة ساعات وقد يستمر من 2 ـ 3 أيام.
وهناك بعض الملاحظات حول موضوع الإباضة:
1 ـ كما ذكرنا فإن الأباضة تحدث بالتناوب فيما بين المبيضين كل شهر، ولكن وجد أنه إذا استئصل أحد المبيضين، فإن المبيض الأخر تحدث فيه الأباضة شهرياً وبشكل مستمر.
2 ـ تُعطى التعليمات والإشارات اللازمة لنفير فاللوب الموافق للمبيض الذي ستحدث فيه الإباضة قبيل عدة ساعات ،بحيث يتهئ ويستعد لتلقف البيضة،فيحيط بقسمه الصيواني القمعي الشكل حول المبيض وكأنه الشبكة التي ترمي بشباكها ويتلقف البيضة مباشرة بعد انقذافها من المبيض وحتى لاتسقط في تجويف البطن.
3 ـ في حالات نادرة وجد أن النفير الثاني المعاكس وليس الموافق للمبيض الذي تحصل فيه الإباضة إذا كان طويلاً ومتحركاً فإنه قد يصل للمبيض الذي انطلقت منه البيضة ويمكن أن يتلقفها،وهذا نادر الحدوث ولكنه قد يحصل،ولقد وجد عند بعض النساء حدوث الحمل مع بقاء مبيض في جهة ونفير في جهة أخرى.
4 ـ تنطلق البيضة وحولها مجموعة من الخلايا الجرابية التي تحيط بها وتدعى بالإكليل المشع وهذه الخلايا كأنها ” الوصيفات” للأميرة تؤمن لها الرعاية والحماية اللازمتين،كما تتعهد بتغذيتها.
5 ـ الأصل أن تنطلق بيضة واحدة في كل دورة شهرية، ولكن في بعض الحالات النادرة قد تنطلق أكثر من بويضة من نفس المبيض،وذلك لوجود أكثر من جراب ناضج وهذا مايؤدي للحمل التوأم أو الثلاثي أو أكثر، وهي أجنة غير متشابهة لأنها تشكلت من عدة بيوض كل منها قد لُقحت بنطفة مستقلة،أما التوأم الحقيقي فإنه يحصل من بويضة واحدة قد لُقحت من نطفة واحدة وهذه البيضة انقسمت أثناء التطور الجنيني إلى اثنين وينجم عن هذا الحمل التوأم حقيقي لأجنة متشابهة تماماً.
6 ـ تعاني العديد من الإناث بالرغبة الجنسية المتزايدة قبيل الإباضة.وقد يشاهد أحياناً ازدياد قوة الحواس في الشم والتذوق.
النطفة الأمشاجGamete
قال الله تعالى: {هل أتى على الإنسان حينٌ من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً* إنا خلقنا الإنسان من نطفةٍ أمشاجٍ نبتليه فجعلناهُ سميعاً بصيراً} [ الإنسان 1 ــ 2 ]
وجاء في الحديث الشريف الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده أن يهودياً مرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُحدّث أصحابه. فقالت قريش يايهودي إن هذا يزعم أنه نبي.فقال لأسألنه عن شئ لايعلمه إلا نبي. فقال يامحمد: مِمَ يُخلق الإنسان؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يايهودي من كل يخلق، من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة. فقال اليهودي: هكذا كان يقول من كان قبلك(أي من الأنبياء).
وأخرج الإمام أحمد في مسنده: حدثنا حسين بن الحسن حدثنا أبو كدينة عن عطاء بن السائب عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله قال مرَّ يهودي برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُحدّث أصحابه فقالت قريشٌ: يايهوديُّ إن هذا يزعم أنه نبيٌّ فقال: لأسالنّه عن شئٍ لايعلمه إلا نبيّ قال: فجاء حتى جلس ثم قال :يامحمد مِمّ يُخلقُ الإنسان قال: ” يايهودي من كُلٍّ يُخلقُ من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة فأما نطفة الرجل فنطفة غليظة منها العظم والعصب وأما نطفة المرأة فنطفة رقيقة منها اللحم والدم” فقام اليهودي فقال: هكذا كان يقول من قبلك”(رواه عبد الله بن مسعود وقال المحدث أحمد شاكر والألباني: إسناده ضعيف).
يقول العلماء ومع ضعف سند الحديث فإن في متنه إشكالاً،حيث ذكر فيه أن لحم الجنين يكون من نطفة الام،وعظمه من نطفة الأب،وظاهر النصوص أن اللحم والعظم من مجموع النطفتين.
وجاء في الحديث النبوي الشريف عن أم سلمة رضي الله عنها: جاءت أم سليم امرأة ابي طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت:يارسول الله ، إن الله لايستحي من الحق، هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم إذا رأت الماء، فغطت أم سلمة ـ تعني وجهها ـ وقالت يارسول الله أو تحتلم المرأة؟ فقال: نعم، تَربت عينك ـ فبم يشبهها ولدها“[رواه البخاري في كتاب العلم ـ باب الحياء في العلم]
وروى الطبراني بسنده عن مجاهد رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :”ماخلق الله الولد إلا من نطفة الرجل والمرأة جميعاً”
التفاسير:
يقول الإمام المناوي صاحب فيض القدير عند شرح حديث الله صلى الله عليه وسلم: ” إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يُرسل له الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد“[ رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن عبد الله بن مسعود] وهذه رواية مسلم.
يقول الإمام المناوي: “ويُجمع من الإجماع لا من الجمع، يقال: أجمعت الشئ أو جعلته جميعاً، فإذا لاحظت التقاء الماءين الضرورين للتكوين ظهرت بكل وضوح معنى قوله صلى الله عليه وسلم” يُجمع خلقه“، والمراد ببطن أمه، رحم أمه وهو من قبيل ذكر الكل وإرادة البعض”.
ويقول الإمام ابن حجر العسقلاني في “فتح الباري” معلقاً حول هذا الحديث الشريف” إن أحدكم يُجمع خلقه…”يقول رحمه الله : “وزعم كثير من أهل التشريح أن مني الرجل لا أثر له في الولد إلا في عقده، وإنه إنما يتكون من دم الحيض، وأحاديث الباب تبطل ذلك، وهكذا استطاع هذا العالم الحافظ ابن حجر رحمه الله أن يرفض نظرية أرسطو التي كانت سائدة في عصره والعصور التالية له والتي نسبت خلق الجنين إلى دم الحيض فقط.
وجاء في تفسير ابن كثير حول الأية الكريمة من سورة الإنسان: {من نطفة أمشاج}: أي أخلاط ، والمشج والمشيج: الشئ المختلط بعضه في بعض، قال ابن عباس: يعني ماء الرجل وماء المرأة إذا اجتمعا واختلطا، ثم ينتقل من طور إلى طور،وحال إلى حال، وقال عكرمة ومجاهد: الأمشاج هو اختلاط ماء الرجل بماء المرأة.
وجاء في تفسير الإمام الطبري حول قوله تعالى{ يا أيُّها الناسُ إنّا خلقناكم من ذكرٍ وأُنثى وجعلناكم شُعوباً وقبائلَ لتعارفوا إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكُم} [الحجرات13] يقول الطبري رحمه الله”يا أيها الناس إنا خلقناكم من ماء ذكر الرجل وماء أنثى من النساء”، وروى بسنده عن مجاهد قال: ” ماخلق الله الولد إلا من نطفة الرجل والمرأة جميعاً”.وجاء في نفس التفسير أيضأ: “إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج: إنا خلقنا ذرية آدم من نطفة يعني: من ماء الرجل وماء المرأة، والنطفة كل ماء قليل في وعاء، وقوله أمشاج: يعني أخلاط واحدها مشج ومشيج يقال منه إذا مشجت هذا بهذا خلطته، وهو مشوجٌ بهن ومشيج أي مخلوط، وهو اختلاط ماء الرجل بماء المرأة”.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: “نطفة أمشاج: يعني ماء الرجل وماء المرأة إذا اجتمعا واختلطا ثم ينتقل بعد من طور إلى طور، ومن حال إلى حال، ومن لون إلى لون، وهكذا قال عكرمة ومجاهد والحسن البصري والربيع”
وقال مجاهد: “خلق الله الولد من ماء الرجل وماء المرأة، وقد قال تعالى: {يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى} [الحجرات 13]
ويقول الإمام ابن القيّم رحمه الله في كتابه “التبيان في علوم القرآن“: “ومَني الرجل وحده لايتوّلد منه الولد مالم يمازجه مادة أخرى من الأنثى” .وقال أيضاً: ” إن الأعضاء والأجزاء والصورة تكوّنت من مجموع المائين، وهذا هو الصواب”
وجاء في تفسير الظلال: “الأمشاج: الأخلاط، وربما كانت هذه إشارة إلى تكون المضغة من خلية الذكر وبويضة الأنثى بعد التلقيح، وربما كانت هذه الأخلاط تعني الوراثات الكامنة في النطفة والتي يمثلها مايسمونه علمياً “الجينات”وهي وحدات الوراثة الحاملة للصفات المميزة لجنس الإنسان أولاً ولصفات الجنين العائلية أخيراً،وإليها يُعزى سير النطفة الإنسانية في رحلتها لتكوين جنين إنسان لاجنين أي حيوان آخر كما تُعزى إليها وراثة الصفات الخاصة في الأسرة، ولعلها هي هذه الأمشاج المختلطة من وراثات شتى”.
وقال الإمام ابن حجر العسقلاني في “فتح الباري” ـ كتاب القدر ـ: “والمراد بالنطفة المنيّ وأصله الماء الصافي القليل،والأصل في ذلك أن ماء الرجل إذا لاقى ماء المرأة بالجماع وأراد الله أن يخلق من ذلك جنيناً هيأ أسباب ذلك”.
من الناحية اللغوية:
جاء في مختار الصحاح:مَشجَ بينهما: خلط، والشئ مشيج.
وجاء في لسان العرب لإبن منظور:المَشج والمشيج: كل لونين اختلطا، وقيل : هو كل شيئين مختلطين والجمع أمشاج، والمشيج: اختلاط ماء الرجل والمرأة.
وقال ابن السكيت: الأمشاج: ألاخلاط، يريد الأخلاط النطفة لأنها ممتزجة من أنواع، ولذا يولد الإنسان ذا طبائع مختلفة، وقال الشماخ:
طَوتْ أحشاءَ مُرْتجةٍ لوقتٍ على مَشَجٍ، سُلالتهُ مَهينُ
وقال أخر:
فَهُنَّ يقذِفنَ من الأمشاجِ مثل بُزولِ اليَمنةِ الحِجاجُ
وفي حديث علي رضي الله عنه: ” ومَحطَ الأمشاجِ من مساربِ الأصلاب، يريد المني الذي يتولّد منه الجنين”
ومن الناحية العلمية:
لم تكن البشرية تعرف شيئاً عن النطفة الأمشاج،وكانت هناك فرضيات ونظريات مأخوذة عن الفلاسفة وبعض الأطباء في موضوع خلق الجنين، وكانت أبرز هذه النظريات أن الإنسان يتكون من ماء الرجل وإن رحم المرأة ليس إلا مزرعة لذلك الجنين،أي شبهوا ذلك بالبذرة التي ترمى في الأرض فتأخذ منها غذائها وتخرج شجرة كاملة،أي أن الرحم ليس إلا تربة تحتضن ماء الرجل وتتعهده بالرعاية والتغذية وأن الأم لاتشارك في هذا التشكل أبداً.
وكانت أهم النظريات السائدة في أوروبا في القرن السابع عشرهي النظرية القائلة أن الجنين موجود بصورة مصغرة في الحيوان المنوي وأنه ليس لرحم المرأة دور إلا في التغذية والرعاية حتى يكبر بالتدريج.
وفي عام 1677م تمكن العالم الهولندي فان لوفيهنوك Leeuwen Hoek(1632 ـ 1723) من اختراع المجهر وأمكن بواسطته الكشف عن كثير من الأشياء كالجراثيم والكريات الحمراء وايضاً اكتشاف الحيوان المنوي عند الإنسان.
وفي عام 1672م اكتشف العالم الهولندي غراف Graaf(1641 ـ 1673م) مايسمى جريب غراف في مبيض الأنثى وهو عبارة عن الجريب الذي توجد فيه إحدى البيوض المهيئة للنضج والذي تنطلق منه بعد انفجاره إلى الرحم عبر قناة النفير أي مايسمى عملية الإباضة،ولكن حتى ذلك الوقت لم يُدرك اي منهما دور الحيوان المنوي أو البيضة في الإنجاب،ولم يعرفا أن هذه الحيوانات المنوية والبيضات من خلايا الجسم العديدة.
وفي عام 1859م استطاع العلماء التأكيد على أن الحيوان المنوي والبيضة هما من خلايا الجسم.واستطاع العالم الإيطالي سبالانزانيSpallanzani(1729 ـ 1799م) أن يطور علم الحياة التجريبي وهو أحد مؤسسيه،واستطاع أن ينقض النظريات القديمة في تشكل الأحياء، واستطاع تجريبياً أن يحدث إلقاحاً اصطناعياً مابين البويضات والحيوانات المنوية عند بعض الحيوانات ومنها الكلاب.
وفي عام 1875م استطاع العالم الالماني هيرتفيغ Hertwig(1849 ـ 1922م ) أن يصف عملية الإلقاح بين النطفة والبيضة عند علق البحر،وكان بذلك أول إنسان يشاهد ويكتشف عملية التلقيح ويصفها، وهو الذي كشف عام 1890م أن النواة الخلوية تحمل عوامل الوراثة.
وفي عام 1883 تمكن العالم فان بيندن Van Beneden من إثبات أن كلا من البويضة والحيوان المنوي يساهمان بشكل متساوي في تكوين البيضة الملقحة.
وقال العالم بوفري Boveri مابين أعوام 1888 ـ 1909 أن الصبغيات تنقسم وتحمل خصائص وراثية.
وفي عام 1912 بين العالم مورجان Morgan دور الجينات الوراثية الموجودة في الصبغيات ودورها الوراثي.
إذاَ وحتى نهاية القرن السابع عشر كما تقول الموسوعة الألمانية “بروكهاوس” لم تكن عملية الإخصاب والإلقاح واضحة المعالم بل كانت مجهولة تماما،وكانت النظرية السائدة هي نظرية التشكل المسبق والتي تعني أن النطفة تحتوي على الكائن الحي ولكن بشكل مُصغّر وتام التكوين وأنه ينمو في الرحم ويكبر. ولم تُنتقض هذه النظرية إلا في مطالع القرن التاسع عشر من خلال أبحاث بريغزهايم ومن ثم هيرتيغ وشتراسبورغر،بينما القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ذكرا وبشكل يدعو للإعجاز وبوضوح وبنوع من التفصيل بأن النطفة عند الرجل والبيضة عند الأنثى يساهمان معاً في تشكيل الجنين، وجاء الإعجاز القرآني بكلمة”أمشاج” والإعجاز النبوي بكلمة “يُجمع” فكلاهما يظهران أنه يحدث اختلاط وانصهار لمكونات النطفتين”النطفةوالبيضة” معاً،وهذا مايحدث، وهذا ماأثبته العلم الحديث،وسوف نتطرق إليه بشكل من التفصيل لاحقاً،حيث تخترق النطفة البيضة وتنصهر مكوناتهما معاً وتختلطان كامل الإختلاط، وينشأ عنهما خلية جديدة ثالثة هي النطفة الأمشاج،تختلف بوظائفها وصفاتها وأبعادها وبقدراتها كل الإختلاف عن المُكوّنين الأساسيين لها،فسبحان الله رب العالمين.
وهناك ملاحظة:يشير القرآن الكريم إلى النطفة الأمشاج بقوله تعالى{إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج}،وهناك نقطة هامة هنا وهي أن القرآن الكريم ذكر كلمة نطفة وهو اسم مفرد وأما كلمة أمشاج فهي صيغة جمع، وقواعد اللغة تجعل الصفة تابعة للموصوف في الإفراد والتثنية والجمع.ويمكن من الناحية العلمية أن نقول:إن كلمة أمشاج من الناحية العلمية دقيقة تماماً وهي صفة جمع تصف كلمة نطفة المفردة، والتي هي عبارة عن كائن واحد يتكون من أخلاط متعددة تحمل صفات الأسلاف والأحفاد لكل جنين. وتواصل هذه المرحلة نموها وتحتفظ بشكل النطفة ولكنها تنقسم إلى خلايا أصغر وتشكل فيما بعد التوتة والبلاستولا.فالنطفة الأمشاج هي من الناحية الشكلية الظاهرية بشكل النطفة التي يحيط بها غشاءً سميكاً يحفظها ويحميها ولكنها من الناحية الداخلية أصبحت مجموعة كبيرة من الخلايا التي تنقسم وتتكاثر وينشأ عنها فيما بعد أنسجة وأعضاء الجنين .
وهناك ملاحظة أخرى: إن التفاوت كبير بين عمر النطفة (3 ـ 5 أيام) وعمر البيضة(لايتجاوز 24 ساعة) من حيث الزمن،وكذلك فإنه لايتم الإلقاح إلا في النفير(لايحدث الحمل إذا التقت النطفة والبيضة في الرحم) هذا من حيثالمكان، وضرورة التقاء كل منهما ليحصل التلقيح في الزمان والمكان المناسبين، وإن من يقرأ ويسمع بهذا يؤمن وبدون أي تردد أن ذلك يستحيل إلا بقدرة الخلاق العليم،فهو يستلزم امتداد حياة النطفة إلى أن تلتقي بالبيضة واستمرار حركة النطفة وتوجهها من المهبل إلى عنق ثم جسم الرحم ومن ثم إلى النفير حيث يحدث هناك التلقيح والإخصاب وتشكل النطفة الأمشاج، فسبحان الله رب العالمين{أفرأيتم ماتمنون اأنتم تخلقون أم نحن الخالقون}
الإخصاب وتشكل النطفة الأمشاج
بعد الإباضة، ومرور البيضة إلى النفير، فإنها تكون قابلة للإلقاح خلال وقت لايتجاوز 24ساعة، وهناك دراسات تقول أن الحد الاقصى لتبقى البيضة قابلة للإخصاب بعد الإباضة لايتجاوز 8 ساعات ،ولقد لوحظ أثناء زمن الإباضة ازدياد الرغبة الجنسية عند الأنثى.
هناك بعض الحقائق العلمية الحديثة تؤكد أن بعض النطاف يمكن أن تُخصب البيضة حتى بعد ثلاثة أيام من الجماع،ولقد تبين أن هذه النطاف تبقى في تجاويف أو ثنيات الغدد المخاطية لعنق الرحم،وتحصل هناك على الأوكسجين اللازم لها من البلاسما في عنق الرحم،ويمكن لهذه النطاف أن تنطلق بالتدريج خلال1 ـ 3 أيام إلى داخل جسم الرحم ثم النفير،ويمكن أن تخصب البيضة إذا التقت بها.وإن كانت هناك دراسات أخرى تقول أن الزمن الذي تبقى فيه النطاف قادرة على الإخصاب في الجهاز التناسلي للأنثى لايتجاوز 24 ساعة، وخاصة إذا ماقارنا ارتفاع درجة حرارة المهبل والرحم بالمقارنة مع تلك الموجودة في الصفن.
وأما النطاف فإنها بعد الجماع تحتاج إلى عدة ساعات حتى تصل من المهبل إلى النفير،وعليها أن تقطع مسافة طولها 15 ـ 18 سم، ومن النطاف من تكون سريعة الحركة بحيث تقطع المسافة خلال نصف ساعة،بينما بعض النطاف قد يحتاج إلى عدة ساعات، ومنها ما يقطع المسافة بلا راحة ولافاصل، والآخر منها قد يحتاج إلى عدة فواصل ومحطات في طريق الهجرة حتى الوصول إلى النفير.
ويمكن للنطاف أن تعيش عدة أيام داخل الرحم ،فإذا لم تجد البيضة في انتظارها في النفير فإنها تتحرك هنا وهناك بانتظار وفود البيضة، وقد يستمر هذا عدة أيام،ومنها مايسقط من النفير إلى تجويف البطن ويلقى حتفه هناك.
وقد تبين أن هرمون “الأوكسيتوسين” والذي يفرز من الغدة النخامية العصبية يساعد على حركة النطاف وذلك من خلال زيادة تقلصات عضلات النفير وزيادة حركة الأهداب في الغشاء المخاطي له (حيث أن النفير مجهز بنوعين من الأهداب،بعضها يتحرك بالاتجاه الإنسي أي باتجاه عضلة الرحم وهذه الأهداب تساعد على حركة البيضة باتجاه الرحم وهناك أهداب تتحرك بالإتجاه المعاكس وهي تساعد على حركة النطاف باتجاه البيضة )،ومما يؤيد هذه النظريةـ أي زيادة افراز الأوكسيتوسين ـ هو افراز اللبن أثناء الجماع من الثديين عند المرأة.
ويقال أيضاً أن البروجسترون يسهل هجرة النطاف وأن الاستروجين يُعيقها.
يتم الإلقاح بين أكبر خلية من خلايا الجسم البشري وأعني بها البيضة والتي يمكن رؤيتها بالعين المجردة والتي تنطلق من إحدى مَبيضي الأنثى،وبين خلية من أصغر خلايا الجسم البشري وأعني بها النطفة أو الحيوان المنوي والذي يتم تشكيله في خصيتي الذكر،وهذه النطفة(6 مكرون بدون الذنب) أصغر بكثير من البيضة(200مكرون) ولاترى إلا بالمجهر.
وعندما تصل النطاف إلى البيضة فإنها تحاول اختراق الخطوط الدفاعية الكثيرة والتحصينات الكثيفة التي تحيط بالبيضة والتي تشكلها العشرات بل المئات من الخلايا الجرابية المغذية التي تحيط بها وتقيها من كل شر يُراد بها. وتحاول النطاف المهاجمة أن تجد لها ثغرة في صفوف هذه الدفاعات المتعددة،وقد وجد انها تهاجم أحياناً كما يفعل لاعبي رياضة ” الركبي”، أي تهاجم جماعياً،مجموعة تلو أخرى،وكلما سقطت مجموعة،تبعتها أخرى،ويستمر هذا الهجوم من جهة والدفاع من جهة أخرى عدة ساعات،حتى تتمكن مجموعات العمل الجماعي من النطاف من اختراق الحاجز الخلوي الكثيف الذي يحيط بالبيضة وتصل إلى جدار البيضة الخارجي وتلامسه.وهنا تواجه النطاف المهاجمة مقاومة أخرى تتمثل في غشاء البيضة الصلب الصعب المقاومة والاختراق.ولقد وجد أنه من بين مئات الملايين من النطاف التي تدخل المهبل بعد الجماع فإنه لايتمكن إلا حوالي عشرة نطاف فقط من الوصول إلى قشرة البيضة،وتحاول هذه النطاف ما أمكن اختراق هذا الحاجز الدفاعي الصلب المقاومة،وعندما تتمكن إحداها من اختراق هذا الحاجز والوصول إلى هيولى البيضة(السيتوبلاسما) تحدث في هذه اللحظة مايشبه المعجزة، ففي خلال دقائق تتغير الطبيعة الكيماوية للبيضة وبحيث أنها تفرز إفرازات تشل النطاف الأخرى وتمنعها من ملامستها وحتى لو كان البعض منها قد تمكن من النفوذ قليلاً عبر غشاء البيضة،وماهي إلا لحظات وتهرب هذه النطاف الأخرى ولاتتمكن من اختراق البيضة، وهذه النطاف لاتموت مباشرة بل إنها تبقى محيطة بالبيضة عدة أيام ثم تموت وتتلاشى.
ياالله من هذه اللحظة الرائعة الرهيبة،عدة نطاف تصل إلى البيضة وتلامسها، وبمجرد أن تدخل إحداها إلى داخل البيضة ويحصل الأقتران،يُحكم على النطاف الأخرى بالطرد ثم الموت،نعم إنها إرادة الله،فالزنا ممنوع أيضاً وعلى أدنى المستويات ومنذ بدء تشكل الحياة.
وقد تبين علمياً أنه قبل أن تنفذ البيضة إلى داخل البيضة وتخترق الحاجز الخلوي المحيط بها من الخلايا الجرابية، لابد أن يطرأ على النطفة عملية “إنضاج” وهي عملية تفعيلCapacitation تحتاج عدة ساعات غالباً،ويحدث في هذه العملية تبدلات خمائرية تطرأ على قلنسوة النطفة(وهي تبدلات وظيفية وليست شكلية) وهذه العملية تتم في الرحم أو النفير، وينبه حدوثها مفرزات الجهاز التناسلي للأنثى،ويقال إن السائل الجرابي له خاصية إنضاج هذه النطاف.ومعنى هذا أن النطاف التي تتدفق إلى المهبل بعد الجماع والقذف لاتستطيع أن تخترق البيضة،وإنما تكتسب هذه الخاصية بعد بقائها عدة ساعات في الجهاز التناسلي الأنثوي، وبحيث يتم إنضاج النطاف بعدة وسائط وعوامل داخل الجهاز التناسلي للأنثى.وقد تبين أنه بعد هذا التفعيل للنطاف تزداد حركتها ونشاطها.
ولقد وجد أن “الإخصاب “يتم على عدة مراحل:
1 ـ بواسطة خمائر معينة تفرز من القلنسوة لدى النطفة،وخاصة منها خمائر الهيالورونيداز، وبواسطتها يتم اختراق الإكليل المشع الذي يحيط بالبيضة،وهذه الخمائر تساعد على حلّ وتفكيك هذا الحاجز الخلوي الذي تشكله الخلايا الجرابية المحيطة بالبيضة”خط الدفاع الأول”.وقد تبين أنه يوجد في غطاء البويضة الشفاف مستقبلات من نوع البروتينات السكرية تعمل كمستقبلات للحيوانات المنوية.وتعتبر القلنسوة وهي الجزء الهام من رأس الحيوان المنوي من أهم العناصر بمركباتها وخمائرها على الولوج لداخل البيضة،وإن الحيوانات المونية التي لاتحتوي على القلنسوة لاتتمكن من إخصاب البضة،وبشكل عام يتم تقييم سلامة القلنسوة في الحيوان الموني عند إجراء تحليل السائل المنوي.
2 ـ ثم يتم اختراق حاجز الغشاء الشفاف والذي يحيط مباشرة بالبيضة”خط الدفاع الثاني”، ومن أهم الخمائر التي تساهم هنا خمائر اكروسين.وهنا تلعب حركات النطاف من جهة(وهنا يلعب ذيل النطفة دوراً هاماً في هذه الحركة) والخمائر التي تفرزها في الولوج لداخل البيضة وتلقيحها.
3 ـ ثم تخترق النطفة غشاء البيضة القاسي”خط الدفاع الثالث” وتدخل إلى داخل البيضة ويحصل الإنصهار الكامل لمحتويات النطفة مع محتويات البيضة”النطفة الأمشاج” وخاصة أنه يتم اتحاد المادة الصبغية لكليهما معاً لتعطي صيغة صبغية وراثية جديدة ذات طبيعة خاصة متميزة، وتحمل هذه الصيغة الصبغية معلومات وراثية مأخوذة من الأم والأب معاً،ولذا كانت الوراثة متعددة الصفات والأشكال وعلى مدى الأجيال.وابتداء من هذا الإنصهار والامتزاج لمكونات النطفتين المذكرة والمؤنثة تتحدد طبيعة جنس محصول الحمل هل هو ذكر أو أنثى، وتبدأ الحياة ابتداءً من النطفة الأمشاج، هذه الخلية الواحدة التي ينشأ عنها بعد عدة شهور طفل يحتوي على البلايين من الخلايا.
وهناك ملاحظات أخرى حول عملية الإلقاح والإخصاب:
1 ـ كما جاء في مجلة العلم(العدد 241من عام 1988): “إن النطفة تحتوي على عامل مُفَعِّل يوجد في هيولاها، وهو المسؤول عن انقسام البيضة وتمايز خلاياها.
2 ـ تدل الأبحاث العلمية الحديثة أنه يتم اتصال النطفة مع البيضة عند الثدييات من خلال وجود بروتينات معينة في النطفة من نوع غليكوزيل ترانزفير، ووجود مركبات سكرية في سطح البيضة، ومن خلال الدراسات على الحيوانات أمكن اصطناع أضداد تجاه هذه البروتينات وبالتالي لايحدث تماس للنطفة مع البيضة فلا يحدث الإلقاح،ويقال إن 5 بالمائة من حالات العقم عند الإنسان تنجم عن وجود هذه الأضداد تجاه النطف.
3 ـ ولقد لوحظ أيضاً أنه عندما تقترب النطفة من البيضة يدور كل منهما حركة بعكس دوران عقارب الساعة، وهذه الحركة(أي عكس عقارب الساعة) هي نفسها حركة الالكترونات حول بروتونات النواة،وحركة الأرض حول نفسها ودورانها حول الشمس،وهي حركة الأفلاك في المجموعة الشمسية، وهي حركة الطواف حول الكعبة ابتداء من الحجر الأسود..
رحلة البيضة الأمشاج من النفير إلى الرحم
بعد أن يتم الاقتران وتتشكل النطفة الأمشاج(البيضة الملقحة) بانصهار مكونات النطفة المذكرة مع البيضة، وبشكل خاص انصهار العوامل الصبغية الوراثية،فإنه يتشكل كائن جديد، جديد الصفات وجديد المكونات،وهو البيضة الملقحة،وهذه تسافر في رحلة شهر العسل وذلك بأن تقطع المسافة من نفير الرحم حيث تمّ الإلقاح والتخصيب إلى جدار الرحم حيث يحصل التعشيش.
إذاً فإن النطفة الأمشاج هي البداية الأولى لتشكل الجنين(محصول الحمل)، وكما ذكرنا فإنها خلية كبيرة جداً(وهي الخلية الوحيدة في الجسم الذي يمكن رؤيتها بالعين المجردة وبدون استعمال المجهر)، وأثناء الرحلة من النفير إلى الرحم يحصل على البيضة الملقحة عدة انقسامات داخلية وينجم عن هذه الانقسامات مايسمى البيضة التوتية(موريولا) لأن لها شكل ثمرة التوت، ويقدر أنه يحصل انقسام للبيضة داخلياً كل12 إلى 15 ساعة.ومن بعد التوتة يتم تشكل الكيسة المصورة(البلاستولا) والتي تصل الرحم بعد حوالي أربعة أيام من الإباضة،وتنطمر في الطبقة السطحية لغشاء الرحم في اليوم السابع.
وقد وجد أن عدد خلايا الوليد عند ولادته تقدر بحوالي 200 بليون خلية، فسبحان الله رب العالمين.
ورحلة البيضة الملقحة(الامشاج) من النفير إلى الرحم تعتبر من أكثر الأوقات الحرجة لحياة البيضة ومستقبلها،وذلك لأن البيضة لاتتحرك بذاتها،بل تعتمد على حركة الأهداب السريعة لبطانة الغشاء المخاطي للنفير،وعلى تقلص العضلات الملس في جدار النفير، وإن أي تبدل على مستوى الأهداب أو العضلات يؤثر في هذه الرحلة،وقد يكون له عقابيل وخيمة في هذه المرحلة.
إن هجرة البيضة إلى الرحم تتم ببطء شديد وتقترن بالعديد من المفاجأت،فالغشاء المخاطي للنفير تنساب منه وباستمرار سوائل مغذية للبيضة تساعدها على النمو والتغذية،والأهداب ويقدر عددها بالملايين تساعد على حركة البيضة،ولكن قد تحدث بعض العقبات وأهمها بشكل خاص:
1 ـ لقد وجد أنه توجد مَصَرَّة عضلية مابين القسم الوحشي الواسع للنفير الذي تم فيه الإلقاح والقسم الذي يليه باتجاه الرحم،وأن هذه المصرة العضلية قد تمنع البيضة ورغم صغرها من المرور،ولكن تبين أيضاً أنه بمجرد أن تصل البيضة الملقحة إلى هذه المصرة فإنها ترتخي فجأة وتسمح للبيضة بمتابعة الرحلة والمرور عبرها،ووجد أنه مما يساعد على استرخاء هذه المصرة هرمونات الجسم الأصفر أي البروجسترون.
2 ـ إن القسم الإنسي من النفير وهو الذي يتصل مباشرة مع جسم الرحم ذو لمعة ضيقة جداً بحيث قد تواجه البيضة الملقحة صعوبة كبيرة في المرور من خلاله،وخاصة أيضاً بسبب الثنيات المخاطية للغشاء المخاطي فيه،وتحاول البيضة وبكل جهدها ان تتغلب على هذا العائق الميكانيكي(ضيق لمعة النفير والثنيات المخاطية)وتسعى البيضة ما أمكنها أن لاتعلق في تلافيف وثنيات هذا الغشاء المخاطي،وإذا لاقدر الله لم تستطع الهجرة وعلقت بين ثنيات وتلافيف الغشاء المخاطي للنفير فإنه يحصل التعشيش فيه بدلاً من جدار الرحم ويحصل مايسمى الحمل النفيري، وهذا الحمل يترافق مع أعراض الحمل الطبيعي العادي ومنها الوحام،ويكون فحص الحمل إيجابياً، ولكن الخطورة هنا أن النفير الضيق لايستطيع أن يستوعب المضغة السريعة النمو في الحجم،وهذا يؤدي لحدوث نزف باطني مهدد لحياة الأم ويستدعي العمل الجراحي السريع لإستئصال قسم من النفير والمضغة معاً.
ولقد لوحظ في بلاد الغرب ازدياد عدد حالات ونسبة الحمل النفيري،ويعلل ذلك بكثرة الالتهابات والأنتانات الجنسية وخاصة داء السيلان والالتهابات بالمتدثرات(الكلاميديا) وهذه تسبب التهابات مزمنة في النفير مع حدوث تليفات وتضيقات فيه وهذا يؤدي لإرتفاع حدوث حالات العقم وزيادة نسبة الحمل النفيري،وتقدر نسبة حدوث الحمل النفيري 1 /15 من الحمول الطبيعية.
“وليس الذكر كالأنثى”
إن النطفة المذكرة تختلف عن النطفة المؤنثة(البيضة) اختلافاً كبيراً ومن عدة وجوه:
1 ـ إن البيضة هي أكبر خلية من خلايا الجسم البشري ويمكن رؤيتها بالعين المجردة،حيث يبلغ قطرها عند النضوج 200 مكرون،أما النطفة فهي من أصغر خلايا الجسم ولاترى إلا بالمجهر ولايتجاوز طولها 60 مكرون.
2 ـ إن البيضة تتمتع شكلاً بكل صفات الأنوثة فهي مستديرة،يحيط بها الإكليل المشع وكأنّه التاج تلبسه العروس في ليلة الزفاف،وتحيط بها الوصيفات(الخلايا الجرابية) التي تؤمن لها الرعاية والخدمة والحماية والتغذية،وهي ـ أي البيضة ـ لاتتحرك بذاتها،بل تسير في دلال وتؤدة تحركها الأهداب الموجودة في الغشاء المخاطي للنفير وتقلص عضلاته الملساء،فهي قبل عملية الزفاف والإقتران عروس في أجمل شكل قد هيأت نفسها فأحسنت هيئة وشكلاً.
أما النطفة فعلى النقيض من ذلك، فهي لاتتمتع بأي صفات الجمال،بل هي أقرب إلى الرجولة الفظّة والذكورة البحتة،ففي رأس النطفة توجد مايسمى القلنسوة وكأنها العمامة ولها شكل مدبب ليساعد على اختراق البيضة عند الإلقاح، وهي ذات عنق بسيط وصغير،وذيل طويل يبلغ أضعاف طولها (النطفة تكون بدون الذنب بطول 6مكرون ويبلغ طول الذنب حوالي 50 مكرون)، ورأس النطفة له شكل مخروطي مُدّبب،وتتحرك النطفة بسرعة كبيرة جداً وذلك بسبب طول الذنب والذي يساعد على السباحة السريعة فهو كالمحرك الذي يحرك المركب الصغير ويسير به بسرعة جبارة، وكالفارس الذي يتشوّق إلى مقابلة الحبيب،ويساعدها في تلك الحركة حركة السوط الذي يوجد في تركيب ذيلها،وبالتالي فإن النطفة تحمل صفات الذكورة والرجولة والتي تُمكّنها من اختراق الصعاب وتحمل المشاق من أجل الوصول إلى الهدف الرئيسي وهو الاقتران بالحبيبة كاملة الأنوثة.
3 ـ وهناك تفاوت كبيرٌ في الأعمار، فمعدل عمر النطفة 3 ـ 5 ايام، وأما عمر البيضة فإنه لايتجاوز 24 ساعة،وسبب اختلاف الأعمار مابين الإثنين يتعلق علمياً بناحية هامة، وهي أن الإلقاح يحدث في الثلث الوحشي للنفير المجاور للمبيض، والبيضة بعد الإباضة تصل إلى هذا المكان خلال ساعات،وأما النطفة فعليها أن تقطع مسافة طويلة وبعيدة بعد الدفق من المهبل إلى عنق الرحم ومن ثم جسم الرحم وحوالي ثلثي النفير وما تقابله هذه المسافة الطويلة والشاقة من صعوبات وعوائق.
4 ـ إن البيضة تحتوي في الهيولى(السيتوبلاسما) على مايسمى الحبيبات المُحيّة، وهذه تؤمن التغذية للبيضة خلال الأيام الأولى من التطور،بينما النطفة فهي لاتشابه الخلايا البدنية الأخرى، فهي لاتحتوي إلا على هيولى بسيطة جداً،ولكنها تمتاز بقدرتها الشديدة على الحركة والتي لاتشابهها في ذلك أي من خلايا الجسم الأخرى.
5 ـ تحتوي النطاف بالإضافة إلى الصبغيات الجسمية على نوعين من الصبغيات الجنسية(اكس أو واي) وهذا يحدد جنس الجنين كما سنذكر فيما بعد إن شاء الله، وأما البيوض فإنها تحتوي على نفس العدد من الصبغيات الجسمية وعلى نوع واحد من الصبغيات الجنسية وهو النوع اكس.
نعم إن الذكر ليس كالأنثى فهما مختلفان ولكنهما متكافئان في القيمة ولو أن قيمة كل منهما من نوع مختلف.
ولقد خلق الله الإنسان والحيوان والنبات والجماد وجعل من كلٍ منهما زوجين اثنين وحتى على مستوى الذرة فإن هناك أيضاً البروتونوات والالكترونات.يقول تعالى:{ومن كُلِّ شئٍ خَلقنا زوجينِ لعلكم تذكرون}[الذاريات 49].
يقول الدكتور اليكس كاريل في كتابه”الإنسان ذلك المجهول”:”إن قوانين وظائف الأعضاء في الذكر والأنثى محددة ومنضبطة كقوانين الفلك ـ حيث لايمكن إحداث أدنى تغيير في الأعضاء البشرية ـ وعلينا أن نسلم بها كما هي دون أن نسعى إلى ماهو غير طبيعي.
والذين ينادون بمساواة المرأة بالرجل يجهلون هذه الفوارق الأساسية،وعلى النساء أن يقمن بتنمية مواهبهن بناء على طبيعتهن البشرية وأن يبتعدن عن تقليد الرجال.
“من نُطفةٍ خلقهُ فقدره”
الآيات الكريمة:
{ أيَحْسَبُ الإنسانُ أن يُتركَ سُدى* ألم يَكُ نُطفةً من مَنيٍ يُمنى}[ القيامة 36 ـ 37]
{ ولقد خلقنا الإنسانَ من سُلالةٍ من طين* ثم جعلناهُ نُطفةً في قرارٍ مكين} المؤمنون12 ]
{أولم يرَ الإنسانُ أنا خلقناهُ من نطفةٍ فإذا هو خصيمٌ مبين}[ يس77 ]
“{قُتِلَ الإنسانُ ما أكفره* من أيِّ شئٍ خلقه* من نطفةٍ خلقهُ فقدره* ثمَّ السبيلَ يَسَّره}[ عبس 17 ـ 21 ]
{واللهُ خلقكم من تُرابٍ ثمَّ من نُطفةٍ ثمَّ جعلكم أزواجاً}[ فاطر11 ]
{وأنّهُ خلقَ الزوجين الذَّكرَ والأنثى* من نُطفةٍ إذا تُمنى}[ النجم 45 ـ 46]
{خلقَ الإنسان من نُطفةٍ فإذا هو خصيمٌ مبين}[ النحل4 ]
{أكفرتَ بالذي خلقكَ من تُرابٍ ثمَّ من نطفةٍ ثمَّ سوَّاكَ رجلاً}[ الكهف37 ]
{فإنّا خلقناكم من تُرابٍ ثمَّ من نُطفةٍ ثمَّ من علقة}[ الحج5 ]
{هو الذي خلقكم من تُرابٍ ثمَّ من نُطفةٍ ثمَّ من علقة}[غافر67 ]
ولقد تكرر ذكر النطفة في القرآن الكريم في اثني عشر موضعاً.
الأحاديث النبوية الشريفة:
أخرج الإمام أحمد في مسنده أن يهودياً مرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُحدث أصحابه. فقالت قريش يايهودي إن هذا يزعم أنه نبي.فقال لأسألنّه شئ لايعلمه إلا نبي.فقال: يامحمد مِمَ يُخلق الإنسان؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يايهودي من كُلٍ يُخلق، من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة فقال اليهودي هكذا كان يقول من كان قبلك(أي من الأنبياء).
من الناحية اللغوية:
النطفة: في اللغة العربية تطلق على عدة معان منها: القليل من الماء والذي يعدل القطرة.
جاء في “المفردات في غريب القرآن” للأصفهاني:
النطفة: الماء الصافي ويُعبّر بها عن ماء الرجل، ويُكنّى عن اللؤلؤة بالنطفة ومنه صبيٌ منطفٌ: إذا كان في أذنه لؤلؤة، وليلة نَطوف: يجئ فيها المطر حتى الصباح، والناطف: السائل من المائعات.
وجاء في “لسان العرب” لإبن منظور:
النطفة: الماء الصافي والجمع النطاف، والنطفة ماء الرجل والجمع نُطف،وجاء في الحديث الشريف” فلم نزل قياماً ننتظره حتى خرج إلينا ،وقد اغتسل ينطفُ رأسُه ُماء“،فكبّرَ فصلى بنا.[جزء من حديث شريف أخرجه مسلم والبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه]
قال ابو منصور: والعرب تقول للمُويهة القليلة: نُطفة، وللماء الكثير نطفة وهو بالقليل أخص.
من الناحية العلمية:
وكما ذكرنا سابقاً فإنه من بين ملايين الحيوانات المنوية تستطيع واحدة منها فقط أن تصل إلى البيضة وتُلقّحها،وأما الباقي فإنه يتلف ويهلك ويضيع،كما أن الإخصاب يتم أيضاً من نطفة مؤنثة أي بيضة واحدة،وفي حالات نادرة كما في الحمل التوأم أو الثلاثي أو أكثر وهو مايسمى التوائم غير المتماثلة فإنه تنضج عدة بيضات لدى الأنثى أثناء الإباضة وكل من هذه البيوض يُلّقح بنطفة مذكرة واحدة، أي عدة بيوض مع عدة نطاف،ولكن لكل بيضة نطفة واحدة، وتعشش هذه البيوض المخصبة في جدار الرحم وينشأ عن كل منها جنيناً مستقلاً بذاته،أما في الحمل بالتوأم الحقيقي فإن البيضة الملقحة ذاتها تنقسم إلى قسمين أثناء الانقسام الخلوي بعد الإخصاب من نطفة واحدة وينشأ عنها الحمل بالتوأم الحقيقي المتشابه وهما جنينان متماثلان في كل شئ.
العلقة ومرحلة التعشيش
الآيات القرآنية الكريمة:
{ أيحسبُ الإنسانُ أن يُتركَ سُدى* الم يكُ نُطفةً من مَنيٍ يُمنى* ثُمَّ كان علقةً فخلقَ فسوى* فجعل منه الزوجين الذكرَ والأنثى* أليسَ ذلك بقادرٍ على أن يُحيَ الموتى}[القيامة 36 ـ 40 ]
{اقرأ باسمِ ربِّكَ الذي خلق* خلقَ الإنسانَ من عَلَق}[العلق 1 ـ ـ2 ]
{يا أيُّها الناس إن كُنتم في ريبٍ من البعث فإنَّا خلقناكم من ترابٍ ثُمَّ من نطفةٍ ثمَّ من علقةٍ ثمَّ من مضغةٍ مُخلقةٍ وغير مخلقة}[الحج 5]
{ ثُمَّ خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مُضغة}[ المؤمنون 14]
{هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة}[ غافر 67 ]
التفاسير:
جاء في تفسير القرطبي رحمه الله:
من علق: أي من دك،والعلقة الدم الجامد،وإذا جرى فهو المسفوح.وقال :من علق فذكره بلفظ الجمع،لأنه أراد بالإنسان الجمع،وكلهم خلقوا من علق بعد النطفة.
والعلقة: قطعة من دم رطب،سميت بذلك لأنها تعلق لرطوبتها بما تمر عليه،فإذا جفت لم تكن علقة.
من الناحية اللغوية:
العَلَق:اسم جمع عَلَقة: وهي قطعة قيد الأنملة من الدم الغليظ الجامد الباقي رطباً لم يجف، وسمي ذلك تشبيهاً بدودة صغيرة تسمى العلقة،وهي حمراء داكنة تكون في المياه الحلوة وتمتص الدم من الحيوان أو الإنسان إذا علق خرطومها بجلده.
جاء في “المفردات في غريب القرآن” للأصفهاني:
العَلَق: التشبث بالشئ، يقال عَلِقَ الصيدُ في الحُبالة وأعلق الصائد إذا علق الصيد في حبالته،والعلق: دود يتعلق بالحلق، والعلق: الدم الجامد ومنه العلقة التي يكون منها الولد.
وجاء في” لسان العرب” لإبن منظور:
عَلِقَ بالشئ عَلقاً وعَلِقه: نشب فيه، قال جرير:
إذا عَلِقت مخالبُهُ بِقَرْنٍ أصابَ القلبَ أو هتكَ الحجابا
والعلق: الدم، وقيل: الدم الجامد الغليظ، وقيل الجامد قبل أن ييبس، وقيل : هو مااشتدّت حمرته، والقطعة منه علقة.
التعشيش والعلوق
من الناحية العلمية:
عند وصول البيضة الملقحة(الأمشاج) المنقسمة على نفسها عدة انقسامات أثناء رحلتها من النفير إلى الرحم(حيث تبدأ عملية انقسام داخل البيضة الملقحة بطريقة الإنقسام المتساوي كي تعطي أربع خلايا،والتي تنقسم بدورها إلى ثمان وهكذا وهذه العملية بطيئة وتستغرق من 12 ـ 24 ساعة لكل انقسام) فإنها تسمىالكيسة المصورة“Blastola”،,وعندما يصل عدد الخلايا المنقسمة داخل البيضة الملقحة إلى 16 ـ 32 خلية تسمى بالتوتة Morula لأنها تشبح حبة التوت،وهذه مهمتها الآن أن تحاول التعشيش داخل الغشاء المخاطي لجسم الرحم، ويبدأ التعشيش بإفراز” البلاستولا” لمركبات هرمونية موضعية تؤثر على الجهاز المناعي الموضعي للأم،وذلك لأن البيضة الملقحة باحتوائها على النطفة المذكرة وانصهارهما معاً تعتبر جسماً غريباً على بدن الأم،ومن الناحية المناعية لابد للجهاز المناعي عند الأم أن يطرد هذا الجسم الغريب ولكن إفرازات “البلاستولا” تمنع هذه التفاعلات المناعية المثبطة للبيضة.
وقد وجد في السنوات الأخيرة أن من الأسباب الهامة لحدوث الإسقاطات المتكررة عند بعض النساء هو وجود هذه التفاعلات المناعية من جانب الأم تجاه البيضة الملقحة.وقد وجد في بعض الدراسات أن إعطاء الاستروجين بجرعات كبيرة ولمدة عدة أيام بعد الجماع أنه يسبب منع حدوث الحمل لأن هذه الكمية الكبيرة من الاستروجين تمنع حدوث التعشيش. وهذه الواسطة نادراً ماتستعمل لمنع الحمل لأن إعطاء هذه الكميات الكبيرة من الأستروجين قد تسبب أعراضاً عامة شديدة غير محتملة ومنها الغثيان والإقياء،كما أنها واسطة لاتمنع الإخصاب ولكن تمنع النطفة الأمشاج من التعشيش،وتستعمل هذه الواسطة في بعض الحالات وخاصة عند النساء بعد الأغتصاب،أو لمنع حدوث الحمل عند بعض النساء فوق سن الأربعين.
وعند وصول “البلاستولا “إلى غشاء جسم الرحم المخاطي فإن هذا الغشاء يكون على أتمّ الاستعداد لإستقبال البيضة الملقحة وذلك بسبب افراز بعض الهرمونات التي تهيئ بطانة وغشاء وجسم الرحم لاستقبال هذا الضيف الوافد،ومنها هرمون البروجسترون الذي يفرز في البداية من الجسم الأصفر في المبيض وهو عبارة عن جريب دوغراف الذي انطلقت منه البيضة بعملية الإباضة، وهذا الهرمون يهيئ غشاء الرحم المخاطي ليكون فراشاً مريحاً مع مستلزماته لتعشيش البيضة الملقحة، وفي النصف الثاني من الحمل يتم افراز هذا الهرمون من المشيمة وغدة الكظر.
أما إذا لم تحدث عملية الإلقاح للبيضة فإن الجسم الأصفر يذبل ويضمر ولايتشكل هرمون البروجسترون،وبالتالي لايتهيأ غشاء الرحم المخاطي،ويظهر “حزن الرحم” على موت البيضة وعدم حدوث الإلقاح حزناً يصاحبه بكاءً دموياً وهو مايعرف بالدم الطمثي.
وبعد أن تعشش البلاستولا في الغشاء المخاطي لجسم الرحم فإنها تحدث تأثيرات موضعية وعامة في الغشاء المخاطي للرحم،وبجميع أقسام هذا الغشاء،فهو أي الغشاء يصبح أكثر سماكة، وعنق الرحم تزداد إفرازاته المخاطية،وعضلة الرحم ترتخي وتصبح أكثر مرونة،والأوعية الدموية الموجودة تحت الغشاء المخاطي للرحم تتبارز وتزداد حجماً وتنمو باتجاه لمعة الرحم من أجل زيادة التبادل الغذائي مابين الأم وجنين المستقبل.
ولقد وجد أن البيضة الملقحة المنقسمة في طور الخلية ذات ال8 خلايا(أي توجد 8 انقسامات داخل البيضة الملقحة) تكون الخلايا فيها متشابهة تماماً،ولكن بعد هذا الطور يحدث تمايز خلوي واضح حيث توجد اشكال عديدة للخلايا،وذات وظائف مختلفة، وهذا يسمى في علم الجنين طور التمايز الخلوي،وهذا الطور يحدد كل خلية، وكيف تتطور، وأي نسيج يتكون منها أو عضو، وهذا يعتبر سر من الأسرار الكبيرة للحياة التي مازال العلماء يحاولون كشف وفك بعض رموزها.
وفي اليوم الثاني عشر بعد إلقاح البيضة تتشكل استطالات من البلاستولا،وهذه الاستطالات ينشأ عنها فيما بعد الكيس السلوي والحبل السري والمشيمة.
مواضع التعشيش:Implantation
يحدث التعشيش غالباً في القسم المتوسط من جسم الرحم وخاصة في الجدار الخلفي، وذلك لكون التروية الدموية الشعرية في الرحم غزيرة جداً، وبحيث يكون هناك نوعاً من الإنجذاب من جانب العلقة المتشكلة تجاه الدوران الوالدي.
ويلاحظ أن بطانة الرحم تستعد بعد التلقيح والتخصيب وتشكيل النطفة الأمشاج أي البيضة الملقحة،فتنتفخ بطانة الرحم بسبب استطالة غددها خارجية الإفراز،وتزداد أوعيتها الدموية.ويعرف غشاء باطن الرحم بعد التعشيش باسم الغشاء الساقط.
وثبت أن الأرومة المغذية للبيضة الملقحة تفرز هرموناً هو الهرمون الغدي التناسلي المشيميHCGوهذا الهرمون يحفز إطلاق هرمون البروجسترون من الجسم الاصفر في المبيض والذي يساعد على تثبيت محصول الحمل في بطانة الرحم.
ولقد لوحظ أنه إذا كانت هناك أذيات في الرحم أو بعض التشوهات فإنه قد يحدث أن تعشش البيضة الملقحة في غير المكان الطبيعي المألوف(وهو في القسم العلوي من جسم الرحم أي مايسمى قاع الرحم،أو في القسم الجانبي) ، وإن حدوث التعشيش في أماكن غير مألوفة قد يؤدي إلى حدوث مشاكل كبيرة في تطور الحمل،ومن أهم هذه المشاكل أن يحدث التعشيش أما في عنق الرحم وهذا مايسمى طبياً ارتكاز المشيمة المعيب، وهنا لايمكن أن تحدث الولادة بالشكل الطبيعي بل لابد من إخراج الجنين بالعملية القيصرية،ومن المواضع الشاذة للتعشيش أيضاً كما ذكرنا سابقاً في منطقة النفير وهذا مايسمى الحمل النفيري، ولقد وجد أيضاً أن 90 بالمائة من حالات الحملالهاجر(أي خارج الرحم) يشاهد في نفير الرحم، وفي 60 بالمائة من حالات الحمل النفيري يشاهد في الجزء من النفير المسمى الصيوان أو القمع، ونسبة مشاهدة الحمل النفيري حوالي1/25 ـ 1/80 من حالات الحمل ككل،وإن الحمل النفيري يسبب تمزق النفير وحدوث أنزفة شديدة مهددة للحياة خلال الأسابيع الثمانية الأولى للحمل،وهو قد يهدد حياة الأم الحامل بسبب النزوف الباطنية الخطرة،وهو لايترافق مع استمرار وبقاء محصول الحمل.
وقد يشاهد الحمل الهاجر وفي حالات نادرة في المبيض أو في تجويف البطن(وكلاهما نادر جداً)، ولقد لوحظ في بعض حالات الحمل الهاجر في تجويف البطن أنه قد يستمر فيه الحمل، وأنه قد يلد الجنين بعد جراحة قيصرية، وقد تستمر حياة الوليد ويتابع النمو،ولكن العادة أن الحمل البطني لايترافق مع استمرار الحمل ويشكل خطراً كبيراً وشديداً على الأم لأن المشيمة تلتصق بأعضاء حيوية وتسبب نزوفاً شديدة،وفي حالات نادرة أخرى قد يموت الجنين في الحمل البطني وتحدث موضع وجوده تكلسات وتسمى التكلسات الجنينية.
لماذا لايلفظ الجنين؟:
والسؤال الذي يحير العلماء حتى اليوم ولم يجدوا له جواباً شافياً أن الجسم الإنساني ومن خلال الجهاز المناعي يمنع الانسجة والأجسام الغريبة من البقاء فيه وهذا مايلاحظ في حالات زرع الأعضاء المعروفة وخاصة زرع الكلية أو القلب أو الكبد..ولايمكن احتفاظ الجسم بالعضو المزروع فيه إلا من بعد إعطاء مثبطات المناعة وأحياناً بتراكيز عالية ،فلماذا يبقى محصول الحمل الذي يبتدأ بالنطفة الأمشاج ثم العلقة ثم المضغة ثم الجنين في داخل الرحم ولعدة شهور وبدون أن يحصل نبذ أو طرد له وهو يعتبر جسماً غريباً بالنسبة للأم الحامل؟
هذا اللغز المناعي لم يصل الطب بعد إلى جواب شافي له،فكيف لايلفظ الجسم عند الأم هذا الجنين بأنسجته وأعضائه المختلفة بينما يلفظ كلية مزروعة أو قلباً صغيراً.. وإلى الآن لاتوجد نظرية مقبولة تماماً لتفسير هذه الظاهرة المحيرة، وآخر النظريات أو الفرضيات حول هذا الموضوع أن الخلايا اللمفية للوالدة الأم الحامل والجنين تتعايش مع بعضها البعض وكأنها تشعر بروابط القربى!وهناك دراسات نشرت في المجلة الطبية نيو انغلاند جورنال عام 1986 العدد 315 وحسب دراسات أجريت في جامعة ماك ماستر في مدينة هاملتون في كندا تقول بأن المضغة ـ في الزجاج ـ تفرز عاملاً مثبطاً مناعياً وربما اثنين وهذا العامل المناعي يمنع تفاعلات الرفض لدى الأم الحامل.
وهناك دراسات أخرى أجريت في أمريكا والسويد ذكرت بأن الدم الذي يجري في الحبل السري يحتوي نوعاً من الكريات البيض أسموها الكريات القامعة لأنها تقمع وتثبط عمل وفعالية الكريات البيض لدى الأم والتي تقوم بلفظ الأجسام الغريبة، وهذه الكريات القامعة يقال أنها من انتاج الجنين الذي يناضل من أجل البقاء في الرحم.
ونعود لموضوع العلقة من جديد:
إن الإعجاز العلمي في كلمة العلقة يتجلى فيما يلي:
إن اختيار الله عز وجل لفظ العلقة في هذه المرحلة من مراحل تخلق الجنين فيه من الناحية اللغوية والعلمية مظاهر عديدة من الإعجاز:
1 ـ أنه لايزيد طولها أي العلقة عن جزء ضئيل من الملمتر، وهي غير مخلقة وخالية من الأطراف والأجهزة.
2 ـ أن العلقة تشبه دودة العلق من حيث أنها من خلال خمائرها واستطالاتها التي ترسلها في الغشاء المخاطي للرحم تعمل على مص الدم من هذا الغشاء،وينجم عن تمزق الأوعية الدموية بسبب هذا الفعل تشكل مايسمى البرك الدموية والتي تحصل منها العلقة ومن ثم الجنين على الغذاء والأوكسجين اللازمين لاستمرار حياته،ولقد وصف العالم “هيرتيغ” عام 1968م طبقة السديم الخلوي والتي تنشأ عنها الزغابات المشيمية ووصف طريقة عملها فقال:إنها طبقة غازية، هاضمة، وقارضة ، فهل هناك وصف علمي أدق وأجمل من هذه الصفات الثلاثة التي ذكرها هذا العالم.
3 ـ أن العلقة تكون شديدة العلوق في الغشاء المخاطي للرحم ولايمكن أن تسقط منه عفوياً،وأنها تنطمر فيه انطماراً تاماً بعد اختراقها له وكأنها البذرة قد وُريت بالتراب.وبعد أن تكبر البيضة الملقحة ويتشكل الجنين فإن محصول الحمل يأخذ بالتدلي في جوف الرحم ويكون مرتكزاً في أحد أطرافه على جدار الرحم ويكون ارتكازاً متيناً يحمل هذا الثقل ولاينفك عن جدار الرحم ولايسقط في تجويفه، ويستمر محصول الحمل أي الجنين في الكبر وزيادة الحجم حتى يملأ قسماً كبيرأ من تجويف الرحم ورغم ثقله الذي يصل إلى أكثر من 3 كغ في نهاية الحمل فإنه يبقى شديد العلوق في جدار الرحم
4 ـ اتفاق المعنى اللغوي والطبي معاً بشكل يدعو إلى قمة الإعجاز.
فالذي يحدث فعلاً أن العلقة شديدة العلوق بجدار الرحم،وأنها تسلك مسلك دودة العلق في أنها تمتص الدم والغذاء من هذا الغشاء المخاطي، وأن هذا العلوق يكون شديداً رغم كبر هذه العلقة ونموها السريع المتتالي، وبالتالي حصل الإتفاق في المعنى اللغوي والعلمي، وتبارك الله أحسن الخالقين.
المضغة
الآيات الكريمة:
{يا أيُّها النَّاسُ إن كُنتم في ريبٍ من البعثِ فإنَّا خلقناكُم من ترابٍ ثُمَّ من نطفةٍ ثُمَّ من علقةٍ ثُمَّ من مضغةٍ مُخَلَّقةٍ وغيرِ مُخَلَّقةٍ لنُبيّنَ لكم}[ الحج 5]
{ثُمَّ خلقنا النُطفةَ علقةً فخلقنا العلقةَ مُضغةً فخلقنا المضغةَ عظاماً فكسونا العظامَ لحماً ثُمَّ أنشأناهُ خلقاً آخرَ فتباركَ الله أحسنُ الخالقين}[المؤمنون 14 ]
الأحاديث النبوية الشريفة:
“إنَّ أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يُرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد“[ رواه الشيخان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه]
“ألا وإنَّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإن فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب” [جزء من حديث شريف متفق عليه عن النعمان بن بشير رضي الله عنه]
من الناحية اللغوية:
جاء في” المفردات في غريب القرآن” للأصبهاني:
المضغة: القطعة من اللحم قدر مايُمضغ ولم ينضج، وجعل اسماً للحالة التي ينتهي إليها الجنين بعد العلقة.
وجاء في” لسان العرب“:
المضغة: من اللحم قدر مايُلقي الإنسان في فيه ومنه قيل: في الإنسان مضغتان إذا صلحتا صلح البدن: القلب واللسان، والجمع مُضغ، وقلب الإنسان مضغة من جسده.
التفاسير:
وجاء في تفسير “الظلال” لسيد قطب رحمه الله في تفسير آيات سورة الحج:
” ثم يبقى بعد ذلك تحول سر تلك النطفة إلى علقة،وتحول العلقة إلى مضغة، وتحول المضغة إلى إنسان! فما تلك النطفة؟ إنها ماء الرجل، والنقطة الواحدة من هذا الماء تحمل ألوف الحيوانات المنوية،وحيوان منها هو الذي يلقح البويضة من ماء المرأة في الرحم، ويتحد بها فتعلق في جدار الرحم. وفي هذه البويضة الملقحة بالحيوان المنوي.. في هذه النقطة الصغيرة العالقة بجدار الرحم ـ بقدرة القادر وبالقوة المودعة بها من لدنه ـ في هذه النقطة تكمن جميع خصائص الإنسان المقبل: صفاته الجسدية وسماته من طول وقصر وضخامة وضآلة، وقبح ووسامة، وآفة وصحة…كما تكمن صفاته العصبية والعقلية والنفسية.. من ميول ونزعات، وطباع واتجاهات، وانحرافات واستعدادات. فمن يتصور أن يصدق أن ذلك كله كان في تلك النقطة العالقة؟ وأن هذه النقطة الصغيرة الضئيلة هي هذا الإنسان المعقد المركب،الذي يختلف كل فرد من جنسه عن الآخر، فلا يتماثل اثنان في هذه الأرض في جميع الأزمان؟ ومن العلقة إلى المضغة، وهي قطعة من دم غليظ لاتحمل سمة ولاشكلاً،ثم تخلق فتتخذ شكلها بتحولها إلى هيكل عظمي يُكسى باللحم، أو يلفظها الرحم قبل ذلك إن لم يكن مقدراً لها التمام”.
ومن الناحية العلمية:
يحدث تطور المضغة كما يلي:
حوالي اليوم الرابع من الإخصاب تظهر في الكتلة الخلوية للتوتة(الماريولا) عدة تجاويف، ويتشكل بعد ذلك سائل يمر عبر هذه التجاويف، وبازدياد كمية هذا السائل والذي يأتي غالباً من تجويف الرحم فإنه يفصل هذه الخلايا إلى طبقتين:
1 ـ الطبقة الخلوية الخارجية(Trophoblast) : وهذه ينشأ عنها فيما بعد المشيمة.
2 ـ الطبقة الخلوية الداخلية(Embryoblast) وهذه ينشأ عنها فيما بعد المضغة بالذات.أي الجنين والسلى والكيس المحي فيما بعد.
وابتداءً من هذه المرحلة يسمى محصول الحمل الكيسةالمصورة(Blastocyst).
وفي اليوم الخامس وحتى السادس تصل البلاستولا إلى غشاء باطن الرحم وعندما تلامس هذا الغشاء فإن الطبقة الخلوية المغذية الخارجية ترسل استطالات سريعة النمو، وتنقسم هذه الطبقة بحد ذاتها إلى قسمين أو طبقتين:
1 ـ الطبقة الداخلية وتسمى الطبقة الخلوية المغذية(Cytotrophoblast)
2 ـ الطبقة الخارجية وتسمى الطبقة الخلوية السديمية(Syncytiotrophoblast)
وهذه الطبقة الخارجية الأخيرة عبارة عن تجمع خلوي يحتوي العديد من النوى بشكل السديم،حيث لاتوجد أغشية خلوية تفصل بين هذه الخلايا،ومن هذا السديم الخلوي ينشأ فيما بعد الاستطالات التي تنغرس في بطانة غشاء الرحم وتغزو لحمته(Stroma) وتسمى فيما بعد بالزغابات المشيمية.
ويطلق العلماء اسم المضغة على محصول الحمل ابتداء من الاسبوع الثاني من التلقيح وذلك بعد أن يكون قد تشكل اللوح المضغي، وتمتد فترة المضغة حتى نهاية الاسبوع الثامن من الإخصاب وتلقيح البيضة.
وإن طور المضغة له أهمية خاصة في علم الطب حيث أنه في هذا الطور قد تحدث أذيات خاصة قد ينشأ عنها مايسمى طبياً اعتلال المضغة.
واعتلال المضغة يُعرّف بأنه الأذيات غير الوراثية التي تصيب المضغة أثناء تطورها(18 ـ 85 يوم بعد الإلقاح) وهذا يُفرّق ويُميّز عن اعتلال الجنين.
وهذه الأذيات التي تصيب المضغة قد تكون بسبب فيروسات وخاصة الحصبة الألمانية، أو بسبب نقص الأوكسجين وخاصة بسبب إصابة الأم ببعض الأمراض القلبية أو الصدرية، أو بسبب بعض أذيات المشيمة، أو قد يكون بسبب بعض السموم أو الأذيات الفيزيائية أو بسبب بعض الأدوية أو المخدرات أو تناول الغول والمسكرات أو بسبب التعرض للأشعة السينية.. أو بسبب بعض الأمراض الإستقلابية عند الأم ومنها داء السكري.. وينجم عن هذه الأذيات تشوهات قد تصيب الأطراف أو العينين أو الأذنين إو حدوث اصابات قلبية عند المضغة، وقد ينجم عنها حصول الإسقاط.
وزمن حدوث هذه الأذيات أثناء طور المضغة ذو أهمية خاصة في أشكال التشوهات وشدتها التي تصيب أعضاء المضغة، لأن كل عضو من أعضاء المضغة له زمن تطور معين وبالتالي نوع الأذية حسب العضو المصاب وزمن إصابته ومدى تطور هذا العضو.
ويتميز دور المضغة أيضاً بالصفات التالية:
1 ـ انتهاء الاعتماد على العلوق:
يصبح محصول الحمل ذو ثقل واضح أكبر من تحمل منطقة ارتكازه في جدار الرحم،وبالتالي فإن متانة الرحم وخاصة الانغلاق في عنق الرحم يلعب دوراً هاماً في تثبيت محصول الحمل، وفي بعض الأمراض التي تترافق مع قصور عنق الرحم تحدث اسقاطات وخاصة في النصف الثاني من طور الحمل.
2 ـ تشكل المشيمة:
والتي توفر للمضغة ثم للجنين فيما بعد الغذاء والأوكسجين ابتداءً من الاسبوع الثاني عشر من الحمل،والمشيمة عبارة عن قرص لحمي دموي وظيفته التغذية فقط، ولا علاقة للمشيمة بتطور أعضاء المضغة أو الجنين.
3 ـ الصعود إلى البطن:
بعد الاسبوع الثاني عشر من الحمل يصعد الرحم باتجاه البطن بعد أن كان حوضياً محاطاً بالعظام من كل جانب.
وهناك ملاحظة: حسب مااستعرضنا من مراحل تطور المضغة فإنها تصل في نهاية الشهر الثالث إلى حجم يتجاوز مقدار مايُمضغ كما ذهب إليه الكثير من المفسرين، وهنا لابدّ أن أُنوّه وأُذكر بالحديث النبوي الصحيح والمتفق عليه والذي رواه المحدثون عن الصحابي الجليل النعمان بن بشير رضي الله عنه“إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإن فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب“.
فالمضغة تكون في بداية تشكلها فعلاً ذات حجم صغير قد لايتجاوز مقدار مايُمضغ من قطعة اللحم كما جاء في التعريف اللغوي، ولكنها في نهاية طور تشكلها تكون ذات حجم يبلغ أضعاف مضاعفة من بداية تشكلها، وهنا يفيد الرجوع إلى حديث النبوي المروى عن النعمان بن البشير للأخذ بالتعريف النبوي للمضغة.
المضغة المُخلَّقة وغير المُخلّقة
الآيات الكريمة:
{يا أيُّها الناسُ إن كنتم في ريبٍ من البعثِ فإنّا خلقناكُم من ترابٍ ثمَّ من نُطفةٍ ثُمَّ من علقةٍ ثُمَّ من مُضغةٍ مُخلَّقةٍ وغيرُ مُخلَّقة لِنُبيّنَ لكم ونُقِرٌّ في الأرحام ما نشاء إلى أجلٍ مسمى ثُمَّ نخرجكم طفلاً}[ الحج 5 ]
التفاسير:
تباينت التفاسير في موضوع المُضغة المُخلّقة وغير المخلقّة، فالإمام الحسن البصري وهو أحد سادة التابعين قال: المخلقة: المصورة، وغير المخلقة: هي غير المصورة.
والصحابي الجليل عبد الله بن عباس ترجمان القرآن رضي الله عنهما قال:المخلقة: تامة الخلق، وغير المخلقة : غير تامة الخلق.
وقال آخرون:المخلقة:تامة الخلقة لاعيب فيها ولانقص، وغير المخلقة:أي بها عيب ونقص.
وقال آخرون: المخلقة: هي الجنين والمضغة، وغير المخلقة: السقط الذي لم تكتب له الحياة(الطبري والخازن والنسفي والألوسي والزمخشري..)
ومن الناحية العلمية:
بعد أن تُلقح البيضة فإنها تبدأ مباشرة بالإنقسام وبشكل سريع1 ـ 2 ـ 4 ـ 8 ـ 16 وهكذا..إلى أن تأخذ البيضة الملقحة المنقسمة عدة مرات شكل ثمرة التوت(Morula) ومن هذه التوتة تأخذ خلايا الطبقة السطحية بتشكيل ما يسمى طبقة الخلايا المغذية(Trophoblast) ومن هذه الطبقة بالذات تتميز طبقتان:
الطبقة الباطنة الخلوية Cytotrophoblast: وهذه ينشأ عنها فيما بعد خلايا وأنسجة وأعضاء الجنين، والطبقة الخارجية الظاهرة وتسمى Synyctiotrophoblast، وهذه الطبقة هي المسؤولة عن حفر غشاء باطن الرحم المخاطي والذي أصبح يسمى الآن الغشاء الساقط”لأنه يسقط عند الولادة”، وتحفر النطفة الأمشاج مسكناً لها في الغشاء الساقط.
وفي هذا السياق يظهر تجويف في التوتة ملئ بسائل فتصبح التوتة بشكل كيسة وتدعة الكيسة المصورة(Blastocele) وتكون محاطة بالطبقة المغذية المذكورة في القسم الظاهر الخارجي، وتحتوي على كتلة خلوية في الداخل يتشكل منها المخلوق الجديد.
أي أنه يوجد نوعان من الخلايا: خلايا مغذية غير مميزة، وخلايا مميزة وهي الخلايا الداخلية للتوتة ومن هذه ينشأ ويتمايز ويتخلق عنها الجنين ويتصور أنسجة وأعضاء.
ومن هذه الخلايا المُصورة للمضغة وأعني بها الخلايا الداخلية للتوتة فإنه ينشأ عنها أيضاً مجموعتان من الخلايا:
1 ـ الخلايا الخارجية وتسمى الوريقة الخارجية(Ectoderm) وهذه تشكل عند الجنين فيما بعد الجلد والاشعار والأظافر والحواس والجملة العصبية.والأغشية المخاطية في الفم والأنف ..
2 ـ أما الخلايا الداخلية وتسمى الوريقة الداخلية(Endoderm فإنه ينشأ عنها فيما بعد عند الجنين جهاز الهضم والغدد الملحقة به كالكبد والبنكرياس، وكذلك المجاري التنفسية وبعض الغدد الصماء كالغدة الدرقية وجار الدرقية.
3 ـ ثم تنشأ مابين الورقتين الخارجية والداخلية، طبقة متوسطة وتسمى الوريقة المتوسطة(Mesoderm) وهذه ينشأ عنها فيما بعد القلب والأوعية الدموية والعضلات الملس والمخططة والعظام ونقي العظم والغضاريف وغشاء الجنب والتأمور والصفاق(البريتوان) والكليتين ,ادمة الجلد الداخلية وقسم من الغدد الصماء.
إذاً مايحدث هنا أنه يتشكل لدى المضغة نوعان من الأنسجة:
1ـ جزء مُخلّق ومُصوّر: وهو الذي يتشكل منه الجنين بأنسجته وأعضاءه المختلفة
2 ـ جزء غير مُخلّق: وهو عبارة عن المشيمة والحبل السري وهما لاعلاقة لهما بتشكل أنسجة الجنين وأعضاءه وإنما وظيفتهما فقط تغذية الجنين وتأمين الاستقلاب والأوكسجين والحماية وهذان الجزءان المُخلّق وغير المُخلّق يرتبطان معاً من خلال الحبل السري.
فالإعجاز يتجلى هنا في عدة نواحي:
1 ـ من المعروف في علم الجنين أن هناك خلايا من النشأة الأولى تكون مهيأة للنمو وتشكيل أنسجة وأجهزة وأعضاء الجسم المختلفة، وهناك خلايا أخرى لاعلاقة لها بهذا التمايز الشكلي المورفولوجي أو الوظيفي وإنما مهمتها فقط بتوفير الغذاء والحفظ والوقاية، فالأولى ذات اختصاص وتميز(مخلقة)، والثانية ليس لها هذا التميز(غير مخلقة).
2 ـ أن هناك خلايا يتشكل منها المضغة والجنين فهي خلايا متميزة،وخلايا ينشأ عنها المشيمة والحبل السري والسائل السلوي ووظيفتها التغذية والوقاية والحماية وهي خلايا غير متميزة .
3 ـ ويمكن القول أيضاً أن طور المضغة يمر بمرحلتين: المرحلة الأولى والتي لم يتشكل فيها بعد أي عضو أو جهاز”المضغة غير المخلقة”،والمرحلة الثانية حيث يتشكل فيها الأنسجة والأعضاء وتتميز وظيفياً وشكلياً “المضغة المخلقة”،وفي طور المضغة المتخلقة يبدأ تخلق الجهاز التناسلي ويبدأ التمايز الجنسي للجنين.
4 ـ في كتاب التشريح التطوري يقول العالم الدكتور ليزلي: “في الجنين تتمايز الخلايا على حسب برامج زمنية مختلفة،فمنها مايتمايز بسرعة ويسير في طريقه إلى نهايته المرسومة له، ومنها مايسير ببطء في هذا التمايز، ومنها مايتوقف بعد السير ثم يواصل سير التمايز. وتبقى مجموعة من الخلايا غير متمايزة إلى أخر العمر وتشكل الأحتياطي الذي يمكن أن يحتاج إليه في كل لحظة.
أي أن هناك نوعان من الخلايا:خلايا ذات وظيفة خاصة بالتغذية والوقاية والحماية وهي خلايا غير متميزة وينشأ عنها المشيمة والحبل السري والسائل السلوي أو الصائي(الامنيوسي) وهذه تتشابه في صفاتها مابين الحيونات العديدة من الثدييات والإنسان،وهناك خلايا متمايزة خاصة ينشأ عنها خلايا وأنسجة وأعضاء الجنين والتي يختلف من جنس لآخر.
ومن الخلايا في الطبقة المغذية يتم افراز بعض الهرمونات ومنها هرمون النمو والذي يساعد على بقاء ونمو الجسم الأصفر والهام لاستمرار الحمل، ومن هذه الطبقة المغذية أيضاً تنشأ وتتكون الاستطالات والزغابات المشيمية والتي تنشأ عنها فيما بعد المشيمة،وكذلك فإنه من الطبقة الخارجية للكيسة المصورة(البلاستولا) يتكون الحبل السري والذي يصل مابين المضغة والمشيمة.
ملاحظة:(تقول العرب:قد انقطع السِّلى في البطن: فالسلى من المرأة والشاة مايلتف فيه الولد في البطن كما جاء في الكامل للمبرد ج1 ص27)
المشيمة Placenta
المشيمة أو السُحذ:
عبارة عن عضو دائري مسطح استقلابي يتصل بالجنين هن طريق الحبل السري،غني بالأوعية الدموية،وتُشكّل صلة الوصل مابين المضغة ولاحقاً الجنين من جهة،والأم من جهة أخرى،ولها شكل القرص،ويصل وزنها عند الولادة حوالي نصف كغ ،أي حوالي سدس وزن الوليد، ويوجد في كل سم2 مربع من المشيمة أكثر من مائة زغابة مشيمية،وهذا يهيئ سطحاً استقلابياً وتبادلياً واسعاً مابين الأم والجنين.
يبلغ طول المشيمة لدى الأنثى الحامل حوالي 22سم،ويبلغ سمكها 2 ـ 2,5 سم.ووزن المشيمة حوالي 500 غرام،وتكون بلون أحمر تشوبه الزرقة أو بلون كستنائي.
تلتصق المشيمة بجدار الرحم،وعادة في أعلى الرحم أو بجانبه أو بالجزء الامامي أو الخلفي منه(الجدار الخلفي العلوي هو المكان الانسب لوجود المشيمة).وفي حالات نادرة قد تلتصق المشيمة بالمنطقة السفلية من الرحم وهذا ما يعرف باسم ارتكاز المشيمة المعيب وهذا له نتائجه الضارة وخاصة عند الولادة.ولوحظ أن هذا الارتكاز المعيب قد يكون له علاقة مع سن الحامل حيث يشاهد غالباً عند من تجاوزت الأربعين من العمر.
إن المشيمة تبقى محافظة على وظائفها وبشكل جيد لمدة 40 اسبوعاً فقط،فإذا ماتأخر الوضع فإن الإحتياجات الغازية(الاوكسجين) والغذائية التي يحتاجها الجنين قد لاتكون كافية، وإن الجنين الذي يولد بعد الحمل المديد الطويل قد يصاب بآفات (قد تكون دائمة وشديدة)أو ذو فرصة ضئيلة في استمرار الحياة.
وكما ذكرنا فإنه لايحدث اتصال مباشر والتحام مابين الدوران الوالدي والجنيني،وإنما هناك حاجز ويسمى بالحاجز المشيمي والذي يتألف من طبقات ثلاثة رقيقة:
البطانة الوعائية المضغية
نسيج الزغابات المشيمية الضام
وطبقة الخلايا المغذية
ومن خلال هذا الحاجز المشيمي تمر الأغذية والمُستقلبات،وهذا الحاجز المشيمي يلعب دوراً هاماً في التصفية والرشح،ويحول دون الجراثيم وغيرها من العضويات والكائنات الدقيقة من الوصول إلى الجنين،كما يمنع بعض المواد الكيماوية وسواها من الوصول إلى دم الجنين،وهو لهذا من أمنع الحواجز الراشحة.
أهم وظائف المشيمة:
1 ـ هي بمثابة جهاز الهضم للجنين:
حيث تؤمن له حاجياته الغذائية الضرورية، وما يحتاج إليه من الفيتامينات، ويتم ذلك عن طريق اختيار المواد الجائلة في الدم الوالدي ويسمح لها بالحلول.
يقول ابن الرومي:
جرى قلم القضاء بما يكونُ فسيان التحرك والسكونُ
جُنونُ مِنكَ أن تسعى لِرزقٍ ويُرزقُ في غشاوتهِ الجنينُ
إن المواد تعبر عن طريق المشيمة بإحدى الوسائط التالية:
أولاً: التفشي البسيط:
وهو عبور المواد من التراكيز الأعلى إلى التراكيز الأخفض، وهذا يعتمد على الحجم الجزيئي للمادة والقدرة الشاردية والقدرة على الإنحلال بالدسم.
إن سكر الدم الوالدي أعلى منه عند الجنين،وإن ارتفاع سكر الدم لدى الأم يليه ارتفاع سكر الدم لدى الجنين،ولكن بما أن الأخير يعود بسرعة إلى تركيزه الطبيعي فإن سكر الدم عند الجنين إما أن يُحرق أو يختزن في أنسجة الجنين.
ثانياً:التفشي المُسهَّل:
يعتمد على تركيز المادة وممال التركيز،ولكنه يسرع ببعض العوامل كما هو الحال بالنسبة لسكر العنب والسكريات الأخرى التي تعبر المشيمة بهذه الواسطة.
ثالثاً:النقل الفاعل:
ويحدث عكس الممال الكيماوي ـ الكهربي،وهو بحاجة إلى طاقة لتسهيل العبور،وهذا ينطبق خاصة على عبور ونقل الفيتامينات والحموض الأمينية عبر المشيمة.
رابعاً:البلعمة.
ويمكن للمشيمة أن تدخر بعض الفيتامينات وخاصة:A وC وD ،وتعطيها للجنين عند الضرورة.
كما أن المشيمة وخاصة في أوائل الحمل تصنع الغليكوجين والكولسترول،والحموض الدسمة،فهي تعتبر مصدراً للتغذية وتوليد القدرة بالنسبة لمحصوا الحمل.
والمشيمة تلعب دوراً مماثلاً لإنبوب الهضم حيث يتم عبرها امتصاص الكثير من المواد الغذائية والسوائل،فلقد تبين أن الماء يمر بسرعة وبشكل حر مابين الأم والجنين ويزداد هذا التبادل مع تقدم الحمل،وتمر الفيتامينات وبسرعة أيضاً عبر المشيمة وهي هامة لنمو الجنين،والفيتامينات المنحلة بالماء مثل الفيتامين C وB المركب تمر بسرعة أكبر من الفيتامينات المنحلة بالدسم وهي A،،E،وK.
إن الفيتامين A يمر من المشيمة ويختزن في كبد الجنين،وإن عوز هذا الفيتامين الحاد قد يسبب تشوهات عند الجنين.
وأما الفيتامين C فإنه يمر من الأم إلى الجنين بشكل مستقلبه المسمى دي هيدرواسكوربيك أسيد وهذا بعد عبوره المشيمة تصطاده الكريات الحمراء لدى الجنين بسرعة.
أما الفيتامين K فإنه يمنع حدوث النزيف الدموي عند الجنين،وإن عوز هذا الفيتامين يعتبر من أهم أسباب تناذر النزيف الوليدي بعد الوضع.
كما أن سكر العنب(الغلوكوز) يمر بسرعة عبرالمشيمة، ويعتبرسكر العنب المصدر الرئيسي للقدرة وتوليد الطاقة في العمليات الاستقلابية في خلايا الجنين،وهو هام جداً من أجل تطور ونمو الجنين.
وإن هرمون الإنسولين الضروري جداً في عمليات الإستقلاب لايصل إلى الجنين عن طريق الدم الوالدي(أي أنه لايعبر المشيمة) وإنما يتم إفرازه من خلايا بنكرياس الجنين.
2ـ وهي بمثابة الجهاز التنفسي للجنين:
حيث يتم عن طريق المشيمة تبادل الغازات مابين الدورانين: الوالدي والجنيني،وخاصة فيما يتعلق بغازي الأوكسجين وثاني أوكسيد الفحم.
وإن تبادل الغازات عبر المشيمة مابين الأم والجنين يتم بواسطة التفشي البسيط، وإن انقطاع مناقلة وتبادل الأوكسجين عبر المشيمة ولعدة دقائق فقط يسبب خطراً شديداً على الجنين ويسبب وفاته أو الحاق أذيات شديدة فيه.
ولقد تبين علمياً أنه يمر إلى الدوران الرحمي حوالي 20 ـ 35 مل من الأوكسجين في الدقيقة في أواخر الحمل،وأن نصف هذه الكمية يمر إلى الجنين،وبالتالي يمكن أن تعتبر المشيمة بمثابة الرئة بالنسبة إلى الجنين.وإن نقص الاوكسجين(الهيبوكسميا) عند الجنين ينجم بصورة رئيسية عن العوامل التي تسبب نقصاً في الدوران الرحمي ومنها هبوط الضغط الشرياني الحاد والنزوف الشديدة والتشنج الوعائي الشديد،أو بسبب نقص الدوران الجنيني.
إن الضغط القسمي للأوكسجين عند الجنين منخفض جداً إذا ماقورن مع الإنسان الكهل، وبحيث يمكن أن يقال أن الجنين في رحم أمه وكأنه يعيش على قمة “جبل إيفرست”،وإن انقطاع الحبل السري بعد الولادة والوضع يؤدي إلى ارتفاع تركيز غاز ثاني أوكسيد الفحم وهذا يسبب عند الولادة لبكاء الطفل لأن البكاء ليس إلا حركات شهيقية تستهدف طرد الفائض من هذا الغاز وتنشيط الدوران والتنفس.
3 ـ وهي بمثابة الجهاز البولي(الكلية) للجنين:
حيث تقوم المشيمة بطرح السموم التي تنجم عن استقلاب خلايا الجنين وتوصلها إلى دوران الأم،كما أن المشيمة تحافظ على مستوى التوازن الحمضي ـ القلوي في دم الجنين.
إن المفرغات وحواصل الاستقلاب مثل حمض ثاني أوكسيد الفحم فإنه يعبر المشيمة وبشكل أسرع من الأوكسجين،وكذلك فإن البولة الدموية وحمض البول يعبران المشيمة إلى الدوران الوالدي بطريقة التفشي البسيط وتفرغان مع بول الأم.
4 ـ وهي بمثابة الجهاز المناعي:
حيث تمثل المشيمة مايُسمى الحاجز المناعي الدفاعي الذي يمنع وصول الكثير من الجراثيم والفيروسات والطفيليات إلى دم الجنين،كما أن المشيمة تنقل الأجسام المناعية(الأضداد) من الأم للجنين.
إن الأضداد الوالدية تمر إلى الجنين عبر المشيمة وتحدث لدى الجنين مناعة منفعلة وخاصة منها الأضداد من نوع الغلوبولينات المناعية كاما والتي تمر بكمية كافية إلى الجنين، وهذه المناعة المنفعلة المكتسبة والتي يكتسبها الجنين من الأضداد الوالدية تعطيه الوقاية تجاه العديد من الأمراض وخاصة الخانوق(الدفتريا) والجُدري والحصبة ،ولكن الجنين لايكتسب مناعة مكتسبة منفعلة تجاه أمراض أخرى ومنها السعال الديكي أو الحماق،ولذا فإنه لايندر إصابة الوليد بعد الولادة بالسعال الديكي وقد تكون الإصابة لديه شديدة،بينما من النادر إصابة الوليد في الأشهر الستة الأولى بعد الولادة بالحصبة أو الخانوق.
5 ـ وهي بمثابة الغدة الصماء:
حيث تقوم المشيمة بإفراز بعض الهرمونات،وخاصة ابتداء من الشهر الرابع من الحمل،ومن أهم هذه الهرمونات نذكر الأستروجين، والبروجسترون وهرمون الغونادوتروبين.وهذه الهرمونات من أهم وظائفها : تثبيت الحمل، ومتابعة نمو الرحم،والتحضير لإفراز الحليب من غدة الثدي،والتحضير لعملية الولادة والوضع.
وتقسم الهرمونات التي تفرزها المشيمة إلى:
1ـ الهرمونات البروتينية: وأهمها الغونادوتروبينHCG(وهو المؤشر الذي تبث عنه اختبارات الحمل وهو المسؤول عن تثبيت الحمل وذلك لأنه يحافظ على بقاء الجسم الاصفر في المبيض خلال الأشهر الثلاثة الاولى من الحمل)، وإن هذا الهرمون أي الغونادوتروبين تفرزه خلايا السديم الخلوي ابتداء من الإسبوع الثالث أي بعد عدة أيام من التعشيش للنطفة الأمشاج في جدارالرحم ويصل تركيز هذا الهرمون إلى ذروته في دم وبول الأم في الاسبوع الثامن من الحمل ثم ينخفض تدريجياً.وإن ارتفاعه الشديد يشاهد في الحمل التوأمي وفي مرض الرحى العداريةHydatiform mole،ويرتفع بنسبة عالية جداً في الورم الكوريوني البشريChoriocarcinoma.
ومن الهرمونات التي تفرزها المشيمة نذكر الهرمون المحرض على إفراز اللبنHuman Placentag Lactogen ويسمى أيضاً هرمون السوماتوتروبين المشيمي وهذا الهرمون مسؤول عن توفير أكبر قدر من الجلوكوز إلى الجنين،وحيث يزيد من مقاومة الأم لللإنسولين،وبالتالي ترتفع نسبته في دم الجنين.كما أن هذا الهرمون يحرض انحلال الشحوم وارتفاع مقدار الحموض الدسمة الحرة في الدوران الدموي عند الجنين.
كما تفرز المشيمة هرمون النمو والذي يساعد على نمو المشيمة وتطورها.
2 ـ الهرمونات الستيروئيدية:وخاصة منها البروجسترون والأستروجين،وإن البروجسترون يتم افرازه من المشيمة في جميع مراحل الحمل مما يدل على أهميته في تثبيت الحمل. وتحل المشيمة محل المبيض والجسم الأصفر في إفراز البروجسترون وخاصة بعد الثلث الأول من الحمل،ولذا فإن استئصال المبيض بعد الثلث الأول من الحمل لايسبب خطراً على الحمل ولايحدث الإسقاط.والبروجسترون يمنع تقلص عضلة الرحم وبالتالي يساعد على تثبيت الحمل.وأما مستقلب البروجسترون في المصورة فهو البريغنانديول
والاستروجين يساعد على بناء بطانة الرحم.وتزداد كمية الاستروجين في دوران المرأة الحامل باطراد من بداية الحمل وحتى نهايته ثم تتراجع بعد الولادة.وأكثر من نصف كمية الهرمون في دم الحامل منذ الاسبوع السابع من الحمل يأتي من المشيمة.
وبالإضافة إلى تشكيل الهرمونات من قبل المشيمة فإنه قد يعبر عن طريقها بعض الهرمونات من الدوران الوالدي،ولقد وجد أن الهرمونات البروتينية لاتصل إلى الجنين بكميات تذكر ماعدا هرمون الغدة الدرقية أي الثيروكسين والتري يود ثيروكسين،أما الهرمونات الستيروئيدية فإنها تمر وبشكل أسرع من الدوران الوالدي إلى الجنين،والخطورة هنا أنه إذا استعملت الحامل بعض الهرمونات المذكرة وخاصة التي تطبق في معالجة بعض الأورام والسرطانات وخاصة منها هرمون التستيرون فإنها تعبر المشيمة إلى الجنين وتسبب اضطرابات جنسية عند الجنين الأنثى.
المشيمة والأدوية:
وأما بالنسبة للأدوية فإن معظم الأدوية تعبر المشيمة ولكن سرعة عبورها تعتمد على عدة عوامل :
1 ـ الوزن الجزيئي للدواء: فإن المواد التي يقل وزنها الجزيئي عن 600 تعبر المشيمة بسهولة وأما التي تتجاوز 1000 فإن الإجتياز والعبور عبر المشيمة يتم بصعوبة، والقسم الأكبر من الأدوية يقع وزنه الجزيئي مابين 200 ـ 400
2 ـ طبيعة المادة الدوائية:إن الأدوية المنحلة بالدسم تمر عبر المشيمة بسهولة، وأما الأدوية الأخرى غير المنحلة بالدسم فيصعب عليها المرور إلا إذا أعطيت بتراكيز عالية.
3 ـ ارتباط الدواء ببروتينات البلاسما الدموية:إن الأدوية التي لاترتبط ببروتينات البلاسما الدموية أسهل عبوراً من التي ترتبط ببروتينات البلاسما.
ولنتكلم بالتفصيل عن أهم الأدوية وعبورها للمشيمة:
1 ـ المميعات الدموية:
إن كل المميعات الدموية تعبر المشيمة ماعدا مادة الهيبارين( وبالتالي يمكن إعطائه للحامل عند اللزوم),وإن إعطاء هذه المميعات ـ ماعدا الهيبارين ـ قد يسبب نزوفاً خطيرة عند الجنين،كما تبين أيضاً أن مادة “الوارفرين” قد تسبب تشوهات عند الجنين ومنها نقص تصنع الأنف، وتشوهات غضروفية، والتأخر العقلي، وضمور العصب البصري، والصعل(صغر الرأس والدماغ).
2 ـ المسكنات:
إن الأسبرين وبكميات كبيرة يمكن أن يشكل ضرراً على المضغة،كما أن مادة التاليدومايد قد تسبب تشوهات شديدة وخاصة نقص أو انعدام الأطراف،وتشوهات أذنية وفي القلب وجهاز الهضم.
3 ـ الصادات الحيوية:
يحذر خاصة من إعطاء مركبات التتراسيكلين لأنها تعبر المشيمة وتسبب ترسبات في العظام والأسنان مع حدوث تصبغات،كما لاينصح بإعطائها للأطفال ماقبل سن البلوغ للأسباب ذاتها.
كذلك لايعطى مركبات الستربتومايسين(يعطى لعلاج السل) لأنه قد يسبب تشوهات وخاصة نقص السمع عند الجنين.
أما البنسلين فهو غير ضار إذا أعطي للحامل ويمكن إعطائه عند اللزوم.
4 ـ المهدئات ومضادات الصرع:
إن مركبات الليثيوم تسبب تشوهات مختلفة وخاصة على مستوى القلب والأوعية الكبيرة، ومادة الفنتوئين قد تسبب الصعل والتأخر العقلي.
5 ـ قاتلات الخلايا:
تسبب معظمها تشوهات عظمية واسعة،وتشوهات عصبية وانعدام الدماغ وخاصة منها مادة الأمينوبترين،وأما مادة البوسولفون فهي تسبب اضطرابات النمو وتشوهات عظمية وكثافات قرنية،وحدوث الشراع المشقوق في سقف الحلق، وأما مادة الميثوتريكسات فإنها تسبب تشوهات عديدة في الأطراف والوجه والعمود الفقري.
6 ـ الهرمونات المذكرة(الاندروجينات):
تسبب متلازمة التذكير عند الجنين الأنثى، وظهور اعضاء تناسلية خارجية مضاعفة(مذكرة ومؤنثة) وفرط نمو البظر.
7ـ الأدوية الأخرى:
إن بعض المركبات الدوائية قد يكون لها تأثيراً مشوهاً وضاراً للجنين ونذكر منها الأدوية التي تستعمل في معالجة بعض الأمراض ومنها بعض العقاقير والتي تستعمل كمضادة للقيئ، وبعض الأدوية التي تعطى لمعالجة الداء السكري ومنها عقار التولبوتاميد، وبعض الأدوية في علاج بعض أمراض الغدة الدرقية(المسلعات)، وبعض الهرمونات وخاصة التستوستيرون والكورتيزون،وبعض مضادات الضغط ومنها مركب الرزربين.
كما أن بعض المسكنات والمخدرات التي تستعمل أثناء الولادة وخاصة المورفين والبه تيدين والتي تعطى قبيل ساعات من الولادة قد يكون لها تأثيرأ سلبياً على الوليد وخاصة الجهاز التنفسي والتنفس عند الولادة”تأثير مثبط للتنفس”.كما أن بعض المخدرات (الأم المدمنة) ومنها الهيروئين يمكن أن تعبر المشيمة إلى الجنين وتسبب لديه الإعتياد.كما أن النيكوتين والغول يعبران المشيمة إلى الجنين ويسببان لديه اضطرابات ومنها نقص حجم الجنين والوليد عند الولادة بسبب النيكوتين واعتلال المضغة الغولي.
ويمكن القول أنه ينصح ما أمكن بعدم إعطاء الأدوية للحامل إلا عند الضرورة القصوى، وخاصة في الثلث الأول من الحمل وذلك لأن معظم الأجهزة والاعضاء يتم تشكلها في هذا الوقت،وأما بعد النصف الثاني من الحمل فإن التأثيرات الجانبية الدوائية تتركز بشكل خاص على الجملة العصبية والجهاز العصبي الذي يتأخر تشكله .
وكما ذكرنا فإن عملية التبادل مابين الجنين والأم عن طريق المشيمة يتم من خلال دورانين منفصلين تماماً لايتداخلان مع بعضهما، فكل دوران مستقل بذاته ولاتتداخل الأوعية الدموية مع بعضها وإنما يفصل مابين الدورانين نسيج ضام وخلايا عديدة.وتزداد درجة التروية الدموية في المشيمة أثناء الحمل،حيث يقدر أن جريان الدم عند المرأة غير الحامل يقدر ب 20مل بالدقيقة، ويرتفع عند الحامل ليبلغ حتى 1000 مل بالدقيقة ويذهب بمعظمه إلى المشيمة.
ومن الناحية العلمية فإن الرحم يختلف عن باقي الأعضاء في الجسم من ناحيتين:
1 ـ أنه قليل التروية الدموية: وبالتالي لايتأثر وظيفياً كثيراً في حالات نقص الأوكسجين، ولكن الأمر يختلف في حالة الحمل لإن الجنين يتأثر وبشدة من نقص أكسجة الدم.
2 ـ إن تروية الرحم لاتتعلق فقط بالحركة الدنمية للجريان الدموي بل إن لها علاقة مع مقوية عضلة الرحم،وعلى هذا فإن المركبات التي تؤثر في هذه المقوية يمكن أن تسبب زيادة أو نقص التروية حسب آلية تأثيرها.
وفي بعض الأمراض يشاهد مايُسمى قصور المشيمة، ونعني به نقص نفوذية المشيمة للأوكسجين والمواد الغذائية والمستقلبات،وهذا يسبب بطء نمو الجنين وتطوره، وفي بعض الحالات وخاصة في حالات عوز الأوكسجين الشديد قد يموت الجنين. ومن أهم أسباب قصور المشيمة ارتفاع التوتر الشرياني عند الحامل والداء السكري والتدخين.
ومن أمراض المشيمة الخطيرة ما يسمى انفكاك المشيمة الباكرPlacenta Abruption،حيث يتم انفصال المشيمة جزئياً أو كلياً من جدار الرحم قبل الولادة وهذه حالة خطيرة قد تسبب وفاة الجنين، أو الولادة المبكرة للجنين.ويشاهد هذا الانفكاك في الثلث الثالث من الحمل عادة،ولكنه قد يشاهد في أي وقت بعد الاسبوع العشرين من الحمل.ويترافق هذا مع النزيف المهبلي،مع شعور الحامل بآلام في ناحية البطن أو الظهر،وهنا لابد من الفحص السريع للحامل والمعالجة السريعة.
وبعد الوضع والولادة يلفظ الرحم المشيمة والتي تُسمى الساقط(الخلاص) وذلك خلال 15 ـ 30 دقيقة من الولادة، وإن بقاء أجزاء ولو بسيطة من المشيمة داخل الرحم بعد الولادة قد يسبب نزوفاً شديدة ومضاعفات خطيرة ومنها حدوث الالتهابات والإنتانات النفاسية، ولذا لابد من فحص المشيمة جيداً بعد الولادة والتأكد من كونها تامة وغير ناقصة.
الحبل السري Umbilical Cord
هو حبل أو قناة يصل مابين الأم والجنين، ويسمى أيضاً هلام وارتون،وهو عبارة عن نسيج ضام مخاطي يحتوي على خلايا مصورة لليف،ويتألف من مادة أساسية غزيرة هلامية.
ووظيفته نقل الفضلات التي تتكون في جسم الجنين إلى دورة الأم الدموية،وخاصة مواد البول وغاز ثاني أوكسيد الكربون.
وهو يتألف تشريحياً من شريانين ووريد”عكس القاعدة المعروفة في الجهاز الدوراني عند الإنسان إذ أن كل شريان يرافقه وريدان،أما هنا فيوجد شريانان يرافقهما وريد واحد”، ولكن هذا الشريان والذي يكون شرياناً من الناحية التشريحية إلا أنه من الناحية الوظيفية فله وظيفة الوريد،أي أن الدم الشرياني في الحبل السري يكون فقيراً بالأوكسجين وغنياً بالفضلات وغاز ثاني أوكسيد الفحم،بينما القاعدة أن الدم الشرياني على عكس الوريدي غني بالأوكسجين قليل الفضلات”.
إن تدفق الدم عن طريق الحبل السري يقارب 35مل بالدقيقة عند الاسبوع العشرين من الحمل،ويرتفع إلى 240 مل بالدقيقة عند الاسبوع الأربعين.
ويبلغ طول الحبل السري عند الولادة 50 ـ 60 سم وبسماكة 2سم ،وعند الولادة يقوم الطبيب بقطع الحبل السري مع مراعاة أن يكون القطع على مسافة لا تقل عن 5 سم من بطن المولود.
وفي بعض الحالات يكون الحبل السري طويلاً جداً وهذا يشاهد في حوالي 7% من الحالات وفي هذه الحالة يخشى من التفاف الحبل السري حول عنق الجنين والذي قد تكون له بعض العواقب وخاصة عند الولادة.
ويتساقط الجزء المتبقي من الحبل السري بعد 7 ـ 10 أيام من الولادة ولايبقى منه عند الوليد إلا ندبة في البطن تسمى السرة.
وفي السبعينيات من القرن الماضي تم استحداث وسيلة تخزين دم الحبل السري وهذا يعتبر “شيفرة” في علاج بعض الأمراض المستعصية، حيث أن الخلايا الجذعية Stem Cells المستخلصة من الحبل السري وهي خلايا شبيهة بخلايا نقي العظم، وهي يمكن أن تساعد على انتاج خلايا العظام والغضاريف والعضلات بالإضافة إلى خلايا الكبد والخلايا التي تشكل بطانة الأوعية الدموية،يمكن الاستفادة منها في معالجة بعض الأمراض وخاصة بعض أمراض الدم وأمراض المناعة وبعض السرطانات.ومن أجل ذلك أنشئت بنوك لجمع وتخزين دم الحبل السري.
ومن الناحية الفقهية فإن دار الإفتاء في مصر أباحت تخزين الحبل السري للمولود لاستخدامه في علاج بعض الأمراض بشرط أن يكون هذا بعيداً عن البيع والشراء والتجارة.
السائل السلوي أو الصائي(الامنيوسي):Amniotic Fluid
ينشأ ويتكون في الشهر الثالث من الحمل ويوجد داخل الكيس الأمنيوسي, ويتكون بمعظمه من الدوران الوالدي الذي يرشح عندما يتجاوز الغشاء السلوي،وقسم بسيط منه يتشكل من مفرغات الجنين وخاصة البول،وبحيث أن الجنين يتبول في الجوف الأمنيوسي المحيط به فيشكل بوله أهم مصادر السائل السلوي وبحيث يقال” إن الجنين يسبح في بوله الممدد “.وهذا السائل يحتوي أيضاً على البروتينات والكربوهيدراـوالدهون،والدهون الفسفاتية،والشوارد.
وابتداء من الاسبوع 8 ـ 11 يقوم الجنين بابتلاع السائل والتبول فيه.
وفي نهاية الحمل فإن حوالي نصف لتر من بول الجنين يضاف للسائل السلوي.ويزداد حجم هذا السائل بالتدريج،حيث يصل إلى حوالي 30 مل في الاسبوع العاشر، و350 مل في الاسبوع العشرين،وحوالي اللتر في الاسبوع السابع والثلاثين من الحمل،ثم ينقص الحجم وبسرعة.
يتركب السائل السلوي بنسبة تصل 98 ـ 99 بالمائة من الماء والخلايا الوسفية من الجنين وبعض المركبات العضوية والأملاح،وإن قلة السائل السلوي(دون 400 مل) في الثلث الثالث من الحمل يحدث غالباً بسبب قصور المشيمة وبالتالي نقص التروية المشيمية، وكذلك في حالات غياب الكلية عند الجنين(لنقص افراغ البول عند الجنين)، وأما فرط السائل السلوي(أكثر من 2 لتر) فإنه يدل غالباً عن وجود تشوهات في الجملة العصبية المركزية للجنين،وخاصة انعدام الدماغ،أو بسبب وجود تشوهات أخرى وخاصة انسداد المري عند الجنين،ويتراكم السائل السلوي هنا لأنه لايمر إلى معدة الجنين وأمعائه ولايمتص هناك. كما أن الحمل العديد(عدة أجنة) قد يترافق مع فرط السائل السلوي.
وتدل الدراسات على أن ماء السائل السلوي يتغير ويتبدل كل 3 ساعات وذلك مابين الدورانين الوالدي والجنيني عبر غشاء المشيمة،وأن ابتلاع الجنين للسائل السلوي يعتبر عملية فيزلوجية طبيعية، وهذا الماء يمر إلى المعدة والأمعاء ويمتص هناك،وأما الماء الممتص فإنه يفرغ من قبل الكلية إلى الجوف السلوي، ويمتص مرة ثانية من قبل الجنين وهكذا…وبحيث ينظم حجم السائل السلوي باستمرار.
كما أن قسماً من السائل السلوي يصل إلى القصبات والرئتين.
يوجد هرمون الرينين بتركيز عال في السائل السلوي وأكبر منه في الدوران الوالدي ويعتقد بأن هذا الهرمون يفرز من قبل كلية الجنين.
كما أن السائل السلوي يحتوي على عدد من الخلايا المضغية،ويمكن بواسطة بزل السائل والحصول على هذه الخلايا معرفة جنس الجنين بدراسة الكروماتين الجنسي”جسيم بار” وكذلك الكشف عن بعض أمراض وتشوهات الجنين.
كما أن السائل السلوي يحتوي على الخلايا الجذعية وهي قادرة على التمييز إلى الأنسجة المختلفة.والتي يكون لها دور علاجي كما ذكرنا سابقاً.
وفي نهاية الحمل تبلغ كمية السائل السلوي التي يبلع الجنين حوالي 400 مل يومياً.
وظيفة السائل السلوي:
1 ـ يُمكِّن الجنين من النمو الخارجي المتناظر.
2 ـ يقي من حدوث التصاقات مابين محصول الحمل أي الجنين والأغشية المجاورة.
3 ـ يقي الجنين من الصدمات والرضوض التي قد تتعرض لها الحامل،حيث أن هذا السائل يوزع الضغط وبشكل متساوي على الجنين في حالات الرض أو الصدمات التي يتعرض لها البطن والرحم،وهذا يبدو بشكل جلي وخاصة أثناء الوضع والمخاض وحدوث تقلصات الرحم وهذا يتبع تماماً لمبدأ باسكال المشهور في ضغط السوائل.
4 ـ يحافظ على حرارة جسم الجنين بشكل ثابت.
5 ـ يُمكِّن الجنين من الحركة بسهولة داخل الرحم، وهذا يفيد في النمو العصبي والعضلي للجنين.كما أنه مهم من أجل أن يتخذ الجنين الوضعية النهائية له قبل الولادة‘ فإذا لم تكن الوضعية نظامية اي مايسمى المجئ القمي، كانت الولادة عسيرة، وقد تعرض حياة الأم والجنين للخطر‘ فالسائل السلوي يسهل حركة الجنين وأخذ الوضع المناسب وخاصة قبيل الولادة.
6 ـ يساعد السائل السلوي أثناء الولادة حيث أنه يوسع فوهة عنق الرحم”مايسمى بجيب المياه” وهو جيب يتكون اسفل الرحم عند فوهة العنق وينشأ من ضغط السائل على أغشية الجنين وعندما ينفجر هذا الجيب”يقال بالعامية ماء الرأس انفجر” فإن هذا يحرض المخاض وينبه تقلصات عضلة الرحم.
7ـ يمكن إجراء بعض الفحوص الهرمونية أو الخلوية على السائل السلوي، وهذا يفيد في معرفة جنس الجنين والتحري عن بعض الأمراض الصبغية(الكروموزمات) والتشوهات مثل متلازمة داون(داء المنغولية).
صفات السائل المنوي
أولاً: ماء دافق
ـ {فَلينظر الإنسانُ مِمَ خُلِقْ* خُلِقَ من ماءٍ دافق}[الطارق 5 ـ 6]
إن عملية الدفق للسائل المنوي تحدث من الناحية الطبية أثناء النشوة الجنسية،فعند ممارسة الجنس وبسبب حدوث التنبيهات الجنسية الواردة من الحشفة(رأس عضو الذكر) والإحليل الخلفي والمراكز العصبية المجاورة،يتم تنشيط المنعكس البصلي الكهفي في قضيب الإنسان،وبسبب نشاط هذا المنعكس فإنه تحدث تقلصات منتظمة في قناة الأسهر(القناة الناقلة للنطاف)، وكذلك في الحويصلين المنويين”مخزنا النطاف واللذان يتوضعان في الحوض عند جذر القضيب بين المثانة والبروستات”، وغدة البروستات،،وهذا يؤدي لحدوث الدفق للسائل المنوي في جوف المهبل للأنثى عند الجماع.
وتُوجّه عملية الدفق الجملة العصبية المركزية،ويوجد مركز الدفق المنوي في النخاع الشوكي القطني “في المنطقة الأولى او الثانية من النخاع القطني” والذي تسيطر عليه مراكز دماغية علوية،وفي حال وجود بعض أذيات العمود الفقري والنخاع الشوكي وخاصة على مستوى العمود القطني”الصلب” فإنه قد يحدث دفق منوي بدون وجود تنبيه جنسي،وفي بعض أذيات العمود الفقري الظهري قد يحدث دفق بدون وجود وصول للذروة أي النشوة الجنسية،وقد يحدث في بعض الحالات دفق منوي عفوي وخاصة ليلي.
إن عملية الدفق المنوي الطبيعي لها علاقة مع العوامل النفسية،ولها علاقة ايضاً مع العصب الودي(السمباتي)، ولذا يترافق الدفق والإنزال المنوي مع تبدلات في الدوران والتنفس والقلب فيحدث تسرع في القلب وتزداد حركات التنفس.
وقد يحدث أحياناً مايسمى الإنزال أو الدفق المبكر(سرعة الإنزال)، أو على العكس قد يشاهد الإنزال أو الدفق المتأخر، والسبب في الحالتين غالباً وجود اضطرابات نفسية المنشأ.أما عدم حدوث الدفق أو حدوث مايسمى الدفق أو الإنزال الراجع(أي اندفاع السائل المنوي باتجاه المثانة بدلاً من الإحليل) فهذا غالباً يدل على اضطرابات جنسية عضوية المنشأ أو بسبب تناول بعض الأدوية.
وهنا لابد من التذكير بالفرق مابين السائل المنوي الذي يدفق ويخرج عقيب الجماع أو الاحتلام ومابين المذي والذي هو عبارة عن سائل رقيق أبيض يخرج عند الشهوة والملاعبة وهو لا يحتوي على الحيوانات المنوية وإنما ينجم عن إفرازات البروستات والغدتين البصلتين الأحليلية”غدد كوبر”، وهذا السائل لاصلة له بالتخلق أو تلقيح البويضة.
وكذلك لابد من التفريق مابين السائل المنوي الذي يخرج عقب الجماع ومايسمى الودي، وهو سائل كدر ثخين يخرج عقيب التبول ومنشأه أيضاً غدة البروستات ويشترك معه بقايا بعض الرواسب التي تنطلق أخر البول، وهو أيضاً سائل لايحتوي على الحيوانات المنوية.
مما ذكر يتبين أن عملية الدفق والإنزال للسائل المنوي هي عملية تحدث وليس للإنسان الخيار في حدوثها إذا وصل إلى مرحلة النشوة والذروة الجنسية أثناء الجماع أو أحياناً بسبب الاحتلام ورؤيا المنام، وهنا نعود للآية الكريمة حيث تصف هذا الماء بأنه “ دافق“، أي اسناد الدفق للماء،مما يدل على أنه ليس مدفوقاً بإرادة الشخص، فقال “دافق” ولم يقل” مدفوق” أي أن الخصوصية في هذا الماء، وبحيث لو أراد الإنسان أن يوقف هذا الماء عن الدفق عند حدوثه لما استطاع،ولأنه كما ذكرنا يحدث أيضاً بسبب بعض الأمراض التي تصيب العمود الفقري والنخاع الشوكي، ولأنه كما ذكرنا أيضاً يحدث بدون إرادة الإنسان بسبب الاحتلام الليلي وبدون أن يكون للعقل الواعي أي دور هنا.
وهناك ملاحظة أخرى: إن الماء الذي يخرج من جراب دوغراف حاملاً معه البيضة من المبيض إلى النفير”الإباضة” يكون أيضاً بشكل دافق وانفجاري، ولذا تسمى عملية الإباضة، أي قذف البيضة واندفاقها مع السائل الأصفر المحيط بها واندلاقها في نفير الرحم الذي يحيط بها وخاصة بقسمه الصيواني القمعي الشكل بعد انفجار جراب دوغراف وهنا يتجلى أيضاً الإعجاز النبوي حين يأتي في الحديث الصحيح “ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيقٌ أصفر،فأيهما سبق أشبهه الولد“.[أخرجه النسائي وابن ماجة وأحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه وقال الألباني حديث صحيح]
ثانياً : سائل مهين
{ألم نخلقكم من ماءٍ مهين}[ المرسلات 20 ]
{ثُمَّ جعل نَسلَهُ من سُلالةٍ من ماءٍ مهين}[ السجدة 8]
من الناحية اللغوية:
يقول الشاعر أبو نواس:
سُبحانَ من خَلق الخل ق من ضعيفٍ مهينِ
يَسوقهُ من قرارٍ إلى قرارٍ مكينِ
يَحولُ شيئاً فشيئاً في الحُجبِ دُونَ العيونِ
حتى استوت حركاتٌ مخلوقةٌ من سُكونِ
ويقول صفي الدين الحلي:
أتطلبُ من أخٍ خلقاً جليلاً وخَلْقُ الناس من ماءٍ مهين
فسامح إن تكدّرَ ودخلٍ فإنّ المرء من ماءٍ وطين
من الناحية الشرعية:
يقول الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله في تفسير سورة عبس:
“فالمرتبة أو المحطة الأولى تتمثل في قوله تعالى{من أيِّ شئٍ خلقه}وهو استفهام، وغرضه زيادة التقرير في التحقير،كما قال الإمام الرازي، ثم أجاب عن ذلك الاستفهام بقوله{من نطفةٍ خلقهُ فقدَّره}، ولاشك أن النطفة ـ وهي ماء الرجل الذي يلقح بويضة المرأة ـ شئ حقير مهين، في حجمه الذي لايرى إلا بالمجهر،وفي مظهره الخارج من مجرى البول،ولذا قال تعالى{ألم نخلقكم من ماءٍ مهين}[المرسلات20].وليس الغرض من هذا تحقير الإنسان،فما بهذا جاء القرآن الذي كرم الإنسان غاية التكريم،ولكن الغرض منه أن يذكر الإنسان ان من كان أصله من مثل هذا الماء المهين، فإن التكبر والتجبر لايكون لائقاً به.
ويقول الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله:
“وصفه الله بأنه”مهين” لأنه يجري في مجرى البول،ويذهب مذهبه إذا لم يصل إلى الرحم،وفي هذا الماء المهين عجائب،ويرحم الله العقاد حين قال:إن أصول ذرات العالم كله يمكن أن توضع في نصف كستبان الخياطة،وتأمل كم يقذف الرجل في المرة الواحدة من هذا المقدار؟إذن:المسألة دقة تكوين وعظمة خالق،ففي هذه الذرة البسيطة خصائص إنسان كامل،فهي تحمل:لونه،وجنسه، وصفاته،ألخ..”.
ويقول الشهيد سيد قطب في الظلال:
“من ماء النطفة الذي هو المرحلة الأولى في تطور الجنين:من النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى العظام إلى كمال التكوين الجنيني،في هذه السلالة التي تبدأ بالماء المهين.وإنها لرحلة هائلة حين ينظر إلى طبيعة التطورات التي تمر بها تلك النقطة الضائعة من ذلك الماء المهين. حتى تصل إلى الإنسان المعقد البديع التكوين،وإنها لمسافة شاسعة ضخمة بين الطور الأول والطور الأخير”.
قال الحسن البصري:”كيف يتكبر من خرج من سبيل البول مرتين” يعني مرة حين كان نطفة، ومرة عند الولادة”.
من الناحية العلمية:
يحتوي السائل المنوي على ما يلي:
1 ـ النطاف
2 ـ خلايا من الغدد التناسلية ومن المجاري المنوية.
3 ـ حبيبات من الدسم والبروتين.
4 ـ نوعان من الأمينات الحيوية وهما مادة سبيرمين، ومادة سبيرميدين، وهما اللتان تعطيان السائل المنوي رائحته المميزة والخاصة.
5 ـ سكر الفركتوز:ويشكل منبع الطاقة والقدرة من أجل حركة النطاف.
6 ـ البروستاغلاندينات:وهذه المواد يمكن أن تنبه الرحم وتساعد على تقلصه،وهذا يساعد أثناء الجماع على رشف النطاف وامتصاصها إلى داخل الرحم والنفير.
ويعتبر تفاعل السائل المنوي قلوياً بسيطاً، وهذه الطبيعة القلوية تُمكّن النطاف من مقاومة بيئة المهبل الشديدة الحموضة، لأن البيئة الحمضية تُعطل حركة النطاف.
والسائل المنوي سائل مخاطي لزج يتم إفرازه من البربخ والحويصلين المنويين والبروستات،بينما يتم تشكيل النطاف في الخصيتين.
أثناء الدفق والإنزال فإن كمية 3مل من السائل المنوي تحتوي على حوالي 200 ـ 300 مليون نطفة،أي أن النطاف لاتشكل أكثر من 1 بالمائة من حجم السائل المنوي.
إن الحويصل المنوي يُكوِّن حوالي 60 بالمائة من تركيب السائل المنوي،والبروستات 30 بالمائة، والبربخ 5 ـ 10 بالمائة. أما تركيز النطاف في هذا السائل فإنه في الحالات العادية الطبيعية يكون 40 مليون/مل، وإذا كان العدد دون 20 مليون/ مل فإنه لايحدث الإخصاب.وإن كل دفقة من السائل المنوي تحوي أكثر من 80 مليون نطفة، ولابد عند الفحص المجهري أن يكون أكثر من 80 بالمائة من هذه النطاف في وضعية الحركة أثناء الساعة الأولى من الفحص المجهري، و50 بالمائة يجب أن تكون بوضعية الحركة أثناء 2 ـ 4 ساعات عند الفحص.ومن الناحية الشكلية لابد أن يكون 60 بالمائة من النطاف على الأقل تحوي رؤوساً بيضاوية الشكل، فإذا كان العدد أقل من 30 بالمائة دل على وجود أذيات صبغية(كروموزمية)
إذاً فإن عدد النطاف وتركيزها في السائل المنوي، وكذلك حركتها،وشكلها، يلعب كل ذلك دوراً هاماً جداً في عملية الإلقاح والإخصاب، وإلا فإن وجود اضطرابات على أي مستوى من المستويات المذكورة”العدد، الحركة، الشكل” يمكن أن يؤدي لحدوث العقم.
وإن كمية السائل المنوي لها علاقة مع الدفق وتواتره، فإذا حصل الدفق والإنزال بعد فترة راحة جنسية 3 ـ 5 أيام فإن كميته في الحالة العادية 2 ـ 6 مل، وإذا كانت الكمية أقل من 6مل فقد يوجه الشك نحو وجود التهاب البروستات والحويصل المنوي،وكذلك إذا كان تفاعل السائل المنوي شديد القلوية “أكثر من 8″، وإذا كان لون السائل بعيداً عن اللون الحليبي فإنه قد يوجه أيضاً لوجود التهاب في البروستات والحويصل المنوي، وإذا كان لون السائل المنوي محمراً فإنه قد يوجه لوجود نزيف في المجاري البولية التناسلية،وإذا كان مصفراً مخاطياً قد يشير لوجود التهاب قيحي، وإذا كان تفاعل السائل المنوي حمضياً”أقل من 7″ قد يوجه نحو وجود اختلاط السائل المنوي مع البول، وكذلك إلى انسداد القناة الواقعة مابين الحويصل المنوي والبروستات.
كما أنه يمكن أن تُجمد النطاف في مادة النتروجين السائل وبدون أن تحصل عليها أذيات ولعشرات السنين”بنك النطاف” حيث تُجمد النطاف بدرجة 79 تحت الصفر،وبنك النطاف يوجد منذ عام 1996، ومن أهم فوائده ادخار النطاف لدى بعض المرضى مثل أورام الخصية الذين يعالجون بقاتلات الخلايا أو يتعرضون للعمل الجراحي، أو لدى بعض المرضى أو العاملين المعرضين للأخطار بعض المواد الكيماوية في مكان العمل.ويمكن الاحتفاظ بهذه النطاف في تلك البنوك لعشرات السنين.
بينما يمكن الأحتفاظ بها أي النطاف بضعة أيام في مزارع خاصة بدرجة 4ْ”أطفال الأنابيب”.
هذه بعض المعلومات التي تتعلق بصفات السائل المنوي، والآن نعود إلى الآيات الكريمة التي تصف هذا السائل بالماء المهين، فهو مهين حقا:
1 ـ لأن هذا السائل بصفاته وتركيبه ليس فيه عناصر القدرة والإرادة، وليس فيه إمكانية التشكل والتطور بحد ذاته، ومع ذلك يتكون منه الإنسان، وإذا نظرنا إلى الجنس الذي هو أدنى منا أي الحيوانات الثديية فإنه أيضاً تتشكل من ماء دافق، ومع ذلك وعلى عكس الإنسان يخرج حيواناً لا فكر له ويظل في المرتبة الأدنى، وهنا يخرج إنساناً بكل الخصائص المتميزة العالية، فالمسألة ليست مسألة الماء الدافق وإنما هي الإرادة الإلهية التي تقف خلق هذا الكائن العظيم المسمى بالإنسان.
2 ـ وهو مهين : لأنه إذا لم تلتق البيضة مع النطفة خلال ساعات قليلة،أي إذا لم تلقح البيضة خلال 8 ـ 12 ساعة من انطلاقها من المبيض فإنها تموت،وكذلك الأمر بالنسبة للحيوانات المنوية فإنها تواجه الموت والفناء بملايينها العديدة وخلال 3 ـ 5 أيام على أبعد حد، سواء تم التلقيح لإحدى النطاف منها أو لم يحدث التلقيح.
3 ـ وهو مهين:لأنها ملايين من النطاف تتحرك وتسرع إلى هدفها، ولكن واحدة منها فقط هي التي تلقح البيضة وينشأ عن ذلك النطفة الأمشاج، وأما الباقي فلا فائدة منه ويلاقي الهلاك المحتوم.
4 ـ وهو مهين:لأن هذه الملايين من النطاف لاتشكل أكثر من 1 بالمائة من مجموع حجم السائل المنوي، فهي أشبه بنقطة في بحر.
5 ـ وهو مهين: لأن عناصر الحياة فيه أي النطاف لاتقوم بدورها إلا بمساعدة غيرها لها،فلولا سكر الفركتوز لما استطاعت هذه النطاف على الحركة،ولولا بيئة السائل القلوية لأصابها الهلاك ولما استطاعت مقاومة بيئة المهبل شديدة الحموضة،ولولا عناصر التغذية التي تصل إليها من الأعضاء التناسلية وخاصة البربخ والموثة”البروستات” لما استطاعت الاستمرار في الحياة.
6 ـ والأهم من كل هذا أن النطفة أي الحيوان المنوي هي الخلية الوحيدة في الجسم مع البيضة والتي تحتوي على نصف عدد الصبغيات”23 صبغياً” بدلاً من 46 في باقي خلايا الجسم الإنساني،وإن اتحادها مع البيضة وتكوين النطفة الأمشاج”46 صبغياً” هو الذي يمكنها من التكاثر والانقسام الخلوي والاستمرار في الحياة كباقي خلايا الجسم الأخرى.. فهي إرادة الله ومشيئته أن تعيش النطفة بهذا الشكل المؤقت “المشوه” ولعدة ساعات وأيام حتى تلاقي البيضة فإذا لم يحدث هذا كتب على هذا الشكل ” المشوه المهين” الفناء وعدم البقاء.
ثالثا: ” وخُلِقَ الإنسان ضعيفاً”
يقول تعالى:{وخلق الإنسان ضعيفاً}[النساء28]،ويقول تعالى:{اللهٌُ الَّذي خلقكم من ضَعفٍ ثمَّ جعلَ من بعدِ ضعفٍ قوَّةً ثم جعلَ من بعد قوّةٍ ضَعفاً وشَيبة يخلق ما يشاءُ وهو العليمُ القديرُ}[الروم 54].
إذا رجعنا إلى عناصر تشكيل الإنسان: أي النطفة والبيضة، وجدنا أن هذا الإنسان العظيم الكريم الذي كرّمه الله وجعل له الخلافة في الأرض وسخر له كل شئ، واصطفاه على كل مخلوقاته التي تعيش معه، إن هذا الإنسان يتم تكوينه بفضل الله ومشيئته من عنصرين هما من أضعف مخلوقات الله وبدون مبالغة: النطفة والبيضة.
وكما ذكرنا سابقاً فإن النطفة المذكرة لايبلغ طولها أكثر من 60 مكرون (7 مكرون بدون الذنب)، ووزنها يعادل واحد من مليار من الغرام، وسرعتها 18 سم في الساعة، ومنها مع البيضة يتكون الجنين ثم الوليد والذي يصل وزنه عند ولادته حوالي 3250 غرام أي أن الوزن قد ازداد بين المرحلتين حوالي 3000 مليار مرة، ومن هذه النطفة الأمشاج التي تنقسم وتتكاثر تتكون أنسجة الجنين وأعضاءه المختلفة، والتي يحتوي كل نسيج منها على مئات الألوف بل ملايين الخلايا، ومن هذه النطفة ومن هذه البيضة اللتين لاتستطيعان الإعتماد على الذات، ومن هذين المخلوقين الضعيفين يتكوّن هذا الإنسان، هذا المخلوق العظيم الذي سُخرت له السموات والأرض ومَن عليها بإذن الله، ومن هذين المخلوقين الضعيفين تكوّن هذا الإنسان الذي يعتبر كل نسيج في جسمه وكل عضو من أعضائه آية من آيات الإعجاز والإكبار، والحديث عن هذا المخلوق العظيم الذي اسمه الإنسان والذي نشأ من هذين المخلوقين الضعيفين أعني النطفة والبيضة هو حديث لاينتهي ولعلي فقط استرجع بعض الكلمات التي ذكرها الشهيد سيد قطب رحمه الله تعالى في قوله تعالى{ اللهُ الذي خَلقكُم من ضَعفٍ ثُمَّ جعلَ من بعد ضعفٍ قُوَّةً ثُمَّ جعلَ من بعد قُوَّةٍ ضَعفاً وشَيبة يخلقُ مايشاءُ وهو العليمُ القدير}[ الروم 54 ].
يقول الشهيد سيد قطب في الظلال:
“الله الذي خلقكم من ضعف،ولم يقل خلقكم ضعافاً أو في حالة ضعف،إنما قال:”خلقكم من ضعف” كأن الضعف مادتهم الأولى التي صيغ منها كيانهم.والضعف الذي تشير الآية إليه ذو معان ومظاهر شتّى في تكوين الإنسان.
إنه ضعف البنية الجسدية الممثل في تلك الخلية الصغيرة الدقيقة التي ينشأ منها الجنين.ثم في الجنين وأطواره وهو فيها كلها واهن ضعيف.ثم في الطفل والصبي حتى يصل إلى سن الفتوة .
ثم هو ضعف المادة التي ذرأ منها الإنسان:الطين.الذي لولا نفخة من روح الله لظل في صورته المادية أو في صورته الحيوانية،وهي بالقياس إلى الخلقة الإنسانية ضعيفة ضعيفة.
ثم هو ضعف الكيان النفسي أمام النوازع والدفعات والميول والشهوات التي لولا النفخة العلوية وما خلقت في تلك البنية من عزائم واستعدادات لكان هذا الكائن أضعف من الحيوان “.
ويقول الشيخ العلامة محمد متولي الشعراوي رحمه الله:
“وما هو ضعف الإنسان؟
الضعف هو أن تستميله المغريات ولا يملك القدرة على استصحاب المكافأة على الطاعة أو الجزاء على المعصية،لأن الذي تتفتح نفسه إلى شهوة ما يستبعد غالباً خاطر العقوبة،وعلى سبيل المثال لو أن السارق وضع في ذهنه أن يده ستقطع إن سرق،فسيتردد في السرقة،لكنه يقدر لنفسه السلامة فيقول: أنا أحتال وأفعل كذا وكذا كي أخرج.
إذن فضعف الإنسان من ناحية أن الله جعله مختاراً تستهويه الشهوات العاجلة،لكنه لو جمع الشهوات أو صعد الشهوات فلن يجد شهوة أحظى بالهتمام من أن يفوز برضاء ولقاء الله في الآخرة”.
ويقول الأستاذ الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة في كتاب الأخلاق الإسلامية ج1 ص370:
“وصف الله الإنسان بأنّهُ خُلق ضعيفاً، وبأنه خُلق من ضعف.ومن أجل ذلك كلّفه الله مراعياً ضعفه،ووضعه موضع المسؤولية والمؤاخذة مع مراعاة الواقع فيه،وفتح له أبواب الغفران والعفو والتوبة مراعاة لهذا الواقع فيه،وخّفف عنه التكاليف لذلك.وضعف الإنسان يشمل الضعف الجسدي، والضعف النفسي، وضعف العزيمة والإرادة، وضعف القدرة على الضبط الدائم تجاه دوافع نفسه وغرائزه وشهواته وأهوائه.
ويقول معقباً على الآية 54 من سورة الروم{الله الذي خلقكم من ضعف..} :
“فهذه الآية تدل على أن خلق الإنسان قد كان من ضعف،أي من عنصر الضعف لا من عنصر القوة،وما خُلق من ضعف فلابد أن تستمر فيه جذور الضعف،ولو مُنح شيئاً من القوة بعد ذلك.فأصلهُ الضعف والشئ يرجع إلى أصله،وتنزع فيه باستمرار عوامل أصله.والقوة القليلة المحدودة التي يملكها حينما يبلغ مرحلة النضج في تكوينه لاتزيل جذور الضعف في أعماق نفسه،فعناصر الضعف الكثيرة فيه لاتفارقه.
ويتابع:”وعناصر ضعف الإنسان تظهر في جسده، فَرُبّ جرثومة لايدركها الطرف قتلته أو جعلته طريح الفراش،يصرخ ويصيح، ويتلّوى من شدة الألم، ولربما أسرع لنجدته أمهر الأطباء، وجلبوا له ماملكوا من دواء،فما استطاعوا أن يشفوه مما نزل به من داء،أو يصرفوا عنه ماحلَّ به من بلاء.ورُبّ جرعة سمّ قتلته وهو في أوج قوته،ورُبّ إبرة اصابت منه مقتلاً فسقط صريعاً، ورُبّ ريح باردة أقعدته أو قتلته،ورب لفحة سموم فعلت فيه مثل ذلك.
وعناصر ضعف الإنسان تظهر في نفسه وسلوكه الإرادي،فرب نظرة حلوة ملكت قلبه وهواه، وأسرته وهو في عنفوان قواه،ورب شهوة أخضعته وأذلته، وفي دار معرة وهوانٍ أحلته.إذا عضّ عليه الجوع أو العطش تضجرن وإذا مرت الساعات على غير مايهوى تذمر.إذا مسه الشر كان من ضعف صبره جزوعا،وإذا مسه الخير كان من ضعف إرادته عن مقاومة شحه منوعا،فهو ضعيف هلوع.
ويتابع:”وتظهر في الإنسان حالات ضعفه إذا نقص عنه الغذاء ففقد قوة الحركة وقوة العمل وقوة التفكير،وإذا شعر أنه بحاجة إلى رغيف الخبز وشربة الماء.وإذا علم أنه ربما انسد من مسالك جسمه مسلك فهلك أو كادن وربما تخثرت نقطة دم فيه فقتلته،أو انفجرت نقطة دم في دماغه فأهلكته،أو سدت ذرة تراب عرقاً أو مجرى من مجاري عروقه فأقضت مضجعه،أو جاءته سكتة قلب فصرعته.وتظهر في الإنسان حالات ضعفه إذا نزل به المرض،أو حلّ به البلاء،أو فاجأته المصيبة،أو استبد به الهوى،أو استولت عليه الشهوة،أو تمكن منه سلطان الحب الآسر،والشغف القاهر،أو داهمته المزعجات، أو حلت به المؤلمات،أو هزه الخوف، أو اشتد به الطمع،أو تعرض لأحوال النسيان والخطأ،أو عجز عن الصمود تجاه الإكراه بقوة فوق قدرته.وحسب الإنسان ضعفاً أنه عرضة لأن ينسى بعد العلم،ويجن بعد العقل،ويمرض بعد كمال الصحة،ويشيخ ويهرم بعد الشباب، وأنه لابد أن يموت بعد الحياة، فليعرف قدره،وليقف عند حده،وليعبد ربهن حتى يأتيه اليقين الذي هو الموت”.
ويقول الأستاذ الدكتور محمد لطفي الصباغ رحمه الله في كتابه”الإنسان في القرآن الكريم” حول الآية 28 من سورة النساء{يريدُ اللهُ أن يُخَفِّفَ عنكم وخُلِقَ الإنسانُ ضعيفاً} يقول:
“الإنسان ضعيف…إي والله!!
إنها حقيقة يقرّرها ربنا عزّ وجلَ، يجب أن نذكرها دائماً،حتى لاتطغينا الحالة التي نحن فيها من صحة أو غنىً أو قوة،فنجاوز الحدود التي ينبغي ان نلتزمها،وحتى لانركن إليها فنقع فيما لاتحمد عقباه.
الإنسان ضعيف. هذه حقيقة لاينكرها عاقل،ولكن أكثر الناس ينسونها وهم في خضّم الحياة سابحون.
مسكين ذاك الإنسان، ينسى أولئك المخدوعين المغرورين من أمثال فرعون وهامان وقارون والنمرود. أين هؤلاء؟ بل أين الطغاة المتأخرون الذين كانوا ملء سمع الدنيا وبصرها من أمثال هتلر وموسوليني وستالين وأضرابهم؟
لقد طواهم الردى،ولفّهم النسيان، وصاروا إلى ماقدموا، ولم يبقوا إلاّ ذكرى محفوفة باللعنة محاطة بالازدراء.
ما أضعف الإنسان إذا قيس بالمخلوقات الأخرى.إن معظم الحيوانات العجماوات تولد فتمشي على الأرض فوراً أو بعد وقت يسير،وتقضي ضروراتها من طعام ورضاعة وشراب بنفسها. أما الإنسان فإنه يولد عاجزاً لا يقوى على الحركة، ولولا أن يقيض الله له من يرعاه لمات جوعاً وعطشاً.
نعم ابتدأ خلقك يا ابن آدم بالضعف، وتنتهي حياتك بالضعف، وبين هذين الضعفين قوة محدودة موقوتة،هذا إن تيسرت لك الصحة والعافية من الأمراض.
والضعف أنواع: منها ضعف القوة الجسمية وهذا الذي يتبادر الذهن إليه عند قراءة الآيات.
ومنها الضعف النفسي فما أكثر مانرى من الأشداء قوماً ضعفت نفوسهم ومرضت،لايستطيعون السيطرة على هذه النفوس،فهم إذا تراءت شهوة لهم اتبعوا أنفسهم هذه الشهوة حتى يحققوها،وقد تجني عليهم تلك الشهوة جناية عظمى في الدنيا والآخرة،لايسرون ولايفرحون بل هم في اكتئاب وقلق وعذاب.
ومن أنواع الضعف ضعف القلب،يفقد المصاب به القوة التي يواجه بها الخوف والإرهاب،وإنه لينهار أمام تلك المخاوف والاخطار ويستسلم ويكون أضعف من ضعيف.
وهناك ضعف في التفكير والتدبير،لاسيما ومجال الرؤية والنظر محدود بعوامل زمنية، وحدود مكانية، وضرورات اقليمية.فلا يستطيع المرء أن يتجاوز كل تلك العقبات.فأنت تراه يقدر ويخطط وقد يكون هلاكه في ذاك التخطيط والتقدير.
الإنسان مخلوق من ضعف وصائر إلى الضعف، وليتذكر الإنسان مم خلق…قال تعالى:{خَلقَ الإنسانَ من نطفةٍ فإذا هوَ خَصيمٌ مبين}[النحل4]، وقال سبحانه:{أو لم يرَ الإنسانُ أنّا خلقناهُ من نُطفةٍ فإذا هوَ خصيمٌ مبين*وضربَ لنا مثلاً ونَسيَ خلقه قال من يُحيي العظام وهي رميم}[يس 77 ـ 78].
لننظر إلى هذه النقلة البعيدة من “نطفة” إلى”خصيم مبين”.
إن هذا الإنسان الضعيف يجب أن يذكر حقيقته الضعيفة أمام قوة الله،فلايجاوز حدّه ولايطغى ولايبغي ولايعتدي، ولايستخدم ما آتاه الله من قوة وسلطة ليؤذي أحداً من عباد الله…لأنه ربما تعرض إلى مثل مايتعرض الناس له من قبله.
إن الإنسان ضعيف، وضعفه صفة لازمة له، فإذا مرّ في حالة من القوة فعليه ألاّ يغترّ بذلك لكيلا يندم في الدنيا والآخرة”.
“أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون”
{أفرأيتم ماتُمنون* أأنتم تخلقونهُ أم نحن الخالقون}[ الواقعة 58 ـ 59]
{ألم يَكُ نُطفةً من مَنيٍّ يُمنى}[القيامة 37]
{من نطفةٍ إذا تُمنى}[ النجم 46].
التفاسير:
يقول سيد قطب رحمه الله في الآيات من سورة الواقعة{أفرأيتم ما تمنون}:
“إن دور البشر في أمر هذا الخلق لا يزيد على أن يُودع الرجل ما يُمني رحم امرأة.ثم ينقطع عمله وعملها.وتأخذ يد القدرة في العمل وحدها في هذا الماء المهين.تعمل وحدها في خلقه وتنميته،وبناء هيكله ونفخ الروح فيه.ومنذ اللحظة الأولى وفي كل لحظة تالية تتم المعجزة،وتقع الخارقة التي لا يصنعها إلى الله والتي لا يدري البشر كنهها وطبيعتها،كما لا يعرفون كيف تقع،بله أن يشاركوا فيها”.
ويقول سيد قطب رحمه الله في الآية من سورة النجم{من نطفة إذا تمنى}:
“نطفة تمنى…تراق…إفراز من إفرازات هذا الجسد الإنساني الكثيرة كالعرق والدمع والمخاط!فإذا هي بعد فترة مقدورة في تدبير الله.إذا هي ماذا؟إذا هي إنسان!وإذا هذا الإنسان ذكر وأنثى!كيف؟كيف تمت هذه العجيبة التي لم تكن لولا وقوعها تخطر على الخيال؟وأين كان هذا الإنسان المركب الشديد التركيب،المعقد الشديد التعقيد؟أين كان كامناً في النقطة المُراقة من تلك النطفة.بل في واحد من ملايين من أجزائها الكثيرة؟أين كان كامناً بعظمه ولحمه وجلده،وعروقه وشعره وأظافره.وسماته وشياته وملامحه وخلائقه وطباعه واستعدادته؟أين كان في هذه الخلية الميكروسكوبية السابحة هي وملايين من أمثالها في النقطة الواحدة من تلك النطفة التي تُمنى؟وأين على وجه التخصيص كانت خصائص الذكر وخصائص الأنثى في تلك الخلية.تلك التي انبثقت وأعلنت عن نفسها في الجنين في نهاية المطاف؟
وأي قلب بشري يقف أمام هذه الحقيقة الهائلة العجيبة ثم يتمالك أو يتماسك.فضلاً عن أن يجحد ويتبجح،ويقول:لإنها وقعت هكذا والسلام!واهتدت إلى خطها المرسوم هكذا والسلام!أو يتعالم فيقول:إنها سارت هذه السيرة بحكم ما ركب فيها من استعداد لإعادة نوعها،شأنها شأن سائر الأحياء المزودة بهذا الاستعداد!من ذا أودعها الرغبة الكامنة في حفظ نوعها بإعادته مرة أخرى؟ومن ذا أودعها القدرة على إعادته وهي ضعيفة ضئيلة؟ومن ذا رسم لها الطريق لتسير فيه على هدى،وتحقق هذه الرغبة الكامنة؟ومن ذا أودع فيها خصائص نوعها لتعيدها؟لولا أن هنالك إرادة مدبرة من ورائها تريد أمراًنوتقدر عليه،وترسم له الطريق!”.
من الناحية الأدبية:
يقول السموأل( الأصمعيات ص85):
نُطفةً مامُنيِتُ يومَ مُنيِتُ اُمِرَتْ امرها وفيها وُبيتُ(أي هيئت)
كَنَّها اللهُ في مكانٍ خفيٍّ وخفيٌّ مكانها لو خفيتُ
أنا مَيتٌ إذ ذاك ثُمتَّ حيٌّ ثم بعدَ الحياة للبعثِ ميتُ
ينسب للشيخ ابن سينا:
واحفظ منيك مااستطعت فإنه ماءُ الحياةِ يُراقُ في الأرحامِ
من الناحية العلمية:
يتم تشكيل النطاف في الخصيتين،حيث تحتوي كل خصية على مجموعة من الأنابيب المنوية، وهي انابيب شديدة التعرج والالتواء،يبلغ طول كل أنبوب حوالي 20 ـ 70 سم، وقطره 50 ـ 200 مكرون. ويتألف كل أنبوب منوي من بشرة باطنية تحتوي على خلايا تدعى الخلايا المنوية الإبتدائية،وهذه الخلايا تكف عن التكاثر والإنقسام وتخلد إلى الراحة منذ طور الجنين وحتى فترة البلوغ، وعند حصول طور البلوغ الجنسي عند الذكر تأخذ هذه الخلايا بالنشاط والإنقسام والتكاثر،فيتشكل عنها الخلايا المنوية الأولية”أو من الدرجة الأولى”، وهذه تنقسم بدورها لتعطي الخلايا المنوية الثانوية” أو من الدرجة الثانية”،وهذه تنقسم بدورها لتعطي النطف المتكاملة،وهذه لاتنقسم بل يطرأ عليها تحولات وتنضج لتصبح نطافاً كاملة ناضجة أو كهلة، وتستمر فترة تشكيل النطاف منذ المرحلة الأولى وحتى نضجها وتمامها حوالي 64 يوماً، وإن عملية تشكل النطاف عند الذكر تحدث وبشكل مستمر منذ البلوغ وحتى أيضاً في طور الشيخوخة،وهي تحدث بشكل دورات متتابعة ومتتالية وعلى مراحل مختلفة في الأنابيب المنوية، وبحيث يكون تشكيل النطاف مستمراً ومتتابعاً،وإن كانت ليست جميع الأنابيب المنوية في الخصية على نفس الدرجة من النشاط والقوة،كما أن الأمر يختلف من إنسان إلى آخر وحسب عوامل عديدة.
ويعتبر الحويصل المنوي المدخر الرئيسي للنطاف المتكاملة والناضجة،ويفرز هذا الحويصل المنوي سائلاً مغذياً للنطف،ويقلل أيضاً من درجة لزوجة السائل المنوي، وينفع هذا الحويصل في إدخار السائل المنوي وقذفه مرة واحدة عند الجماع.
هذه مراحل تشكل النطاف والسائل المنوي،كائنات دقيقة تنشأ عنها بقدرة الله ومشيئته كائنات عظيمة،كائنات أبعادها دون المم وتُقاس بالمكرونات وينتج عنها أناسٌ يتفاوتون طولاً ووزناً وصفاتاً، كائنات عمرها إذا لم يحصل التلقيح ساعات إلى أيام، وينجم عنها إذا تمَّ التلقيح والإخصاب كائنات بشرية تعيش عشرات السنين،كائنات هي عاجزة بحد ذاتها، ولكنها بقدرة خالقها تنشأ عنها مخلوقات بديعة قادرة متمكنة.
وهنا يُبيّن الله عزّ وجلّ لمن حاولت نفسه أن توهمه بأن اباه هو الذي خلقه،بأنَّ أبيه لم يصنع المني، ولم يخلق النطفة،ولم يُدبر أمر التلقيح والتعشيش،وتطور المضغة، وتشكل الجنين، وإنّما هذه الأمور كلها بيد الله عزّ وجلّ.
إنَّ علماء الحقّ الذين يخشون ربهم والذين التزموا الإنصاف والعدل في أحكامهم من علماء المسلمين وغيرهم لايستطيعون إلا أن يُسجلوا مراحل الخلق هذه مرحلة مرحلة،بنظرة من الإعجاب والتقدير لهذا الخالق البارئ العظيم،وأما علماء السوء والمنحازون إلى الهوى وضلالات الرأي والذين يتباهون بما يُسمى “أطفال الأنابيب”، فنقول لهم وبنظرة من السخرية والاستهزاء والاستخفاف،ماذا فعلتم؟ لقد أتيتم بالنطفة من السائل المنوي والتي لاقدرة لكم ولن يكون لكم قدرة على خلقها وإنشائها،وأتيتم بالبيضة من المبيض عند الأنثى،والذين لاقدرة لكم ولن يكون لكم قدرة على خلقها وإنشائها، وجمعتم بينهما في مزرعة خاصة لعدة أيام حتى يتم التلقيح والإخصاب،ثم أخذتم هذه النطفة الأمشاج وزرعتموها في جسم رحم الأم حيث لايوجد بيئة ولا مكان أصلح وأفضل للنمو والتعشيش من هذا المكان، ومن ثم يتابع الجنين رحلة نموه وتطوره وحياته بإذن الله ومشيئته وإرادته، وأنتم تنظرون إلى هذا النمو والتطور نظرة العاجز المنتظر للنتيجة، وأنتم لاتستطيعون أن تتحكموا في النهاية هل يستمر الحمل؟ أم لايستمر؟
وما أجمل قول الإمام العظيم ابن القيم في كتابه “مفتاح السعادة” وهو يتحدى هؤلاء المكابرين المعاندين، يقول رحمه الله :
“فارجع الآن إلى النطفة وتأمل حالها أولاً وماصارت إليه ثانياً،وأنه لو اجتمع الإنس والجن على أن يخلقوا لها سمعاً أو بصراً أو عقلاً أو قدرة أو علماً أو روحاً بل عظماً واحداً من أصغر عظامها بل عرقاً من أدق عروقها، بل شعرة واحدة لعجزوا عن ذلك”.
نعم، هذا ماقاله هذا الإمام العظيم قبل مئات السنين،يتحدى علماء زمانه، ونحن نشاركه ايضاً في هذا الزمان والذي يليه وإلى أن يرث الله الارض ومن عليها، ونتحدى من وصل إلى القمر والكواكب الأخرى، ومن صنع الحاسوب وأجهزة الكمبيوتر المعقدة،ومن فجّر الذرة، وطاول ببنيانه عنان السماء،ووصل إلى أعمق المحيطات… نتحداهم جميعاً أن يخلقوا عظمة من أصغر عظام الجسم،أو شعرة من شعرات جسمه، أو حتى أنملة من أنامله وماتحمله من بصمات لايتماثل فيها إثنان على وجه هذه البسيطة والتي يتجاوز عدد سكانها عدة مليارات من البشر.ومع ذلك فإنه بالإضافة إلى علماء الحق الذين أذعنوا لذلك وأقروا بعظمة الخالق، فإنه يوجد علماء الضلال والهوى والذين يحملهم عنادهم وتكبرهم وسخف عقولهم على التحدي والمكابرة، وصدق الله العظيم: {خلقَ الإنسانَ من نطفةٍ فإذا هوَ خصيمٌ مبين}[النحل4].وقد أخبرنا الله تعالى في كتابه الكريم عن أمثال هؤلاء المكابرين الذين ينكرون الحق وهو أوضح من أشعة الشمس في ضاحية الهاجرة، وأوضح من البدر في ليل التمام.
يقول الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله[أهوال يوم القيامة ص78 ـ 79]:
يقول تعالى:{ما أشهدتُهُم خلقَ السمواتِ والأرضِ ولا خلقَ أنفسهِم وما كُنت مُتخذَ المُضلينَ عَضُداً}[الكهف51]
” إذا جاء هؤلاء المضلون ليحدثونا بنظريات تتعارض مع كلام الله عن خلق السموات والأرض وخلق الإنسان…نقول لو لم يأت هؤلاء لقلنا أخبرنا الله عن المُضلين الذين سيجادلون في الخلق فأين هم…ولكن كونهم أتوا.. وأضلوا بما قالوه عن أن الإنسان أصله قرد،وأن السموات والأرض أصلها كذا وكذا…محاولين بذلك التشكيك في منهج الله…نقول لهم: لقد ثبتم المنهج في قلوبنا لأن الله قد أخبرنا بما ستفعلونه، وجئتم أنتم تصديقاً لمنهج الله وفعلتموه…فشكراً لكم أنكم كنتم دليلاً على صدق المنهج”.
ويقول الشيخ محمد متولي الشعراوي (مشاهد يوم القيامة ص76 ـ 79):
“فإذا بدأنا بالقضية الكبرى، وهي قضية خلق الحياة والكون. فالله سبحانه وتعالى هو الذي خلق..وهو الذي أخبرنا بأنه خلق..ولم يخبرنا أحد، ولايجرؤ أحد أن يدعي أنه خلق الكون…ومع ذلك يأتي بعض الناس ليقولوا: إن الكون خلق بالصدفة..وأن هناك تفاعلات كذا وكذا هي التي فعلت كذا..ونجد نظرية التطور تقول: إن الإنسان أصله قرد…مع أن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الإنسان،وأخبرنا كيف خلقه.ولكن في هذه القضية الكونية الكبرى ينسب الشئ لغير أهله..ويفتري الناس على الله ويغرهم ماكشف الله لهم من قوانين وأسرار في الكون..فيظنون أنهم قد أوجدوا هذه القوانين، وأنهم قد صنعوها بقدرتهم،وإنها تتصرف وفقاً لإرادتهم، فتختل الموازين،ويعبد الإنسان نفسه… فتأتي إرادة الله سبحانه وتعالى لتزيل هذا الزيف كله، ويدعى الناس للحساب أمام الله…فيرون أنهم كانوا عجزة لايقدرون على شئ، وكانوا خاضعين لايملكون شيئاً، ولكن الله هو الذي أعطاهم من قدرته، ومنحهم من ملكه، فإذا بهم يقابلون ذلك بالكفر بدلاً من الشكر”.
إنّ غرور الإنسان هو الذي أوصله إلى الهاوية والهلاك،وإن مشكلة هذا الإنسان هو غروره مع نفسه، فهو حين يكتشف شيئاً في هذا الكون المحيط به مما سخرّه الله له،تجده يتعالى ويتكبر،ويطغى ويتجبر،ويظن أن بإمكانه أن يستغنى ويسيطر{أن رآه استغنى}، متناسياً أو متغافلاً أنه على الرغم من كل اكتشافاته وإمكانياته يعجز ولم يتمكن ولن يتمكن أن يخلق خلية واحدة من مليارات الخلايا في الجسم البشري،بل إنه غير قادر على أن يخلق مكونات إحدى الخلايا مثل النواة أوما تحتويه هذه النواة من مكونات مثل الصبغيات..وصدق الله العظيم: {أفمن يَخلقُ كمن لايَخلقُ أفلا تذكرون}[ النحل17 ]
بل الأبعد من ذلك أن هذا الإنسان ليحسّ بعجزه الكامل حين يفشل في أن يسترد ماسلبته منه ذبابة:{ يا أيُّها الناسُ ضُرِبَ مَثلٌ فاستمعوا له إنَّ الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذُباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهمُ الذبابُ شيئاً لا يستنقذوه منه ضَعُفَ الطالبُ والمطلوب[ الحج 73]
وفي النهاية حول هذه النقطة لابد من ملاحظة بسيطة حول الآية الكريمة{من منيٍّ يُمنى} والآية الأخرى{من نطفة إذا تمنى}،فلقد سُمي المني منياً لأنه يُراق، ومِنى قرب مكة سميت بذلك لكثرة مايُمنى بها من الدماء أي مايُراق منها في الدماء،ولقد ذكر الله تعالى أن خلق الإنسان يتم من هذا المني الذي يُراق،ثم يأتي الإعجاز ويقول من هذا المني الذي يراق فإن نطفة واحدة هي المسؤولة عن ذلك الخلق، فتبارك الله أحسن الخالقين.
مراحل التخلق والأطوار
الآيات الكريمة:
{ولقد خلقنا الإنسانَ من سُلالةٍ من طين*ثُمَّ جعلناهُ نُطفةً في قرارٍ مكين*ثُمَّ خلقنا النطفةَ علقةً فخلقنا العلقةَ مُضغةً فخلقنا المضغةَ عظاماً فكسونا العظامَ لحماً ثُمَّ أنشأناهُ خلقاً آخرَ فتباركَ الله أحسنُ الخالقين}[المؤمنون 12 ـ 15]
{مالكُمْ لاترجونَ لله وقاراً*وقد خلقكُمْ أطواراً}[ نوح 13 ـ 14]
{يخلقكم في بطونِ أُمهاتِكُم خَلقاً من بعدِ خلقٍ في ظلماتٍ ثلاث ذلكم الله ربكم لهُ الملك لا إله إلا هو فأنّى تُصرفون}[ الزمر6]
{ثُمَّ كان علقةً فخلقَ فسوَّى}[ القيامة 38 ]
{يا أيُّها الناسُ إن كنتم في ريبٍ من البعثِ فإنَّا خلقناكم من ترابٍ ثُمَّ من نُطفةٍ ثُمَّ من علقةٍ ثُمَّ من مُضغةٍ مخلقةٍ وغير مخلقةٍ لِنبيّنَ لكم}[ الحج 5]
الأحاديث النبوية الشريفة:
في صحيح مسلم عن حذيفة بن أسيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إذا مرَّ بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً،فصوّرها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها،ثم قال: يارب أذكر أم أنثى،فيقضي ربك ماشاء،ويكتب الملك.ثم يقول يارب أجله، فيقول ربك ماشاء ويكتب الملك ثم يقول يارب رزقه فيقضي ربك ماشاء ويكتب الملك. ثم يخرج الملك بالصحيفة فلا يزيد على ما أمر ولاينقص“.
وروى عن رفاعة بن رافع رضي الله عنه قال: جلس إلي عمر وعلي والزبير وسعيد”أو سعد” ونفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكروا العزل. فقال: لابأس به، فقال رجل منهم يزعمون أنها المؤودة الصغرى، فقال علي رضي الله عنه: لاتكون مؤودة حتى تمر على التارات السبع: تكون سلالة من طين، ثم تكون نطفة، ثم تكون علقة، ثم تكون مضغة، ثم تكون عظاماً، ثم تكون لحماً، ثم تكون خلقاً آخر. فقال عمر رضي الله عنه: صدقت أطال الله بقاءك”ذكره ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم”
وفي جزء من حديث آخر: “إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح“[ رواه الشيخان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه]
إنَّ الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة السابقة تلقي الضوء على مجموعة من الأمور الهامة لابد من ذكرها:
1 ـ أنها تبين وبشكل مفصل يدعو للإعجاز أن تَخلُّقَ الجنين يتم على عدة أطوار،بدءاً من النطفة ومروراً بالعلقة فالمضغة ،ثم يحدث تخلقٌ آخر للجنين تبدأ فيه الأجهزة والأعضاء بالتشكل،حيث تنشأ العظام والعضلات ،وأجهزة السمع والبصر والإدراك..بينما كانت النظرية السائدة في أوروبا والغرب وحتى فترة ليست بالبعيدة أن الجنين يكون تام النمو والتخلق ويكون بشكل كائن بشري مُصّغر داخل النطفة،وهذه النطفة تستقر داخل الرحم وهناك تتغذى وتنمو وتكبر باستمرار،وقد ثبت الآن وبدون أدنى شك أن هذه النظرية خاطئة تماماً وأن ليس فيها أي معنى من معاني الدقة أو الصحة أو الحقيقة.
2 ـ إن شريط تطور الإنسان كما تبينه الآيات من سورة المؤمنون يدعو أيضاً إلى الإكبار والإعجاز والتقدير،حيث يبين الله تعالى أن بدء خلق الإنسان الأول وهو أبو البشر آدم عليه السلام كان من سلالة من طين،ثم عقب على ذلك بقوله تعالى{ ثُمَّ جعلناه نُطفةً في قرارٍ مكين}، وحرف “ثم” كما يقول علماء اللغة يدل على التعقيب والتوالي،ويدل أيضاً على التراخي، ومن ذلك قوله تعالى{ أماته فأقبره* ثم إذا شاء أنشره}، وإن مرحلة تشكل سلالة أدم أو البشر من النطاف المؤنثة والمذكرة قد امتدت على عدة سنوات بل هي عشرات السنين بعد خلقه من الطين وخلق حواء من أحد أضلاعه، فهي نقلة ليست قريبة العهد بل هي بعيدة العهد،ثم يقول تعالى”ثم خلقنا النطفة علقة” وهذا الأمر يحتاج أيضاً إلى فترة طويلة فإن عملية تشكل النطاف عند الإنسان تبدأ من فترة البلوغ الجنسي”حيث لايوجد تشكل للنطاف قبل هذه الفترة”، وإن عملية تشكل النطاف المذكرة في الخصية يحتاج حتى تصل إلى النضج والتمام حوالي الشهرين ثم تختزن في الحويصلين المنويين لعدة أيام، وربما أسابيعاً أو عدة شهور حتى يحدث الجماع، ومن ثم الإلقاح والتقاء النطفة المذكرة بالبيضة وتشكل النطفة الأمشاج،ثم يأتي الإعجاز القرآني الرباني بقوله تعالى{فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً} وهنا يأتي الحق تعالى بحرف” الفاء” والذي يقول عنه علماء اللغة أن” الفاء” تدل على الترتيب والتوالي والتعقيب{أماته فأقبره}، فالزمن الحاصل بين هذه الحوادث قصير جداً ومتتابع وسريع، وهذا مايحدث فعلاً فبمجرد أن تتشكل النطفة الأمشاج تصبح العمليات متلاحقة متسارعة متتابعة، ولم يعد يوجد هناك حدود واضحة وصريحة بين مراحل التخلق”العلقة ـ المضغة ـ الجنين”وهذا واأتبثه علم الجنين البشري، حيث لاتوجد حدود وأزمان واضحة تفصل بين هذه المراحل المختلفة، فكان الإعجاز القرآني بالإتيان بحرف” الفاء” مما يدل على تسارع وتتابع وتلاحق الأمور بدون فاصل واضح بين مرحلة وأخرى،ثم بعد أن تبدأ الأعضاء والأجهزة بالتشكل لايبقى هناك إلا عملية النمو على حساب ازدياد الأعضاء حجماً، وأن تأخذ الوظيفة الموكلة بها، أي أن الأمر أصبح له الآن البعد الحجمي والوظيفي، وأما تشكل الأعضاء والأجهزة فقد تمّ وانتهى.
“ثُمَّ أنشأناهُ خلقاً آخر”
الآيات الكريمة:
{ثُمَّ أنشأناهُ خلقاً آخر فتباركَ الله ُأحسنُ الخالقين}[المؤمنون 14]
{الذي أحسن كل شئٍ خلقه}[ السجدة 7 ]
الحديث الشريف:
“إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد”[ رواه الشيخان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه] .
من الناحية اللغوية:
جاء في اللسان: “الخلق في كلام العرب: ابتداع الشئ على مثال لم يُسبق إليه.وكل شئ خلقه الله فهو مبتدئه على غير مثال سُبق إليه{ ألا لهُ الخلقُ والأمرُ تباركَ الله ربُّ العالمين}[الأعراف 54].
وقال أبو بكر بن الأنباري: “الخلق في كلام العرب على وجهين: أحدهما: الإنشاء على مثال أبدعه، والأخر التقدير.
وجاء في مراجع أخرى: كلمة الخلق في القرآن الكريم تدل على عدة معان:
1 ـ الإيجاد من العدم: قال تعالى : {أولا يذكُرُ الإنسانُ أنَّا خلقناهُ من قبلُ ولم يَكُ شيئاً}[مريم 67 ]
2 ـ الإيجاد من خلق سابق،كالتراب والصلصال والنطفة..قال تعالى : “{هُو الذي خلقكُم من تُرابٍ ثُمَّ من نُطفةٍ ثُمَّ من علقةٍ ثُمَّ يُخرِجُكُم طفلاً}[ غافر 67 ]
3 ـ التطوير من طور إلى آخر: ” {مالكُم لاترجونَ لله وقاراً* وقد خلقَكُم أطواراً}[ نوح 13 ـ 14 ]
4 ـ التصوير: قال تعالى : {أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله}[ آل عمران 49 ]
يقول شوقي:
اذكرِ الآية إذ أنت جنين لك في الظلمة للنور حنين
كان في جنبك شئ من عَلقْ حين مَسّتهُ يدُ الله خفقْ
صار حسّاً وحياة بعدما كان في الأضلاع لحماً ودما
قلْ لمن طبّب أو من نجمّا: صنعة الله ولكن زغتما
آمنا بالله إيمان العجوز أن غير الله عقلاً لايجوز
وقال النابغة الجَعدي(دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم”لايفضضِ الله فاك” فبقي عمره لم تنقضَّ له سنٌ وكان أحد المُعمّرين):
الخالقِ البارئ المصِّورفي ال أرحامِ ماءً حتى يصيرَ دما
من نُطفةٍ قدَّها مقدِّرُها يخلقُ منها الأبشارَ والنَّسما
ثُمَّ عظاماً أقامها عَصَبٌ ثُمَّتَ لحماً كساه فالتأما
والصَّوت واللونَ والمعايش وال أخلاقَ شتى وفرَّق الكلما
(الشعر والشعراء ـ ابن قتيبة ـ ص180، الأبشار: جمع البشر والأجساد، النّسم: الأرواح) .
محمود سامي البارودي:
أوّلُ النفْسِ نُطفةٌ أخلصتها شهوةٌ صاغها مِزاجٌ دفينُ
قذفتها إلى البطونِ ظهورٌ وحوتها بعد الظهورِ بطونُ
ثم أرسى بها هبوطٌ يليه حركاتٌ من بعدهنَّ سكونُ
فهي طوراً تكونُ في عالمِ الغيبِ وطوراً في مثلِ ذاكَ تكونُ
مُبتداها ومُنتهاها سواءٌ وهيّ مابين ذاكَ حَيٌّ مَهين
فعلامَ البكاءُ في إثر دارٍ بالرزايا فناؤها مشحونُ
تتفانى الرجالُ حِرصاً عليها وهو حِرصٌ أدّى إليهِ الجنونُ
التفاسير:
ابن كثير:في تفسير أية سورة المؤمنين:
” أي نفخنا فيه الروح فتحرك وصار خلقاً آخر ذا سمع وبصر وإدراك وحركة واضطراب،” فتبارك الله أحسن الخالقين” عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: “ إذا أتت على النطفة أربعة أشهر بعث الله إليها ملكاً فنفخ فيها الروح في ظلمات ثلاث، وذلك قوله : ” ثم أنشأناه خلقاً أخر” يعني نفخنا فيه الروح، وقال ابن عباس: يعني فنفخنا فيه الروح وكذا روي عن أبي سعيد الخدري ومجاهد وعكرمة والشعبي والضحاك والحسن البصري واختاره ابن جرير.وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما “ثم أنشأناه خلقاً أخر“: يعني ننقله من حال إلى حال، إلى أن خرج طفلاً،ثم نشأ صغيراً ثم احتلم ثم صار شاباً ثم كهلاً ثم شيخاً ثم هرماً”.
وجاء في بعض التفاسير: ” الخلق والإجادة والإتقان لكل شئ في هذا الكون وتصوير الإنسان في أقضل صورة نعمة منه سبحانه وفضلا. والإحسان لغة: مصدر فعل احسن أي أتقن وأجاد فعل ماهو خير وزاد فيه.
وجاء في الظلال:
“فجنين الإنسان يشبه جنين الحيوان في أطواره الجسدية،ولكن جنين الإنسان ينشأ خلقاً أخر،ويتحول إلى تلك الخليقة المتميزة المستعدة للإرتقاء،ويبقى جنين الحيوان في مرتبة الحيوان،مجرداً من خصائص الأرتقاء والكمال التي يمتاز بها جنين الإنسان”. ويتابع سيد قطب رحمه الله:
” إن الجنين الإنساني مزود بخصائص معينة هي التي تسلك به طريقه الإنساني فيما بعد. وهو ينشأ “خلقاً أخر” في آخر أطواره الجنينية،بينما يقف الجنين الحيواني عند التطور الحيواني لأنه غير مزود بتلك الخصائص،ومن ثم فإنه لايمكن أن يتجاوز الحيوان مرتبته الحيوانية، فيتطور إلى مرتبة الإنسان تطوراً آلياً ـ كما تقول النظريات المادية ـ فهما نوعان مختلفان،اختلفا بتلك النفحة الإلهية التي بها صارت سلالة الطين إنساناً، واختلفا بعد ذلك بتلك الخصائص المعينة الناشئة من تلك النفحة والتي ينشأ بها الجنين الإنساني”خلقاً آخر”. إنما الإنسان والحيوان يتشابهان في التكوين الحيواني ـ ثم يبقى الحيوان حيواناً في مكانه لايتعداه ـ ويتحول الإنسان خلقاً آخر قابلاً لما هو مهيأ له من الكمال، بواسطة خصائص مميزة وهبها الله له عن تدبير مقصود لا عن طريق تطور آلي من نوع الحيوان إلى الإنسان” ويتابع رحمه الله :
“تقوم نظرية النشوء والارتقاء على اساس متناقض،إذ تفترض أن الإنسان ليس إلا طوراً من أطوار الترقي الحيوانية، وتفترض أن الحيوان يحمل خصائص التطور إلى مرتبة الإنسان، والواقع المشهود يكذب هذا الفرض لتفسير الصلة بين الحيوان والإنسان،ويقرر أن الحيوان لا يحمل هذه الخصائص، فيقف دائماً عند حدود جنسه الحيواني لايتعداه، ولكن يبقى النوع الإنساني متميزاً بأنه يحمل خصائص معينة تجعل منه إنساناً ليست نتيجة تطور آلي، وإنما هي هبة مقصودة من قوة خارجية” .
ومن الناحية العلمية:
إن كلمة يُجمع أحدكم في الحديث الشريف تتمثل علمياً بمجموعة من الحقائق:
1 ـ اجتماع النطفة المذكرة والمؤنثة وانصهارهما معاً”النطفة الأمشاج“.
2 ـ انصهار صبغيات النطفة المذكرة أي الأب ـ وصبغيات البيضة أي الأم ـ عند الإخصاب وتشكيل صيغة صبغية متكاملة جديدة.
3 ـ ظهور الأعضاء فيما بعد وزيادة نموها وتميزها
إن خلق الثدييات العليا يمر بنفس المراحل التي يمر بها خلق الإنسان تقريباً من النطفة الأمشاج إلى التوتة إلى الكيسة المصورة(البلاستولا) إلى التعشيش ووجود الوريقات الثلاثة:الخارجية والوسطى والداخلية… ولا يُميز جنين الإنسان عن أحد من هذه الحيوانات الثديية إلا بعد الاسبوع السادس، وإن المضغة التي عمرها أربعة أسابيع تتشابه في الحيوانات الثديية المختلفة،ولا تأخذ الشكل الإنساني إلا بعد الاسبوع السادس، ويذكر أن عالم الأجنة الشهير فون بيير كان يجمع أجنة حيوانات مختلفة في مرحلة معينة من مراحل تطورها ويحتفظ بها في وعاء زجاجي به مطهر حافظ من التعفن والتحلل ولم يضع على كل جنين مايوضح هويته أو نوعه، وعندما عاد إليها ليدرسها لم يستطع أن يُرجع معظمها إلى أصولها فكتب في مذكراته: ” إنني لا أستطيع أن أحدد إطلاقاً إلى أي فصيلة أو رتبة تنتمي هذه الأجنة،فقد تكون لسحالي أو لطيور صغيرة أو لحيوانات ثديية في مراحل نموها المبكرة، كم هي متشابهة في أشكالها”.
وهناك ملاحظة أخرى: إن كلاً من جنين الإنسان وجنين الحيوان متشابهان في المراحل الأولى من التكوين داخل الرحم،ولكن فيما بعد فإن كلاً منهما يسير في مسار مغاير ، فالجنين الحيواني يبقى في دائرة النمو الجسدي الصرف وفي حدوده المعينة، بينما فإن الجنين الإنساني يسير مسيراً مغايرأ تماماً فينشأ في ذروة من الكمال في الخَلق والتخلق، وصدق الله العظيم : {هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء}[ آل عمران 6 ]
وكما ذكرنا فإنه بعد الأسبوع السادس إلى الثامن يحدث التخلق إلى الطور الإنساني وهو يناسب جداً حديث نفخ الروح وقوله تعالى في سورة السجدة: {الذي أحسنَ كُلَّ شئٍ خَلَقَه وبدأَ خَلقَ الإنسانِ من طين* ثُمَّ جعلَ نَسلَهُ من سُلالةٍ من ماءٍ مهين* ثُمَّ سَوَّاهُ ونفخَ فيه من روحهِ وجعلَ لكُمُ السَّمعَ والأبصارَ والأفئدةَ قليلاً ماتشكرون}[السجدة 7 ـ9]وتبدو أيضاً في هذه المرحلة لدى الجنين فعالية حركية فهو يحرك الأطراف ويبلع السائل السلوي ويحزق.. وتظهر فيه حركات القلب ونبضاته.
يقول العالم الكندي كيث مور Keith Moore في كتابه الجامعي في علم الأجنة:”القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي ذكر قبل زمننا المعاصر بدقة متناهية مراحل تطور الجنين”.
“الذي خلقك فسوَّاك فعدَلك”
الآيات الكريمة:
{الذي خلقك فسوَّاكَ فعَدلَك* في أي صورةٍ ماشاء رَكبك}[الانفطار 6 ـ 8 ]
{ثُمَّ كان علقةً فخلقَ فسوّى}[القيامة 38 ]
في هذه الآيات توجد عملية عدل تقع بعد التسوية على الفور بدليل العطف بالفاء، والتي تفيد الترتيب والتعقيب.
من الناحية اللغوية:
جاء في” المفردات في غريب القرآن” للأصبهاني:
عَدَل: العدالة والمعادلة : لفظ يقتضي معنى المساواة.
التسوية: جعل الشئ سواء إما في الرِّفعة إو في الضّعة، وقوله تعالى: ” الذي خلقك فسواك فعدلك” أي : جعل خلقتك على ما اقتضت الحكمة.
التفاسير:
ماهو العَدْل؟
الإمام الطبري رحمه الله : “أي جعلك معتدلاً مُعدّل الخلق مقوّماً.
صفوة البيان لمعاني القرآن: “فسواك: جعل أعضاءك سليمة سوية مهيأة لمنافعها على حسب ماتقتضيه الحكمة وهي في الأصل جعل الأشياء على سواء.
فعدلك: عدل بعضها ببعض بحيث اعتدلت ولم تتفاوت، من عدل فلاناً بفلان: كذا ساوى بينهما. وقرئ بالتشديد فعدّلك: أي صيرك معتدلاً متناسب الخلق من غير تفاوت فيه فلم يجعل أحد اليدين أطول ولاإحدى العينين أوسع، ولم يخالف بين الأعضاء في الألوان والهيئات.
ابن كثير رحمه الله :أي جعلك سوياً مستقيماً معتدل القامة، منتصبها في أحسن الهيئات والأشكال.
روى الإمام أحمد عن بشر بن جحاش القرشي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصق يوماً في كفه فوضع عليها إصبعه، ثم قال: ” قال الله عز وجل: يا ابن آدم !آنّى تُعجزني وقد خلقتك من مثل هذه؟ حتى إذا سويتك وعدّلتك مشيتَ بين بُردين وللأرض منك وئيد، فجمعتَ ومنعت، حتى إذا بلغت نفسك هذه ـ ,أشار إلى حلقه ـ وفي رواية:حتى إذا بلغت التراقي: قلت: أتصدّقُ، وآنّى أوانُ التصدّق؟” [أخرجه أحمد وابن ماجه عن بسر بن جحاش القرشي وإسناده حسن كما يقول الألباني].
تفسير الجلالين:جعلك معتدل الخلق متناسب الأعضاء، ليست يد أو رجل أطول من الأخرى.
وفي قوله تعالى: {في اي صورةٍ ماشاء ركبك}
قال مجاهد: ” في اي شبه أب أو أم أو خال أو عم.وقال عكرمة: “إن شاء في صورة قرد وإن شاء في صورة خنزير.. وقال قتادة: ” ومعنى هذا القول عندهم أن الله عز وجل قادر على خلق النطفة على شكل قبيح من الحيوانات المنكرة الخلق، ولكن بقدرته ولطفه وحلمه يخلقه على شكل حسن مستقيم معتدل تام حسن المنظر والهيئة.
وجاء في تفسير الظلال لسيد قطب رحمه الله:
“ألم يك نطفة صغيرة من الماء من مني يُمنى، ثم جعل منه جنيناً معتدلاً متناسق الأعضاء، معتدلاً مؤلفاً من ملايين الخلايا الحية، ويتابع رحمه الله:
“إن خلق الإنسان على هذه الصورة الجميلة السوية المعتدلة، الكاملة الشكل والوظيفة أمر يستحق التدبر الطويل، والشكر العميق،والأدب الجم، والحب لربه الكريم، الذي أكرمه بهذه الخلقة، تفضلاً منه ورعاية ومنّة، فقد كان قادراً أن يركبه في أي صورة أخرى يشاءها.فاختار له هذه الصورة السوية المعتدلة الجميلة. وإن الإنسان لمخلوق جميل التكوين، سوي الخلقة، معتدل التصميم وإن عجائب الإبداع في خلقه لأضخم من إدراكه هو وأعجب من كل مايراه حوله. وإن الجمال والسواء والاعتدال لتبدو في تكوينه الجسدي، وفي تكوينه العقلي، وفي تكوينه الروحي سواء، وهي تتناسق في كيانه في جمال واستواء.
ويقول صاحب الظلال رحمه الله في آيات سورة الانفطار:
“إن خلق الإنسان على هذه الصورة الجميلة السوية المعتدلة،الكاملة الشكل والوظيفة،أمر يستحق التدبر الطويل،والشكر العميق،والأدب الجم،والحب لربه الكريم،الذي أكرمه بهذه الخلقة،تفضلاً منه ورعاية ومنة.فقد كان قادراً أن يركبه في أية صورة أخرى يشاؤها.فاختار له هذه الصورة السوية المعتدلة الجميلة.
وإن الإنسان لمخلوق جميل التكوين،سوي الخلقة،معتدل التصميم،وإن عجائب الإبداع في خلقه لأضخم من إدراكه هو،وأعجب من كل ما يراه حوله.
وإن الجمال والسواء والاعتدال لتبدو في تكوينه الجسدي،وفي تكوينه العقلي،وفي تكوينه الروحي سواء،وهي تتناسق في كيانه في جمال واستواء!
ويتابع سيد قطب رحمه الله:
“تقول مجلة العلوم الانجليزية:إن يد الإنسان في مقدمة العجائب الطبيعية الفذة،وإنه من الصعب جداً بل من المستحيل أن تبتكر آلة تضارع اليد البشرية من حيث البساطة والقدرة وسرعة التكيف.فحينما تريد قراءة كتاب تتناوله بيدك،ثم تثبته في الوضع الملائم للقراءة.وهذه اليد هي التي تصحح وضعه تلقائياً.وحينما تقلب إحدى صفحاته تضع أصابعك تحت الورقة،وتضغط عليها بالدرجة التي تقلبها بها،ثم يزول الضغط بقلب الورقة.واليد تمسك القلم وتكتب به.وتستعمل كافة الآلات التي تلزم النسان من ملعقة،إلى سكين،إلى آلة الكتابة.وتفتح النوافذ وتغلقها،وتحمل كل ما يريده الإنسان…واليدان تشتملان على سبع وعشرين عظمة وتسع عشرة مجموعة من العضلات لكل منهما.
وإن جزءاً من الأذن الوسطى للإنسان هو سلسلة من نحو أربعة حنية(قوس)دقيقة معقدة،متدرجة بنظام بالغ،في الحجم والشكل،ويمكن القول بأن هذه الحنيات تشبه آلة موسيقية.ويبدو أنها معدة بحيث تلتقط وتنقل إلى المخ،بشكل ما،كل وقع صوت أو ضجة،من قصف الرعد إلى حفيف الشجر.فضلا عن المزيج الرائع من أنغام كل أداة موسيقية في الأركسترا ووحدتها المنسجمة.
ومركز حاسة الإبصار في العين تحتوي على مائة وثلاثين مليوناً من مستقبلات الضوء وهي أطراف الأعصاب،ويقوم بحمايتها الجفن ذو الأهداب الذي يقيها ليلاً ونهاراً،والذي تعتبر حركته لا إرادية،الذي يمنع عنها الأتربة والذرات والأجسام الغريبة،كما يكسر حدة الشمس بما تلقي الأهداب على العين من ظلال.وحركة الجفن علاوة على هذه الوقاية تمنع جفاف العين .أما السائل المحيط بالعين والذي يعرف باسم الدموع،فهو أقوى مطهر..
وجهاز الذوق في الإنسان هو اللسان،ويرجع عمله إلى مجموعات من الخلايا الذوقية القائمة في حلمات غشائه المخاطي،ولتلك الحلمات أشكال مختلفة،فمنها الخيطية والفطرية والعدسية ويغذي الحلمات فروع من العصب اللساني البلعومي،والعصب الذوقي.وتتأثر عند الأكل الأعصاب الذوقية،فينتقل الأثر إلى المخ.وهذا الجهاز موجود في أول الفم،حتى يمكن للإنسان أن يلفظ ما يحس أنه ضار به،وبه يحس المرء المرارة والحلاوة،والبرودة والسخونة،والحامض والملح،واللاذع ونحوه.ويحتوي اللسان على تسعة آلاف من نتوءات الذوق الدقيقة،يتصل كل نتوء منها بالمخ بأكثر من عصب.فكم عدد الأعصاب؟وما حجمها؟وكيف تعمل منفردة؟وتتجمع بالإحساس عند المخ؟
ويتكون الجهاز العصبي الذي يسيطر على الجسم سيطرة تامة من شعيرات دقيقة تمر في كافة أنحاء الجسم.وتتصل بغيرها أكبر منها.وهذه بالجهاز المركزي العصبي.فغذا ما تأثر جزء من أجزاء الجسم،ولو كان ذلك لتغير بسيط في درجة الحرارة بالجو المحيط،نقلت الشعيرات العصبية هذا الإحساس إلى المراكز المنتشرة في الجسم.وهذه توصل الإحساس إلى المخ حيث يمكنه أن يتصرف.وتبلغ سرعة سريان الإشارات والتنبيهات في الأعصاب مائة متر في الثانية.
هذه هي إحدى خصائص الإنسان المميزة…وهي مع هذا ليست أكبر خصائصه،وليست أعلى مميزاته.فهنالك ذلك القبس العجيب من روح الله..هنالك الروح الإنساني الخاص،الذي يصل هذا الكائن بجمال الوجود،وجمال خالق الوجود،ويمنحه تلك اللحظات المجنحة الوضيئة من الاتصال بالمطلق الذي ليس له حدود. بعد الاتصال بومضات الجمال في هذا الوجود.
هذا الروح الذي لا يعرف الإنسان كنهه وهل هو يعلم ما هو أدنى وهو إدراكه للمدركات الحسية؟! والذي يمتعه بومضات من الفرح والسعادة العلوية حتى وهو على هذه الأرض.ويصله بالملأ الأعلى،ويهيئه للحياة المرسومة بحياة الجنان والخلود.وللنظر إلى الجمال الإلهي في ذلك العالم السعيد!”.
يقول تعالى :{الّذي أحسنَ كُلَّ شىءٍ خَلَقه}[السجدة 7].
يقول سيد قطب رحمه الله في الظلال:
” سبحانه! هذه صنعتهُ في كلِّ شىء.هذه يده ظاهرةُ الأثار في الخلائق.هذا كل شىء خلقه يتجلى فيه الإحسان والإتقان،فلا تجاوز ولا قصور،ولا زيادة عن حد الإحسان ولا نقص،ولا إفراط ولا تفريط في حجم أو شكل أو صنعة أو وظيفة.كل شىء مُقدر لا يزيد عن حد التناسق الجميل الدقيق ولا ينقص.ولا يتقدّم عن موعده ولا يتأخر.ولا يتجاوز مداهُ ولا يقصر.كل شىء من الذرة الصغيرة إلى أكبر الأجرام.ومن الخلية الساذجة إلى أعقد الأجسام.كلها يتجلى فيها الإحسان والإتقان.وكذلك الأعمال والأطوار والحركات والأحداث.وكلها من خلق الله.مقدرة تقديراً دقيقاً في موعدها وفي مجالها وفي مآلها،وفق الخطة الشاملة لسير هذا الوجود من الأزل إلى الأبد مع تدبير الله.
كل شىء وكل خلق مصنوع ليؤدي دوره المقسوم له في رواية الوجود،معدّ لأداء هذا الدور إعداداً دقيقاً،مزوداً بالاستعدادات والخصائص التي تؤهله لدوره تمام التأهيل.هذه الخلية الواحدة المجهزة بشتى الوظائف.
كل شىء ..كل شىء..حيثما امتد البصر متقن الصنع،بديع التكوين،يتجلى فيه الإحسان والإتقان”.
ومن الناحية العلمية الطبية:
من المعروف علمياً أن أعضاء الجنين وأجهزته تبدأ في التشكل في الأسبوع الرابع من التلقيح وتشكل النطفة الأمشاج “أي في اليوم 42″، ويكتمل شكلاً في الاسبوع الحادي عشر.ويكون الجنين كائناً سوياً مكتمل الأعضاء في الاسبوع الثاني عشر”اليوم 77 ـ 84″،وهذا يوجهنا إلى حديث الاربعينيات” إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك….”وليس في العلم حتى الآن كتاب علمي يقول بالأربعينيات، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لاينطق عن الهوى وبنوعٍ من الإعجاز قال ذلك قبل أكثر من أربعة عشر قرناً.
ومن الصعوبة في علم الجنين تحديد الدور الفاصل مابين مرحلة المضغة والجنين فالأمور متداخلة وإن كان من الناحية العلمية العملية فإن طور الجنين يبدأ اعتباراً من الشهر الرابع،وهنا أود أن أنوّه بما ذكره الأستاذ محمد سلام مدكور في كتابه ” الجنين” عن هذه المرحلة ورأي علماء المسلمين وخاصة الإمام الشافعي رحمه الله يقول:
” وبعد فإننا نعتز في هذا المقام بنقل ساقه الإمام المزني الشافعي المتوفى سنة 264هجري عن الإمام الشافعي المتوفى سنة 204 هجري يفيد أن الاستعمال الحقيقي للجنين فيما يكون بعد مرحلة المضغة، ويبني عليه أن استعماله فيما قبل هذه المرحلة من باب المجاز باعتبار أنه مقدمة للجنين الحقيقي وعبارة الأمام المزني في مختصره بهامش كتاب الأم للشافعي، قال الشافعي في الجنين: “اقل مايكون به جنيناً أن يفارق المضغة والعلقة، حتى تبين منه شئ من خلق آدمي أصبع او ظفر او عين أو ما أشبه ذلك”.
إن حياتنا من البداية وحتى النهاية مبنية وقائمة على العناية الإلهية لحظة فلحظة” يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث،أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين”[رواه النسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه] فمنذ وجود عوامل الخلق الأولى أي النطفة في الخصية والبويضة في المبيض ومايتلو ذلك من مراحل وأطوار فإنها برعاية الرحمن وتدبيره، ولو أن خللاً بسيطاً طرأ على مستوى الخلايا وما تحتوية من صبغيات وخمائر وهرمونات وعمليات استقلابية وتكاثر على مستوى الخلايا والصبغيات وإشرافها على تشكيل البروتينات والهرمونات وعناصرها الأساسية من الحموض الامينية أو الحموض الدسمة.. إن أي خلل يؤدي إلى حدوث التشوهات أو الإصابة بالأمراض الوراثية والاستقلابية كما سيأتي بحثه فيما بعد فسبحان الله أحسن الخالقين.
“وإذ أنتم أجنةٌ في بطون أُمهاتكم”
ورد لفظ الجنين في القرآن الكريم مرة واحدة في قوله تعالى : {وإذ أنتم أجنةٌ في بطون أُمهاتكم فلا تُزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى}[النجم 32]
من الناحية اللغوية:
جاء في الكامل للمبرد(الجزء الأول ص 282):الجنين في اللغة العربية : مالم يظهر بعد. يقال للقَبر: جَننٌ. والجنين الذي في بطن أمه. والمِجَنّ: التُرس لأنه يستر. والمجنون: المغطى العقل. وسُمي الجنُ لاختفائهم، وتسمى الدروع الجُنن لأنها تستر من كان فيها.
ومن الناحية التاريخية:
أذكر وبشكل مختصر هنا البحث الذي ألقاه البروفيسور جورنجي من جامعة جورج تاون في أمريكا في المؤتمر الذي عقد في مدينة إسلام آباد في باكستان اكتوبر عام 1987حيث يقول: ” يمكننا أن نقسم علم الأجنة إلى ثلاث مراحل:
1 ـ المرحلة الوصفية: وهذه المرحلة تعود إلى أكثر من ستة قرون قبل الميلاد، وتستمر حتى القرن التاسع عشر،وتم خلال هذه الفترة وصف الملاحظات الخاصة بظاهرة تطور الجنين، ووجدت بعض السجلات المدونة من فترة السلالات الفرعونية الرابعة والخامسة والسادسة في مصر القديمة،وقد حمل مالايقل عن عشرة أشخاص متعاقبين اللقب الرسمي”فاتح مشيمة الملك” وكانت تعزى إلى خواص المشيمة قوى سحرية خفية، ودام ذلك الاعتقاد حتى عهد اليونانيين القدماء وبعدهم.وقد هيمنت كتابات أرسطو طاليس وجالينوس .وكان المفهوم المتداول هو ماقال به أرسطو من أن الجنين يتطور من كتلة دموية وبذرة، وكان يعتقد أن الجنين يتولد من دم الحيض.
ولقد نشط البحث العلمي في القرن السادس عشر وخاصة في القرنين السابع والثامن عشر، ومهدت أعمال فيساليوس وفابريسيوس وهارفي لبدء عصر الفحص المجهري، واكتشف الحيوان المنوي.وبينما كان فريق من العلماء يرى أن الإنسان يخلق خلقاً تاماً في بييضة المرأة، كان فريق آخر يقول أن الإنسان يخلق خلقاً تاماً في الحيوان المنوي.ولم ينته الجدل بين الفريقين إلا عام 1775م حين أثبت سبالانزاني أن البيضة والحيوان المنوي كلاهما يشارك في عملية التخلق البشري. بينما نجد في القرآن الكريم والسنة النبوية أن هذه القضايا قد حسمت بأن عملية التخلق مشتركة بين الذكر والأنثى.
2 ـ علم الأجنة التجريبي:لم تكتشف بييضة الثدييات إلا في أواخر القرن التاسع عشر، وبدأت المرحلة الثانية وهي مرحلة علم الأجنة التجريبي بكتابات فون باير وداروين وهيجل اعتباراً من نهاية القرن التاسع عشر وحتى الأربعينات من القرن العشرين.
3 ـ مرحلة التقنية واستخدام الأجهزة: وتمتد هذه المرحلة الثالثة أو الحديثة من الأربعينات في القرن العشرين وحتى يومنا هذا، وخاصة مع استعمال المجهر الالكتروني وآلات التصوير المتطورة الآخرى، وقياس الشدة النسبية لأجزاء الطيف، والحاسوب، ومجموعة الكشف عن البروتينات، والأحماض النووية، والكربوهيدرات المعقدة…وأمكن دراسة دور النواة الخلوية وجبلة(هيولى) الستوبلازما، وإجراء تهجين الخلايا في المنابت خارج الخلية” انتهى كلام البرفيسور جورنجي..
هذا بإيجاز عن تطور الجنين عند علماء وفلاسفة الغرب بينما نجد أن القرآن الكريم والسنة النبوية وفي أوائل القرن السابع الميلادي تتطرقا وبشكل معجز وبأدق التفاصيل في خلق الجنين كما بينا سابقاً وكما سنذكر لاحقاً.
ومن الناحية العلمية:
يُطلق على الكائن المتشكل في الرحم ابتداء من الاسبوع التاسع من الحمل وحتى الولادة اسم الجنين Foetus.فهو يتلو طور المضغة، وابتداء من هذا الطور تكون جميع الأعضاء موجودة.وتأخذ فقط في الازدياد الحجمي ،ومن الناحية الشكلية فإن الجنين في هذا الطور يكون له شكل المولود الصغير ولكن برأس كبير متميز.
يكون طول الجنين الحي في بداية المرحلة حوالي 30مم،ويزن حوالي 8غرام،ويشكل الرأس تقريباً نصف الجسم،ويكون متواجداً لديه القلب واليدان والقدمان والمخوأعضاء أخرى لكنهم فقط في بداية التطور،وهناك حركات لديه مشابهة للتنفس ولكن لاعلاقة لها بوظيفة الرئتين وإنما تساعد على تطور الرئة.
وكما ذكرنا فإن طور الجنين يتميز بازدياد حجم الأعضاء والتي تكون قد تكونت في طور المضغة،مع حدوث التمايز النسيجي والعضوي، وازدياد النشاط الوظيفي لمعظم الأعضاء. وإن معدل النمو في هذا الطور سريع جداً وخاصة مابين الاسبوع التاسع والإثني عشر.
وفي الأسابيع 17 ـ 25 من الحمل تشعر الحامل بحركات الجنين وغالباً في الاسبوع 21 من الحمل،وفي نهاية الشهر الخامس من الحمل يصل طول الجنين حوالي 20سم.
وفي الأسابيع 26 ـ 38 من الحمل تزداد كمية الدهون في الجسم بشكل سريع،وتكون العظام متطورة بشكل كلمل،لكن لاتزال طرية ومرنة،وتصل الأظافر لنهاية أطراف الأصابع.
ويكون الجنين مكتمل النمو وجاهز للولادة بين الاسبوعين 36 ـ 40.ويكون طوله 48 ـ 53سم حين الولادة.
ومن المعروف علمياً أن زيادة وزن الجنين هام جداً لاستمراره في الحياة بعد الولادة، فإذا كان وزنه دون 500 غ عند الولادة فإنه لايبقى على قيد الحياة، وإذا كان الوزن 500 ـ 1000 غ فإنه قد يعيش ولكنه يبقى مهدداً بالأصابة ببعض الأمراض الخطيرة المهددة لحياته ويسمى المولود ناقص الوزن هنا بالخديج، وإذا كان الوزن 1000 ـ 2500 غ فإن استمرار بقائه حياً يكون أفضل بكثير. وإن الخداج هو أهم أسباب الوفيات بعد الولادة.
إذاً من ميزات الطور الجنيني أن التبدلات التي تحدث فيه هي تبدلات مورفولوجية شكلية بازدياد حجم الأعضاء ،وتبدلات فيزلوجية وظيفية حيث تقوم معظم الأعضاء بالقيام بوظائفها بدرجات متفاوتة،كما أن هذا الطور يتميز بأن محصول الحمل أقل عرضة للتشوهات الخلقية بالمقارنة مع طور المضغة وخاصة بسبب الأدوية او الالتهابات أو الأشعة،ولكن تعرضه لبعض العوامل السامة أو المؤذية قد يؤثر في الوظيفة الطبيعية لبعض الأعضاء وخاصة منها الدماغ والعينين.
وأما علم الأجنة” [مجموعة السفير :المجلد الرابع ص 236]”:
” فهو علم يبحث نمو الجنين وتطوره قبل ولادته،وقد بدأت الدراسات الأولى في علم الأجنة في كتابات الفلاسفة اليونانيين أمثال أرسطو وهيبوقراطس في السنة الرابعة والخامسة قبل الميلاد، وجالن في السنة الثانية بعد الميلاد، وكانت دراساتهم بعيدة عن الحقيقة غالباً وكان الرأي السائد أن الجنين يتكون من دم الحيض،ثم جاء القرآن الكريم قبل 14 قرناً بوصف إعجازي ودقيق لما اكتشفه العلماء الآن من وصف للمراحل التطورية للإنسان بدءاً من المراحل المبكرة ومروراً بتكوين الأعضاء. وكان علماء المسلمين منذ العصور الأولى للإسلام يرفضون فكرة أن الجنين يتكون من دم الحيض الذي هو أذى، قال تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى} وقال تعالى : {ألم يكُ نطفةً من منيٍ يُمنى}.
وعلى الرغم من التطور السريع لعلم الأجنة في النصف الأخير من القرن العشرين فإننا نجد أن بعض الاكتشافات التي تمت في القرنين التاسع عشر والعشرين كانت موجودة في القرآن الكريم.وقد وقف كبار علماء الأجنة في العالم مُعجبين أمام الحقائق التي أوردها القرآن والسنة النبوية حول مراحل تطور الجنين ونموه ومنهم كيث مور وبرسود من كندا،ومارشال جونسون من أمريكا، وشارل رومن فرنسا.وقد ألف بعضهم أبحاثاً تؤكد هذه الحقائق القرآنية مثل كتاب الإسلام والعلم للدكتور برسود، وكتاب نشأة الإنسان للدكتور كيث مور.
ولقد اعتمد العالم الدكتور كينيث مور في تصنيف مراحل تطور الجنين الإنساني على القرآن الكريم والسنة النبوية وقسم مراحل تطور الجنين إلى ثلاث مراحل رئيسية:
1 ـ طور النطفة: ويشمل مرحلة الإخصاب،وتشكل النطفة الأمشاج، والتوتة، والبلاستولا مع التعشيش.
2 ـ طور التشكل: ويبدأ من الاسبوع الثالث وحتى الثامن ،ويشمل طور العلقة،والمضغة، ومرحلة تشكل القطع البدنية”تبدأ بالظهور في الاسبوع الرابع من الإخصاب”، ويكون محصول الحمل في هذه المرحلة بشكل المضغة”قطعة اللحم الممضوغ” ويشمل هذا الطور ايضاً تشكل العظام وكسوها بالعضلات، ويأخذ محصول الحمل في نهاية هذا الدور الشكل الإنساني.
3 ـ طور النمو:وهو طور الجنين بالخاصة،ويبدأ من الاسبوع التاسع وحتى الولادة، وفي هذا الطور يأخذ الجنين الشكل الإنساني،وابتداء من الاسبوع التاسع تظهر الأعضاء التناسلية الظاهرة وتأخذ بالتميز ويمكن معرفة كون الجنين ذكر ام أنثى في نهاية الاسبوع 12 من خلال الأعضاء التناسلية الظاهرة.وفي هذا الطور تكون العظام الغضروفية التي ظهرت في الطور الثاني قد بدأ فيها التكلس فظهرت فيها نويات التعظم،وتظهر بالتدريج العظام الكلسية وتحل محل العظام الغضروفية.
ويقول الدكتور كيث مور(استاذ علم التشريح وأحد خمسة من مشاهير العالم في علم الأجنة ،وله مؤلف مترجم إلى ثماني لغات في علم الأجنة) حيث سئل مايقرب من 80 سؤالاً في علم الاجنة: “لو كنت سئلت هذه الأسئلة منذ 30 عاماً فقط ما استطعت الإجابة من قلة المعلومات العلمية لدينا، ولكن القرآن والأحاديث النبوية أجابت عنها منذ 1400 عام.ويتابع:”إن تقسيمنا وتصنيفنا لأطوار الجنين لم يعرف إلا في نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وقد أعطيت مراحل وأطوار الجنين أرقاماً وأحرفاً أبجدية، وبعد ذلك أعطيت أسماء رقمية لاتحمل معنىن وتجعل العلم صعب جداً على الطالب…لكن الدراسات الحديثة المقارنة وعلم الأجنة والقرآن والسنة أسفرت عن مصطلحات جديدة سهلة ونافعة،تجعل علم الأجنة ميسوراً وتقرب لنا هذا العلم، وتعتمد هذه المصطلحات على الشكل والوضع الذي يمر به الجنين..فشكل النطفة والعلقة والمضغة والعظام ثم الاكتساء باللحم ثم طور النشأة خلقاً آخر”.
وحينما وقف البروفسور موريس بوكاي يحاضر في الأكاديمية الطبية الفرنسية يوماً عن الإعجاز الطبي في القرآن الكريم، قال لهم: هذه حقائق العلم التي عرفتموها، وهذا مايقوله القرآن الكريم فإني أوجه لكم السؤال التالي: هل هناك امكانية لأن يكون هذا العلم قد جاء لمحمد صلى الله عليه وسلم في القرن السابع الميلادي عن طريق البشر؟إن كان لاحدكم تفسير عن ذلك فليبينه لي ،فما أجاب منهم أحد، ثم قال: أما وقد وقفتم هذا الموقف واتضح الأمر فأقول لكم أنه ليس هناك إلا تفسير واحد، إن هذا القرآن هو من عند الله وأن محمداً هو رسول الله حقاً”.
وأقول وصدق الله العظيم حيث يقول: {سَنريهم آياتنا في الآفاقِ وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنّهُ الحق}، ويقول تعالى: {وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها}[النمل 93]
ويقول تعالى: {ويرى الذين أُوتُوا العلمَ الذي أُنزِلَ إليكَ من ربِّكَ هُوَ الحَقَّ ويهدي إلى صراطِ العزيزِ الحميد}[ سبأ 6 ]
ويقول تعالى: {ولِيعلمَ الذينَ أُوتُواالعلمَ أنّهُ الحَقُّ من رَبِّكَ فَيُؤمنوا بهِ فَتُخبِتَ لهُ قُلوبُهُم وإنَّ اللهَ لهادِ الذين أمنوا إلى صراطٍ مستقيم}[ الحج 54]، وقال تعالى: {بل هُوَ آياتٌ بيّناتٌ في صُدورِ الذين أُوتُوا العلمَ وما يجحدُ بآياتنا إلا الظّالمون}[ العنكبوت 49]
“فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحما”
يتم تطور الجنين داخل الرحم وبالحسابات حسب الشكل التالي:
في اليوم العشرين أو الواحد والعشرين من الإلقاح(تشكل النطفة الأمشاج) تظهر مايُسمى الكتل البدنية(السومايتز) على كل جانب من محور الجنين، ويبلغ عددها عند اكتمالها 42 ـ 45 كتلة على كل جانب من محور الجنين أي من القمة وحتى المؤخرة،وتعرف الكتل الأربع الأولى العليا باسم الكتل القفوية، ثم تليها 8 رقبية، ثم 12 صدرية ثم 5 قطنية ثم 5 عجزية ثم 8 ـ 10 عصعصية. وهذه الكتل هي الأساس الذي يقوم عليه من بعد الجهازين العظمي والعضلي، ويمكن معرفة عمر الجنين بمعرفة عدد الكتل البدنية، ويبدو منظر الجنين عندما تتشكل هذه الكتل البدنية فيه وكأنَّ اسناناً انغرزت فيه ولاكته ثم قذفته، ولعل هذا قد يكون احد التفاسير لمعنى المضغة، وهذا التعبير أي المضغة هو أدقّ وصف لهذه الفترة من تشكل محصول الحمل. ويسبق تشكل العظام العضلات، فالعظام تتشكل في الاسبوع 5 ـ 6 من الإلقاح، وبينما العضلات تتشكل في الاسبوع 6 ـ 7 وهذا إعجاز آخر في القرآن الكريم{فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً}.
وفي حوالي الاسبوع 11 ـ 12 من الحمل يأخذ الوجه المعالم البشرية،والوجه هنا يكون شكلاً كأنه خمسة جزر،يمكن رؤيتها تحت الجلد الرقيق.
الجزيرة الأولى: مابين العينين والأسفل وهذه تشكل فيما بعد الأنف والشفة العليا.
الجزيرة الثانية والثالثة: ويتشكل منها العينان والخدان والأقسام الجانبية من الشفة العليا.
الجزيرة الرابعة والخامسة: وينشأ عنهما الشفة السفلى والذقن.
وعلى هذا الهيكل العظمي تنمو العضلات التي تحرك عظام الوجه وتعطيه معالمه وملامحه، وهذه المعالم وارتسامات الوجه تبين لنا إذا كان الطفل منزعجاً أو مرتاحاً، إن الطفل ابتداء من الاسبوع 23 من الحمل يمكن أن يتألم لأن الجملة العصبية عنده تكون قد تشكلت في هذا الوقت وهذا لابد من مراعاته في كل التدخلات التي تجرى على الأم والجنين في هذه المرحلة.
ومن ثم تتشكل وتتكون الأجهزة الأخرى كالقلب والكبد والأطراف والسمع والبصر والدماغ{وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة}
ويبلغ طول الجنين في الاسبوع السادس عشر حوالي 16 سم، ويبدي الجنين في هذه المرحلة شكلاً كاملاً ومتطوراً، وتظهر فيه نويات التعظم الأولى، وتظهر فيه عناصر تشكيل الدم في الكبد.
ـ وفي الاسبوع 17 ـ 20 يتباطى نمو الجنين، ويمكن للأم أن تشعر بحركات الجنين،وفي نهاية هذا الطور تشاهد أشعار الحواجب والرأس.وفي هذا الطور يتشكل لدى الجنين مايسمى النسيج الشحمي البني،وهو المسؤول عن توليد الحرارة لدى الجنين، وتتولد الحرارة عند الوليد فيما بعد من هذا النسيج خاصة من جراء أكسدة الحموض الدهنية، ويوجد هذا النسيج الشحمي البني وبشكل خاص في المثلث الأمامي للعنق وخاصة في أسفله والذي تحيط به الأوعية الدموية وخاصة تحت الترقوة والسباتي،كما يوجد هذا النسيج خلف عظم القص، وحول الكلية.ويعزى اللون البني لهذا النسيج لوجود المتقدرات(الميتوكوندريا) وهذه الجسيمات داخل الخلايا هي المسؤولة بشكل خاص عن توليد القدرة وتوليد الحرارة في العمليات الاستقلابية داخل خلايا الجسم.
ـ وفي الاسبوع 24 يبلغ طول الجنين 30 ـ 32 سم،وفي هذا الاسبوع تبدأ خلايا الأسناخ الرئوية بتشكيل مادة “السرفاكتانت” وهي عبارة عن مادة شحمية فعالة تحافظ على بقاء الأسناخ الرئوية مفتوحة،وغيابها أو نقصها يسبب اضطرابات تنفسية شديدة عند الوليد قد تؤدي بحياته. وإذا حدثت الولادة في هذا الطور فإنه قد لايتمكن الوليد من الحياة لأن جهاز التنفس لديه لم ينضج بعد.
ـ وفي الاسبوع 28 يكون الجنين قابلاً للحياة إذا حدثت الولادة لأن الرئة قادرة على القيام بوظيفة التنفس وبسبب تطور الرئة والأوعية الدموية فإنه يمكن حصول التبادل الغازي عبر الأسناخ الرئوية، وكذلك لنضج الجملة العصبية المركزية والتي تشرف مراكزها على الإشراف على وظائف التنفس الطبيعي والمنتظم، وكذلك الإشراف على مراقبة حرارة البدن.وفي هذا الطور يوجد النسيج الشحمي الأبيض تحت الجلد وتزداد نسبته، كما يتم في هذا الطور تشكل الدم في الطحال ونقي العظم.
ويكون وزن الجنين حوالي1000غ، وطوله 35 ـ 40 سم.
ـ وفي الاسبوع 36 تظهر الأظافر وتصل إلى ذرى الأصابع،ويكون لون الجلد أحمرأ، ومغطى بطبقة من الطلاء الدهني.
ـ وفي الاسبوع الأربعين تظهر عليه كامل علامات النضج والتمام، وطوله 49 ـ 53 سم، ووزنه 3200غ.
والحسابات بالأشهر:
ـ الشهر الأول:تظهر أربعة براعم هي الأطراف العليا والسفلى، وفي نهاية الشهر يبدأ القلب بالنبضان ويكون معدل سرعة نبضان القلب لدى الجنين ضعف نبضان القلب لدى الأم،أي في حوالي اليوم 36 ـ 38 من انقطاع الطمث، ويمكن رؤية نبضان قلب الجنين من خلال الأمواج فوق الصوتية(Sonographie) ابتداء من الاسبوع السابع أي في اليوم 43 ـ 46 ، ولكن لايسمع عبر جدار البطن إلا بعد الاسبوع الحادي عشر
ـ الشهر الثاني: يظهر صيوان الأذن الخارجية، واليدان والأصابع، وتنفصل فتحة الفم عن الأنف، وطول المضغة 2 ـ 4 سم ، والوزن حوالي 13 غ.
في نهاية الشهر الثاني يكون شكل الجنين وبدون أدنى شك إنسانياً بشرياً، فالرأس مدور ولكنه كبير الحجم نسبياً بالمقارنة مع حجم الجسم ككل،ويكون لديه عنق، ويظهر الجفنان ولكنهما ملتحمان،البطن متبارز قليلاً، والعينان موجودتان
ـ في نهاية الشهر الثالث:وزن الجنين 55غ، وطوله 10 سم،الجفنان ملتحمان، وفي الشهر الثالث تظهر نويات التعظم المختلفة في كثير من عظام الجسم ويمكن كشفها بالتشخيص الشعاعي، وتأخذ شكل المضغة هنا الشكل الإنساني.
يبدأ ظهور الأشعار في الشهر الثالث، ويبدأ ظهور مايسمى الأشعار البدئية، وتظهر في جميع أنحاء الجسم ويصبح للجلد شكلاً مميزاً، وذلك لأن جذور الأشعار تكون موجودة بشكل مائل وتكون موازية لألياف النسيج الضام في الجلد وبحيث يبدو الجنين في هذا الطور وكأنه توجد هناك عليه كتابات جلدية غير مفهومة.
ـ نهاية الشهر الرابع:وزن الجنين 170 غ، وطوله 20سم،ويتشكل الجهاز الهضمي، ويبدأ الكبد بالعمل، ويكون الجنين متجعد الجلد، أصلع، قبيح المنظر، وتنضج الأعضاء التناسلية.
وفي هذا الشهر يحدث نمو وتطور سريع وابتداءً من الشهر الرابع يطلق على محصول الحمل اسم الجنين في علم الأجنة.وفي الشهر الرابع وحتى الخامس تكون أشعار الحاجبين والرأس بشكل خشن وتكون ذات لون معين لوجود خلايا صباغية تعطيها اللون، وإن هذا الشعر البدائي يختفي قبل الولادة ولانعرف ماهي أهميته بالتحديد، وربما يكون دور الشعر الناعم الحفاظ على الطلاء الدهني والذي تشكله الغدد الدهنية الموجودة بجانب جذور الأشعار.وإن هذا الطلاء الدهني يقي الجنين من الانتانات كما أنه يساعد أثناء الولادة كعامل “مزلق” يساعد على تسهيل الولادة، وإن جزءاً من هذا الطلاء الدهني ينفصل عن جلد الجنين ويمتزج مع السائل السلوي ولذا يكون بلون عكر في نهاية الحمل.
ـ نهاية الشهر الخامس:وزن الجنين 650غ، وطوله 30سم، يظهر شعر الرأس، وتبدأ غدد الجلد بالعمل، والأظافر تبدأ بالظهور، والجلد متجعد، والخصيتان متوضعتان على جانبي العمود الفقري الظهري، يقوم الجنين بحركات قوية تشعر بها الحامل.
ـ الشهر السابع: مع نمو الجملة العصبية تصبح حركات الجنين هادفة وأكثر انتظاماً.
ـ الشهر الثامن: وزن الجنين 2550غ، وطوله45سم،الجفنان ينفصلان بعد أن كانا ملتحمين،وتختفي تجعدات الجلد لظهور الغدد الدهنية والتي بإفرازها تحمي الجلد من تخريش السائل السلوي،ويصبح لون الجلد جميلاً أحمر اللون لوجود الدم في الأوعية الشعرية، وتهاجر الخصيتان من جانب العمود الفقري إلى الصفن.
ـ الشهر التاسع عند الولادة:الوزن 3250 ت 3400غ، والطول 49ـ 53سم،ويأخذ رأس الجنين داخل الرحم الوضع المسمى بالمجئ الرأسي، وتشعر الحامل عندها بأن البطن قد هبط قليلاً وهذا يعني أن الجنين يتأهب للخروج.
“وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة”
تتطور آلتي حس السمع والبصر في وقت متزامن تقريباً عند الجنين.وذلك ابتداء من الاسبوع الثالث من الحمل.ولكن الصحيفة السمعية تظهر في أواخر الأسبوع الثالث بينما البصرية في أول الشهر الرابع وهذا مما يدل أيضاً على الإعجاز القرآني الذي ذكر السمع ثم البصر.
الأذن والسمع:
إن الأذن تتألف من ثلاثة أقسام ، وكل قسم منها ينشأ من جهة معينة. ومن ناحية التطور فإنه تتشكل الأذن الداخلية(عضو السمع والتوازن) من القسم الخلفي للدماغ،وبعد ذلك أي حوالي الاسبوع الخامس من حياة المضغة تتشكل الأذن الخارجية مع مجرى السمع وغشاء الطبل،وأما الأذن الوسطى التي تتوضع بينهما فإنها مع عظيمات السمع تتشكل بينهما (أي بين الاذن الداخلية والخارجية).
إن الجنين يستطيع وبشكل مبكر وابتداء من الشهر الرابع إلى الخامس أن يسمع ويتفاعل مع الأصوات والتنبيهات، وإن الانتانات التي تصيب الأم في طور المضغة قد تسبب تشوهات وأذيات سمعية.
ومع تقدم الحمل يستطيع الجنين أن يستقبل الأصوات ويعرف اختلافاتها ويدركها بدماغه، فهو لا يعيش أصماً في جو من الصمت المطبق،ويسمع الجنين دقات قلب أمه وهو يرتكس للضجيج والذي يسبب عنده سرعة دقات القلب.ولقد وجد أن الأجنة الذين يتعرضون لاذية الضجيج فوق 85 ديسيبل يكون لديهم خطر كبير من الإصابة بنقص السمع وهذا ماذكرته الكثير من الأبحاث العلمية، حيث تبين إحدى الدراسات الكندية أن الأمهات الذين يتعرضون أثناء عملهن وفي فترة الحمل إلى أذيات الضجيج وخاصة في بعض المعامل فإن هناك خطورة إصابة مواليدهن بنقص السمع.
كما أن المواليد الجدد يتعرفون على أصوات أمهاتهم وأصوات أخرى معينة مجدداً إذا سمعوها أثناء طور الجنين داخل الرحم، ومنها دقات قلب الأم، أو إذا كانت الأم أثناء الحمل تستمع إلى موسيقى معينة،أو أصوات أخرى سواء منها الاليفة أو المزعجة.
تشكل العين والرؤية:
إن تطور العين له من الأهمية والمتعة حيث يعطي فكرة عن العلاقة عن تطور الدماغ عند الجنين.
في البداية يرسل القسم الأمامي من الدماغ استطالة مجوفة إلى كل جانب،وفي نهاية الاستطالة يوجد حويصل صغير،وعندما يصل هذا الحويصل إلى القسم الباطن من جلد الوجه ويلامسه فإن الحويصل يتحدب ويأخذ شكل الكؤيس، وفي قعر هذا الكؤيس يتشكل فيما بعد تجويف العين(مايسمى الحجاج) وما يستره من الجلد فيما بعد يشكل الشبكية، وداخل الكؤيس تتشكل القرنية والعدسة، وفي القسم الأمامي من العدسة تتشكل القزحية، وفي النهاية تتشكل الأجفان.
وكما ذكرنا فإن الإعجاز القرآني في ذكر أسبقية السمع في الخلق والتطور الجنيني قد أكدته الدراسات العلمية:
1 ـ إن الاذن الداخلية للجنين تنضج في الشهر الخامس بينما العين حوالي الشهر السابع.أي أن الجنين يصبح قادراً على السمع ابتداء من الشهر الخامس بينما لا تفتح العين ولا تتطور طبقتها الحساسة للضوء إلا في الشهر السابع،وحتى ذلك الوقت لا يكون العصب البصري تام النمو لينقل الإشارات العصبية الضوئية إلى مراكز الدماغ بكفاءة.ولن تبصر العين لأنها غارقة في الظلمات الثلاثة.ولان انسداد الأجفان يمنع الرؤية أيضاً.
2 ـ ثبت علمياً أن الاذن الداخلية للجنين ترتكس لأصوات ابتداء من الشهر الخامس ويسمع الجنين أصوات وحركات أمعاء وقلب أمه.وتتشكل إشارات عصبية سمعية لديه في الاذن الداخلية وتنتقل عن طريق العصب السمعي إلى مراكز المخ المسؤولة.بينما حاسة البصر لاتكون مكتملة بسبب عدم نضج الشبكية في العين والعصب البصري.
والإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يبدأ بسماع الاصوات وهو في رحم أمه.وأما باقي الحيوانات لا تبدأ بالسماع إلا بعد ولادتها بفترة.
ويمكن للجنين بعد بضعة أيام من الولادة أن يسمع الأصوات بشكل ملحوظ بعد أن تمتص السوائل والفضلات من الأذن الوسطى والخارجية،وتصبح حاسة السمع لديه شديدة وحادة خلال أيام قليلة بعد الولادة.أما حاسة البصر فتكون بعد الولادة ضعيفة إن لم نقل معدومة.ويصعب على الوليد تمييز الضوء من العتمة.ولا يرى إلا صوراً مشوشة للمرئيات.وتتحرك عيناه دون القدرة على تثبيتها وتركيز بصره.ويبدأ ابتداء من الشهر الثالث أو الرابع بعد الولادة تمييز شكل أمه أو زجاجة الحليب وتتبع حركاتهما.وفي الشهر السادس يتمكن من تفريق وجوه الاشخاص.
تشكل القلب:
يبدأ تشكل القلب في الاسبوع الثالث ويكون على شكل انبوب بسيط، ويستطيع أن يدفع الدم خلال العروق اليسيطة التي تشكلت في الاسبوع الرابع من عمر المضغة.وبعد ذلك يأخذ القلب شكل حرف السين الأجنبي ،ثم يأخذ الحاجز بين البطينين وبين الأذينتين بالتشكل وبالتالي ينقسم القلب إلى قسم ايسر وقسم أيمن.ويغلق الحاجز بين قسمي القلب في الأسبوع الثامن ولاتبقى إلا مايسمى الثقبة البيضية(Foramen Oval) والتي تبقى مفتوحة وحتى بعد الولادة وتكون بين الأذينتين اليمنى واليسرى والتي قد تستمر في الأنفتاح وتسبب أمراضاً قلبية فيما بعد.وبذلك يكون القلب في نهاية الاسبوع الثامن قد أخذ الشكل الكهلي، وأما التطورات اللاحقة على القلب فتكون بشكل رئيسي مقصورة على تطور عضلة القلب.وهذا يبين أن أي تشوه قلبي ولادي إنما يحدث في حالة إصابة القلب بالعوامل المرضية أو السمية قبل نهاية الأسبوع الثامن.
وقد اخترع جهاز لتسجيل ضربات قلب الجنين وتقلصات الرحم أثناء الحمل ويسمى جهاز مراقبة قلب الجنين Cardiotocography.
“لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم”
يقول الأستاذ العلامة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله في مقال له بعنوان” مظاهر التكريم الإلهي للإنسان” يقول أن أهم هذه المظاهر:
1 ـ استخلافه في الأرض:
لقد أعلن الإسلام كرامة الإنسان،فاعتبره خليفة الله في الأرض، وهي منزلة اشرأبت إليها أعناق الملائكة،وتشوّفت إليها أنفسهم،فلم يُعطوها، ومنحها الله للإنسان:{ وإذ قالَ رَبُّكَ للملائكةِ إنِّي جاعلٌ في الأرضِ خليفةً قالوا أتجعَلُ فيها من يُفسِدُ فيها ويَسفِكُ الدماءَ ونحنُ نُسَبِّحُ بحمدِكَ ونُقَدّسُ لك قال إنِّي أعلمُ مالاتعلمون* وعَلَّمَ آدمَ الأسماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرضَهُم على الملائكةِ فقال أنبِئوني بأسماءِ هؤلاءِ إن كنتم صادقين* قالوا سُبحانكَ لا عِلمَ لنا إلا ماعلمتنا إنَّكَ أنتَ العليمُ الحكيم* قال يا آدمُ أنبِئهم باسمائِهم فلمَّا أنبأهُم باسمائِهم قال ألم أقُلْ لكم إنِّي أعلمُ غيبَ السماواتِ والأرض وأعلمُ ما تُبدونَ وما كنتم تكتمون} [ البقرة 30 ـ 33]، لقد كرّم الله تعالى الإنسان بالخلافة في الأرض،وهيأه لها بالعقل والعلم الذي تفوَّق به على الملائكة.
2 ـ خلقه في أحسن تقويم:
وأعلن الإسلام كذلك أن الله كرّم الإنسان بالصورة الحسنة وبالخلقة الحسنة،كما قال تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم}[التين4] ، “{ وصَوَّرَكُم فاحسنَ صُوَرَكُم وإليه المصير}”[ التغابن 3]
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرر هذا الدعاء في سجوده” سجد وجهي للذي خلقه وشقَّ سمعه وبصره بحوله وقوته،”.[أخرجه أبو داود واللفظ له والترمذي والنسائي وأحمد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها]
ويقول الدكتور يوسف القرضاوي أيضاً في تفسير سورة الأعلى:
“إذا كان الخلق يدل على الله، فالتسوية ادل عليه، والتسوية أخصّ من الخلق،إذ من الممكن أن يخلق الشئ غير مُسوّى.فمعنى تسوية الشئ إحسان خلقه،وإكمال صنعته بحيث يكون مهيئاً لأداء وظيفته،وبلوغ كماله المقدر لنوعه، وإمداده بما به صلاحه وبقاؤه، وجعله مستوياً معتدلاً متناسب الأجزاء بحيث لايحصل بينها تفاوت يخل بالمقصود منها.
والقرآن يعبر عن هذه التسوية بعبارات مختلفة الألفاظ، متقاربة الدلالة على المقصود،مثل الإحسان في قوله تعالى{الذي أحسن كل شئٍ خلقه}[السجدة 7]، والإتقان في قوله{صنع الله الذي أتقن كل شئ}[النمل88]، وإعطاء كل شئ خلقه في قوله تعالى على لسان موسى{ربنا الذي أعطى كل شئٍ خلقه ثم هدى}[طه 50]، ومعنى إعطائه خلقه:إعطاؤه من الخلق والتصوير مايصلح به لما خُلق له.كما عبر عن التسوية بنفي التفاوت في خلق الله في قوله تعالى{ماترى في خلق الرحمن من تفاوت}[الملك 3].وهذه التسوية ظاهرة في الكائنات كلها على وجه العموم، وفي الكائنات الحية على وجه الخصوص، وفي الإنسان على وجهٍ أخص.
ويتابع حفظه الله:
“إن الإنسان قد خلق لمهمة جليلة، وهي السيادة على الأرض والخلافة فيها،
ولهذا أعطي من الخصائص والمميزات،والأجهزة المادية والروحية، مايعينه على أداء وظيفته، ويُيسر له سبيل مهمته.ولو نظرنا إلى التكوين البدني للإنسان لرأينا العجب العجاب من عظمة التسوية،ودقة التصميم، وتناسق الأجهزة المختلفة التي لايعد شيئاً بجانبها تصميم اي جهاز يخترعه إنسان منا،فتدهش له العقول،وتنطلق بمدحه الالسنة والأقلام.
3 ـ تمييزه بالعنصر الروحي:
وفوق ذلك كله كرمه بالروح العلوي الذي أودعه الله بين جنبيه، فهو قبس من نور الله، ونفخة من روح الله، استحقَّ به أن تنحني له الملائكة إجلالاً وإكباراً لمقدمه بأمر الله، كما قال تعالى لملائكته: {إذ قال رَبُّكَ للملائكةِ إنِّي خالقٌ بشراً من طينٍ فإذا سوَّيتهُ ونفختُ فيه من روحي فَقعوا لهُ ساجدين}[ ص 72 ]وهذه النفخة الروحية الإلهية ليست خاصَّة بآدم أبي البشر، كما قد يتوهم بعض الناس، فإنّ بنيه ونسله جميعاً قد نالهم حظ منها،كما قال تعالى بعد أن ذكر خلق آدم: {ثُمَّ جعلَ نَسلَهُ من سُلالةٍ من ماءٍ مهين ثُمَّ سَوّاهُ ونفخَ فيهِ من رُوحهِ وجعلَ لكم السّمع والأبصارَ والأفئدة قليلاً ماتشكرون}[ السجدة 9] فلم يكن هذا التكريم والإحتفال لشخص آدم عليه السلام، وإنما كان تكريماً للنوع الإنساني في شخصه،فإنّ الله ميّزهم بما ميّزه من مواهب العقل والعلم والروح واستخلفهم كما استخلفه في الأرض،ولهذا أعلن القرآن كرامة البشر كافة حين قال : {ولقد كرّمنا بني آدمَ وحملناهُم في البَرِّ والبحرِ ورزقناهم من الطّيِّباتِ وفَضَّلناهم على كثيرٍ مِمّن خلقنا تفضيلاً}[ الإسراء 70]وهذا كله يثبت أن الإنسان نوع متفرد متميز عن سائر الحيوانات‘،فإنها وإن شابهته في عناصر تكوينها الطيني تخالفه ويخالفها في التكوين المعنوي، إذ لم يكرمها الله بما كرمه من الروح والعقل،لأنها لم تُكلّف ما كلّفه من عمارة الأرض وخلافة الله فيها.فهي مجرد أداة له في مهمته، ليسخرها في حاجته، ولاريب أن إيحاء هذا المعنى في نفس الإنسان، غير إيحاء الذين ينظرون إليه على أنه ليس إلا حيواناً تطور وترقى حتى صار إلى ماهو عليه الآن”.
هذا هو موقف الإسلام والدين من الإنسان وسبب خلقه،وأما أصحاب المذاهب الوجودية وفلاسفة الحضارة المادية وكهنة الرسالات الوضعية فإن لهم رأي آخر!
يقول الدكتور يوسف القرضاوي في مقالة أخرى بعنوان “الإنسان في نظر الماديين” منقولاً عن كتاب الإيمان والحياة:
“ما الإنسان؟ إنه في نظر الماديين قبضة من تراب هذه الأرض.من الأرض نشأ، وعلى الأرض يمشي، ومن الأرض يأكل وإلى الأرض يعود.هو كتلة من اللحم والدم والعظام والأعصاب والأجهزة والغدد والخلايا وما العقل والتفكير إلا مادة يفرزها المخ،كما تفرز الكبد الصفراء،أو كما تفرز الكلية البول!هو كائن ليس له أهمية ولاامتياز على غيره، إنه أحد الأحياء الكثيرة المتنوعة على هذه الأرض، بل أصبح من جنس هذه الهوام والحشرات والزواحف والقرود، غاية أمره إنه”تطور” بمرور الزمن فأصبح هذا الإنسان!!
وماقيمة هذا الجسم؟ وهذا الهيكل الذي هو الإنسان؟
إن أحد العلماء رد جسم الإنسان إلى العناصر الأساسية فيه، فخرج بالنتائج الآتية:
إذا جئنا بإنسان زنته مائة وأربعون رطلاً وغلغلنا النظر في تكوينه وجدنا بدنه يحتوي على المواد الآتية:
قدر من الدهن يكفي لصنع 7 قطع من الصابون.
قدر من الكربون يكفي لصنع 7 أقلام رصاص.
قدر من الفوسفور يكفي لصنع 120 عود ثقاب.
قدر من ملح المغنيزيوم يصلح جرعة واحدة لأحد المسهلات.
قدر من الحديد يمكن عمل مسمار متوسط الحجم منه.
قدر من الجير(الكلس) يكفي لتبييض بيت للدجاج.
قدر من الكبريت يطهر جلد كلب واحد من البراغيث التي تسكن شعره.
قدر من الماء يملأ برميلاً سعته عشرة جالونات.
وتلك هي قيمة الإنسان المادية(من كتاب نظرات في القرآن للأستاذ محمد الغزالي).
ويتابع الشيخ القرضاوي:”لاروح هنالك ولانفخة من السماء يختص بها هذا الكائن الفذ!
وليس ماذهب إليه داروين وفرويد وأمثالهما من الماديين بأفضل من هذه النظرة إلى الإنسان.إنه عندهم أخو الحشرات،وصنو القرود! إنهم لايبصرون فيه إلا القشرة والغلاف، ولايعرفون فيه إلا الطين والحمأ المسنون!فهو مخلوق من طبيعته الإنجذاب إلى أسفل، وليس الرقي إلى أعلى ،من طبيعته الهبوط إلى الأرض، وليس الارتفاع إلى السماء. هوـ بعبارة موجزة ـ حيوان متطور ترقى من طور إلى طور حتى بلغ ماهو عليه.فالحيوانية في الإنسان قشرته ولبه، ولحمته وسداه!
ويتابع الشيخ القرضاوي:
“فأي إيحاء للنفس الإنسانية أسوأ من هذا الإيحاء أثراً؟أن يرى الإنسان مخلوقاً هابطاً ..حيواناً..طيناً وحماَ!إنه لايستغرب من نفسه الانحدار والتلوث والإسفاف ولايستنكف من القذارة والأوحال أن يتمرغ فيها،ويتلطخ بها ،بل المستغرب منه أن يتعفف ويتطهر، وأن يحيا نظيفاً مستعلياً على الشهوات، والمطامع المادية،باذلاً النفس والمال في سبيل الحق، ابتغاء رضوان الله”.
يقول الشهيد سيد قطب في “الظلال”[ ج1 ص49]:
“وهذا التشابه في الشكل والتنوع في المزية،سمة واضحة في صنعة البارئ تعالى،تجعل الوجود اكبر في حقيقته من مظهره، ولنأخذ الإنسان وحده نموذجاً كاشفاً لهذه الحقيقة الكبيرة،الناس كلهم ناس، من ناحية قاعدة التكوين: رأس وجسم وأطراف، لحم ودم وعظام وأعصاب،عينان وأذنان وفم ولسان، خلايا حية ،تركيب متشابه في الشكل والمادة،ولكن أين غاية المدى في السمات والشيات؟ ثم أين غاية المدى في الطباع والاستعدادات؟إن فارق مابين إنسان وإنسان ـ على هذا التشابه ـ ليبلغ أحياناً ابعد مما بين الأرض والسماء! وهكذا يبدو التنوع في صنعة البارئ هائلاً يدير الرؤوس: التنوع في الأنواع والأجناس،والتنوع في الأشكال والسمات، والتنوع في المزايا والصفات… وكله .. كله مرده إلى الخلية الواحدة المتشابهة في التكوين والتركيب” .
ويقول الشهيد سيد قطب رحمه الله أيضاً:
“خلق الله الإنسان بقدر فلم يوجد هكذا مصادفة ولاجزافاً،وخلق لغاية فلم يخلق عبثاً ولاسدى.وكرّم الله الإنسان وميّزه خلقة وطبيعة وتكويناً عن سائر الأحياء الأخرى، وأعطاه الخلافة في الأرض ليكون خليفة الله في أرضه، وجعله مخلوقاً غير مكرر، تميّز وتفرّد بالصفات تكريماً منه عزّ وجلّ.
يقول جوليان هكسلي في كتابه “الإنسان في العالم الحديث” وفي فصل ” تفرد الإنسان: “عندما وافق العالم على رأي داروين في نظريته التطورية اعتبر الإنسان حيوان كسائر الأحياء الأخرى،لايوجد بينهما هوّة واسعة، وإن كل الكائنات الحية متساوية القيمة،والبقاء هو المقياس الوحيد للنجاح التطوري. ولكننا الآن وبعد اتساع المعرفة ونتائج التحليل العلمي نقول” إن الإنسان يتفرّد بصفات خاصة تجعلنا نبتعد كثيراً عن اتباع نظرية داروين ومنها:
1 ـ قدرة الإنسان على التفكير التصوري”التخيل” وهذا كانت له ثمراته الواضحة في تحسين فيما لديه من عُدد والآت،وهذا هيأ له السيادة بين سائر الكائنات الحية،وهكذا يضع علم الحياة الإنسان في مركز مماثل لما أنعم به عليه كسائر المخلوقات كما تقول الأديان.
2 ـ الإنسان لامثيل له أيضاً كنوع مسيطر: فكل الأنواع الأخرى انقسمت أجناساً وفصائل ومجموعات،وبقي الإنسان محافظاً على سيادته من غير انقسام ولقد تم تنوع سلالات الإنسان في حدود نوع واحد.
3 ـ ولاننسى ان الفرق بين الإنسان والحيوان في العقل أعظم بكثير مما نظن عادة.
ويقول العالم الأمريكي كريسي موريسون في كتابه” العلم يدعو إلى الإيمان” يقول:
” إن الذين نادوا بنظرية النشوء والارتقاء لم يكونوا على علم بوجود المورثات”الجينات” والتي فتحت تطوراً كبيراً لفهم التطور، والتي تقول أنه ليس من الضروري أن يكون الإنسان قد انحدر من سلالة القرود بسبب التشابه الهيكلي معها،وإن ارتقاء الإنسان الحيواني إلى درجة مفكر شاعر بوجوده هو خطوة اعظم من أن تتم عن طريق التطور المادي ودون قصد ابتداعي والذي لابد ان يقود إلى التفكير بوجود الله الذي منح الإنسان قبساً من نوره.إننا إذا لم نستطع الكشف عن الشئ في مخابرنا فهذا لايعني أن الشئ غير موجود وهذا تفكير خاطئ، خاصة إذا تيقنا أن هذا الشئ هو واقع ولكننا لانستطيع أن نلمسه أو الإحساس به مادياً، وهذه هي روح الإنسان،علينا أن نعترف بأن هناك قوة أكثر من المادية تسيطر على الإنسان لانستطيع أن نتصل بها مباشرة ولكن تفكيرنا يقودنا إلى وجودها،إن الإنسان يبقى متطلعاً إلى معرفة المجهول الذي يدرك أنه موجود من غير أن يحس به أو يلمسه،ويبقى لديه هنا الاشتياق الكامن المتطلع لكشف ماوراء ستار المادة، وهذه هي خلاصة القصد الرباني، أن يبقى الإنسان على محاولة للاتصال بأشياء تعلو عن قدرة حواسه، ولكنه يستطيع أن يتخيلها فكراً وتدبيراً،فإذا ما وصل إلى هذه المرحلة فإنه يكون قد وصل إلى لبّ الدين.
إن هناك امثلة واسعة وواضحة على فردية الإنسان وتفرده بصفات تختلف عن صفات إنسان آخر، فبصمات الأصابع هي التوقيع الحقيقي للإنسان،وعملية نبذ الطعوم هي خاصة فردية، كما أن كل شخص يتفاعل بطريقته الخاصة مع أحداث العالم الخارجي من الضوضاء والخطر والطعام والبرد وهجمات الحمات والمحرضات، فالحقائق واضحة جلية فالإنسان كائن فذ في هذا الكون، معقّد أشدّ التعقيد، وإن الإنسان يشتمل على عوالم متفردة .
ويقول الشهيد سيد قطب رحمه الله في كتابه مقومات التصور الإسلامي:
“إن الإنسان مزوّد بخصائص عدة:
ـ من هذه الخصائص الاستعداد للمعرفة النامية المتجددة، وهو مجهّز لاستقبال المؤثرات الكونية والانفعال بها والاستجابة لها.ومن مجموع انفعالاته واستجاباته يتألف نشاطه الحركي للتعمير والتغيير، والتعديل والتحليل والتركيب، والتطوير في مادة هذا الكون وطاقاته.
ـ وهو كائن كريم على الله. ذو مركز عظيم في تصميم الوجود ـ على الرغم من كل ما في طبيعته من استعداد للضعف والخطأ والقصور والتردّي ـولكن استعداده للمعرفة الصاعدة، لحمل أمانة الاهتداء، وللتبعة، يجعله كائناً فريداً،يستحق تكريم الله له…كما يستحق تلك العناية الإلهية به بإرسال رسله ورسالاته…وهو أكرم من كل ماهو مادي،لأن كل ماهو مادي مخلوق له.
ـ وهو كائن يتعامل مع الكون كله ومن فيه ومافيه..وهو يتعامل مع ربه كما يتعامل مع الملأ الأعلى من الملائكة، ومع الجن والشياطين،ومع نفسه واستعدادته المتنوعة، ومع سائر الأحياء الكونية، ومع طاقات الكون الظاهرة والخفية، ومع مادة هذا الكون وأشيائه… والكون مهيأ للتعامل معه، كما أنه هو مجهز بوسائل التعامل مع الكون، ومع ربّ الكون،بما ركب فيه من روح وعقل وحواسّ وقوى وطاقات تناسب ازدواج عناصر تكوينه.
ـوهو مستعد ـ حسب تكوينه الذاتي ـ لأن يرتفع إلى أرقى من آفاق الملائكة المقربين. كما هو مستعد لأن ينحطّ إلى أدنى من دركات الحيوان البهيم.وذلك حسب مايبذل هو من جهد في تزكية نفسه أو تدسيتها .وحسبما يتلقى من عون من الله وهداية ورعاية، مرجعها مايبذل من جهد ورغبة واتجاه ومحاولة في الارتباط ببارئه ومنهجه وتوجيهه..فهو ـ من ثَم ـ أعجب كائن، وأغرب جهاز،يحتوي هذه الاستعدادات المتباعدة الآماد. ولانعرف أن هناك كائناً آخر له هذه الخصائص! سواء الملائكة، أو الشياطين، أو صنوف الحيوان، أو عناصر المادة وأجهزتها.
ـ وهو مصمّم على قاعدة الزوجية التي هي خاصيّة كونية وحيوية. وعلى قاعدة التكامل بين الزوجين، لا التماثل، وهي كذلك خاصية كونية وحيوية، وقبل ذلك :على أساس التناسق مع الكون والقربى في الماهية المادية،بزيادة ذلك في العنصر الفريد فيه ـ النفخة من روح الله ـ وهي أمر غير مجرد الحياة الحيوانية.
ـ والإنسان مبتلى في هذه الأرض بالحياة والموت،والخير والشر،والسراء والضراء، والعطاء والحرمان،والصحة والمرض،والقوة والضعف،والنصر والهزيمة،والسّعة والضيق،والغنى والفقر..ومُجازىً على استجاباته كلها، ومُطالب بأن تكون هذه الاستجابات وفق مابين الله لهنوذلك بتحكيم شريعة الله ومنهجه في نشاطه كله..وهذا الجزاء قد يكون في الدنيا، وقد يكون في الآخرة، وقد يكون فيهما معاً. ولكنه لايتخلّف أبداً”.
“فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى”
تحديد جنس الجنين
الآيات الكريمة:
{ألم يكُ نُطفةً من مَنيٍّ يُمنى* ثُمَّ كان علقةً فخلقَ فسوّى* فجعلَ منهُ الزوجينِ الذكر والأنثى}[ القيامة 37 ـ 39]
{من نطفةٍ خلقهُ فقدره}[عبس 19 ]
الأحاديث الشريفة:
عن أنسٍ رضي الله عنه أن عبد الله بن سلام سأل النبي صلى الله عليه وسلم من أي شيئٍ ينزع الولد إلى أبيه ومن أي شيئٍ ينزع إلى أخواله،فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ” وأما الشبه في الولد فإنّ الرجل إذا غشيَ المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له،وإذا سبقت كان الشبه لها“. قال عبد الله بن سلام رئيس أحبار اليهود آنئذاك: أشهد أنك رسول الله ،فآمن رضي الله عنه.[ رواه البخاري].
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهودي الذي سأله عن الولد: “ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اجتمعا فعَلا مني الرجل مني المرأة أذكر بإذن الله، وإذا علا مني المرأة مَني الرجل أنث بإذن الله“. قال اليهودي: صدقت وإنك لنبي.[ رواه الإمام مسلم]
وفي حديث آخر قال ابن عباس رضي الله عنهما: “حضرت عصابة من اليهود نبي الله صلى الله عليه وسلم فقالوا حدثنا عن خِلالٍ نسألك عنهن ولايعلمهنَّ إلا نبي. قال: سلوا عمّا شئتم ولكن اجعلوا لي ذمة الله وما أخذ يعقوب على بنيه،لئن أنا حدّثتكم شيئاً فعرفتموه لتتابعني على الإسلام، قالوا: فذلك لك، قالوا : أخبرناعن أربع خلال:أخبرنا أيّ الطعام حرّم إسرائيل على نفسه، وكيف ماء الرجل وماء المرأة،وكيف يكون الذكر منه والأنثى،وأخبرنا بهذا النبي الأميّ في النوم ومن وليّه من الملائكة؟فأخذ عليهم العهد لئن أخبرهم ليتابعنه. فقال: أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضاً شديداً،وطال سقمه فنذر لله نذراً لئن شفاه الله من سقمه لَيُحرمنّ أحبَّ الطعام والشراب إليه، وكان أحبّ الطعام إليه لحم الإبل،وأحبَّ الشراب إليه ألبانها، فقالوا: اللهم نعم،فقال: اللهم اشهد عليهم.وقال: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن ماء الرجل أبيض غليظ وماء المرأة أصفر رقيق فأيُّهما علا كان الولد والشبه بإذن الله. إن علا ماء الرجل ماء المرأة كان ذكراً بإذن الله وإن علا ماء المرأة ماء الرجل كان أنثى بإذن الله. قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد عليهم. وقال: أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن هذا النبي الأميّ تنام عيناه ولاينام قلبه. قالوا: اللهم نعم. قال: اللهم اشهد. قال وإن وليّ جبريل، ولم يبعث الله نبياً قط إلا وهو وليه. قالوا: فعند ذلك نفارقك،ولو كان وليك غيره لتابعناك. فعند ذلك قال الله تعالى: {من كان عدواً لجبريل فإنّه نزله على قلبك بإذن الله مصدقاً لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين}[ رواه الإمام احمد].
وفي حديث آخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن النطفة تقع في الرحم اربعين ليلة ثمّ يتسوّر عليها الملك الذي يخلقها فيقول يارب أذكر أم أنثى، أسويّ أم غير سويّ،فيجعله الله سويّاً أو غير سويّ،ثم يقول يارب مارزقه وما أجله ثم يجعله الله عزّ وجلّ شقياً أو سعيداً” [أخرجه مسلم].
وفي حديث آخر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا وقعت النطفة في الرحم بعث الله ملكاً فقال يارب مخلقة أو غير مخلقة، فإن قال غير مخلقة مجتها الأرحام دماً، وإن قيل مخلقة قال أي رب شقي أو سعيد؟ ما الأجل ،ما الأثر وبأي أرض تموت”. [أخرجه ابن أبي حاتم وغيره كما جاء في كتاب الإمام ابن رجب].
وفي حديث آخر:” إذا مرّ بالنطفة ثنتان واربعون ليلة بعث الله ملكاً فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم قال يارب ذكر أم أنثى، فيقضي ربك مايشاء ويكتب الملك(وفي رواية أخرى:بضع وأربعون وفي أخرى خمس واربعون ليلة)ثم يقول يارب أجله فيقول ربك ماشاء ويكتب الملك ثم يقول يارب رزقه فيقضي ربك ماشاء ويكتب الملك ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلايزيد على أمر ولاينقص”.
وفي حديث أخر عن أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” وكلّ الله بالرحم ملكاً يقول: أي رب نطفة؟ أي رب علقة؟ أي رب مضغة. فإذا أراد الله أن يقضي خلقاً قال يارب ذكر أم أنثى، شقي أم سعيد، فما الرزق، فما الأجل، فيكتب كذلك في بطن أمه“[ رواه الشيخان].
وفي حديث أخر عن زيد بن وهب قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال: إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله ملكاً فيؤمر بأربع:برزقه وأجله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح”[ رواه البخاري]. وفي رواية لأحمد ورد أربعين ليلة.
وفي حديث أخر عن حذيفة بن أسيد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:” يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم ب 40 أو 45 ليلة( وفي رواية 42 وفي رواية 43) فيقول يارب شقي أم سعيد فيكُتبان، فيقول أي رب أذكر أو أنثى فيُكتبان، ويكتب عمله وأثره وأجله ورزقه، ثم تطوى الصحف ولايزاد بها ولاينقص“[ رواه مسلم].
من الناحية التاريخية:
منذ عهد الإغريق واليونان ومسألة الذكورة والأنوثة تشغلان أذهان العلماء والفلاسفة،وقد وضعوا فيها عدة فرضيات ونظريات ومنها:
1 ـ زعم أبو قراط(أبو الطب عند اليونان) انه إذا قويّ زرع المرأة والرجل معاً كان الولد ذكراً وإلا أنثى، وإذا غلبت على الزرع الحرارة كان ذكراً، وإذا غلبت عليه البرودة كان أنثى.
2 ـ أما أرسطو(أبو الفلاسفة عند اليونان) فادّعى أن الأمر له علاقة مع هبوب الريح، فريح الجنوب ترخي الأبدان وتذيب الزرع فيخرج رقيقاً غير نضيج،وأما ريح الشمال فتصلب البدن وتمنع الحرارة من الانتشار فيخرج زرعاً ناضجاً، وقال: إن الزرع إذا جرى عن يمين الرجل إلى يمين المرأة كان ذكراً وإلا أنثى، وكذلك إذا حسن لون المرأة كان الجنين ذكراً وإن قبح لونها كان أنثى.
3 ـ وقال العالم اليوناني بارمينيدس ووافقه أبو قراط: إن كان في الجانب الأيمن من الرحم قرحة ثم حملت المرأة كان الولد ذكراً وإن كانت القرحة في الأيسر وحملت كان أنثى. وإن وجدت المرأة ثقلاً في جانب الرحم الأيمن وكانت حركتها وحركة عينها اليمنى اثقل كان ذكراً وإن كان الثقل في الأيسر وثقلت حركة عينها اليسرى كان أنثى.
وهذه الفرضيات والنظريات جميعها ثبت بطلانها وأنها لاتمت إلى الواقع والحقيقة .
التفاسير ورأي علماء المسلمين:
الإمام الطبري في كتاب “فردوس الحكمة” لم يسلم بما قاله أبوقراط وأرسطو طاليس.
الإمام ابن القيم في كتابه ” تحفة المودود بأحكام المولود” حللّ الأمر تحليلاً شرعياً وعلمياً وفنّد هذه الأراء والأفكار المتعلقة برأي علماء وقلاسفة الإغريق، وهو يسند موضوع الإذكار والإيناث إلى مشيئة الله عز وجل وإرادته في اقتضاء السبب لمسببه.
3 ـ الإمام الفخر الرازي في تفسيره يقول: يصير الجنين علقة بعد 15 يوم، ومن ثم يتميز الرأس والقلب والكبد في صورها إثني عشر يوما،ثم تنفصل الرأس عن المنكبين والأطراف عن الضلوع وفي تمام الأربعين يوما يتم انفصال الأضلاع وهذه هي مرحلة التجميع التي يشير إليها الحديث الشريف” إن أحدكم يُجمع خلقه”.
ومن الناحية العلمية:
إن في جسم الإنسان وفي كل خلية من خلاياه 46 صبغياً، 44 وتسمى الصبغيات الجسمية،وصبغيان تسمى الصبغيات الجنسية وهي عند الذكر تسمى( YX)، وعند الأنثى (XX)، ماعدا النطفة المذكرة أي الحيوان المنوي فإنها تحتوي فقط على 23 صبغياً 22 منها هي الصبغيات الجسمية وأما الصبغي الباقي فإنه قد يكون( اكس أو واي), وأما البيضة عند الأنثى فإنها تحتوي أيضاً 22 صبغياً جسمياً وأما الاخير فهو دائماً الصبغي اكس.
والصبغيات الجسمية تختص بنقل الصفات الجسمية الإرثية والتي تنحدر من الأبوين إلى الجنين حاملة معها صفات إرثية جسمية من مئات الأسلاف التي تتصل بالأبوين فالأجداد حتى بداية الخليقة متمثلة في آدم وحواء،وهذه الصفات الجسمية مسؤولة عن كثير من الصفات ومنها الطول واللون والشعر ولون وشكل العينين والصفات الجسمية الأخرى.. وأما الصبغيات الجنسية فهي المسؤولة عن تحديد جنس الجنين.
وكما ذكرنا فإن النطاف تكون حاملة 22 صبغياً جسمياً يضاف لها الصبغي اكس أو واي، وأما البيوض فهي تحمل 22 صبغياً جسمياً والصبغي الجنسي اكس دائماً،أي أن النطاف هي المسؤولة عن تحديد جنس الجنين وبالتالي ذكر أو أنثى.
وذكر العالم ” مورجان” أن الصبغي الجنسي اكس هو أكبر وأوزن قليلاً من الصبغي واي،فهو أبطأ سرعة وأقل حركة، وتبين أن النطاف واي تختلف عن النطاف اكس بالحركة والكتلة والأثر الكهربي (تبين أن النطفة التي تحوي الصبغي اكس تحمل شحنة سلبية بينما التي تحتوي الصبغي واي تحمل شحنة موجبة)، وفي درجة النشاط باختلاف التفاعل الكيميائي للمحيط وفي القدرة على اقتحام وسط لزج واجتازه.
وابتداء من لحظة التلقيح وتشكل النطفة الأمشاج يتحدد جنس الجنين أنثى أو ذكر، والمسؤول عن ذلك النطاف المذكرة وماتحتويه من الصبغيات الجنسية اكس أو واي.وحال التقاء النطفة والبيضة واندماجهما معاًـ النطفة الأمشاج ـ تتحدد الصيغة الكروموزمية للكائن الحي الجديد وبشكل نهائي. وحسب هذه الصيغة يتقرر نهائياً جميع الصفات الجسمية والجنسية،وفي بعض الحالات قد لاتكون هذه الصيغة الكروموزمية تتوافق مع استمرار الحياة فيحدث الإسقاط وموت هذا الكائن الجديد. وإن أكثر أسباب الإجهاضات شيوعاً في أوائل الحمل هو تشوه الجنين لأسباب صبغية مورثية على مستوى الصبغيات”الكروموزمات” وهذا من رحمة الله لأن استمرار الحياة هنا يعني ولادة أجنة مشوهة أو مريضة.
وبعد أن تنقسم البيضة الملقحة وتتابع نموها وتتشكل الأعضاء يحدث أن يحدث تميز الجنس على مستوى تشكل الأعضاء التناسلية أي المناسل بعد أن تحدد في بداية الإلقاح على مستوى الصبغيات أي أن تحديد جنس الجنين يتم منذ تشكل النطفة الأمشاج مباشرة على مستوى الصبغيات،وبعد عدة أيام على مستوى المناسل،أي الغدد الجنسية،وهذه الغدد لايتم تشكلها ولايعلم ماهيتها قبل نهاية الاسبوع السابع وبداية الثامن(49 يوما). ولو شرحت الغدد الجنسية قبل هذا الوقت لما أمكن معرفة جنس الجنين ذكراً أو أنثى، أما إذا تم التشريح بعد الاسبوع الثامن فإنه يمكن تمييز الخصية عن المبيض، فالاسبوع السابع(اليوم 42) هو الحد الفاصل لتحديد جنس الجنين على مستوى المناسل أي الغدد الجنسية،وإن كان هذا محدد سلفاً على مستوى الصبغيات منذ لحظة الإلقاح.
إن الغدة الجنسية الابتدائية تتشكل من البروز التناسلي الذي يظهر في الوجه الباطن من ظهر ماسيكون الجنين في الاسبوع السادس إلى السابع الطمثي،ثم تصلها الخلايا الجنسية الابتدائية،فتتطور حسب جنس الخلايا المذكورة إلى مبيضين أو خصيتين. وفي نفس الوقت تقريباً تظهر قناتان في كل جانب احداهما تسمى قناة موللر والأخرى قناة وولف، فإذا احتلت الغدد الجنسية بالنطاف المؤنثة أخذت قناتا وولف بالضمور وتطورت قناتا موللر إلى الجهاز التناسلي المؤنث،وإذا احتُلت بالنطاف المذكرة ضمرت قناتا موللر وتطورت قناتا وولف إلى الجهاز التناسلي المذكر. وهذا التطور ينتهي في الاسبوع 11 ـ 12، وإن الجهاز التناسلي لكل من الذكر والأنثى يصبح واضحاً للعيان في اليوم الثمانين.
وأما الخلايا الجنسية الابتدائية فهي خلايا تتشكل في جدار الحويصل المحي في مرحلة النطفة الأمشاج،وهذه الخلايا تكون متميزة منذ تشكلها فهي إما بويضات ابتدائية(اوغونيا) أو حيونات منوية ابتدائية(سبيرموغونيا)، وهذه الخلايا تكون طلائع بويضات أو نطاف المستقبل، وهي تشتق من محصول الحمل الجديد وهو مايزال في طور النطفة الأمشاج وقبل تشكل أعضائه،وتتحرك هذه النطف حركة ذاتية تشبه حركة الأميبا وتنتقل عبر مساريق المعي البدائي إلى الغدتين الجنسيتين البدائيتين(Gonada)واللتان تظهران في ناحية البروز التناسلي والذي يظهر على جانبي ماسيشكل فيما بعد العمود الفقري،فإذا وصلت هذه الخلايا الجنسية البدئية واحتلت البروز التناسلي المذكور في الجانبين تتشكل الغدد الجنسية الابتدائية والتي تتطور فيما بعد إلى الخصية أو المبيض،ثم تهاجر هذه الغدد وتصل بعد ذلك إلى المكان المخصص لها في حوض المرأة أو إلى الصفن في أواخر الحمل،وتأخذ الخلايا الجنسية الابتدائية فور وصولها إلى الغدد بالتكاثر السريع ويقدر عدد البويضات المتشكلة بحوالي600 ألف بويضة في الاسبوع العاشر من الحمل ويظن انها تستمر في التكاثر حتى يبلغ عددها عدة ملايين في الاسبوع الثاني والعشرين من الحمل ثم يتخرب منها الكثير وبحيث يصل عددها في مبيضي الأنثى المولودة حوالي نصف مليون تقريباً،ثم تظل كامنة حتى سن البلوغ ثم تحدث الإباضة في كل دورة طمثية وحتى سن الضهي(الإياس) .
إذاً يبين لنا العلم الحديث مجموعة من الحقائق التالية:
1 ـ يتحدد جنس الجنين على مستوى الصبغيات منذ لحظة الإلقاح وفي مرحلة النطفة الأمشاج {وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تُمنى}، وأن الذكر هو المسؤول عن تحديد جنس الجنين فإذا كانت النطاف التي تلقح البيضة تحمل الصبغي اكس كان الجنين أنثى وإن كانت تحمل الصبغي واي كان ذكراً
2 ـ يتحدد جنس الجنين على مستوى الغدد الجنسية (المناسل)ويكون ذلك في الاسبوع السابع إلى الثامن من الحمل{ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى}،حيث أنه لاتوجد تبدلات مورفولوجية واضحة تحدد جنس الجنين حتى الاسبوع السابع، وحيث يبدأ تشكل الخصية أو المبيض .
أما الأعضاء التناسلية الظاهرة فإنه يبدأ تشكلها بعد تشكل العظام والعضلات{ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى}
3 ـ إن الأعضاء التناسلية تكون متماثلة عند الجنسين حتى الاسبوع التاسع وبعده يحدث التمايز الجنسي،وأما ظهور الأعضاء التناسلية الظاهرة فلا يتم وينتهي حتى الاسبوع الثاني عشر.وهنا نعود للحديث الشريف: ” إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم قال يارب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ماشاء ويكتب الملك“.
يكون جنس الجنين واضحا تماماً في الاسبوع الثاني عشر(اليوم الثمانين) ويكون الجنين في هذه المرحلة تام الخلقة واضحاً كان ذكر أو أنثى، ويمكن بواسطة “مافوق الصدى” تمييز جنس الجنين اعتباراً من الاسبوع الثاني عشر.
4 ـ يمكن بواسطة الصيغة الكروموزمية(أخذ خلايا تؤخذ من السائل السلوي) تحديد جنس الجنين ابتداءً من الاسبوع الثاني عشر، ويمكن بواسطة الخزعة الكوريونية تحديد جنس الجنين ابتداء من الاسبوع السادس من الحمل.
5 ـ وكما ذكرنا فإنه يتحدد جنس الجنين لحظة الإخصاب وتشكل النطفة الأمشاج ويعتمد تحديد هذا على النطاف المذكرة أي الحيوانات المنوية للرجل كما ذكرنا، وأما ظهور الأعضاء التناسلية والغدد الجنسية أي الخصية أو المبيض فإنه يعتمد على الصيغة الصبغية هل هي( اكس ـ واي)، أو (اكس ـ اكس).
وقبل الاسبوع السابع من الحمل فإن الغدد الجنسية لدى الجنسين تكون متماثلة من حيث المظهر وتسمى المناسل غير المتمايزة، وإن الصبغي “واي” والذي لديه صفات قوية توجه المناسل لتشكيل الخصية، فوجود هذا الصبغي” واي” هو الذي يحدد تشكيل الخصية والتميز الذكري، وغياب هذا الصبغي يؤدي إلى تشكيل المبايض من المناسل ،Hي أن المناسل يتشكل منها المبيض في الحالات الاعتيادية ويكون وجود الصبغي واي هو الذي يوجهها لتشكيل الخصية، وبعد تشكل المناسل أي الخصية أو المبيض فإن هذا هو الذي يحدد تشكيل الأعضاء التناسلية الظاهرة والصفات الجنسية الأخرى.
وفي بعض الأمراض الصبغية قد يكون هناك أعداد زائدة من الصبغي اكس ولكن هذا لاقيمة له بوجود صبغي واحد واي، حيث أن وجوده يؤدي لتوجيه تشكل الجنين نحو الذكورة،كما أن غياب الصبغي واي يؤدي لتوجيه تشكل الجنين باتجاه الأنوثة، وإن وجود صبغي اكس واحد لدى الجنين أي غياب الصبغي واي وكذلك غياب الصبغي اكس الأخر كما يحدث في “متلازمة تورنر” حيث الصيغة الجنسية فقط اكس واحد فإن هذا يؤدي لتشكل جنين أنثى مع عدم تشكل المبيضين لديها مما يدل على اشتراط وجود صبغيين اكس لتشكل المبيضين.
ومن الناحية الدينية:
لقد بينت الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التي ذكرت وبشكل يدعو إلى الإعجاز أن تحديد جنس الجنين يكون على مستوى الجينات(المورثات) والصبغيات،أي على مستوى النطاف،وأن النطاف وبالتالي الإنسان الذكر هو المسؤول عن تحديد جنس الجنين وليس للبيضة أي الأنثى اي دور في هذا ففي قوله تعالى{من نطفة خلقه فقدره} [عبس 19] وكذلك قوله تعالى {ألم يك نطفة من مني….فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى} والضمير هنا يعود إلى السائل المنوي،حيث الإمناء عمل خاص بالرجل.وكذلك قوله تعالى” {خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تُمنى}
وفي الأحاديث الشريفة التي ذكرت مايؤكد ذلك حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم” إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة..” فهو إعجاز أيضاً:حيث فهم الناس قديماً أن ماء الذكر من الذكر وأن ماء الأنثى من الأنثى، مع أن كلمة سبق هي التي تعطينا الجواب. فكلمة سبق تعني اثنان يتسابقان،وبالتالي لابد أن يكون منطلقهما من مكان واحد،وفي اتجاه واحد، وبالتالي هما من ماء الرجل ولهم منطلق واحد وهدف واحد وهذا مايتطابق مع العلم الحديث، وفي الأحاديث النبوية السابقة تقرير وتأكيد لبعض الحقائق الهامة:
1 ـ إن صفات الكائن تتعلق بعوامل محمولة في ماء الذكر وماء الأنثى،والعلماء لم يتأكدوا من حقيقة اشتراك النطفة والبيضة في تشكيل الخلق إلا منذ حوالي 200 سنة وذلك بعد اكتشاف المجهر والكشف عن الكروموزومات والتي لم تكتشف إلا قبل حوالي 70 سنة.
2 ـ وقد يكون المعنى أن المورثات في صبغيات المرأة قد تسيطر في بعض الصفات التي تحملها مورثات الرجل وهذا مايسمى طبياً بالمورثات القاهرة والمقهورة أو المسيطرة والكامنة.
3 ـ وكما ذكرنا فقد تبين أن النطاف التي تحمل الصبغي اكس ذات شحنة سلبية وأما التي تحتوي الصبغي واي فهي ذات شحنة إيجابية،وقد تبين أن البيضة والتي تحمل دائماً الصبغي اكس فإن الشحنة الكهربائية لديها غير ثابتة وبحيث أنها تتغير من موجبة إلى متعادلة إلى سالبة،فعندما تكون البيضة موجبة الشحنة فإنها تجذب إليها النطاف الحاملة للصبغي اكس ذو الشحنة السالبة، ويتكون بالتالي جنيناً أنثى، وأما عندما تكون البيضة سالبة الشحنة فإنها تجذب إليها النطاف ذات الصبغيات واي لانها ذات شحنة إيجابية وبالتالي يتشكل جنيناً ذكر،أما في الفترة الزمنية التي تكون فيها البيضة متعادلة الشحنة فتكون فرص اندماج النطاف الحاملة للصبغي اكس أو واي متعادلة ومتساوية.وهنا نعود إلى الحديث الشريف والذي يقول” ماء الرجل أبيض، وماء المرأة أصفر فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة: أذكرا بإذن الله، وإذا علا مني الرجل أنثا بإذن الله“، وهنا يتم تحديد جنس الجنين أيهما يعلو ماؤه، فعلو ماء أحدهما في الشحنة الكهربائية يكون سبباً في اكتساب الجنين جنس من علا ماؤه، كما سبق وذكرنا.
واخيرأ هناك قصة أوردها الجاحظ في كتابه “البيان والتبيين“لعل لابأس من ذكرها هنا وكيف أن زوجة أحد الأعراب تنبهت أن مسؤولية تحديد جنس الجنين لها علاقة مع الزوج وليس للزوجة اي دور في هذا الموضوع، والقصة كما ذكرها الجاحظ في البيان والتبيين:
“قيل أن أبا حمزة الضبي هجر زوجته لأنها لاتنجب له الذكور بل الإناث وتزوج من أخرى،ومرّ يوماً بخبائها وهي تُرّقص إحدى البنات وتقول:
مالأبي حمزة لايأتينا يظلُ في البيت الذي يلينا
غضبانَ ألانلدَ البنينا تاللهِ ماذلك في أيدينا
وإنما نأخذ ما أُعطينا
ونحن كالأرض لزارعينا ننبت ماقد زرعوه فينا
فغدا الشيخ حتى ولج البيت فقبل رأس امرأته وابنتها.
ـ وكان الشاعر المخضرم معن بن أوس مئناثاًـ أي يولد له الإناث ـ وكان يحسن صحبة بناته وتربيتهن،فولد لبعض عشيرته بنت فكرهها وأظهر جزعاً من ذلك فقال معن:
رأيتُ رجالاً يكرهون بناتهم وفيهن ـ لاتُكذَبْ ـ نساءٌ صوالحُ
وفيهنَّ والأيام تعثرُ بالفتى نوادبُ لايمللنه ونوائحُ
“وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم“
الآيات الكريمة:
يقول الله تعالى في كتابه العزيز : {وإذ أخذَ رَبُّكَ من بني آدمَ من ظُهورِهِم ذُرِّيَّتَهُم وأشهَدَهُم على أنفُسِهِم ألستُ بِرَبِّكُم قالوا بلى شَهِدنا أن تقولوا يومَ القيامةِ إنَّا كُنَّا عن هذا غافلين* أو تقولوا إنّما أشركَ آباؤنا من قبلُ وكنّا ذُريّةً من بعدهم أفتُهلِكنا بما فعلَ المُبطلون}[ الأعراف 172 ـ 173]
{كما أنشأكُم من ذريّة قومٍ آخرين}[الأنعام 133 ]
الأحاديث النبوية:
وجاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل من بني فزارة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ولدت امرأتي غلاماً أسود، وهو حينئذٍ يعرض بأن ينفيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: فما ألوانها؟ قال : حمر، قال: هل فيها من أورق”اسمر كالرماد”، قال: إن فيها أورقاً. قال: فأنّى اتاها ذلك؟ قال: عسى أن يكون نزعة عرق. قال: فهذا عسى أن يكون نزعة عرق، ولم يرخص له في الانتفاء منه” [رواه الشيخان وأصحاب السنن وأحمد والدارقطني].
وفي الحديث النبوي الشريف: ” اللهم متعنا بأسماعنا ،وأبصارنا ،وقوّتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منا“[ رواه الترمذي والحاكم في المستدرك والنسائي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وقال الألباني حديث حسن].
إن هذه الآية الكريمة وهذه الاحاديث النبوية تشير إلى مفهوم معلوم في علم الوراثة البشرية ،وهو أن الصفات البشرية التي يحملها الإنسان والموجودة في الجينات”المورثات” والتي توجد في الصبغيات”الكروموزومات” وعددها 44 من الصبغيات الجنسية وهناك أيضاً اثنان من الصبغيات الجنسية( اكس وواي عند الذكور واكس اكس عند الإناث ),ان هذه الصبغيات تحمل الصفات الوراثية من الأسلاف والأجداد من بداية الخليقة أي منذ آدم وحواء ، وهناك صفات وراثية مسيطرة أو راجحة وهناك صفات وراثية مقهورة أو كامنة ولذا قد تظهر بعض الصفات الوراثية في الوليد وتكون موجودة في الأجداد وأجداد الأجداد، أي في الاسلاف وحتى عصور بعيدة جداً.
فمن المورثات أو الجينات القاهرة والمسيطرة نذكر مثلاً المورثة المسؤولة عن لون العين باللون البني، ومن المورثات المقهورة نذكر المسؤولة عن لون العين باللون الأزرق مثلاً. ويقدر العلماء أنه توجد في كل خلية مالا يقل عن مائة ألف من المورثات وهي المسؤولة عن وظائف الخلايا وتكاثرها وانقسامها، وأنه في كل ثانية تتوالد وتتشكل أعداد هائلة من الخلايا الجديدة والتي تماثل الخلايا القديمة تماماً، وبتشكل الجديد وموت القديم يبقى الجسم ولسنوات طويلة محافظاً على حيويته ونشاطه، وإن كان هناك خلايا في الجسم لا تنقسم ولاتتكاثر ومنها خلايا الدماغ.
وإن الحديث الشريف“اللهم متعنا بأسماعنا..” هو هام جداً من هذه الناحية وخاصة قوله صلى الله عليه وسلم“واجعله الوارث منا” ولم يقل الموروث،حيث يبين أن الصفات المذكورة تنتقل بالوراثة .
إن قوله تعالى”من ظهورهم ذريتهم” يدعونا إلى السؤال ماهو عالم الذر؟
هو هذا العالم المتناهي في الصغر،والذرية هي النسل،واشتقاق كلمة الذرية من الذرة يدل على أن النسل يحصل بعناصر صغيرة جداً، والأبعد من هذا أن عالم الذر هو الكروموزومات أي الصبغيات وما تحويه من المورثات أي الجينات والتي تتوزع فيها والتي تختلف من شخص لآخر ولايوجد تماثل بينها بين شخصين إثنين سابقاً أو لاحقاً (باستثناء التوائم الحقيقية التي يوجد فيها بعض التشابه ولكن ليس كله) ولن يتواجد إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ورغم أن عدد سكان الأرض عدة مليارات وهو قابل للزيادة الكبيرة.وهذه الصبغيات وماتحمله من مورثات بدأت من آدم عليه السلام وحواء ثم أخذت تتوزع في ذريته المختلفة وتتناقل وتتوارث من شخص لآخر.
يقول الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله في كتاب”أهوال يوم القيامة” ص12:
“هاتان الآيتان في سورة الأعراف ـ أي الآيتان 172و173 ـ أثارتا جدلاً كبيراً بين الناس..كيف أشهدنا الله جميعاً على أنفسنا؟نقول: أولاً كلنا فينا جزئ من آدم…لماذا؟ لأن حياتي أتت من جزئ حي من أبي… ولو أنني لم آخذ هذا الجزئ الحي ماجئت إلى الحياة…فلو أن أبي مات قبل أن يتم تلقيح بويضة أمي ماجئت إلى الحياة… وأبي أخذ من والده.. ووالده أخذ من جده وهكذا إلى أن نصل لآدم… والسلسلة من آدم إلى يوم القيامة هي سلسلة حياة متصلة…كل يأخذ الحياة من أبيه… ولو أن سلسلة الحياة هذه انقطعت ما استمرت الحياة… فالحياة لاتوجد من موت.. ولكن من حياة قبلها..والميت لايستطيع أن يعطي الحياة لأحد..ولكن الحي فقط هو الذي يستطيع أن يعطي الحياة لذريته وأن تكون له ذرية…والله خلق الحياة كلها دفعة واحدة ووضعها في ظهر آدم..وهي تمضي بعد ذلك بالقدرة التي أوجدت بذرة الحياة الأولى…فتظل هذه القدرة تبدي لنا ألوان الحياة المطمورة فيها حتى يأتي أمر الله وتنتهي الحياة..ولذلك قيل عن الحياة: أمور يبديها الله ولايبتديها… أي أنها تظهر لنا بالتدريج… وتأتي لهذا الكون بالتدريج.. ولكن الله خلقها أزلاً.
ويتابع رحمه الله:
“يأتي بعد ذلك كيف يمكن أن يأتي الله بهذا الخلق كلهم؟.. نقول: أن الجزئ من الحيوانات المنوية الذي يعطي التلقيح دقيق جداً..وهذا الجزئ هو الذي يحمل الحياة من الأب إلى الإبن… أما باقي مايتم إفرازه فلا قيمة له..هذا الجزئ البالغ الدقة الذي يحمل سر الحياة.. ويضعه في رحم الأم ليبدأ الخلق لو جمعناه بالنسبة للبشر جميعاً الموجودين على ظهر الأرض في هذه الأيام..وهو يمثل النطفة التي قال عنها القرآن الكريم{ألم يَكُ نُطفةً من مَنيٍّ يُمنى}[القيامة 37] هذه النطفة التي تحتوي على حياة الإنسان وخصائصه وطباعه…لو جمعناها لملأت نصف كستبان صغير… هذه المساحة الدقيقة فيها بذرة الحياة لهؤلاء الناس كلهم… ولك أن تقيس على ذلك البشرية كلها… فبذرة الحياة فيها من عهد آدم حتى الآن لا تملأ كوب ماء”. انتهى كلام الشعراوي.
في قوله تعالى{من نطفة خلقه فقدره}[ عبس 19] إن كلمة خلقه فقدره تحمل علماً كاملاً هو علم الوراثة مضافاً إليه ماشاء الله تعالى من الأقدار الأخرى.
إن الكثير يتساءلون كيف تعلم خلية ما إلى ماذا ستصبح وتتحول ، والجواب دينياً في قوله تعالى{من نطفة خلقه فقدره} ومن الناحية العلمية فإن خلايا الجسم كلها وماتحويه من الذخيرة الوراثية على مستوى الصبغيات والأدق منها على مستوى الجينات وعلى المستوى الأدق من هذا أي على مستوى الحموض الأمينية ومن بداية الحياة وإلى نهايتها فإن لديها المعلومات والشيفرة الوراثية الكاملة والتي تبين لها عملها ورسالتها وماذا ستؤول إليه.
يقول الشيخ حسنين محمد مخلوف في صفوة البيان في التفسير في الآية الكريمة” خلقه فقدره:” هيأه لما يصلح له ويليق به من الإعضاء والأشكال، أو فقدره أطواراً من حال إلى حال إلى أن تمّ خلقه وتكوينه” فالشيخ رحمه الله أحاط بالمعنى إحاطة جميلة فجعله يشمل نوعين من الأقدار: يتعلق الأول منها بمواصفات الكائن الحي الجديد، والثاني يتعلق بطريقة تخلق وتصور هذا الكائن الحي”.
إن مسألة الصبغيات والتي تم الكشف عنها قبل سنين في القرن العشرين والتي تعتبرمن أعظم إنجازات واكتشافات الإنسان المعاصر قد عبر عنها القرآن الكريم والسنة النبوية بشكل يدعو للإعجاز فيما قلناه وذكرناه.
ويقول تعالى: {إنا كل شيئٍ خلقناه بقدر} ويقول تعالى: {فقدرنا فنعم القادرون}
ومن الناحية الوراثية فإن زيادة أحد الصبغيات أو نقصه ،بل زيادة جزء من الصبغي أو نقص جزء أو تغير جزء يؤدي إلى تشوهات وأمراض في الجنين أو الوليد وسوف نتطرق إلى هذا الموضوع فيما بعد إن شاء الله.
“من بين الصلب والترائب”
الآيات الكريمة:
{فلينظر الإنسان مم خلق* خلق من ماء دافق* يخرج من بين الصلب والترائب}[الطارق 5 ـ 7]
{وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى}[الأعراف 172].
الأحاديث النبوية الشريفة:
في جزء من الحديث النبوي الشريف الذي رواه الشيخان عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في بدء الخلق” فناداني ملك الجبال وسَلّم عليَّ ثم قال: يامحمد إنّ الله قد سمع قول قومك لك،وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين.فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لايشرك به شيئاً”
(الأخشبان: جبلان في مكة المكرمة)
من الناحية التشريحية:
الصلب: يشمل العمود الفقري القطني وعظم العجز، ويشتمل من الناحية العصبية على المركز التناسلي الآمر بالنعوظ ودفق المني ،كما أن الجهاز التناسلي تعصبه ضفائر عصبية عديدة في هذه الناحية ومنها الضفيرة الشمسية والضفيرة الخثلية والضفيرة الحوضية، وتوجد في هذه الضفائر مجموعة الأعصاب للجملة الودية(السمباتي) ونظير الودية(الباراسمباتي) وهما المسؤولتان عن انقباض الأوعية الدموية واسترخائها وكذلك عن عملية النعوظ وانتصاب القضيب والدفق المنوي ومايرافق الجماع من منعكسات وعلامات.
الترائب: ذكر المفسرون القدامى عدة تفسيرات للترائب ولكن الراجح علمياً أنها الأضلاع الصدرية السفلى وأسفل عظم القص،وهناك بعض التفاسير تقول بأن الترائب هي عظام أصول الأرجل أو العظام الكائنة مابين الرجلين، وعلى هذا يفسرون قوله تعالى“خلق من ماء دافق* يخرج من بين الصلب والترائب” فيقولون أن الماء الدافق هو ماء الرجل اي المني الذي يخرج من بين صلب الرجل والترائب أي اصول الأرجل، اي أنه خرج من بين صلب الرجل كمركز عصبي تناسلي آمر وترائبه كمناطق للضفائر العصبية المأمورة بالتنفيذ، حيث يتم بهذا التناسق بين الآمر والمأمور خروج المني ودفقه.
من الناحية العلمية:
إنّ الغدة الجنسية الابتدائية تتخلق من البروز التناسلي والذي يظهر في الوجه الباطن مما سيشكل ظهر الجنين فيما بعد وذلك في الاسبوع السادس إلى السابع من التلقيح،وتظهر على جانبي ماسيكون لاحقاً العمود الفقري الغدتان الجنسيتان البدائيتان.
وفي نفس الوقت تتشكل في جدار الحويصل المحي(Yolk Sack)وفي مرحلة النطفة الأمشاج وقبل أن تتشكل أو تتصور الأعضاء، تظهر خلايا تسمى الخلايا الجنسية الابتدائية، وتكون متميزة منذ تشكلها فهي إما بويضات ابتدائية(اوغونيا) أو حيوانات منوية ابتدائية(سبيرموغونيا)، ومن كليهما ينشأ فيما بعد البيضات في مبيض الأنثى أو النطاف في خصية الذكر. وهذه الخلايا الجنسية الابتدائية لها حركة أميبية متحولية كالأميبا وتنتقل عبر مساريق المعي الابتدائي وحتى تصل إلى الغدتين الجنسيتين الابتدائيتين(غوناد)، وعندما تصل هذه الخلايا إلى هذه الغدد تتطور هذه الغدد الجنسية إلى المبيضين أو الخصيتين.
وتظهر في جانبي هاتين الغدتين الجنسيتين وفي نفس الوقت قناتان في كل جانب احداهما تسمى قناة موللر، والأخرى تسمى قناة وولف،فإذا احتُلت الغدة الجنسية بالنطاف المؤنثة أي البويضات أخذت قناتا وللف بالضمور وتطورت قناتا موللر وينشأ عنهما فيما بعد الجهاز التناسلي الانثوي.وأما إذا احتلت الغدد الجنسية بالنطاف المذكرة أي الحيوانات المنوية فإنه تضمر قناتا موللر وتطورت قناتا وللف ونشأ عنهما الجهاز التناسلي الذكري. وهذا التطور ينتهي في مابين الاسبوع الحادي والثاني عشر. وإن الجهاز التناسلي الذكري أو الأنثوي يصبح واضحاً للعيان في اليوم الثمانين من الحمل وبعد أن تتطور المناسل البدئية إلى الخصيتين أو المبيضين في جانبي العمود الفقري،فإنها تهاجر وتصل إلى مكانها المخصص أي في جانبي الحوض بالنسبة للمبيضين عند الأنثى ،أو إلى الصفن بالنسبة للخصيتين عند الذكر.
ولقد وجد ان الخلايا الجنسية الابتدائية تبدأ فور وصولها إلى الغدتين الجنسيتين(المناسل) بالتكاثر السريع، وقد قدر عدد النطاف المؤنثة والتي تتحول إلى بيضات بحوالي 600 ألف في الاسبوع العاشر من الحمل،وتستمر في التكاثر حتى تبلغ عدة ملايين في الاسبوع الثاني والعشرين من الحمل،ومن ثم يتخرب الكثير منها فيما بعد بحيث يصل عددها في مبيضي المولودة الأنثى عند الولادة حوالي نصف مليون فقط، وتظل كامنة حتى سن البلوغ ثم تحدث الإباضة الشهرية في كل دورة طمثية وتستمر في ذلك حتى سن الضهي (اليأس).
أما الخصية فتحتوي على مايناهز ألف انبوب منوي كل منها أدق من خيوط الحرير، وطول الأنبوب حوالي 30 ـ 60 سم ،ويشكل مجموعها حوالي 500 متر، وتلتقي في حوالي 12 ـ 20 قناة تتصل بدورها في البربخ.ويتكون في الخصية كل يوم عند الذكر البالغ حوالي 50 مليون حيوان منوي، وإن الذكر البالغ الواحد يستطيع خلال شهرين أن ينتج مايكفي لإنجاب ذرية تملأ الأرض كلها!!وإذا تم إفراغ النطاف بصورة مستمرة ومتلاحقة فإنه لايتم نضجها بشكل كاف، وبالتالي تصبح غير مؤهبة للإخصاب، وإن الإفراط في ممارسة الجنس يسبب نضوباً كاملاً ويحتاج إلى عدة أسابيع حتى يعود إنتاج النطاف إلى المستوى الطبيعي.
وكما ذكرنا فإن الأنابيب المنوية تتصل مع بعضها وتصب جميعاً وكأنها روافد لنهر عظيم في غدة البربخ وذلك من خلال 10 ـ 12 قناة، ويبلغ طول البربخ إذا أفردت تلافيفه وتعريجاته حوالي 6 أمتار، وهو يمتلئ بالأعداد الضخمة الكبيرة من الحيوانات المنوية،وإن التفاف البربخ وتعرجه يجعل امكانيات استيعابه لهذا العدد الكبير من النطاف أمراً ميسوراً، ثم تصعد النطاف إلى الحويصلين المنويين ويتم ادخارها فيهما، وإن هذا الإدخار عملية مهمة وإلا استمر تدفقها من البربخ إلى الإحليل وبحيث يحصل الإفراز والإفراغ بشكل مستمر، وإنما تدخر حتى الوقت الملائم أي الجماع ثم تحصل عملية القذف والدفق.
إن المبيض الذي يتشكل جانبي العمود الفقري مابين الصلب والترائب عند الأنثى وكذلك الخصية عند الذكر فإن كلاً منهما يهاجر من موضع تشكله مابين الصلب والترائب إلى الموضع النهائي المخصص لهو وهو جانب الحوض بالنسبة للمبيض وناحية الصفن بالنسبة للخصية ،وتصل الخصية إلى ناحية الصفن مابين الشهر الثامن والتاسع من الحمل.
والإعجاز القرآني هو في قوله تعالى”من بين الصلب والترائب“، فالصلب هو العمود الفقري القطني ـ العجزي والحرقفين من الخلف. والترائب هي الأضلاع السفلى وأسفل عظم القص. والآية الكريمة فيها إعجاز كامل لأن الله تعالى يقول”من بين الصلب والترائب“،ولم يقل من الصلب والترائب،وقد أخطأ بعض المفسرون القدامى حيث لم ينتبهوا لهذا اللفظ”من بين“، وقالوا إن المني يخرج من صلب الرجل،وماء المراة يتكون في ترائبها. ولكن الإمام ابن القيم رحمه الله قد تنبه إلى هذا الخطأ الذي وقع فيه بعض المفسرين فقال رحمه الله في “أعلام الموقعين” الجزء الأول حيث يقول :
” ولاخلاف أن المراد بالصلب: صلب الرجل،واختلف في الترائب،فقيل المراد بها ترائبه أيضاً وهي عظام الصدر مابين الترقوة إلى الثندؤة، وقيل المراد بها ترائب المرأة،والأولى أظهر لأنه سبحانه وتعالى قال يخرج من بين الصلب والترائب،ولم يقل يخرج من الصلب والترائب، فلابد أن يكون ماء الرجل خارجاً من بين هذين الملتقين،كما قال في اللبن يخرج من بين فرث ودم.
وللاستاذ الدكتور مأمون شقفة رحمه الله في كتابه“القرار المكين” تفسير أخر حول هذا الموضوع حيث يقول:
“المسلمون فهموا خطا أن الذي يخرج هو الماء الدافق ولكن الحقيقة أن الذي يخرج من بين الصلب والترائب هو الإنسان،فإخراج الإنسان هو الذي يتم من بين الصلب والترائب،إن الإنسان يكون أثناء الحمل في تمامه وحين يخرج أي أثناء الولادة يكون بالضبط من بين الصلب والترائب” .
إن هبوط وهجرة الخصية إلى ناحية الصفن يتم في الحالات العادية مابين الشهر السابع والتاسع من الحياة داخل الرحم،وتستمر هذه الهجرة حوالي أربعة أسابيع،وتتم هجرة الخصية من أعلى الحلقة الإربية الباطنة وعبر القناة الإربية،فالفوهة الإربية الظاهرة ثم إلى الصفن،ثم تتضيّق الفوهة الإربية الظاهرة بحيث تمنع الخصية من العودة إلى القناة الإربية مجدداً،ويشاهد عدم نزول الخصية عند الأطفال الخدج أكثر من الذين يلدون في موعدهم الطبيعي،ونسبة حدوث الخصية الهاجرة عند الخدج حوالي 20 بالمائة،وعند الأطفال العاديين بنسبة 2 بالمائة فقط، ويشاهد عدم نزول الخصية اليسرى أكثر من اليمنى،وفي حالات نادرة قد تهاجر الخصية إلى الصفن بعد الشهر الرابع من الولادة،ولايحدث أبداً بعد السنة الأولى من العمر.ولابد أن تعالج الخصية الهاجرة مبكراً،حيث أنه في حال عدم المعالجة وابتداءً من السنة الثالثة من العمر قد تحدث أذيات دائمة لا عكوسة على مستوى الخلايا المولدة للنطاف،وبالتالي حدوث العقم. ولابد من المعالجة وإعادة الخصية إلى الصفن والحد الأقصى هو نهاية السنة الثانية من العمر.
والإعجاز والروعة في هذا الموضوع أيضاً أنه بعد هجرة المبيض إلى جانب الحوض،والخصية إلى الصفن ،إلا أن تغذية وتعصيب كلاً منهما يبقى متصلاً بالعروق الدموية والأعصاب من حيث أصلها أي من بين الصلب والترائب،فشريان الخصية أو المبيض يأتي من الشريان الأبهرـ من بين الصلب والترائب ـ كما أن وريد الخصية يصب في نفس المنطقة،أي أن التغذية والتروية والتعصيب للخصية وللمبيض تبقى مرتبطة بهذه المنطقة أي من بين الصلب والترائب.
وقد يتساءل المرء لماذا هجرة الخصية من هذه الناحية المستورة المحمية إلى منطقة الصفن وهي خارج البطن والجسم؟ والسبب أن النطاف لايمكن أن تعيش في حرارة البدن الطبيعية بل لابد لها من حرارة دون حرارة الجسم حوالي 3 ـ 4 درجات،ولذا كان أنسب مكان للخصية هي ناحية الصفن خارج الجسم،وفي بعض الحالات قد لاتتمكن الخصية من الوصول إلى الصفن وهذا يسمى طبياً بالخصية الهاجرة،وهنا لاتتشكل النطاف في هذه الخصية الهاجرة لأن حرارة جوف البطن عالية،ولذا لابد عند الولادة للمولود الذكر التأكد من هبوط الخصية ووجودها في تجويف الصفن ،فإن لم تكن موجودة فإنه لابد من معالجة الأمر دوائياً أو جراحياً وإلا تعرضت النطاف للتلف ويصاب الشخص بالعقم.
وقد جهز الصفن بعضلة تسمى العضلة المغضنة للصفن وهذه العضلة بتقلصها أثناء البرد أو استرخائها أثناء الجو الحار فإنها تنظم الحرارة داخل الصفن وبحيث تبقى درجة الحارة أقل كما ذكرنا 2 ـ 4 درجات أقل من الحرارة في جوف البطن.
“في ظلمات ثلاث”
يقول تعالى: {يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق في ظلماتٍ ثلاث}[الزمر 6 ]
من الناحية اللغوية:
الظلمة: لغة هي ذهاب النور.
يقول الشاعر أسامة بن منقذ:
إن اصطبار الجنين في ظلم الأح شاءِ أفضى به إلى النور
ويقول الشاعر ابن فرج الإلبيري في ذم غرناطة:
قالوا أتسكنُ بلدةً نفسُ العزيزِ بها تهونْ
فأجبتُهمْ بتأوّهٍ كيف الخلاصُ بما يكونْ
غرناطةٌ مثوى الجني نِ يلذُّ ظُلمتَهُ الجنينْ
ويقول شوقي:
اذكر الآية إذ أنت جنين لك في الظلمة للنور حنين
التفاسير:
الإمام الطبري وتفسير الجلالين وابن كثير وتفسير الظلال: كلها ذكرت أن المعنى: ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة الأغشية.
ويقول الإمام ابن كثير رحمه الله :”أي قدركم في بطون أمهاتكم”خلقاً من بعد خلق” يكون أحدكم أولاً نطفة ثم يكون علقة ثم يكون مضغة ثم يخلق فيكون لحماً وعظماً وعصبا وعروقاً وينفخ فيه الروح فيصير خلقاً آخر”فتبارك الله أحسن الخالقين”، وقوله جل وعلا”في ظلمات ثلاث” يعني ظلمة الرحم وظلمة المشيمة وظلمة البطن كما قال ابن عباس ومجاهد” انتهى كلام ابن كثير.
ويقول صاحب الظلال رحمه الله: ” “في ظلمات ثلاث:” ظلمة الكيس الذي يغلف الجنين، وظلمة الرحم الذي يستقر فيه هذا الكيس،وظلمة البطن الذي تستقر فيه الرحم”
والنص القرآني يفيد المنّة: اي أن الله تعالى يذكر أن نمو الجنين يتم داخل ثلاث ظلمات فنفهم من هذا أنه لولا هذه الظلمات لأصابنا أذى كبير.
وتفيد الدراسات أن الضوء يعيق مراحل نمو الجنين والظلمة هامة لهذا النمو.
من الناحية العلمية:
إن الجنين داخل الرحم يُحاط بثلاثة أغشية: 1 ـ الغشاء الساقط وهو الغشاء المكون لمخاطية الرحم السطحية في بداية الحمل ونمو الجنين،وسمي بالساقط لأنه يسقط مع الجنين عند الولادة.
2 ـ والغشاء المشيمي(الكوريوني)وهو الغشاء الذي تصدر عنه الزغابات الكوريونية التي تنغرس في مخاطية وجدار الرحم.
3 ـ والغشاء السلوي(الأمنيوسي).وهو الغشاء الذي يحيط بالسائل الذي يسبح فيه الجنين ويتغذى من خلاله وهو السائل الأمنيوسي.
والجنين موجود في الرحم تحيط به ثلاثة ظلمات: ظلمة تجويف البطن (جدار البطن الأمامي للأم)، وظلمة جدار الرحم،وظلمة الأغشية المذكورة. ولكن الآية الكريمة تشير أن هذا التخلق يحدث في “البطن” يقول تعالى” يخلقكم في بطون أمهاتكم” أي أن الظلمات موجودة في البطن فهل هي هذه الأغشية الثلاثة المعنية هنا؟ الله أعلم. وكما ذكرنا فإن هذه الأغشية هي:
الغشاء الساقط القاعدي: ويقع مابين النطفة والجدار العضلي للرحم
الغشاء الساقط المحفظي: وهو يحيط بالنطفة في جوف الرحم
الغشاء الساقط الجداري: وهذا الغشاء يبطن جوف الرحم في المسافات التي لم ترتكز عليها النطفة.
إن الغشاء الساقط هو غشاء ينشأ من الغشاء المخاطي للرحم وهو يحيط بالنطفة ومن المضغة من الخارج وهو يسقط بعد الولادة أو الإجهاض. ثم يليه الغشاء الكوريوني أو المشيمي، وهناك الغشاء أو السائل الذي يحيط بالجنين إحاطة تامة وكاملة ومن وراء وسط مائي هو السائل السلوي أو الصائي ويسمى أيضاً الأمنيوسي.
ويقول الدكتور الكندي كيث مور في كتابه تطور الجنين الإنساني:”ينتقل الجنين من مرحلة تطور إلى أخرى داخل ثلاثة أغطية التي كانت قد ذكرت في القرآن الكريم بالظلمات الثلاث،هذه الظلمات هي مرادفة للمعاني التالية:جدار البطن،وجدار الرحم،والمشيمة بأغشيتها الكوريو ـ أمينوسية.
وهناك ملاحظة: إن الجنين يعيش في عالم مظلم،فالجفنان لديه ملتحمان والعينان مغمضتان حتى الشهر السابع من الحمل.ولكن مع ذلك فإن العين لدى الجنين حساسة للضوء، ففي الشهر الخامس من الحمل وإذا حاول الطبيب استعمال مايسمى منظار الجنين(الفيتوسكوب) مع منبع ضيائي وحاول النظر داخل الرحم فإن الجنين يحاول بواسطة يديه وحركتها أن يحجب عن العين هذا الضوء.
النفخ بالروح والحركة
الآيات الكريمة:
{الذي أحسنَ كُلَّ شئٍ خَلقهُ وبدأ خَلقَ الإنسانِ من طين* ثُمَّ جعلَ نسلَهُ من سُلالةٍ من ماءٍ مهين* ثُمَّ سَوَّاهُ ونفخَ فيهِ من رُّوحهِ وجعلَ لكمُ السَّمعَ والأبصارَ والأفئدةَ قليلاً ماتشكرون}[ السجدة 6 ـ 9]
{فإذا سَوَّيتهُ ونفختُ فيه من رُّوحي فقَعُوا لهُ ساجدين}[ الحجر29 ]
الأحاديث النبوية الشريفة:
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقةً مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الله الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد” [رواه الشيخان وأبو داود والترمذي وهذه رواية مسلم].
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا خلقت النفس قال ملك الأرحام: أي ربّ! أذكرٌ أم أنثى؟ فيقضي الله إليه أمره ثم يقول: أي ربِّ أشقيٌ أم سعيدٌ؟ فيقضي الله تعالى إليه أمره فيكتب ماهو لاقٍ حتى النّكبةِ يُنكَبها}[أخرجه البزار وابن أبي عاصموقال الألباني حديث صحيح]
وعن سعيد بن أبي الحسن قال: كنت عند ابن عباس رضي الله عنهما إذ أتاه رجل فقال يا ابن عباس إني إنسان إنما معيشتي من صنعة يدي وإني أصنع هذه التصاوير فقال ابن عباس لا أحدثك إلا ماسمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته يقول: “من صَوّر صورة فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها الروح وليس بنافخ فيها أبداً” فربا الرجل ربوةً شديدة واصفر وجهه فقال ويحك إن أبيت إلا أن تصنع فعليك بهذا الشجر كل شئٍ ليس فيه روح” أخرجه البخاري].
من الناحية العلمية الطبية:
يقول الدكتور خالص جلبي في إحدى مقالاته: ”
إن الكائن البشري فيه روح حيوانية وروح بشرية. أما الروح الحيوانية فهي كالتي يتمتع بها الحيوان بل تشبه النامية النباتية في النبات،ويتم بكل من الروح الحيوانية والنامية النباتية توالد الخلايا وتكاثرها والأعمال الغريزية ووظائف الحواس دون أن تهب النبات أو الحيوان الإدراك الشامل أو البصيرة النافذة او العقل المدبر. أما الروح البشرية التي تميز بها الإنسان عن النبات والحيوان فهي التي يشرق منها نور البصيرة فيتم الإدراك ويسيطر العقل وتتصرف الإرادة ويستقيم المنطق الذي حُرم منه الحيوان.
إن هناك فرقاً بين الحياة الخلوية والحياة الإنسانية،فالحياة موجودة في البيضة أو النطفة حتى ماقبل التلقيح،ولكن الروح التي أشار إليها حديث ابن مسعود بعد 120 يوماً هي تلك الروح العاقلة عند الإنسان والتي تشكل البعد الجديد التي لايعرفها أحد،والعلم ليس لديه أدنى فكرة عن ماهيتها{ويسألونك عن الرُّوحِ قل الرُّوحُ من أمر ربّي وما أوتيتُم من العلم إلا قليلا}.[الإسراء 85].
إن عملية جمع الخلق والتقاء البيضة مع النطفة أي حساب الاربعينات يبدأ اعتباراً من أول الدورة الشهرية أي من أول يوم من أخر طمث رأته المرأة لأنه اليوم الذي يبدأ فيه تشكل الجريب حول البيضة،أو بكلمة أخرى هو اليوم الذي يبدأ فيه التطور الذي سيؤدي للإلقاح، وهو أيضاً مايسمى حساب عمر الحمل الذي يبدا من أول يوم من أخر طمث، والحمل اربعون اسبوعاً اعتباراً من هذا التاريخ وليس عبثاً اختيار هذا التقويم لان اليوم الأول من أخر طمث هو الموعد الحقيقي لبدء حوادث الحمل،وهو اليوم الوحيد الذي تذكره المرأة ويمكن سؤالها عنه.
أما علماء الجنين فيأخذون تقويماً أخر يسمى تقويم الحمل وذلك منذ الإلقاح أي لحظة التقاء النطفة مع البيضة،وهو أمر خفي يحصل في أعماق جسم المرأة ولا سبيل لمعرفته وتوقيته بالضبط.
إن حديث الأربعينات يقول بهذا الجمع:
فالمرحلة الأولى: النطفة:
ومدتها أربعون يوماً من أول يوم من أخر طمث
المرحلة الثانية: العلقة:
ويكون فيها محصول الحمل معلقاً بجدار الرحم،ويتخلق فيها معظم الأعضاء وحين تنتهي هذه المرحلة يكون الجنين خلقاً سوياً يشبه البشر في كل شئ ما خلا عظامه التي لم تتعظم وعضلاته التي لم تتكون بعد. وفي نهاية هذه المرحلة أي بعد 40 يوماً أخرى يكون محصول الحمل قد ملأ جوف الرحم بالكامل ولم يعد معتمداً على خاصية تعليقه في جدار الرحم.
المرحلة الثالثة:المضغة:
يكون فيها محصول الحمل اصبح كقطعة لحم مؤلفة من مضغة مخلقة هي الجنين،وغير مخلقة هي الأغشية والمشيمة،وهاتان المضغتان وحدة لاتنفصم ولاتستغني إحداهما عن الأخرى،وتستمر هذه المرحلة أيضاً 40 يوما، وهنا يحدث التعظم وتشكل العضلات وتنتهي هذه المرحلة بنفخ الروح.
إذاً فإن هناك حياة في البيضة والنطفة قبل الإلقاح،وهناك أيضاً حركة، فالنطفة تتحرك وكذلك البيضة،ولكن الحركة ليست دليلاً على الروح،فالحركة موجودة أيضاً في الجوامد كحركة الالكترونات حول النواة،وحركة النجوم والأرض، وحركة الأميبا، وكما ذكرنا حركة النطفة والبيضة.
والروح التي في أجسامنا نحن البشر من روح الله تعالى، ونسبت إليه للتشريف غاية التشريف لبني آدم{ثم سواه ونفخ فيه من روحه}.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في كتاب”التبيان في أقسام القرآن” : ”
فإن قيل : الجنين قبل نفخ الروح فيه هل كان فيه حركة وإحساس أم لا؟ قيل: كان فيه حركة النمو والأغتذاء كالنبات،ولم تكن حركة نموه واغتذائه بالإرادة،فلما نفخت فيه الروح انضمت حركة حسيته وإرادته إلى حركة نموه واغتذائه”.
ويقول الشيخ محمود شلتوت رحمه الله:
“يتم نفخ الروح في الجسم بعد تسويتها،والمفهوم من نفخها تحصيل آثارها في الجسم والذي ترشد إليه الأثار الدينية أنها تخرج من بدن الإنسان فيكون الموت،وإنما تبقى ذات ادراك تسمع السلام عليها، وتعرف من يزور قبر صاحبها،وتدرك لذة النعيم وألم الجحيم، وإن مقرها يختلف بعد مفارقة البدن بتفاوت درجاتها عند الله” .
ولاتحدث حركة الجنين إلا بعد أن يتكون الهيكل العظمي والنسيج العضلي وهذا ماذكرناه في مرحلة المضغة ثم يحدث نفخ الروح،وحدوث الحركة بعد تشكل العظام والعضلات.ويمكن ملاحظة حركات الجنين باستعمال واسطة مافوق الصدى،ووجد أنه يحدث في البداية حركات بدائية للجنين وتسمى حركات البينغ ـ بونغ ثم تتطور إلى حركات متناسقة وذات هدف في نهاية الشهر الثالث حيث تبدأ لديه حركات إرادية ومنها:
يمص أصابعه،يهز رأسه،يمسك بالحبل السري،يصبح كثير الحركة، يتقلب في الرحم،وتظهر منعكسات القبض..وهذه الحركات لها علاقة مع تميز ونضج الكتلة العضلية ونمو الجملة العصبية المركزية والمحيطية،وحتى الآن لانعرف لماذا يتحرك الجنين بهذا الشكل.
كما لوحظ أن الجنين ينام ويصحو،ويسمع الأصوات،كما أن الكبد والقلب والدماغ والأطراف والسمع والبصر يكتمل بناؤها في نهاية الشهر الثالث،وفي نهاية هذا الشهر تتميز الأعضاء التناسلية الباطنة والظاهرة، ويمكن التفريق بين الذكر والأنثى. وفي هذه الفترة يتخذ الجنين وجهه الشكل الإنساني المميز، أما قبل ذلك فشكله يشبه جنين السمك أو الطائر أو الأرنب أو القرد. وفي هذا الشهر تظهر السمات الإنسانية ويكتمل نمو الوجه تقريباً وتبدأ العضلات الإرادية بالحركة،بل إن عضلات الوجه تعبر عن حالة الجنين وما يعانيه.
ويقول الدكتور محمد علي البار:
“لدى الجنين توجد كتابة دقيقة ورسم بارع يبدأ في نهاية الشهر الثالث من العمر،والغريب أنه لايوجد اثنان على الأرض تتشابه فيهم هذه الكتابة حتى ولو كانا توأمين،ثم تختفي هذه الكتابة تحت الطبقة الدهنية الكثيفة والتي تحمي جلد الجنين من عبث أصابعه وأظافره، ومن المعلوم اليوم أن إحدى علامات التفرد الذاتية هي بصمات الأصابع وخاصة الإبهام، وأكمل منها الكتابة على الجبين،ومن الثابت علمياً ان هذه الخطوط الدقيقة البارعة قد خطت ورسمت بعناية فائقة عندما كان الإنسان في رحم أمه وهذه الكتابة تبدأ في الشهر الثالث وتكتمل في نهايته.
وهناك ملاحظة: من حديث الأربعينات يتبين أن مستقبل الجنين يتم بعد أن تنفخ فيه الروح، ويقدر أجله ورزقه وأقداره الأخرى،وهذا يتم في تمام الأربعين الثالثة، والسؤال:إذاً لاعلاقة لهذه الكروموزومات والجينات التي تكون موجودة ابتداءً من النطفة والبيضة؟ فهناك أشياء نحن بها مسيرون لامخيرون كالطول والقصر وشكل الوجه ولون الجلد… والله تعالى لايحاسبنا على اختلافنا فيها فالكل عباد الله ولافضل لأبيض على أسود إلا بالتقوى.أما الرزق والأجل والشقاء والسعادة فهي معلومات يسجلها الملك على الجنين بعد اكتماله فهي ليست مركبة في كيانه فالله رزاق ولكن الإنسان مطالب بالسعي وراء الرزق، والله تعالى يحدد الأجل ولكن الإنسان مطالب برعاية صحته،والسعادة والشقاء متعلقان بالإيمان والعمل الصالح أو عدمهما.
وكان يقال سابقاً أن الجنين داخل الرحم يعيش في عالم مستقل عن الأم، وهذه نظرية قديمة تبين خطأها وعدم مصداقيتها،حيث تبين أن الجنين يشارك ويتأثر بالحالة الإنفعالية والبيولوجية للأم.فالجنين قد يرتكس ويتفاعل لمنبهات عديدة آلية أو فيزيائية تقع في محيطه،فمثلاً إن الضغط الذي يمكن إحداثه على الرحم في الشهر الأول من الحمل قد يترافق مع حركة للجنين،وكذلك فإن بعض الأصوات يمكن أن تستدعي حركة الجنين وخاصة حركة أطرافه وتسبب تسرع القلب لديه، وتبين أن الجنين داخل الرحم يعيش في طور نوم يماثل طور النوم عند الكهل المسمى بطور ” الريم”.
“ويعلم ما في الأرحام”
الآيات الكريمة:
{إنَّ اللهَ عِندَهُ عِلمُ السَّاعةِ ويُنَزِّلُ الغيثَ ويعلمُ مافي الأرحام وماتدري نفسٌ ماذا تكسِبُ غداً وماتدري نفسٌ بأيِّ أرضٍ تموتُ إنَّ الله عليمٌ خبير}[ لقمان 34]
الأحاديث الشريفة:
عن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول اله صلى الله عليه وسلم: ” مفاتيح الغيب خمس لايعلمهنّ إلا الله وذكر الآية “إن الله عنده علم الساعة….”[ أخرجه البخاري وأحمد].
وفي الرواية الثانية للحديث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” مفاتيح الغيب خمس لايعلمها إلا الله: لايعلم ماتغيض الأرحام إلا الله، ولايعلم مافي غد إلا الله، ولايعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولاتدري نفس باي أرض تموت إلا الله، ولايعلم متى تقوم الساعة إلا الله”[ رواه البخاري]
التفاسير:
ابن كثير:” هذه مفاتيح الغيب التي استأثر الله تعالى بعلمها فلايعلمها أحد إلا بعد إعلامه تعالى بها،فعلم وقت الساعة لايعلمه نبي مرسل ولاملك مقرّب{لايجليها لوقتها إلا هو}[الأعراف 187]،وكذلك إنزال الغيث لايعلمه إلا الله ولكن إذا أمر به علمته الملائكة الموكلون بذلك ومن شاء من خلقه،وكذلك لايعلم مافي الأرحام مما يريد أن يخلقه الله تعالى سواه ولكن إذا أمر بكونه ذكراً أو أنثى،شقياً أو سعيداً أعلم الملائكة الموكلون بذلك ومن شاء من خلقه” .
وجاء في تفسير ابن جرير الطبري: “أخبر الله تعالى أن عنده علم كل شئ كان ويكون وماهو كائن ومما لم يكن بعد وذلك هو علم الغيب.
وقال صاحب تفسير المنار الشيخ محمد رشيد رضا: “الغيب هو ماحجب الله علمه عن الناس بعدم تمكينهم من أسباب العلم به،لكونه مما لاتدركه مشاعرهم الظاهرة ولاالباطنة، كعالم الآخرة.
وبشكل مشابه لذلك جاءت التفاسير الأخرى وخاصة ابن عاشور والخازن والنسفي والزمخشري..
الناحية العلمية:
كثير من الناس يتساءلون ويقولون: إن العلم استطاع أن يصل إلى نوع الجنين،هل هو ذكر أو أنثى،وأنه أمكن وباستعمال بعض أجهزة التصوير الدقيقة وهو في بطن أمه وباستعمال بعض الفحوص النوعية أن يكتشفوا بعض التشوهات الجنينية داخل الرحم،ويزيدون على ذلك أن العلم استطاع أن “يخلق” مايطلقون عليه “أطفال الأنابيب”، وعلى زعمهم أن هذا يتناقض مع احد الغيبيات الخمس التي ذكرت في سورة لقمان.
ونجيبهم على ذلك:
1 ـ إن الله عنده علم الغيب ولايعلم الغيب إلا الله،ولكنه قد يُعلم من خلقه ماشاء ولمن شاء، يقول تعالى: {عالمُ الغيب فلا يُظهر على غيبه أحداً *إلا من ارتضى من رسول}[الجن 26 ـ 27]، أما علم الساعة فإنه علم اقتصر على الله تعالى ولم يُعلمه ولن يُعلمه أحداً من خلقه في الأزل وإلى أن تقوم الساعة يقول تعالى: {يَسألُونكَ عن السَّاعةِ أيَّانَ مُرسَاها قُل إنّما عِلمُها عندَ رَبّي لايُجَلّيها لوقتِها إلا هُو ثَقُلت في السَّمواتِ والأرض لاتأتيكُم إلا بغتةً يسألُونكَ كأنّكَ حَفيٌّ عنها قُل إنّما عِلمُها عند الله ولكنَّ أكثرَ الناسِ لايعلمون}[ الأعراف 187]
ويقول تعالى{يسألُكَ النَّاسُ عن السَّاعةِ قُل إنّما عِلمُها عندَ الله ومايُدريكَ لَعلَّ السَّاعةَ تكونُ قريباً}[ الأحزاب 63 ]
ويقول تعالى{يَسألُونكَ عنِ السّاعةِ أيَّانَ مُرساها *فِيمَ أنتَ من ذكراها* إلى رَبّكَ مُنتهاها* إنّما أنتَ مُنذرُ من يَخشاها* كأنَّهُم يومَ يَرونها لم يلبثوا إلا عشيةً أو ضُحاها} [النازعات 42 ـ 46 ]
2 ـوفي قوله تعالى”ويعلم مافي الأرحام“: فحرف ما هنا يشير ويشتمل على أشياء ومضامين ودلالات واسعة،ولايقتصر كما يظن البعض على تحديد جنس الجنين داخل الرحم هل هو ذكر أو أنثى، ولكنه يعني بالإضافة إلى هذا جنس الجنينن وهل هو شقي أو سعيد،هل هو ذكي أو غبي، هل هو سليم أو مريض، هل هو أبيض أو أسود،عمره، أجله، اسمه واشياء أخرى.. {وماتَحمِلُ من أنثى ولاتَضعُ إلا بعلمه}[فاطر11]
فهذه المعاني وغيرها لايمكن للبشر ولا لعلم البشر الإحاطة بها كلها وإنما هو علم الله الذي أحاط بكل شئ،بل الأبعد من ذلك أن الله تعالى أخبر النبي زكريا عليه السلام بإبنه يحيى قبل أن يولد،وأخبره بإسم هذا الإبن، وهو اسم لم يكن البشر يسُمون به من قبل، ونبأه أنه سيكون نبياً سيداً وحصوراً ومن الصالحين،وكل هذا تم قبل أن يوجد هذا الطفل في رحم زوجة زكريا،وقبل أن يتم الخلق تماماً، فهذا البلاغ كان لنبي الله زكريا وهو قائمٌ يصلي في المحراب يدعو الله أن يرزقه الذرية الصالحة يقول تعالى: {هُنالِكَ دعا زَكريا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَب لي من لَدُّنكَ ذُريّةً طَيِّبةً إنّكَ سميعُ الدُّعاء*فنادَتهُ الملائكةُ وهوَ قائِمٌ يُصلي في المِحرابِ أنّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيحيى مُصَدِّقاً بِكَلمةٍ من الله وسَيّداً وحَصوراً ونبيّاً من الصالحين}[ آل عمران 38ـ 39]
وبشكل مشابه عندما بشرت الملائكة أبي الأنبياء ابراهيم عليه السلام وزوجته سارة بقدوم سيدنا اسحق،وسيرزق اسحق أيضاً في حياتهما ولداً اسمه يعقوب ـ وذلك استجابة لدعاء أبي الأنبياء إبراهيم وهو شيخ كبير:{ربِّ هب ليمن الصالحين}[الصافات100] ـ ولقد تعجبت سارة من هذه البشارة لأنها كانت عقيماً لاتلد ولأنها طعنت في السن إذ تقول بعض الروايات أنها بلغت من العمر تسعين عاما،أو تسعة وتسعين كما قيل أيضاً، وكان أبو الأنبياء ابراهيم عليه السلام قد جاوز المائة سنة وقيل مائة وعشرين سنة. قال تعالى :{ وامرأتُهُ قائمةٌ فضحكت فبَشَّرناها بإسحقَ ومن وراءِ إسحقَ يعقوب* قالت ياويلتى أألِدُ وأنا عجوزٌ وهذا بعلي شيخاً إنَّ هذا لشئٌ عجيب* قالوا أتعجبينَ من أمرِ الله رَحمتُ الله وبركَاتُهُ عليكُم أهلَ البيتِ إنَّهُ حميدٌ مَجيد}[ هود 71 ـ 73] وقال تعالى : {قال أبَشَّرتُموني على أن مَسَّنيَ الكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرون* قالوا بَشَّرناكَ بالحَقِّ فلا تَكُن من القانطين}[ الحجر 54 ـ 55]، فماذا كان جواب إبراهيم عليه السلام:{قال ومن يقنط من رحمة ربّه إلا الضالون}[الحجر 56]، وقد أثنى إبراهيم الخليل على ربه فقال:{ الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إنّ ربي لسميع الدعاء}[إبراهيم39].
3 ـ إن معرفة جنس الجنين هل هو ذكر أو أنثى لايمكن أن يتم إلا بعد اللجوء إلى بعض الوسائط الطبية التشخيصية ومنها فحص الخزعة الكوريونية أو الفحص الخلوي للسائل السلوي أو اللجوء إلى مافوق الصدى أو من خلال التنظير… وهذا كله يعتمد على اللجوء إلى هذه الوسائل الحسية لمعرفة جنس الجنين وهذا أمر ليس بالمعجز وليس له علاقة مع عالم الغيب ولايمكن مقارنته مع علم الله الذي يعلم كل شئ بدون أن يستعين بأي من هذه الواسطات التشخيصية.
4 ـ إن علم الله تبارك وتعالى لايتعرض للخطأ أو السهو ،بينما علم المخلوقات فهو معرض للخطأ والسهو وسوء التقدير وماذكر سابقاً من استعمال الوسائط المذكورة كله قابل للخطأ والنتائج الخاطئة أحياناً.
5 ـ إن علم الله:
ـ هو علم غيبي منذ الإلقاح وتكون الجنين وماقبل ذلك وهو علم أزلي أبدي يسبق خلق المخلوقات.
ـ وهو علم لايحتاج إلى واسطة أو سبب فالله خالق الأسباب ومسبب المسببات.
ـ وهو علم مطلق غير معرض لأدنى الخطأ أو سوء التقدير ولايرقى إليه الشك.
ـ وهو علم شامل لايقتصر على تحديد جنس الجنين فقط بل يشمل كما ذكرنا أبعد من كل هذا من الأجل والرزق والشقاء والسعادة ..
ـ وهو علم محيط بكل الخلق وبكل الأرحام وماهو كائن وما سيكون.
“وما تغيض الأرحام وما تزداد”
الآية الكريمة : {الله يعلمُ ما تحمٍلُ كُلُّ أنثى وما تَغيضُ الأرحامُ وما تَزدادُ وكلُّ شئٍ عندهُ بمقدار}[الرعد 8]
من الناحية اللغوية:
يقال: غاض الماء : إذا غار أو نقص. وغاض الماء أو الثمن : أنقصه، والغيض: القليل، ويقال: غيض من فيض أي قليل من كثير.
وجاء في المفردات في غريب القرآن للأصفهاني: “وغيض الماء،وماتغيض الأرحام: أي تفسده الأرحام فتجعله كالماء الذي تبتلعه الأرض ،والغيضة: المكان الذي يقف فيه الماء فيبتلعه”
التفاسير:
وردت كلمة غاض في القرآن الكريم في موضعين:
{ وغِيضَ الماءُ وقُضيَ الأمرُ واستوت على الجودي}[ هود44]
{وماتغيضُ الأرحام وماتزداد} [الرعد 8]
وكما قال المفسرون لم يقل تعالى وماتغيض الارحام و”ماتفيض” وإنما قال ” وماتزداد”، لأن الزيادة هنا أدق ولأن كل زيادة تحصل في الأرحام زيادة محسوبة ومقدرة” وكل شئٍ عنده بمقدار“وذلك حسب الحاجة والمصلحة،أما الفيض فهو يعني الزيادة غير المقدرة،والفائض هو مازاد عن الحاجة.
وفهم السلف الصالح والمفسرون هذه الآية الكريمة على أنها ماينقص أو يزيد عن مدة الحمل، وعدد الأجنة وبنية الجنين ورزقه..ومنهم من قال:يعني الدم الذي ينزل على المرأة الحامل،أو هو السقط أو السقط الناقص،أو ماتفسده الأرحام فتجعله كالماء الذي تبتلعه الأرض.
قال ابن عباس وقتادة:”وماتغيض الأرحام: السقط، وماتزداد: مازادت الرحم في الحمل على ماغاضت حتى ولدته تماما.
وبعض المفسرون قالوا غيض الرحم:الدم على الحمل، قال مجاهد: “وماتغيض الأرحام:” الدم الذي تراه المرأة في حمله ، وقد عزا نقصان الأرحام وزيادتها إلى هذا الدم.
إذاً فإن هؤلاء المفسرين يعزون “الغيض” إلى “السقط” أو نزول الدم على الحامل.
ويقول الشيخ العلامة محمد متولي الشعراوي رحمه الله:
“أي:ما تُنقص وما تُذهب من السَّقط في أي إجهاض،أو ماينقص من المواليد بالموت،فغاضت الأرحام،أي:نزلت المواليد قبل أن تكتمل خلقتها،كأن ينقص المولود عيناً أو اصبعاً،أو تحمل الخِلقة زيادة تختلف عما نألفه من الخلق الطلبيعي،كأن يزيد إصبع أو أن يكون برأسين.أو أن تكون الزيادة في العدد،أي: أن تلد المرأة توأماً أو أكثر،أو أن تكون الزيادة متعلقة بزمن الحمل.وهكذا نعلم أنه سبحانه يعلم ما تغيض الأرحام،أي: ما تنقصه في التكوين العادي أو تزيده،أو يكون النظر إلى الزمن،كأن يحدث إجهاض للجنين وعمره يوم رأو شهر أو شهران،ثم إلى ستة أشهر،وعند ذلك لا يقال إجهاض،بل يقال ولادة.
ويقول سيد قطب رحمه الله في الظلال:
“فلما أن صور العلم بالغيض والزيادة في مكنونات الأرحام،عقب بأن كل شىء عنده بمقدار.والتناسق واضح بين كلمة مقدار وبين النقص والزيادة”.
من الناحية العلمية:
إن الرحم هو العضو الوحيد الذي لايستقر على حالٍ منذ بلوغ الأنثى وحتى سن الإياس(الضهي)، وأثناء الحمل وخارج أوقات الحمل،حيث تجري فيه عمليات غيض”نقصان”، وازدياد،حسب مقتضى الحاجة والمصلحة.
مالذي يحدث مثلاً أثناء الحمل من “زيادات”:
1 ـ السائل السلوي:
يبلغ حجمه 50 سم3 في الاسبوع الثاني عشر من الحمل،ويبلغ حوالي 400سم3 في أواسط الحمل، وحوالي اللتر في الاسبوع 36 من الحمل. ثم ينقص تدريجياً فإذا ماتأخرت الولادة قد يكون هناك شحٌ شديد في كميته.وهذا السائل يتجدد بكامله يومياً حوالي 8 ـ 12 مرة،ويتم هذا التجديد عبر اغشية السائل السلوي ومن خلال عملية البلع والتبول التي يقوم بها الجنين.
2 ـ الدوران الرحمي ـ المشيمي:
في خارج أوقات الحمل يبلغ معدل الدوران الرحمي حوالي 1،5من نتاج القلب،وفي أواخر الحمل يبلغ حوالي17 بالمائة من نتاج القلب، ويتضاعف الدوران الرحمي عند الحامل حوالي15 مرة في غير الحمل.
3 ـ الرحم:
يزداد الرحم وزناً وحجماً،
فسعته قبل الحمل لاتجاوز 10 سم،وتتضاعف أكثر من ألف إلى ألفين مرة أثناء الحمل، ووزن الرحم قبل الحمل 50 ـ 70 غ، ويصبح بعد الوضع مباشرة حوالي1200غ،ثم يبدأ الغيض في فترة النفاس، ويعود لوزنه وحجمه وسعته السابقة خلال أيام بعد الولادة وكأن شيئاً لم يكن!
4 ـ الجنين:
فهو ينمو ويتطور باستمرار كما ذكرنا،ويمكن معرفة عمر الحمل بقياس القطر بين الجدارين بواسطة مافوق الصدى،أو طول عظم الفخذ .. وكما ذكرنا فإن النطفة الأمشاج تكون بحجم حوالي 200 مكرون،ويبلغ وزن الجنين عند الولادة حوالي 3200غ.
وماذا يحدث خارج أوقات الحمل:
أثناء الطمث ومابين الدورات الطمثية تحدث تبدلات في الغشاء المخاطي للرحم والتي لها علاقة مع الإفرازات الهرمونية،كما تحدث تبدلات في مخاطية عنق الرحم،وكذلك في طور الإباضة.
فالرحم هو العضو الوحيد في الجسم والذي لايستقر على حال سواء في أثناء الحمل وخارج أوقات الحمل،وتجري فيه عمليات غيض وزيادة حسب مقتضى المصلحة والحاجة والتي يقدرها الله تعالى ،وحسب الطور والسن والمرحلة:حمل، ولادة، نفاس، طمث، إباضة..
“حملته كُرهاً ووضعته كُرها”
الآيات الكريمة:
{وَوصينا الإنسانَ بوالديهِ إحساناً حملتهُ أمُّهُ كُرهاً ووضَعتهُ كُرهاً وحَملُهُ وفِصالُهُ ثلاثونَ شهراً [ الأحقاف 15]
{ووَصَّينا الإنسانَ بوالديهِ حَملتهُ أمُّهُ وهناً على وهنٍ وفِصالُهُ في عامينِ أن أشكُر لي ولوالديكَ إليّ المصير]“[ لقمان 14]
آثار السلف الصالح:
شهد عبد الله بن عمر رجلاً يمانياً يطوف بالبيت قد حمل أمه على ظهره يقول:
إني لها بعيرها المذلل إن أذعرت ركابها لم أذعر
الله ربي ذو الجلال الأكبر
حملتها أكثر مما حملت فهل ترى جازيتها يا ابن عمر؟
فقال ابن عمر:لا،ولا بزفرة واحدة.
( أي من زفرات الطلق والوضع ونحوها)
التفاسير:
جاء في تفسير التحرير والتنوير لإبن عاشور:
“الكّره: بفتح الكاف وبضمها مصدر أكره: إذا امتعض شئ أي كان حمله مكروهاً لها،أي حالة حمله وولادته لذلك، والمعنى أنها حملته في بطنها متعبة من حمله تعباً يجعلها كارهة لأحوال ذلك الحمل، ووضعته بأوجاع وآلام جعلتها كارهة لوضعه.
ويقول الشهيد سيد قطب رحمه الله:
“وتركيب الألفاظ وجرسها يكاد يجسم العناء والجهد والضنى والكلال”حملته أمه كرهاً “ولكـنأها آهة مجهد مكروب ينوء بعبء ويتنفس بجهد ويلهث بالأنفاس!إنها صورة الحمل وبخاصة في أواخر أيامه،وصورة الوضع وآلامه.ويتقدم علم الأجنة فإذا به يكشف لنا في عملية الحمل عن جسامة التضحية ونبلها في صورة حسية مؤثرة.
إن البويضة بمجرد تلقيحها بالخلية المنوية تسعى للالتصاق بجدار الرحم،وهي مزودة بخاصية آكالة.تمزق جدار الرحم الذي تلتصق به وتأكله،فيتوارد دم الأم إلى موضعها،حيث تسبح هذه البويضة الملقحة دائماً في بركة من دم الأم الغني بكل ما في جسمها من خلاصات،وتمتصه لتحيا به وتنمو،وهي دائمة الأكلان لجدار الرحم.دائمة الامتصاص لمادة الحياة.والأم المسكينة تأكل وتشرب وتهضم وتمتص،لتصب هذا كله دماً نقياً غنياً لهذه البويضة الشرهة النهمة الأكول!وفي فترة امتصاصه للكلس من دم الأم فتفتقر إلى الكلس ذلك أنها تعطي محلول عظامها في الدم ليقوم به هيكل هذا الصغير!وهذا كله قليل من كثير.
ثم الوضع،وهو عملية شاقة،ممزقة،ولكن آلامها الهائلة كلها لا تقف في وجه الفطرة ولا تنسي الأم حلاوة الثمرة.ثمرة التلبية للفطرة،ومنح الحياة نبتة جديدة تعيش،وتمتد…بينما هي تذوي وتموت!
ثم الرضاع والرعاية.حيث تعطي الأم عصارة لحمها وعظمها في اللبن،وعصارة قلبها وأعصابها في الرعاية.وهي مع هذا وذلك فرحة سعيدة رحيمة ودود. لا تمل أبداً ولا تكره تعب هذا الوليد.وأكبر ما تتطلع إليه من جزاء أن تراه يسلم وينمو فهذا هو جزاؤها الحبيب الوحيد.فأنى يبلغ الإنسان في جزاء هذه التضحية،مهما يفعل،وهو لا يفعل إلا القليل الزهيد”.
ويقول الشيخ العلامة محمد متولي الشعراوي رحمه الله في قوله تعالى”وهناً على وهن”:
“أي: ضعفاً على ضعف،والمرأة بذاتها ضعيفة،فاجتمع لها ضعفها الذاتي مع ضعف بسبب الجنين الذي يتغذى منها،ويكبر في أحشائها يوماً بعد يوم،لذلك قلنا:إن من حكمة الله تعالى في خلق الرحم أنه جعله قابلاً للتمدد والاتساع ليحتوي الجنين في مراحل الحمل المختلفة إلى أن يزيد الجنين زيادة لا يتحملها اتساع الرحم فينفجر إيذاناً بولادة إنسان جديد وخلق آخر .ومن العجيب أن الرحم بقدرة الله يتسع لعدة توائم كما نرى ونسمع.
فالجنين كان خلقاً تابعاً لأمه في غذائه وتنفسه وحركته،لكن حينما جاء أمر الله وأذن بميلاده أنشأه خلقاً آخر له مقومات حياة مستقلة غير متصل بأمه.{ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين}[المؤمنون 14].
ويقول الشيخ العلامة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله (موقع القرضاوي ـ مقال:للأم في الغرب يوم ونحن كل أيام أمهاتنا أعياد):
“لا يعرف التاريخ ديناً ولا نظاماً كرّم المرأة باعتبارها أماً،وأعلى من مكانتها مثل الإسلام.
لقد أكد الوصية بها وجعلها تالية للوصية بتوحيد الله وعبادته،وجعل برها من أصول الفضائل،كما جعل حقّها أوكد من حقّ الأب،لما تحملته من مشاق الحمل والوضع والإرضاع والتربية.وهذا ما يقرره القرآن ويكرره في أكثر من سورة ليثبته في أذهان الأبناء ونفوسهم،مثل الآيات 14 من سورة لقمان،و15 من سورة الأحقاف.
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله:من أحق الناس بصحابتي؟قال: أمك.قال:ثم من؟قال: أمك.قال: ثم من؟ قال: أمك.قال: ثم من؟ قال: أبوك”[متفق عليه]
ومن رعاية الإسلام للأمومة وحقها وعواطفها:أنه جعل الأم المطلقة احق بحضانة أولادها،وأولى بهم من الأب..
قالت امرأة:يا رسول الله إن ابني هذا،كان:بطني له وعاء،وثدي له سقاء،وحَجري له حِواء،وإن أباه طلقني،وأراد أن ينتزعه مني! فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:أنت أحقّ به ما لم تنكحي“[رواه أحمد وأبو داود والحاكم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وجاء في مجمع الزوائد للهيثمي رجاله ثقات].
ومن الناحية الطبية:
أشار الطبيب والعالم والفيلسوف ابن سينا إلى الحمل والحامل في كتابه المشهور “القانون” وجاء في مقال فيه بعنوان”تدبير كلي للحوامل”:
“يجب أن يعتنى بتليين طبيعتهن بما يليّن باعتدال…وأن يكلفن الرياضة المعتدلة والمشي الرفيق من غير إفراط…ويجب أن لا يُد}منَّ الحمام،بل الحمام كالحرام عليهن إلا عند الإقراب(اقتراب وقت الولادة).ويجب أن تدهن رؤوسهن،فربما عرض من ذلك نزلة فيعرض السعال،فيزعزع الجنين ويعده للإسقاط.ويجب أن يجتنبن الحركة المفرطة والوثبة والضربة والسقطة والجماع خاصة والامتلاء من الغذاء والغضب،ولا يورد عليهن ما يغمُّهن ويحزنهن،ويبعد عنهن جميع أسباب الإسقاط وخصوصاً في الشهر الأول”.
إن الحمل Pregnancyعملية فيزلوجية طبيعية، ومع ذلك فإنه ينصح طبياً وعملياً بإجراء مالايقل عن عشرة فحوص أثناء الحمل للحامل ومحصول الحمل.ومن خلال هذه الفحوص ومن خلال القصة السريرية والعائلية يتم السؤال عن الحمول السابقة وكيف كان سيرها(ولادة طبيعية أم قيصرية؟)والسؤال عن بعض العادات وخاصة التدخين، وفي الغرب السؤال عن تناول الخمر والمخدرات(وإن كان وللأسف قد ابتلي مجتمعنا بهذه البلاوى في السنوات الأخيرة)، والسؤال عن بعض الأمراض الذاتية أو العائلية وخاصة أمراض القلب والكلية وارتفاع الضغط الشرياني، وفقر الدم وداء السكري والأمراض النزفية(مثل داء الناعور) وأمراض الروماتزم، والالتهابات المزمنة وخاصة أمراض الكبد الفيروسية، والسؤال عن الإصابة قديماً ببعض الأمراض الفيروسية أو تناول اللقاحات وخاصة فيما يتعلق بداء الحصبة الألمانية وداء التوكسوبلاسما..وتجرى بشكل دوري الفحوصات على الأم وخاصة الوزن والضغط وفحص البول والدم وفحص الرحم والحوض العظمي..كما يتم فحص محصول الحمل وخاصة بواسطة فوق الصدى ومعرفة نموه، ووضعه داخل الرحم ودقات القلب وحجم الرأس والتطور المستمر لنموه..
إن الحمل يترافق بتغيرات في كيمياء الجسد تؤثر في كل أعضائه وأجهزته، ويستدعي تبدلات جذرية ويؤثر على الحامل نفسياً وجسدياً، وحتى بعد اسبوع من الإباضة تشعر المرأة بأنه قد تغير شيئاً ما في كيانها، وأنه قد حدث شئ في تركيبها وعضويتها،ويأتي فحص البول والدم ليؤكدا ظنونها ويُلغى الشك باليقين.
ومن هذه التبدلات احتقان الثديين مع شدة حساسيتها، وتكون شديدة الحساسية لبعض الروائح ، وحدوث التعب والذي قد يكون شديداً، وتصاب بقلة التركيز وعدم القدرة أحياناً على إتمام العمل،مع أن محصول الحمل في الفترة الأولى لايتجاوز الملمتر الواحد،وتصاب الحامل بسبب الكثير من التبدلات الهرمونية والوظيفية بكثير من الأعراض المزعجة ومنها الإصابة بالغثيان وخاصة الصباحي والذي قد يكون شديداً يترافق مع الإقياء والتي قد تكون شديدة وتسبب نقص الشهية وعدم تناول الطعام مع نقص الوزن والوهن العام،كما يشاهد لاحقاً الآم معدية مع حموضة شديدة والسبب في ذلك أن ضخامة الرحم تدفع المعدة للأعلى وهذا يسبب قصوراً على مستوى المصرة الفؤادية وهذا يسبب قلساً معدياً ـ مريئياً قد يتطلب المعالجة بتناول مضادات الحموضة الدوائية،كما يترافق الحمل أحياناً مع الإمساك وقد يكون شديداً وقد يترافق مع زيادة عدد مرات التبول وخاصة عند ازدياد حجم الرحم والضغط على المجاورات وخاصة المثانة،وقد تكثر مشاهدة الالتهابات في المجاري البولية ، وقد يترافق الحمل مع آلام في العمود الفقري وقد تكون شديدة أحياناً،كما يشاهد اضطرابات دورانية وعائية ومنها حدوث الدوالي والبواسير والناجمة عن ضغط الرحم على أوردة الحوض وخاصة في أشهر الحمل الأخيرة.وقد تحدث اضطرابات في الضغط الدموي وخاصة هبوط الضغط الشرياني ومايسببه من دوار ودوخة وصداع وفي حالات نادرة قد يشاهد ارتفاع التوتر الشرياني وهذا قد يكون له انعكاسات سلبية وأحياناً خطرة على الأم والجنين،وتحدث لدى الحامل تغيرات طبيعية في جهاز الدوران وهدفها توفير الأوكسجين والغذاء اللازم للجنين، وإن عودة القلب إلى وظيفته الطبيعية لايحدث إلا بعد اسبوعين من الولادة، وإذا كان قلب الحامل طبيعياً فإنه يتمكن من تحمل هذا العبء الدوراني طيلة فترة الحمل، أما إذا كانت هناك إصابة قلبية ومنها مثلاً أدواء القلب الدسامية وخاصة الولادية أو الرثوية”الروماتزم” فإن هذا قد يسبب اضطرابات دورانية على الحامل قد تكون شديدة.
كما قد يشاهد أحياناً بعض الاضطرابات الغدية ومنها الإصابة بتضخم الغدة الدرقية(السلعة)والناجمة عن ارتفاع في تركيز استروجينات الدم والتي تثبط من كمية التيروكسين الحر في المصل الدموي،ومنها ارتفاع سكر الدم والإصابة بما يسمى السكري الحملي وهذا له مضاعفاته على الأم والجنين،كما قد يشاهد الوذمات الحملية والناجمة عن ازدياد تركيز الألدوستيرون في الدم، كما يشاهد نقص في بعض الفيتامينات الضرورية والمعادن الهامة وخاصة نقص الحديد وحمض الورق وما قد ينجم عن ذلك من حدوث فقر الدم ومضاعفاته..إن معظم الأمهات الحوامل يُصبن بفقر الدم وذلك بسبب زيادة حجم الدم عند الحامل وانتقاله من خلال المشيمة إلى الجنين،وإن فقر الدم الشديد إن لم يعالج فله تأثيراته السلبية على الأم والجنين معاً، ولذا لابد من الفحوص المخبرية الدورية للحامل وتعويض الفيتامينات والمعادن اللازمة وحتى نهاية الحمل وربما بعده أيضاً.
إن العناية بتغذية الحامل أمر هام وضروري وفي كل مراحل الحمل.ففي الثلث الأول من الحمل تبدأ أجهزة محصول الحمل بالتشكل وخاصة الجهاز العصبي وهذا يتطلب من الحامل الغذاء الجيد وخاصة مع الفيتامينات الضرورية وخاصة الفيتامين AوB والتركيز على عنصر البروتينات في الغذاء.
وفي الثلث الثاني يزداد حجم الجنين بشكل ملحوظ ويبدأ الجهاز العظمي بالتشكل ولذا لابد من تناول الكلسيوم (منتجات الألبان) مع الفيتامينDوالذي يكثر في الأسماك والتعرض للشمس، والحديد(الخضر الخضراء واللحوم).وكذلك تناول الفلوريد.
ومن الأمراض الخطيرة التي قد تصيب الحامل مايسمى “الانسمام الحملي Eclampsia وهو يترافق مع ارتفاع التوتر الشرياني لدى الحامل مع وجود وذمات شديدة في الجسم واضطرابات عصبية مركزية قد تسبب الاختلاجات،واضطرابات هضمية وقد تكون ذات نتائج خطيرة ومهددة للحياة بالنسبة للحامل أو الجنين.
الحامل والتدخين:
إن التدخين يسبب اضطرابات شديدة وخاصة للجنين، حيث تبين أن التدخين يترافق مع نقص وزن الوليد وربما حدوث الخداج والولادة المبكرة، وإن النيكوتين يسبب اضطرابات دموية وتشنجات وعائية في الدوران الوالدي الجهازي والرحمي،كما أنه قد يسبب بعض الاضطرابات التنفسية بالنسبة للوليد.
ومن الناحية الدينية:
يقول الإمام علي رضي الله عنه: “إن للمرأة في حملها إلى وضعها إلى فصالها من الأجر كالمرابط في سبيل الله، فإن هلكت فيما بين ذلك فلها أجر الشهيد”.
من الناحية الأدبية:
يعجبني قول شاعر المعرة حيث يقول:
العيشُ ماضٍ فأكرِمْ والديكَ بهِ والأمُ أولّى بإكرامٍ وإحسانِ
وحَسبُها الحملُ والإرضاعُ تُدْمنهُ أمران بالفضلِ نالا كُلَّ إنسانِ
وقال أيضاً:
وأعطِ أباكَ النصفَ حيّاً وميتاً وفضل عليه من كرامتها الأما
أقلك خفاً إذا اقلتك مثقلاً وأرضعت الحولين، واحتملت تما
وألقتك عن جهدٍ وألقاك لذةً وضمّت وشمّت مثلما ضم أو شما
“ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى”
الآيات الكريمة:
{ونُقِرُّ في الأرحامِ مانشاءُ إلى أجلٍ مُسَمّى ثُمَّ نُخرِجُكُم طِفلاً} [ الحج5 ]
{فجعلناه في قرار مكين* إلى قدرٍ معلوم *فقدرنا فنعم القادرون} [المرسلات 21 ـ 23 ]
الأجل المسمى، والقدر المعلوم:
هو الموعد المتوقع للولادة،وبالتالي فإن مدة الحمل هي مدة معينة،قد حسبت بعناية ودقة،والزيادة عليها أو النقص فيها ليس من مصلحة الأم أو الجنين.
يحدث الوضع والمخاض عند 55 بالمائة من النساء حوالي اليوم 280 من الحمل،مع زيادة أو نقص بمعدل سبعة أيام وذلك ابتداءً من اليوم الأول التالي للطمث الأخير.أما عند 25 بالمائة من النساء فإنه يحدث قبل اليوم 273،وعند 20 بالمائة منهن بعد اليوم 287.فإذا زادت مدة الحمل عن الأربعين اسبوعاً ازدادت نسبة الخطورة،وإذا نقصت عن المدة الطبيعية فإنه تحدث خطورة الولادة المبكرة أي مايسمى الخداج، ففي الحالتين أي الزيادة أو النقصان هناك خطورة على الأم والوليد وصدق الله العظيم” فقدرنا فنعم القادرون“.
وتحدث الولادة بعد أن يهيئ الله سبحانه وتعالى الظروف المناسبة وخاصة اكتمال نضج الجنين وتشكل أجهزته وأعضائه وبحيث يستطيع أن يتلائم مع الظروف الجديدة خارج الرحم.وكذلك يكون الرحم قد تهيأ من الناحية الوظيفية لمرور الطفل من خلاله وعبر مضايق الحوض على مراحل متتابعة بيسر وسهولة.
ولئن كانت الآلية التي يبدأ فيها المخاض عجيبة فإن الطريقة التي ينجز بها الوضع والمخاض أكثر غرابة ،وذلك لأن الرحم يبقى طيلة فترة المخاض يقوم بعمله بتدبير رباني معجز ويتصرف كأنه الكمبيوتر يحسب لكل حالة حسابها ولايكون دور الطبيب أو القابلات إلا الانتظار مع المراقبة،وكم من حالة قرر فيها الأطباء تحريض المخاض او إجراء بعض التدخلات، ويأبى الرحم بمشيئة ربانية إلا أن يبدأ المخاض بنفسه ويتغلب على الصعوبات وتلد الأم والأطباء حائرون كيف تم هذا فيكون جواب المؤمنين منهم “إن الله قد حرضها” أي حرّض المخاض.
إن أقل مدة للحمل يمكن أن يعيش معها الوليد هي 6 أشهر( ابتداء من الاسبوع 24 يكون قابلاً للحياة) وأكثرها 9 ـ 10 أشهر،يقول تعالى{وحمله وفصاله ثلاثون شهراً}[الأحقاف 15]
واما القول باستمرار الحمل عدة سنوات كما ذكر من قبل بعض الفقهاء فهذا كلام غير مقبول علمياً ولايوجد دليل شرعي يؤيده.
يقول الأستاذ الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله :
“بعض الفقهاء يقول إن الحمل أقصى مدته سنتان وبعض المذاهب تقول حتى أربع سنوات وهذا كلام مرفوض،فالله قد وضع لهذا الكون قانوناً ثابتاً وحدد لكل أنثى حتى من الدواب والحيوان مدة معلومة لحملها،وماسمعنا بشأن ناقة زادت مدة حملها عن حدها، فكيف يستمر حمل المرأة سنتين أو أربع سنوات،وهذا الشيئ لادليل عليه، بل هو استقراءات استقرءها بعض الفقهاء وبعض الأطباء وقالوا بأنهم سمعوها ووثقوا بها وهذا ليس له دليل شرعاً ولا طباً”.
وهناك ملاحظة رائعة وجميلة في تفسير التحرير والتنوير للشيخ ابن عاشور في قوله تعالى”وحمله وفصاله ثلاثون شهراً” يقول رحمه الله :
“الفصال: الفطام، ومن بديع معنى الآية جمع مدة الحمل والفصال في ثلاثين شهراً لتطابق مختلف مدد الحمل إذ قد يكون الحمل ستة أشهر أو سبعة أو ثمانية أو تسعة وهو الغالب.قيل: كانوا إذا كان حمل المرأة تسعة أشهر وهو الغالب أرضعت المولود أحد وعشرين شهراً، وإذا كان الحمل ثمانية أشهر أرضعت اثنين وعشرين شهراً،وإذا كان الحمل ستة أشهر أرضعت أربع وعشرين شهراً،وذلك أقصى أمد الارضاع فعوضوا عن نقص كل شهر من مدة الحمل شهراً زائداً في الإرضاع لأن نقصان مدة الحمل يؤثر في الطفل هزالا.
ويتابع الشيخ:
“ومن بديع هذه الآية أنها صالحة للدلالة على أن مدة الحمل قد تكون دون تسعة أشهر، ولولا أنها تكون دون تسعة أشهر لحددته بتسعة أشهر لأن الغرض إظهار حق الأم في البر مما تحملته من مشقة الحمل فإن مشقة الحمل أشد من مشقة الإرضاع،فلولا قصد الإيماء إلى هذه الدلالة لكان التحديد بتسعة اشهر أجدر بالمقام،وقد جعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه هذه الآية مع آية سورة البقرة”والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين” دليلاً على أن الوضع قد يكون لستة أشهر،ونسب مثله إلى ابن عباس رضي الله عنهما، ورووا عن معمر بن عبد الله الجهني قال تزوج رجل منا امرأة من جهينة فولدت لتمام ستة أشهر فانطلق زوجها إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه فذكر له فبعث إليها عثمان فلما أتي بها أمر برجمها فبلغ ذلك علياً فأتاه فقال أما تقرأ القرآن ؟ قال: بلى، قال أما سمعت قوله” وحمله وفصاله ثلاثون شهراً“، وقال” والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين” فرجع عثمان إلى ذلك.
“ووضعته كُرهاً”
المخاض أو الولادة:هي عملية خروج الجنين الناضج القابل للحياة خارج رحم الأنثى.
ولايعرف العلم حتى الآن ماهو العامل الذي يحرض عملية الولادة،وإن كان يظن أن الهرمونات التي تفرزها المشيمة لها علاقة بهذا الموضوع.
والآن كيف يتم المخاض والوضع:
تشاهد تقلصات رحم بسيطة وغير منتظمة عند النساء غير الحوامل، وهي تظهر أحياناً في بداية الحمل،وهي تقلصات صغيرة وغير منتظمة ومفصولة عن بعضها بأزمنة متباعدة،وبعد الاسبوع العشرين من الحمل فإن التقلصات تصبح ذات سعة أكبر وبتواتر أعلى،ولكنها تبقى تقلصات غير منتظمة ومتباعدة حتى الأسابيع الأخيرة قبيل الحمل،وحيث تبدأ التقلصات المنتظمة الوصفية بالحدوث، وحيث يكون عندها الفاصل الزمني بين موجتي التقلص مابين 5 ـ 10 دقائق، وإن تقلصات الوضع والتي يخرج معها الجنين تكون ناجمة عن هذه التقلصات مع ازدياد قوتها ونقص الفاصل الزمني بينها.
إن التقلصات البسيطة والطفيفة والتي تحدث في عضلة الرحم أثناء الحمل تزيد من الضغط في الأوردة الدموية الرحمية وهذا يساعد بالتالي على نشاط الحركة الدموية في الرحم والمشيمة والدوران الرحمي ـ المشيمي وهذا يساعد بالتالي على تزويد الجنين بالغذاء والأوكسجين اللازمين له.
وهناك ثلاثة علامات رئيسية تدل على اقتراب الوضع والمخاض:
التقلصات المنتظمة، وانبثاق جيب المياه ، وحدوث النزيف الرحمي.
يمر الوضع بثلاثة أطوار:
الطور الأول:أو طور اتساع عنق الرحم:
حيث يرتفع الضغط داخل الرحم ويصل ذروته وهو حوالي30 ـ 50 مم زئبق، وتحدث التقلصات الرحمية بفاصل 2 ـ 5 دقائق،ويمكن الشعور بهذه التقلصات بوضع اليد على بطن الأم. وتبدأ الأم بالشعور بآلام الوضع إذا وصل الضغط داخل الرحم 25 ـ 35 مم زئبق،وتبدأ الآلام في الناحية العجزية ـ القطنية وتنتشر حتى مقدم وأسفل الفخذين.وإن هذه التقلصات تسبب توسع قناة عنق الرحم.وتبدأ المرحلة النشطة من الطور الأول عند اتساع قطر عنق الرحم أكثر من حوالي 4 سم.وبعدها تزداد التقلصات تواتراً وقوة وبحيث يضغط رأس الجنين أو الأرداف في المجىء المقعدي على عنق الرحم وتزيد من توسعه بحيث يصل إلى 10 سم،ومن ثم تنفجر الأغشية السلوية ويتسرب السائل السلوي(انبثاق جيب المياه).
إن التقلصات الرحمية شديدة ومؤلمة ولكن مع ذلك تنصح المرأة أثناء المخاض بتجنب الصراخ،ولكن يشجع الأنين والشخير ليساعد في التخفيف من ألم المخاض.
الطور الثاني:نزول وولادة الطفل:
يصل الضغط داخل الرحم حتى 110 مم زئبق، وإن الضغط المسجل بين فاصلي التقلص الرحمي يساوي ضعف ذلك المسجل في الطور الاول،ويأخذ رأس الوليد(في حالات المجئ القمي) بالإندفاع ببطء تجاه عنق الرحم، وفي هذا الطور فإن عضلات البطن الإرادية تشارك عضلة الرحم في التقلص مما يضاعف من الضغط داخل الرحم، وقد يصل إلى 260 مم زئبق. ولقد أحصيت تلك القوة التي تسبب اندفاع راس الوليد والتي تسببها تقلصات عضلة الرحم المتتالية والمنتظمة وبلغت حوالي 4 ـ 8 كغ، وبمساعدة عضلات البطن الإرادية قد تصل هذه القوة إلى 18 كغ أو أكثر.ومن ثم يتم دفع الجنين إلى قناة المهبل.
ووجد أن الناظم (الباسماكر) الذي يوجه تقلصات عضلة الرحم يبدا في حال التقلص في إحدى نهايتي النفير الأيمن أو الأيسر وتنتشر باتجاه عنق الرحم وبسرعة تعادل 1 ـ 2 سم في الثانية.وإن الضغط الشديد المرافق للتقلصات قد يسبب ارتفاع الضغط الوريدي لدى الحامل وهذا قد يكون له مضاعفات خطيرة إذا كانت الأم مصابة بأمراض قلبية ـ دورانية.أما الضغط الشرياني لدى الأم فإنه يرتفع قليلاً أثناء الوضع،وخاصة مع مشاركة عضلات البطن في التقلصات.
3 ـ الطور الثالث:خروج المشيمة:
بعد الولادة تتوقف التقلصات لمدة 5 ـ 15 دقيقة، ومن ثم يحدث الطور الثالث من الوضع حين يعود التقلص من جديد وذلك لطرد المشيمة والأغشية.. وإذا مارضع الوليد مباشرة بعد الولادة فإن هذا يساعد على تقلص الرحم بشكل منتظم وهذا يمنع النزف التال للمخاض.وينصح الآن بأن يتم الاتصال مباشرة بعد الولادة مابين الأم والوليد حيث تبين أن الاتصال الحميم من الجلد إلى الجلد يؤدي إلى تحسن الحالة النفسية واستقرارها عند الام وينشط منعكس الرضاع،ويؤدي إلى التقليل من بكاء الطفل،واستقرار القلب والجهاز التنفسي لديه.ومنظمة الصحة العالمية تقول”عملية ولادة الطفل لاتنتهي حتى يتم نقله الآمن من المشيمة إلى تغذية الثدي”.
إن استهلاك الأوكسجين عند الأم في الساعة الأخيرة من الوضع يصل إلى 285 ـ 700 مل/بالدقيقة، فالوضع إذاً عملٌ مجهد جبار ومضن للأم، ويرتفع تركيز اللاكتات في الدم إلى 13 مغ بالمائة وأحياناً إلى 24 أو أكثر”ووضعته كُرهاً“. وتبلغ كمية النزف الوالدي المرافق للوضع حوالي 400 مل.
ومن الضروري جداً مراعاة الحالة النفسية للمرأة الحامل عند المخاض والولادة وخاصة إذا كان الحمل الأول،فإن الكثير من النساء يعيشون وخاصة في أواخر الحمل وأثناء المخاض حالة نفسية تترافق مع القلق والتوتر،وهذا يتطلب من أهل الحامل أن يبذلوا مالديهم من رعاية ومحبة وعطف حتى يتم تجاوز المرحلة بسلام.حتى أن بعض النساء قد يتشكل لديهم من شدة الخوف من المخاض مايسمى فوبيا الحمل.
ولقد وجد أنه أثناء المخاض وخاصة مع توسع عنق الرحم ودخول الجنين في قناة المهبل يزداد تركيز هرمون الأوكسيتوسين،والذي تبين أنه يلعب دوراً هاماً في تخفيف الحالة النفسية ويعطي نوعاً من الهدوء والاستقرار النفسي ،والتقليل من الخوف عند المخاض.
ولكن تبقى نسبة تصل إلى حوالي 10% من النساء يصبن بمايسمى الأكتئاب ما بعد الولادة،والذي يحتاج للرعاية والمعالجة والمتابعة.
أما طور النفاس أو طور مابعد الولادة فهو الذي يتلو الوضع مباشرة معلناً نهاية أطوار الوضع.ويستغرق هذا الطور حوالي ستة أسابيع.وهو الوقت الذي يعود فيه جسم الأم،وحجم الرحم،إلى الوضع الطبيعي وخاصة من الناحية الهرمونية.وتقول منظمة الصحة العالمية أن طور مابعد الولادة من أهم الأطوار وإن كان للأسف لايلقى الاهتمام المطلوب.وذلك لأن معظم وفيات الأطفال المواليد تقع في هذه الفترة،وخاصة إذا لم يكن هناك رعاية تامة.
وهناك ملاحظة:إن العديد من الأمهات والذين ينتظرون مواليدهم قد يعشن أيام من القلق والحيرة قبيل الولادة،ولذلك تم في كثير من البلدان إقامة دورات تهيئة لذلك الأمر بحيث تشارك أمهات المستقبل وربما برفقة أزواجهن، ويتم إعطائهن المعلومات الضرورية عن الوضع والمخاض وتدريب العضلات والمفاصل وتهيئتها للولادة،وكذلك التحضير والتهيئة النفسية، وإعطاء المعلومات عن الوليد وسير الحمل،وتهيئة الأم لآلام الوضع المرتقبة …
والمخاض قد لاينتهي بشكل طبيعي وإنما قد يحتاج إلى التدخل الجراحي وإجراء مايسمى العملية القيصرية،وهي إخراج الطفل عن طريق شق جراحي في البطن وعضلة الرحم.ولاينصح بإجراء هذه العملية قبل الاسبوع 39 من الحمل،ومن استطبابات العملية القيصرية نذكر:
ارتفاع ضغط الدم الشديد أثناء الحمل،التسمم الحملي،مرض السكري غير المضبوط والمراقب جيداً،تمزق الأغشية الباكر،تطاول مدة الحمل،بعض المجيئات المعيبة،الحمل المتعدد،….
ومن الناحية الأدبية:
كان أبو الأسود الدؤلي مزواجاً،وأراد أن يأخذ ابناً له من إحدى تسائه،فاختصما إلى القاضي في البصرة.قالت الزوجة:أصلح الله القاضي!هذا ابني،كان بطني وعاءه،وحجري فناءه،وثديي سقاءه،أكلؤه إذا نام،وأحفظه إذا قام،فلم يزل كذلك سبعة أعوام…حتى إذا استوفى فصاله،وكملت خصاله،واستوت أوصاله،وأملت نفعه،ورجوت دفعه،أراد أن يأخذه مني كرهاً،فأقدني أيها القاضي،فقد رام قهري،وأراد قسري.
فقال أبو الأسود الدؤلي:أصلحك الله! هذا ابني،حملته قبل أن تحمله،ووضعته قبل أن تضعه،وأنا أقوم على أدبه،وأنظر في أوده،وأمنحه علمي،وألهمه حلمي،حتى يكمل عقله،ويستحكم فتله.فقالت الزوجة:صدق أصلحك الله حمله خفاً،وحملته ثقلاً،ووضعه شهوة ووضعته كرهاً.فقال القاضي:اردد على المرأة ولدها،فهي أحق به منك ودعني من سجعك”.
“ثم السبيل يسره”
الآية الكريمة: {من نطفةٍ خلقه فقدره* ثم السبيل يسره} [عبس 19ـ 20 ]
الناحية الطبية العلمية:
إن تيسير خروج الجنين من الرحم أثناء الوضع والولادة والذي تُظهره هذه الآية الكريمة من سورة عبس فإنها تدل على الرعاية الربانية والرحمة الإلهية التي أولاها الله للأم الحامل وجنينها،حيث يسّر خروجه من رحم أمه بعد اكتمال نضجه وتمام تشكله.
وإن تيسير الولادة أمر حار فيه القدماء والمعاصرون، إذ كيف يمر هذا الجنين والذي يبلغ وزنه عند الولادة حوالي 3،5 كغ ويخرج من هذا الممر الضيق والذي هو عبارة عن عنق الرحم والذي من الصعوبة بمكان أن تدخل فيه إبرة خارج أوقات الحمل والولادة وذلك لكونه ممراً ضيقاً جداً.
ومازال القدماء والمعاصرون في حيرة كيف تبدأ التقلصات الرحمية في أثناء الوضع ؟ ومن اين تأتي الأوامر لها بالانطلاق في رحلة الولادة؟ وبعد أن بدأت كيف تنتهي؟ أسئلة لازال العلم الحديث كما هو الحال بالنسبة للعلم القديم غير قادر على الإجابة عليها!
إن المخاض يمر بثلاثة مراحل:
1 ـ طور الانفتاح:
يتسع عنق الرحم بالتدريج مع ازدياد تقلصات عضلة الرحم ومن ثم انبثاق جيب المياه(السائل السلوي)،وتقدم الجنين وحسب المجئ برأسه”المجيئ الرأسي” أو بمقعده”المجيئ المقعدي” أو بقدميه..وهذا الطور هو أطول أطوار المخاض ويدوم أحياناً 15 ـ 20 ساعة عند المرأة البكر(الحامل الخروس).
والسائل السلوي يلعب دوراً هاماً في المخاض وتيسير الوضع، فهو يسمح بحركة الجنين بسهولة وبالتالي أخذ الوضع المناسب وخاصة أثناء الولادة،كما أنه يوسع فوهة عنق الرحم حيث أنه يضغط على الأغشية للجنين مما يشكل مايسمى جيب المياه وانبثاق هذا الجيب”ماء الرأس انفجر” هو الذي يحرض المخاض وينبه تقلص عضلة الرحم.
وإن وضعية الجنين قبل الوضع مهم جداً، هل هو المجئ الرأسي والذي يشاهد في حوالي97 بالمائة من الحالات، أم المجئ المقعدي أم القدمي.وقد تبين أنه بعد الاسبوع 35 من الحمل فإنه يصعب على الجنين أن يحرك نفسه داخل الرحم وبالتالي تكون وضعية الجنين بعد هذا الاسبوع هي التي تحدد وضعية المجئ عند الولادة وهل يمكن أن تحدث الولادة بشكل طبيعي أم أنه لابد من إجراء بعض المداخلات ومنها مايسمى “تدوير الجنين داخل الرحم”ويطلق عليه التدخل الخارجي، وقد ينصح أحياناً بالعمل الجراحي”القيصرية”.
وهنا في هذا الطور يترافق انفتاح وتوسع عنق الرحم بشكل متوازي، ويمكن معرفة هذا بالفحص السريري حيث يقاس هذا الانفتاح بالقول أن العنق قد انفتح اصبعاً أو اصبعين أو أكثر من قبل الطبيب الفاحص أو القابلة(المولدة)،وحينما يصل الإتساع إلى قدر خمس أصابع أمكن للجنين الخروج، وإن تلين عنق الرحم ثم اتساعه وانمحائه تماماً هو أمرٌ هامٌ جداً ،إذ أنه لايمكن بالآلات والوسائط التشخيصية من توسيع عنق الرحم بسهولة وهذا ما يلاحظه الأطباء في محاولة إجراء عمليات التجريف”الكورتاج”إذ أنهم يلاقون صعوبة في توسيع عنق الرحم والدخول من خلاله إذا لم يكن ليناً ومتسعاً ومفتوحاً قبل ذلك، وإن وجود عضلة دائرية وقوية في ناحية عنق الرحم هو الذي يساعد على تحمل عبء وزن الجنين والضغط الذي ينشأ عن السائل السلوي،وفي نهاية الحمل وفي الأسابيع الأخيرة تبدأ هذه العضلة في عنق الرحم بالتخلخل وكذلك النسيج الضام حولها،ومن ثم هيئ رب العالمين توسيع العنق وانفتاحه وانمحائه و ذلك من خلال تقلصات الرحم وهجوم رأس الجنين نحو العنق وتوسيعه،ولو أتينا بجنين فوضعناه في بطن امرأة غير حامل وحاولنا إخراجه بنفس الطريقة لما أمكن ذلك،فعنق الرحم غير المتلين يستحيل أن يتوسع، والمهبل غير المتلين يتعرض للتمزق،فسبحان الله رب العالمين.
2 ـ تنفرج الزاوية مابين الرحم وعنق الرحم،بحيث يصبح السبيل واحداً مستقيماً ليس فيه انفراج ولا اعوجاج كما هو الحال في الحالات الطبيعية بحيث أن الرحم يكون مائلاً للأمام بزاوية درجتها تسعين تقريباً، وفي حالة الحمل يكون الرحم مع العنق على استواء واحد بدون زوايا بينهما.
3 ـ تلعب الإفرازات الهرمونية دوراً هاماً في تسهيل الولادة،وتجعل مفاصل عظام الحوض وعضلاته والانسجة الضامة ترتخي وخاصة بتأثير هرمون الريلاكسين والذي يفرز من المشيمة والمبيضين.كما أنها تؤثر في عنق الرحم وحول المهبل بنفس الوقت، وعند الولادة يصبح الحوض مؤلفاً من عظام تربطها مفاصل لينة تسمح لها بالابتعاد عن بعضها وتعطي الحوض سعة إضافية، وكل ذلك من تيسير وتسهيل ورحمة رب العالمين.
ومن المعلوم في علم التوليد والتشريح أن حوض الأم عبارة عن قناة مفصلة تفصيلاً دقيقاً على قياس رأس الجنين بتمام الحمل والذي يتقدم باتجاه الحوض بأوضاع ومجيئات معينة، ثم يحصل مايسمى التدخل:وهو اجتياز رأس الجنين لمدخل الحوض من الأعلى ـ ويسمى المضيق العلوي ـ وأقطار المضيق العلوي الطويلة هي العرضانية، بينما اقطار المضيق السفلي الطويلة هي الطولانية، ولذا لابد من أن يتدخل الجنين بالمجئ الرأسي ومن ثم لابد أن يدور ضمن الحوض بحيث يتناسب أقطار رأس الجنين مع أقطار المضيق العلوي ثم السفلي،وعملية الدوران هذه محسوبة بدقة وقد جعل الله من أجلها القناة الحوضية شبه الأسطوانة الملساء المتساوية الأقطار وجعل في أدناها شوكين عظميين بارزين للداخل نسميهما بالشوكين الوركيين،فإذا استمرت تقلصات الرحم تدفع رأس الجنين شيئاً فشيئاً للأسفل حتى يصطدم بالشوكين الوركين اللذين يوجهان الرأس بحيث يدور وتتطابق أقطاره مع أقطار المضيق السفلي ثم يتخلص.
4 ـ يزداد أثناء الوضع والمخاض افراز هرمون الأوكسي توسين ويسمى الهرمون المحرض للمخاض،وتبين أنه يحدث تنبيه لمنطقة تحت المهاد ـ النخامى،وأن هذا التنبيه يستدعي إفراز وتحرير هذا الهرمون والذي يسبب تقلص عضلة الرحم،كما أنه يساعد على انقباض الرحم بعد الولادة مما يقلل من حدوث النزف التال للولادة،ويساعد على طرد العلائق والبقايا الدموية،وتبين أن يزداد افرازه إذا مارضع الوليد مباشرة بعد الولادة،كما أن هذا الهرمون يساعد على إفراغ اللبن من ثدي الأم ليتغذى الوليد الرضيع.
5 ـ يبدأ المخاض خفيفاً ومتباعداً،ثم يشتد ويتقارب بالتدريج، ولو بدأ شديداً وسريعاً لتمزق عنق الرحم الذي لايجد وقتاً بعد للإتساع والانفتاح،أو لحدث تمزق في عضلة الرحم أمام وجود عائق عنق الرحم الذي يستوجب مقاومته،إذاً مايحدث في البداية هو اتساع عنق الرحم،ثم تأتي المرحلة التالية وهي إعطاء الأوامر لعضلات البطن لتساعد الرحم ويتم هذا بما يسمى فعل الحزق”الكبس” وهذا يحدث عندما يصل رأس الجنين إلى قاع الحوض، والماخض تفعل ذلك دون إرادتها فهي تشعر أنها مضطرة للكبس أثناء حدوث التقلصات الرحمية وبسبب ضغط رأس الجنين على القاع الحوضي ـ العجاني،ومع ذلك فإن الطبيب أو القابلة يطلبان من الأم بالكبس أثناء وجود التقلصات الرحمية من أجل تسهيل خروج الجنين، ويطلبان منها الراحة في حال غياب التقلصات الرحمية، وفي العادة فإنه يتوقف الحزق تلقائياً لعدم جدواه.
وكما ذكرنا يبدأ المخاض بتقلصات خفيفة تستمر حوالي 30 ثانية وتحصل في البداية بفاصل 10 ـ 15 دقيقة،ثم تشتد وتتقارب بحيث أن التقلصة تستمر دقيقة أو أكثر،والفواصل تكون حوالي 1 ـ 2 دقيقة.
ولابد أن يتبع كل تقلص ارتخاء،ولو استمر التقلص بدون ارتخاء لمات الجنين على الفور وذلك بسبب انقطاع الوارد إليه من الأوكسجين،لأن التقلص يغلق العروق الدموية التي تأتي بدم الحامل إلى الجنين وتعود به منها،والجنين لايمكنه تحمل نقص الأوكسجين إلا بضع دقائق وخاصة دماغ الجنين فهو شديد الحساسية لنقص الأوكسجين،لذا تعتبر الولادة بحد ذاتها “شدة” ليس على الأم فقط بل أيضاً على الجنين،ومع حدوث تقلصات الرحم وانخفاض الأوكسجين الوارد إلى الجنين يحصل انخفاضاً في نبض الجنين ويرتفع في الفواصل بين التقلصات،وقد يسر الله للجنين وسائل تقيه من هذه الشدة بنقص الأوكسجين وتبعاته حيث لوحظ أن غدة قشر الكظر لدى الجنين تفرز هرمونات وخاصة الأدرينالين والنور أدرينالين وهذه تحمي الجنين من عواقب نقص التروية الدموية لديه ونقص الأوكسجين،خاصة أنها تزيد من قوة تقلص القلب لديه وتزيد من معدل نبضات القلب وتوفر للدماغ حاجته من الدم والاوكسجين كما أنها ترفع سكر الدم والهام لإستقلاب الخلايا وطاقتها.كما تبين أن هذه الهرمونات وخاصة الأدرنالين ضرورية جداً من أجل تأهيل الرئة للعمل والوظيفة خارج الرحم وتبين أن هذا الهرمون يقلل من تشكل السوائل الرئوية والتي كانت ضرورية أثناء الحياة الرحمية للجنين من أجل توسيع المجاري الهوائية، ولكن بعد الولادة لايكون هناك حاجة إليها.
وقبل خروج رأس الجنين ولمنع تمزق عضلات العجان يجرى مايسمى خزع الفرج الواقي، وهذا الخزع يشفى بسرعة وليس له مضاعفات،أما إذا حدث تمزق في ناحية العجان بسبب الولادة فإن هذا قد يكون له مضاعفات بالنسبة للأم وخاصة حدوث مايسمى هبوط الرحم ومن ثم حدوث السلس البولي.
وبعد الولادة فإن الرحم يحصل فيه عملية انقباض تام ولايرتخي،وهذا الإنقباض الفوري والمستمر للرحم ضروري جداً حتى لايحصل النزيف الشديد بعد الولادة، حيث أن الرحم يكون أشبه بالاسفنجة الممتلئة بالدم ولابد من الضغط الشديد على العروق الدموية المنفتحة من أجل إغلاقها،واحياناً لايحدث هذا النقباض الشديد فيحدث نزيف شديد والذي قد يجبر على التدخل الدوائي بإعطاء مقبضات عضلة الرحم، وربما التدخل الجراحي باستئصال الرحم ولكنها والحمد لله حالات نادرة جداً.
وبعد الولادة بدقائق تحدث تقلصات رحمية مجدداً وهدفها خروج المشيمة والملحقات، ويحدث هذا عادة بعد حوالي عشرة دقائق من خروج الوليد،والمشيمة تخرج مع الملحقات ومنها الحبل السري والغشاء الأمنيوسي والكوريون، ولابد من التأكد من خروج المشيمة بشكل كامل (قرص بقطر 15 ـ 20 سمن وسماكة 2 ـ 3 سمن ووزن حوالي 500 ـ 600 غ، وتكون حواف المشيمة منتظمة متمادية بغير انقطاع) وإلا حدثت نزوف رحمية مستمرة بعد الولادة ويمكن أن يترافق انحباس المشيمة أو أجزاء منها مع الأنتانات الرحمية. وبعد خروج المشيمة يحصل انقباض تام في الرحم يمنع من حدوث النزوف ويسهل انقباض الأوعية الدموية كما ذكرنا.
ولايقف الأمر عند هذا فقط، بل يستمر التيسير لما بعد الولادة، حيث يسرّ الله للوليد لبن أمه كغذاء، وحنانها وعطفها بحيث تنسى آلام الحمل والوضع والولادة ويكون همها الأول والأكبر أن تضع وليدها على صدرها ناسية الألم شاكرة الرب المنعم وتغدق عليه الغذاء والحنان، وإن وجود الزوج له دور هام جداً في تقليل آلام الوضع وتحسين الحالة النفسية للمرأة أثناء المخاض،ثم يسر الله للأم والوليد حب الأهالي والأقارب والأصحاب الذين يقفون معهم مصحوبة وقفتهم بالدعاء وتيسير الأمور وتذليل الصعاب، ومن ثم يسر الله للجميع سبل المعاش من لحظة الولادة وحتى الممات.
ولا ننسى اتباع السنة النبوية الكريمة وذلك بأن يؤذن في أذن الوليد اليمنى أذان الصلاة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين ولد الحسن ابن ابنته فاطمة الزهراء وليكون اول مايطرق سمع الوليد في هذه الدنيا كلمة التكبير والتوحيد.وهو أمر مستحب وردت به الأحاديث الصحيحة .
ومن السنة أيضاً تحنيك المولود:
أخرج البخاري في صحيحه عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما أنها حملت بعبد الله بن الزبير بمكة.قالت خرجت وأنا متم فأتيت المدينة فنزلت قباء فولدت بقباء ثم أتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعته في حجره ثم دعا بتمرة فمضغها ثم تفل في فيه فكان أول شىء دخل جوفه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم حنكه بالتمر ثم دعا له فبرك عليه،فكان أول مولود يولد في الإسلام ففرحوا به فرحاً شديداً،لأنهم قد قيل لهم أن اليهود سحرتكم فلا يولد لكم”.[وأخرجه مسلم أيضاً في صحيحه وأحمد في مسنده).
ومن الناحية الطبية:إن قيام الرسول صلى الله عليه وسلم بتحنيك الأطفال المواليد بالتمر بعد أن يأخذ التمرة في فيه ثم يحنكه بما ذاب من هذه التمرة بريقه الشريف فيه حكمة بالغة.فالتمر يحتوي على سكر”الجلوكوز”بكميات وافرة وخاصة بعد إذابته بالريق الذي يحتوي على خمائر خاصة تحول السكر الثنائي سكاروز إلى سكر أحادي كما أن الريق ييسر إذابة هذه السكريات وبالتالي يمكن للمولود أن يستقيد منها.وبما أن معظم أو كل المواليد يحتاجون لسكر”الجلوكوز” بعد ولادتهم مباشرة فإن إعطاء الطفل التمر المذاب يقي من مضاعفات نقص السكر الخطيرة والتي قد تحدث عند المواليد وخاصة الخدج منهم”(د . محمد علي البار).
ومن الهام جداً إعطاء الثدي للوليد بعد الوضع مباشرة لأن هذا يساعد على إطلاق وإفراز هرمون الاوكسيتوسين والذي يساعد على إفراغ اللبن من ثدي الأم،كما أنه يساعد على انقباض الرحم وتقلص العروق الدموية مما يقلل من حدوث النزوف بعد الولادة كما أنه يساعد على طرد وطرح العلائق والبقايا الدموية من الرحم وعودة الرحم إلى الحجم الطبيعي، وإن عدم إرضاع الأم للوليد بعد الولادة قد يسبب عدم افراز هذا الهرمون وحدوث مايسمى عطالة الرحم وعدم انطمار الرحم وحدوث أنزفة وآلام قطنية.
كما ينصح أن تضع الأم الوليد مباشرة بعد الولادة على صدرها الأيسر،حيث تبين المعلومات أن الجنين يستطيع داخل الرحم الاستماع ابتداء من الشهر الخامس،وتبين أنه يستطيع أن يميز بعض الأصوات الحانية الخافتة التي يسمعها بانتظام وخاصة دقات قلب أمه المنتظمة، فهو يسمعها أثناء فترة الحمل،وحين يوضع بعد الولادة وقد اشتد به البكاء فإنه بمجرد أن يوضع على صدر أمه ويسمع دقات قلبها حتى يعود إلى الهدوء ويرضع من ثديها وينام على صدرها.
أما الحبل السري فيربط ثم يقطع،ويقطر في عيني المولود بعض القطرات العينية للوقاية من إصابة العينين ببعض الأنتانات الجرثومية،كما ينظف جلده من الطلاء الدهني الذي يغطيه.
كما أن الله تعالى قد هيأ الوليد لمواجهة الجو الجديد الذي يحاط به بعد الولادة وخاصة مايتعلق بالحرارة في المحيط الجديد،فقد تبين علمياً أن الوليد قادر وبشكل سريع على توليد حرارة ذاتية عندما يواجه لأول مرة الضوء وأنوار المحيط الجديد،وبعد أن يقطع الحبل السري لديه،ويلعب هنا وبشكل خاص النسيج الشحمي البني تحت الجلد في توليد الطاقة لديه ومع ذلك لابد من الانتباه الشديد فإن البرد الشديد والجو الحار جدأ لهما تأثيراتهما السلبية على الوليد لأن مراكز تنظيم الحرارة عنده لم تنضج بشكل كافٍ بعد.
وقبل أن يلبس الوليد ثيابه الجديدة والتي قد حضرتها الأم من عدة أسابيع يجرى له مايسمى “اختبار أبغار“: وهذا الاختبار يجرى لمعرفة العلامات الحيوية للوليد وهي: التنفس، دقات القلب،لون الجلد، والحركات والمنعكسات، كما يقاس طوله ووزنه.
والسؤال الذي يطرح نفسه لماذا يستقبل الوليد دنياه الجديدة بالبكاء؟
هناك فرضيات حول هذا الموضوع وأشهرها أنه بعد انقطاع الحبل السري والذي كان يؤمن للجنين الغذاء والأوكسجين فإنه ينخفض لديه الأوكسجين في الدم بشكل حاد ويترافق هذا بنفس الوقت مع ارتفاع غاز ثاني أوكسيد الكربون وهذا ينبه منعكسات عصبية مركزية وعلى إثرها يحدث البكاء، لأن البكاء عبارة عن حركة شهيقية تستهدف طرد الزائد من غاز ثاني أوكسيد الكربون،وبنفس الوقت تنشط مركز التنفس عند الوليد بحيث تأخذ الرئة وضعها الوظيفي من أجل تبادل الغازات عند الوليد بعد أن كان يقوم بهذا طيلة فترة الحمل الحبل السري، كما أن الأسناخ الرئوية عند الوليد والتي يقدر عددها بحوالي 25 مليون تكون أثناء الحمل مملوءة بالسوائل(السلوي)، ولابد من الصرخة الأولى بعد الولادة وخاصة إذا حمل الوليد بحيث يكون راسه إلى الأسفل وقدماه إلى الأعلى وهذا مايحدث دوماً وبشكل عفوي فإن هذا يسمح بتفريغ المجاري التنفسية والأسناخ الرئوية من هذه السوائل والاستعاضة عنها بالهواء.
أضف إلى ذلك فإن الوليد يخرج إلى الدنيا وكان داخل الرحم يعيش في جو معتدل الحرارة ومتجانسها إلى حرارة غرفة دار التوليد،ويأتي من ظلمة البطن والرحم إلى الضوء،ومن السكون الداخلي داخل الرحم إلى حيث الضجيج والأصوات التي يسمعها حوله.وهذا البكاء والصراخ من قبل الوليد قد يحدث مباشرة بعد الولادة، وعند بعض المواليد قد يتأخر قليلاً وخاصة لوجود المخاط والسائل السلوي في الحلق والفم وبعد مص هذه المفرزات وتنظيف الحلق والفم يأخذ الوليد بالبكاء والصراخ.
وأما من الناحية الدينية: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : “مامن بني آدم مولود يولد إلا مسّه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً من مسّه إياه إلا مريم وابنها“[ أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه].وفي سورة آل عمران: { وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم}[ الآية 36]، ولم يكن لمريم ذرية غير عيسى عليه السلام.
وفي رواية معمر عن الزهري في صحيح مسلم” إلا نخسه الشيطان” اي سبب صراخ الصبي أول مايولد من مسّ الشيطان إياه. والاستهلال: الصياح.
وفي صحيح البخاري حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن أبي الزّناد عن ألاعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “كل بني آدم يطعنُ الشيطان في جنبيه بإصبعيه حين يولد غير عيسى ابن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب، أي في المشيمة التي فيها الولد” . قال القرطبي: هذا الطعن من الشيطان هو ابتداء التسليط.
وثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”صياح المولودين يقع نزعة من الشيطان”.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله عن سبب بكاء المولود حين خروجه إلى الدنيا (التبيان في أقسام القرآن):
“هناك سببان: سبب أخبر به الصادق المصدوق،لايعرفه الأطباء، وسبب ظاهر.
أما السبب الباطن فإن الله اقتضت حكمته أنه وَكَل بكل واحد من ولد آدم شيطاناً فشيطان المولود قد خنس ينتظر خروجه ليقارنه ويتوكل به. فإذا انفصل استقبله الشيطان وطعنه في خاصرته،تحرقاً عليه وتغيظاً واستقبالاً له بالعداوة التي كانت بين الأبوين قديماً.فيبكي المولود من تلك الطعنة.
والسبب الظاهر: الذي لاتخبر الرسل بأمثاله لرخصه عند الناس، ومعرفتهم له من غيرهم، هو مفارقته المألوف والعادة التي كان فيها إلى أمر غريب،فإنه ينتقل من جسم حار إلى هواء بارد،ومكان لم يألفه فيستوحش من مفارقته وطنه،ومالفه، وهند ارباب الإشارات أن بكاءه إرهاص بين يدي ما يلاقيه من الشدائد والآلام والمخاوف وأنشد الشاعر:
ويبكي بها المولود حتى كأنه بكل الذي يلقاه فيها يهدد
وإلا،فما يبكيه فيها، وإنها لأوسع مما كان فيه وأرغد
ولهم نظير هذه الإشارة في قبض كفه عند خروجه إلى الدنيا،وفي فتحها عند خروجه منها، وهو الإشارة إلى أنه خرج مركباً على الحرص والطمع، وفارقها صفر اليدين. وأنشد في ذلك:
وفي قبض كف المرء عند ولادته دليل على الحرص الذي هو مالكه
وفي فتحها عند الممات إشارة إلى فرقة المال الذي هو تاركه
ويقول الأستاذ الدكتور محمد لطفي الصباغ في كتابه التصوير الفني في الحديث النبوي ص248 حول الحديث النبوي المذكور أعلاه:
“هذا الوليد العاجز الذي لايدرك بعد من الدنيا شيئاً لايتركه الشيطان بل يسارع وينخسه نخسة مؤلمة تجعله يبكي..ولنا أن نفهم أنّ بدء الإغواء مبكر.وأنّ أمل الشيطان في أن يحرز كسباً أمل واسع..إنّه إن لم يستطع الوسوسة والمخادعة والتّدجيل فلا ينبغي أن يفوته الإيذاء..وهو هنا نخس يبلغ بالمولود درجة البكاء”.
واما من الناحية الأدبية فإن الشاعر ابن الرومي والمعروف بنظرته التشاؤمية للحياة وما يحدث فيها فيقول:
لِما تؤذنُ الدنيا به من صروفها يكون بكاء الطفل ساعةَ يُولدُ
وإلا فما يبكيه منها وإنّها لأوسع مما كان فيه وأرغد؟
إذا نظر الدنيا استهلَّ كأنّهُ بما سوف يلقى من أذاها يُهدّدُ
ويقول أحدهم:
ولدتك أمك يا ابن آدم باكياً والناسُ حولك يضحكون سرورا
فاحرص على يوم تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا
وبعد الولادة والسرور بمقدم الوليد صحيحاً معافىً في جسمه وبدنه تأتي المرحلة الأهم وهي أن يُنشئ هذا الوليد على دين الفطرة لكي يكون معافىً في دينه أيضاً وهي مسؤولية من أكبر المسؤوليات التي يتحمل عبئها الوالدان عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:”كُلُّ مولودٍ يُولَدُ على الفِطرة، فأبواهُ يُهوِّدَانهِ، أو يُنَصِّرانهِ، أو يُمَجِّسانهِ، كَما تُنتَجُ البَهيمةُ بَهيمةً جمعاءَ،هل تُحسّونَ فيها من جدعاء؟” ، ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه:” واقرأوا إن شئتم :{فِطرةَ الله التي فطرَ الناسَ عليها لاتبديلَ لخلقِ الله ذلكَ الدِّينُ القَيِّمُ ولكنَّ أكثرَ النّاس لايعلمون“[أخرجه البخاري].
يقول الشيخ محمد علي الصابوني رحمه الله في كتاب “من كنوز السنة ص15:
“في هذا الحديث الشريف نفحة من نفحات الجمال، وإشراقة من إشراقات النبوة،فقد وضّح عليه الصلاة والسلام ببيانه العذب،وأسلوبه اللطيف الرصين،ناحية علمية هامة، يُعنى بها علماء الاجتماع،ويهتم بها الفلاسفة والمفكرون وهي: هل الدين فطرة في الإنسان؟ وهل الخير أصل فيه أم الشر؟وهل يكون الطفل عند ولادته مزوداً بطاقة روحية تلهمه السداد والرشاد؟ فالنبي الكريم صلوات الله عليه وسلامه وضع أصلاً من أصول التربية الخُلقية الكريمة،يعتبر نبراساً مضيئاً لكل مُربّ ينشد السعادة،ولكل باحث ومفكر يطلب المعرفة والحقيقة…وهذا الاصل الذي أرشد إليه الرسول الكريم هو: أن الخير في الإنسان أصيل، وأن الشر فيه عارض،وأنه يخلق على الفطرة السليمة،والصفاء والنقاء،وأن استعداده للخير كامل،ولكنّ المجتمع هو الذي يفسده،والبيئة التي يعيش فيها هي التي تلوّث فطرته، وتفسد خلقه ودينه، ولاسيِّما أبواه فهما سبب هلاكه ودماره، وسبب فساده أو صلاحه، وسبب استقامته أو اعوجاجه. فالطفل حين يولد يكون عضواً صالحاً في المجتمع،ولو خلي بين هذا الطفل وفطرته،لنشأ على الإيمان،وعاش على الخير والصلاح،ولكن المجتمع الفاسد،والبيئة المنحرفة ـ وأقرب الناس فيها الابوان ـ هي التي تفسد نفسية الطفل،وتخرّب عقليته وفطرته،فتقلبه من الهدى إلى الضلال،ومن السعادة إلى الشقاوة، ومن الإيمان إلى الكفر،ولولا الأسرة الفاسدة، ولولا المجتمع المنحرف،ولولا الأبوان الضالان، لبقي الإنسان على فطرته، طيب النفس،سليم العقيدة، مندفعاً نحو حياة الفضيلة والكمال.ويتابع رحمه الله:
“فانظر ـ هداك الله ـ إلى التمثيل الرائع الذي مثّله عليه الصلاة والسلام حيث صوّر الطفل (بالشاة) التي يخلقها الله تعالى كاملة الخلق،جميلة الشكل والصورة، ولكنّ الناس هم الذين يشوّهون جمالها،فيقطعون أنفها أو أذنها، ويعبثون بها حتى تصبح ناقصة الخلق مشوهة التصوير”.
لطيفة:
يقول ابن الأثير الجزري في كتابه”المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر” تعقيباً على قوله تعالى:{قُتل الإنسان ما أكفره*من أيِّ شئٍ خلقه* من نطفةٍ خلقه فقدَّره* ثمَّ السبيل يسّره* ثم أماته فأقبره* ثم إذا شاء أنشره}[عبس17 ـ 22] يقول:
“ألا ترى أنه لما قال:{من نطفة خلقه} كيف قال (فقدره) ولم يقل ثم قدره، لأن التقدير لما كان تابعاً للخلقة وملازماً لها عطفه عليها بالفاء؟وذلك بخلاف قوله{ثم السبيل يسره} لأن بين خلقته وتقديره في بطن أمه وبين إخراجه منه وتسهيل سبيله مُهلة وزماناً،فلذلك عطفه بثمّ.وعلى هذا جاء قوله تعالى:{ثم أماته فأقبره* ثم إذا شاء أنشره}، لأن بين إخراجه من بطن أمه وبين موته تراخياً وفسحة،وكذلك بين موته ونشُوره أيضاً،ولذلك عطفهما بثمّ،ولما لم يكن بين موت الإنسان وإقباره تراخٍ ولا مهلة عطفه بالفاء”.
لطيفة ثانية:
يقول العالم الطبيب ابن سينا في كتابه “القانون”:
“أما المولود المعتدل المزاج إذا ولد،فقد قال جماعة من الفضلاء:إنه يجب أن يبدأ أول شىء بقطع سرته فوق أربع أصابع،وتربط بصوف نقيّ فتل فتلاً لطيفاً كي لا يؤلم،وتوضع عليه خرقة مغموسة في الزيت.ومما أمر به في قطع السرة أن يؤخذ العروق الصفر ودم الأخوين والأنزروت والكمون والأشنة والمرّ أجزاء سواء تسحق وتذرُّ على سرته.ويبادر إلى تمليح بدنه بماء الملح الرقيق لتصلب بشرته وتقوى جلدته.ولا يملح أنفه ولا فمه…ثم نغسله بماء فاتر،وننقي منخريه دائماً بأصابع مقلمة الأظفار،ونقطر في عينيه شيئاً من الزيت ،ويُدغدغ دبره بالخنصر لينفتح.ويتوقى أن يصيبه برد.وإذا سقطت سرته وذلك بعد ثلاثة أيام أو أربعة،فالصواب أن يذرّ عليه رماد الصوف أو رماد عرقوب العجل أو الرصاص المحرّق مسحوقاً أيها كان بالشراب…وإذا أردنا أن نقمطه فيجب أن تبدأ القابلة وتمس أعضاءه بالرفق فتُعرّض ما يستعرض،وتدق ما يستدق،وتشكل كل عضو على أحسن شكله،كل ذلك بغمز لطيف بأطراف الأصابع…وتنومه في بيت معتدل الهواء ليس ببارد ولا حار،ويجب أن يكون البيت إلى الظلّ والظلمة ما هو،لا يسطع فيه شعاع غالب،ويجب أن يكون رأسه في مرقده أعلى من سائر جسده،ويحذر أن يلوي مرقده شيئاً من عنقه وأطرافه وصلبه…ويجب أن يكون إحمامه بالماء المعتدل صيفاً،وبالمائل إلى الحرارة الغير اللاذعة شتاء،وأصلح وقت يغسل ويستحم به هو بعد نومه الأطول ،وقد يجوز أن يغسل في اليوم مرتين أو ثلاثاً…”
التطور الروحي ـ الحركي للوليد
بعد الولادة تحدث تبدلات مستمرة ومتعاقبة بالنسبة للوليد وهذه يجب أن تدرس بعناية لأن وجود بعض العوامل وخاصة المرضية قد يؤخر من ظهورها أو يمنع حدوثها.
إن الطفل لايستطيع بعد الولادة من القيام بحركات ذات هدف معين،ولايستطيع أن يقلب جسمه من جهة إلى أخرى،ولايستطيع أن يرفع رأسه عند الولادة عن الوسادة،..وهذه التطورات التي تسمى التطور الروحي الحركي لها علاقة وثيقة مع تطوره الروحي وسلامة الجهاز العصبي لديه، وإن وجود بعض الأذيات في الجملة العصبية المركزية يؤدي إلى تأخر هذه التطورات لديه وتعاقب حصولها.ولذا لابد عند الولادة من إجراء بعض الفحوصات الهامة ومراقبة التطور هذا خلال الأشهر التالية بعد الولادة،ولذا تجرى هذه الفحوص الدورية عند أطباء الأطفال وبشكل مستمر.ويمكن التذكير بأهم هذه التطورات عند الوليد :
الشهر الأول:
ـ إذا وضع الطفل مستلقياً على ظهره ينحرف رأسه إلى جهة،وإذا وضع مستلقياً على بطنه وركبته ملامسة لجدار البطن تقوّس ظهره.
ـ إذا وضع الطفل مستلقياً على بطنه والطرفين السفليين ممتدين ورأسه جانباً نظر بعينه جانباً.
ـ إذا أمسك من ناحية الكتفين ورفع رأسه ألقى رأسه إلى الخلف. وإذا أجلس ألقى رأسه إلى الأمام.
ـ يتأثر بالنور الخارجي والضجيج فيقطب وجهه ويبكي.
ـ المنعكسات: مورو. الإطباق . التسلق. المشي الذاتي :موجودة.
ـ منعكس مورو:يسند الرأس براحة اليد ويرفع حوالي5سم عن سطح الطاولة ثم يترك الرأس فجأة أو يرفع الطفل من يديه قليلاً ولمسافة قصيرة ثم يترك فجأة،أو رفع القدمين إلى الأعلى وتركها فجأة، وهذا يترافق مع حدوث حركات في الأطراف عند الجنين وإن عدم تناظر الأجوبة في جانبي الجسم يدل على شلل دماغي أو شلل في الضفيرة العضدية أو كسر في العضد أو الترقوة.هذا المنعكس يغيب في أوائل الشهر الخامس.
منعكس الإطباق أو التسلق:حين وضع أي شئ بتماس الأصابع وراحة اليد نجد أن الوليد يطبق أصابعه على هذا الشئ إطباقاً شديدا، يصعب علينا نزعه، ويغيب هذا المنعكس في نهاية الشهر الرابع.
ـ منعكس المشي الذاتي:يمسك الطفل بشكل منتصب مع جعل القدمين تلامسان سطح الطاولة، ثم جعل الطفل بلطف يتجه إلى الأمام، عندئذ يلاحظ أن الطفل ينقل قدميه الواحدة تلو الأخرى،وكأنه يمشي، ويغيب المنعكس في الشهر الرابع.
الشهر الثاني:
ـ يستطيع أن يرفع رأسه وأن يثبته برهة قصيرة.
ـ يثبت نظره قليلا، ويقطب وجهه عند الضجيج.وهذا يعني نمو حاسة السمع لديه.يصرخ بشدة، يترغل، يقول بعض الحروف مثلآ آه،
الشهر الثالث:
ـ بالاستلقاء الظهري يرفع راسه على الخط المتوسط ويلقيه جانباً، وبالاستلقاء البطني يستند على الساعدين ويرفع رأسه،يضحك بصوت عال، يتأمل الأشخاص، يبدأ بالتعرف على أمه.يبتسم ويثبت النظر.
الشهر الرابع:
يجري حركات في الطرفين السفليين،وبوضعية الوقوف يستند بقدم ويرفع القدم الأخرى.ويحاول مسك الأشياء باليد،وينظر إلى يديه، وينظر إلى الألعاب حوله ويمسكها بيده ويوجهها إلى فمه،يضحك بشدة، ويتجاوب مع اللعب معه،وتتطور المكاغاة عنده (الترغل)ويستطيع تثبيت الرأس.
الشهر الخامس:
ـ يستطيع أن يقلب نفسه من جهة إلى أخرى عند الاستلقاء الظهري،ويضع قدمه في فمه،وعند رفع الطفل يكون الرأس ثابت بين الكتفين،وينقل الألعاب من يد لأخرى،ويتبع بنظره الأشياء التي تتحرك من حوله.ويصرخ عندما يترك وحده،يثرثر لوحده، يمسك الزجاجة، يبدأ بتمييز الأغراب.
الشهر السادس:
ـ يرفع ساقيه عند الاستلقاء الظهري ويلعب بقدميه، يجلس مع قليل من المساعدة.يتفوه ببعض الحروف:لا، فا، با. الإثغار(أي ظهور الأسنان) .تمييز الغرباء.
الشهر السابع والثامن:
ـ الجلوس بدون مساعدة حوالي دقيقة،محاولة الإمساك بالألعاب التي تحيط به،يلفظ أحرفاً مركبة:دا، دا، با، با.يخاف الغرباء، يرتكس لكلمة لا، وعند ذكر اسمه.مسك الاشياء مع التثبت.
الشهر التاسع والعاشر:
ـ يجلس لوحده ولمدة طويلة،يحفظ توازنه، يزحف إلى الأمام أو على محوره،يحاول مسك الكأس باليدين حين الشرب،يقول بابا، ماما،يودع بيديه.يستطيع الوقوف بالمساعدة.
الشهر الحادي عشر والثاني عشر:
يزحف بسرعة على يديه وركبتيه،يسير حول أثاث البيت،يأكل قطعة خبز وحده، يطرب لسماع الموسيقى والأغاني.وفي نهاية الثاني عشر تبدأ الصغيرات بالمشي بينما يتأخر الأمر عند الصبيان بعد شهرين من ذلك.
وأما ضبط المصرات فإنه يبدأ غالباً في نهاية الشهر الثامن عشر وحتى السنتين والنصف من عمر الوليد.
ويقسم التطور الروحي ـ الحركي حسب سن الوليد إلى:
1 ـ مرحلة الوليد:
الشهر الأول من العمر(أي منذ الولادة وحتى نهاية الاسبوع الرابع).في هذه المرحلة ينتقل الوليد من حياة ذات شروط معينة داخل الرحم إلى حياة جديدة وشروط أخرى خارج الرحم، فقد انفصل عن والدته وأصبح يعيش في محيط له شروط مختلفة من ناحية الحرارة والرطوبة، كما أنه عليه أن يؤمن استقلاب وتمثل المواد الغذائية التي تأتي عن طريق الحليب سواء حليب الأم أو الحليب الصناعي،وكذلك طرح الفضلات الناشئة عن ذلك سواء عن طريق جهاز الهضم والكبد من جهة او عن طريق الكلية والجهاز البولي، وكذلك تأمين التبادل الغازي بواسطة الرئنين،وتبادل الدورة الدموية، وبذلك يتعرض الوليد إلى أخطار وأمراض تختلف عن الرضيع، وتكون نسبة الوفيات في مرحلة الوليد أعلى منها عند الرضيع، وتكون هذه النسبة أعلى مايمكن في الأيام الثلاثة التالية للولادة، وخاصة عند المواليد الخدج.
تكون الحركة عند الوايد في هذه المرحلة مسيطر عليها من قبل المنعكسات النخاعية المنشأ،وتتداخل المراكز الحركية الدماغية العليا في مراحل متأخرة.
2 ـ مرحلة الطفولة الباكرة:
وتمتد من الشهر الأول وحتى الشهر السادس، ويكون اعتماد الطفل فيها على التغذية بالحليب.
3 ـ مرحلة الطفولة المتأخرة:
من الشهر السادس وحتى نهاية السنة الثانية من عمر الطفل: وتتميز بوجود الإثغار، والمشي ةالكلام.
4 ـ مرحلة ماقبل المدرسة:
من السنة الثانية وحتى السنة السادسة من العمر: وتبدأ فيها مرحلة الإثغار الثاني.
5 ـ مرحلة المدرسة الأولى:
من السابعة وحتى سن البلوغ.
6 ـ سن البلوغ.
تبدلات الوزن عند الوليد والطفل الصغير:
يتناقص الوزن بعد الولادة وكحد أقصى حوالي عشرة بالمائة من الوزن عند الولادة والذي يقدر وسطياً بحوالي 3500غرام، والسبب في ذلك يعود إلى عدم تناول الوليد كمية كافية من الغذاء، وبسبب فقدان الوليد للعقي وفقدان السوائل عن طريق جهاز البول ومن خلال الأعمال التنفسية التي تكون سريعة عند الوليد.وإذا ماهبط الوزن أكثر من 10 بالمائة فيجب الاهتمام الشديد ومحاولة تعويض ماخسر الوليد إما بالتغذية المحكمة أو بإعطاء السوائل عن طريق الوريد وخاصة إذا ظهر عليه علامات التجفاف.
ويعود وزن الولادة بين اليومين العاشر والرابع عشر.ويتضاعف وزن الطفل في الشهر الخامس من العمر بحيث يصل إلى حوالي7كغ.ويصبح ثلاثة أضعاف في نهاية السنة الأولى من العمر بحيث يصل إلى حوالي 10 كغ.ويزداد وزن الطفل خلال السنة الثانية من العمر بقدر 2 ـ 3 كغ أي يصل في نهاية السنة الثانية إلى حوالي 12 ـ 13 كغ.ثم يزداد وزنه بمعدل 2كغ سنوياً خلال مرحلة ماقبل المدرسة،وبحيث يصل وزنه في نهاية السنة السادسة من العمر حوالي عشرين كغ.ثم يزداد وزنه بمعدل 2 ـ 3 كغ خلال مرحلة المدرسة الأولى، ويزداد وزنه بمعدل 6كغ سنوياً في طور البلوغ(14 ـ 15 عاما).
إن وزن الوليد والطفل تتأثر بعدة عوامل، فتعدد وتكرار الحمول يزيد في وزن الوليد، وكذلك فإن العامل الوراثي والغذائي والعرقي يلعب دوراً هاماً، فوزن المواليد في الهند والصين هو أقل بالمقارنة مما هو عليه في أمريكا وأوروبا مثلاً.وإذا كان وزن الوليد عند الولادة دون 2500 غرام سمي بالوليد ناقص الوزن، ولم يعد يطلق عليه اسم الخديج.
وتبين ان الحمل المديد يمكن أن يترافق مع نقص وزن الوليد وذلك بسبب نقص التغذية عبر المشيمة بسبب نقص تروية المشيمة ونقص حجم السائل الامنيوسي.
تبدلات الطول عند الوليد والطفل الصغير:
ـ يكون معدل طول الوليد عند الولادة حوالي 50 سم.وفي نهاية السنة الأولى من العمر يصبح وسطياً 75سم،أي يزداد خلال هذه السنة حوالي25 سم.ويزداد طوله في السنة الثانية من العمر حوالي 12 سم بحيث يصبح في نهايتها حوالي 87سم.ويزداد طوله في السنة الثالثة والرابعة من العمر بحيث يصل إلى 100 ـ 104 سم في نهاية السنة الرابعة.وبعدها يزداد طوله 5سم ثانوياً عدا السنتين 14 و15 عند الذكور، و12 و13 عند الإناث حيث يزداد في كل سنة حوالي7سم.
محيط الجمجمة:
يكون محيط الجمجمة عند الولادة حوالي35سم، وفي نهاية الشهر الثالث41سم، وفي نهاية الشهر السادس44سم،وفي نهاية الشهر التاسع45سم،وفي نهاية السنة الأولى47سم، وفي نهاية السنة الثانية 49سم.
ويكون محيط الرأس أكبر من محيط القوصرة الصدرية عند الولادة ويتعادلان في نهاية السنة الأولى من العمر.
تتلاقى عظام الجمجمة التي هي عظام مسطحة بالدروز(الدرز: مايفصل بين العظام)، وتشكل منطقة تقاطع الدروز مايسمى اليوافيخ.ويشعر عند جس الجمجمة عند الولادة بيافوخ في الناحية القحفية ويسمى اليافوخ الخلفي او الصغير،ويكون بمساحة راس الأصبع، وينغلق خلال الشهر الثاني من العمر ولكن غالباً مايكون مغلقاً عند الولادة.أما اليافوخ الأمامي أو الكبير، فيكون أكبر من الأول، ويغلق غالباً مابين الشهر15 ـ 18 من العمر، ويمكن أن يتأخر انغلاقه في بعض أمراض الاستقلاب كالخرع أو قصور الغدة الدرقية..
وإن فحص اليوافيخ قد يفيد في بعض الأمراض فيحدث تقبب في اليوافيخ في أورام ونزوف الدماغ، ويحدث تقعر فيها في حالات التجفاف.
تناسب أعضاء الجسم:
ـ يشكل الراس عند الوليد حوالي ربع الجسم (أي أنه يكون كبيراً بالنسبة إلى الجسم ككل) ، ويبلغ في نهاية السنة السادسة من العمر حوالي سدس الجسم، وعند البلوغ يشكل الرأس حوالي ثمن الجسم.ويقع منصف الجسم عند الوليد أعلى السرة، وفي نهاية السنة السادسة بين العانة والسرة، وعند البلوغ عند العانة.
الإثغار:ظهور الأسنان:
ـ يبدأ تكلس الأسنان اللبنية في الحياة داخل الرحم في الشهرين 5 ـ 6.ويبدأ تكلس الأسنان الدائمة بعد الولادة في الشهرين 3 ـ 4.
وإن تطور الاسنان أقل تأثراً من النويات العظمية في أمراض الغدد الصم والتغذية وسوء الاستقلاب، ولكن الإثغار له علاقة مع الوراثة والغدد الصم.
وأما مراحل الإثغار الأول(الأسنان اللبنية):
ـ ظهور القاطعتان المتوسطتان السفليتان(الثنيتان): الشهر السادس
ـ الثنيتان العلويتان: الشهر الثامن.
القاطعتان الجانبيتان العلويتان(الرباعيات): الشهر العاشر
الرباعيتان السفليتان:الشهر 12
الضواحك الأولى :الشهر16
الأنياب:الشهر20
الضواحك الثانية:الشهر 24 ـ 30
وهكذا يتم بزوغ الأسنان اللبنية خلال السنوات الثلاث من العمر وعددها 20 سناً.
وإن المهم في الإثغار هو توالي ظهور الاسنان بالترتيب السابق.
الإثغار الدائم:
ـ الرحى الأولى(رحى السنة السادسة): تظهر في السنة السادسة من عمر الطفل، ولابدأ الإثغار قبل ظهور هذه الرحى، وهي تظهر قبل أن يسقط أي واحد من الأسنان اللبنية.
ـ الرحى الثانية(رحى السنة 12): وتظهر في سن الثانية عشرة من عمر الطفل.
ـ القواطع المتوسطة: وتظهر في السنة السابعة من عمر الطفل.
ـ القواطع الجانبية:في السنة الثامنة
ـ الأنياب:في السنة الحادية عشرة
الضواحك الأولى: السنة العاشرة
الضواحك الثانية: السنة 12
النواجز:سن 16 ـ 40 سنة.
نويات التعظم:وعددها 800.وهي لها أهمية كبرى في تحديد السن عند الوليد والطفل والبالغ.
ـ العظم السمسماني: في اليد، ويظهر نوية التعظم فيه في سن11 عند الإناث و13 عند الذكور.ولاتبدأ ظهور الأشعار في الصفات الجنسية الثانوية إلا بعد ظهور تعظم العظم السمسماني.
ـ نواة مشاشة الفخذ السفلى، ونواة الظنبوب العليا: تظهر عند الولادة.
ـنواة العظم الكبير والكلابي:الشهر السادس من العمر.
ـ نواة النهاية السفلى للكعبرة:6 ـ 12 شهر
ـ نواة العظم الهرمي:السنة الثانية من العمر
ـ نواة العظم الهلالي:3 ـ 4 سنوات
ـ نواة العظم الزورقي والمربع:4 ـ 6 سنوات
ـ نواة العظم المربعي:6 ـ 8 سنوات
ـ نواة العظم الحمصي:9 ـ 10 سنوات
ـ الحدبة الظنبوبية:11 ـ 14 سنة.
ملاحظة: العظام المذكورة ومنها السمسماني والمربع والحمصي… هي عظام تشكل رسغ اليد عند الإنسان.
نمو النشاط الفمي عند الرضيع والطفل الصغير
إن أول نشاط يمارسه الطفل هو عملية المص والبلع الغريزتان،ومن ثم يضاف إلى النشاط السالف الذكر وبعد ظهور الأسنان العض والمضغ.وعادة تتركز مشاعر اللذة والمسرة داخل الفم وحوله خلال مرحلة الطفولة المبكرة وبصورة أقوى من أية مرحلة من مراحل العمر التالية.وما أن يتمكن الطفل من القبض على الأشياء والسيطرة على عضلات أصابعه، ونمو توافقه العضلي،فإن أول سلوك يقوم به هو وضع كل شئ تقع عليه يده في فمه ليختبره ويتذوقه وتكوين الإدراك على ماهيته.وهو بهذا السلوك يدرك الأشياء المنافية والمقبولة على مستوى التذوق الفمي، ونراه من خلال عملية الاقتراب الحسي الذوقي والفمي يعبر عن استجابته إزاء هذه الأشياء بلغة يفهمها الأشخاص الذين حوله(كخ..طيبة).
وكلما كبر الطفل ازدادت حساسيته الفمية نحو الأطعمة، فزجاجة الحليب التي تبدو ساخنة، وثقب حلمة الحليب الضيقة التي لاتسمح إلا بمرور كمية قليلة من الحليب عبر الحلمة، هذه الخبرات تنغص مسرة الطفل أثناء إطعامه.وهذا الانزعاج المقترن بالطعام المزعج يخلق نفوراً وسلبية نحو الطعام وعزوفه عن تناوله. وإن كثيراً من مشكلات التغذية عند الطفل سببها هذا الترابط السلبي والخبرة المزعجة بدون أن تدري الأمهات.
عملية المص:
هناك مقدار معين من عملية المص ضروري للطفل، وجزء من إشباع النشاط الفمي الغريزي.فالطفل بحاجة إلى تنمية عضلا فمه وفي الوقت نفسه إشباع الميل الفمي والحصول على اللذة الانفعالية التي تصاحب هذا الاشباع.وعادة نرى معظم الأطفال الصغار لايحصلون على المقدار الكافي من لذة المص سواء حين إرضاعهم من الثدي أو بواسطة الإرضاع الصناعي.وعلى سبيل الذكر اعتاد القرويون الأوربيون أن يعطوا اطفالهم الصغار قطعة مبللة بمحلول سكري، أو قطعة خبز مبللة بالحليب المحلى لإشباع هذا الميل الفمي ـ أي المص ـ وهذا وعلى الرغم من أن الشروط الصحية غير متوفرة عادة بهذه الأشياء إلا أنها مع هذا لها قيمة على المستوى الانفعالي والصحة النفسية عند الطفل.
وفي كثير من الأحيان وبعد محاولات مقلقة جداً، تصل الأمهات إلى مايمكنهن من منع الطفل من وضع أي شئ في فمه خارج أوقات الطعام ظناً أنهم أحسن صنيعاً بذلك الإجراء، وهذا بالطبع خطأ.والصواب هو أن نترك الطفل يظهر لنا بعفويته الأشياء التي يرغب في مصها ووضعها في فمه.وهنا يترتب علينا فقط أن نحقق ما أمكن الشروط الصحية في الأشياء التي اختارها لإشباع ميله إلى المص.فمثلاً أن نسمح له أن يرضع ثدي أمه لفترة أطول شريطة عدم إزعاجها بعضّه.وقد نتركه يتلهى بحلمة زجاجة الحليب إلى أن يشعر بالملل ويداهمه النوم.وأحياناً نرى أن الأطفال يهتمون بالزجاجة المليئة بمحلول السكر فلا مانع من ان نتركهم يتلهون بمص محتوياتها.
وعادة عندما تضطرب لذة الطفل في الطعام والمص فمعنى هذا أننا أحدثنا لديه الإحباط النفسي بسبب حرمانه من هذه اللذة الحيوية عنده.وإن تأثيرات هذا الإحباط تؤثر في نفسيته لمدة طويلة وقد يكون لها عقابيل مزعجة ومقلقلة على مستوى صحته وتغذيته.
مص الإصبع:
للطفل طريقته الخاصة في إرضاء حاجته إلى المص. وهناك إبهامه الجاهز لإشباع هذه الرغبة، وهي الطريقة السوية التي من خلالها يتمكن من أخذ المقدار الكافي من لذة المص.وهناك بعض الصغار يفضلون مص الإبهام أو إحدى الأصابع أو حكها،أو أي شئ آخر يقدم لهم. ففي هذه الحالة ليس في مقدورنا أن نتدخل في إعاقة اشباع لذة المص أي علينا أن نتركهم وشأنهم.
إن المشكلات التي تترتب على مص الإبهام بإلحاح كبير، لا لتحول هذا السلوك إلى عادة، بل لإنزعاجنا نحن، ومن الخطأ اللجوء إلى إجبار الطفل على التخلي عن هذه العادة باستعمال المواد ذات المذاق الكريه ووضعها في إصبع الطفل أو بمعاقبته على إدخال إصبعه في فمه.نقول من الخطأ اللجوء إلى هذه الطرق لأنه في أغلب الأحيان يصاحب هذا المنع امتناع الطفل عن تناول طعامه وفقدان اللذة التي تصاحب الطعام، فالأمهات في أغلب الأحيان لايدركن أن نجاحهن في كسر عادة مص الإبهام هو المسؤول عن سلبية الطفل نحو تغذيته،وذلك أن الخبرات الراضعة المزعجة للفم تتعمم لتشمل جميع نشاطات الفم وخاصة التغذية والإقبال على الطعام.
إن الأطفال الذين يمتنعون ظاهراً عن مص إبهامهم بدون عناد يعوضون عن ذلك بمص شفاههم أو ألسنتهم، إلا أن الطعام يصبح عندهم مصدر ازعاج غالباً ماتظهر عندهم اضطرابات وظيفية في الكلام.
ولابد من الإشارة إلى أن أي تدخل قسري في هذا الميل إلى مص الإبهام هو إجراء خطر. فالطفل في كل الأحوال سيرد على هذا التدخل بالعناد وسيستمر في مص إبهامه، وأن هذا التدخل سيسئ إلى صحته النفسية ويجعله قلقاً منزعجاً. وكلما كانت عملية مص الإبهام مرضية للطفل كلما كان من الأسهل إيقاف هذا السلوك من خلال إبداله باهتمامات أخرى.فمثلاً إعطاء الطفل”اللهاية”قد نتمكن من إشباع رغبته بدلاً من مص إصبعه كسلوك أو وسيلة بديلة عن الإصبع.والملاحظ أننا إذا قسرناه على إيقاف هذا النشاط بدون وسيلة بديلة تعويضية فإنه سيلجأ إلى إيجاد وسيلة بديلة كمص طرف الغطاء، أو زاوية الوسادة، أو أذن لعبته.
إن الطريقة في منع الطفل عن مص إبهامه وذلك بربط يديه، أو إلباس يديه بالقفاز بصورة لايستطيع معها وضع أصابعه في فمه، هذه الطريقة ليست فقط وحشية بل لها عقابيل على درجة كبيرة من السوء.فالطفل الذي يمنع عن مص أصابعه بالإكراه وبالطريقة التي ذكرناها، فإننا نهيئه لمنع استخدام يده منعاً باتاً في وقت هو بحاجة فيه إلى تنمية قوته على لمس الأشياء والتقاطها وتكوين خبرات حسية ـ حركية في أصابعه، وإن مثل هؤلاء الأطفال إما أن يصبحوا على درجة كبيرة من السلبية، أو أنهم يحتجون على صنع من يشرف عليهم ومعاملتهم بهذه الصورة بعنف كبير وبالتالي يتولد عندهم عدوان شديد.وإن إحدى هاتين الاستجابتين إذا ما استمرت فيما بعد، فإنها تكون الأساس لحدوث الاضطراب في شخصية الطفل.
لطيفة:
يؤكد ابن سينا في تعاليمه على أهمية التربية،ولا سيما في الميدان النفساني.وتبتدىء تلك التربية منذ الشهور الأولى لتأثيرها في نمو الطفل واعتداله الجسمي والنفسي فيقول:”من الواجب أن يلزم الطفل شيئين نافعين أيضاً لتقوية مزاجه:أحدهما التحريك اللطيف،والآخر الموسيقى والتلحين الذي جرت به العادة لتنويم الأطفال.وبمقدار قبوله لذلك يوقف على تهيئته للرياضة والموسيقى أحدهما ببدنه والآخر بنفسه”.
ويتابع:”يجب أن يكون وكد العناية مصروفاً إلى مراعاة أخلاق الصبي فيعدلنوذلك بأن يحفظ كي لا يعرض له غضب شديد أو خوف شديد أو غمّ أو سهر.وذلك بأن يُتأمل كل وقت ما الذي يشتهيه ويحن إليه فيقرّب إليهنوما الذي يكرهه فينحّى عن وجهه،وفي ذلك منفعتان:إحاهما في نفسه،بأن ينشا من الطفولة حسن الأخلاق،ويصير له ذلك مَلكة لازمة،والثانية لبدنه،فإنه كما أن الأخلاق الرديئة تابعة لأنواع سوء المزاج،فكذلك إذا حدثت عن العادة استتبعت سوء المزاج المناسب لها”.
أمراض المواليد والرضع:
تعتبر مرحلة الرضاعة من أخطر المراحل التي يمر بها الكائن الحي،وإن الانتقال الفجائي من الحياة داخل الرحم إلى الحياة خارج الرحم وماتعنيه من الاستعدادات للإصابة بالأمراض واختلاف أجواء الحياة قد يشكل تهديداً لحياة الرضيع.ومنذ انقطاع الحبل السري فإن الحركات التنفسية الذاتية عند الرضيع تأخذ وظيفتها،كما أن باقي أجهزة الرضيع من القلب والدورن وجهاز الهضم تبدأ بالعمل،وانبوب الهضم الذي كان خامل الوظيفة في مرحلة الجنين يترك خموله جانباً ويأخذ في هضم الطعام الوارد إليه،كما أن مراكز الحرارة تترك عنها الخمول وتبدأ في عملها بالتنظيم الحروري.
كما أن المخاض والولادة بما قد تسببه من أذيات،والأمراض الخلقية الولادية،قد تترك بصماتها آجلاً أو عاجلاً على المولود الجديد.
إن من أهم المشاكل التي تواجه الرضيع الولادة المبكرة(الخداج )،والتشوهات الخلقية، والاختناق التال للوضع،وكلها ذات عتبة حدية خطيرة بعد ولادته بفترة قصيرة.
1 ـ الخداج:Prematurity
يعرف الطفل الخديج بأنه الذي يولد قبل الأوان أي في عمر حملي أقل من 37 اسبوعاً،،وهو الوليد الذي يلد ووزنه عند الولادة أقل من 2500غرام،وإن معظم المواليد الذين يزن أحدهم عند الولادة دون 1000غرام يموتون عند الولادة.ويمكن اعتبار حوالي 6 ـ 10% من المواليد هم من الخدج.وتشكل نسبة الوفيات عند الخدج في الأسبوع الأول من الحياة أعلى معدل لها وتبلغ نسبة 50%.ويكون هؤلاء الأطفال المبتسرين أو الخدج عرضة بشكل أكبر للإصابة بالشلل الدماغي،واعتلال الدماغ بنقص الأوكسجين، والتأخر في النمو،ومشاكل في السمع والبصر ومنها اعتلال الشبكية الخداجي،وكذلك مشاكل في القلب والدوران ومنها بقاء القناة الشريانية المفتوحة.
وتزداد هذه المخاطر كلما كانت الولادة أكثر تبكيراً.
وتعتبر الولادة المبكرة أي الخداج سبب الوفاة الأكثر شيوعاً عند الرضع وهناك حوالي 15 مليون طفل خديج كل عام أي ما نسبته 5 ـ 18 % من مجمل عدد الولادات،وما يقرب من 5،% من الولادات تكون ولادات مبكرة للغاية،وهي السبب في معظم وفيات المواليد.
وغالباً ما يكون سبب الولادة المبكرة غير معروف.إلا أن عوامل الخطر تشمل إصابة الأم بمرض السكري وارتفاع الضغط الدموي والسمنة والنحافة الشديدة،والحمل بأكثر من طفل،ووجود التهابات مهبلية،والتدخين،والتوتر النفسي.
ومن المستحسن طبياً عدم تحريض المخاض قبل الاسبوع 39 من الحمل إلا في حالات تستدعي ذلك،ونفس الأمر ينطبق على إجراء العمليات القيصرية قبل هذا الوقت إلا في حالات نادرة تستدعي ذلك ومنها التسمم الحملي.
وأكثر الأعضاء إصابة هي الرئتان وذلك بسبب عدم تطورهما الكامل وعدم قدرتهما على أداء وظيفتهما بشكل تام.ولذا فإن أهم أسباب الوفاة عند الخدج هو الأنوكسيا Anoxia.
وبما أن الأنوكسيا هي العامل الرئيسي المسبب للوفاة عند الخدج فمن الضروري أن نعود إلى تكوين وعمل الرئتين أثناء الحمل وبعد الولادة.
يتم تشكل الأنابيب التنفسية من الوريقة الباطنة أثناء حياة الجنين،وهذا الأنبوب التنفسي يعطي الرغامى والقصبات والقصيبات،أما الأسناخ الرئوية فلا تظهر بشكل متميز حتى الشهر السابع من الحمل،وهي عند بدء ظهورها تكون مؤلفة من جدر سميكة ثخينة،وتحتوي كمية وافرة من النسيج الضام وتكون الأوعية الدموية غارقة في هذا النسيج الضام.و لاتكون على تماس مباشرة مع الأسناخ الرئوية.وتكون البشرة المبطنة لهذه الاسناخ مؤلفة من بشرة مكعبة غير قادرة بعد على القيلم بوظيفة نقل وتبادل الغازات وخاصة الأوكسجين إلى الدوران الدموي.ومع تطور تمو الرئة ترق البطائن وتتسع الأفضية وينقص النسيج الضام،وبحيث تصبح الأوعية الدموية على تماس مع الأفضية السنحية،وعلى الرغم من هذا التحسن إلا أن الرئة لا تكون وظيفياً كما هو الحال عند رئة الكبير من الناحية الوظيفية.وعندما يولد الطفل فإن التنفس يوسع الاسناخ،والجهد التنفسي يسبب توظف الأسناخ،ويكون التنفس في البدء سطحياً ومن النموذج الدوري،أي غير منظم وسريع،كما أنه عند الخدج يوجد عوز في مادة “السرفاكتانت”وهذا يؤهب لحدوث داء الأغشية الهلامية عند الخديج.
2 ـ الأذيات الولادية:
وهي تصيب عادة الرأس حيث تشاهد الأورام الدموية في الرأس،والحدبة المصلية الدموية،وذلك بسبب الوضع والمخاض ،إذ أن جزءاً من فروة الرأس والمتواجد في منطقة عنق الرحم عند الأم تعرض الجنين لضغوط شديدة أثناء المخاض،وتسبب تراكم السائل المصلي الدموي في فروة الرأس.ولكن هذه النزوف الدموية الجلدية لا قيمة لها عملياً.ولكن من الأشياء الخطيرة حدوث النزوف داخل القحف،وهذا يحدث غالباً بسبب المخاض الشديد الراض،أو بسبب تمزق الأم الجافية من السحايا،والذي يشاهد غالباً في المخ أو الخيمة المخيخية،وهذا النزف يؤدي لارتفاع الضغط داخل القحف،وأذى الجوهر الدماغي،وحدوث أذيات دماغية لدى الوليد
يتميز الورم الدموي الرأسي بأنه يصادف خاصة في العظم الجداري أو القفوي ويترافق مع وجود كسر غير متبدل،أما الحدبة المصلية فتشاهد في منطقة مجىء الوليد،أما الفتوق السحائية فتشاهد في مناطق الدروز واليوافيخ وتزداد توتراً أثناء البكاء وتترافق مع ضياع عظمي.
وبالنسبة للأذيات الأخرى فإن أكثر العظام التي تصاب بالكسر عند الوضع العظم فوق الترقوة،والعظام الطوال في الأطراف.
3 ـ الشذوذات الخلقية:
وهي تصيب الجنين داخل الرحم،ومعظم الشذوذات الشديدة تترافق مع الإجهاض وخاصة في الثلث الأول من الحمل،وإن من أهم العوامل المسببة للتشوهات الخلقية عمر الأم،وخاصة إذا تجاوزت سن الأربعين.ومن أشهرها تناذر داون(المنغولية).وكذلك فإن إصابة الحامل ببعض الأمراض وخاصة الحصبة في الأسابيع الستة الأولى من الحمل قد يؤدي إلى تشوهات عند الجنين وأكثر الأعضاء إصابة هي العين،وتصاب الأذنان إذا كانت الحصبة في الأسبوع التاسع،والقلب مابين الخامس والعاشر والأسنان من السادس وحتى الثامن.
4 ـ الأدواء التنفسية عند المواليد والرضع:
أولاً: استنشاق محتويات السائل الصائي(الأمنيوسي):كثير من الخدج والمواليد يموتون بالاختناق،وقد تبين أن استنشلق محتويات السائل الصائي قد يكون أحد الأسباب الهامة في ذلك.
ثانياً:عدم تمدد الرئتين الولادي:او الانخماص الرئوي:وهو من العوامل الرئيسية للأنوكسيا والاختناق عند الوليد،وهو إما أن يكون بدئياً أي أن الجنين لم يحدث لديه تنفس طبيعي أبداً،وهو يصادف عند الخدج بسبب تكاسل المراكز التنفسية في الدماغ،وحدوث الأنوكسيا داخل الرحم بسبب النزوف المشيمية،وانفكاك المشيمة الباكر،أو التفاف الحبل السري حول عنق الوليد. وقد يكون ثانوياً أي يشاهد عند المواليد والرضع بعد عدة أيام أو أسابيع من الولادة أي بعد أن يحدث التنفس الطبيعي لديهم،وقد تبين أن نقص أو غياب مادة السرفاكتنانت تلعب دوراً هاماً في ذلك.
ثالثاً: داء الأغشية الهيالينية:ويسمى تناذر التعسر التنفسي مجهول السبب:وهو ذو شكلين سريرين متميزين:
1 ـ داء الأغشية الهيالينية بالخاصة:وهو يصادف عند الرضع بسبب العراقيل التنفسية في الأيام الأولى من الحياة.
2 ـ داء أو متلازمة الضائقة التنفسي مجهول السبب: وهم أطفال يعانون من عدم تمدد الرئتين ولا تشاهد لديهم الأغشية الهيالينية.
وأكثر ما يشاهد داء الأغشية الهيالينيةعند:الخدج،وبعد العمليات القيصرية، ولدى الأمهات المصابات بداء السكري.
رابعاً: ذات الرئة:وهو انتان تسببه غالباً الجراثيم،وقد تحدثه الفيروسات أو الفطور.وقد يحدث داخل الرحم أو بعد الولادة.وأكثر الجراثيم المسببة المكورات إيجابية الغرام ،وأحياناً العصيات القولونية ومحبات الدم للنزلة الوافدة.
خامساً:سوء تصنع الأسناخ الخلقي:وهو يسبب الوفاة خلال أيام.
5 ـ داء الاندخال الخلوي العرطل:Cytomegalic
وهذه الحمة الراشحة تسبب اضطرابات جهازية عند الوليد على مستوى معظم الأعضاء في الجسم وخاصة الكلية والكبد والرئتين والغدد اللعابية.
6 ـ أورام الرضع:
من أهم الأورام الخلقية عند الوليد نذكر:
ـ الهامارتوم Hamartom:وهو ورم سليم يشاهد في الطحال والكبد والكليتين والرئتين والبنكرياس.
ـ الكوريستوما:وهو وجود نسيج طبيعي ولكن في غير مكانه كأن تشاهد خلايا كظرية في الكلية،أو نسيج بنكرياس في جدار الأمعاء،…
ـ الأورام الحميدة والخبيثة: ومنها الأورام الوعائية(Hamangiom)والوحمات الوعائية،والأورام العجائبية(Teratom) ،وهناك أورام سرطانية قد تشاهد عند الأطفال ومنها سرطان الدم والأورام الدماغية،وأورام أرومات الخلايا اللمفية،وسرطان العظام وأورام أرومات الخلايا العصبية،وأورام ويلميس في الكلية،…
7 ـ فاقات الدم الانحلالية عند المواليد:
ومن أهمها:
ـ داء الأرومات الحمر الجنيني:Erythroblastosis
وهو إما أن يسبب الوفاة لدى الجنين في النصف الثالث من الحمل،أو خلال الأسبوع الأول من الحيا’نوهو داء انحلالي يصيب الوليد بسبب تنافر الزمر الدموية بين الأم ووليدها.وغالباً فإن عامل:RH(الريسيوس)هو السبب الرئيسي للتنافر ولكن أحياناً إحدى العوامل الأخرى للزمر الدموية.
8 ـ الداء الليفي الكيسي في المعثكلة:
وهو داء وراثي يصيب القسم خارجي الإفراز من البنكرياس،ويشاهد عند الرضع والأطفال،وقد يصل إلى سن الشباب،ومن الأجهزة الأخرى التي تصاب في المرض الشجرة الرغامية القصبية،والقنوات الصفراوية في الكبد،والغدد اللعابية،وبعض الغدد الأخرى في انبوب الهضم.
يتظاهر المرض بوجدود انتانات رئوية وقصبية متكررة،ووجود الغائط الشحمي،بشكل رئيسي.
ويمكن الكشف عن الداء باختبار العرق وخاصة تركيزه الملحي.
“في قرار مكين”
الآيات الكريمة:
{ ألم نَخلُقكُم من ماءٍ مهين* فجعلناهُ في قرارٍ مَكين}[المرسلات20 ـ 21]
{ولقد خَلقنا الإنسانَ من سُلالةٍ من طين* ثُمَّ جعلناهُ نُطفةً في قرارٍ مكين} المؤمنون 12 ـ 13 ]
{وهو الذي أنشأكُم من نفسٍ واحدةٍ فَمُستقرٌ ومُستودَعٌ قد فصلنا الآياتِ لقومٍ يفقهون}[ الأنعام 98 ]
{ونُقِرُّ في الأرحام مانشاء إلى أجلٍ مُسمى}[الحج5]
الاحاديث النبوية الشريفة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إن الله تعالى خَلقَ الخَلقَ حتى إذا فرَغَ من خلقه قالت الرحم: هذا مُقامُ العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصِلَ من وصلك، وأقطعَ من قطعك؟ قالت: بلى يارب، قال: فهو لك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقرؤوا إن شئتم” فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطِّعوا أرحامكم“[ رواه البخاري ومسلم وهذه رواية البخاري]
وجاء في الحديث القدسي: “قال الله عزّ وجلّ: أنا الرحمن، وأنا خلقت الرحم وأشتققت لها ً من إسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتته”[ رواه البخاري و أبو داود وغيره عن عبد الرحمن بن عوف وقال الترمذي حسن صحيح].
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ” وكلَّ الله بالرحم ملكاً فيقول: أيّ ربِّ نطفة، أي ربّ علقة، أيّ ربّ مضغة”[ رواه البخاري].
وقال صلى الله عليه وسلم:”الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله“[أخرجه الشيخان عن السيدة عائشة رضي الله عنها].
وقال صلى الله عليه وسلم:”الرحم شجنة من الله من وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله“[أخرجه البخاري عن السيدة عائشة رضي الله عنها]
من الناحية اللغوية:
إن القرار المكين كما تدل الآيات السابقة هو الرحم وهذا بإجماع السلف والخلف.
والرحم لغة لها معنيان:
1 ـ بيت منبت الولد ووعاؤه كما جاء في القاموس المحيط وهذا المعنى ورد في القرآن في عدة ايات:
{هُوَ الذي يُصَوِّرُكم في الأرحامِ كيف يشاء} [آل عمران6 ]6
{ولا يحل لهن أن يكتمن ماخلق الله في أرحامهن [البقرة 228]
{الله يعلم ماتحمل كل أنثى وماتغيض الأرحام وماتزداد} [الرعد 8 ]
{ويعلم مافي الأرحام}”[لقمان 34 ]
ومن الأحاديث النبوية الشريفة حول هذا المعنى مارواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” وكَّل الله بالرحمِ مَلَكاً، فيقول: أي ربِّ نُطفةٌ،أي رَبِّ علقةٌ،أي ربِّ مضغةٌ، فإذا أراد الله أن يقضي خَلقَها، قال: أي ربِّ ، ذكر أم أنثى، أشقيّ أم سعيد، فما الرزق، فما الأجل،فيكتب كذلك في بطن أمه“[ رواه البخاري].
2 ـ القرابة والصلة كما جاء في القاموس المحيط وهذا المعنى ورد أيضاً في القرآن الكريم:
{وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله}” [الأنفال 75 ]
{فهل عَسَيتُم إن تَولَّيتُم أن تُفسِدُوا في الأرضِ وتُقَطِّعوا أرحامَكُم}”[محمد 22]
{لن تَنفَعَكُم أرحامُكُم ولا أولادُكُم يوم القيامة يفصِلُ بينكم}[ الممتحنة3 ].
{واتقوا الله الذي تسآءلون به والأرحام}[النساء].حيث يربط الله تعالى بينه وبين صلة الأرحام بسبب أهميتها الكبرى.
{فأردنا أن يُبدِلَهُما رَبُّهُما خيراً منهُ زكاةً وأقربَ رُحما}[الكهف81]
وفي الحديث الشريف” أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام ،وصلّوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام” [روا الإمام أحمد في المسند].
وجاء في الحديث الشريف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ” من سرّه أن يُبسط له في رزقه،و يُنسأ له في أثره، فليَصِل رحمه” [رواه البخاري ومسلم].ونسأ أي طال والمعنى أن يكثر رزقه ويطول عمره.
وقال صلى الله عليه وسلم:”لايدخل الجنة قاطع رحم”[أخرجه مسلم عن جبير بن مطعم رضي الله عنه].
وقال صلى الله عليه وسلم:” ما من ذنب أحرى أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع مايدخره له في الآخرة من قطيعة الرحم والبغي” [البخاري والترمذي وأبو داود]
ولكن المقصود بالقرار المكين هنا هو المعنى الأول.وهذا كله يبين أهمية الرحم القصوى في الإسلام، فقد اشتق اسمها من الرحمن، وهي معلقة بعرش الرحمن، والرحم هو العضو الوحيد الذي نال من التشريف الرباني الشئ الكثير وكيف لا، وفيه ينشأ الجنين وينال الغذاء والدفء، إلى أن يخرج إلى هذه الدنيا.
المعنى اللغوي للقرار:
هو مكان الاستقرار والسكن، ومايحمله هذا المعنى من تقديم الخدمات اللازمة للمستقر الذي لا يستغني عن هذه الخدمات وإلا هلك وما عاد هذا القرار قراراً، ومن هذا المعنى قوله تعالى: {أمّن جعلَ الأرضَ قراراً وجعل خلالها أنهاراً}[النمل61]وقوله تعالى { الله الذي جعلَ لكُمُ الأرضَ قراراً والسماء بناء}[غافر64].
فكون الأرض قراراً لنا لايعني فقط أنها مجرد سكن بل هي مسكن قادر على الإيواء وتأمين الخدمات الضرورية.
المعنى اللغوي للمكين:
معناه القوي الراسخ المتين الذي يتحمل ما أُعدّ له.
وإن وظيفة الرحم تجاه الجنين يستحيل استحالة مطلقة وصفها بأبلغ من اللفظ القرآني”القرار المكين“وهذا من إعجاز الله تعالى فمن خلال هذا الوصف بكلمتين أتى على عدة معاني رائعة وجميلة وصادقة، فالرحم هو بحق هذا الوعاء الذي يحمل ويحمي محصول الحمل ويقدم له كل الخدمات اللازمة منذ تشكل النطفة الأمشاج والعلقة والمضغة والجنين وحتى الولادة فسبحان الله رب العالمين.
من الناحية العلمية ـ الطبية:
إن الرحم من الناحية التشريحية والوظيفية تنطبق عليها صفتي “القرار المكين” وذلك بسبب الصفات التي خلقها الله في الرحم ومايجاورها من أنسجة وأعضاء:
ـ فالرحم: عبارة عن عضلة مجوفة وثخينة بطول 7 ـ 8 سم، له شكل الكمثرى حيث أنه يتألف من قاع أو قعر واسع بعرض 5 سم وسماكة 2،5 سم، ومن جسم الرحم بالذات ومن برزخ، وهذا البرزخ يفصل تشريحياً مابين جسم وعنق الرحم، وهو يشاهد فقط عند المرأة الخروس أي البكر أي قبل الحمل الأول ويختفي بعد الحمل.فالرحم كعضلة مجوفة وذات سماكة معينة ذو قدرة على حماية الجنين بسبب هذا التركيب الخاص به.
ـ ويبطن عضلة الرحم من الداخل الغشاء المخاطي، ويغطيه من الخارج طبقة مصلية تحتوي الألياف العصبية والأوعية الدموية وهي تنقل الشعور بالألم في حال وجود أمر غير طبيعي وخاصة في الأعضاء والانسجة المجاورة للرحم ويتم التحذير المسبق .
ـ وإن الطبقة المخاطية التي تبطن عضلة الرحم من الداخل تحتوي أيضاً على الأوعية الدموية، وفي حال وجود اضطرابات معينة فإن هذه الطبقة ترتكس بالنزيف والذي يكون علامة تحذيرية تستدعي الفحص العاجل لمعرفة سبب حدوث هذا النزيف وتلافي أخطاره بشكل مبكر.
ـ أضف إلى ذلك فإن الرحم يقع في منتصف التقعير الحوضي للحوض الصغير،أي أن الحوض بعظامه وانسجته يحيط بالرحم إحاطة السوار بالمعصم أي من كل الجهات.
ـ والرحم يقع خلف المثانة ويفصل بينهما الرتج الرحمي ـ المثاني، ويقع الرحم أمام المستقيم(القسم النهائي من الأمعاء الغليظة)ويفصل بينهما الجيب المستقيمي ـ الرحمي أو مايسمى جيب دوغلاس، ويقع الرحم فوق المهبل، فهو محاط من كل الأتجاهات بأعضاء تحميه وتقيه وتعمل بنفس الوقت كوسائد مهيئة له أسباب الراحة.
ـ وهناك وسائط تعلق الرحم في الحوض وهناك وسائط تدعمه:
من وسائط تعليق الرحم في الحوض نذكر: الصفاق أي البريتوان، والأربطة وهي الرباطان العريضان والرباطان المدوران، والرباطان الرحميان العجزيان.
الرباطان العريضان: هما رباطا الرحم الحقيقيان،ينشأن من الصفاق(البريتوان) ويغطيان وجهي الرحم وحافتيه.
الرباطان المدوران: حبلان يمتدان من القسم الأمامي الجانبي السفلي للرحم إلى القسم الأمامي من الحوض بطول 10 ـ 12 سم وقطر 3 ـ 6 مم.
الرباطان الرحميان العجزيان: يمتدان من مضيق الرحم حتى عظم العجز ويحيطان بالمستقيم.
وأما وسائل الدعم: فهي العضلات التي تدعم الرحم وخاصة من الأسفل،وهناك أيضاً النسيج الخلوي الضام الذي يحيط بعنق الرحم وبالجزء العلوي من المهبل ويربط أجزاؤه بالمثانة من الأمام والمستقيم من الخلف.
ـ أثناء الحمل :
وبالرغم من زيادة حجم ووزن الرحم أضعافاً مضاعفة لما هو عليه قبل الولادة، وبالرغم من وسائط الدعم والتعليق المذكورة وبالرغم من المجاورات الحشوية للرحم وخاصة المثانة والمستقيم فإن الرحم يزداد نمواً ولا يُعاق حركة، ويتضاعف حجمه أكثر من ثلاثة ألاف مرة في نهاية الحمل(50 غ قبل الحمل ويصل إلى 1000غ عند الولادة)، ومع ذلك تبقى الأربطة ممسكة به، وعضلات الحوض والعجان تحفظه،وإلا لسقط وبرز إلى الخارج(مايسمى هبوط وانسدال الرحم) كما يشاهد عند بعض النساء وخاصة في بعض حالات الولادة المتعسرة حيث يحدث تمزق في عضلات العجان ويحدث هبوط الرحم أو المثانة أو المستقيم.
ـ قد تشاهد حالات لحمل الجنين في النفير أو في جوف البطن وهي حالات تنتهي دوماً بموت الجنين وحدوث الأنزفة الداخلية التي قد تودي بحياة الحامل وتستدعي العمل الجراحي، ويبقى الرحم هو المكان الطبيعي لإتمام الحمل وسلامته .
يقول الدكتور مأمون شقفة رحمه الله( وهو أستاذ سابق في الأمراض النسائية والتوليد في جامعة دمشق):
“أمارس الاختصاص في التوليد والنسائية منذ أكثر من 25 سنة ولا أذكر أنني شاهدت رحماً قد تمزق مثلاً في حادثة سيارة أو بسبب مشاجرة سواء كان أثناء الحمل أو خارجه، وفي كتاب التوليد لويليامز وهو من أهم كتب الولادة والحمل في العالم يقول المؤلفان: الرحم منيع بشكل مدهش على الرضوض ” ويتابع الأستاذ شقفة رحمه الله:
“والرحم الذي ليست فيه ندبات(مثلاً بسبب عمليات قيصرية سابقة) أمنع وأمتن ونادراً مايتمزق، وإذا حصل التمزق في الرحم فالسبب غالباً ندبة قيصرية سابقة، أو استعمال محرض المخاض مثل الأوكسي سيتوين بمقدار زائد اي إجبار الرحم أن يتقلص بعنف لامبرر له فيتمزق، ونادراً مايحدث في حالات عدم التناسب الرأسي ـ الحوضي بسبب تضيقات الحوض أو المجيئات المعيبة.. ويتابع رحمه الله:
“وأمنع مايكون الرحم على الرضوض والتمزقات هو الثلث الأول من الحمل أي طور النطفة والعلقة وذلك لكونه حتى نهاية طور العلقة عضواً حوضياً ينمو في أحصن موقع وأمتنه، فإذا بلغ الاسبوع الثاني عشر بدأ النمو في جوف البطن ولكنه مع ذلك يظل منيعاً على الرضوض الخارجية وهو في تجويف البطن أقل إصابة من الأحشاء الأخرى كالكبد والطحال والكلية والمثانة وهذا أمر مدهش حقاً، يقول تعالى” ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة” فهنا أشار الله تعالى إلى القرار المكين بين النطفة والعلقة، ويقول تعالى” ألم نخلقكم من ماء مهين فجعلناه في قرار مكين إلى قدر معلوم” فهنا استمرار التمكين إلى القدر المعلوم ، ويتابع الدكتور شقفة:
” إن هذه العبارة ” القرار المكين” وحدها كافية كدليل لايرقى إليه الشك عن أن القرآن الكريم من عند الله تعالى، ومن أن قائلها هو نفسه الذي خلق الرحم وأحاط بوظائفه جميعها”.
ويقول الدكتور خالص جلبي(الطب في محراب الإيمان ج2):
“إن القرآن تحدث ببعد لغوي لم يكن في وقته يحمل رصيد الواقع من التشريح والفيزلوجيا وعلم النسج،وعلم التوليد الطبيعي والمرضي،وعلم النسائية،ومع تفتح الإمكانيات وكشف أسرار الجسم لوحظ أن الآية ذات تحليق خالد حقاً على العديد من المستويات…
لنحاول القاء نظرة تشريحية لنعرف قرار الرحم الفراغي،إن الرحم يمكن اعتباره من الوجهة الفراغية في منتصف الجسم تماماً طولاً وعرضاً وعمقاً،وهكذا فهو يتلقى الحماية من كافة الجهات،غير أن هناك حماية مهمة على مستوى الحوض،حيث أن مكونات الحوض هي عظم العجز والعصعص بالخلف ومن الجانبين والأمام يوجد عظمان هما عظما الحرقفة ،هذا العظم هو حلقة الاتصال مابين العمود الفقري في الأعلى والعجز بالخلف وعظم الفخذ من الأسفل وهو مايسمى بالزنار الحوضي،وهنا ملاحظتان:الأولى:أن هذا العظم يحمي الرحم تماماً ويكون جوفاً يستقر الرحم فيه بحماية من كافة الجوانب،والثانية:أن هذه الحماية يجب أن تتلائم مع وظيفة أخرى وهي التناسب مع شكل الجنين لأن أية زيادة طفيفة في الطول أو العرض أو الارتفاع أو العمق أو الثنيات والحفر يجعل دخول الجنين وخلاصه مستحيلاً…
إن هذا العظم عليه أن يقوم بوظيفة الحماية للرحم،والتناسب مع حجم وشكل الجنين لاستقباله وإخراجه بسلام إلى العالم الخارجي،والتلاؤم مع هيكل الجسم العام بحيث يستقبل ضغط عظم الفخذ من الأسفل وثقل الجسم من الأعلى من خلال العمود الفقري،وعليه أن يكون مقراً لارتكاز عشرات العضلات والعديد من الأربطة،كما عليه أن يحتوي العديد من الثقب والحفر والثلم لمرور الألياف والأعصاب وأوتار العضلات،والأربطة،والصُفق،والشرايين والأوردة،واللمف،كما تقع عليه مهمة اعطاء المنظر الجمالي للخارج لأن جمال المرأة يتكون من تناسب شكلها مابين ضيق الصدر واتساع الحوض وقلة العضلات وكثرة الشحم،وأخيراً على هذا العظم مهمة تكوين الدم فهو مصنع لايكلّ عن الانتاج والصناعة ونقل الشحم والكلس والفوسفور والمغنزيوم من العظام وإليها،فتبارك الله صاقل العظام ومهندس القوام،فأي مهمة جبارة يقوم بها هذا العظم من التلاؤم والتناسب والتكيف والمرونة بين الصناعة والتصنيع والحمل وتقبل الضغط،بين الاستقبال والتوديع،بين الإدخال والتصريف،ثم إنه في النهاية يجب أن يتناسب تماماً مع عشرات العضلات ليستر القاع السفلي للجسم،وليخرج من هذا القاع مصارف البول والغائط،وبنفس الوقت ليكون المقر والستر للعورات…
وهنا آية عظيمة من آيات الله،فالرحم يكبر حتى إذا كان عمر الحمل الاسبوع الثاني عشر أو في نهاية الشهر الثالث بدأ الرحم يرفع رأسه ويتجاوز عظم العانة من الأمام،فإذا بلغ الحمل عمره من الاسبوع السادس عشر أو مايقارب الشهر الرابع برز تماماً في البطن في منتصف المسافة مابين السرة والعانة،ويصل إلى السرة في الاسبوع العشرين،في حين أن الرحم يصل في الاسبوع السادس والثلاثين أسفل عظم القص في الأعلى،فلنتأمل هذه الزيادة الكبيرة في الحجم.ولاعجب لأن حجم الرحم حوالي 3سم مكعب قبل الحمل عند العذراء ويصبح بعد الحمل في حجم يتجاوز 5000سم مكعب،أي بزيادة الحجم مايزيد على الألفي مرة!!!مع هذا فإن النقطة الملفتة للنظر ليست فيما مرّ،وإنما الشىء الذي يلفت النظر هو:مامعنى حراسة الرحم بالتصفيح العظمي طالما سوف يتجاوز الرحم هذه الخراسة ليتبارز في البطن بدون أية حماية عظمية؟والجواب:إن هذه النقطة بالذات هي من آيات الله الباهرة ولنحاول تناول الموضوع بشىء من الدقة والتفصيل:إن تخلق اللإنسان يمشي في عدة مراحل،المرحلة الولى هي البيضة الملقحة بعد اللقاح الذي يتم مابين النطفة والبويضة،المرحلة الثانية هي انقسام هذه البيضة الملقحة بشكل كبير،حتى تصل إلى مرحلة التوتة وهي منظر الخلية المنقسمة إلى العديد من الخلايا تماماً كما في منظر التوتة،ثم تأتي مرحلة التعشيش في الرحم،والانغراس فيه،فإذا كتب لها النمو فإنها تبدأ في مرحلة هي أخطر مراحل الخلق على الإطلاق،وهي مرحلة تكوين الإنسان بكافة أعضائه وأجهزته وأنسجته وهكذا يتكون الدماغ والقلب،والكلية والرئة،….وهذه المرحلة تستغرق حوالي الثلاثة أشهر أي أن الرحم عندما يعلن عن نفسه،ويتبارز برأسه مافوق عظم العانة يكون تكون الإنسان قد اكتمل وانتهى،وأعضاؤه قد تكاملت وأجهزته قد تمت ولم يبق إلا زيادة الوزن وشىء من الإضافات النهائية لهذه البناية العظيمة الخالدة،وهكذا في المراحل الأخيرة يزداد الوزن وتفرز الهرمونات ويدق القلب ويتكامل الجلد،وتسد الفوهات،وتختم الحلقات،وتفتح العينان وتصلح الأقدام،وتتكامل العظام…
ويجب أن نقول هنا أن الرحم وهو يقوم بهذا العمل الدؤوب الصامت في خلق الإنسان لايستطيع الطب أن يقول أن هناك حمل يقيني!!إلا بعد أن يعبر الحمل هذه المرحلة ويزيد،بل إن أدق علامات الحمل اليقينية تماماً لايمكن الحصول عليها إلا بعد الشهر الرابع من الحمل أو على حد تعبير القرآن الكريم:{والذينَ يُتوفونَ منكمْ ويذرونَ أزواجاً يتربصنَ بأنفسهنَّ أربعةَ أشهرٍ وعشرا}[البقرة 234].أي بعد أربعة أشهر وعشرة أيام وهو الرقم التقريبي في يقينية الحمل…
إن الجنين في هذه المرحلة الأولية الخطرة ضعيف للغاية،كما أن المهمة هي من أخطر المستويات،ففي هذه المرحلة حيث يجب أن تكون الحماية أدقّ مايمكن،وأعظم مايجهز ويقي،ولذا فإنه محمي بهذا التصفيح العظمي بالإضافة إلى الحمايات الأخرى وأهمها الحماية الهرمونية،فلا يتجاوز هذا المكان إلا وقد أصبح إلى حد كبير في أمان من الخطر،وتكون المرحلة الأولى المهمة قد تجاوزها الرحم ليبدأ مرحلة أخرى أقل خطورة وأهمية….
ويتابع:”إن شكل الرحم هرمي قاعدته في الأعلى ورأسه في الأسفل فهو هرم مقلوب في بطن المرأة،فكيف يمكن تثبيته في الفراغ؟إن العديد من الأربطة تتعاون على جعله بوضع ثابت هو وضع الانعطاف الخفيف إلى الأمام،وهكذا نرى الأربطة تشده من الأمام إلى الأعلى،ومن الخلف والأسفل ومن الجوانب،(الرباط المدور)يشده ويثبته من الامام والأعلى حيث يكون رباطاً مرناً يمتد مابين جدار البطن الأمامي ووجه الرحم الأمامي،وهناك(الرباط الخلفي) والذي يمتد مابين مضيق الرحم وعظم العجز في الخلف،و(الرباط العريض) يثبت جسم الرحم بوضع فراغي وسط من الأعلى كما تأتي أربطة معينة من مضيق الرحم تمتد إلى الأمام وهي ماتسمى “لفافة هالبان”،ومن الجانبين مابين مضيق الرحم وجوانب الحوض وهي ماتسمى(الرباط الرئيسي لماكنروت).
وبهذه الطريقة يقف جسم الرحم في الفراغ بين أربطة تشده من الأمام والخلف والجانبين والأعلى والأسفل،بحيث يستقيم قوامه،وينتظم وقوفه،ويؤدي وظيفته،ويحمي الجنين…
ويتابع:”ومستوى آخر لقرار الرحم وهو الدعم السفلي لقاع البطن وما يحوي من مثانة ورحمى ومستقيم،وهي منطقة حيوية للغاية لأن افراغ البول وتنظيم التغوط،وخلاص الجنين،تتقارب مخارجها،وتلتصق فوهاتها بجانب بعضها البعض فكيف يمكن تنظيم وتصريف هذه المخازن جميعاً؟؟إن هناك ثلاث عضلات مترابطة متناسقة تسد هذه الأرضية بشكل محكم،وبنفس الوقت تترك المجال للفوهات،وبنفس الوقت تلتف حول كل فوهة مايلائمها من العضلات بحيث تتشكل مصرات على غاية من الأهمية للتحكم بخروج البول أو الغائط،أو حماية الفرج،وحتى نعرف رحمة الله تعالى الواسعة التي لايمكن تصورها،علينا أن نتذكر بعض المرضى الذين يصابون بسلس البول أو الغائط أو سقوط الرحم،أو ممن يحملون أكياس البول والغائط لأمر طبي جراحي خاص،وانتشار الرائحة،وتشكل العفن،وضيق النفس،وحرج الموقف!!
وعلى مستوى آخر يتم قرار الرحم بشكل مكين متين وهو في أخلاط البدن وهورموناته،وحتى يمكن فهم الموضوع بشكل دقيق فلابد من الغوص في البحث درجة لرصد هذه الظاهرة الحيوية:بعد أن تنغرس البيضة في غشاء باطن الرحم تبدأ الطبقة الظاهرة فيها في ارسال استطالات بكل اتجاه وهي أشبه بأرجل الاخطبوط المزود بالممصات وهو مايطلق عليها بالطبقة المغذية،ولايقف الأمر عند هذا الحد…فهذه الأرجل لو ذهبنا إلى أعماقها لالرؤية مافيها لوجدنا أن كل استطالة مزودة بطبقتين من الخلايا منضدة فوق بعضها البعض،ولقد وجد أن هذه الخلايا هي مقر لإفراز هرمونات خاصة لها علاقة بسير الحمل واستقرار الرحم،ونمو الجنين،والمشيمة هي المركز الوحيد لإفراز هذه الهرمونات وهذا مستوى…ومن المشيمة لننطلق إلى المبيض لنرى ماذا يجري من تفاعلات وماذا يحدث من أمور؟
إن الجريب الصغير الذي كان يحمل البيضة الانسانية ويحويها كأمانة غالية انفقأ،وقذف بالبيضة إلى البوق حيث النطف بانتظارها،فإذا تم اللقاح،وانغرست البيضة الملقحة في الرحم وعششت فيه،فإن الجريب لاينسى الصداقة القديمة،والمحبة الخالصة لوجه الله،لذا فإنه يشعر بالضيق والوحشة من فراق الأحباب،والحزن والأسف على مفارقة الخلان،فما هو الحل؟هنا يبدأ بريد خاص بالتكون،لاستعادة الذكرى،وبث الأشواق،وتفريغ شحنة الحزن،ولوعة الفراق ودمع العين!!
ولكن ماهو هذا البريد؟إن البريد هنا من نوع خاص،إنه بريد هرموني يرسله المبيض إلى البيضة الموجودة في الرحم،مع توصيات مشددة إلى الرحم بالعناية بالصديق،والإيواء الحميم،والاستضافة الإسلامية الكريمة،وهكذا يبدأ جريب دوغراف في انتاج هرمون على درجة كبيرة من الأهمية في حماية الجنين،وجودة التغذية،والأمان من أي تقلص عضلي رحمي مفاجىء يؤدي لانقذاف البيضة،وموت الجنين.
ويتحول الجريب إلى مايعرف باسم الجسم الأصفر،والذي يعتبر مقر مهم للغاية في افراز هرمون البروجسترون الذي يرفع عتبة تقلص الرحم فيهدأ الرحم ويستقر،ويدخل سن الرشد،ويتصرف تصرف العقلاء الهادئين،فهو يسعى إلى الغاية الخطيرة والمهمة الأسمى،وهي حمل الإنسان والعناية به وتزويده بالغذاء والفيتامين والخمائر والهرمونات والشحم والسكر والبروتين والماء والأملاح المعدنية،وبذلك ينعم الجنين بالصحة والأمن،والغذاء والدفء،وهذا أيضاً مستوى،ولنتصور الآن تعاون مزيج هذه الهرمونات لانتاج هذه المنظومة الانسانية الرائعة الهادئة في لحن خلق الإنسان العظيم،وقبلها وبعدها نسبح بحمد الخالق البارىء المصور العزيز الحكيم.
فإذا وصل الحمل إلى حدود الأمان،وتجاوز الخطر بسلام،خفت هرمونات المشيمة الأولى،بعد أن أدت دورها وخدمت الجنين،ووفرت الضيافة،وبدأت مرحلة هرمونية جديدة تقودها المشيمة بعد أن تشكر الجسم الأصفر على خدمته الغالية،وتبدأ المشيمة في انتاج البروجسترون منذ حوالي الشهر الخامس بنفس كمية الجسم الأصفر وتزيد،وتتضافر هنا آليات هرمونية جديدة للحفاظ على الحمل،واعطاء القرار المكين للرحم،والاستقرار الهادىء حتى لايزعج الجنين،ولاتضار والدة بولدها،إلى أن يتم الحمل،وهذا على المستوى الهرموني ،أما على المستوى المناعي فالأمر أعقد وأصعب ولم يقل العلم فيه بعد قولته”.
والرحم كما ذكرنا يحمل ويتحمل الجنين بشكل ممتاز ورائع جداً ولايقذف محتواه إلى الخارج إلا في الحالات التالية:
1 ـ إذا كان الجنين ميتاً:
وهذا إعجاز ورحمة من رب العالمين حيث أن الجنين الميت واحتفاظ الرحم به يعني وجود مضاعفات على الأم وخاصة حدوث الأنتانات والالتهابات والنزوف..فالرحم يحتفظ بالجنين الحي ويلفظ الجنين الميت.
2 ـ حالات قصور عنق الرحم:
ذكرنا أن الله تعالى جهز عنق الرحم بمقوية عضلية دائرية تمنع سقوط محصول الحمل مهما كان وزنه، وفي بعض الأمراض يحدث قصور في عنق الرحم وخاصة في الثلث المتوسط من الحمل ويحدث الإسقاط العفوي .
3 ـ وجود أمراض في الرحم:
كالورم الليفي الكبير أو وجود تشوهات في الرحم ومنها الخلقية فهي قد لايستمر معها الحمل ولكننا هنا نتعامل مع رحم مريض وليس سليماً.
4 ـ حالات التهديد بالخطر:
كما هو الحال في حالات الرعب الشديد وخاصة مايشاهد أثناء الحروب وما ماثلها، يقول تعالى{ يا أيّها الناس اتقوا ربَّكم إنَّ زلزلةَ الساعة شئ عظيم *يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وماهم بسكارى ولكن عذاب الله شديد}[الحج 1 ـ ـ2 ]
أضف إلى ذلك فإن الرحم يحمي الجنين من أخطار أخرى:
1 ـ تقلبات الطقس:
وخاصة البرودة الشديدة ، والبرد له خطره الشديد على الجنين والوليد وخاصة الخديج.
2 ـ الانتانات:
حيث أن الرحم وأغشية الجنين والزغابات المشيمية والسائل السلوي كلها تقيه من الإنتانات ماعدا حالات نادرة ومنها الإصابة بمرض الإيدز والإفرنجي والسل والحصبة الألمانية..
تشوهات المضغة والجنين(علم تشوه الجنين)
حتى بداية الأربعينات من القرن الماضي كان يُظن أن الأغشية الجنينية التي تحيط بالجنين وكذلك جداري الرحم والبطن تحميه من عوامل البيئة والمحيط.
وفي عام 1941م بيّن “غريغ” حدوث تشوهات خلقية لدى الوليد بسبب إصابة الأم بالحصبة الألمانية.
وفي عام 1961م أوضح لينز وماك برايد أن بعض الأدوية قد تسبب التشوهات الخلقية لدى الجنين. والآن قد ثبت بالفعل وبدون أدنى شك أو ارتياب أنه تحدث وبنسبة لاتقل عن عشرة بالمائة تشوهات خلقية لدى الجنين والسبب إما أن يكون دوائياً أو فيروسياً أو بسبب بعض العوامل البيئية الأخرى، وأن حوالي عشرون بالمائة من أسباب وفيات المواليد في الأسابيع الأولى بعد الولادة تنجم عن هذه التشوهات الخلقية،وأن هذه التشوهات الخلقية توجد بنسبة حوالي ثلاثة بالمائة لدى المواليد الرضع.
واليوم يوجد مايسمى علمياً وطبياً علم تشوه الأجنة: وهو العلم الذي يدرس التشوهات الخلقية التي تصيب الجنين أثناء تكونه داخل الرحم سواء كان هذا التشوه ظاهراً للعيان أو على المستوى الخلوي أو على مستوى نقص أو زيادة بعض المركبات الكيماوية ضمن خلايا الجنين..
إن أسباب التشوهات الخلقية عديدة ومتنوعة وأهم أسبابها العوامل الوراثية الصبغية، وهناك أسباب أخرى ومنها الدوائية أو التعرض للأشعة أو بسبب بعض الإلتهابات والإنتانات، وهناك حالات عديدة لايعرف السبب فيها.
إن التشوهات الخلقية من حيث النوع والشدّة تتعلق بأربع عوامل:
! ـ طبيعة العامل المسبب.
2 ـ نفوذية هذا العامل عبر المشيمة والوصول للمضغة أو الجنين.
3 ـ الزمن أثناء الحمل الذي حدثت فيه الإصابة.
4 ـ مقدار وجرعة العامل المسبب وتركيزه وخاصة بالنسبة لبعض الأدوية أو الأشعة.
إن دراسة أطوار الحمل وتشكل الأنسجة والأعضاء هام جداً لمعرفة نوعية التشوهات وشدتها ويمكن أن نقسم هذه الأطوار والمراحل إلى مايلي:
1 ـ مرحلة ماقبل التميز:
وهي المرحلة التي تبدأ منذ تشكل النطفة الأمشاج وحتى تشكل الوريقات الثلاث،أي في الاسبوعين الأوليين من الحمل،وفي هذه المرحلة فإن المضغة تملك مقاومة قليلة نسبياً تجاه العوامل المحيطية،فإن كان هناك أذية دوائية فإن مايشاهد غالباً هو موت المضغة وحدوث الإسقاط،وعلى العكس فإنه قد يتأذي بعض الخلايا فتقوم الخلايا السليمة الباقية بالمعاوضة فلا يحدث أي اضطراب أو تشوه على مستوى المضغة اي أننا هنا أمام قاعدة كل شئ أو لاشئ.
2 ـ مرحلة المضغة:
وهذه المرحلة تتميز بحدوث التميز الخلوي وتمتد هذه المرحلة مابين اليوم 13 ـ 56 من الحمل، وهي تشكل المرحلة الأكثر خطورة في حال حدوث الأذيات وتأثير العوامل المشوهة.وفي هذه المرحلة يتم تشكل معظم الأعضاء ولذا فإن التشوهات هنا شديدة وقد تصيب عدة أعضاء معاً.
3 ـ المرحلة الجنينية:
بعد الشهر الثالث وهنا تكون معظم الأعضاء قد تشكلت ماعدا الجهاز العصبي وبعض أجزاء الجهاز البولي ـ التناسلي
أهم العوامل المسببة للتشوهات الخلقية:
1 ـ العوامل الوراثية ـ الصبغية:
وهي أمراض تصيب الصبغيات إما نقصاً أو زيادة في عددها أو وجود تلف فيها أو فقد جزء من أحد الصبغيات.وإن الشذوذات الصبغية كثيرة الحدوث ويقال إن 25 بالمائة من الأجنة المجهضة تحمل شذوذاً صبغياً ،وتقدر نسبة الشذوذ الصبغي في الأجنة التي كتبت لها الحياة بين 1 ـ 5 بالمائة.وقد تبين أن 20 بالمائة من المتأخرين عقلياً مع نقص الوزن عند الولادة يكون لديهم شذوذاً صبغياً.كما أن 10 بالمائة من المصابين بالعقم يكون السبب لديهم وجود هذه الشذوذات الصبغية، وإذا ترافق العقم مع قلة أو ندرة أو فقد الحيوانات المنوية فإن النسبة ترتفع حتى 20 بالمائة.
شذوذات الصبغيات:
هناك مثلاً أمراض تترافق بزيادة عدد الصبغيات ومنها هذا الذي يسمى متلازمة كلاين فلتر، ويتميز بازدياد في عدد الصبغي واي Y أي أن الصيغة الجنسية هنا YYX.وهناك أمراض أخرى أيضاً تزداد فيها الصبغي X وبحيث يزداد عدد الصبغيات عن 47 صبغياً وتكون الزيادة على حساب الصبغيات المذكرة أي Y أو المؤنثة أي X، ومتلازمة كلاين فلتر هي الأشهر في هذه المجموعة.
وهناك أمراض تترافق مع نقص الصبغي اكسX ويكون عدد الصبغيات 45 أي الصبغيات الجسمية كاملة مع وجود صبغي X واحد وغياب الآخر وتسمى متلازمة تورنر ونسبة حدوثه 1 / 10000 من الولادات.
وهناك أمراض تترافق مع زيادة عدد الصبغيات الجسمية كما هو الحال في متلازمة داون وتسمى أيضا داء المنغولية والذي يسمى أيضاً تثلث الصبغي 21 وهو داء منتشر أيضاً ونسبة حدوث هذا المرض حوالي 1/800 من الولادات.
ومعظم الأمراض الوراثية التي تترافق مع تشوهات شديدة في الصبغيات لاتتوافق مع الحياة وتموت المضغة وتحدث الأسقاطات العفوية وهذا من رحمة الله في عباده وخلقه وهذا يذكرنا بالحديث الشريف : ” إن الله تعالى لم يجعل لِمسخٍ نسلاً ولا عَقَبا”[حديث صحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه]، فإن الأطفال المسخ والمصابون بتشوهات شديدة لايعيشون، وإذا عاشوا فإنهم غير قادرين على الإنجاب لوجود اضطرابات جنسية وراثية لديهم وهذا ينطبق على متلازمة كلاين فلتر ومتلازمة تورنر،بالإضافة لإصابتهم بتشوهات كبيرة وخاصة على مستوى الجملة العصبية المركزية والغدد.
إن المجتمعات الحديثة والصناعية أصبحت تتميز بنقص معدل الولادات ورافق ذلك أيضاً أن النساء الذين يردن الإنجاب هن في أعمار متقدمة، وقد زادت عدد حالات الحمل لنساء تجاوزن سن 35 سنة.
ولقد لوحظ كثرة حدوث التشوهات الصبغية وخاصة متلازمة داون(المنغولية) لدى النساء الحوامل الذين تجاوزوا سن الأربعين ،حيث ارتفعت نسبة الحدوث بهذا المرض من 1/1660 لدى الحوامل بسن 21 إلى 1/35 لدى الإناث الحوامل بسن 45 ولذا غالباً ماتجرى الفحوص على السائل السلوي بفحص الصيغة الصبغية على خلايا هذا السائل عند النساء الذين تجاوزوا سن ال35 عند الحمل.
كما أن الحمل لدى إناث تجاوزن سن 35 يترافق مع ازياد حالات الإجهاض وولادة الأطفال الخدج وارتفاع المداخلات الجراحية وخاصة القيصرية وازياد نسبة وفيات الأطفال قبيل وبعيد الولادة، كما تبين أن ارتفاع السن لدى الحامل يترافق مع ازياد حدوث بعض الأمراض ومنها انفكاك المشيمة الباكر والنزوف التناسلية وارتفاع عدد حالات الإرجاج النفسي(Eclampsia) وهي حالات تشكل خطراً على الأم والجنين. كما ان النساء الحوامل المتقدمات في العمر أكثر عرضة للإصابة بارتفاع الضغط الشرياني والبدانة وداء السكري والامراض الخثرية الوعائية.
2 ـ الانتانات والالتهابات :
إن تأثير الأنتان على محصول الحمل يتعلق بالعوامل التالية:
1 ـ نوع العامل الممرض:فيروس،جرثوم ، طفيلي،فطر..
2 ـ القدرة الدفاعية للأم تجاه الانتان وإذا كان الانتان يصيبها للمرة الأولى أم لا.
3 ـ درجة إصابة المشيمة.
4 ـ سن الحمل أثناء تعرض الحامل للإنتان.
وأهم العوامل الممرضة التي لها تأثيرات على محصول الحمل حسب طبيعتها:
ـ الانتانات الفيروسية بالحمات الراشحة:
من المعروف أن إصابة الأم ببعض الحمات الراشحة وخاصة في الثلث الأول من الحمل قد يسبب بعض التشوهات والتي قد تكون شديدة على الجنين ونذكر من هذه الفيروسات:
! ـ داء الحصبة الألمانية(Rubella) :
ويسمى أيضاً الوردية الوافدة، حيث أن فيروس هذا الداء وخاصة في الأشهر الأولى من الحمل يعبر المشيمة ويسبب تشوهات عند الجنين وتسمى متناذرة غريغ،وإن التشوهات ودرجاتها لها علاقة مع زمن الإصابة وبحيث أنه كلما زاد سن الحمل كلما قلّت الإصابات تواتراً وشدة، وأكثر الأعضاء إصابة هو القلب وجهاز الدوران(حيث يشاهد نقص تصنع الشريان الرئوي وبقاء القناة الشريانية مفتوحة وتشوهات في الحاجز بين الأذينتين أو البطينين)، وكذلك إصابة الجملة العصبية المركزية وحدوث التهاب الدماغ والتأخر العقلي وصغر الرأس،و كذلك إصابة العينين ( وخاصة الإصابة بالساد،والزرق والتهاب المشيمة والشبكية) ،والأذن الداخلية، والأسنان، وضخامة الكبد والطحال ونقص الصفيحات الدموية،ولذا فإن إصابة الحامل بهذا المرض له عواقبه الوخيمة على الجنين،ولذا لابد اتخاذ الأسباب الوقائية من حدوثه،ولذا ينصح حالياً كل أنثى لم تصب بهذا المرض قبل سن البلوغ(يمكن معرفة ذلك بواسطة الفحوص المخبرية المصلية) فإنه ينصح بإعطائها اللقاح،ويجرى حالياً لكل حامل في بداية الحمل الفحوص الدموية فيما إذا أصيبت بالحصبة الألمانية أم لم تصب،فإذا تبين عدم إصابتها بعد فإنه لابد من التحذير من انتقال العدوى إليها وخاصة في حال وجود أطفال صغار في العائلة قد يصابون بهذا المرض وينقلون العدوى للحامل،وإذا حدث تماس للحامل مع أطفال مصابين بهذا المرض فإنه عليها أن تراجع الطبيب مباشرة من أجل إعطائها المصل المناسب من مادة الغاما غلوبولين ضد فيروس الحصبة الألمانية، ولاينصح بإعطاء اللقاح في هذه الحالة.
2ـ فيروس الداء الخلوي العرطل(Cytomegaly:
إن الفحوص الروتينية بينت أن حوالي 60 بالمائة من الناس قد أصيبوا بهذا الفيروس، وأن حوالي 3 ـ 5 بالمائة من الحوامل يصبن بهذا الفيروس أثناء الحمل.
إن المرأة التي تصاب بهذا الفيروس لايحدث لديها غالباً أعراض سريرية،ولكن الفيروس يعبر المشيمة ويسبب أذيات عند الجنين وخاصة على مستوى الدماغ،حيث أن من الأعراض الوصفية في إصابة الدماغ بهذا الفيروس حدوث مايسمى الصعل أي صغر الرأس والدماغ(10 ـ 25 بالمائة من حالات الصعل سببها هذا الفيروس)، أو استسقاء الرأس،أو التهاب وتكلس الدماغ، أو يسبب العمى (وخاصة أنه يسبب التهاب المشيمة والشبكية وضمور حليمة العصب البصري) أو ضخامة الكبد والطحال، ونقص الصفيحات الدموية والتهاب عضلة القلب، وليس نادراً وفاة الجنين،والداء ليس خطورته في بداية الحمل فقط بل في كل فترة الحمل.
3 ـ فيروس العقبول البسيط (Herpes):
إن الإصابة بهذا الفيروس تحدث عند الجنين غالباً أثناء الولادة وخاصة إذا كانت الأم مصابة به في أعضائها التناسلية ومن ثم ينتقل إلى الوليد في أواخر الحمل وقد يسبب أذيات عصبية مع حدوث التأخر العقلي، والصعل، والحوص (صغر العين) وتشوهات في شبكية العين.وحدوث العقبول المتعمم واليرقان.
4 ـ فيروس الإيدزAIDS
وهو يعبر إلى الجنين ويسبب إصابته بهذا المرض الخطير.
5 ـ كما أن هناك فيروسات أخرى قد تعبر المشيمة وتسبب أذيات لدى الجنين ومنها حمات كوكساكي والحماق وفيروس اريولا، والحصبة وشلل الأطفال،والجدري، والانفلونزا، والنكاف.
الإنتانات بالعوامل المرضية الأخرى:ونذكر منها بشكل خاص بالطفيليات:
1 ــ داء المصورات القوسية(Toxoplasmose):
وهذا الداء تسببه عوامل ممرضة تسمى التوكسوبلازما وهي تنتقل إلى الأم الحامل عن طريق براز القطط، وأحياناً عن طريق اللحم النيئ الأحمر، ولايشاهد غالباً أعراض سريرية عند الأم المصابة ولكن هذه العوامل الممرضة تسبب تشوهات شديدة لدى الجنين والإصابة الوصفية هنا حدوث تكلسات دماغية واستسقاء الرأس مع وجود تشوهات في العينين.وإذا كانت الإصابة في الأسابيع الأولى من الحمل قد يحدث الإجهاض.
2 ـ داء الإفرنجي أو الزهري:Syphlis
وهو أحد الأمراض المنقولة بالجنس وتسببه اللولبيات أو البريميات الشاحبة، وهذا المرض يؤذي الجنين فقط إذا حصل الإنتان لدى الحامل بعد الأسبوع 16من الحمل وإذا لم يعالج (لأن اللولبيات الشاحبة لاتستطيع أن تعبر المشيمة إلا بعد الاسبوع 12 من الحمل)، والتشوهات الناجمة عن الإصابة تتراوح مابين حدوث خمج الوليد والوفاة، وحدوث تشوهات شديدة كالصمم الولادي،واستسقاء الرأس، والتأخر العقلي، وأفات مخربة في شراع الحنك والأنف وتشوهات الأسنان(مايسمى أسنان هوتشنسون)،وهناك حالات لاتحدث ولاتشاهد أعراض لدى الطفل الصغير ولكن مع طور البلوغ واليفع تظهر أعراض الإفرنجي الثالثي
لطيفة:
يذكر الطبيب العالم ابن سينا في كتابه “القانون” مجموعة من الآفات والأمراض التي يتعرض لها الأطفال في الشهور الأولى من عمرهم،ويذكر أكثر من خمسة وثلاثين مرضاً ومنها:أورام الفم وأمراض الأذن والأمعاء والرئة والجلد واستطلاق البطن واعتقال الطبيعة والتشنج والكزاز والسعال وسوء التنفس والقُلاع والحميات والبثور والفزع في النوم والوجع وخروج المقعدة والدود الصغار وسحج الفخذ”.
3 ـ الأدوية وتشوهات الجنين:
هناك جملة من العوامل لدى الجنين تجعل من توزع واستقلاب وطرح وتأثير الأدوية عليه مختلف جداً لما هو عند الكهل،وكثيرمن الأدوية تعبر المشيمة وتصل إلى الجنين ويمكن أن تؤثر سلباً عليه ،وهناك بعض العوامل التي يجب أن ندركها عند معالجة الحامل ببعض الأدوية وتأثيرها على الجنين وأهمها:
ـ زيادة حجم سوائل البدن عند الجنين.
ـ نقص شحوم الجسم لدى الجنين.
ـ نقص بروتينات المصل ولاسيما الألبومين والذي يربط العديد من الأدوية في الدم.
ـ ضعف الجهاز الخمائري وخاصة في الكبد والذي يعمل على استقلاب الكثير من الأدوية.
ـ عدم النضج الكافي للجهاز الكلوي لدى الجنين والذي يقوم بطرح النواتج الاستقلابية الدوائية.
ـ زيادة نفوذية الحاجز الوعائي الدماغي للجنين وخاصة بالنسبة لبعض الأدوية وخاصة المورفين والباربيتورات .
أهم الأدوية التي تسبب أذيات وتشوهات عند المضغة والجنين نذكر:
أولاً: الصادات الحيوية: وأهمها:
ـ التتراسيكلين:
يترسب التتراسيكلين في العظام الطويلة والأسنان ،وإن ترسبه في الأسنان يؤدي عند الإنسان إلى تلوّن الأسنان بلون بني رمادي،أو أصفر، أوبني. إن التتراسيكلين يؤثر فقط في مرحلة التكلس وهذا يمتد من نهاية الشهر الرابع للحمل وحتى الشهر 11 ـ 14 بعد الولادة، وفي مرحلة التسنين الثاني من قبيل الولادة وحتى سن 7 ـ 8 سنوات. ويوجد اختلاف في التأثير المشوه للأسنان حسب نوع المركب الذي يعطى من مجموعة التتراسيكلين حيث تبين أن أقلها تأثيراً هو الأوكسي تتراسيكلين .
ـ مركبات السلفا:
وهي أدوية تتنافس مع مادة البيلروبين على الإرتباط مع الألبومين مما يؤهب لحدوث اليرقان النووي عند الوليد ولذا ينصح بعدم إعطائها أثناء الحمل.
ـ مركبات الكلور أمفنكول:
ينصح بعدم إعطائه للحوامل لأنه قد يسبب مايسمى التناذر الرمادي عند الوليد وهو عبارة عن فقر الدم اللامُصنع وذلك بسبب التأثير المثبط لتشكيل عناصر الدم في نقي العظم.
ـ مركبات الستربتومايسين:
تسبب أذية في العصب الثامن القحفي وإصابة العصب الدهليزي.
ثانياً: مجموعة الأمينوبترينات والميثوتريكسات أي قاتلات الخلايا:
إن التأثير الدوائي هنا يكمن في أنها منافسات لحمض الورق،وإن أهم التشوهات التي تسببها نذكر:
ـ نقص أو تأخر تعظم عظام الجمجمة
ـ استسقاء الرأس
ـ صغر الفك
ـ تشوهات أذنية
ـ تشوهات في الأطراف
ثالثاً: مميعات الدم:وخاصة مشتقات الكومارين:
يمكن أن تسبب تشوهات عند الجنين وأهمها:
ـ وجودنقط تكلس في المشاشات.
ـ تشوهات في سلاميات الأصابع.
وفي حال الحاجة لإعطاء مميعات دم أثناء الحمل فإنه يمكن إعطاء الهيبارين لأنه لايعبر المشيمة وخاصة في الطور الأول من الحمل(بسبب الخوف من التشوهات ) والطور الثالث من الحمل(خوفاً من حدوث النزوف الجنينية).
رابعاً:مضادات الصرع والتشنج:
يمكن أن تسبب تشوهات عند الجنين وأهمها:
ـ الهيدانتوئين:يسبب نقص النمو قبيل وبعد الولادة،صغر الرأس، التأخر العقلي، عسرة التشكل الوجهي ـ القحفي(أنف عريض، فوق المآق)، انسدال الجفن،الحول ونادراً حدوث الشَرم(انشقاق الشفة) والشراع المشقوق،نقص تصنع الأظافر والسلاميات المشوهة..
ـ التريميثدايون: يمكن أن يسبب التشوهات التالي’:تأخر النمو، اضطراب الكلام، تشوه في الحاجبين، فوق المآق، الأذنان اللاطئتان، شذوذات شراع الحنك،عدم انتظام الأسنان..
والنتيجة: عند المعالجة بمضادات الأختلاج والصرع أثناء الحمل لابد من التفكير باحتمال حدوث تشوهات جنينية ويفضل إن أمكن عدم إعطاء المركبات السابقة أو تخفيض جرعتها.
خامساً : الهرمونات الجنسية:
إن الأندروجينات ومركبات البروجسترون التركيبية يمكن أن تسبب التذكير عند الأجنة الإناث، وأهم مايشاهد ضخامة البظر،والتحام الشفرين.ومن المعروف أنه حتى الاسبوع السادس من الحمل تبقى الأعضاء التناسلية الظاهرة غير متمايزة،وابتداء من الاسبوع التاسع يشاهد وجود تمايز مابين الأجنة الإناث والذكور، وهذا الطور يتناسب مع بدء إفراز الأندروجين، وعلى ذلك فإنه يمكن للإنسان أن ينفي وجود تذكير بسبب معالجة خارجية قبل الاسبوع السابع من الحمل، وأكثر ماشوهدت الحالات بسبب إعطاء الأندروجينات بجرعات عالية لحوامل يعالجن بسبب سرطان الثدي، ومن ثم أيضاً المعالجة بالبروجسترون في حالات الإسقاط المهدد.
سادساً : مضادات السكري:
ومن الأدوية هنا نذكر دواء التالبو تاميد،وهو يسبب تشوهات عند الجنين. أما الإنسولين فإنه لايعبر المشيمة.
سابعاً : المخدرات:
وخاصة المورفين ومشتقاته:
فهي تعبر المشيمة بسهولة وتسبب التثبيط التنفسي عند الوليد وخاصة إذا أعطيت قبل 2 ـ 4 ساعات من الولادة للأم ،وفي حال إعطائها فإنه يمكن إعطاء النالورفين وهو الترياق المناسب للمورفين. والأخطر هنا أن تكون الأم الحامل مدمنة على المخدرات وخاصة الهيروئين فإنه يسبب الولادة المبكرة(الخداج) ونقص وزن الوليد عند الولادة ،كما أنه يسبب أعراض الحرمان عند الوليد(الجنين يعتاد عليه) وهذه الأعراض تظهر عند الوليد بعد 24 ساعة من الولادة وتؤدي إلى اختلاطات خطيرة لديه.
ثامناً: مضادات الدرق:
تبدأ الغدة الدرقية بالعمل عند الجنين حوالي الشهر الرابع من الحمل،وإن إعطاء مضادات الغدة الدرقية يؤثر في المحور الدرقي ـ النخامي،وإن هرمون الثيروكسين لايعبر المشيمة بينما الأدوية المضادة للدرقية مثل مشتقات الثيوراسيل فإنها تعبر المشيمة وتثبط تشكيل الثيروكسن في الغدة الدرقية للجنين مما يؤدي إلى حدوث السلعة الدرقية الخلقية لديه. كما إن إعطاء مركبات اليود المشع للحامل قد يؤدي إلى تأثيرات مخربة للدرق عند الجنين ولذا يجب الامتناع عن إعطائه أثناء الحمل.
تاسعاً:التاليدوميد:
ان استعمال الدواء مابين اليوم الحادي والعشرين والرابع والأربعين من بدء الحمل يحدث التشوهات التالية:انعدام في طرف أو عدة أطراف، أو ضمور في العظام الطويلة لأحد الأطرافن ولايبقى سوى اليد متصلة بالكتف، كما يشاهد آفات قلبية وتضيقات هضمية وفي المسالك البولية.
4 ـ الأشعة والنظائر المشعة:
إن الجرعة الحدّية التي يقال أنها تسبب تشوهات لدى المضغة بسبب التعرض للأشعة تقدر ب 10 راد، وهذه الجرعة الشعاعية تنطبق تأثيراتها في كل مراحل الحمل ،وإذا كانت الجرعة 20 راد فإن نسبة احتمال حدوث التشوهات لدى الجنين يكون مرتفعاً،إن الفحوص الشعاعية التي تجرى عادة لايتجاوز الجرعة فيها راداً واحداً،والنتيجة أن الجرعات دون 10 راد لاتؤذي غالباً ولاتسبب التشوهات، ومن النادر استعمال الفحوص الشعاعية بجرعة تزيد عن هذا المقدار. وإذا كانت الجرعة فوق 20 راد فهناك من يقول بوجود استطباب لإيقاف الحمل، أما إذا كانت الجرعة بين 10 ـ 20 راد فالاستطباب نسبي. وإن الأذيات التي تسببها الأشعة والتعرض لها له علاقة بثلاثة عوامل:
1 ـ كمية الجرعة المعطاة.
2 ـ تواتر الجرعة المعطاة أي كم مرة تعرضت فيها الحامل للأشعة.
3 ـ حسب الطور الجنيني اثناء الحمل.
وعلى هذا فإنه يمكن أن تسبب الأشعة إذا كانت بجرعات عالية الإسقاط، أو تسبب تشوهات في الصبغيات أو تأخر النمو .وقد شوهد سابقاً حصول أذيات شديدة في الجنين عند معالجة الأمهات الحوامل بسرطان عنق الرحم بجرعات عالية من الأشعة تتجاوز المئات من الراد.كما أنه من المؤكد حالياً أنه لايوجد دليل علمي واضح على إمكانية حدوث تشوهات في الجنين إذا تعرضت الأم للأشعة المستخدمة حالياً في التشخيص الشعاعي، حيث أن هذه الواسطة الشعاعية تطبق فقط على جزء من الجسم، وغالباً ليس قريباً من الرحم كتصوير الصدر أو الجيوب الأنفية أو الأسنان.. فإنها تعطى بجرعات بسيطة(بضعة ميلي راد)، وبالتالي لايخشى على الجنين في حال الحاجة لهذه الوسائط التشخيصية من تصوير الحامل عند الضرورة وخاصة صورة الصدر في الثلث الأول من الحمل حيث لاتتجاوز الجرعة المعطاة هنا للجسم ككل أو للمضغة عن ا ميلي راد.ولكن بنفس الوقت يحذر من التصوير الشعاعي للحوض ومنطقة الحوض لأنها تعرض المضغة لحوالي1 ـ 2 راد.
أما النظائر المشعة فقد تبين أن اليود المشع ذو تأثير مشوه للجنين وخاصة تخريب الغدة الدرقية لديه وحدوث قصور الدرق وذلك إذا أعطي بجرعات علاجية، أما إذا أعطي بجرعات من أجل التشخيص فلم يثبت هذا بعد. إن اليود المشع يتم قنصه من الغدة الدرقية للجنين ابتداءً من اليوم 74 من الحمل، وبالتالي ابتداء من هذا الوقت يكون التأثير المشوه له.
5 ـ الأمراض الجهازية:
إن بعض الأمراض الجهازية قد يكون لها تأثيرات ضارة على الجنين ونذكر منها الداء السكري، وقد تحسن الإنذار بالنسبة للأم والجنين إذا كانت الحامل مصابة بالداء السكري وخاصة بعد إدخال الإنسولين في المعالجة،ولكن مما يشاهد عند الحوامل السكريات ازدياد نسبة الإسقاطات العفوية(حوالي الضعف)، وولادة أجنة ميتة، وولادة أجنة زائدي الوزن(الجنين العرطل)، وازدياد حالات التشوهات عند الجنين(3 ـ 4 أضعاف) وخاصة على مستوى الجهاز الحركي العضلي والعظمي، ومعظم هذه الإصابات تنجم عن عدم ضبط ومراقبة السكر بشكل دقيق أثناء الحمل.
وكذلك لوحظ أن إصابة الأم ببعض أمراض الغدة الدرقية سواءً القصور أو فرط النشاط، فإن هذا قد يترافق مع ارتفاع نسبة الإجهاضات العفوية وحالات الخداج وولادة الأجنة الميتة، وتشوهات جنينية، والفدامة وخاصة في حالات قصور الغدة، أما في حالات فرط نشاط الغدة فتكثر نسبة الاسقاطات العفوية وارتفاع معدل الوفيات بعد الولادة.
6 ـ تناول الغول والمسكرات:
إن الإدمان الغولي هو من أمراض المدنية الحديثة في الغرب،وإن كان هناك حالات وصلت إلى الشرق في العقود الأخيرة.
هناك مايسمى طبياً اعتلال المضغة الغولي وينجم عن تناول الغول والخمر أثناء الحمل، ولقد لوحظ أن الأمهات المدمنات على الخمر من الحوامل يلدن أطفالاً لديهم تأخر في النمو العقلي والجسمي، وتزداد نسبة التشوهات الجنينية وخاصة في القلب والعينين،وتزداد الاختلاطات وخاصة إذا ترافق الإدمان الغولي مع نقص التغذية.
7 ـ الدخان:
إن تناول الحامل للدخان يعرض الجنين للأخطار ويسبب نقص نمو الجنين داخل الرحم، ومادة النيكوتين تعبر المشيمة وتسبب اضطراب التروية الدموية في المشيمة ونقص الدوران الوالدي ـ الرحمي، ولذا تكون أجنة الأمهات الحوامل المدخنات ناقصي الوزن، وترتفع نسبة الخداج لديهن (وخاصة إذا كانت الأم تدخن أكثر من 20 لفافة في اليوم ).إن الدخان شديد الضرر للجنين لأنه يؤثر في نقل الأوكسجين في الدم.
الوسائط التشخيصية للتشوهات الجنينية والأمراض الصبغية
1 ـ أمواج مافوق الصدى(Sonography):
في عام 1958 ذكر العالم دونالد امكانية استعمال مافوق الصدى أثناء الحمل وذلك لأول مرة.
وفي عام 1979 نصح في ألمانيا الاتحادية باستعمال هذه الواسطة التشخيصية على الأقل مرتين أثناء الحمل وخاصة في الاسبوع 16 ـ 20 من الحمل، والاسبوع 32 ـ 36 من الحمل، وينصح الآن باستعمال مافوق الصدى في المراحل المبكرة من الحمل، وهناك من يقول بعد اسبوع من انقطاع الدورة الطمثية المترقبة حيث يرى هنا وجود الكيس الصائي بقطر 7مم وبشكل حلقة غير متناظرة.وفي الاسبوع السابع إلى الثامن من الحمل يمكن قياس المحور الصدغي ـ العجزي عند المضغة، وكذلك رؤية حيوية الجنين وخاصة دقات القلب لديه، ويمكن رؤية حركات الجنين ابتداء من الاسبوع التاسع وبعد الاسبوع الثاني عشر، ويفيد هنا قياس القطر العرضاني للرأس والقطر العرضاني للجذع وهذا كله يفيد في تحديد عمر الجنين.
كما يفيد الفحص في تحديد موضع المشيمة ونفي ارتكاز المشيمة المعيب.
وتفيد هذه الواسطة التشخيصية في كشف حالات الحمل العديد، والكشف عن التوأم السيامي حيث يمكن التعرف عليها ابتداء من الاسبوع الثاني عشر.
ويمكن بهذه الواسطة التشخيصية الكشف عن النزوف خلف المشيمة، والحمل خارج الرحم(البوقي أو الحوضي)، والكشف عن مرض الرحى العدارية.
وفي الاسبوع العشرين من الحمل فإنه يمكن رؤية جميع الأعضاء وكشفها،ومنها رؤية الأعضاء التناسلية الذكرية الخارجية للجنين.
والكشف عن العيوب الخلقية ومنها مثلاً انعدام الرأس أو عدم تصنع الكليتين،أو قلة السائل السلوي أو وفرة السائل السلوي..أو استسقاء الرأس، انسداد المري ، انسداد العفج، متلازمة بوتر..
ويمكن باستعمال فوق الصدى عبر المهبل أن نتابع تطور المضغة ابتداء من الاسبوع السادس من الحمل ،وبواسطة هذه الطريقة عبر المهبل يمكن رؤية حركة اليدين والرجلين ابتداء من الاسبوع التاسع،وحركات التنفس ابتداء من الاسبوع الحادي عشر، وحركات المص والبلع ابتداء من الاسبوع الثالث عشر.
2 ـ الفحوص النوعية لكشف بعض الأمراض الوراثية وخاصة مايسمى خزعة الزغابات الكوريونية:
يمكن الآن وبواسطة بعض التشاخيص النوعية الكشف عن العديد من الأمراض الوراثية والصبغية،ومنها مثلاً داء الحثل العضلي نوع دوشيه وهو داء وراثي ينتقل كصفة ارثية مقهورة مرتبطة بالجنس ويصيب الذكوردون الإناث ويتصف بالضمور العضلي المترق وينتهي غالباً بالوفاة قبل سن العشرين ،وهو داء ليس له علاج حتى الأن.
ويمكن قبل الولادة تشخيص داء الكلية عديدة الكيسات وهو داء وراثي ينتقل كصفة جسمية قاهرة وتحدث أعراضه غالباً بعد العقد الثالث من العمر ويسبب قصور الكلية وارتفاع التوتر الشرياني الكلوي المنشأ.
وهناك داء الرقص من نوع هوتنغتون وهو داء وراثي ينتقل كصفة قاهرة وتحدث الأعراض غالباً في العقود الوسطى من العمر،ويمتاز باضطرابات عقلية وحدوث العته و لاعلاج له حتى الأن
وهناك داء بيلة الفنيل كيتون وهو داء وراثي ينتقل كصفة جسمية مقهورة ويمكن الآن علاجه بنجاح بواسطة الحمية الفقيرة بالفنيل ألانين. والكشف عن مرض الناعور الوراثي، وفقر الدم المنجلي، والثالازيميا..
كما يمكن بهذا الفحص الكشف عن بعض الأمراض الاستقلابية الوراثية ومنها داء غوشر، وداء نيمن بك، ومتلازمة فيسكوت ـ ألدريش…وذلك من خلال إجراء بعض الفحوص الكيميائية الحيوية.
هذه الأمراض الوراثية وغيرها يمكن الأن تشخيصها أثناء الحمل وبعدة وسائط ومنها مايسمى خزعة الزغابات الكوريونية والتي يمكن تطبيقها ابتداء من الاسبوع العاشر من الحمل، ويمكن بواسطتها إجراء تحليل الصيغة الوراثية الصبغية ومعرفة جنس الجنين.أي انه يمكن تطبيق هذه الواسطة التشخيصية بشكل مبكر أثناء الحمل وذلك في الثلث الأول من الحمل.
إن أول من كشف هذا الفحص التشخيصي كان العالم مور من الدنمارك في نهاية الستينات من القرن الماضي، وتوجد حالياً لايقل عن عشرة وسائط تقنية من أجل فحص الخزعة للزغابات الكوريونية خلال الثلث الأول من الحمل.
3 ـ بزل السائل السلوي:
ويتم البزل من خلال إبرة عبر جدار البطن الأمامي وجدار الرحم وأخذ عينة من السائل السلوي من أجل الفحص الخلوي والكيميائي الحيوي،والفحص قليل الخطورة وخاصة إذا أجري بيد خبيرة.
وهذا لايمكن إجرائه إلا ابتداء من النصف الثاني من الحمل لقلة السائل قبل هذه الفترة ، وهذا الفحص قد تطور كثيراً في السنوات الأخيرة وأصبح من الفحوص الروتينية،وأهمية هذا الفحص أنه من أهم الفحوص في الكشف عن
1 ـ الاضطرابات الصبغية عند أحد الوالدين
2 ـ بعض الأمراض الوراثية مثل داء الناعور
3 ـ إذا كانت سن الحامل فوق 35
4 ـ ولادة سابقة لطفل بداءالمنغولية(متلازمة داون)
5 ـ بعض الأمراض الإستقلابية الولادية
6 ـ بعض أمراض الأنبوب العصبي
7 ـ عيار ألفا فيتو بروتين: في السائل السلوي وإن ارتفاعه يوجه للإصابة ببعض الأمراض مثل الشوك المشقوق، وغياب الدماغ..
8 ـ إن اجراء الفحوصات الضوئية الطيفية(السبيكترو فوتو ميتري) للسائل السلوي تمكن من الكشف عن بعض الأمراض الجنينية مثل أمراض الدم الانحلالية وخاصة عامل الريسيوس
9 ـ اجراء مايسمة فحص الكروماتين الجنسي على خلايا السائل السلوي وذلك من أجل تحديد جنس الجنين، ولهذا أهميته في بعض الأمراض الوراثية التي تصيب الذكور دون الإناث وخاصة داء الحثل العضلي نموذج دوشيه،وداء الناعور النزفي الوراثي.
10 ـ ويمكن اجراء المزارع الخلوية للسائل السلوي من خلال دراسة الصبغيات الجنسية وهذا يفيد في الكشف عن بعض الأمراض الصبغية مثل متلازمة داون، وبعض الأمراض الاستقلابية الولادية وخاصة عيار تركيز بعض الخمائر التي تنقص في هذه الامراض.
ولمعرفة هل يمكن متابعة الحمل أم لابد من الإسقاط في حال الكشف عن بعض الامراض غير القابلة للعلاج أو الوقاية.
4 ـ فحص دم الجنين:
المأخوذ من الحبل السري
5 ـ بزل المشيمة:
وهذا الفحص يمكن إجرائه في الثلث الثاني والثالث من الحمل، ويتم البزل عبر البطن مع المراقبة عن طريق مافوق الصدى، وهذا الفحص يفيد بشكل خاص للتأكد من وجود تشوهات لدى الجنين أو عند الشك بها.
6 ـ تنظير الجنين:
يمكن بواسطة التنظير الكشف عن الأجزاء المرئية من الجنين ، وهذا يفيد خاصة في الكشف عن بعض التشوهات مثل: الشفة المشقوقة(الشرم). ويجرى التنظير بإدخال منظار عبر الجدار الأمامي للبطن وجدار الرحم إلى السائل السلوي، ويمكن رؤية الجنين وأخذ خزعات من الجلد أو عينات من الدم، وأفضل الأوقات لإجراء هذا الفحص الاسبوع الثامن عشر من الحمل، لأن السائل السلوي يكون بكمية وافرة بحيث يسهل إجراء الفحص، ومن مخاطر إجراء هذا الفحص خطورة حدوث الأنتانات أو الإجهاض العفوي.
7 ـ تصوير الجنين السلوي:
وهو التصوير بالمواد الشعاعية الظليلة،حيث تحقن إلى تجويف السلى، وذلك للكشف عن معالم الجنين الخارجية، ويتم ذلك بحقن مادة محلولة بالماء في حال تصوير السائل السلوي، أو مادة محلولة بالزيت في حال تصوير الجنين،حيث أن هذه المادة تمتص من خلال الطبقة الدهنية الجلدية للجنين. ويتم إجراء الفحص مابين الاسبوع 15 ـ 18 من الحمل، وخاصة في حال ارتفاع تركيز ألفا فيتو بروتين في السائل السلوي، وعند الشك بوجود اذيات الانبوب العصبي عند الجنين، أو التشوهات الخلقية الشديدة، كما يفيد هذا الفحص في الكشف عن وظيفة انبوب الهضم عند الجنين وذلك من خلال ابتلاع الجنين للسائل السلوي المحتوي على المادة الظليلة، وهذا يفيد خاصة في امراض مثل انسداد المري وانسدا العفج عند الجنين.
“وإذا المؤودة سئلت”
هناك حالات يتم بها وللأسف الشديد قتل الجنين ونذكر منها ثلاثة:
! ـ قتل الأجنة الإناث
2 ـ قتل الأجنة العديدة
3 ـ الإجهاضات الجنائية
قتل الأجنة الإناث
جاء في كثير من المراجع الغربية ومنها بعض المجلات الألمانية الطبية أنه في كل سنة يموت في الهند حوالي 300 ألف جنين أنثى،ومعظمهنّ لايرى النور، وذلك لأنه يتم إجراء فحص الصبغيات أثناء الحمل (وخاصة بواسطة بزل السائل الصائي ،وخزعة الزغابات الكوريونية)، وكذلك مافوق الصدى فإذا كانت النتيجة جنين أنثى فإن الأمهات يتعرضنّ للإجهاض الجنائي وذلك لأن الأنثى غير مرغوب بها في تلك البلاد، وقد نقص عدد السكان من الإناث في السنوات الأخيرة ومع أن الهند تلي الصين من حيث تعداد عدد السكان وبالرغم من التحسن الاقتصادي والصناعي إلا أنه قد ازدادت نسبة عدد الذكور بالنسبة للإناث في هذه البلاد،ويقال أن النسبة بالنسبة إلى الجنسين قد تغيرت من سنة 1901 وحتى الأن وبشكل مضطرد، فكانت النسبة عام 1901م 972 مولود أنثى مقابل 1000 مولود ذكر، وفي عام 1981 وصلت النسبة إلى 933 انثى مقابل 1000مولود ذكر، والنسبة في تحول مستمر لصالح الذكور.
قتل الأجنة العديدة
جاء في كثير من المراجع الطبية الغربية أنه في بعض البلدان ومنها أوروبا وأمريكا وفي حالات الحمل المتعدد الأجنة يتم قتل بعض الأجنة وإبقاء بعضها، مثلاً إذا كان هناك حمل لخمسة أجنة يتم تحويله إلى حمل ثلاثي بعد قتل جنينين داخل الرحم،أو تحويل الحمل السداسي إلى ثلاثي وذلك بعد قتل ثلاثة أجنة.
وفي مؤتمر أطباء النساء والتوليد والذي عقد في أوائل حزيران عام 1988 في مدينة أوغسبورغ في ألمانيا الاتحادية ذكر البروفسور هيرمان هيب من جامعة ميونيخ ولأول مرة وبشكل علني أن الحمل لعدة أجنة سببه غالباً المعالجة غير المراقبة لبعض حالات العقم وذلك بإعطاء بعض الأدوية المنبهة والمنشطة للإباضة حيث يتم من خلالها حدوث إباضة لعدة بيضات في نفس الوقت،وماينجم عن ذلك من حمل عديد الأجنة، وبحيث لجأ البعض إلى قتل بعض الأجنة وذلك في الثلث الأول من الحمل وذلك بحقن مادة سمية في القلب مباشرة للمضغة التي لايبلغ طولها أكثر من 3سم، وهذا الامر يتم عادة في العيادة النسائية وبإجراء المراقبة من خلال أمواج مافوق الصدى!!.
وأما ماهي القرائن التي تستعمل من أجل قتل الجنين؟ أي لماذا يقتل جنين بعينه دون غيره فلا توجد قرائن معينة، وأحياناً قد يتم قتل الجنين السليم والإبقاء على المريض المشوه!والقرينة التي تستعمل الأن هي موضع وقرب الجنين من جدار البطن للأم الحامل وبحيث يمكن الوصول إلى هذا الجنين بشكل أسهل وأفضل.
وتدل الأبحاث التي أجريت في نيويورك أن قلب المضغة يبدي مقاومة غير عادية تجاه الأذيات التي يتعرض لها، وإن المحاولات التي تجرب أحياناَ بوخز قلب الجنين من أجل أن يصاب بالنزيف لاتنجح دوماً، وحتى أن حقن مادة كلور البوتاسيوم في قلب الجنين لايسبب دوماً توقف قلب هذا الجنين ووفاته الآنية، وفي حالات ليست قليلة يبقى الجنين على قيد الحياة.
إن المخاطر الطبية والإرهاق النفسي ـ الاجتماعي للحامل التي لديها عدة أجنة هي أمر لايمكن التغاضي عنه، ولكن وبنفس الوقت لاننسى أن المعالجة الهرمونية وغير المنضبطة والمراقبة لحالات العقم قد ادى لزيادة عدد حالات الحمل العديد وذلك بنسبة 60 ضعف بالنسبة لحمل ثلاثي الأجنة، وحوالي 300 ـ 500 ضعف لحمل رباعي الأجنة بالمقارنة مع الماضي.فقد كانت نسبة الحمل ثلاثي الاجنة سابقاً 1/644 حالة، بينما في السنوات الأخيرة قد زادت بنسبة ملحوظة.
وتدل الدراسات أن حوالي 16 ـ 39 بالمائة من النساء اللاتي يعالجن بمنشطات الإباضة يتعرضن للحمل العديد الأجنة.
إن الحمل العديد قد يترافق مع حدوث مضاعفات قد تكون خطيرة على الأم الحامل ومنها الإصابة بالإرجاج النفاسي، والنزوف الشديدة بعد الوضع، وانبثاق جيب المياه الباكر، أضف إلى ذلك خطر التهاب الوريد الخثري وحدوث الصمامات الرئوية وذلك بسبب توسع الرحم الشديد وحدوث الاحتقان الوريدي.كما أن الحمل العديد قد يترافق مع الولادة المبكرة(الخداج).
والسؤال الذي يطرحه الأطباء: هل إن قتل الأجنة في حالات الحمل العديد يمكن أن يقلل من مشاكل وخطورة الحمل العديد؟
والسؤال الأخر: في حالات الحمل العديد من يكون أكثر عرضة للخطورة؟ هل هي الأم؟ أم الأجنة؟
وتبين الدراسات أن حل المشكلة لايتم إلا بالشكل الوقائي أي مراقبة إعطاء منشطات الإباضة في حالات معالجة العقم والتي كانت السبب في حدوث الحمل العديد
الإجهاض الجنائي
وهذا موضوع هام وسنعود إليه بالتفصيل والشرح لاحقاً إن شاء الله
“ويجعل من يشاء عقيماً”
الآية الكريمة: {لله مُلكُ السَّمواتِ والأرض يخلُقُ مايشاءُ يَهَبُ لمن يشاءُ إناثاً ويَهَبُ لمن يشاءُ الذكور* أو يُزَوِّجُهُم ذُكراناً وإناثاً ويجعلُ من يشاءُ عقيماً إنّه ُعليمٌ قدير}[الشورى49 ـ50]
من الناحية اللغوية:
يقال: امرأة عقيم لاتلد،ورجل عقيم لايولد له، وسميت الريح العقيم بهذا الإسم لأنها لا تأتي بالسحاب الممطر، ويوم عقيم عن يوم القيامة لأنه لم يأت بخير للكافرين. يقول الشاعر:
عُقِم النساءُ فلا يَلدنَ شبيهه إنّ النساءَ بمثلهِ عُقمُ
ويقول المعري:
قد ساءها العُقم لا ضَمَّتْ ولاولدتْ وذاك خيرٌ لها لو أُعطيت رَشدا
من الناحية الطبية:
العقم:Infertility:هو عدم القدرة على الإنجاب بعد سنتين من الحياة الجنسية الطبيعية دون استعمال أي موانع للحمل لكلا الزوجين.
إن العقم وعدم إنجاب الأطفال قد يكون سببه الرجل أو الأنثى أو الإثنين معاً، وتبين الدراسات أن حوالي 10 ـ 20 بالمائة من الزيجات لايحصل فيها الإنجاب، ويقال أن المرأة مسؤولة بنسبة 40 بالمائة عن هذا وكذلك الرجل بنسبة 40 بالمائة وكلاهما معاً بنسبة 20 بالمائة.
أهم أسباب العقم عند الأنثى:
ويقسم العقم عند الأنثى إلى :
1 ـ العقم الأولي:وهو العقم الذي يصيب المرأة منذ بداية حياتها الجنسية أو زواجها.
2 ـ العقم الثانوي:وهو الذي يصيب المرأة بعد إنجاب طفل أو حدوث حمل انتهى بإجهاض أو حمل خارج الرحم.
وأهم الأسباب عند الأنثى:
! ـ عدم نفوذية النفير:
وهو من أهم الأسباب،وفي كثير من الحالات لايستطيع النفير أن يقتنص البيضة بعد الإباضة، وخاصة لوجود تشوهات في النفير وخاصة في نهايته القمعية(الصيوان)، أو قد يكون السبب انسداد النفير بحيث لاتتمكن النطاف من الوصول إلى البيضة فيه وبالتالي عدم حدوث التلقيح والإخصاب.
إن من أهم أسباب عدم نفوذية النفير حدوث الألتهابات والالتصاقات في النفير أو التضيقات، ولعل من أهم أسباب هذه الالتهابات عقابيل الإسقاطات وحتى لو أجريت في المشافي.وكذلك فإن انسداد وتضيق النفير يشاهد تالياً للألتهابات والانتانات النسائية وخاصة بعض الأمراض المنقولة بالجنس ومنها داء السيلان …حيث انتشرت الأمراض الجنسية وبسبب الإباحية والممارسات الجنسية الشاذة، حيث توجد حوالي 250 مليون حالة إصابة بداء السيلان سنوياً في العالم، و50 ىحالة إصابة بداء الإفرنجي، كما أنه مما يساعد على حدوث الأنتانات النسائية الجماع وقت المحيض.
2 ـ اضطرابات وظيفة المبيض:
وهذا الاضطراب قد يكون بنيوياً أو قد يكون مرافقاً لأمراض أخرى أو بسبب اضطرابات جسمية أو نفسية وهذا يؤدي لعدم حدوث الإباضة مثلاً.ومن الأسباب أيضاً وجود أكياس متعددة في المبيض،أو التعرض الإشعاعي للمبيض،أو لبعض المواد الكيماوية،وخاصة قاتلات الخلايا،وهناك أيضاً التلف المبيضي بعد مرض النكاف عند الأنثى في سن البلوغ.
وكذلك أيضاًلأسباب هرمونية وخاصة على مستوى الغدة النخامية،وارتفاع تركيز البرولاكتين،….
3 ـ تبدلات في الرحم:
ومنها أمراض الرحم التشريحية كأن يكون ضامراً، أو متشعباً إلى قرنين، أو منقسماً من الداخل بحاجز، وهناك الكثير من التشوهات الخلقية الأخرى.
أو عنق الرحم:ومنها تضيقات عنق الرحم، وأحياناً قد يكون السبب السائل المخاطي في عنق الرحم والذي قد يكون لزجاً أو شديد اللزوجة والذي لايسمح للنطاف بالمرور، أو قد تكون إفرازات عنق الرحم زائدة الحموضة
وأحياناً وجود تفاعلات مناعية تجاه النطاف.
4 ـ بعض الأمراض الجهازية العامة:
ومنها داء السكري والإضطرابات الغدية الهرمونية.
5 ـ الإدمان:
الغول أو المخدرات أو الدخان، حيث تبين الدراسات أن التدخين له تاثير مثبط للإباضة، ويسبب موت البيوض، كما لوحظ أن نسبة الحمل عند المدخنات أقل، والفاصل بين الولادات لديهن أطول،وأن سن الضهي (الإياس) يحدث عندهن بشكل مبكر.
6 ـ التأثيرات الدوائية:
وخاصة المعالجة بقاتلات الخلايا مثل الكلور أمبوسيل، والسيكلوفسفاميد فهما يخربان البيوض في المبايض
7 ـ التسسمات:
وخاصة ببعض المعادن: مثل الكروم، والرصاص والمنغنيز والزنك والزئبق..
8 ـ استخدام اللولب:
كمانع للنسل ولفترة طويلة قد يؤدي فيما بعد للعقم
أهم أسباب العقم عند الذكور:
هناك أسباب كثيرة تعمل على إعاقة الرجل من الإنجاب مؤقتاً أو بصفة دائمة.وأهمها:
1 ـ السبب الرئيسي:
عدم القدرة على الجماع وذلك بسبب اضطرابات النعوظ وعدم القدرة على الإيلاج سواء لأسباب عضوية أو نفسية وهذا يسمى العنانة، أو لديه سرعة القذف فيخرج السائل المنوي سريعاً قبل الإيلاج في مهبل المرأة.
2 ـ اضطرابات تشكل النطاف:
والأمر يتعلق بعدد النطاف وحركة النطاف وشكلها. والأسباب هنا قد تكون غدية أو بسبب أمراض عامة او الإجهادات…وإن انعدام النطاف أو قلته (أقل من 20 ـ 80 مليون) يدل على وجود شذوذ في تشكيل النطاف أو نقلها.وإن اضطرابات تشكل النطاف قد يكون بسبب مرض بدئي في الخصية، او بسبب اضطراب نخامي ـ تحت المهاد.وفي بعض الحالات تكون الحيوانات المنوية ضعيفة لاتتحمل مشاق الرحلة إلى البيضة في النفير وتسمى الحالة(اسينوسبيرميا).
ومن أمراض الخصية البدئية: نذكرنقص تصنع الخصية أو ضمورها ،وخاصة لنقص الأندروجينات، وتترافق عادة مع الطواشية، ومن الأمراض المسببة لها الاضطرابات الصبغية ومنها متلازمة كلاين فلتر، وإن 20 بالمائة من أسباب انعدام النطاف هو الشذوذات الصبغية.
ومن الأسباب الهامة حدوث التهابات في الخصية وخاصة بعد الإصاية بمرض النكاف في مرحلة البلوغ،وما بعدها.
وكذلك تعرض الخصية للإشعاع أو بعض الأدوية الضارة مثل قاتلات الخلايا …
وهناك أسباب انسدادية مثل انسداد البربخ أو الحبل المنوي لعوامل خلقية،أو التهابية(السيلان،أو داء السل،)،أو بسبب بعض المداخلات الجراحية.
ومن الأسباب الهامة:تأخر نزول الخصيتين في كيس الصفن عند الولادةأي مايسمى الخصية الهاجرة.
أما ندرة النطاف فإنه يترافق غالباً مع شذوذ أشكال النطاف ونقص حركتها، وبالنسبة لحركة النطاف فإنه إذا كان أكثر من 50 بالمائة غير متحركة فلابد من معرفة هل غير المتحركة ميتة أو أنها ضعيفة الحركة، وفي حال وجود تشوه في أشكال النطاف فلابد من نفي وجود بعض الأمراض الصبغية.ومن أسباب قلة تشكل النطاف وجود بعض الأمراض الموضعية كما هو الحال في داء القيلة المنوية و حالات الفتوق أو القيلة المائية أو دوالي الخصيتين، حيث تكون الأسباب الموضعية هنا حرارية أو ميكانيكية التأثير.كما يشاهد العقم بسبب نقص تركيز الفركتوز في السائل المنوي بسبب يتعلق بالغدد المنوية أو البروستاتة.
وهناك في بعض الحالات إفراز طبيعي للنطاف ولكن لاتستطيع الوصول إلى المهبل عند الجماع بسبب وجود تضيقات في المجاري المنوية وخاصة انسدادات الأقنية الناقلة مثل البربخ والأسهر..أو عدم تدفق النطاف بشكل طبيعي في الإحليل وخاصة حدوث مايسمى الدفق العكسي(أو ارتداد القذف)،وقد تكون فتحة العضو الذكري سفلية فتوضع الحيوانات المنوية في مهبل الأنثى بعيدأ عن عنق الرحم.
3 ـ الأسباب الهرمونية:وتتعلق بخلل في وظائف الغدة النخامية،أو الغدد الاخرى التي تؤثر على وظيفة الخصية مثل الغدة الدرقية والكظر والبنكرياس.
ويمكن القول أن هناك بعض العوامل تضر بتشكيل الحيوانات المنوية عند الرجل ومنها:
1 ـ التدخين:والمخدرات مثل الماريجوانا والهيروئين،وإدمان الخمور
2 ـ التعرض المتكرر للتلوث الكيميائي:مثل الاستنشاق المستمر لمبيدات الحشرات،وتعرض الحوض للحرارة العالية المستمر(مثل الوقوف باستمرار أمام الأفران،ولبس الملابس الضيقة الداخلية.
3 ـ نقص بعض الفيتامينات زمنها الفيتامين ج
4 ـ استعمال بعض الأدوية ومنها المواد المنشطة التي يستعملها البعض لتربية العضلات ومن أجل الرياضة.
5 ـ ارتفاع الضغط الدموي المستمر وغير المراقب،والداء السكري.والبدانة المفرطة.
“والوالدات يرضعن أولادهن”
الآيات الكريمة:
{والوالداتُ يُرضِعنَ أولادَهُنَّ حَولينِ كاملينِ لمن أرادَ أن يُتِمَّ الرَّضاعة وعلى المولودِ لهُ رزقهُنَّ وكِسوتهنَّ بالمعروفِ لا تُكَلفُ نفسٌ إلا وُسعَها لا تُضارَ والدةٌ بولدها ولا مولودٌ لهُ بولدهِ وعلى الوارثِ مثلُ ذلك فإن أرادا فِصالاً عن تراضٍ منهما وتشاور فلا جُناحَ عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادَكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير} [البقرة 233 ]
{ووصينا الإنسانَ بوالديهِ إحساناً حملتهُ أمهُ كُرهاً ووضعتهُ كُرهاً وحملهُ وفِصالهُ ثلاثون شهراً}[الأحقاف15 ]
{وإن كُنَّ أولاتِ حملٍ فأنفقوا عليهنَّ حتى يضعنَ حَملهنَّ فإن أرضعنَ لكم فآتوهنَّ أجورَهُنَّ وأتمروا بينكم بمعروفٍ وإن تعاسرتم فسترضعُ لهُ أخرى} [الطلاق6 ].
{حَمَلتهُ أُمُّهُ وَهناً على وهنٍ وفِصالُهُ في عامين}[لقمان14]
الأحاديث الشريفة:
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي، فإذا امرأة من السبي كانت قد فقدت صبيّها،وتضررت باجتماع اللبن في ثدييها، فكانت تحلب ثديها تسقى، وإن وجدت صبياً في السبي أخذته فأرضعته ليخفّ عنها، فلما وجدت صبيّها بعينه أخذته فالتزمته فألصقته ببطنها وأرضعته،فقال النبي صلى الله عليه وسلم:”أترون هذه طارحة ولدها في النار؟قلنا: لا، وهي تقدر على أن لاتطرحه. فقال: لله أرحم بعباده من هذه بولدها”.[رواه الشيخان].
من الناحية الأدبية:
قال القتّال الكلابي(عُبيد بن المَضرحي):
لا أرضعُ الدهرَ إلا ثديَ واضحةٍ لواضحِ الخدِّ يحمي حَوزةَ الجار
(اي لم ترضعني إلا أمي وهي كريمة، واضحة: كريمة).
وقال أبو الطّمحان القَيني:
وإني لأرجو مِلحها في بطونكم وما بَسطتْ من جِلْدِ اشعثَ أغبرا
(قال المبرد في الكامل ج2 ص619: الرّضاع يسمى عند العرب أيضاً الملِحُ)
التفاسير:
ابن كثير: إن الآية الكريمة في سورة البقرة هي إرشاد من الله تعالى للوالدات أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة وهي سنتان فلا اعتبار بالرضاعة بعد ذلك.
الإمام القرطبي: قوله تعالى “حولين” أي سنتين كاملتين قيد بالكمال .
الإمام الشوكاني: في قوله تعالى: ” لمن أراد أن يتم الرضاعة” أي ذلك لمن أراد أن يتم الرضاعة،وفيه دليل على أن إرضاع الحولين ليس حتماً بل هو التمام ويجوز الاقتصار على ماهو دونه.
وذهب أكثر الأئمة إلى أنه لايحرم من الرضاعة إلا ماكان دون حولين فلو ارتضع المولود وعمره فوقهما فلايحرم.
وجاء في الحديث الشريف الذي رواه مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه: ” ما رأيت أحداً كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم،قال: كان إبراهيم مُسترضعاً له في عوالي المدينة،فكان ينطلق ونحن معه،فيدخل البيت وإنه لَيُدّخن،وكان ظئرهُ قَينا،فيأخذه فيقبله،ثم يرجع.قال عمرو:فلما توفي إبراهيم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:إنّ إبراهيم إبني ،وإنّه ماتَ في الثدي، وإنَّ له لظئرين تُكمّلان رضاعة في الجنة” وفي رواية البخاري” إن له مرضعاً في الجنة“، وقال عليه الصلاة والسلام ذلك لأن ابنه إبراهيم مات وله سنة وعشرة أشهر، فقال: ” إن له مرضعاً” يعني تكمل رضاعته.
من الناحية الفقهية:
إن الرضاعة حقٌّ ثابت للرضيع بحكم الشرع ،وقد صرح الفقهاء بأن الرضاعة “حق للولد“،ولا خلاف بينهم في أنه يجب إرضاع الطفل مادام في حاجة إليه.وعللوا ذلك بقولهم:أن الرضاع في حق الصغير كالنفقة في حق الكبير.
وقالت لجنة الفتوى بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في الكويت(نشر في جريدة القبس بتاريخ 24 تشرين الأول عام 2019م):
“في حال قيام الزوجية يجب على الأم إرضاع ولدها.ما لم يكن بها عذر يمنع من إرضاعه،كأن كانت مريضة.
ـ وأيضاً يجب عليها إرضاعه إذا كانت مطلقة،ولم يقبل الطفل غيرها.
ـ وكذا إذا عدم الأب،ولا مال له ولا للطفل،لاختصاصها بذلك.قال تعالى:{والوالداتُ يُرضعنَ أولادَهُنَّ حولينِ كاملينِ لمن أرادَ أن يُتمَّ الرَّضاعةَ وعلى المولودِ لهُ رزقُهُنَّ وكِسوتُهنَّ بالمعروفِ لا تُكلَّفُ نفسٌ إلا وُسعها لا تُضارَ والدةٌ بولدها ولا مولودٌ لهُ بولدهِ وعلى الوارثِ مثلُ ذلكَ فإن أرادا فِصالاً عن تراضٍ منهما وتشاورٍ فلا جناحَ عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جُناحَ عليكمْ إذا سلَّمتم ما أتيتم بالمعروفِ واتقوا الله واعلموا أنَّ الله بما تعملونَ بصيرٌ}[البقرة 233].
ـ فإذا امتنعت عن إرضاعه بغير عذر كانت آثمة،لأنها امتنعت عن أداء واجب شرعي عليها.وفيه تحقيق مصلحة الطفل،والحفاظ على حياته،ودّه بقسط من حنانها وعطفها لا يجده في غيرها.
ـ أما الانتقال من الرضاعة الطبيعية إلى الحليب الصناعي،فإنه يجب ألا يلجأ إليه إلا في حالة الضرورة،بأمر الطبيب المختص،وفي حالة وجود ظروف صحية تحيط بالأم أو الطفل تدعو إلى ذلك،فإذا وجدت جاز ذلك للضرورة وإلا لا يجوز.
من الناحية العلمية الطبية:
فيزلوجيا الثدي والإرضاع:
الثدي عبارة عن غدة افرازية جلدية مُعدّلة إلى بنية وظيفية معقدة عند الأنثى، بينما حافظت على بنيتها البدئية عند الذكر.
إن الثدي يتألف من عدد كبير من الفصيصات، والتي يتألف كل منها من عدد من الأسناخ أو العنبات التي توجد في بحر من النسيج الشحمي الغزير،وإن إفرازات الخلايا العنبية التي تبطن الأسناخ تمر من خلال أقنية دقيقة وهذه تتحد لتشكل قناة لبنية واحدة تخرج من الفصيص وتجتمع إلى مثيلاتها لتخرج من الفص الواحد بقناة لبنية مفرغة واحدة،وهذه الأقنية تتجه نحو حلمة الثدي وحيث تنفتح هناك كل منها بفتحة دقيقة دون المم الواحد.
إن هرمون الأستروجين يلعب دوراً هاماً ورئيسياً في نمو الأقنية العنبية،وإن إعطاء البروجستون مع الأستروجين معاً يؤدي لنمو الأقنية العنبية وأيضاً نمو العنبات الثديية.
إن الهرمونات التي تتدخل في نمو الثدي ووظائفه هي: هرمون اللبن(البرولاكتين)، وهرمون النمو من الفص الأمامي للغدة النخامية، والاستروجين ، والبروجسترون،كما أن هرمون الغدة الدرقية يلعب دوراً أيضاَ.وكذلك هرمونات قشر الكظر.
إن الضغط على الثدي أثناء الحمل قد يسبب إفراغاً بسيطاً لبضع قطرات من اللبن،ولكن إفراز اللبن لايتم بصورة طبيعية حتى اليوم الثاني أو الثالث من الولادة.ويظن أن الثدي يكون عاجزاً عن إفراز اللبن اثناء الحمل لوجود تراكيز عالية من الأستروجين والبروجسترون في الدوران الدموي للحامل،وبعد الولادة تتراجع هذه التراكيز يضاف إليها إفراز كميات عالية من هرمون البرولاكتين،مع التأكيد على أن هرمون البرولاكتين لايقوم بعمله إلا بعد تحضير الثدي سلفاً بواسطة هرموني الاستروجين والبروجسترون،أي أن الكل يكمل بعضه من هذه الناحية.
إن هرمون اللبن أي البرولاكتين يقوم بعمله بعد الولادة ولكن مما يساعد على إدرار اللبن وزيادة كميته أن يقوم المولود الرضيع وباستمرار على الرضاعة من ثدي أمه،فالرضيع القوي النشيط الصحيح والذي يرضع بصورة نشيطة ومستمرة يسبب إدراراً للبن أكثر بكثير من الرضيع الذي لايرضع بشكل مستمر ونشيط.وإن مص حلمة الثدي من قبل الرضيع ينشط منعكسات تستدعي تنشيط إفراز بعض الهرمونات وخاصة هرمون البرولاكتين وهرمون الأوكسيتوسين،والهرمون المضاد للإدرار من الغدة النخامية العصبية،والحاثة القشرية من غدة قشر الكظر.
كما أن العوامل النفسية تلعب دوراً سلبياً أو إيجابياً من حيث إدرار وإفراز اللبن ولهذا ينتبه عدم تعرض المرضع لأي هزّات نفسية أو انفعالية ،وهذا يتم من خلال منعكسات مرتبطة بمنطقة تحت المهاد الدماغية.وإن حلمة الثدي غنية بالنهايات العصبية والمستقبلات التي ترتبط مع منطقة تحت المهاد.
إن السائل الذي يفرزه الثدي خلال الأيام الثلاثة الأولى من النفاس وبعد الولادة(وأحياناً في الأشهر الأخيرة من الحمل) يسمى اللبأ أو الصمغة،وإن هذا السائل الأصفر ذو تفاعل قلوي، ويمتاز بارتفاع كثافته،و يكون غنياً بالبروتين والفيتامين Aوالغلوبولينات المناعية والصوديوم والكلور،وفقيراً بالسكر والبوتاسيوم والدسم.واللبأ له تأثير مُلين طبيعي وهو الغذاء المثالي الذي يبدأ به الرضيع.
وإن لبن الأم يعتبر غذاءً كاملاً لاحتوائه على عناصر الغذاء جميعها.
ولابد للأم المرضع من التغذية الجيدة والكاملة حتى تستطيع أن تعوض ماتخسره في اللبن الذي يفرزه الثدي وخاصة تعويض البروتينات والكلسيوم والحديد،وإلا أثرّ ذلك على صحتها، لأن هذا كله يؤخذ من خلايا جسمها وعظامها.
ولابد من الانتباه بالنسبة للأم المرضع وخاصة فيما يتعلق بتناول بعض الأدوية إذ أن هناك كثيراً من الأدوية يمكن أن تطرح مع حليب الأم وبالتالي تصل إلى الرضيع وخاصة بعض الصادات ومضادات الحيوية.
إن الأطفال الرضع يعرفون كيف يرضعون بالغريزة،فبمجرد أن تلامس شفتي الرضيع حلمة الثدي حتى يبدأ بالرضاعة،ولكن على الأم التنبه أثناء الرضاعة من حسن تنفس الرضيع، حيث أن شفة الرضيع العليا تسد أنفه أثناء الرضاعة، وقد يحدث ذلك خاصة نتيجة ضغطه على ثدي الأم.ولذا فعلى الأم ان تبقي ثديها بعيداً عن أنف الرضيع وذلك برفعه من خلال إبهامها والسبابة.وإذا لم يتمكن الرضيع من التنفس جيداً اثناء الرضاعة فإنه يعبر عن غضبه بالصراخ والبكاء.
وينصح للأم المرضع أن تعطي الطفل الثديين في كل رضاعة، حتى يساعد ذلك على التنبيهات العصبية والهرمونية والتي تساعد على إفراز وإدرار اللبن.وإن الطفل يحصل غالباً على حاجته من الحليب واللبن خلال الدقائق الأولى من الرضاعة،وإذا طال زمن الرضاعة فلأن الطفل يفعل ذلك كمهدئ ولابد من الانتباه إلى أن الرضاعة تترافق مع ابتلاع الرضيع لكمية كبيرة من الهواء،ولذا لابد من مساعدته لإخراج هذه الغازات من المعدة لديه بحمله في وضع قائم أو على الكتف مع وضع معدته على صدر من يحمله.
إن معظم الأطفال الرضع يحتاجون إلى الرضاعة أثناء الليل خلال الاشهر الثلاثة الأولى من العمر،فليس من العدل منعهم عن تناول هذه الوجبات الليلية وإلا كان هذا أنانية من الأم، ويعبر عن جوعه وسخطه بالبكاء فهذا هو السلاح الوحيد الذي يمتلكه،مع التنبيه أن البكاء قد لايكون بسبب الجوع وحده بل إنه قد يبكي لأنه بحاجة لمن يسبغ عليه الدفء والحنان وهذا يتجلى في توقفه عن البكاء مباشرة بعد أن يُحمل!! وقد يبكي بعض الأطفال وخاصة في المساء وخاصة في الأشهر الأولى وذلك بسبب مايسمى مغص المساء وسببه تجمع الغازات في معدته وأمعائه وهنا يمكن استعمال بعض المعالجات الخاصة مثل مغلي البابونج واليانسون والذي ينصح به الأطباء عادة قبل رضاعة المساء.وفي البداية يحتاج الرضيع إلى وجبة كل ثلاث ساعات ومن ثم إلى وجبة كل أربع ساعات.
فوائد الإرضاع الطبيعي:
يقول الأستاذ الدكتور أحمد شوكت الشطي رحمه الله في أحد أعداد مجلة حضارة الإسلام في مقال بعنوان” نظرات في الولد وحبه وحقوقه:
“إن من أعظم حقوق الولد على أمه تأمين غذائه بإرضاعه من ثديها وإذا كانت الطبيعة وهبت الولد للوالدين هبة إلهية فقد جعلت غذائه لبن أمه وأعدّتها لذلك إعداداً طبيعياً وغريزيا. فلبن امه غذاؤه الوحيد الكامل الذي يستطيع هضمه وامتصاصه والذي يتكيف في كل حين تكيفاً يناسب حالة الرضيع وسن الطفل.ولقد جعل الله فم الطفل مُهيئاً للمص فشفته العليا عالية يلتقي طرفا قوسها على هيئة زاوية حادة وأما شفته السفلى فمنحنية ويشاكل انطباعها انطباع عضة العلقة تماما التي خلقت لتعيش بالمص.ومما يؤكد ذلك أن صورة فم الرضيع تتبدل متى أخذ يتغذى باللبن وغيره في القسم الثاني من طفولته أي فيما بعد الشهر الثامن”. ويتابع رحمه الله:
“يؤلم الباحث أن يرى فئة من النساء عندنا يهملن حق أولادهن هذا عليهن فيمتنعن عن الرضاعة ماوجدن إلى ذلك سبيلا. لقد أخذت المرأة البعيدة عن الدين ،المتظاهرة بمدينة مزيفة تضن على صغارها بثدييها فهي ترجح الرضاعة الأصطناعية لولدها على الرضاعة الطبيعية من ثدييها وما ذلك إلا لأن الرضاعة الاصطناعية تفيدها وتحفظ لها جمال ثديها على ماتزعم جهلا وبهتانا.لقد أخذت هذه الفئة من النساء تضن على ولدها أضعف المخلوقات كلها حين ولادته أحوج مايكون إلى ثديها بلبنها،مع أنه أعد إعداداً متقنا وأحكم بناؤه وتكوينه ليتغذى الولد منه.ويتابع:
” لقد أحجمت المرأة عن الإرضاع منقادة إلى دافع أناني بحت ناسية متناسية أن حرمان الولد من ثديها يعرضه إلى أشد الأمراض فتكا وأكثرها خطرا،أمراض لا ينجو منها إلا الأولاد القليلون الذين كتب الله لهم الحياة فقاوموا الأخطار والأمراض التي جرفت الكثيرين من أمثالهم فأوردتهم موارد الهلاك وساقتهم إلى المنية والحمام.ويتابع:
” لقد ثبت أن لبن الأم غذاء ودواء لأن الطفل الراضع لبن أمه يدخر منه أضداد السموم والجراثيم فيضيفها إلى ماورثه عنها من مناهضات للعناصر المؤذية في لحمه ودمه فيقاوم بها العفونات مقاومة أشد من مقاومة الولد الراضع رضاعة اصطناعية”.انتهى كلام د الشطي.
إن الأطفال الذين يرضعون من أمهاتهم هم أطفال سعداء،وهذا القول القديم الحديث أثبتته الدراسات العلمية والتجارب الحياتية منذ عشرات السنين وإن كانت الشريعة الإسلامية والقرآن الكريم قد بينوا ذلك منذ مئات السنين.وتؤكد كل الدراسات العلمية وخاصة في معاهد الصحة والتغذية في أمريكا وأوروبا أنه لايوجد بديل مشابه تماماً لحليب الأم، وأنه بالإضافة للقيمة الغذائية الكاملة الشاملة التي يتمتع بها هذا الحليب فإنه بالإضافة إلى ذلك يتم نمو الأطفال الرضع من حليب الأم ضمن شروط مثالية ومناسبة وملائمة لاتتوفر في الحليب الصناعي أضف إلى ذلك مايوفره الإرضاع الطبيعي من زيادة الرابطة النفسية والعاطفية مابين الأم والرضيع.
وتبين الدراسات بأن الإرضاع الطبيعي وخاصة في الأشهر الستة الأولى من حياة الرضيع ذو أهمية خاصة فيما يتعلق بالنمو الجسمي للطفل، ومن المعترف به علمياً وطبياً بأن المواد الغذائية في حليب الأم وعلى الرغم من التطور الكبير والواسع الذي طرأ على الإرضاع الصناعي فإنه لايمكن للأخير أن يعوض تماماً حليب الأم.وينصح معظم الأطباء في العالم بالإرضاع الطبيعي وخاصة في الأشهر الستة الأولى من حياة الرضيع.وقد زاد مثلاً عدد الأمهات الشابات المرضعات في ألمانيا في السنوات الأخيرة، وازدادت فترة الرضاعة، وتبين الإحصائيات ارتفاع النسبة من 7 بالمائة عام 1977 إلى حوالي 15 بالمائة عام 1980.
جاء في المجلة الطبية الألمانية العدد 25 بتاريخ 24 حزيران عام 2016 عن فوائد الارضاع الطبيعي مايلي وباختصار:
“إن الإرضاع الطبيعي وحليب الأم هو الشكل النموذجي والمثالي لتأمين حاجة الرضيع من العوامل الغذائية التي يحتاج إليها،وهو يؤمن للرضيع النضج والنمو والتطور الطبيعي المطلوب.وهو غذاء صحي لاتتطرق إليه العوامل المرضية،ويتوفر في كل وقت، وذو حرارة طبيعية مناسبة للرضيع.وبالإضافة إلى العناصر الغذائية الضرورية فإنه يحتوي على العوامل المناعية المضادة للإنتانات والإلتهابات،وتبين الدراسات العلمية أن ألارضاع الطبيعي يقلل من نسبة حدوث الالتهابات الحادة ومنها التهاب الأذن الوسطى الحاد إلى النصف بالمقارنة مع التغذية الصناعية،كما أن الإرضاع الطبيعي يُقلل من نسبة الإلتهابات الهضمية والإسهالات عند الرضع بالمقارنة مع التغذية بالزجاجة والحليب الصناعي.كما لوحظ ان مايسمى”تناذر موت الوليد المفاجئ” يشاهد بنسبة أقل في حالات الارضاع الطبيعي بالمقارنة مع التغذية بالزجاجة.كما أن نسبة اصابة المواليد بالربو والتهابات الجلد الحرضية أقل حدوثاً في حالات الرضاع الطبيعي.
ومن جهة أخرى فإن الرضاع الطبيعي يقوي من الرابطة العاطفية بين الام والرضيع. والإرضاع يساعد على تراجع ضخامة الرحم عند الأم بعد الولادة، كما أن المرضعات أقل عرضة للاصابة بسرطان الثدي من غير المرضعات”.انتهى كلام المجلة الطبية الألمانية.
يقول الإمام الفخر الرازي رحمه الله في تفسيره:
“اعلم أن حدوث اللبن في الثدي واتصافه بالصفات التي باعتبارها يكون موافقا لتغذية الصبي مشتملة على حكم عجيبة وأسرار بديعة،يشهد صريح العقل بأنها لاتحصلً إلا بتدبير الفاعل الحكيم والمدبر الرحيم.وبيانه من وجوه منها:
أولاً:إنه في الوقت الذي يكون فيه الجنين في رحم الأم ينصب من الدم نصيب وافر إليه حتى يصير مادة لنمو أعضاء الجنين وازدياد وزنه فإذا انفصل الجنين عن الرحم ينصب ذلك النصيب إلى جانب الثدي ليتولد منه اللبن الذي يكون غذاء له،فإذا كبر الولد لم ينصب ذلك النصيب لا إلى رحم الأم ولا إلى الثدي،بل ينصب على مجموع بدن المتغذي فانصباب ذلك الدم في كل وقت إلى عضو آخر انصباباً موافقاً للمصلحة والحكمة لايتأتى إلا بتدبير الفاعل المختار الحكيم.
ثانياً:أنه عند تولد اللبن في الضرع،أحدث الله تعالى في حُلمة الثدي ثقوباً صغيرة ومسام ضيقة،وجعلها بحيث إذا اتصل المص والحلب بتلك الحلمة انفصل اللبن عنها في تلك المسام الضيقة،ولما كانت تلك المسام ضيقة جداً، فحينئذ لايخرج منها إلا ماكان في غاية اللطافة والصفاء،وأما الأجزاء الكثيفة فإنها لاتمكن من الخروج من تلك المنافذ الضيقة فتبقى في الداخل، والحكمة في إحداث تلك الثقوب الصغيرة والمنافذ الضيقة في رأس حلمة الثدي أن يكون ذلك كالمصفاة، فكل ماكان لطيفاً خرج وكل ما كان كثيفاً احتبس في الداخل ولم يخرج.فبهذا الطريق يصير ذلك اللبن خالصاً موافقاً لبدن الطفل سائغاً للشرب.
ثالثاً:أنه تعالى أودع الطفل غريزة المص لينتفع من اللبن الموجود في ثدي أمه”.
ويقول الشهيد سيد قطب رحمه الله في “الظلال:
“والله يفرض للمولود على أمه أن ترضعه حولين كاملين، لأنه سبحانه يعلم أن هذه الفترة هي المثلى من جميع الوجوه الصحية والنفسية للطفل”لمن أراد أن يتم الرضاعة“، وتثبت البحوث الصحية والنفسية اليوم أن فترة عامين ضرورية لنمو الطفل نمواً سليماً من الوجهة الصحية والنفسية.ولكن نعمة الله على الجماعة الإسلامية لم تنتظر بهم حتى يعلموا هذا من تجاربهم، فالرصيد الإنساني من ذخيرة الطفولة لم يكن ليترك يأكله الجهل كل هذا الأمد الطويل، والله رحيم بعباده، وبخاصة هؤلاء الصغار الضعاف المحتاجين للعطف والرعاية”.
يقول سيد قطب رحمه الله (نقلاً عن كتاب الله والعلم الحديث للأستاذ عبد الرزاق نوفل)في قوله تعالى من سورة القمر:{إنا كل شىءٍ خلقناه بِقَدر}:
“والثدي يفرز في نهاية الحمل وبدء الوضع سائلاً أبيض مائلاً إلى الاصفرار.ومن عجيب صنع الله أن هذا السائل عبارة عن مواد كيماوية ذائبة تقي الطفل من عدوى الأمراض.وفي اليوم التالي للميلاد يبدأ اللبن في التكوين.ومن تدبير المدبر الأعظم أن يزداد مقدار اللبن الذي يفرزه الثدي يوماً بعد يوم،حتى يصل إلى حوالي ليتر ونصف في اليوم بعد سنة،بينما لاتزيد كميته في الأيام الألولى على بضع أوقيات.ولا يقف الإعجاز عند كمية اللبن التي تزيد على حسب زيادة الطفل،بل إن تركيب اللبن كذلك تتغير مكوناته،وتتركز مواده،فهو يكاد يكون ماء به القليل من النشويات والسكريات في أول الأمر،ثم تتركز مكوناته فتزيد نسبته النشوية والسكرية والدهنية فترة بعد أخرى،بل يوماً بعد يوم بما يوافق أنسجة وأجهزة الطفل المستمر النمو”.
وأهم الفوائد في حليب الأم مايلي:
1 ـ إن حليب الأم هو خالٍ تماماً من العناصر المرضية، ويحتوي على مواد مناعية فعالة تجاه الإنتانات ولحماية الرضيع ومنها الغلوبولينات المناعية، وكذلك الكريات البيضاء من نوع بالعات الكبار والتي توجد بنسبة الخمس من تركيزها في الدم الوالدي وهذه الكريات تقوم بابتلاع الجراثيم كما يحتوي لبن الأم على مادة الانترفيرون التي لها دور هام مضاد للفيروسات..
أي أن حليب الأم باحتوائه على الغلوبولينات المناعية وخاصة منها الغلوبولين الإفرازي” A،والكريات البيض ومادة الانترفيرون يُهئ للرضيع عوامل المناعة الخلوية والخلطية التي تقيه من الالتهابات الجرثومية والفيروسية.
وإن الأطفال الذين يتناولون حليب الأم أقل إصابة بنسبة ست مرات بالإسهال الصيفي مثلاً بالمقارنة مع الإرضاع الصناعي.وإن نسبة التهاب المعدة والأمعاء الحاد أقل بكثير في حالات الإرضاع الطبيعي عند الأطفال بالمقارنة مع الإرضاع الصناعي.ولاننسى أنه يندر أن يكون الحليب في الإرضاع الصناعي خالياً تماماً من التلوث سواءٍ عند عملية الحلب من البقر، أو باستخدام الآنية في تحضيره أو بسبب تلوث زجاجة الإرضاع.ولاننسى أن درجة حرارة حليب الأم ثابتة وملائمة لحرارة الطفل وهذا لايتوفر دوماً في الحليب الصناعي.
2 ـ إن حليب الأم وبعد الولادة مباشرة يحتوي مادة اللبأ “الصمغة” وهذه المادة تقي الرضيع من الإنتانات وخاصة بعد الولادة مباشرة.وهذه المادة تكون غنية جداً بالبروتين والعناصر المعدنية، وفقيرة بالدسم والسكريات، وتحتوي نسبة عالية من الأضداد المناعية، كما أن مادة اللبأ ذات تأثير ملين لأمعاء الرضيع.
كما أن حليب الأم سهل الهضم حيث يتم هضمه في معدة الوليد خلال فترة لاتتجاوز الساعتين،أي تنفرغ المعدة كاملاً خلال هذه الفترة،بينما لايتم انفراغ المعدة من حليب البقر قبل مرور ثلاث ساعات وذلك لأن ذرة لبن المرأة الآحينية دقيقة وتتجزأ بسهولة في المعدة على عكس ذرة لبن البقر.
3 ـ كما أن حليب الأم الطبيعي يسبب نقص عدد حالات التحسس التي تلاحظ في الإرضاع الصناعي ولذا كان الرضيع بالحليب الطبيعي أقل إصابة وبنسبة كبيرة من أطفال الإرضاع الصناعي بأمراض التحسس، ونذكر منها بشكل خاص حالات الإكزيما الجلدية الحرضية لدى الرضيع فهي أكثر في حالات الإرضاع الصناعي بحوالي سبعة أضعاف،وإن هذه الإكزيما الجلدية قد تتحول لدى حوالي 60 بالمائة من هؤلاء الأطفال إلى مرض الربو والتهاب الأنف التحسسي والأمراض الحرضية الأخرى.
4 ـ كما أنه من النادر أن تشاهد حالات فرط التغذية بالنسبة للرضع بالحليب الطبيعي بينما تشاهد وفرة حدوثها في الإرضاع الصناعي، وذلك لوجود آليات منظمة معينة تضبط التغذية وكمية الحليب الوارد للرضيع في الإرضاع الطبيعي والتي لاتحدث في حالات الإرضاع الصناعي.
5 ـ إن حليب الأم يتغير خلال نصف ساعة من الرضاعة، ففي البدء يكون سائلاً قليل اللزوجة حتى يفقد الرضيع حسّ العطش، ومن ثم يصبح أكثر لزوجة حتى يشبع الطفل، وبهذا التحول يتغدى الرضيع بشكل جيد وبشكل يجعله لايأخذ فوق حاجته وبالتالي لايتعرض لفرط التغذية والبدانة المفرطة.
6 ـ يحتوي حليب الأم على بعض الخمائر التي تُحسّن هضم الدسم لدى الرضيع.وتستطيع معدة الرضيع إفراغ محتواها من الحليب الطبيعي خلال 90 دقيقة، وتبقى حموضة المعدة طبيعية ومناسبة للقضاء على الجراثيم. بينما يتأخر إفراغ المعدة لدى الرضيع بالإرضاع الصناعي حوالي 3 ـ 4 ساعات وذلك لوجود خثرات الجبن،كما أن حليب البقر غني بالأملاح المعدنية والتي تؤثر في حموضة المعدة مما يؤهب لنشاط بعض الجراثيم ومنها العصيات القولونية والتي تسبب الإقياء والإسهال.
7 ـ يحتوي حليب الأم على مجموعة من السكريات التي يصعب تقليدها بالإرضاع الصناعي، وهذه السكريات تسهل وجود بعض الجراثيم “المفيدة” في أمعاء المريض والتي تهاجم العناصر المرضية الضارة ،كما أنها تساعد في امتصاص بعض الفيتامينات وغيرها من العناصر الغذائية.حيث تبين أن حليب الأم يحتوي كميات عالية من سكر اللاكتوز وكميات قليلة من الفسفور وكميات أقل من مادة الجبنين”الكاسئين” بالمقارنة مع حليب البقر وهذا يجعل بيئة الأمعاء لديه حمضية وتساعد على مقاومة العناصر المرضية وخاصة الجرثومية.
كما أن حليب الأم يحتوي الأحماض الدهنية الضرورية ومنها حمض التورين وهذا هام في نمو الدماغ والقلب والعضلات،كما أنه يحتوي على الحموض الدهنية اللامشبعة وهي سهلة الامتصاص و لاتتحد مع الكلسيوم في الأمعاء.كما أنه فقير بالحمض الأميني “الفنيل الانين” وهذا يسبب في حالات ارتفاعه بعض الأمراض الاستقلابية النادرة، وسنتكلم عنها في موضع آخر.
8 ـ وأضف إلى ذلك مايوفره الإرضاع الطبيعي من زيادة الرابطة النفسيةـ العاطفية مابين الأم والطفل، وإن شعور الطفل بالحنان والدفء وتماسه مع الأم يؤثر بشكل إيجابي على نموه وتطوره، وكذلك يؤثر على نفسية الطفل فيما بعد.
9 ـ بعض الدراسات تشير إلى أن نسبة حدوث مايسمى موت الرضيع المفاجئ مجهول السبب أقل في حالات الإرضاع الطبيعي بالمقارنة مع الصناعي.
10 ـ أضف إلى ذلك أن الإرضاع الصناعي يحتاج إلى تحضير الحليب وتسخينه وتعقيمه فهو ضياع للوقت وللجهد بينما حليب الأم متوفر وجاهز وعقيم ولايحتاج إلى تحضير.كما أن حرارة لبن الأم ثابتة وبدرجة واحدة من الحرارة في جميع الرضعات، بينما يصعب توفر هذا الشرط في الارضاع الصناعي.
11ـ وكذلك تدل الدراسات على أن الإرضاع المستمر هو وسيلة ناجحة لمنع الحمل وذلك لأن مص حلمة الثدي يؤدي لإفراز هرمون البرولاكتين من الغدة النخامية وهذا يؤدي لزيادة إفراز اللبن وبنفس الوقت يثبط الإباضة عند المرضع عن طريق تثبيط إفراز بعض الهرمونات الأخرى بحيث أن المرأة لاترى طمثاً وهذا يشاهد بنسبة 60 بالمائة من الحالات،ولكن عند رؤية الطمث فإنه ترتفع نسبة حدوث الحمل عشرة أضعاف.وعلى الرغم من الآليات البيو كيميائية التي تثبط الإباضة أثناء الإرضاع غير معروفة تماماً إلا أن الكثيرين ينصحون بالإرضاع الطبيعي بعد النفاس كوسيلة ناجعة لمنع الحمل وخاصة مايسمى الإرضاع العشوائي(أي عند حاجة الطفل) حيث تبين أن منعكس مص حلمة الثدي المتكرر عدة مرات أثناء اليوم والليل له تأثير فعال.
وقد جاء في مجلة اللانست الطبية المشهورة بتاريخ 19 تشرين الثاني عام 1988م أن الإرضاع الطبيعي يعتبر من الوسائل الهامة لتنظيم النسل،ووسيلة لتبعيد الفاصل مابين الحمول.
12 ـ كما أن الإرضاع الطبيعي بعد الولادة مباشرة وعن طريق منعكس المص يؤدي لإفراز مادة الأوكستوسين وهذا الهرمون يساعد على انقباض الرحم بعد الولادة وطرح البقايا الدموية وعودة الرحم لحجمها الطبيعي .
13 ـ تدل الدراسات أن النساء المرضعات أقل عرضة لسرطان الثدي من غير المرضعات، وتقل نسبة حدوث هذا السرطان كلما أكثرت الأم من الإرضاع .
14 ـ يشاهد حدوث الكساح ولين العظام بنسبة أقل بكثير في حالات الإرضاع الطبيعي وذلك لاحتواء حليب الأم كميات كافية من الكلسيوم والفيتامين د بالمقارنة مع الألبان الصناعية وخاصة لبن البقر.كذلك فإن امتصاص الحديد يتم بشكل أفضل في الإرضاع الطبيعي وذلك لأن لبن الأم يحتوي مادة لاكتوفيرين” وهي تساعد في امتصاص مادة الحديد في أمعاء الرضع.”
15 ـ وهذا بغض النظر عن التكاليف العالية التي تنجم عن استهلاك الألبان والحليب الصناعي .فالارضاع الطبيعي اقتصادي فهو يوفر ثمن اللبن والزجاجات والحلمات ويوفر في وقت الأم الذي يستغرقه تجهيز الرضعات في حالات الارضاع الصناعي.
16ـ وقد توصل فريق من الباحثين بجامعة ” غرب استراليا ” بقيادة العالم “مارك سريجان” أستاذ علم الأحياء الجزيئي عام 2008م ، لكشف علمي مفاده أن حليب الأم يحتوي على الخلايا الجذعية. وانها توجد بتركيز عالي وخاصة في اللبأ وهو حليب الأم وخاصة في الأيام الخمسة الأولى بعد الولادة، وهذا أمرهام ومفصلي .
إن الخلايا الجذعية هي خلايا غير متخصصة وهي قادرة وتحت شروط وظروف معينة على التخصص والانقسام والتكاثر لتكوين خلايا بالغة من أي عضو في الجسم، وهذا أمر هام جداً. وهذه الخلايا تم عزلها لأول مرة عام 1998م وهي نوعان: الخلايا الجذعية الجنينية، وتستخرج من الأجنة نفسها، والخلايا الجذعية البالغة وتستخرج من أنسجة الجسم كنقي العظم والرئة والقلب والعضلات …
ولعل في اكتشاف هذه الخلايا الجذعية في حليب الأم المرضع أهمية كبرى في تشكيل الوليد الذي يرضع من أمه، كما أنه قد يكون لها دوراً هاماً في تعليل تحريم الدين للزواج من أخوات الرضاعة كما جاء في الآية الكريمة من سورة النساء{وأمهاتكم اللاتي ارضعنكم وأخواتكم من الرضاعة}[النساء23] وكما جاء في الحديث الشريف الصحيح:”يحرم من الرضاع مايحرم من النسب“[أخرجه الشيخان].
حيث أن الطفل الذي يرضع من امرأة غير أمه فإن ملايين الخلايا الجذعية الخاصة بهذه المرأة تدخل جوف الرضيع،وتذهب عبر الدورة الدموية إلى أنسجة وأعضاء جسمه المختلفة.ولتصبح خلايا فعالة في تكوين شخصية الطفل المستقبلية.وهذه الخلايا الجذعية تبقى مع الطفل مدى الحياة،وتشكل لديه نظاماً للمناعة يماثل نظام الأم التي أرضعته،ولأن حليب كل امرأة مرضع يختلف عن الاخرى.أي أن الرضيع يكتسب الغذاء من الأم المرضع ويكتسب معها بنفس الوقت الصفات الوراثية للمرضع.وهذا يبين الإعجاز العلمي في القرآن بتحريم الرضاع مما يحرم من النسب.
وأخيراً هناك مشكلة قد تواجهنا في الإرضاع الطبيعي وهو أن تكون الأم المرضع مدمنة على الغول أو المخدرات أو مفرطة التدخين.ولقد تبين أن المواد التي تدخل في تركيب التبغ تطرح مع حليب الأم كما أنه يتم ادخارها في حليب الأم، والامر يسبب خطورة على الجنين، وكذلك الأمر يتعلق إذا كانت الأم المرضع مدمنة على تناول بعض المهدئات وبعض المركبات الدوائية، أو تعالج بمركبات دوائية وخاصة في أمراض الصرع أو بعض الأمراض النفسية والعصبية.
لطيفة:
يقول الطبيب العالم ابن سينا في كتابه “القانون”:
“أما كيفية إرضاعه وتغذيته فيجب أن يرضع ما أمكن بلبن أمه،فإنه أشبه الأغذية بجوهر ما سلف من غذائه وهو في الرحم…حتى إنه قد صح بالتجربة أن إلقامه حلمة أمه عظيم النفع جداً في دفع ما يؤذيه.ويقول: يجب أن يحلب من اللبن الذي يرضع منه الصبي في أول النهار حلبتان أو ثلاثة،ثم يلقم الحلمة وخصوصاً إذا كان باللبن عيب.ويقول:” وإن منع عن إرضاعه لبن والدته مانع،من ضعف وفساد لبنها،أو ميله إلى الرقة،فينبغي أن يختار له مرضعة على الشرائط التي نصفها،بعضها في سنها،وبعضها في سحنتها،وبعضها في أخلاقها،وبعضها في هيئة ثديها،وبعضها في كيفية لبنها،وبعضها في مقدار مدة ما بينها وبين وضعها وبعضها من جنس مولودها،وإذا أصبت شرائطها فيجب أن يجاد غذاؤها”.
بنوك الحليب:
هناك قرار لمجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاده مؤتمره الثاني بجدة من 10 ـ 16 ربيع الثاني 1406 هجري والموافق 22 ـ 28 كانون الأول 1985م، بعد أن عرض على المجمع دراسة فقهية، ودراسة طبية حول بنوك الحليب، وبعد التأمل فيما جاء من الدراستين، ومناقشة كل منهما مناقشة مستفيضة شملت مختلف جوانب الموضوع تبين:
1 ـ أن بنوك الحليب تجربة قامت بها الأمم الغربية ثم ظهرت مع التجربة بعض السلبيات الفنية والعلمية فيها فانكمشت وقل الإهتمام بها.
2 ـ إن الإسلام يعتبر الرضاع لحمة كلحمة النسب يحرم به مايحرم من النسب باجماع المسلمين. ومن مقاصد الشريعة الكلية المحافظة على النسب وبنوك الحليب مؤدية إلى الاختلاط أو الريبة.
3 ـ إن العلاقات الاجتماعية في العالم الإسلامي توفر للمولود الخداج أو ناقصي الوزن أو المحتاج للبن البشري في الحالات الخاصة مايحتاج إليه من الاسترضاع الطبيعي، الأمر الذي يغني عن بنوك الحليب.
وبناء على ذلك قرر:
أولاً: منع إنشاء بنوك حليب الأمهات في العالم الإسلامي
ثانياً: حرمة الرضاع منها.
ومن الناحية الأدبية:
يعجبني قول الشاعر العراقي معروف الرصافي(مجلة المقتبس بتاريخ الأول من شباط عام 1909) حين يقول:
هي الأخلاق تنبت كالنبات إذا سقيت بماء المكرمات
ولم أر للخلائق من محل يهذبها كحضن الأمهات
فحضن الأم مدرسة تسامت بتربية البنين أو البنات
وأخلاق الوليد تقاس حسناً بأخلاق النساء الوالدات
فياصدر الفتاة رحبت صدرا فأنت مقر أسنى العاطفات
تراك إذا ضممت الطفل لوحا يفوق جميع ألواح الحياة
إذا استند الوليد عليك لاحت تصاوير الحنان مصورات
لأخلاق الصبي بك انعكاس كما انعكس الخيال على المِرآة
وما ضربات قلبك غير درس لتلقين الخصال الفاضلات
فأول درس تهذيب السجايا يكون عليك ياصدر الفتاة
فكيف نظن بالأبناء خيراً إذا نشأوا بحضن الجاهلات
وهل يرجى لأطفال كمالٌ إذا ارتضعوا ثدي الناقصات
فما للأمهات جهلن حتى أتين بكل طياش الحصاة
حنون على الرضيع بغير علم فضاع حنوّ تلك المرضعات
ويقول المعري:
العيش ماضٍ فأكرم والديك به والأم أولى بإكرام وإحسان
وحسبها الحملُ والإرضاع تُدمنه أمران بالفضل نالا كل إنسان
وقال أحدهم:
كمُرضعةٍ أولاد أخرى وضيّعت بنيها ولم ترقع بذلك مرقعاً
وقال أحدهم:
تمدُّ إلى الأقصى بِنديِكَ كلّه وأنتَ على الأدنى صرورٌ مجددُ
(صرور: حلمة الثدي،مجدد: مقطوع اللبن)
الجنين في ميزان الفقه
قضايا وفتاوى:
الإجهاض
نميز في هذا البحث مابين نوعين من الإجهاض أو الإسقاط:
الإجهاض أو الإسقاط العفوي أو التلقائي
الإجهاض الجنائي أو المحرض وهذا بدوره ينقسم إلى عدة أقسام”
1 ـ الإجهاض الجنائي
2 ـ الإجهاض لإستطباب شرعي أو طبي وهذا يشمل:
الإجهاض التال لحمل سفاح
الإجهاض التال للحمل عديد الأجنة
الإجهاض الذي قد يشكل الحمل خطورة على الأم الحامل
الإجهاض لأجنة بأمراض صبغية أو خلقية لاعلاج لها
الإجهاض أو الإسقاط العفوي
الإجهاض في اللغة:
مصدر أجهض،وهو نزول الجنين من بطن امه قبل تمامه،ويقال للمرأة التي يحدث لها هذا “مُجْهِضاً”وللجنين الذي ينزل”مُجْهَضاً”وذلك إذا لم تكن معالم خَلقه قد تحددت بعد،أما إذا تم خلقه، ونفخ فيه الروح لكنه لايستطيع الحياة خارج رحم الأم، فيقال له ” جهيضاً”.
وللإجهاض مرادفات كثيرة وردت في السنة المطهرة، واستعملها الفقهاء، ومنها: ” الإسقاط”، و”الطرح”، و”الإلقاء”…الخ(نقلاً عن موسوعة السفير العدد4 ص 242).
يطلق الإسقاط العفوي التلقائي على كل حالة يسقط فيها محصول الحمل تلقائياً وبدون إرادة المرأة ،سواء كان السبب خطأ ارتكبته الأم (مثل تناول مادة دوائية) أو حالة جسمية تعاني منها( انتان أو قصور هرموني…) ، ومعظم حالات هذا الإسقاط تحدث خلال الأسابيع الثمانية الأولى من الحمل.
وهذا المرض هو ظاهرة شائعة ونسبة حدوثه كبيرة وقد لاتشعر الام الحامل أنها قد أسقطت بل تظن أن الدورة الطمثية تأخرت لديها مع أن النزف الذي تشاهده هو نزف إسقاط وليس دم طمث.
وتكون نسبة الإسقاط العفوي عالية جداً في الأسابيع الأربعة الأولى من الحمل وتصل إلى نسبة 40 بالمائة.وفي حالات نادرة قد يموت محصول الحمل داخل الرحم ولايحدث الإسقاط مباشرة وهذا مايسمى الإسقاط المنسي أو الخفي والعادة أن يحدث النزيف والإسقاط بعد فترة معينة وفي حالات نادرة يبقى محصول الحمل الميت داخل الرحم وتحصل عليه تكلسات يمكن الكشف عنها فيما بعد.
وهذه الإسقاطات العفوية تحدث غالباً بسبب إصابة المضغة بأذيات وغالباً ماتكون صبغية ولاتتوافق مع البقاء على الحياة أو يمكن أن تترافق مع تشوهات شديدة غير قابلة للعلاج وهذا من رحمة رب العالمين .
جاء في الحديث المرفوع الذي رواه ابن جرير الطبري بسنده عن ابن مسعود رضي الله عنه(الإسناد صحيح كما قال الحافظ ابن حجر وهو موقوف لفظاً على ابن مسعود) قال: “إذا وقعت النطفة في الرحم، بعث الله ملكاً فقال: يارب مخلقة أو غير مخلقة؟ فإن قال: غير مخلقة مجتها الأرحام دماً،وإن قال مخلقة، قال: يارب فما صفة هذه النطفة أذكراً أم أنثى؟مارزقها، وما أجلها؟ أشقي ام سعيد؟ قال: فيقال له: انطلق إلى أم الكتاب فاستنسخ منه صفة هذه النطفة، فينطلق الملك فينسخها، فلاتزال معه حتى يأتي على آخر صفتها”.
وقد تكلم الإمام ابن القيم رحمه الله ووصف أسباب الإجهاض التلقائي في كتابه “التبيان في أقسام القرآن” فقال:
“الجنين في البطن بمنزلة الثمرة من الشجرة،وكل منهما له اتصال قوي بالأم ولهذا يصعب قطع الثمرة قبل كمالها من الشجرة،وتحتاج إلى قوة، فإذا بلغت الثمرة نهايتها سهل قطعها وربما سقطت بنفسها،وذلك لأن تلك الرباطات والعروق التي تمدها من الشجرة كانت في غاية القوة والغذاء،فلما رجع ذلك إلى تلك الشجرة ضعفت تلك الرطوبات والمجاري وساعدها ثقل الثمرة فسهل أخذها.وكذلك الأمر في الجنين فإنه مادام في البطن قبل استحكامه وكماله فإن رطوباته وأغشيته تكون مانعة له من السقوط فإذا تم وكمل ضعفت تلك الرطوبات وانتهكت تلك الأغشية واجتمعت تلك الرطوبات المزلقة فسقط الجنين.هذا هو الأمر الطبيعي الجاري على استقامة الطبيعة وسلامتها. وأما السقوط قبل ذلك:فلفساد في الجنين، أو لفساد في طبيعة الأم، أو ضعف الطبيعة.كما تسقط الثمرة قبل إدراكها لفساد يعرض أو لضعف الأصل أو لفساد يعرض من خارج،كإسقاط الجنين من هذه الأسباب الثلاثة فالآفات التي تصيب الأجنة بمنزلة الآفات التي تصيب الثمار”.
الإجهاض العلاجي
بناء على تشخيص مرض الجنين أو تعرض الحامل للخطورة:
وهو ماتم تحت إشراف الطبيب للمحافظة على حياة الأم ضد خطر أحدق بها من جراء الحمل.
يقول الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله حول هذا الموضوع(موقع القرضاوي):
“من واجب الفقيه المسلم أن يقف أمام هذه القضايا المعروضة ليقرر عدة حقائق أهمها:
أن حياة الجنين في نظر الشريعة الإسلامية حياة محترمة،باعتباره كائناً حياً يجب المحافظة عليه،حتى إن الشريعة تجيز للحامل أن تفطر في رمضان، وقد توجب ذلك عليها،إذا خافت على حملها من الصيام..ومن هنا حرمت الشريعة الاعتداء عليه، ولو كان الاعتداء من أبويه، بل ولو جاء ذلك من أمه التي حملته وهنا على وهن. حتى في حالة الحمل الحرام ماجاء عن طريق الزنا لايجوز لها أن تسقطه، لأنه كائن إنساني حي لاذنب له، {ولاتزر وازرة وزر أخرى} [ الإسراء 15]،وقد رأينا الشرع يوجب تأخير القصاص من المرأة الحامل المحكوم عليها بالقصاص،ومثلها المحكوم عليها بالرجم حفاظاً على جنينها، كما في قصة الغامدية المروية في الصحيح،لأن الشرع جعل لولي الأمر سبيلا عليها ولم يجعل له سبيلا على ما في بطنها.
ويتابع:
“كما رأينا الشريعة توجب دية كاملة على من ضرب بطن امرأة حامل،فألقت جنيناً حياً، ثم مات من الضربة، نقل ابن المنذر إجماع أهل العلم على ذلك.وإن نزل ميتاً ففيه غرة، وتقدر بنصف عشر الدية.كما رأيناها تفرض على الضارب مع الدية أو الغرة كفارة، وهي: تحرير رقبة مؤمنة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين،بل تفرضها هنا سواء كان الجنين حياً أو ميتاً.قال ابن قدامة: هذا قول أكثر أهل العلم، ويروى ذلك عن عمر رضي الله عنه.واستدلوا بقوله تعالى : {ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليماً حكيماً} [النساء 92].
ويتابع حفظه الله:
“قالوا: وإذا شربت الحامل دواء، فألقت به جنيناً، فعليها غرة، لاترث منها شيئاً، وعليها عتق رقبة. وذلك لأنها أسقطت الجنين بفعلها وجنايتها، فلزمها ضمانة بالغرة، ولاترث منها شيئاً، لأن القاتل لايرث المقتول،وتكون الغرة لسائر ورثته. واما عتق الرقبة فهو كفارة لجنايتها.وكذلك لو كان المسقط للجنين أباه، فعليه غرة لايرث منها شيئاً، ويعتق رقبة، فإن لم يجد صام شهرين متتابعين توبة من الله.وأكثر من ذلك ماقاله ابن حزم في “المحلى” في قتل الجنين بعد نفخ الروح فيه أي بعد مائة وعشرين ليلة، كما صح بذلك الحديث، فهو يعتبره جناية قتل عمد كاملة موجبة لكل آثارها من القصاص وغيره قال:فإن قال قائل: فما تقولون فيمن تعمدت قتل جنينها وقد تجاوزت مائة ليلة وعشرين ليلة بيقين فقتلته، أو تعمد أجنبي قتله في بطنها فقتله، فمن قولنا:”أن القود يعني القصاص واجب في ذلك ولابد، ولاغرة في ذلك حينئذ، إلا أن يعفى عنه، فتجب الغرة فقط، لأنها دية، ولاكفارة في ذلك، لأنه عمد، وإنما وجب القود،لأنه قاتل نفس مؤمنة عمداً، فهو نفس بنفس، وأهله بين خيرتين: إما القود، وإما الدية، أو المفاداة، كما حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن قتل مؤمناً وبالله تعالى التوفيق”.
ويتابع الشيخ القرضاوي :
“وقال ابن حزم فيمن شربت دواء فأسقطت حملها: “إن كان لم ينفخ فيه الروح فالغرة عليها، وإن كان قد نفخ فيه الروح فإن كانت لم تعمد قتله فالغرة أيضاً على عاقلتها،والكفارة عليها، وإن كانت عمدت قتله فالقود عليها أو المفاداة في مالها” .وابن حزم يعتبر الجنين إذا نفخت فيه الروح شخصاً من الناس، حتى إنه يوجب إخراج زكاة الفطر عنه، أما الحنابلة فيرون ذلك مُستحباً لا واجباً.
ويتابع الشيخ القرضاوي:
” وهذا كله يرينا أي حد تهتم الشريعة بالجنين، وتأكيد حرمته، وخصوصاً بعد المرحلة التي جاء الحديث بتسميتها مرحلة”النفخ في الروح” وهذا من أمور الغيب، التي نسلم بها إذ صح بها النص، ولانطيل الحديث في كنهها(وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) [الإسراء 85] ، ويتابع:
” واحسب أن ذلك شئ غير مجرد الحياة الحيوانية المعهودة، وإن فهم ذلك الشراح والفقهاء، فالحقيقة التي أثبتها العلم الآن بيقين: أن الحياة أسبق من ذلك. ولكن لعلها “دون الحياة الإنسانية التي عبر عنها الحديث ب ” النفخ في الروح” وإليها الإشارة بقوله تعالى {ثم سواه ونفخ فيه من روحه}” [السجدة 59]، ويتابع:
” على أن من الأحاديث الصحاح ماخالف حديث ابن مسعود الذي ذكر إرسال الملك لنفخ الروح بعد ثلاث أربعينات. فقد روى مسلم في صحيحه حديث حذيفة بن أسيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة، بعث الله إليها ملكاً، فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يارب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ماشاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يارب، أجله؟ فيقول ربك ماشاء، ويكتب الملك. ثم يقول: يارب، رزقه؟ فيقضي ربك ماشاء، ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة، فلايزيد على ما أمر ولاينقص“[ رواه مسلم].
فهذا الحديث جعل بعث الملك وتصويره للنطفة بعد ستة اسابيع اثنتين وأربعين ليلة(العجيب أن علم الاجنة والتشريح بعد تقدمهما اليوم يثبتان أن الجنين بعد هذه المدة42 ليلة يدخل مرحلة جديدة ونشأة أخرى).. لابعد مائة وعشرين ليلة،كما في حديث ابن مسعود المعروف، وجمع بعض العلماء بين الحديثين باحتمال تعدد إرسال الملك فمرة في ابتداء الأربعين الثانية، وأخرى في انتهاء الأربعين الثالثة لنفخ الروح.
ويتابع الشيخ القرضاوي:
“ومن هنا أجمع فقهاء المسلمين على حرمة إجهاض الجنين بعد نفخ الروح فيه، لم يخالف في ذلك أحد من السلف أو الخلف.
أما مرحلة ماقبل نفخ الروح، فمن الفقهاء من أجاز الإجهاض حينئذ إذا دعت إليه حاجة، على اعتبار أن الحياة لم تدب فيه بعد،فهو في نظرهم مجرد سائل، أو علقة من دم، أو مضغة من لحم.
ويتابع الشيخ القرضاوي:
“ويقول بعض إخواننا من علماء الطب والتشريح تعليقاً على أقوال من أجازوا من الفقهاء إسقاط الجنين قبل نفخ الروح: إن هذا الحكم من هؤلاء العلماء الأجلاء مبني على معارف زمنهم، ولو عرف هؤلاء ماعرفنا من حقائق علم الأجنة اليوم عن هذا الكائن الحي المتميز، الذي يحمل خصائص أبويه واسرته وفصيلته ونوعه، لغيروا أحكامهم وفتواهم، تبعاً لتغير العلة، فإن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.ويتابع:
” ومن لطف الله بعباده أن علماء الأجنة والتشريح أنفسهم اختلفوا كما اختلف الفقهاء في تقييم حياة الجنين في مراحله الأولى: قبل ال 42 يوماً وقبل 120 يوماً.وكان اختلافهم هذا مؤيداً قوياً لاختلاف الفقهاء في جنين ماقبل الأربعين وماقبل الاربعينات الثلاثة.ولعل هذا من رحمة الله بالناس ليظل للأعذار والضرورات الحقيقية موضعها.ولابأس أن نذكر هنا بعض ماقاله الفقهاء في هذا المجال:
قال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر في فتح الباري” بعد كلام طويل عن العزل” واختلف العلماء في جوازه ومنعه، ومال في نهايته إلى ترجيح الجواز، وعدم نهوض أدلة المانعين: قال:”وينتزع من حكم العزل حكم معالجة المرأة إسقاط النطفة قبل نفخ الروح، فمن قال بالمنع هنا، ففي هذه أولى، ومن قال بالجواز يمكن أن يلتحق به هذا. ويمكن أن يفرق بأنه أشد، لأن العزل لم يقع فيه تعاطي السبب، ومعالجة السقط تقع بعد تعاطي السبب” ويتابع القرضاوي” ومن الفقهاء من فرق بين الحمل قبل الأربعين والحمل بعد الأربعين،فأجاز الإسقاط قبل الأربعين لابعدها. ولعل محور هذه التفرقة هو حديث مسلم الذي ذكرناه، ففي “نهاية المحتاج” من كتب الشافعية، ذكر اختلاف أهل العلم في النطفة قبل تمام الأربعين على قولين:
قيل: لايثبت لها حكم السقط والوأد.
وقيل: لها حرمة، ولايباح إفسادها، ولاالتسبب في إخراجها بعد استقرارها في الرحم.ومنهم من فرق بين مرحلة تخلق الجنين ومرحلة ماقبل تخلقه، فرخص في الإجهاض قبل التخلق دون مابعده.
ويتابع الشيخ القرضاوي: “ولهذا نقول: إن الأصل في الإجهاض هو الحرمة. وإن كانت الحرمة تكبر وتعظم كلما استقرت حياة الجنين. فهو في الأربعين الأولى أخف حرمة، فقد يجوز لبعض الأعذار المعتبرة، وبعد الأربعين تكون الحرمة أقوى، فلا يجوز إلا لأعذار أقوى يقدرها اهل الفقه، وتتأكد الحرمة وتتضاعف بعد مائة وعشرين يوماً، حيث يدخل في المرحلة التي سماها الحديث” النفخ في الروح” وفي هذه الحالة لايجوز الإجهاض إلا في حالة الضرورة القصوى، بشرط أن تثبت الضرورة لا أن تتوهم، وإذا ثبتت فما ابيح للضرورة يقدر بقدرها.
ويتابع الشيخ القرضاوي: ” ورأيى أن الضرورة هنا تتجلى في صورة واحدة وهي: ما إذا كان في بقاء الجنين خطر على حياة الام، لأن الأم هي الأصل في حياة الجنين، والجنين فرع، فلايضحى بالأصل من أجل الفرع، وهذا منطق يوافق عليه مع الشرع الخلق والطب والقانون. على أن من الفقهاء من رفض ذلك، ولم يقبل الجناية على الحي بحال.انتهى كلام الشيخ القرضاوي.
وعلى ذلك يمكن القول أن الإجهاض العلاجي من وجهة نظر الشرع ومن ثم القانون ماتتوفر فيه الشروط التالية ( نقلاً عن أحد أعداد مجلة حضارة الإسلام):
1 ـ أن يكون الحمل مهدداً لحياة الأم بالخطر
2 ـأن يكون الحمل مسؤولاً في حال استمراره عن عاهة شديدة دائمة قد تصيب الأم ولاسبيل لتجنبها إلا بالإجهاض.
3 ـ أن تكون الأسباب الداعية إلى الخوف من إصابة الأم ووجود خطر عليها من جراء الحمل هي أسباب قائمة لامتوقعة، تستند إلى اليقين لا الظن.وأن تكون نتائج هذه الدلائل القائمة بالفعل نتائج يقينية أو غالبة على الظن بموجب أدلة علمية لا اعتماداً على التخمين أو الشك أو الظن.
4 ـ أن تكون المصلحة المستفادة من إباحة المحظور بسبب هذه الضرورة أعظم أهمية في ميزان الشرع من المصلحة المستفادة من تجنب المحظور وإهمال أسباب الضرورة. أي أن تكون المفسدة المترتبة على تجنب المحظور اعظم خطراً من المفسدة المترتبة على ارتكابه
اسقاط الجنين المشوه خلقيا:
جاء في كتاب أحكام الجنين في الفقه الإسلامي لعمر بن محمد بن ابراهيم غانم، هل يجوز إسقاط الجنين بعدما تبين بالفحوصات الطبية أنه مشوه خلقياً؟
والجواب: هناك أسباب عديدة لتشوه الجنين، وإن كثيراً من هذه الأسباب يمكن تلافيه، والتوقي منه، أو التخفيف من آثاره، وقد حث الإسلام والطب على منع أسباب المرض، والتوقي منه ما أمكن ذلك، وتعاليم الإسلام تحث على حفظ الصحة، وعلى حماية الجنين ووقايته من كثير من الامراض التي سببها البعد عن الإسلام.والوقوع في المعاصي كالزنى، وشرب الخمر، والتدخين، وتعاطي المخدرات، وكذلك جاء الطب الحديث ليحذر الامهات من الخطر المحدق من تعاطي بعض العقاقير، أو التعرض للأشعة السينية، أو أشعة جاما وخاصة في الأيام الأولى من الحمل.فإذا ثبت تشوه الجنين بصورة دقيقة قاطعة لاتقبل الشك، من خلال لجنة طبية موثوقة، وكان هذا التشوه غير قابل للعلاج ضمن الإمكانيات البشرية المتاحة لأهل الاختصاص، فالراجح عندي هو إباحة إسقاطه، نظراً لما قد يلحقه من مشاق وصعوبات في حياته، ومايسببه لذويه من حرج، وللمجتمع من أعباء ومسؤوليات وتكاليف في رعايته والاعتناء به، ولعل هذه الاعتبارات وغيرها هي ماحدت بمجلس المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته الثانية عشرة المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة من 15 رجب سنة 1410 هجري والموافق العاشر من شباط عام 1990 م أن يصدر قراره: بإباحة إسقاط الجنين المشوه بالصورة المذكورة أعلاه، وبعد موافقة الوالدين في الفترة الواقعة قبل مرور مائة وعشرين يوما من بدء الحمل، أما إذا كان الجنين المشوه قد نفخت فيه الروح وبلغ مائة وعشرين يوماً، فإنه لايجوز إسقاطه مهما كان التشوه، إلا إذا كان في بقاء الحمل خطر على حياة الأم، وذلك لأن الجنين بعد نفخ الروح أصبح نفساً، يجب صيانتها والمحافظة عليها، سواء كانت سليمة من الآفات والامراض، أو كانت مصابة بشئ من ذلك، وسواء رُجي شفاؤها مما بها، أم لم يرج، ذلك لأن الله سبحانه وتعالى له في كل ماخلق حكم لايعلمها كثير من الناس، وهو أعلم بما يصلح خلقه، مصداق قوله تعالى {ألايعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}[ الملك 14]، وفي ولادة هؤلاء المشوهين عظة للمعافين،وفيه معرقة لقدرة الله عز وجل حيث يرى خلقه مظاهر قدرته، وعجائب صنعه سبحانه،كما أن قتلهم وإجهاضهم نظرة مادية صرفة لم تعر الأمور الدينية والمعنوية أية نظرة، ولعل في وجود هذا التشويه مايجعل الإنسان اكثر ذلة ومسكنة لربه، وصبره عليها احتسابا منه للأجر الكبير”.
الإجهاض الإجتماعي أو اللاقانوني
وهو الذي يراد به عدم الحفاظ على الجنين لأسباب اجتماعية ومنها عدم الرغبة في الإنجاب،أو المحافظة على رشاقة الجسم ومظهره، أو التستر على فاحشة، وهذا الأخير أو مايسمى الإجهاض من حمل سفاح هو أكثر مايواجه المجتمع والأطباء حالياً فما هو رأي الشرع في هذا الموضوع.
الإجهاض من حمل سفاح:
إذا كان الشارع قد أجاز ورخصَّ الإجهاض في بعض الحالات من الحمل الذي تم من نكاح صحيح وذلك قبل الأربعين يوماً من حياة المضغة في شروط معينة وأنه قد نهى عن قتل النفس المتكونة بعد نفخ الروح إلا إذا حدث تعارض بين الحياتين وكان هناك تهديدا لحياة الأم الحامل فأجاز الإجهاض ضمن شروط ذكرناها فيما سبق، وأما في حال الحمل الذي تم من سفاح(الزنا) فالشارع الحكيم لايقر أبداً الإجهاض الذي تم من سفاح قبل نفخ الروح في المضغة أو بعد نفخ الروح في الجنين والأدلة على ذلك (نقلاً عن أحد أعداد مجلة حضارة الإسلام):
1 ـ القرآن الكريم:
قوله تعالى: {ولاتزر وازرة وزر أخرى} فكل نفس مسؤولة عن ما اقترفته، ولاتحمل نفس مسؤولية ما عملت نفس أخرى، إن لم يكن لها يد في ذلك أو التسبب به. والجنين من حمل سفاح،ليس له ذنب ولايمكن أن نوقف حياته من جراء ذنب لم يكن له يد في ارتكابه من أجل شهوة عارضة أو رغبة من الزانية في التخلص منه حتى لاتؤخذ بجريرتها ويشتهر أمرها بين الناس.
2 ـ السنة النبوية:
والدليل عليه حديث الغامدية حيث يمكن أن نأخذ منه الدلائل التالية:
ـ لايجوز الإسقاط من حمل سفاح سواء في أوائل الحمل أو في أواخره، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسأل الغامدية الزانية عن مدة حبلها بل قال لها اذهبي حتى تلدي.
ـ حق الجنين في الحياة،: فلم ترجم المرأة لئلا يقتل جنينها مع أنه يجب وضع الحد عليها، كما لايجوز شرعاً جلد الحامل خوفاً من إصابة جنينها
ـ أصول الشريعة:
تقول القاعدة الأصولية الأولى:” يجب أن لاتناط الرخص بالمعاصي”
فإذا رخصّ الشارع الإسقاط في الأربعين يوماً من الحمل الذي تم من نكاح صحيح، فهذه رخصة كرخصة الفطر وتقصير الصلاة، شرعت لعذر هو استثناء من أصل كلي يقتضي المنع، بحيث إذا زال العذر عاد المنع.فالقاعدة في الإسلام هي النكاح لاستمرار النسل،وأما تحديد النسل فهو الاستثناء ضمن بعض الشروط والظروف الشخصية والوقتية،ولاتأخذ طابع الاستمرارية أو التعميم فلا يجوز شرعاً الاستفادة من الرخص في حالة المعاصي،فالزنا وهو معصية لايرخص معه الإسقاط وإن كان رخص الإسقاط للحمل من نكاح صحيح.
ـ تقول القاعدة الأصولية الثانية:”تصرف الحاكم منوط بالمصلحة”
فالوليد من نكاح الزنا لايُعرف والده، وبما أن الحاكم هو ولي من لاولي له،فوالي المسلمين هو ولي الطفل،وبما أن مصلحة الطفل والمجتمع لاتجيز موت الطفل بإسقاط حمل الزنا، فبالتالي لايجوز الإجهاض من حمل الزنا وإن كان قد رُخصّ للاب أن تسقط زوجته من حمل نكاح صحيح، ولكن لايرخص للوالي أن يسمح بالإسقاط من حمل الزنا، لأن من قد حرّم على العامة قد يرخص للخاصة.
ـ قاعدة “سد الذرائع”:
لعل أهم مايعيق عن الزنا نشوء الحمل وأثاره المترتبة عليه،فلأن لم تردع الزانية خشية الله، ومخافته،صدّتها عن الزنا عاقبة هذه الفضيحة بين الناس، فإذا سمح لها بالإسقاط، فإننا نسمح للزنا أن ينتشر مع أن الشارع الحكيم قد نهانا في محكم كتابه عن مقاربة الزنا” ولاتقربوا الزنا” وهذا يدل على مجال ابعد، ويختلف عن مقارفة الزنا، لأن مقاربة الزنا تشمل كل الوسائل التي قد تسوق إلى مقارفة الزنا كالاختلاط وإبداء الزينة والنظر إلى العورات والدخول بدون استئذان والخلوة مع الأجنبية، ولقد نهى الله عن كل هذا.
حالات خاصة:
ـ إذا أحاق الهلاك من جراء الحمل بالزانية المحصنة غير المستكرهة على هذه الفاحشة وكان السبيل الوحيد لإنقاذها هو الإجهاض، فهل يتم هذا؟
والجواب: لايتم، إذ هي مستوجبة للقتل حداً، فليس ثمة أي قيمة لما قد يهددها بالهلاك إن بقي حملها،واستمر حملها، مثلها كمثل الرجل الذي وقع عليه حد القتل ثم تهدده الهلاك بسبب الجوع فلا يرخص له أكل الميتة أو غصب مال الغير. هذا بالإضافة أن حياة الجنين تفضل عن حياتها هنا.
ـ إذا تم حمل من زنا، ولكن كانت الزانية غير محصنة، واستكرهت على الزنا، أو لم يثبت للقضاء استحقاقها للحد، فما الحكم هنا إذا تهددها الهلاك من جراء الحمل؟
والجواب: يطبق عليها هنا مايطبق على الحامل من نكاح صحيح من أحكام:
ـ فإن زنت ولم يثبت للقضاء ذلك فحكمها حكم من لم يزن
ـ وإن زنت، وكانت غير محصنة فالحد هنا الجلد وليس الرجم فحياتها ليست مهدورة
وإن أكرهت على الفاحشة فلاذنب لها “إن الله تعالى وضع عن أمتي الخطأ، والنسيانَ ،وما استكرهوا عليه” كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.(حديث صحيح أخرجه ابن ماجه واللفظ له والطبراني والبيهقي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وصححه الألباني).
وأخيراً انقل هنا قرارات المجامع الفقهية وكبار العلماء رقم 140 بتاريخ 20 حزيران عام 1407 هجري بشأن الإجهاض:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وبعد”
فإن مجلس هيئة كبار العلماء يقرر مايلي:
1 ـ لايجوز إسقاط الحمل في مختلف مراحله إلا لمبرر شرعي وفي حدود ضيقة جدا.
2 ـ إذا كان الحمل في الطور الأول وفي مدة الأربعين وكان في إسقاطه مصلحة شرعية أو دفع ضرر متوقع جاز إسقاطه،أما إسقاطه في هذه المدة خشية المشقة في تربية الأولاد أو خوفاً من العجز عن تكاليف معيشتهم وتعليمهم أو من أجل مستقبلهم أو اكتفاء بما لدى الزوجين من الأولاد فغير جائز.
3 ـ لايجوز إسقاط الحمل إذا كان علقة أو مضغة حتى تقرر لجنة طبية موثوقة أن استمراره خطر على سلامة أمه بأن يخشى عليها الهلاك من استمراره جاز إسقاطه بعد استنفاد كافة الوسائل لتلافي تلك الأخطار.
4 ـ بعد الطور الثالث وبعد إكمال أربعة أشهر لايحل إسقاطه حتى يقرر جمع من الأطباء المتخصصين الموثوقين أن بقاء الجنين في بطن أمه يسبب موتها وذلك بعد استنفاد كافة الوسائل لإنقاذ حياته وإنما رخص الإقدام على إسقاطه بهذه الشروط دفعاً لأعظم الضررين وجلباً لعظمى المصلحتين.
ويوصي المجلس بتقوى الله والتثبت في هذا الأمر.
وجاء في مقال للأستاذ الدكتور محمد الهواري رحمه الله في مجلة الرائد التي كانت تصدر في ألمانيا (العدد303) عن موضوع الإجهاض:
“ينظر الإسلام إلى الإجهاض نظرة مختلفة عن نظرته لموانع الحمل. فالإجهاض اعتداء على الحياة الإنسانية. والسؤال المطروح هنا: هل يمكن أن يشتمل تعبير الحياة الإنسانية، الحياة داخل الرحم؟!
الفقهاء المسلمون يجيبون بنعم على هذا السؤال،والإسلام يعطي للجنين حالة قانونية خاصة تدعى”بالذمة أو المسؤولية الناقصة”. وذلك أن المسؤولية تفرض حقوقاً وواجبات، ومسؤولية الجنين تتمتع بحقوق وليس عليها واجبات. ومن هذه الحقوق نذكر مايلي:
1 ـ إذا مات زوج لأمرأة حامل،فقواعد المواريث الشرعية تعتبر الجنين وارثاً إذا ولد حياً،وينال بقية الورثة نصيبهم الشرعي المقرر،على أن يحفظ نصيب الجنين بانتظار موعد ولادته.
2 ـ إذا أجهضت امرأة حامل في أي مرحلة من مراحل الحمل،وظهر على الجنين أي علامة من علامات الحياة كالحركة والسعال وماشابه،ثم مات الجنين، فيعتبر وارثاً وينتقل نصيبه إلى ورثته الشرعيين.
(ملاحظة: الحديث الشريف: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إذا استهلّ الصبي صُلِّي عليه وُوُرث“[ سنن ابن ماجه والنسائي والدارمي وصححه الألباني].
( استهل الصبي بالبكاء: أي ارتفع به صوته، واستهلال المولود: يعني إصداره صوتاً يُعرف منه أنه ولد حياً، ومن ثم يستحق به أن يرث)”.
(وجاء في مجموعة السفير عدد 37 ـ 38 ص52: ” إذا بكى المولود عند ولادته،فإن ذلك يدل على تحقيق حياته، ويأخذ حكم الأحياء، فَيُسمى ويرث،ويُقتص من قاتله المتعمد، فإن مات فعند ذلك يُغسل ويُصلى عليه ويُورث”)
3 ـ إذا اقترفت امرأة حامل جريمة تستحق عليها عقوبة الموت،فيجب أن يؤجل موعد تنفيذ العقوبة حتى تضع المرأة حملها وتنتهي من فترة إرضاعه،وذلك مهما كانت فترة الحمل، حتى ولو كانت حديثة العهد،وذلك حفاظاً على حق الحياة التي يتمتع به الجنين منذ لحظة الإخصاب.وتنطبق هذه القاعدة حتى ولو كان الحمل سفاحاً،وهذا يعني أن الجنين من السفاح يتمتع بحق الحياة الذي يتمتع به الجنين الشرعي. ولاخلاف في ذلك بين جميع الفقهاء.
4 ـ كل فعل ولو كان بغير قصد،يؤدي إلى الإجهاض، يستوجب دفع غرامة مالية تدعى” بالغُرّة” أما إذا كان الفعل المجهض قد تم باعتداء مقصود،فيستوجب الأمر إضافة إلى ذلك عقوبة قضائية.
بداية الحياة كانت موضع جدال منذ القديم في الأوساط الإسلامية. وقامت ندوات معاصرة ببحث المشكلة على ضوء المعطيات التقنية الحديثة، وتقرر أن طور حياة الفرد والذي يمكن أن ندعوه ببداية الحياة يجب أن يستجيب للأسس الآتية:
1 ـ الطور الحياتي ظاهرة واضحة ومحددة تماماً
2 ـ يجب أن يترافق مع جميع المميزات الأساسية للحياة كالنمو مثلاً
3 ـوإذا لم يتوقف هذا النمو، فيجب أن يتابع التطور أدواره المتعاقبة المعروفة
4 ـ يجب أن يحمل الحقيبة الوراثية المميزة للنوع البشري إلى جانب الهيئة الظاهرة المميزة للإنسان
ولاشك أن هذه الأسس ترتبط جميعها بالمرحلة ما بعد الإخصاب.
يرى كثيراً من العلماء جواز الإجهاض إذا كان استمرار الحمل يهدد حياة الأم، وذلك أن الشريعة الإسلامية تعتبر الأم أصلاً والجنين فرعاً منه،ولهذا يمكن أن يضحى بالفرع في سبيل المحافظة على الأصل عند الضرورة.ويرى البعض أنه يمكن التوسع في هذه القاعدة وتطبيقاتها على حالات تشوه الجنين والآفات الجنينية التي لاتتفق مع الحياة الطبيعية، على أن يتم الإجهاض قبل الشهر الرابع من الحمل”. انتهى كلام الدكتور الهواري رحمه الله.
ومن الناحية الأدبية :
هناك قصيدة لشاعر القطرين خليل مطران بعنوان”الجنين الشهيد”وملخصها كما جاء في كتاب أعلام الجيل الأول لأنيس مقدسي ص121:”ملخصها أن فتاة حسناء فلاحية الأصل جاءت مصر مع والديها للارتزاق. وكان والداها من سفلة القوم فدفعاها متنكرة باسم ليلى إلى التسول، ثم إلى العمل في بعض الحانات التي يرتادها عادة خلعاء الشبان. ولم تلبث أن فقدت خَفرها إذ تعودت هناك مباسطة الشاربين وإغراءهم على التمادي في الشراب والإنفاق.وكان بينهم شابّ أخذ يتودّد إليها. فقابلته بالمثل آملةً أن يتزوجها فتترك عيشة الحانات، وفعلاً وعدها بذلك. ثم أغراها مخادعاً فباتت ليلة معه.وإذا هي بعد حين حامل منه. فطالبته بالوعد لكنه أخذ يماطلها. قال الشاعر:
وظلّ(جميلٌ) لايفي دَين وعدِهِ وليلى ثَبوتٌ في صيانة عهده
وتهواه حتى في إساءةِ قصدهِ وتحمل منه المطلَ خشيةَ بعده
وتقبل منه مايُمرّ ومايُحلي
وأخيراً تجلّت لها الحقيقة المؤلمة أن جميلاً مخادع كذاب.فلم ترَ بداً من أن تتخلص من جنينها. فقتلته مرغمة وأجهضته، ولكنها وقفت بعد ذلك متحسرّة عليه وأخذت تندبه بلسان أم حنون كانت تودّ لو بقي ابنها لها حيّاً ورجع غليها أبوه فيعيشا معاً عيشة عائلية كما كانت ترجو. وهي تقول من قلب كسير:
فيا ولدي المسكينَ فِلذَةَ مُهجتي ويانِعمةً عُوقبتُ فيها بِنقمةِ
ومن كنتُ أرجوهُ لِسعدي وبهجتي وكانَ يُناجيهِ ضميري بِمُنيتي
وآملُ أن يحيّا ويرجعُ لي بعلي
تموتُ ولمّا تستهلَّ مبشِّرا تموتُ ولم أنظر محيّاكَ مُسفرا
وتبرح قلباً فيه عُذّبتَ أشهراً إلى جَدَثٍ منه أبرَّ وأطهرا
وتحيا صغار الطير دونك والنحلِ
تموتُ وماسلّمتَ حتى تُودّعا وأمّك تسقيك السُّموم لتصرعا
وتنفيك من جوف به كنت مُودعا لتخلصَ من عيشٍ ثقيلِ بما وعى
من الحزن والآلام والفقرِ والذّل
فإن تَلقَ وجهَ الله في عالمِ السَّنى فقل ربّي اغفر ذنبَ أمِّي مُحسنا
فما اقترفت شيئاً ولكن أبي جَنى علينا فعاقبهُ بتعذيبهِ لنا
وأمطرهُ ناراً تبتليهِ ولاتُبلي
وهكذا يُقضى على ذلك الجنين لكي تستطيع أمه أن تعود إلى العمل والارتزاق في الحانات. وينسى المجرمان مع مرور الزمان ماكان.يقول الشاعر إنها حادثة جرت في مصر وقد حضر وقائعها فوصفها بحقيقتها لتكون تذكرة وعِبرة.
الاستنساخ البشري
أنقل هنا قرار مجلس مجمع الفقه الإسلامي بجدة رقم 100/2/ د10 حول هذا الموضوع:
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره العاشر بجدة خلال الفترة من 23 إلى 28 صفر 1418 هجري الموافق 28 حزيران إلى 3 تموز 1997م. بعد إطلاعه على البحوث المقدمة في موضوع الاستنساخ البشري، والدراسات والبحوث والتوصيات الصادرة عن الندوة الفقهية الطبية التاسعة التي عقدتها المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، بالتعاون مع المجمع وجهات أخرى، في الدار البيضاء بالمملكة المغربية في الفترة من 9 ـ 12 صفر 1418 هجري الموافق 14 ـ 17 حزيران 1997م، واستماعه للمناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة الفقهاء والأطباء، انتهى إلى مايلي:
مقدمة:
لقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، وكرمه غاية التكريم فقال عزّ من قائل:{ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا}[ الإسراء 70 ] ،زينه بالعقل، وشرفه بالتكليف،وجعله خليفة في الأرض واستعمره فيها، وأكرمه بحمل رسالته التي تنسجم مع فطرته بل هي الفطرة بعينها لقوله سبحانه:{ فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لاتبديل لخلق الله ذلك الدين القيم} [ الروم30]، وقد حرص الإسلام على الحفاظ على فطرة الإنسان سوية من خلال المحافظة على المقاصد الكلية الخمسة:الدين والنفس والعقل والنسل والمال)، وصونها من كل تغيير يفسدها، سواء من حيث السبب أم النتيجة، يدل على ذلك الحديث القدسي الذي رواه مسلم عن عياض بن حمار رضي الله عنه: “ إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإن الشياطين أتتهم فاجتالتهم عن دينهم… إلى قوله: وأمرتهم أن يغيروا خلقي“.
وقد علم الله الإنسان مالم يكن يعلم،وأمره بالبحث والنظر والتفكر والتدبر مخاطباً إياه في آيات عديدة: ” أفلا يرون” “أفلا ينظرون” {أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة} { إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} {إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} {إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب} {اقرأ باسم ربك الذي خلق}..
والإسلام لايضع حجراً ولا قيداً على حرية البحث العلمي ،إذ هو من باب استكناه سنة الله في خلقه.لكن الإسلام يقضي كذلك بأن لايترك الباب مفتوحاً بدون ضوابط أمام تطبيقات نتائج البحث العلمي على الساحة العامة بغير أن تمر على مصفاة الشريعة، لتمرر المباح وتحجز الحرام، فلايسمح بتنفيذ شئ لمجرد أنه قابل للتنفيذ، بل لابد أن يكون علماً نافعاً جالباً لمصالح العباد ودارئاً لمفاسدهم.ولابد أن يحافظ هذا العلم على كرامة الإنسان ومكانته والغاية التي خلقه الله من أجلها،فلايتخذ حقلاً للتجريب، ولايعتدى على ذاتية الفرد وخصوصيته وتميزه، ولايؤدي إلى خلخلة الهياكل الأسرية المتعارف عليها على مدى التاريخ الإنساني في ظلال شرع الله وعلى أساس وطيد من أحكامه.
وقد كان مما استجد للناس من علم في هذا العصر، ماضجت به وسائل الإعلام في العالم كله باسم الاستنساخ. وكان لابد من بيان حكم الشرع فيه، بعد عرض تفاصيله من قبل نخبة من خبراء المسلمين وعلمائهم في هذا المجال.
تعريف الاستنساخ:
من المعلوم أن سنة الله في الخلق أن ينشأ المخلوق البشري من اجتماع نطفتين اثنتين تشتمل نواة كل منهما على عدد من الصبغيات(الكروموسومات) يبلغ نصف عدد الصبغيات التي في الخلايا الجسدية للإنسان.فإذا اتحدت نطفة الأب(الزوج) التي تسمى الحيوان المنوي بنطفة الأم(الزوجة) التي تسمى البويضة، تحولتا معاً إلى نطفة أمشاج أو لقيحة، تشتمل على حقيبة وراثية كاملة، وتمتلك طاقة التكاثر. فإذا انغرست في رحم الأم تنامت وتكاملت وولدت مخلوقاً متكاملاً بإذن الله.وهي في مسيرتها تلك تتضاعف فتصير خليتين متماثلتين فأربعاً فثمانياً، ثم تواصل تضاعفها حتى تبلغ مرحلة تبدا عندها بالتمايز والتخصص. فإذا انشطرت إحدى خلايا اللقيحة في مرحلة ماقبل التمايز إلى شطرين متماثلين تولد منهما توأمان متماثلان.وقد أمكن في الحيوان إجراء فصل اصطناعي لأمثال هذه اللقائح، فتولدت منها توائم متماثلة.ولم يبلغ بعد عن حدوث مثل ذلك في الإنسان. وقد عد ذلك نوعاً من الاستنساخ أو التنسيل، لأنه نسخاً أو نسائل متماثلة، وأطلق عليه اسم الاستنساخ بالتشطير.
وثمة طريقة أخرى لاستنساخ مخلوق كامل، تقوم على أخذ الحقيبة الوراثية الكاملة على شكل نواة من خلية من الخلايا الجسدية، وإيداعها في خلية بويضة منزوعة النواة، فتتألف بذلك لقيحة تشتمل على حقيبة وراثية كاملة، وهي في الوقت نفسه تمتلك طاقة التكاثر. فإذا غرست في رحم الأم تنامت وتكاملت وولدت مخلوقاً مكتملاً بإذن الله.وهذا النمط من الاستنساخ الذي يعرف باسم “النقل النووي”أو “الإحلال النووي للخلية البويضة” هو الذي يفهم من كلمة الاستنساخ إذا أطلقت وهو الذي حدث في النعجة”دوللي” على أن هذا المخلوق الجديد ليس نسخة طبق الأصل، لأن بويضة الأم المنزوعة النواة تظل مشتملة على بقايا نووية في الجزء الذي يحيط بالنواة المنزوعة.ولهذه البقايا أثر ملحوظ في تحوير الصفات التي ورثت من الخلية الجسدية، ولم يبلغ أيضاً عن حصول ذلك في الإنسان.
فالاستنساخ إذن هو توليد كائن حي أو أكثر إما بنقل النواة من خلية جسدية إلى بويضة منزوعة النواة، وإما بتشطير بويضة مخصبة في مرحلة تسبق تمايز الأنسجة والأعضاء.
ولايخفى أن هذه العمليات وأمثالها لاتمثل خَلقاً أو بعض خَلق، قال الله عز وجل: {أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شئ وهو الواحد القهار}[الرعد 16 ]، وقوله تعالى: {أ فرأيتم ماتمنون*اأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون* نحن قدرنا بينكم الموت ومانحن بمسبوقين* على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في مالاتعلمون* ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون}[ الواقعة 58 ـ 62] ، وقوله سبحانه: { أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين*وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيى العظام وهي رميم* قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم* الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون*أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم* إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون}[ يس 77 ـ 82]، وقوله تعالى: { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين* ثم جعلناه نطفة في قرار مكين* ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين} [ المؤمنون 12 ـ 14].
وبناءً على ماسبق من البحوث والمناقشات والمبادئ الشرعية التي طرحت على مجلس المجمع قرر مايلي:
أولاً: تحريم الاستنساخ البشري بطريقتيه المذكورتين أو بأي طريقة أخرى تؤدي إلى التكاثر البشري.
ثانياً: إذا حصل تجاوز للحكم الشرعي المبين في الفقرة(أولا) فإن آثار تلك الحالات تعرض لبيان أحكامها الشرعية
ثالثاً : تحريم كل الحالات التي يقحم فيها طرف ثالث على العلاقة الزوجية سواء أكان رحماً أم بويضة أم حيواناً منوياً أم خلية جسدية للاستنساخ.
رابعاً : يجوز شرعاً الأخذ بتقنيات الاستنساخ والهندسة الوراثية في مجالات الجراثيم وسائر الأحياء الدقيقة والنبات والحيوان في حدود الضوابط الشرعية بما يحقق المصالح ويدرأ المفاسد.
خامساً : مناشدة الدول الإسلامية إصدار القوانين والأنظمة اللازمة لغلق الأبواب المباشرة وغير المباشرة أمام الجهات المحلية أو الأجنبية والمؤسسات البحثية والخبراء الأحانب للحيلولة دون اتخاذ البلاد الإسلامية ميداناً لتجارب الاستنساخ البشري والترويج لها.
سادساً : المتابعة المشتركة من قبل كل من مجمع الفقه الإسلامي والمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية لموضوع الاستنساخ ومستجداته العلمية، وضبط مصطلحاته، وعقد الندوات واللقاءات اللازمة لبيان الأحكام الشرعية المتعلقة به.
سابعاً : الدعوة إلى تشكيل لجان متخصصة تضم الخبراء وعلماء الشريعة لوضع الضوابط الخلقية في مجال بحوث علوم الأحياء(البيولوجيا) لاعتمادها في الدول الإسلامية.
ثامناً : الدعوة إلى إنشاء ودعم المعاهد والمؤسسات العلمية التي تقوم بإجراء البحوث في مجال علوم الأحياء والهندسة الوراثية في غير مجال الاستنساخ البشري، ووفق الضوابط الشرعية، حتى لايظل العالم الإسلامي عالة على غيره، وتبعاً في هذا المجال.
تاسعاً : تأصيل التعامل مع المستجدات العلمية بنظرة إسلامية، ودعوة أجهزة الإعلام لاعتماد النظرة الإيمانية في التعامل مع هذه القضايا، وتجنب توظيفها بما يناقض الإسلام، وتوعية الرأي العام للتثبت قبل اتخاذ أي موقف، استجابة لقول الله تعالى: { وإذا جاءهم أمر من الأمن او الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} [ النساء 83]، والله أعلم.
رأي الاستاذ الدكتور القرضاوي في الاستنساخ البشري:
يقول الدكتور القرضاوي حول هذا الموضوع(نقلاً من موقع القرضاوي):
الإسلام يرحب عموماً بالعلم والبحث العلمي، ويرى من فروض الكفاية على الأمة المسلمة أن تتفوق في كل مجال من مجالات العلم الذي تحتاج إليها الأمة في دينها أو دنياها، بحيث تتكامل فيما بينها، وتكتفي اكتفاءً ذاتياً في كل فرع من فروع العلم وتطبيقاته، وفي كل تخصص من التخصصات، حتى لاتكون الأمة عالة على غيرها.ولكن العلم في الإسلام مثله مثل العمل والاقتصاد والسياسة والحرب كلها يجب أن تتقيد بقيم الدين والأخلاق، ولايقبل الإسلام فكرة الفصل بين هذه الأمور وبين الدين والأخلاق، كأن يقول قائلون:دعوا العلم حراً، ودعوا الاقتصاد حراً، ودعوا السياسة حرة، ودعوا الحرب حرة،ولاتدخلوا الدين أو الأخلاق في هذه الأمور، فتضيقوا عليها، وتمنعوها من النمو والأنطلاق وسرعة الحركة.
إن الإسلام يرفض هذه النظرة التي أفسدت العلم والاقتصاد والسياسة، ويرى أن كل شئ في الحياة يجب أن يخضع لتوجيه الدين.. وأضاف الشيخ: إن منطق الشرع الإسلامي بنصوصه المطلقة وقواعده الكلية ومقاصده العامة يمنع دخول هذا الاستنساخ في عالم البشر، لما يترتب عليه من المفاسد التالية:
ـ الاستنساخ ينافي التنوع:
أولاً: الله خلق هذا الكون على قاعدة التنوع ولهذا نجد هذه العبارة ترد في القرآن كثيراً بعد خلق الأشياء والامتنان بها على العباد وحسبنا أن نقرأ قوله تعالى: {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانهاومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء} فاطر 27 ـ 28 ].
والاستنساخ يناقض التنوع،لأنه يقوم على تخليق نسخة مكررة من الشخص الواحد، وهذا يترتب عليه مفاسد كثيرة في الحياة البشرية والاجتماعية، بعضها ندركه وبعضها قد لاندركه إلا بعد حين.
ـ الاستنساخ ينافي سنة الزوجية:
إن الاستنساخ بالصورة التي قرأناها وشرحها المختصون، ينافي ظاهرة الازدواج، أو سنة الزوجية في هذا الكون الذي نعيش فيه. فالناس خلقهم الله أزواجاً من ذكر وأنثى، وكذلك الحيوانات والطيور والزواحف والحشرات، بل كذلك النباتات كلها.بل كشف لنا العلم الحديث أن الأزدواج قائم في عالم الجمادات، كما نرى في الكهرباء ظاهرة الموجب والسالب، بل إن الذرة وهي وحدة البناء الكوني كله تقوم على الكترون وبروتون، أي شحنة كهربائية موجبة وأخرى سالبة.والقرآن الكريم يشير إلى هذه الظاهرة حين يقول: ” {وخلقناكم أزواجاً}[ النبأ 8]، { وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى* من نطفة إذا تمنى} [ النجم 45 ـ 46 ] ،ويقول تعالى: {سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن انفسهم ومما لايعلمون} [يس 36]، ويقول: {ومن كل شئ خلقنا زوجين لعلكم تذكرون} [ الذاريات 49]، ولكن الاستنساخ يقوم على الاستغناء عن أحد الجنسين، والاكتفاء بجنس واحد.وهذا ضد الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وليس هذا في مصلحة الإنسان بحالة من الأحوال.
فالإنسان بفطرته يحتاج إلى الجنس الآخر، ليس لمجرد النسل، بل ليكمل كل منهما الآخر، كما قال تعالى:{ بعضكم من بعض} [ آل عمران 195]،وليستمتع كل منهما بالآخر كما قال تعالى في تصوير العلاقة الزوجية {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن}[ البقرة 187] ،ولهذا حينما خلق الله آدم وأسكنه الجنة، لم يبقه وحده، ولو كان في الجنة، بل خلق له من نفسه زوجاً ليسكن إليها، كما تسكن إليه وقال له:{أسكن أنت وزوجك الجنة}” [البقرة 35]،وإذا كان كل من الرجل والمرأة في حاجة إلى صاحبه ليسكن إليه، وتقوم بينهما المودة والرحمة، فإن ذريتهما أشد ماتكون حاجة إليهما، اي إلى جو الأسرة، إلى الأمومة الحانية، وإلى الأبوة الراعية إلى تعلم الفضائل من الاسرة، فضائل المعاشرة بالمعروف، والتفاهم والتناصح والتباذل والتعاون على البر.
والاستنساخ لايحقق سكن كل من الزوجين إلى الآخر، كما لايحقق الأسرة الني يحتاج الطفل البشري إلى العيش في ظلالها وحماها، واكتمال نموه تحت رعايتها. انتهى كلام الشيخ القرضاوي.
أطفال الأنابيب ـ In Vitro Fertilisation
من الناحية الطبية:
أول ماتم هذا الأمر في انكلترا عام 1978 من قبل الأطباء الانكليز “روبرت ادوارز(حصل على جائزة نوبل في الطب عام 2010)، “و” باتريك ستيبتو،عندما ولدت الطفلة لويس براون،وهي أول طفلة أنابيب في العالم.
وإن كانت الفكرة قديمة جداً ففي عام 1890 كتب “اوغست شتريندينبرغ كيف يكون مثلاً أخذ بيضة الأنثى ودراستها بالمجهر ومن ثم وضعها في محضنة بحرارة 36 ـ 41 غراد ومن ثم إضافة النطاف إليها، وكيف تتفاعل النطاف مع البيضة وتخصبها، وكيف تنقسم البيضة .
كيف تتم العملية؟
في زمن الإباضة عند الأنثى يؤخذ من المبيض عدة بيوض، وتوضع في مزرعة بدرجة حرارة 37 وبعد عدة ساعات يضاف إلى المزرعة كمية بسيطة من النطاف، ويلتحم الإثنان ويتم الإخصاب خلال 24 ساعة، ومن ثم توضع البيضة الملقحة في مزرعة جديدة وتفحص بالمجهر ومن ثم تحضن في محضنة خاصة جديدة لمدة 24 ساعة أخرى وتشابه المحضنة وسط النفير، وبعد أن تنقسم البيضة الملقحة 2 ـ 6 خلايا توضع في رحم الأنثى عن طريق المهبل وعنق الرحم ونسبة نجاح طفل الأنابيب 20 بالمائة فقط.
أما من الناحية الشرعية:
هذه المسألة قد تم بحثها في مجمع الفقه الإسلامي واصدر بشأنها مايلي:
أولاً: الطرق الخمس التالية محرمة شرعاً، وممنوعة منعاً باتاً لذاتها أو لما يترتب عليها من اختلاط الأنساب وضياع الأمومة وغير ذلك من المحاذير الشرعية.
الأولى: أن يجري التلقيح بين نطفة مأخوذة من زوج وبييضة ماخوذة من امرأة ليست زوجته ثم تزرع تلك اللقيحة في رحم زوجته.
الثانية: ان يجري التلقيح بين نطفة رجل غير الزوج وبييضة الزوجة ثم تزرع تلك اللقيحة في رحم الزوجة.
الثالثة: أن يجري تلقيح خارجي بين بذرتي زوجين ثم تزرع اللقيحة في رحم امرأة متطوعة بحملها.
الرابعة: أن يجري تلقيح خارجي بين بذرتي رجل أجنبي وبييضة امرأة أجنبية وتزرع اللقيحة في رحم الزوجة.
الخامسة: أن يجري تلقيح بين بذرتي زوجين ثم تزرع اللقيحة في رحم الزوجة الأخرى.
ثانياً: الطريقتان السادسة والسابعة لاحرج من اللجوء إليهما عند الحاجة مع التأكيد على ضرورة أخذ كل الاحتياطات اللازمة وهما:
السادسة: أن تؤخذ نطفة من زوج وبييضة من زوجته ويتم التلقيح خارجياً ثم تزرع اللقيحة في رحم الزوجة.
السابعة:أن تؤخذ بذرة الزوج وتحقن في الموضع المناسب من مهبل زوجته أو رحمها تلقيحاً داخلياً.
وأهم الحالات التي يلجأ فيها إلى أطفال الأنابيب:
1 ـانسداد النفير وحيد أو ثنائي الجانب عند المرأة
2 ـ أسباب متعلقة بالرجل وخاصة العقم بسبب قلة النطاف مثلاً.
3 ـ اضطرابات في عملية الإباضة
4 ـ انخفاض احتياطي المبيض مثل انقطاع الطمث الباكر أو الإصابة بالسرطان
5 ـ العقم لأسباب مجهولة
6 ـ إصابة الزوجة بمرض بطانة الرحم الهاجرة
7 ـ وجود أجسام في عنق الرحم مضادة للحيوانات المنوية
تحديد النسل ـ وقاية وعلاجاً
أنقل هنا رأي الاستاذ الشيخ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي حول هذا الموضوع حيث يقول:
إن الحديث عن تحديد النسل بمختلف أسبابه الوقائية والعلاجية حديث خطير وهام،وموضوع أخذ دوره بين السائل والمجيب،وخاصة فيما يتعلق بدور الشريعة الإسلامية وموقفها من تحديد النسل. ويساءلنا الجاهلون أو الغافلون أو الذين في قلوبهم مرض بلغة الجهالة أو الخبث، ترى أتكون الشريعة الإسلامية اقل اهتماماً بالإنسانية من القانونيين ورجال الطب والاجتماع في موضوع تحديد النسل؟!
ونجيب عليهم أن الإسلام نظر في هذا الموضوع شأنه شأن مواضيع أخرى، وعالجه، ولكن لامن نوع المعالجة الفوقية أو الملطفة، ولكن معالجة الجذور والدعائم، فإذا ماصلحت الجذور صلحت الفروع.
ولقد كان رأي الإسلام في هذا الموضوع أنه يشمل ثلاث شعب: الصحة الجسمية، والأخلاق الإنسانية،والمصلحة الإجتماعية، وإن معالجة موضوع تحديد النسل يتم من خلال النظرة إلى الموضوع باتخاذ سبل الوقاية التي تمنع المجتمع من الوصول إلى ماوصل إليه، بحيث تساوى عدد حالات الإجهاض مع عدد حالات الولادة في فرنسا،وحيث انتشر مايسمى الإجهاض الاجتماعي أو اللاقانوني، وبحيث وصلت عدد حالات الإجهاض سنوياً في أوروبا كما تقدر مجلة بولونيا إلى مليون و900أ لف، وحيث يشكل الإجهاض الإجتماعي 95 بالمائة من الحالات، ويقدر عدد حالات الإجهاض في كل عام في العالم 30 مليون.
لقد انطلق الإسلام في موضوع تحديد النسل من مبدأ الوقاية واتخاذ سبل الوقاية بالدرجة الأولى،ولكن إذا وقعت المشكلة على الرغم من اتخاذ كل أسباب الوقاية كان يضع العلاج، فإذا عالج بعد ذلك مشكلة امرأة طرقت باب طبيب لتستعين به في إسقاط حملها، فإنما ذلك استدراك لشطحة، أو سد لثغرة، أو إعانة على ضرورة.
والإسلام ينطلق في موضوع تحديد النسل من مبدأ التنسيق والتآلف بين حق الجنين، وحق الأبوين، وحق المجتمع، ومن خلال تآلف هذه الحقوق الثلاثة انطلقت أسس مبدأ تحديد النسل في الإسلام وهذا مالم يتحقق في القوانين الفرعية البشرية التي تحكم العالم دون حكم الإسلام. والكتاب يضم الأقسام التالية:
أولاً: القسم الأول: تحديد النسل بالأسباب الوقائية، وهذا يقسم إلى ثلاثة أبواب:
1 ـ رأي الفقه والشريعة
2 ـ رأي القوانين الاجتماعية
3 ـ المقارنة مابين رأي الفقه والحاجة الاجتماعية
ثانياً : القسم الثاني: ويضم تحديد النسل بالأسباب العلاجية ومايسمى الإجهاض العلاجي ويقسم إلى:
1 ـ رأي الفقه
2 ـ رأي القوانين الاجتماعية
ثالثاً: رأي الدين في حكم الإجهاض لحمل تكون من السفاح ورأي القوانين الوضعية والاجتماعية
رابعاً : حكم الإجهاض في القضاء الدنيوي.
القسم الأول: تحديد النسل بالأسباب الوقائية:
رأي الفقه والشريعة الإسلامية:
التعريف:هو جميع الوسائل التي قد يلجأ لها الزوج أو الزوجة من أجل أن تحول دون نشوء الحمل، كالعلاجات المختلفة والعزل.
والعزل تعريفاً : هو ان يعزل الرجل ماءه عن المرأة عند الجماع كي لايتم العلوق.
رأي الفقه:
عند علماء الفقه، فالمباح في الشرع مباحان:
1 ـ نوع يتفق مع حكم الأصل مما ينطوي على فائدة ومصلحة عامة كالتمتع بما أحل الله فحكم الإباحة هنا سارٍ في حق الفرد والجماعة.
2 ـ نوع لايتفق مع حكم الأصل من الإباحة الأصلية العامة، وإنما دخله حكم العفو،أو الإباحة من أجل عارض يتعلق بأشخاص بأعيانهم، فحكم العفو أو الإباحة يبقى خاصاً في نطاق هؤلاء دون أن يتجاوزهم إلى غيرهم.
فالأصل أن الزواج هو من أجل إقامة النسل،وإقامة مطلق الألفة والعشرة،ولكن عندما يكون الشقاق وعدم إقامة حدود الله هو الأقوى يصبح أبغض الحلال عند الله مباحاً، والقاعدة الفقهية تقول ليس كل ماهو مشروع للفرد مشروعاً للجماعة، وهي قاعدة فرعية مخرجة على القاعدة المعروفة الكبرى”تصرف الحاكم منوط بالمصلحة”، فليس من حق الحاكم الذي هو وكيل على الأمة أن يغامر بمصالحها، ولكن يجوز لأفراد من الأمة أن يغامروا بمصالحهم وحقوقهم،ويجوز لفرد من الناس أن يقتدي في صلاته بفاسق إذا شاء ذلك، غير أن الحاكم لايجوز له أن ينصب إماماً فاسقاً،كما يجوز لولي المقتول أن يعفو عن القصاص ولكن الحاكم لايملك أن يلزم ولي المقتول به.
من كل هذا نستخرج الأسس والقواعد التي نظر فيها الفقه والإسلام لموضوع تحديد النسل وهي أن النكاح شرع أصلاً من أجل النسل، ولحكمة بقاء النوع كما قال صلى الله عليه وسلم” تناكحوا، تناسلوا،أباهي بكم الأمم يوم القيامة ” [حديث صحيح عن مختصر المقاصد للزرقاني]
(ملاحظة: وهناك الحديث النبوي الشريف:”تزوجوا الودود الولود، فإني مُكاثرٌ بكم الأنبياء يوم القيامة“)[أخرجه أحمد والطبراني عن أنس بن مالك رضي الله عنه وقال الألباني حديث حسن)
(ملاحظة أخرى: الحديث الشريف: ” عليكم بالأبكار، فإنهنّ أنتقُ أرحاماً،وأعذبُ أفواهاً،وأقلُّ خَبّاً، وأرضى باليسير“.[أخرجه الطبراني عن جابر بن عبد الله وصححه الألباني]
( أنتق أرحاما: أي أكثر أولادا)
فالحكم العام هو عدم جواز منع تحديد النسل ولكن الشارع الحكيم جلّ جلاله رخصّ للزوجين في محاولة جزئية وفردية الحد من التناسل في ظروف أو شروط معينة،ولكن لايجوز للحاكم أن يصدر قانوناً يمنع به التناسل أو التكاثر،لأنه لاحق له في ذلك.
الأحاديث الواردة في العزل:
روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه في غزوة “بني المصطلق” أنهم أصابوا سبايا،فأرادوا أن يستمتعوا بهن ولايحملن،فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن العزل، فقال:” ماعليكم أن لاتفعلوا، فإن الله قد كتب من هو خالق إلى يوم القيامة“[ أخرجه البخاري].
لعلّ أهم مانستنبطه من الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن العزل مجاز، مكروه كراهة تنزيهية.
والدليل على كونه مجاز: أن الصحابة كانت تعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر بن عبد الله” كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل:وقال:كنا نعزل على عهد رسول الله فبلغ ذلك رسول الله فلم ينهنا”[أخرجه الشيخان].” ،وفي حديث آخر: أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنّ لي جاريةً،وهي خادمنا،وسانيتنا أطوف عليها،وأنا أكره أن تحمل؟فقال:اعزل عنها إن شئت،فإنه سيأتيها ما قُدر لها” [أخرجه مسلم وأبوداود والنسائي]
وقد ذكر الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله في”جامع العلوم والحكم” من أن قوماً كانوا عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالوا: إن قوماً زعموا أن العزل هو المؤودة الصغرى فقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه:”لاتكون مؤودة حتى تمر على التارات السبع تكون سلالة من طين ثم تكون نطفة ثم تكون علقة ثم تكون مضغة ثم تكون عظاماً ثم تكون لحماً ثم تكون خلقاً آخر” فقال عمر:”صدقت أطال الله بقاءك”.
والدليل على كونه مكروه حديث جذامة الأسدية بنت وهب أخت عكاشة:حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس وهو يقول:لقد هممت أن أنهى عن الغيلة،فنظرت في الروم وفارس،فإذا هم يُغيلون أولادهم،فلا يضر أولادهم ذلك شيئاً.ثم سألوه عن العزل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:ذلك الوأد الخفي“]أخرجه مسلم]
حكم العزل عند الفقهاء:
العزل: مجاز مكروه كراهة تنزيهية، مشروط برضى الزوجة، وأن لايكون فيه ضرر أحد الزوجين أو كليهما.
فالأئمة الأربعة متفقون على كون العزل مجاز وإن كان مكروهاً، والأئمة الثلاثة(مالك، أحمد، أبو حنيفة) اشترطوا إباحته برضى الزوجة.
فالإمام الكاساني وهو من الحنفية يقول: ” ويكره للزوج أن يعزل عن امرأته الحرة بغير رضاها لأن الوطء عن إنزال سبب لحصول الولد،ولها في الولد حق، وبالعزل يموت الولد، فكان سبباً لفوات حقها، وإن كان العزل برضاها لايكره لأنها رضيت بفوات حقها”.
ثم إن العزل من شأنه أن يفوت عليها لذة الجماع، فإن عزل عنها بدون رضى منها فقد أضرَّ بها. فالعزل لايجوز إذا لم توافق الزوجة، وقد قال عمر رضي الله عنه” نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها“.[رواه الإمام أحمد وابن ماجة]
كما أن العزل لايجوز إذا كان فيه ضرر أحد الزوجين أو كليهما، فلو نشأ عنه ضرر بهما أو بأحدهما وعلم ذلك بشهادة طبيب موثوق حرم العزل، سواء توفر رضى الزوجة ام لا، إذ الشرع لايملك الإنسان اختياراً بصدد الإقدام على ماقد يضره.
الوسائل الأخرى المانعة للحمل:
بالقياس على العزل يمكن جواز الوسائل الأخرى التي يتقي بها الزوجان أو أحدهما الحمل كالحبوب المانعة للحمل عند النساء، أو اللجوء للجماع في الأوقات التي لايتوقع فيها العلوق… بشرط:
1 ـ اتفاق الزوجان
2 ـ عدم تضرر الجسم والنفس: بناء على مشورة طبيب موثوق.
أما الوسائل التي من شأنها القضاء على النسل قضاءً مبرماً عند الرجل أو المرأة باتفاق منهما أو بدونه، بدافع ديني أو غيره كأن يستعمل الرجل علاجاً من شأنه أن يستأصل الشهوة أو الطاقة على الجماع، أو عملية استئصال رحم لمنع النسل بدون وجود أسباب أخرى فهو محرم باتفاق جمهور العلماء.
العزل والتناسق بينه وبين حق الجنين ـ وحق الأبويين ـ وحق المجتمع:
كما ذكرنا فإن الأحكام الشرعية يقع فيها التناسق مع حق الثلاثة المذكورين أعلاه. فهل نجد هذا التناسق في العزل؟
1 ـ حق الجنين:
الجنين هنا ليس له وجود أصلا، حتى يترتب له حقوق،وكل مافي الأمر هنا هو الماء المهين الذي يضم ملايين الحيوانات المنوية، والحيوان المنوي لاتتعلق به أهلية وجوب، ولاأهلية أداء،فلا يرث ولايورث، ولايناط به أي حق عيني أو معنوي.
2 ـ حق المجتمع:
إن إهدار الماء المهين لايفوت على المجتمع حقاً نص عليه الشارع، ولايهدده بضرر قد يحيق به، خاصة أن الإباحة هنا فردية وليست عامة، أما إذا كانت عامة فهي مرفوضة لأنها عدوان على حق المجتمع.
3 ـ حق الأبوين:
العزل مجاز مكروه والإسلام يستحب ترك الأمور على سجيتها والتسليم لأمر الله، ولكن إذا حكمت الظروف والشروط أجاز العزل وأجاز تحديد النسل ضمن الشروط المذكورة أعلاه، وكإباحة فردية فيحق للزوجين ان يمارسا حقهما مع التذكير والتذكر بأنه عمل مكروه فلايتماديا.
تحديد النسل بالأسباب الوقائية:في الميزان الاجتماعي:
ذكرنا أن الشريعة نظرت إلى موضوع تحديد النسل وقائياً وأباحت به ولكن في حالات فردية خاصة، وضمن ظروف خاصة، وتحت شروط خاصة. اما مايتعلق بالدعوة العامة إلى تحديد النسل والتي تناولت بها القوانين الاجتماعية الفرعية البشرية التي قامت على التجربة وعلى حصاد نتائج الربح والخسران فهي دعوة باطلة آثمة لامسوغ شرعي لها.
ظهور الدعوة إلى تحديد النسل:
أول ماظهرت على يد القسيس والباحث الاقتصادي البريطاني “مالتوس” الذي نشر عام 1798 مقالً تحت عنوان”تزايد السكان وتأثيره في تقدم المجتمع في المستقبل” والذي حث فيه على تحديد النسل والإنجاب، لأن تزايد عدد السكان يفوق نمو وسائل الانتاج، ودعا إلى عدم الزواج إلا بعد التقدم بالسن، والإقلال من الإنجاب عند الأزواج، وأيد فرضيته هذه الباحث الفرنسي فرنسيس بلاس، ثم الطبيب الأمريكي تشارلز نورتون، وهكذا بدأت فكرة الدعوة التي سرعان ماتلقفها الباحثون عن الشهرة، والغرب المقبل على بحر من التحلل الذي لاشاطئ له ولاقرار.
أما الرد على مالتوس وأعوانه:
1 ـ ان فرضية مالتوس تقوم على العلاقة الجامدة مابين مكنونات الأرض ومدخراتها ومابين حاجيات الإنسان المتزايدة، وهي تغفل أن هذه العلاقة ما كانت في يوم من الأيام جامدة، بل هي علاقة تفاعل وتأثير،فبقدر مايستفيد الإنسان من عقله،بقدر مايزيد من وسائل الأنتاج وتطويرها، وبقدر ماتزداد الحيل والطاقات الانسانية حول مكنونات الله لعباده في الأرض تزداد شحنة النفع والخير في هذه المكنونات.
2 ـ أنه كلما كثر عدد الأفراد ازدادت نسبة المبدعين والعباقرة فيهم، وهم الأشخاص الذين يلعبون الدور الأكبر في التقدم والتطور، وعلى افتراض ان البلاد ذات الأعداد الصغيرة ذات أفراد ذوي مواهب كثيرة، ولكن كثرة العمل على قلة العدد تجعل العسير على هؤلاء الأفراد أن يجدوا الوقت للابتكار والإبداع، وإنما يضطرون لحل المشاكل بحلول سطحية وفوقية لأنهم ليس لديهم الوقت الكافي، وهذا مانلاحظه من كثرة أصحاب الاختصاصات العميقة في الأمم الكثيرة العدد، ومن قلة الرجال هؤلاء في الأمم القليلة العدد.
3 ـ إن وقائع التاريخ وتجارب الأمم تفند نظرية مالتوس، وإذا سوغنا لأنفسنا وقبلنا مبدأ تحديد النسل في سائر أطراف العالم ـ وإن يكن العالم كله قد لفظ هذا المبدأ ـ فإننا عندما ننظر إلى عالمنا العربي نجد أن تطبيق هذا المبدأ لن يجلب له إلا المزيد من الكوارث والمزيد من العقبات.
فالعالم العربي وهو جزء من الأمة الإسلامية، من حيث المساحة تتجاوز مساحته 12 مليون كم2، فمساحته إذاً تقارب عشر مساحة المعمورة، ويزيد كثيراً على ضعف مساحة أوروبا،ويعادل المرة وربع المرة من بلاد الصين، ويزيد المرة ونصف المرة على مساحة أمريكا.وهو يقع في أهم المناطق ومفاتيح المحيطات والبحار كلها تقع تحت يده،فهو يشرف على مضيق جبل طارق حيث الاتصال مابين المحيط الأطلسي والبحر المتوسط، وعلى قناة السويس حيث الوصل مابين البحر الأبيض والبحر الأحمر،وعلى مضيق باب المندب حيث الاتصال مابين المحيط الهندي والبحر الأحمر. ومن حيث الكثافة السكانية فإنها تعادل 8 ـ 9 أشخاص/كم2، بينما هي في أوروبا تزيد على 87، ومن حيث الثروات فحدث ولاحرج. وإن أي دعوة لتحديد النسل فيه تعني الدعوة إلى خرابه، لأن التقدم يرتبط بالإنسان، وبعدد النفوس القادرة على العطاء، ولن تتحقق المشاريع الاقتصادية الكبرى إلا بالإنسان، لأن عوامل الانتاج ثلاثة: الأرض ورأس المال والإنسان.والإنسان أهمها لأنه هو الذي يطيع الأرض والمال.
وعجب العجاب أن مالتوس وشيعته قد دفنوا أراؤهم في بلاد الغرب وعندنا ترفع الرايات من أجل إحياء مبادئهم، هناك في الغرب يلحون على زيادة عدد السكان وعندنا في الشرق يلحون على الدعوة إلى تحديد عدد السكان، ورجل الغرب ينظر إلى عالمه عالم الغرب ويهدد بالثبور والهلاك إن لم يزدد عدد السكان، وعندما ينظر إلى شرقنا وعالمنا يهدد بالثبور والهلاك إن لم تحدد الزيادة في عدد السكان، وهَمهم ومهمتهم ان يبيد الشرق وأن لايستكثر أبناءه، من أجل أن يبقى الشرق كما أراده الغرب أرضاً وسوقاً وقطيعاً.
ولكن على الرغم من ذلك نجد أن الشرق مازال والحمد لله وخاصة بأهله المسلمين، لازالوا في خير ونعمة ويرفضون هذه الأفكار الخبيثة على الرغم من ترويج المروجين لأهل الغرب بينهم، وعلى النقيض نجد أن أهل الغرب أنفسهم يحددون عدد سكانهم ويحفرون قبورهم بأيديهم على الرغم من المغريات والدعوات إلى عدم تحديد النسل بينهم، والسبب أن حياة الغرب وسلطان الحضارة الحديث حوَّل إنسان الغرب إلى حيوان أناني شرس، يؤثر بالأثرة بدل الإيثار، متقوقع على نفسه يرفض التعاون والأخوة، ومن أهم مظاهر حياة إنسان الغرب هذه التي تفسر لنا ذلك:
1 ـ إن حياة الغرب المادية جعلت الإنسان الغربي يفكر فقط قي ذاته ونفسه، ويفكر أن يوفر لنفسه أعلى درجات اللذة وأكمل أسباب المتعة، فأنت لاتكاد تجد اباً يسأل عن ابنه أو ابنته، أو زوجاً يتكفل بنفقات زوجته، أو أخاً يعين أخاه، الكل في سباق على المتعة والترف بأتم أشكالهما، فلا الأب لديه الوقت أو المال لأبنائه، فهو لاحاجة له بهم، والأم أيضاً متسابقة في معركة السباق لتحقيق لذات النفس، أما الأمومة فلا محل لها هنا وإن كان لها محل عند بعضهن فيكمن في إرواء ظمئها بأقل قدر ممكن من الأطفال، أو لعلّ الكلاب تغني!
2 ـ حياة الغرب وقشوره زرعت في نفوس أبنائه فكرة الحصول على كل شئ من أجل إرواء لذة التملك، فالبيت لابد أن يتوفر فيه كل أسباب الراحة والمتعة، وهذا وذاك يتطلب المال فلابأس من شراء آلة تسجيل أو تلفزيون أو براد جديد، في مقابل التخلي عن طفل أو اثنين، أو قل إن الحياة بلا أطفال نعيم لايحتاج غلى بكاء أو عويل، وإن اشتد حنين الأم واشتاقت إلى أمومتها في الليل البهيم فلعل معانقة الكلب تغني عن معانقة الطفل!!،
3 ـ كما أن حياة اللذة وإرواء الشهوات في سبيل الحرام متوفر وبأسهل السبل والوسائل في الغرب،فلماذا الزواج طالما طريق اللذة الرخيص مرصوف مفروش بالورود، ولماذا الأولاد طالما حبوب منع الحمل تغني عن الذرية والنسل ومشاكلهما، ويكفي أن هناك إعلانات في الباصات في أمريكا تقول: هل تريدين أن تجهضي، اطلبي ذلك حالا!
وإذا مافكر إنسانهم بالغرب فعندما تقترب الشيخوخة حيث لامثوى له ولامعين، فلا الشباب يبقى، ولا الرجولة تبقى والكل مشغول بنفسه.
4 ـ والمرأة هناك لم تعد امرأة،بل إن ظروف الحياة والعمل قد جعلت منها آلة كالآلات، وأصبحت تجد اللذة هناك في الحانوت أو السوق أو المتجر بجانب الرجل، تبيع وتشتري. أما الأمومة وتربية الطفل، والعناية بالمنزل فهذا أمر شرقي رجعي، وأما الحمل والرضاع فهذا أمر شرقي رجعي، وكيف لا، فبالحمل والرضاع تخسر رشاقتها وطراوة عودها، وكيف لا وبالعناية بالمنزل والطفل إشغالاً لها عن فرص اللهو والمتعة هنا وهناك.
وهكذا أرادوا للشرق والمسلمين أن يقلوا عدداً فيُستغلوا أمداً،ولكن لعل جذوة الإيمان التي مازالت في الصدور تقف لهم بالمرصاد، فالشرق يبقى والإسلام يبقى، بل هو الأبقى،وأرادوا للغرب النماء، ولأبنائهم الزيادة، ولكن شريعة الإنسان في صدورهم حالت دونهم ودون بغيتهم، فهم في اندحار واندثار، وهاهم يرتشفون اللذة ـ حسب تعبيرهم ومفهومهم ـ على قارعة الطريق مابين كأس خمر، ومابين كلب يعاشر، ومابين عصفور في إحدى الحدائق يطعم، أو سرير في إحدى المشافي حيث لايراهم إلا السقف والطبيب، إن كان الطبيب غير أوروبي!!!انتهى كلام الشيخ البوطي.
وقد صدرت قرارات هيئة كبار العلماء والمجمع الفقهي فيما يتعلق بتحديد النسل ومنها:
قرار هيئة كبار العلماء رقم 42 وتاريخ 13/4م 1396 بشأن تحديد النسل:
“نظراً لأن الشريعة الإسلامية ترغب في انتشار النسل وتكثيره وتعتبر النسل نعمة كبرى ومنّة عظيمة منّ الله بها على عباده، فقد تضافرت بذلك النصوص الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مما أوردته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في بحثه المعد للهيئة والمقدم إليها ونظراً إلى أن القول بتحديد النسل أو منع الحمل مصادم للفطرة الإنسانية التي فطر الله الخلق عليها وللشريعة الإسلامية التي ارتضاها الرب لعباده، ونظراً إلى أن دعاة القول بتحديد النسل أو منع الحمل فئة تهدف بدعوتها إلى الكيد للمسلمين عامة وللأمة العربية المسلمة بصفة خاصة حتى تكون لهم القدرة على استعمار البلاد واستعمار أهلها. وحيث أن في الأخذ بذلك ضرباً من أعمال الجاهلية وسوء ظن بالله وإضعافاً للكيان الإسلامي المتكون من كثرة اللبنات البشرية وأربطها. لذلك كله فإن المجلس قرر بأنه لايجوز تحديد النسل مطلقاً ولايجوز منع الحمل إذا كان القصد من ذلك خشية إملاق لأن الله تعالى هو الرزاق ذو القوة المتين ومامن دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها. أما إذا كان منع الحمل لضرورة محققة ككون المرأة لاتلد ولادة عادية وتضطر معها إلى إجراء عملية جراحية لإخراج الولد أو كان تأخيره لفترة ما لمصلحة يراها الزوجان فإنه لامانع حينئذ من منع الحمل أو تأخيره عملاً بما جاء في الأحاديث الصحيحة وماروي عن جمع الصحابة رضوان الله عليهم من جواز العزل وتمشياً مع ماصرح به بعض الفقهاء من جواز شرب دواء لإلغاء النطفة قبل الأربعين بل قد يتعين منع الحمل في حالة ثبوت الضرورة المحققة.
وجاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم 1 بشأن تنظيم النسل:
“إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 ـ 6 جمادى أولى 1409 هجري والموافق 10 ـ 15 كانون الأول 1988م ، بعد إطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع “تنظيم النسل” واستماعه للمناقشات التي دارت حوله، وبناء على أن مقاصد الزواج في الشريعة الإسلامية الإنجاب والحفاظ على النوع الإنساني وأنه لا يجوز إهدار هذا المقصد، لأن إهداره يتنافى مع نصوص الشريعة وتوجيهاتها الداعية إلى تكثير النسل والحفاظ عليه والعناية به باعتبار حفظ النسل أحد الكليات الخمس التي جاءت الشرائع برعايتها. قرر مايلي:
أولاً: لايجوز إصدار قانون عام يحد من حرية الزوجين في الإنجاب
ثانياً : يحرم استئصال القدرة على الإنجاب في الرجل أو المرأة، وهو مايعرف ب”الإعقام” أو ” التعقيم”، مالم تدعو إلى ذلك الضرورة بمعاييرها الشرعية.
ثالثاً :يجوز التحكم المؤقت في الإنجاب بقصد المباعدة بين فترات الحمل، أو إيقافه لمدة معينة من الزمان، إذا دعت إليه حاجة معتبرة شرعاً،بحسب تقدير الزوجين عن تشاور بينهما وتراض بشرط أن لايترتب على ذلك ضرر، وأن تكون الوسيلة مشروعة، وأن لايكون فيها عدوان على حمل قائم. والله أعلم.
وجاء في أحد أعداد مجلة الرائد التي كانت تصدر في ألمانيا(العدد 303) مقالاً للأستاذ الدكتور محمد الهواري رحمه الله تحت عنوان الأخلاق الحياتية:
تنظيم النسل والإخصاب:
1 ـ استعمال موانع الحمل:
يجيز الإسلام استعمال موانع الحمل إذا كانت لاتؤدي إلى فصل أساسي بين الزواج ووظيفته الإنجابية. ولقد استعمل العزل منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم الذي أكد على ضرورة اتفاق الزوجين الرجل والمرأة على ذلك. وقد أجاز كثير من الفقهاء على مدار التاريخ الإسلامي التنظيم العائلي لأسباب عدّة، تبدأ من الأسباب الصحية، إلى الأسباب الاجتماعية والاقتصادية، وحتى ما يتعلق منها باهتمام المرأة بجمال بدنها. ويشترط في استعمال موانع الحمل الاصطناعية أو الطبيعية عل حدٍ سواء، ألا تكون مؤذية ضارة، وألا يكون لها فعل إجهاضي. ويجب ان يكون استعمال موانع الحمل من الزوجين من غير ان يكون وراء ذلك إجبار أو ضغط من أي جهة أخرى، كالسلطة أو المؤسسات المختلفة. والدول التي تتبنى سياسة تنظيم النسل عليها أن تقوم بحملة توعية وتربية خاصة بعيدة كل البعد عن الإكراه، وأن يبقى القرار النهائي في ذلك للأسرة وحدها.
2 ـ تنظيم الرضاع الطبيعي:
يشجع الإسلام بشدة على الإرضاع الطبيعي من الأم مباشرة، مع الإشارة إلى انه لايمكن اعتبارها كوسيلة موثوقة لتنظيم النسل في مستوى العائلة الفردية.بيد أنه من الناحية الجماعية لوحظ أنها وسيلة ناجعة أكثر من غيرها لتنظيم النسل، وذلك بسبب انخفاض درجة الخصوبة لدى النساء اللواتي يقمن بإرضاع الوليد من الثدي. وليس عبثاً أن يذكر القرآن الكريم بأن الإرضاع الكامل هو الذي يستمر حولين كاملين.يقول الله تعالى{ والوالدات يُرضعن أولادَهنّ حولين كاملين لمن أرادَ أن يُتمّ الرضاعة}[البقرة 233].
والرضاع الطبيعي من وجهة النظر الإسلامية ليس مجرد وسيلة تغذوية، أو وسيلة لتنظيم النسل، بل هو فوق ذلك كله” قيمة معنوية” تسهم في إيجاد علاقة ورابطة خاصة بين المرضع والرضيع. ولهذا أعطى الإسلام أهمية بالغة لعملية الإرضاع الطبيعي ومالها من أثر على الصفة الشرعية التي يكتسبها الرضيع وانتسابه إلى قرابة الرضاعة وتسمية المرأة التي أرضعته بالأم المرضع، وهي مماثلة تماماً للأم التي حملته، وأن الأولاد الذين أرضعتهم الام المرضع هم إخوته وأخواته من الرضاعة، ومن هنا جاءت القاعدة الفقهية المعروفة” يحرمُ بالرضاع مايحرم من النسب”. وهذا يعني أن المرء لايجوز له أن يتزوج من الفتاة التي رضعت معه من الأم المرضع لأنها أخته.
3 ـ موانع الحمل المهبلية:
إذا كانت الوسيلة المهبلية المستعملة لمنع الحمل تؤدي إلى الإجهاض فإنها تعتبر وسيلة مرفوضة، لأنها لا تقوم بوظيفة منع علوق البيضة الملقحة. بيد أن الأجيال الحديثة من هذه الموانع تحوي سلكاً من النحاس الذي يقوم بتحرير شوارد النحاس المبيدة للنطف، والبعض الأخر يحوي هرمون البروجسترون الذي يؤدي إلى زيادة كثافة مفرزات عنق الرحم فتصبح كتيمة وتمنع عبور النطف وفي الحالتين يمكن اعتبار الوسيلتين من وسائل منع الحمل وليس من الوسائل المسببة للإجهاض، وهذا ما أكدته منظمة الصحة العالمية.
4 ـ التعقيم:
التعقيم عملية مرفوضة شرعاً إلا إذا استدعت إليه ضرورة طبية.ويرى بعض الفقهاء جواز التعقيم بالنسبة للمرأة التي أنجبت عدداً من الأطفال وهي في مراحلها الأخيرة من سن الخصوبة.ولابد في هذا من أخذ موافقة الأطراف المعنية(الزوجين)، وأن يوضح أنه لو غيّر الأطراف رأيهم، فليس هناك أية ضمانة لأن تكون العملية معكوسة.
هذا ولايجوز للسلطات الحكومية أن تتبنى سياسة تكره فيها الأفراد على التعقيم، كما لايجوز للطبيب أن يمارس هذه العملية إذا لم يكن مقتنعاً أنها في مصلحة المريض.
الجنين في ميزان علم الوراثة
الوراثة الحيوية في الإسلام
يقول النابغة الذبياني:
فتىً، لم تلدهُ بنتُ أُمٍّ قريبةٍ فيضوى، وقد يضوى رديدُ الأقاربِ
يقول الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله في كتيب”منهج التربية في الإسلام” يقول:
“قالت النظرية الإسلامية بالتكافؤ بين النوعين وليس معنى التكافؤ في النظرة الحمقى كما يريدها كثير من الماديين أن يكون التكافؤ في ” الغنى” وإنما التكافؤ في ” جواهر الأشياء” لا في أعراضها.. تكافؤ نفسي، تكافؤ صحي، تكافؤ خلقي وتكافؤ قيمي. والإسلام يضع هذه المسألة نصب عينيه قبل أن يبدأ في تربية الوليد لأنه يريد أن يضمن للوليد وعاءاً صالحاً ينتج منه ذلك الولد، هذا الوعاء الصالح سيحمل بقانون الوراثة في نوعيه… أي في أبويه صفات وهذه الصفات هي التي ستكون محور التربية.ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم” تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس“.(حديث ضعيف)
ويتابع رحمه الله :
“وبعد ذلك تعظنا السنة النبوية في أن نتجنب القريبات حين نتزوج لأن القريبات حين يتزوج منهن الإنسان يؤل أمر النسل إلى ضعف ، أما إذا اغترب فإنه يؤل أمر النسل إلى قوة. ويتابع رحمه الله: “إن القرآن الكريم حينما حرم زواج الأمهات وزواج البنات وزواج القريبات من الأدنى، إنما حرص على أن يوجد النسل القوي. وإذا ماابتعد الإنسان بهذه القرابة كان ذلك معناه إيجاد نسل قوي.حين يوجهنا القرآن وتوجهنا السنة إلى هذا يكون قد لاحظ أول شئ في التربية أن يكون الوليد الذي يؤمل عطاؤه من الله أن يكون وليداً قوياً في خصائصه لأنه لن يجمع خاصية جنس واحد ولانوع واحد”.
يقول الدكتور شوكت الشطي( أستاذ سابق في كلية الطب بجامعة دمشق) في أحد أعداد مجلة “حضارة الإسلام” التي كان يشرف عليها الشيخ الدكتور مصطفى السباعي رحمهما الله يقول:
“الوراثة الشرعية هي انتقال مايملكه السلف المورث بعد موته إلى الخلف الوارث، والوراثة الحيوية هي انتقال الصفات الخَلقية والخثلقية من الأصول إلى الفروع، فالتعبيران متماثلان مع أن الفرق المقصود في كل من التعبيرين عظيم جداً .
ففي الوراثة الشرعية: الوارث شخص والميراث مال منقول أو عقار أو أرض.
والوراثة الحيوية: فالميراث صفة أو أحد المظاهر الحيوية المختلفة، ففي قولنا أن الإبن قد ورث أنف أبيه وخلق خاله ورزانة عمه معناه انه يشبه هذا أو ذاك النسيب في إحدى ملامحه أو سجاياه.
ويتابع رحمه الله :”ولقد اشار القرآن الكريم في سورة مريم إلى وراثة الصفات في معرض تبرئتها عليها السلام حين قالوا لها يامريم لقد جئت شيئاً فرياً وذلك بالآية الكريمة: { يا أخت هارون ماكان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغياً}[ مريم 28].ويبدو لنا أن المقصود من ذلك هو مخاطبة مريم والتخفيف عنها من أساءة الناس إلى سمعتها بالافتراء عليها وذلك ببيان مايفيد انها من جبلة أولئك الصالحين أمثال النبي هارون الذي اشتهر بتقواه وصلاحه فناداها القرآن الكريم تأكيداً لطهارتها وبلاغة في التعبير عن ذلك بقوله يا أخت هارون في الصلاح والكمال وأكد ذلك المعنى بأن أباها كان صاحب خلق كريم ليس بالرجل السوء كما أن أمها عفيفة طاهرة”.
ويقول الأستاذ الدكتور أحمد شوكت الشطي رحمه الله(حضارة الإسلام عدد تموز 1973م):”
“يقصد بالنزوع إلى الأصل مشابهة الحفدة للأصول البعيدة من الأجداد.بينما يقصد بالوراثة الحيوية مشابهة الأصول المباشرة من أباء وأجداد.ويرادف كلمة النزوع إلى الأصل كل من كلمتي التأسن والتأسل، فيقال تأسل جده: نزع إليه في الشبه، ومثلها تأسنه.
ولقد كان القضاة المسلمون يعرفون ذلك تمام المعرفة ، وكانوا يحيلون قضايا الشك بالنسب إلى خبراء سموهم”أهل القافة” أو ” المقيفين”مفردها القائف: وهو الذي يعرف الأثار ويعرف شبه الرجل أو الولد بأخيه وأبيه وأمه ويقال هو أقوف الناس). وقد اشتهر في علم القيافة بنو مدلج وقد قيل عن خبرتهم أنه إذا عرض على أحدهم مولود بين عشرين امرأة أو رجلا فيهم امه أو أبوه ألحقه بأحدهما أو بهما جميعا.
(وفي عهد عمر الفاروق رضي الله عنه جاء رجل واتهم امرأته بأنها حبلى من الزنا، وأنه غاب عنها مدة طويلة فوجدها حاملاً، فهّم عمر بأن يرجمها فقال له معاذ ابن جبل : يا أمير المؤمنين: إن كان لك سبيل عليها فليس لك سبيل على ما في بطنها، دعها حتى تلد، فلما ولدت كان الولد أشبه الناس بأبيه، فقال أبوه هذا ابني فقال عمر: لولا معاذ لهلك عمر، عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ).
وقد استوحى قضاة الإسلام أحكامهم العادلة في هذا الشأن مما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ثبت أن ضمضم بن قتادة ولد له مولود اسود من امرأة من بني عجل فأوجس لذلك فشكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إن امرأتي ولدت غلاماً أسود، ولاشك أن الرجل كان في حالة هيجان عظيم لايقنعه رأي مالم يكن منبعثا من ضميره ووجدانه لذلك كلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنطق يألفه واضطره إلى ذكر الجواب من عنده فقال له: هل عندك إبل ؟ قال: نعم. قال: فما ألوانها؟ قال: سود. قال: هل فيها من أورق؟ قال: نعم. قال: فأنى له ذلك؟ قال: عسى أن يكون نزعة عرق. قال: وهذا ـ ويعني ولده ـ عسى أن يكون نزعة عرق. قال: فتقدم عجائز من بني عجل فأخبرن أنه كان للمرأة جدة بعيدة سوداء.وهكذا بين الرسول صلى الله عليه وسلم حادث النزوع إلى الأصل وإمكان شبه المولود بالجد البعيد من أصوله لأن ذلك الشبه ينتقل في الأصلاب على رأي العلماء العرب حينها ويستقر اخيراً في صورة أحد الأولاد وبه يحصل الشبه.
وجاء على لسان رجل من بني عامر بن صعصعة أنه تزوج امرأة من قوم ثم غاب في أسفاره بضعة شهور ولدت له امرأته خلالها ولداً أحمر ـ أشقر ـ فدعاها وشهر سيفه في وجهها وقال:
لاتمشطي رأسي ولاتفليني وحاذري الحسام في يميني
واقتربي دونك أخبريني ما شأنه أسود كالهجيني
خالف ألوان بني الجون
فأجابته:
إن له من قبلي أجدادأ بيض الوجوه كرماً أنجاداً
ماضرهم أن حضروا أمجادا أو كافحوا يوم الوغى أندادا
أن لايكون لونهم السوادا
وهكذا ردت هذه الزوجة العربية بأدبها الرفيع تهمة زوجها فأرشدته إلى ماهو حق وهو أن الإبن قد يرث لون أجداده.
ولقد فسر ابن القيم في زمانه هذا الحادث تفسيراً علمياً وذلك بقوله: ” إن هنالك أجزاء تنتقل من السلف البعيد إلى الخلف فتظهر صفة ظن أنها غابت”. وهو تفسير يحاكي مع فارق النسبة بالزمن والوسائل تفسيرنا اليوم لانتقال الصفات بالوراثة عن طريق الصبغيات الموجودة في النواة بواسطة الجينات.
وأما بالنسبة إلى الزواج من الأقارب فقد جاء في المثل العربي:”اغتربوا ولاتضووا”.أي تزوجوا من الأجنبيات ولاتتزوجوا من القريبات لئلا تسببوا ضوى نسلكم أي هزاله.
الضوى: في اللغة دقة العظم، والهزال وقلة الجسم خلقة بسبب التزاوج بين الأقارب وقد عبر العرب عن ذلك بتداخل النسب.
وقد حرّم الله تعالى الزواج من الأقارب من الدرجة الأولى كالامهات والبنات والأخوات والعمات والخالات…قال تعالى{حُرِّمت عليكُم أُمهاتُكُم وبناتُكُم وأخواتُكُم وعمّاتُكُم وخالاتُكُم وبناتُ الأخِ وبناتُ الاختِ وأُمهاتُكُمُ اللاتي أرضَعنكُم وأخواتُكُم من الرّضاعة وأُمهاتُ نِسائِكُم ورَبائِبًكُم اللاتي في حُجورِكُم من نسِائِكُم اللاتي دخلتم بهنّ فإن لم تكونوا دخلتُم بهِنَّ فلا جُناحَ عليكم وحلائِلُ أبنائِكُم الذينَ من أصلابِكُم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سَلَف إنّ اللهَ كانَ غفوراً رحيماً}[النساء 23].
وقد جاء هذا التحريم أيضاً في الديانات السماوية الأخرى كاليهودية والمسيحية ولكن بسبب التحريفات والافتراءات التي دخلت عليها من بعض الأحبار والرهبان،فقد وجدنا فيها مايخالف ذلك كما ذكر في التوراة المحرفة أن ابراهيم عليه السلام قد تزوج من أخته لأبيه سارة، وكذلك الافتراء على سيدنا لوط بأنه قد ضاجع ابنتيه بعد ان سقتاه الخمر ،لعنهم الله على مايقولون ويفترون.
وأما في الديانات الوضعية فإن الفراعنة كانوا يسمحون بزواج الأخ من أخته، وهذا ينطبق مثلاً على الملكة نفرتيتي التي تزوجت من أخيها،وكذلك فإن الفرس كانوا يسمحون بزواج الأخ من أخته،وكان المجوس يسمحون أيضاً الاتصال الجنسي بين العم وابنة أخيه،والخال وابنة أخته والعكس…
وفي عصرنا الحالي فإنه وإن كان الزواج من الأقارب من الدرجة الأولى ممنوعاً قانونياً، ولكن انتشار زنا المحارم في ديار الغرب أصبح من الأمور المعروفة، ويقال أن حوالي نصف مليون من الأطفال القاصرين في ألمانيا يتعرضون سنوياً للأعتداء الجنسي وخاصة من أقاربهم كالأب أو زوج الأم أو العم أو الجد أو الخال أو الاخ..وإن قصة النمساوي الذي احتجز ابنته عشرات السنين واعتدى عليها جنسياً وأنجب منها عدة أطفال ليست منا ببعيد.
ومن الناحية الطبية:
فإن الزواج من الأقارب من الدرجة الأولى أو الاتصالات الجنسية معها تؤدي إلى انتقال خمسين بالمائة من العوامل الوراثية والمورثات بينها، وبالتالي احتمال حدوث التشوهات الوراثية بنسبة خمسين بالمائة،ويشارك كل إنسان أخاه أو أخته في نصف عدد المورثات التي يحملها، ويشارك أخواله وأعمامه في الربع ويشارك أبناء وبنات عمه أو خاله في الثمن. وبالتالي ازدياد الأمراض الوراثية بينهم جميعاً حسب هذه النسب.
ومع ذلك فإن الزواج من الأقارب قد يجلب الذرية الصحيحة المعافاة،ولاننسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تزوج ابنة عمته أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها.
ولكن لابد من التأكد من عدم وجود بعض الأمراض الخلقية أو الوراثية عندما يتم الشروع بذلك بين العائلات ذوات القربى، وهذا أصبح من السهل الكشف عليه بواسطة إجراء بعض الفحوص السريرية والمخبرية في وقتنا الحالي.
ونذكر من الأمراض الوراثية العائلية:
داء الرقص الوراثي الإرثي،وفرط كولسترول الدم العائلي،والتهاب الشبكية الصباغي،الصمم والبكم الأسري،وهناك أيضاً داء الناعور والذي يترافق مع النزوف المعاودة والخطيرة أحياناً وهو مرض يصاب به الذكور دون الإناث وإن كانت الإناث ينقلون المرض دون أن يصابوا به،وهناك ايضاً داء عمى الألوان، وخلع الورك الولادي…
الهندسة الوراثية وتطبيقاتها العلمية
جاء في مقال للبروفسور الدكتور محمد الهواري رحمه الله في أحد أعداد مجلة الرائد الألمانية(العدد 206):
“يعيش العالم اليوم ثورة بيولوجية هائلة، وإن ماتم إنجازه في الخمسين عاماً الماضية يفوق اضعاف الإنجازات البشرية منذ خليقة الإنسان.والخطوات التي تمت في علم الوراثة ـ رغم حداثته ـ كانت عملاقة.وساعدت المكتشفات العلمية في سائر العلوم على سبر اغوار الخلية والكشف ن مكنوناتها وأسرارها وكانت الدراسات والأبحاث الأولى تتم على الكائنات الحية ثم تجاوزتها إلى النوع البشري.ونتجت عن هذه الدراسات مشكلات تتعلق بالكرامة الإنسانية والموقف الشرعي من الأبحاث التي قد تؤدي إلى سلالات جديدة ذات صفات وراثية جديدة معدّلة، كإنتاج سلالات نباتية أو حيوانية ذات مقاومة خاصة للآفات، أو ذات إنتاجية عالية، وظهر مؤخراً محاولة التغلب على ندرة الأعضاء البشرية لاستخدامها في زراعة الأعضاء لمن يحتاجونها، فتم مثلاً استخدام ” جين” بشري لإنتاج قلوب في الخنازير تتوافق مع القلوب البشرية ولايطردها الجسم الإنساني.
ومن أخطر مواضيع الهندسة الوراثية هو مشروع”الجينوم البشري” أو باختصار مشروع تحديد الخريطة الجينية للإنسان وهو مشروع توزعته دول مختلفة منها أمريكا وألمانيا واليابان وانكلترا وفرنسا وغيرها، ويتوقع أن يتم إنجازه في عام 2005م.
ولبيان الرؤية الإسلامية من هذه الأبحاث والأخلاقيات المتعلقة بها، فقد عقدت بتاريخ 13 ـ 15 تشرين أول 1998م ندوة فقهية طبية في الكويت دعت إليها المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالتعاون مع منظمة الإيسيسكو ومجمع الفقه الإسلامي بجدة ومنظمة الصحة العالمية. وقد أسهم في أعمال الندوة جمع من كبار الفقهاء والأطباء والصيادلة واختصاصي العلوم البيولوجية وغيرها.وتميزت الندوة بمشاركة عدد من مسؤولي وممثلي المؤسسات الإسلامية في أوروبا وأمريكا.
وكانت محاور الموضوع تشتمل على:
1 ـ الجوانب الطبية والجوانب الفقهية والعلمية للهندسة الوراثية.
2 ـ الجوانب الطبية والفقهية للجينوم البشري.
3 ـ الجوانب الطبية والفقهية للبصمة الوراثية
4 ـ الجوانب الطبية للإرث الجنيني،أهميته وآثاره ومحاذيره
وتوصلت الندوة في ختام عملها إلى التوصيات التالية:
أولاًـ مبادئ عامة:
1 ـ خلق الله الإنسان في أحسن تقويم،وكرمه على سائر المخلوقات، وإن العبث بمكونات الإنسان وإخضاعه لتجارب الهندسة الوراثية بلاهدف أمر يتنافى مع الكرامة التي أسبغها الله على الإنسان مصداقاً لقوله تعالى{ولقد كرمنا بني آدم}[الإسراء70]
2 ـ الإسلام دين العلم والمعرفة كما جاء في قوله تعالى {هل يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون}[الزمر9]، وهو لايحجر على العقل الإنساني في مجال البحث العلمي النافع،ولكن حصيلة هذا البحث ونتائجه، لايجوز أن تنتقل تلقائياً إلى مجال التطبيقات العملية حتى تعرض على الضوابط الشرعية، فما وافق الشريعة منه أجيز،وما خالفها لم يجز.وإن علم الوراثة بجوانبه المختلفة هو ـ ككل إضافة إلى المعرفة ـ مما يحض عليه الإسلام، وكان اولى بعلماء المسلمين أن يكونوا فيه على رأس الركب.
3 ـ إن الحرص على الصحة والتوقي من المرض مما يوصي به الإسلام ويحض عليه{ولاتلقوا بأيديكم إلى التهلكة}[البقرة195]، “ومن يتق الشر يُوقّه” والتداوي في أصله مطلوب شرعاً لافرق في ذلك بين مرض مكتسب ومرض وراثي.ولايتعارض ذلك مع فضيلة الصبر واحتساب الأجر والتوكل على الله.
4 ـ لكل إنسان الحق في أن تحترم كرامته وحقوقه أياً كانت سماته الوراثية.
5 ـ لايجوز إجراء أي بحث أو القيام بأي معالجة أو تشخيص يتعلق ب”جين”(جينوم) شخص ما، إلا بعد إجراء تقييم صارم ومسبق للأخطار والفوائد المحتملة المرتبطة بهذه الأنشطة،مع الالتزام باحكام الشريعة في هذا الشأن، والحصول على القبول المسبق والحر والواعي من الشخص المعني،وفي حالة عدم أهليته للإعراب عن هذا القبول، وجب الحصول على القبول أو الإذن من وليه،مع الحرص على المصلحة العليا للشخص المعني.وفي حالة عدم قدرة الشخص المعني على التعبير عن قبوله لايجوز إجراء أي بحوث تتعلق ب”جينومه” ما لم يكن ذلك مفيداً لصحته فائدة مباشرة.
6 ـ ينبغي احترام حق كل شخص في أن يقرر ما إذا كان يريد أو لايريد أن يحاط علماً بنتائج أي فحص وراثي أو بعواقبه.
7 ـ تحاط بالسرية الكاملة كافة التشخيصات الجينية المحفوظة أو المعدة لأغراض البحث أو أي غرض آخر،ولا تفشى إلا في الحالات المبينة في الندوة الثالثة من ندوات المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بتاريخ 18 نيسان 1987م حول سر المهنة.
8 ـ لايجوز أن يعرض أي شخص لأي شكل من أشكال التمييز القائم على صفاته الوراثية والذي يكون غرضه أو نتيجته النيل من حقوقه وحرياته الأساسية والمساس بكرامته.
9 ـ لايجوز لأي بحوث تتعلق بالجينوم البشري أو لأي من تطبيقات هذه البحوث،ولاسيما في مجال البيولوجيا وعلم الوراثة والطب،أن يعلو على الالتزام باحكام الشريعة الإسلامية واحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية والكرامة الإنسانية لأي فرد أو مجموعة أفراد.
10 ـ ينبغي ان تدخل الدول الإسلامية مضمار الهندسة الوراثية بإنشاء مراكز للأبحاث في هذا المجال،تتطابق منطلقاتها مع الشريعة الإسلامية، وتتكامل في مابينها بقدر الإمكان، وتأهيل الأطر البشرية للعمل في هذا المجال.
11 ـ ينبغي أن تهتم المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بتشكيل لجان تهتم بالجوانب الأخلاقية للمارسات الطبية داخل كل دولة من الدول الإسلامية،تمهيداً لتشكيل الإتحاد الإسلامي للأخلاقيات الطبية في مجال التكنولوجيا الحيوية.
12 ـ ينبغي أن يقوم علماء الأمة الإسلامية بنشر مؤلفات لتبسيط المعلومات العلمية عن الوراثة والهندسة الوراثية، لنشر الوعي وتدعيمه في هذا الموضوع.
13 ـ ينبغي أن تُدخل الدول الإسلامية الهندسة الوراثية ضمن برامج العليم في مراحله المختلفة،مع زيادة الاهتمام بهذه المواضيع بالدراسات الجامعية والدراسات العليا.
14 ـ ينبغي أن تهتم الدول الإسلامية بزيادة الوعي بموضوع الوراثة والهندسة الوراثية عن طريق وسائل الإعلام المحلية، مع تبيان الرأي الإسلامي في كل موضوع من هذه المواضيع.
15 ـ تكليف المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بمتابعة التطورات العلمية لهذا الموضوع، وعقد ندوات مشابهة لاتخاذ التوصيات اللازمة إن جد جديد.
ثانيا ـ الجينوم(المجين) البشري:
إن مشروع قراءة الجينوم البشري، وهو رسم خريطة الجينات الكاملة للإنسان،وهو جزء من تعرف الإنسان على نفسه واستكناه سنة الله في خلقه وإعمال للآية الكريمة{سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم}[فصلت 53] ومثيلاتها من الآيات، ولما كانت قراءة الجينوم وسيلة للتعرف على بعض الأمراض الوراثية أو القابلية لها، فهي إضافة قيّمة إلى العلوم الصحية والطبية في مسعاها لمنع الأمراض أو علاجها،مما يدخل في باب الفروض الكفائية في المجتمع.
ثالثاً ـ الهندسة الوراثية:
تدارست الندوة موضوع الهندسة الوراثية وما اكتنفها منذ ميلادها في السبعينات من القرن الماضي من مخاوف مرتقبة إن دخلت حيز التنفيذ بلا ضوابط، فإنها سلاح ذو حدين قابل للاستعمال في الخير أو في الشر.
ورأت الندوة جواز استعمالها في منع المرض أو علاجه أو تخفيف أذاه، سواء بالجراحة الجينية التي تبدل جيناً بجين،أو تولج جيناً في خلايا مريض،وكذلك إيداع جين في كائن آخر للحصول على كميات كبيرة من إفراز هذا الجين لاستعماله دواء لبعض الأمراض،مع منع استخدام الهندسة الوراثية على الخلايا الجنسية لما فيه من محاذير شرعية.
وتؤكد الندوة على ضرورة ان تتولى الدول توفير مثل هذه الخدمات لرعاياها المحتاجين لها من ذوي الدخول المتواضعة نظراً لارتفاع تكاليف انتاجها.
وترى الندوة أنه لايجوز استعمال الهندسة الوراثية في الأغراض الشريرة والعدوانية،أو في تخطي الحاجز الجيني بين أجناس مختلفة من المخلوقات،قصد تخليق كائنات حية مختلطة الخلقة، بدافع التسلية أو حب الاستطلاع العلمي.
كذلك ترى الندوة أنه لايجوز استخدام الهندسة الوراثية كسياسة لتبديل البنية الجينية في مايسمى بتحسين السلالة البشرية،وأي محاولة للعبث الجيني بشخصية الإنسان أو التدخل في أهليته للمسئولية الفردية أمر محظور شرعاً.
وتحذر الندوة من أن يكون التقدم العلمي مجالاً للاحتكار والحصول على الربح هو الهدف الأكبر، مما يحول بين الفقراء وبين الاستفادة من هذه الإنجازات، وتؤيد توجه الأمم المتحدة في هذا المجال في إنشاء مراكز الأبحاث للهندسة الوراثية في الدول النامية وتأهيل الأطر البشرية اللازمة وتوفير الإمكانيات اللازمة لمثل هذه المراكز.
ولاترى الندوة حرجاً شرعياً باستخدام الهندسة الوراثية في حقل الزراعة وتربية الحيوان، ولكن الندوة لاتمل الأصوات التي حذرت مؤخراً من احتمالات حدوث اضرار على المدى البعيد تضر بالإنسان أو الحيوان أو الزرع أو البيئة.وترى ان على الشركات والمصانع المنتجة للمواد الغذائية ذات المصدر الحيواني أو النباتي أن تبين للجمهور مايعرض للبيع مما هو محضر بالهندسة الوراثية ليتم الشراء عن بينة.كما توصي الندوة الدول باليقظة العلمية التامة في رصد تلك النتائج، والأخذ بتوصيات وقرارات منظمة الأغذية والأدوية الأمريكية ومنظمة الصحة العالمية في هذا الخصوص.
توصي الندوة بضرورة إنشاء مؤسسات لحماية المستهلك وتوعيته في الدول الإسلامية.
رابعاً ـ البصمة الوراثية:
تدارست الندوة موضوع البصمة الوراثية، وهي البنية الجينية التفصيلية التي تدل على هوية كل فرد بعينه.
والبصمة الوراثية من الناحية العلمية وسيلة لاتكاد تخطئ في التحقق من الوالدية البيولوجية،والتحقق من الشخصية ولاسيما في مجال الطب الشرعي.وهي ترقى إلى مستوى القرائن القطعية التي يأخذ بها جمهور الفقهاء في غير قضايا الحدود الشرعية.وتمثل تطوراً عصرياً ضخماً في مجال القيافة التي تعتد به جمهرة المذاهب الفقهية، على أن تأخذ هذه القرينة من عدة مختبرات.
خامساً ـ الإرشاد الوراثي(الإرشاد الجيني):
وهذا يتوخى تزويد طالبه بالمعرفة الصحيحة والتوقعات المحتملة ونسبتها الإحصائية تاركاً اتخاذ القرار لذوي العلاقة في ما بينهم وبين الطبيب المعالج، دون أي محاولة للتأثير في اتجاه معين.وقد تدارست الندوة هذا الموضوع وأوصت بما يلي:
ـ ينبغي تهيئة خدمات الإرشاد للأسر أو المقبلين على الزواج على نطاق واسع وتزويدها بالأكفاء من المختصين مع نشر الوعي وتثقيف الجمهور بشتى الوسائل لتعم الفائدة.
ـ لايكون الإرشاد الجيني إجبارياً، ولاينبغي أن تفضي نتائجه إلى إجراء إجباري.
ـ ينبغي حياطة نتائج الإرشاد الجيني بالسرية التامة.
ـ ينبغي توسيع مساحة المعرفة بالإرشاد الجيني في المعاهد الطبية والصحية والمدارس وفي وسائل الإعلام والمساجد بعد التحضير الكافي لمن يقومون بذلك.
ـ لما كانت الإحصائيات تدل على أن زواج الأقارب(رغم أنه مباح شرعاً) مصحوب بمعدل أعلى من العيوب الخلقية، فيجب تثقيف الجمهور في ذلك حتى يكون الإختيار على بصيرة، ولاسيما الأسر التي تشكو تاريخياً لمرض وراثي.
سادساً ـ الأمراض التي يجب أن يكون الاختبار الوراثي فيها إجبارياً أو اختيارياً:
1 ـ السعي إلى التوعية بالأمراض الوراثية والعمل على تقليل انتشارها.
2 ـ تشجيع إجراء الاختبار الوراثي قبل الزواج وذلك من خلال نشر الوعي عم طريق وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والندوات والمساجد.
3 ـ تناشد الندوة السلطات الصحية بزيادة أعداد وحدات الوراثة البشرية لتوفير الطبيب المتخصص في تقديم الإرشاد الجيني وتعميم نطاق الخدمات الصحية المقدمة للحامل في مجال الوراثة التشخيصية والعلاجية بهدف تحسين الصحة الإنجابية.
4 ـ لايجوز إجبار أي شخص لإجراء الإختبار الوراثي.
البصمة الوراثية
يقول الدكتور سفيان العسولي في العدد الخامس من مجلة الإعجاز بعنوان البصمة الوراثية:
“في الوقت الذي يعيش فيه أكثر من ستة مليارات شخص في هذا العالم فإنه من النادر أن تجد اثنين متماثلين في نمطهم الجيني وبالتالي النمط الظاهري إلا في حالة التوأم الحقيقي، وبسرعة يتنامى إلى الذهن كيف يحصل هذا الكم الهائل من الصفات الظاهرية والمختلفة في البشر؟ وسيصبح واضحاً بعد قليل أن خلف هذا الكم الهائل من الصفات عدد كبير من الجينات التي تتحكم في هذه الصفات، ويقدر عدد الجينات في الإنسان بمائة ألف جين ولايقتصر عمل هذه الجينات على التحكم في الصفات الظاهرية كلون العين والشعر والجلد والطول بل هي مسؤولة أيضاً عن تخليق البروتينات المكونة لجسم الإنسان والتي تتحكم أيضاً في عملياته الحيوية.
والجينات محمولة على 46 صبغياً(كروموسوم) وهي موجودة في نواة كل خلية من خلايا الجسم ماعدا كريات الدم الحمراء.وكذلك فإن الخلايا الجنسية: أي الحيوان المنوي في الذكر والبويضة في الأنثى فإنها تحتوي نصف هذا العدد من الصبغيات، فالحيوان المنوي يحتوي على 22 صبغياً جسديا وصبغياً واحداً جنسيا وهو إما صبغي اكس أو واي،وأما البويضة فإنها تحتوي أيضاً على 22 صبغياً جسدياً ودائماً على صبغي جنسي واحد من نوع اكس، ويتكون من اتحاد الحيوان المنوي بالبويضة البيضة الملقحة(الأمشاج)والتي تحتوي على 46 صبغياً منها 44 من الصبغيات الجسدية المتماثلة وصبغي اكس في الأنثى أو واي في الذكر، وكل زوج من الصبغيات الجسدية متماثل في شكله وكذلك في نوع الجينات التي يحملها. أي أن كل خلية تحوي نسختين من كل جين، نسخة على كل صبغي من الصبغيين المتماثلين وكل نسخة تسمى أليل، ويمكن أن يكون الأليلان لجين معين متشابهين أي يعملان بصورة متماثلة فتكون الخلايا متماثلة الأليل(هوموسيغوز) لهذا الجين أو متباينة الأليل(هيتيروسيغوز) إذا كانا مختلفين في عملهما كأن يكون أحدهما سليماً والآخر أصيب بطفرة نتج عنه نتاج مختلف أو معطوب، وتعريف الأليل هام جداً لأنه سوف تبنى عليه فيما بعد أسس تحديد البصمة الوراثية.
وتتكون الصبغيات من خيطين لولبيين من الحمض النووي د. ن . ا، وكل خيط من الخيطين يتكون من سلسلة من الوحدات الأساسية وهي النوويدات(نيوكليوتيدات) مرتبطة ببعضها وكل نوويد يتكون من قاعدة نيتروجينية إما أدينين أو جوانين أو ثايمين أو سايتوزين متحدة مع سكر ريبوزي لا اكسجيني(دياوكسي ريبوز) ومجموعة فوسفات، وخيطا الدنا مرتبطان مع بعضهما بروابط هيدروجينية، وفي الخيطين يرتبط الأدينين مع الثايمين والسايتوزين مع الجوانين ليعطيا زوج نوويدان.
ويحوي الجينوم البشري مامجموعه 10×6 أس 9 زوجا من النوويدات بطول حوالي مترين، ولابد لنا هنا من وقفة مع عظمة الخالق في تصور وجود خيط طوله متران من الدنا وهو طول الصبغيات ال46 داخل نواة خلية ، وتقوم هذه الخيوط بالتكثف أثناء انقسام الخلية وتظهر كصبغيات متميزة يمكن رؤيتها بالمجهر الضوئي .
إن الجين هو جزء من خيط الدنا في الصبغي أو سلسلة نوويدات، وبالتالي فإن الصبغي يحوي آلاف الجينات،ويختلف عدد الجينات على كل صبغي حسب طول الصبغي ويقدر عدد الجينات في الإنسان بمائة ألف جين.ويمكن لبعض الصفات الجسمية أن يتحكم فيها مجموعة من الجينات، فالطول يتحكم فيه 10 جينات أو أكثر ولون الجلد 4 جينات .انتهى كلام د العسولي
كان موضوع البصمة الوراثية ومجالات الاستفادة منها من أهم الموضوعات التي ناقشها أعضاء المجمع الفقهي في دورته السادسة عشرة التي انعقدت في مقر رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة في الفترة من 21 ـ 26 شوال 1422 هجري، وقد خرج المجلس في جلسته الختامية بالقرارات الآتية في مجال البصمة الوراثية:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده، أما بعد:
فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في دورته السادسة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة، في المدة من 21 ـ 26 شوال عام 1422هجري والموافق 5 ت 10 من كانون الثاني عام 2002م، وبعد النظر إلى التعريف الذي سبق للمجتمع اعتماده في دورته الخامسة عشرة، ونصه :(البصمة الوراثية هي البُنية الجينية التي تدل على هوية كل إنسان بعينه،وافدت البحوث والدراسات العلمية أنها من الناحية العلمية وسيلة تمتاز بالدقة، لتسهيل مهمة الطب الشرعي، ويمكن أخذها من أي خلية بشرية من الدم أو اللعاب أو المني أو البول أو غيره، وبعد الإطلاع على ما اشتمل عليه تقرير اللجنة التي كلفها المجمع في الدورة الخامسة عشرة بإعداده من خلال إجراء دراسة ميدانية مستفيضة للبصمة الوراثية،والإطلاع على البحوث التي قدمت في الموضوع من الفقهاء والأطباء والخبراء، والاستماع إلى المناقشات التي دارت حوله.
تبين من ذلك كله أن نتائج البصمة الوراثية تكاد تكون قطعية في إثبات نسبة الأولاد إلى الوالدين أو نفيهم عنهما،وفي إسناد العينة(من الدم أو المني أو اللعاب) التي توجد في مسرح الحادث إلى صاحبها، فهي أقوى بكثير من القيافة العادية(التي هي إثبات النسب بوجود الشبه الجسماني بين الأصل والفرع)، وأن الخطأ في البصمة الوراثية ليس وارداً من حيث هي، وإنما الخطأ في الجهد البشري أو عوامل التلوث ونحو ذلك، وبناء على ماسبق قرر ما يأتي:
أولاً:لامانع شرعاً من الاعتماد على البصمة الوراثية في التحقيق الجنائي واعتبارها وسيلة إثبات الجرائم التي ليس فيها حد شرعي ولاقصاص، لخبر:(ادرأوا الحدود بالشبهات)، وذلك يحقق العدالة والأمن للمجتمع، ويؤدي إلى نيل المجرم عقابه وتبرئة المتهم، وهذا مقصد مهم من مقاصد الشريعة.
ثانياً:إن استعمال البصمة الوراثية في مجال النسب لابد أن يحاط بمنتهى الحذر والحيطة والسرية، ولذلك لابد أن تقدم النصوص والقواعد الشرعية على البصمة الوراثية.
ثالثاً:لايجوز شرعاً الاعتماد على البصمة الوراثية في نفي النسب، ولايجوز تقديمها على اللعان.
رابعاً:لايجوز استخدام البصمة الوراثية بقصد التأكد من صحة الأنساب الثابتة شرعاً،ويجب على الجهات المختصة منعه وفرض العقوبات الزاجرة، لأن في ذلك المنع حماية لأعراض الناس وصوناً لأنسابهم.
خامساً: يجوز الاعتماد على البصمة الوراثية في مجال إثبات النسب في الحالات الآتية:
1 ـ حالات التنازع على مجهول النسب بمختلف صور التنازع التي ذكرها الفقهاء،سواء أكان التنازع على مجهول النسب بسبب انتفاء الأدلة أو تساويها،أم كان بسبب الاشتراك في وطء الشبهة ونحوه.
2 ـ حالات الاشتباه في المواليد في المستشفيات ومراكز رعاية الأطفال ونحوها، وكذا الاشتباه في أطفال الأنابيب.
3 ـ حالات ضياع الأطفال واختلاطهم، بسبب الحوادث أو الكوارث أو الحروب،وتعذر معرفة أهلهم، أو وجود جثث لم يمكن التعرف على هويتها،أو بقصد التحقق من هويات أسرى الحروب والمفقودين.
سادساً:لايجوز بيع الجينوم البشري لجنس، أو لشعب، أو لفرد، لأي غرض، كما لاتجوز هبتها لأي جهة، لما يترتب على بيعها أو هبتها من مفاسد.
سابعاً: يوصي المجمع بما يأتي:
1 ـ أن تمنع الدولة إجراء الفحص الخاص بالبصمة الوراثية إلا بطلب من القضاء،وأن يكون في مختبرات للجهات المختصة، وأن تمنع القطاع الخاص الهادف للربح من مزاولة هذا الفحص، لما يترتب على ذلك من المخاطر الكبرى.
2 ـ تكوين لجنة خاصة بالبصمة الوراثية في كل دولة، يشترك فيها المتخصصون الشرعيون، والأطباء، والإداريون، وتكون مهمتها الإشراف على نتائج البصمة الوراثية، واعتماد نتائجها.
3 ـ أن توضع آلية دقيقة لمنع الانتحال والغش، ومنع التلوث وكل ما يتعلق بالجهد البشري في حقل مختبرات البصمة الوراثية، حتى تكون النتائج مطابقة للواقع،وأن يتم التأكد من دقة المختبرات، وأن يكون عدد المورثات(الجينات المستعملة للفحص) بالقدر الذي يراه المختصون ضرورياً دفعاً للشك.
والله ولي التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد.
الخلايا الجذعية والموقف الفقهي
يتألف الجسم من مجموعة من الأنسجة والأعضاء المكون الرئيسي فيها مجموعة من الخلايا والتي تتجاوز مليارات الخلايا،وهناك خلايا نبيلة إذا ماتت لاتعوّض ومنها خلايا الدماغ والتي تسمى الخلايا الرمادية تمييزاً لها عن خلايا النسيج الضام،وخلايا عضلة القلب وهذه تسمى الخلايا النبيلة لأنه في حال موتها وفنائها لايستطيع الجسم تعويضها. وهناك خلايا بأعمار متفاوتة فإذا انقضى أجلها يمكن للجسم تعويضها ومنها خلايا الجلد، وخلايا المعدة والامعاء وكريات الدم الحمراء والبيضاء.. ويتم تعويض هذه الخلايا من خلال عملية انقسام وتكاثر تقوم بها مايسمى الخلايا الجذعية والتي تعمل كمصانع لإنتاج وتوليد خلايا الجسم وتجديد أنسجته .وهذه الخلايا الجذعية هي خلايا غير متخصصة ولكنها قادرة على التميز وتشكيل خلايا متخصصة ومتجددة.
ويوجد هناك نوعان من الخلايا الجذعية:الخلايا الجذعية الجنينية وتم اكتشافها عام 1999 من قبل العالم جيمس طومسون، والخلايا الجذعية البالغة وهذه تساعد على الترمم الخلوي والنسيجي لبعض أجهزة الجسم.
وقد عرف العلماء هذه الخلايا الجذعية منذ أكثر من نصف قرن وخاصة منها الخلايا الجذعية المنشئة لعناصر الدم من الكريات الحمراء والبيضاء والصفيحات الدموية، وكذلك تبين لهم أن هذه الخلايا الجذعية المنشئة لعناصر الدم يمكن لها أن تغادر نقي العظم وتتجول في الدوران الدموي والعكس.وقد تبين أنه لكل حوالي عشرة ألاف خلية من خلايا نقي العظم توجد خلية جذعية منشئة للدم.وتوجد خلية جذعية واحدة لكل ألف خلية في الدوران الدموي.ولقد تبين للباحثين أيضاً أن المشيمة والحبل السري يحتويان على الخلايا الجذعية المنشئة للدم.
ويمكن بواسطة الخلايا الجذعية الجنينية علاج بعض الأمراض وخاصة العصبية ومنها داء باركنسون(الشلل الرعاشي) وداء الزهايمر وغيرها.ويمكن القول أنها قد تفيد في علاج الداء السكري المعتمد على الانسولين(أي النموذج الأول).
الخلايا الجذعية هي اللبنات الأولى التي يتكون منها الجنين وبالتالي كافة أنواع خلاياه وأنسجته المختلفة(أكثر من 220 نوعا من الخلايا والأنسجة). وهي في منتهى الأهمية لمعرفة كيفية تكوين الجنين الإنساني، ومعرفة كثير من أسرار ذلك التكوين.وبالتالي فهم نشأة هذا الخلق وتطوره، ومداواة مايعرض له من شذوذات وأمراض، مثل أنواع الشذوذات الخلقية، والبول السكري، وأمراض القلب، وأنواع السرطان، وأنواع من أمراض الجهاز العصبي الخطيرة التي لادواء ناجع لها حتى اليوم، ومثالها مرض الزهايمر ومرض باركنسون وأنواع من الشلل.وهناك العديد من الاستعمالات الطبية المستقبلية للخلايا الجذعية.وقد بدأت التجارب في كثير من هذه الميادين وحققت نجاحا جيداً.
والخلايا الجذعية تتكون في الجنين الباكر الذي يبلغ من العمر أربعة أيام إلى ستة أيام منذ التلقيح عند تكون الكرة الجرثومية(البلاستولا). والبلاستولا لها:
1 ـ كتلة خلايا خارجية: تتكون منها بإذن الله المشيمة والأغشية التي يرتبط بها الجنين بالرحم.
2 ـ كتلة الخلايا الداخلية:وهي التي يخلق الله منها سبحانه وتعالى جميع خلايا الجنين. وهي التي تعرف باسم الخلايا الجذعية.
ومع تخصص هذه الخلايا الموجودة في الكتلة الداخلية وتقدم عمر الجنين تقل الخلايا الجذعية، ولكنها لاتندثر وإنما تبقى في الجنين وفي المولود، وفي الإنسان البالغ، وإن كانت بكميات تتناقص تدريجيا بتقدم عمر الجنين والمولود والطفل اليافع والبالغ.
وقد أصدر المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته السابعة عشرة بمكة المكرمة بتاريخ 1424 هجري الموافق 2003 م قراراً بشأن الخلايا الجذعية وفيه:
يمكن الحصول على هذه الخلايا من مصادر عديدة منها:
1 ـ الجنين الباكر في مرحلة البلاستولا، وهي الكرة الخلوية الصانعة التي تنشأ منها مختلف خلايا الجسم،وتعتبر اللقائح الفائضة من مشاريع أطفال الأنابيب هي المصدر الرئيس، كما يمكن أن يتم تلقيح متعمد لبيضة من متبرعة وحيوان منوي من متبرع للحصول على لقيحة وتنميتها إلى مرحلة البلاستولا، ثم استخراج الخلايا الجذعية منها.
2 ـ الأجنة السقط في مرحلة من مراحل الحمل
3 ـ المشيمة أو الحبل السري.
4 ـ الأطفال والبالغون
5 ـ الاستنساخ العلاجي، بأخذ خلية جسدية من إنسان بالغ واستخراج نواتها ودمجها في بويضة مفرغة من نواتها، بهدف الوصول إلى مرحلى البلاستولا، ثم الحصول منها على الخلايا الجذعية.
وبعد الاستماع إلى البحوث المقدمة في الموضوع وآراء الأعضاء والخبراء والمختصين، والتعرف على هذا النوع من الخلايا ومصدرها وطرق الانتفاع منها، اتخذ المجلس القرار التالي:
أولاً: يجوز الحصول على الخلايا الجذعية وتنميتها واستخدامها بهدف العلاج أو لإجراء الأبحاث العلمية المباحة، إذا كان مصدرها مباحاً، ومن ذلك على سبيل المثال المصادر الآتية:
1 ـ البالغون إذا أذنوا، ولم يكن في ذلك ضرر عليهم.
2 ـ الأطفال إذا أذن أولياؤهم، لمصلحة شرعية، وبدون ضرر.
3 ـ المشيمة أو الحبل السري، وبإذن الوالدين.
4 ـ الجنين السقط تلقائياً يجيزه الشرع، وبإذن الوالدين
5 ـ اللقائح الفائضة من مشاريع أطفال الأنابيب إذا وجدت وتبرع بها الوالدان مع التأكيد على أنه لايجوز استخدامها في حمل غير مشروع.
ثانياً: لايجوز الحصول على الخليا الجذعية واستخدامها إذا كان مصدرها محرماً ومن ذلك على سبيل المثال:
1 ـ الجنين المسقط تعمداً بدون سبب طبي يجيزه الشرع.
2 ـ التلقيح المتعمد بين بويضة وحيوان منوي من متبرعين.
3 ـ الاستنساخ العلاجي.
انتهى قرار المجمع.
الوراثة والأمراض الوراثية
إن دراسة علم الوراثة والصبغيات تبين لنا أهمية ذلك في تكوين البشر والأحياء كما أنها تعطينا نظرة عن دور الوراثة في حدوث بعض الأمراض الوراثية والوقاية منها وامكانية علاجها في بعض الحالات.
لقد نبّه العالم” بريدجز” عام 1916 ولأول مرة على حدوث بعض التغيرات على ذبابة الخل وربطها بوجود تغيرات صبغية.
وفي عام 1946 استطاع العالم” بيرترام” والعالم “بار” من اكتشاف “الكروماتين الجنسي” ويسمى أيضاً “جسيم بار”..
وقد أمكن الوصول إلى بعض الاكتشافات الهامة عندما استطاع العلماء إيقاف الانقسام الخلوي في الطور الثاني من مراحله.
وفي عام 1956 استطاع العلماء الكشف على أن عدد الصبغيات عند الإنسان يبلغ46 صبغياً، وبعدها بفترة قصيرة أكد العلماء أن مرض “المنغولية” أو مايسمى” تناذر داون” هو بسبب اضطراب صبغي.ومن ثم ربط العلماء وجود بعض الأمراض وعلاقتها بالصبغيات مثل داء”كلاين فلتر” “ومتلازمة تورنر”.
تحتوي الخلايا على عدد ثابت من الصبغيات لايتغير وهو واحد بالنسبة للنوع ولكنه يختلف من نوع لآخر، فهو عند الإنسان 46 صبغياً منها 44 تسمى الصبغيات الجسمية، و2 تسمى الصبغيات الجنسية، وهي عند الأنثى اكس اكس، وعند الذكر اكس واي.
والصبغيات الجسمية هي عبارة عن 22 شفعاً من الصبغيات المتماثلة، أي أن كل شفع منها متماثل تماماً.
وتصنف الصبغيات بحسب أطوالها وتوضع جزيئها المركزي(السنترومير) وحسب مايسمى تصنيف”دينر” إلى مايلي:
ـ المجموعة الأولى:وتضم ثلاثة اشفاع من الصبغيات(ا ـ 3 ) وهي أكبر الصبغيات حجماً، وتحتوي على جزئ مركزي التوضع.
ـ المجموعة الثانية: وتضم شفعان من الصبغيات( 4 ـ 5 ) وهي كبيرة الحجم أيضاً ، ولكن جزيئها المركزي أقرب إلى الطرف منه إلى المركز.
ـ المجموعة الثالثة:وتضم سبعة أشفاع(6 ـ 12) متوسطة الحجم وذات صبغيات قرب مركزية أو طرفية.
ـ المجموعة الرابعة:وتضم ثلاثة أشفاع ( 13 ـ 15) متوسطة الحجم طرفية الجزئ المركزي.
ـ المجموعة الخامسة:وتضم ثلاثة أشفاع(16 ـ 18) صغيرة الحجم وذات جزئ مركزي أو قرب مركزي.
المجموعة السادسة:وتضم شفعان (19 ـ 20) صغيرة الحجم وذات جزئ مركزي
المجموعة السابعة:وتضم شفعان(21 ـ 22) صغيرة الحجم طرفية الجزئ المركزي.
وتبين أن الصبغي اكس عند الجنسين يماثل صبغيات المجموعة الثالثة،وله جزئ مركزي قرب المركزي، اما الصبغي واي فيماثل المجموعة السابعة.
البنية الكيميائية ـ المورثية للصبغيات:
إن الصبغي يشبه السلم الملتوي على نفسه وبشكل حلزوني أو لولبي، ويتألف كل من جانبي السلم من ارتباط سكر مع حمض ريبي نووي منقوص الأوك